الرئيسية / الأعمال العلمية / كتب علمية / كتاب: حياتنا والطب النفسى

كتاب: حياتنا والطب النفسى

الأهـداء والمقدمة

الأهـداء والمقدمة

سلسلة الثقافة النفسية (1)

 حياتنا .. والطب النفسى

 أ.د. يحيى الرخاوى

 إهــــداء

إلى “ابن آدم”

أقدم ما تستطيع أن تحمله كلمات هذا الكتاب من حب”.

لعله يعينه فى معركته ضد الخوف … والطمع.

****

“إننى سوف لا أستسلم له..

إن مارد الظلام الكبير سوف يقهره إله النور”

“زرادشت”

 مقدمة:

1- الأهداف الزائفة

لماذا أكتب هذا الكتاب؟ ولمن أكتب؟     

بالرغم من أنه ليس لازماًَ أن أجيب، فإنى أذ أشرح نفسى ابتداءً أحس أنى أعقد مع القارئ اتفاقاً على اللغة التى سنتفاهم بها، والغاية التى ننشدها وبالتالى لا يطلب من هذا الكتاب أكثر مما يحتمل، ولا ينتظر الوصول من خلاله إلى غايات لم يقصدها.

والإجابة عن هذا السؤال ليست لازمة فى كثير من الأحيان، ذلك لأنه كثيراً ما تكون الكتابة غاية فى حد ذاتها، ولكن إن صح ذلك فى كل مجال فهو لا يصح إذا كانت الكتابة عن الصحة والمرض، وعن النفس والحياة، حينئذ ينبغى أن توجه الكتابة فى مسالك العلم قدر ما يمكن، وأن تضبط الإرادة شطحات القلم.

ولنبدأ من الأول…

لقد أحسست دائما – ثم أدركت – أن الحياة معركة .. كانت دائماً كذلك، ومازالت ولن تزال، مهما اختلفت حدتها، وتنوعت صورها.

فهى معركة الإنسان مع الطبيعة …. بين الهلاك والبقاء

ثم معركة الإنسان مع الشيطان …. بين الخير والشر

ثم معركة الإنسان مع الإنسان …. بين القوة والحرية، بين الاستقلال وحق العيش الكريم،

 وبكل أسف فهى مازالت دائرة برغم ما تحمله من معانى الاضمحلال الإنسان.

وأخيرا فهى معركة الإنسان مع الآلة… بين الإنسان وما صنعت يداه:

هل يصبح عبدا لصنم الحديد. أم يظل سيد الآلة؟

وهى كلها معارك للبقاء… والتطور.

ولكن المعركة الرهيبة الحالية هى معركة الإنسان مع نفسه. وقد أعلنت نفسها مؤخرا فى صورتها الصريحة، وظهرت آثارها بطريقة خطيرة منذرة، فكان بعض آثارها الضياع والجشع والخوف والمرض والقهر. والإنسان فى معركته مع نفسه: يسعى لإثبات ذاته، وتقرير إنسانيته، وذلك بأن يتصف بما يميزه عن الحجارة وسائر الحيوان، فحتى عهد قريب كان الإنسان يعرف بأنه حيوان ناطق أو أنه حيوان مفكر. والتفكير هو حل المشال والذكاء هو الربط بين العلاقات، ولكن جهاز التسجيل ناطق أيضاً، والعقل الإلكترونى مفكر، أى مفكر، يحل المشكلام ويربط بين العلاقات أفضل ألف مرة من الإنسان، فلم يعد للإنسان إلا ميزة أو ميزتين: الحرية والخلق، لذلك ينبغى أن يصبح تعريف الإنسان بعد انتصاره فى هذه المعركة أنه “حيوان حر. خالق…”.

والحرية هنا تعنى: الأمن والحب ثم الانطلاق للعيش الكريم، كما تعنى التخلص من الخوف والذل، والخلق هنا يعنى التجدد والأصالة وتقرير الذات الحقيقية. والحرية ليست معنى مطلقاً فى هذا المقام، ولكنها أسلوب وغاية وأساس، والذى يعنينا هنا هو ما تفيده من تقرير إنسانية الإنسان، وما تعنيه من الاختيار والمسئولية فى نفس اللحظة.

والحرية هى غاية قصوى يساء استعمالها فى كثير من الأحيان. ويصعب تحقيقها فى كل الأحيان، وبالرغم من أنها غاية صعبة فإنها ليست مستحيلة، ويبدة أن أصعب ما فيها أنه لكى يكون الإنسان حراً لابد ألا يمارس حريته.. ولو لفترة.. ولو كوسيلة. (؟!).

والله – لا شريك له – حين أراد أن يحرر الإنسان فرض عليه العبودية الكاملة له تعالى. وبهذا لا يمكن أن يكون الإنسان عبداً لشئ ولا لأحد إلا الله.

والماركسية – مثلا – حين أرادت تحرير الإنسان فرضت عليه قيوداً – ولو مرحلية – هى أبعد ما تكون عن الحرية.. من أجل الحرية.

ولكن ذلك كله لا يعنى إلا أن الحرية هى التى تجعل الإنسان إنساناً، وكذلك “الخلق”… هو إبداع الجديد، لكن ليس يلزم – فى هذا المقام – أن  يكون الجديد فناً خالداً. أو أختراعاً أصيلا، وإن كان هذا هو قمة الخلق، وأسمى صوره، ولكن الإنسان إذ يتجدد كل يوم، وإذ يسمح لأبنائه بالتطور والانطلاق.. فهو يخلق ذاته، ويطور جنسه فى كل لحظة..

ومهما كانت صورة الإنسان: مسيطراً أو ثائراً، غالباً أو مغلوباً، حاكماً أو محكوماً، فإنه إما أن يخوض معركته وينتصر، أو يتنازل عن إنسانيته، فإن السعار نحو أهداف زائفة، أو الانكباب على شعارات جوفاء.. خادع ومضلل، ثم هو هلاك وضياع لذات الشخص قبل أى أحد سواه، فلو أصبحت لقمة العيش أو الثروة أو السيطرة غابات فى حد ذاتها لكانت النتيجة الوحيدة هى أن يفقد الإنسان إنسانيته، أى أنه يخسر معركته الأصيلة، لأنه إذا كان المال هو الوسيلة إلى السيطرة، أو اصبحت السيطرة هى الوسيلة والغاية جميعاً، فقد ضل الإنسان طريقه لا محالة، وابتعد عن هدفه.. وهو تقرير إنسانيته.

ماذا يصنع الإنسان فى معركته تلك بدوافعه الأكيدة التى يتفق فيها وسائر الحيوان؟ ماذا يفعل حتى يتميز عن جدوده من ذوات الأربع؟ ما الفرق بينه وبينها؟ أو ماذا ينبغى أن يكون الفرق؟ أليس حب السيطرة وحب التملك – مثلا – دوافع فطرية أصيلة – فى أغلب الأقوال؟

ربما كان الفرق بين الإنسان وسائر الحيوان فى هذا الصدد فرق يسير جداً ولكنه دقيق جداً فى جوهره، ربما كان فى أن الإنسان يستطيع أن يسأل بعد إرضاء لدافع:

ماذا بعد؟

لا يكفى أن يكون إشباع الدافع غاية مطلقة، ولكن الإنسان يتساءل – أو ينبغى لكى يكون إنساناً أن يتساءل – عن حقيقة التمادى فى الإندفاع وراء دافع بذاته، وهو قليلا ما يجد جواباً شافياً لهذا الاندفاع، فإذ كان ثمة جواب فهو نادر ما يصدق – لذلك كان لازماً أن يطرح سؤال لاحقا وهو:

إذاً… ماذا؟

وهو هنا يتساءل عن معنى ذلك الذى وصل إليه، أو الذى يمكن أن يصل إليه، وعن الفائدة التى تعود على إنسانيته من الانكباب على تحقيق كل ذلك؟

فالذى يسعى فى سعار متصل لكسب مال لن ينفقه، بل يتحكم به فى أناس ليسوا أعداءه، ويتركه لآخرين قد لا يريدونه، وقد يضرهم بدلا من أن ينفعهم، إنما يجرى وراء نفسه: كالكلب الذى يحاول أن يعض ذيله.. ويستمر يدور ويدور حتى يقع صريع الإنهاك دون أن يحقق شيئاً ما.

والذى يؤمن بالمساواة والعدالة، حتى إذا ما وصل إلى السلطة – بالمال أو بالمبدأ – أصبح كل همه أن يبسك نفوذه على أكبر عدد من الناس، لا يصل إلى شئ فعلاً، لأن الخوف سيشله عن كل شئ فيعش فى رعب دائم من الآخرين.. خشية منافستهم، أو الانكشاف أمامهم، على حين أن الخوف إنما ينبع من داخل نفسه، وهو إن تصور أنه نسيه يوماً، كان يتجاهل اختباءه داخل نفسه فى لؤم خطير يحاول دائماً أن يظهر وأن يهدد، فيدفعه إلى التمادى فى القسوة والجبروت.

هذا هو الانحراف فى صورتيه، مثالين متناقضين فى الظاهر، ولكنهما يتفقان فى الضياع والخداع.

الأول – يقول بالحرية الفردية.. ولكنه يصبح فى النهاية خادماً لقرش لا يملكه فى الحقيقة.. فيضل ويخادع.. لأنه يخدع نفسه، أول ما يخدع.

والثانى – يقول بالعدالة الاجتماعية.. ثم يصبح عبداً لشهوة لم يقصدها، وإن كان قد استمرا مرعاها.

والحرية الفردية غاية الإنسان وغذاؤه الروحى لأنها سبيل الأمان وحقل الإبداع، منها ينبع الانطلاق وبها يتميز الإنسان، ولكنها إذا أصبحت وسيلة لغاية هى فى الأصل وسيلة إليها.. انقلبت الآية، فالحقيقة أن التملك قد يكون وسيله الأ/ان, فيخفف حدة الخوف وبالتالى فهو وسيلة إلى الحرية، ولكن تشويه الطبيعة الإنسانية يأتى بأن تعكس الأوضاع، فتصبح “الحرية الفردية” مفهوماً للحصول على المال، ويصبح المال غاية فى حد ذاته، وبذلك تصبح الغاية وسيلة، والوسيلة غاية.

وكذلك العدالة الاجتماعية: هى أشرف صور الإنسانية فى نظرتها  الشاملة إلى كل البشر، ولكن إذا أصبح النداء بها وسيلة إلى السلطة – فى حين أن السلطة ينبغى أن تكون وسيلة لتحقيقها – أعتمت الصورة وارتبك النظام، فسادت الفوضى، والقهر، والهوان.

وفى الحالتين نرى ثمة تعساً نتيجة الانحراف، وهو تعس عميق إذا قيس بالمقاييس الإنسانية وأهدافها، وهو يصيب أول ما يصيب عبيد المال، وعشاق السلطة، لأنهم يخسرون معركتهم الشخصية.. الإنسانية.. أولا وقبل كل شئ.

لأنهم خدعوا عن حقيقة الحياة وميزة الإنسان.

لأ، الوسائل أصبحت أهدافاً.. والأهداف وسائل.

فلا يمكن أن يكون مجرد إرضاء دافع – مثل التملك أو الجوع – هدفاً للحياة الإنسانية، ولا أن يعطيها معنى، وإنما الدافع بالنسبة للإنسان ينبغى أن يكون وسيلة، فالتملك وسيلة للمتعة والأمان، ومن ثم لحياة إنسانية أرحب وأشرف، والجوع وسيلة للشبع فالنمو والبقاء وبالمثل لا يكون دافع السيطرة هدفاً فى حد ذاته.. لأنه لا حاجة لإنسان أن يفرض سلطانه على غيره فرضاً، إلا إذا كان خائفاً من نفسه، من الانكشاف أمامها – ومن الآخرين.

وهكذا نرى أنه سواء أصبح المال غاية أم السلطة هدفاً. فإن الإنسان قد خسر معركته، لأنه أصبح يجرى دون هدف واحد أصيل إذ هو لا يسأل “ماذا… بعد؟” “إذا.. ماذا؟” ويكون مثله كما يقولون “كأعمى فى حجرة مظلمة يبحث عن قطة سوداء.. ليست فى الحجرة”.

والسعى إلى الثروة فالسيطرة، أو إلى السلطة فالسيطرة هو قصة صراع الإنسانية، وهو صراع ظاهرة بين الناس وبعضهم، وقد آن الأوان أن ينتقل داخل النفس.. أن يصحو هذا وذاك: الرأسمالى” و “الحاكم بأمره” ليتساءلا معاً: “إلى أين؟” وخاصة بعد أن دخلت الآله منافساً خطيراً للإنسان ومهددا لكيانه وإنسانيته، لأنه إذا استمر التقدم العلمى التكنولوجى بهذه السرعة التى تتضاعف باستمرار دون البحث عن مزيد من الضمانات ضد الانزلاق إلى لا شئ، والانحراف إلى ما يشوه الإنسانية ويضيع الإنسان، لكنا نعيش عصر التعاسة والخداع، ولكانت الإنسانية تختضر فعلا، إذ يصبح الإنسان ترساً تافهاً فى آلة كبيرة لا يدرى عنها شيئاًن أو ثوراً يدور فى ساقية الحياة، وقد عصبت عيناه حتى الإ،هاك.. فعلا هلا” دون أن يصل إلى أى شئ ولا فرق إنو كانت هذه الساقية من الخشب أو الحجارة، أم من العقول الإلكترونية والذهب، إن مراجعة الذات وفهمها وضبطها إنما يعود على الإنسان – أيا كان – بمعنى حقيقى للحياة، وفى هذا لا أقول بإغفال دوافع أصيلة، فلا أقول باحتقار التملك والاستهانة بالحاجة إلى التفوق والسيطرة، وإلا لكنت كمن يقول بالتوقف عن الأكل والشرب خشية أن نكتفى بها دون مواصلة سائر نشاطات الحياة.

وإنما أنا أطرح قضية تحت الضوء، فأحاول أن أفصل الغاية عن الوسيلة.

وأن أنادى بالحاجة إلى معرفة الإنسان بنفس الحماس والتصميم الذى نندفع به إلى اختراق الفضاء.. وأكثر.

فنحاول أن نحدد أهداف الإنسان فى هذه المرحلة من الزمان، حتى يتوج ملايين السنين من التطور والرقى.. بمعنى حقيقى لكل هذا، ولن يتم ذلك إلا بأن يعلم الإنسان ميزته كإنسان، فيسعى إلى تحقيق أهدافه التى لم تعد كثيرة متنوعة، فماذا يريد الإنسان  غير الآمان والحب فالحرية.. والعيش الكريم، فالانطلاق والإبداع؟

الحرية.. ليعيش الإنسان حياته وفرديته فى حب وتفاعل مع الآخرين. والعيش الكريم … ليتخلص الإنسان من الخوف ومن الذل.. والهوان، كل ذلك يهيئ للإنطلاق والخلق ومن ثم.. إلى الخلود..

فنعيش الفن.. إبداعاًَ واستمتاعاً بالحياة، ويتم الخلود.. بعمل يبقى مفيداً بعد نهاية الفرد الحتمية، ولا يبقى إلا علم حقيقى ينتفع به.. وفن أصيل نهتز له. وامتداد فى الآخرين بالمعنى الشامل السليم.

وبذلك نستطيع أن نميز الواحة من السراب، وأن نسمى الأشياء بأسمائها الغاية غاية… والوسيلة وسيلة.

ولكن ما الذى ينحرف بالإنسان؟

ما الذى يحدث للإنسان الذى يبدأ طريقه شريفاً مخلصاً متحمساً بلا أدنى شك، لينتهى مشوهاً لا يكاد يتعرف على نفسه ولا يكاد ينطق إلا تبريرات، ولا يتمتع إلا بشهوات تشتعل لتنطفئ.. ثم ينطفئ هو ذاته.. دون أن يحسب حسابه؟

ما الذى يجعل الإنسان ينزلق دون أن يدرى؟ ثم تعمى بصيرته حتى يستمر فى الانحدار إلى أن يتردى فى الهاوية؟

ما الذى يفعله المال فى الناس الذين نادوا بالتحرر والمساواة والعدل حتى إذا ذاقوا طعمه، وعاشوا تحت وهج بريقه، نسوا أنفسهم، وبالتالى فقدوا ميزتهم الإنسانية، ودخلوا الدائرة المفرغة؟

ما الذى ينزلق بالإنسان إلى هاوية الضلال، وينحرف به إلى تشويه إنسانيته؟

فى يقينى أن الجواب فى كلمتين: هما “الجهل” .. و”الخوف”: جهل الإنسان بطبيعة نفسه، وخوفه من طبيعة الآخرين.

ولو علم الإنسان نفسه، وطرق ضبطها وعلم نفوس الآخرين، وما تحتوى من خير، لتغير الحال، ولسقطت القيم الزائفة، ولتوقف الإنسان عن الخداع والتضليل.. خداع نفسه، وتضليل الآخرين، ولعرف كيف يتمتع بجمال أيامه.. وكيف يخلد فى ضمير الحياة.

إذا فلا بد من التوقف والتساؤل: “ماذا بعد؟” و”إذا… ماذا؟”.

****

ولكى ينتصر الإنسان فى معركته لابد له من وضوح طبيعتها ومعرفة القوى المتصارعة فيها، لابد له من معرفة نفسه، وتحديد غاياتها، وتأمين مداخلها حتى لا ينزلق دون أن يشعر إلى حيث لم يقصد، ولا ينبغى له.

ولن يتم هذا إلا بنور المعرفة.

فلابد للأضواء أن تلقى على النفس من الداخل.. ومن الخارج.

من الداخل بالاستبصار فى نور العلم.

ومن الخارج يأتى الضوء من نفوس الناس.. نشاركهم الرأى، ونحترم الاختلاف، فنعيش بهم ومعهم بالقول والعمل، لأنه من خلالهم – بصراحة وصدق – سيرى الإنسان نفسه على حقيقتها، فيسهل عليه ضبط دوافعه وإثراء حياته، إن من يتجاهل نور العلم، أو يستهين بنور الناس يتخبط فى ظلام لا نجاة منه.

فالذى يخدعه بريق المال، فيتصور أن حرية التملك معركة فردية شريفة تستهدف خدمة الآخرين.. يعيش فى وهم محيط، ما لم يراجع نفسه من خلال العلم والناس.

والذى يخطفه بريق ذاته فيتصور إنسانيته نقيه غيرية نفاذة لا تحتاج إلى نور من الخارج، وبالتالى له حق تمثيل الآخرين دون الرجوع إليهم لأنه ضميرهم وقدرهم، يعيش ألوهية لا يتصف بها إنسان. ولا يجد طعما لإنسانيته، فضلا عن مزالق الضلال والإضرار.

ولكن كل ذلك قد يوحى بأنه نوع من التسامى مخالف للطبيعة، أو هو يهز الدوافع البدائية، ويشكك فى دفعها وقوتها.

ولكن.. لا

فالطبيعة لا تخالف، ولكن ينبغى أن تحور وتتطور بحسب مرحلة الزمن الذى يعيشه الإنسان، وكما طور الإنسان الطبيعة الخارجية بحسب مرحلة تطوره، فقلب الرعى زراعة وجعل الزراعة صناعة.. إلى آخر هذه القصة، فقد آن له أن يطور طبيعة نفسه بلا تردد.

والدوافع البدائية لا تهتز، ولكنها حقائق أساسية.. تحترم وترضى – على ألا تصبح غايات فى ذاتها، ولكن الذى يهتز هو الزيف والخداع.

وأنا لا أعطى بديلا.. وإنما ألقى ضوءاً.

وأنا لا أخطط نظاماً… وإنما أفتح عينى، وأدعو لأن يفتح كل إنسان نوافذ عينيه وعقله وقلبه.. فيموت الخداع، وتقل احتمالات الانحراف.. ولا يتم هذا إلا بنور العلم… وانتشار المعرفة حتى تعم أكبر مجموعة من الناس… ثم .. كل الناس.

وبالتالى ينطلق الإنسان لإبداع كل ما هو رائع.. والاستمتاع بكل ما هو جميل.

وبهذا فقط يمكن ألا يلهينا الجشع عن حقيقة الحياة..

وألا يمنعنا الخوف من ممارسة جوهرها…

لأننا ننتصر فى المعركة انتصارا حقيقياً لا زئفاً، ولا يتم انتصار فى معركة تدور فى الظلام، ولا يكون ارتقاء بغير انتشار المعرفة فى كل مجال وإثراء الفن لكل جوانب الحياة.

وبالرغم من أن هذه الدعوة فردية تماما فإنها تزدهر بسرعة وصحة فى مجتمع تتساوى فيه الفرص، وينعدم أو يقل الاستغلال، فيهدأ التنافس على الأهداف الزائفة. لينطلق الإنسان إلى الخلق والابتكار.

****

وكل إنسان يسهم من موضعه فى معركة الإنسان ضد الأهداف الزائفة، وبالرغم من أنها معركة كل فرد على حدة، فإن الانتصار فيها هو انتصار الإنسان فى كل مكان.. على مدى الأزمان.

****

فما موقف الطب عامة؟ وما موقف الطب النفسى – أو الطبيب النفسى – خاصة؟ ما موقف الطب من قضية الإنسان بصفة عامة؟ وما هو دوره على سلم التطور؟

أهو تشخيص ودواء، وشكراً وإلى اللقاء، وعلى الله الشفاء؟

أم هى مسئولية أعمق وأشمل؟

الحقيقة أن عملى وضعنى موضعا أحببته بكل تفاصيله، موضع الإنسان الذى يمد يده لإنسان يعانى، ويا روعة المعاناة وأقساها إن كانت من نفس مضطربة.

وحبى لعمل هو الذى أعطى حياتى طعما ومعنى.

وحبى له أيضا كان المنقذ لى حين تضيق الدنيا علىّ، أو تضيق نفسى بى، وكنت حين أتصور الطبيعة شائهة والنظام سيئاً والحال مزعجاً ميئساً ولا سبيل إلا الهرب، كان حبى لعملى يرضينى، ويثبت قدمى، ويحفزنى إلى الاستمرار، لأنه كان دائماً يزيد إيمانى بالإنسان.

وحبى له هو الذى علمنى وأبنى.

وقد تمنيت هذا العمل دائماً، ولم أكن أعرف السبيل إليه، فأول ما دخلت كلية الطب كنت آسفا أشد الأسف أنى لم أدخل كلية الآداب حتى أعلم عن النفس أكثر مما سأعلم عن البدن، واعتزمت أن أدخل كلية الآداب من فور انتهائى من دراسة الطب، كان هذا ما تصورته حينذاك – من أن علم النفس الإنسانية، وطب النفوس هو اختصاص الأدباء دون الأطباء- ثم ثبت لى أن ذلك خطأ ما بعده خطأ، بالرغم من أن كثيرين مازالوا يعتقدون صحته، وكان هذا من الأسباب التى دعتنى إلى الكتابة، وهو توضيح بعض ما شاع من مثل هذه الأخطاء.

وحين أتيحت لى هذه الفرصة الغالية، وهى أن أعمل بالطب النفسى، تدريساً وممارسة، أحسست أن المكان الذى وضعت فيه يستلزم أن أقول شيئا: ليس لطلبة الطب فحسب، وليس لمن يتفق أن يطلب مشورتى أو عونى من المرضى، وإنما لكل الناس، فقد رأيت النفس الإنسانية- وهى أروع عمل قام به الخالق قاطبة، إن كان ثمة مجال للمفاضلة، مازال فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ورأيت أنه لابد أن نقول ما نرى، حتى نلقى بعض الضوء على خفاياها، ولا أحد حتى الآن مهما أوغل فى الدراسة سمع كل ما تهمس به، ولا أحد يمكن أن يتصور فعلا محتوى النفس بكل أبعاده وأغواره.

أغلب ما نراه هو آثار نشاط هذه النفس.

ولكن حقيقتها رائعة رائعة، أكبر من كل هذا، حتى أنى تصورت أنها لا يمكن أن توصف فى ألفاظ… أو عبارات.

وقد رأيتها رائعة فى صحتها ومرضها، رائعة فى انطلاقها والتوائها، رائعة فى صدقها وحتى زيفها، وأحببتها دائماً.. وزاد إيمانى بالإنسان.

وأمسكت بهذه الفرصة: أمامى نفوس الناس، وعلوم الطب النفسى فلابد أن أقول.

ودراسة النفس يحاولها دائماً المتأدبون، ولا يتأدب لها المختصون..

وأنا فى موقع فريد، ومجال غنى تماماً..

وأمسكت القلم.

ولا أنكر أنى أحاول أن أمسك به من قديم، ولا أدعى أنه أصبح طيعاً سلساً، ولا أنه أخرج شيئا كبيراً ذا خطر، ولكن ما دام هناك شئ ينبغى أن يقال، وضوء ينبغى أن يلقى، على أمل أن يبدد بعض الظلام ويهيئ فعلا أن ينتصر الإنسان فى معركته، فلابد أن يتم هذا، وبأ صورة.

2- عبيد الكلمة المطبوعة

وقد ترددت كثيراً فى الكتابة فى أمور النفس وأمراضها ثم عرضها على القارئ المثقف غير المتخصص، وكان سبب ترددى هو الخوف من سوء التأويل، وحدوث الضرر قبل الفائدة، فلا يخفى أن كثيراً من القراء فى أمور النفس يتصورون أنهم سيجدون شفاء نفوسهم فى قراءة كتاب وتطبيقه على أنفسهم، وهذا ليس صحيحاً ولا نافعاً، لا سيما إذا كان اضطراب النفس قد وصل إلى حد المرض الذى لا يصلح له إلا العلاج المدروس، الذى يختلف من مرض لمرض، ومن فرد لفرد، لذلك حاولت أن أوضح هذا تماماً فى أول الكتاب، ومع ذلك فأنا متصور أنه توضيح قد لا يعفينى تماماً من المسئولية فى هذه المرحلة التى يتعجل فيها الناس كل شئ، ويعزف الشباب خاصة عن القراءة الجادة، ويستسهلون الحلول، ويوزعون اللوم على كل الناس إلا على أنفسهم. وقد غمرت المكتبة العربية كتابات عن النفس كثيرة كثيرة، بشكل مذهل – وكنت أود أن أقول رائع ومفيد – ولكن وللأسف لم يكن دائماً كذلك! ولعل سبب هذه الكثرة المتعجلة هو إقبال القراء على هذه الموضوعات إقبالا خاصاً ملحاً، يصل فى كثير من الأحيان إلى درجة التهافت، وهذا من طبيعة العصر المضطربة، وهو نتاج الخوف الذى يسيطر على الإنسان: الخوف من الجوع والإبادة، وهو صورة القلق على كيان الإنسان الآخذ فى الاضمحلال أمام “ميكنة” الفكر التى تجرى على قدم وساق، كل ذلك يدفع الإنسان إلى أن يبحث عن نفسه وسط هذا الخضم الهائل من المتناقضات، فيندفع إلى قراءة كل ما يكتب عن النفس عساه أن يجد شيئاً يتعلق به ينقذه من الخوف والضياع، ويرشده إلى طريق النجاة، فماذا يجد؟

حقيقة لقد جزعت من كثير مما ينشر من أفكار مبتسرة، ونصائح سطحية، وأرشادات خطابية.

وجزعت جزعا أكثر من التجارة بقلق الناس.

والقارئ عامة – والقارئ العربى بصفة خاصة – يعبد الكلمة المطبوعة، فإذا كانت مطبوعة “بالبنط” الأسود، ومغلفة بالورق المقوى، ومعروضة فى واجهات فخمة أصبحت تنزيلا من لدن أهل العلم والخبرة لا تحتمل الشك ولا تحتاج إلى برهان: أليست مكتوبة فى كتاب كذا؟

ليس المهم من المؤلف، ولا من الناشر، ولا ما المصدر أو المرجع، وهو لا يسأل نفسه عن طبيعة ما يقرأ:

أهى نتيجة علمية خرجت من معامل العلماء؟

أهى فكرة فرضية مطروحة للمناقشة؟

أهو رأى شخصى لا يلزم إلا صاحبه؟

كل ذلك لا يهم… المهم أنها مطبوعة.

وكثيراً ما كنت أسمع من بعض الطلبة من الشباب، بل من بعض الشيوخ آراء يقولونها بيقين عجيب وإيمان راسخ، آراء تكذبها أبسط الحقائق العلمية، ولا تكاد تراجع أحدهم أو تناقشه حتى يكون الرد “أنا متأكد” فإذا سئل “متأكد من ماذا؟” أجاب من أنى قرأته مكتوباً، وكأنه أجاب بفصل الخطاب.

بل أن كثيراً من المرضى يحترم التعليمات المكتوبة على الورقة المصاحبة للعقار الموصوف أكثر مما يحترم تعليمات الطبيب – الذى قرأ عن العقار آلاف الصفحات، والذى ذهب المريض إليه طائعاً مختاراً، ووضع فيه ثقته وربما دفع له ما دفع، ولكن تعليماته دون الكلام المطبوع، حتى إن بعض شركات الأدوية – وبخاصة فيما يتعلق بالعقاقير النفسية – كفت عن وضع ورقة التعليمات مع الدواء.

وإن كانت الشركات قد وجدت الحل فى منع الشر؟ فهل يكون ذلك هو نفس الحل بالنسبة لهذه الكتابات التى تصدر بطريقة مزعجة وسرعة عجيبة؟ هل ننصح بحظر النشر؟

ما بقى إلا هذا! أهل العلم يخافون على الناس من جهل منشور، فيحاربون الكلمة!، والكلمة سلاحهم وطريقهم إلى الناس والحق والفضيلة، والكلمة نور الحياة، والكلمة صحة المجتمع، والكلمة مهما كانت شائهة أو أساء بعض الناس استعمالها فهى هى الوسيلة إلى كل خير، الكلمة أصل الدنيا وطريق خلاصها.

إن الخوف على عقول الناس من التشوه أو التشويش يحمل اهتزاز الثقة بأصالة عقل الإنسان الذى لابد أن يلفظ الزيف إن عاجلاً أو آجلاً، ومثل مثل الخوف على الناس من سوء استعمال الحرية، أو خوف الأم على طفلها من ذهابه إلى المدرسة!؟

إذاً: ما الحل؟

هل نكتب رداً على ما يصدر؟

ولكن هذا سيجرنا إلى مهاترات لا نهاية لها.

ورأيت أن الحل الأصيل هو مزيد من الكتابة الصادقة الواضحة، والإصرار على ألا نتخلى عن مسئولياتنا، الإصرار على قول الحقيقة بإلحاح مستمر.

هذا هو الحل الوحيد.

ولو لم يتعال بعض المثقفين والمتخصصين عن عامة الناس، ولو وجد كل من عنده شيئاً شريفا يقال مجالا يقوله فيه لما عدم أذنا تصغى له لساناً يتناقله، ولمات الزيف وبقيت الحقيقة: هذه هى سنة الطبيعة.

لهذا قلت: مادام هناك ما يقال: فلا بد أن يقال.

ومشيت على الصراط، لتصبح كلماتى مطبوعة، وويحى من عبيد الكلمة المطبوعة ولكن خشيتى أشد من مشايخ الإحصاء ورهبان المعامل.

3- حيرة..!

فقد نما علم الإحصاء وترعرع، وامتدت سطوته إلى كافة فروع العلم ومنها العلومن النفسية حتى أصبح إلهاً يعبد من دون المنطق، وكم أحسست كأى إنسان بسخف هذه السيطرة وغلوائها، ولكن الرد كان دائماً إن إحساسك لا قيمة له لأن حديثنا “كله بالحساب”.

قلت: رضينا بالحساب فى كل شئ، فى الصناعة والعمارة والقلب والرئتين، ولكن هل يدخل الحساب النفس الإنسانية؟

قالوا نعم، وبالذات النفس الإنسانية، وأصبحت حساباتها بالعقل إياه (الإلكترونى)… هذه الآلة الرهيبة التى تسخر من الإنسان فى كل مجال وكل آن، والتى تتحدى المنافسة ولا تقبل المناقشة لأن احتمالاتها محسوبة الخطأ محسوب، ورفضك نتائجها محسوب، واحتجاجك عليها محسوب.

إذا.. ماذا؟

هل أكتب جدول لوغاريتمات للنفس الإنسانية؟ وهل هذا ممكن؟

أم أنسى حقائق العلم المحسوبة، وأنا الذى هاجمت من طرحها وراء ظهره عجزاً أو جهلاً؟

ولكنى وجدت مدرسة أخرى تناقض ذلك تماماً وتقف وقفة متشددة عنيفة ضد هذه السيطرة المعملية والإحصائية على علوم النفس الإنسانية، وتحاول أن تضع قيما خاصة وأسلوباً خاصاً لتقييمها ودراستها، وهى تبنى أساس علمها على مفهوم نظرية التحليل النفسى، وهى تترك مجال الاجتهاد مفتوحا على مصراعيه، ويلعب فى نتائجها واستنباطاتها العامل الشخصى أيما دور، وهى لا تخضع نتائجها للتجربة الدقيقة.. وإن قال روادها غير ذلك، وهى تتبع فى ذلك أسلوب الخاصة من الواصلين، فإنه لكى تفهم لغتهم ينبغى أن تعيش مثلهم، فإذا سلكت وصلت، وإذا وصلت ذقت، وإذا ذقت عرفت، وإذا عرفت تجلت لك الحقيقة دون حاجة إلى برهان.

وكانت حيرة.. وكان حرجاً.. وكان تأجيلا.

ولكن، كان لابد من الاختيار الصعب، واخترت أن أكتب.

فمهما حسب العقل الإلكترونى من حساب، فهو يصف حقائق فى أرقام، ما دام الأسلوب العلمى هو ضابطها.. إذاً فلابد من تقديمه، ويا حبذا لو كان دون أرقام.

ومهما تصور المحلل النفسى من احتمالات.. فهى رؤية إنسانية، سواء كانت من داخل نفس المريض أو المحلل نفسه.. ولكنها صورة إنسانية.. تصدق أحياناً، وتفيد كثيراً… ما دام تعميمها يلزم حدوده.

ومازالت بحور النفس عميقة عميقة، ومازال السابح فيها لا يرى إلا ما يسمح به مجال رؤيته، أو منظاره المكبر، أو تصوره. وما ألأقرب مدى كل هذا!

ولكنى وأنا طبيب نفسى – ولست عالماً نفسياً – أراها من زواية ينبغى أن تتضح حتى يشمل النور كل جوانبها، ولابد أن تكمل الصورة، وأنا أراها رائعة مروعة، إذا هاجت بحورها فهى قوة عجيبة مروعة، وإذا سكنت مياهها فهى طبيعة رائقة رائعة!

لكل هذا كتبت..

كتبت ما أحسست أنه لابد أن يقال ليوضح جانباً غامضاً، أو يصحح خطأ شائعاً. وكتبت ما رأيته من معالم النفس: فى عمقها وروعتها، فى حدود ما أعلم من أساسيات الطب النفسى مما لا ينافى الحقائق العلمية لهذا الفرع.

وقد نشرت معظم محتويات هذا الكتاب فى مجلة الصحة النفسية، التى تصدرها الجمعية المصرية للصحة النفسية، ولكن قد جرى عليها بعض التحوير. حتى ظهرت فى هذه الصورة التى آمل أن تكون أكثر وضوحاً وأعم فائدة.

ولعلى وفقت إلى بعض ما قصدت إليه.

ولعلى أسهمت  من موقعى ببعض ما يمكن أن يزيد إيماننا بالإنسان…

والمستقبل.

القاهرة فى 5 يناير سنة 1971

المؤلف

الفصل الأول

نظرات فى الأدب

نظرات فى الأدب

الفصل الأول

نظرات فى الأدب

سقراط: فهل يصح البحث ذاته بالنسبة إلى سائر الفنون، أتود أن تسمع ماذا أعنى بذلك يا إيون؟

إيـون: إنى أود، وحق زيوس يا سقراط، فأنت تعرف كم أحب الاستماع إليكم معشر الحكماء.

سقراط: بودى أن يكون ما تقوله يا إيون حقا، فأنتم أكبر الظن – هم الحكماء، معشر المنشدين والممثلين، والشعراء الذين يرددون قصائدهم، وأنا إنما أذكر مجرد الحق، كما يجدر بشخص مثلى غريب عن الصناعة”

كتاب الفن

ترجمان الترجمان

إن الناظر فى الإنتاج الأدبى المتداول فى السنين الأخيرة، لاسيما أدب القصة والمسرح، سيلاحظ لا شك ظاهرة متكررة جاذبة للأنظار، وهى الكتابة عن المرض النفسى والاضطراب النفسى وجعله ماذة للقصص والمسرحيات والدراسات الأدبية، وهذا ليس جديداً مطلقاً فإن مادة القصة والأدب عامة كانت ومازالت هى الإنسان بصراعاته واضطرابه وحتى مرضه، ولكن الجديد فى الآونة الأخيرة أن الأمراض أصبحت تسمى بأسمائها، وأن الأعراض كادت توصف بتفاصيلها – كما يتصورها الكاتب – الأمر الذى أصبح يوحى إلى الناس بمفاهيم معينة عن المرض النفسى والاضطراب النفسى، وحتى العلاج النفسى.

وحين نظرت إلى أدب القصة والمسرح من هذه الزاوية (وكنت قد وضعت على عينى منظار الطبيب النفسى الذى عمقت به نظرتى للناس والحياة، فرأيت ما لا يرى بالعين المجردة) رأيت خبرات وصوراً رائعة بديعة، كما رأيت تشويهاً وتضليلا وسطحية فى أحيان أخرى، ولا يعنينى هذا النوع الأخير كثيراً فإن تفاهته وسطحيته تحمل مقومات فنائه كأى عمل زائف سطحى، وإنما يعنينى النوع الأول بما له من مكانة أدبية وبالتالى ما يمكن أن ينطبع منه على ذهن القارئ وفكره من مفاهيم تبدو وكأنها علمية. وكم عشت مع نجيب محفوظ وأنا أستجدى الصحة مع عمر “الشحاذ”، وأنا أحلق فى غيبوبة أنيس – وهو يثرثر على النيل، ثم أنتقل من مهزلة يوسف إدريس الأرضية إلى دراسة فتحى غانم الغنية عن الغبى، إلى آخر هذا الإنتاج الوافر الذى جعل من الأمراض النفسية موضوعاً ومصدراً لهذا الإبداع الأدبى الفياض، وكأن المرض النفسى محوراً يدور حوله الأديب ليدبج روايته، أو قالباً يصب فيه ما يتراءى له من أفكار وخيالات، وقد خطر فى بالى خاطر، هو سؤال ساذج ذكرنى بحادثة طريفة، فحين انتظمت فى قراءة الصحف اليومية فى أوائل الأربعينات وكنت فى نحو العاشرة من سنى، كانت تطالعنى أنباء الحرب العالمية الثانية بطريقة دائمة وملحة ومثيرة، وتصورت أول ما تصورت أن الصحف إنما تصدر أساساً لنقل أخبار هذه الحرب، ليس إلا، وتساءلت بينى وبين نفسى:

ترى هل تغلق الصحف بعد انتهاء الحرب؟ وكاد مثل هذا التساؤل الساذج يفرض نفسه وأنا أقرأ الانتاج الأدبى هذه الأيام ليقول:

ترى لو لم توجد الأمراض النفسية هل يتوقف الانتاج الأدبى؟

وقد رأيت أن أتجول بين هذه الأعمال لأرى ما فيها من المظاهر النفسية وما تصف من أعراض، وما تشير إليه من رموز، محاولا فى كل حال أن أصف ما أرى فى هذه التجارب الخلاقة الرائعة، إذا ما نظرت إليها بهذا المنظار الجديد.

وقد عنيت أن تكون هذه التأملات مجرد “نظرات فى الأدب”، فلا تؤخذ بمفهوم النقد التقليدى، أو على أنها دراسة أساسية لدوافع الإبداع ودرويه، وإنما هى محاولة لإلقاء لاضوء على هذه المحاولات والأفكار التى زاد شيوعها فى الكتابات المعاصرة، بفهم أو بغير فهم، بقصد أو كيفما أتفق، بأسس علمية أو نتيجة لاجتهاد شخصى، وأحياناً مايسمى هذا بالتفسير الفنسى “لكونه تفسيراً وصفياً للأعراض والمظاهر النفسية وتميزاً عن التفسير التحليلى” الذى يخضع تماماً لمضمون ومفاهيم نظرية التحليل النفسى، ولكن هذه النظرات التى أقدمها – فى قصدها ومضمونها – ليست وصفاً أو تفسيراً كافياً، بل هى مجرد تأملات قد تثير لعض زوايا الطريق.

فقد تخضع هذه المحاولات الأدبية لميول الكاتب الخاصة، وقد تعتمد على تجارب ذاتية خاضها أو تصورها، فيضع أفكاره، ويرسم أبطاله بهذا الاستبصار الذاتى فيوفق حيناً، ويخفق حيناآ آخر، ويتوقف ذلك على مدى نجاحه فى تأمل ذاته، وقدرته على الاستبطان والتعميم. وقد تخضع أحياناً أخرى – قليلة – إلى دراسات علمية أعمق وأدق لهذه الانحرافات التى يتناولها الكاتب، وما يمكن أن تهيئه له من مفاهيم يجعلها أساس التفاعل فيما يتناول من ألوان الأدب.

وأحب أن أوضح أنى لا أطالب الكاتب أن يحد من خياله ويضبط قصته فى إطار علمى تقليدى، وإلا ما أصبحت الكتابة فناًَ. وقد حاول ذلك كثيرون، وخرجت أعمالهم مجرد عرض تسجيلى ليس له روعة الإبداع، ولا مقومات الخلود، ولكن الذى أقصد إليه أنه إذا تعرض الكاتب بصراحة لموضوع الصحة والمرض، ليعرض إنتاجه على الأصحاء (مشروع المرضى) والمرضى، فلابد أن تكون هناك أسس ثقافية مناسبة، ومسئولية أدبية معقولة تضبط إنتاجه وتوجهه.

 وهنا يبرز تساؤل ذو بال:

لماذا انتشرت هذه الكتابات هذا الانتشار حتى كادت تصبح الصفة الغالبة فى الأدب المعاصر؟

أهى مشاركة عامة لهذا القلق العارم الذى يجتاح إنسان القرن العشرين؟

أهو هرب من حدود المعقول إلى انطلاقات بغير جدود، يستطيع فيها الكاتب أن يتخفف من الالتزام بما هو جائز وما هو مقبول؟

أهى محاولة للانتقال من الخارج السطحى إلى الداخل بعمقه وتضاربه حيث يجد الأديب فى أغوار النفس حقائق الحياة الأصيلة؟

بل هو كل ذلك؟

وفى كل الأحوال: سواء كان الدافع هذا أو ذاك، وسواء كانت وسيلة الكاتب هذه أو تلك. فقد نظرت فى هذه الأعمال لأرى مدى نجاح الكاتب فى رسم ما رسم من شخصيات.

كما أنه قد يمكن أن أرى ذات الكاتب نفسه وشخصيته من خلال عمله بما فيه من شخصيات وصور رسمها له خياله.

ولكنه قد خطر فى بالى أن النظر من هذه الزاوية، وبهذا المنظار ربما يمسخ العمل الأدبى بتجريده من سحره وإبدلعه إذا ما ترجم إلى مصطلحات علمية جامدة، فليس من المستحب دائما أن تسمى هذه التجراب الإنسانية العميقة، أو الهزات النفسية الباعثة على التأمل، او المفارقات والمآسى الملأى بنبضات الحياة وتفاعلاتها، ليس من المرغوب فيه أن تسمى كل هذه التجارب الإبداعية أسماء علمية جافة .. شأننا فى ذلك شأن من ينظر إلى ملكة للجمال كمجموعة من العضلات والأنسجة والعروق والأعصاب، فيدرس مقاييس جمالها بحجم العضلة الفلانية، أو تناسق الأبعاد العلانية، دون الإحساس الجمالى العام، الذى ببهرنا، ويجذبنا ويحتوينا، فلا ندرك سوى تأثير هذا الجمال جملة دون شرح أو تفصيل.

ربما كان هذا العمل مسخاً فى المفهوم السطحى العابر.

ولكنه ربما كان تشريحاً علمياً بكل أبعاده وفوائده ولزومه للدراسات العميقة، وكذلك بكل جفافه فى كثير من الأحيان.

وقد حاولت أن ألقى بذلك بعض الضوء على الطريق، فيتضح مابدا كأنه لغز من ألغاز الحياة، أو كأنه أمر عجيب ليس كمثله شئ، وأن توضح هذه الصورة للقارئ معالم النموذج الذى أراد الكاتب أن ينفذ من خلاله إلى ما يريد، ودى نجاح الكاتب فى التصور أو التعبير، أو فيهما معاً، ومدى مجانبته لكثير من الحقائق الأكيدة وأردت بذلك أيضا أن يزول اللبس والغموض عن هذه المظاهر التى تبدو بشعة أو نيئسة فى كثير من الأحيان، فى حين أنها يمكن أن تنطوى على آمال وغنى وإشراق لا حدود لها.

وأردت أن نرفض بكل تصميم وإباء أن تكون هذه الأعراض والأمراض مجرد موضوع للتفكة أو التندر دون هدف أبعد من مجرد السخرية والامتهان.

وسوف أقدم فى هذا الفصل نظراتى من خلال ثلاثة أعمال لثلاثة من أدبائنا المعاصرين.

أما العمل الأول فهو لسيد القصة العربية وشيخها الفذ: نجيب محفوظ وسوف أعرض لنوع المرض الذى وصفه أدق ما يكون، وأبدع ما يمكن فى قصته: “الشحاذ”.

والعمل الثانى هو “رباعيات” للفنان الشاعر صلاح جاهين: حيث سأحاول أن أرسم شخصيته من خلالها.

أما العمل الثالث فهو للأديب فتحى غانم الذى سأحاول أن أرد على هجومه “الموضوعى”(!) على النظرة العلمية “الموضوعية” للقدرات العقلية وقياسها فى دراسته عن “الغبى”. وقد كنت قاسياً عليه قسوة لا يبررها إلا إنبهارى وإعجابى حينذاك بالأساليب العلمية الموضوعية – الأمر الذى هدأ بعد خيبة أملى النسبية فيها لمدة سنوات لاحقة – ولكنى تركت الأمر كما هو تقريباً ليؤرخ هذه الفترة من تفكيرى كما قلت، وربما لأعتذر له فى الوقت نفسه.

ولعلى بذلك أوفق فى تقديم نماذج ثلاثة تلقى بعض الضوء على موضوع الأدب، وكاتبه، ومحتواه العلمى. على أنه للحديث بقية. فعبقريات العقاد غنية بلا حدود، وسائر كتابات نجيب محفوظ تحتاج للتفرغ والتمحيص .. وغير ذلك كثير مما أتمنى أن تتاح لى الفرصة لاستكمال نظراتى فيه.

(الشحاذ) نجيب محفوظ

(الشحاذ) نجيب محفوظ

الشحـاذ

لنجيب محفوظ

(نموذج لدراسة محتوى قصة .. بمفهوم “كلاسيكى” للصحة والمرض)

والنظرات فى أدب نجيب محفوظ، نظرات تملأ النفس إعجاباً ليس له حدود، وينطبق هذا على ما كتبه قديماً وحديثاً على حد سواء، يستوى فى ذلك السرد الواقعى العميق فى قصصه الأولى مثل القاهرة الحديثة أو خان الخليلى أو زقاق المدق حتى هذه المرحلة بالثلاثية يتحدث فيها جميعاً عن الإنسان فى واقعه كما هو: يصفه من كل زاوية وصفاً دقيقاً فريداً، لا يهمل خلجات النفس، لكنه لا يترك التأمل الذى قد ينطلق كيفما شاء كما فعل فى المرحلة الأخيرة إبتداء من “السمان والخريف” إلى “خمارة القط الأسود” حيث يعتمد على المنولوج الداخلى إعتماداً أساسياً، ويصل به الحال إلى أن يطلق سراح الفكر يتداعى بحرية وانطلاق من فكرة حديثة، إلى ذكرى قديمة، بدون رابط فى الظاهر، أو داع فى الواقع القريب، وفى هذه المرحلة يكاد يصل نجيب محفوظ إلى وصف واقع النفس الإنسانية بنفس الدقة والروعة التى وصف بها واقع الحياة.

ولا أحب أن أطيل الآن فى الحديث عن نجيب محفوظ كظاهرة فريدة فى عصرنا هذا – فى بلدنا هذا – فإنه ظاهرة لها جوانبها التى تحتاج إلى تمحيص وإفاضة،لا من حيث محتوى كتاباته الأدبية وعمقها وأبعادها فقط، ولكن من حيث دلالة انتشارها واستقبال العامة والخاصة لها أيضا، فقد أصبح نجيب محفوظ هو فارس الحلبة لمن يريد أن يقرأ ليتسلى،ومن يريد أن يفكر، ومن يريد أن يحضر مسرحاً، أو يشاهد “سينما”، ومن يريد أن تروج بضاعته – ناشرا أو مخرجا أو ناقداً أو منتجاً، لذلك فإن رواجه فى كل هذه المجالات ظاهرة فى حد ذاتها تستحق الدراسة – وإن كان فى العمر بقية وفى الوقت مستع، وفى الثورة على روتين حياتى أمل، فإنى راجع له لا محالة .. أحلى قصتى معه، وما أتخيله من جوانب قصته مع أبطاله .. وقصة أبطاله مع الصحة والمرض، وخاصة فى المرحلة الأخيرة وهو يغوص فى مشاكل الوجود والدين ومستقبل الإنسان، وإن سرقتنى أيامى بين “مظاهرات” البث العلمى (!) والارتزاق من آلام الناس، فإنى لا أشك لحظة فى أنه سيأتى من يكتب ما كنت أريد أن أكتب أفضل منى.

وهنا سأقدم رؤية عابرة لزواية من زوايا قصصه فى المرحلة الأخيرة.

وسأبدأ بتأملاتى فى قصة “الشحاذ” – لا لأنها أعمق القصص وأروعها – فأنت لاشك حائر بين كتاباته، لا تكاد تنجح فى التفضيل بينها، ففى كل معة إشباع، ولن تغنيك إحداها عن الأخرى فأنت دائماً فى حاجة إلى مزيد من الإنصات لغنائه، والاستمتاع به فى مجال آخر يختلف قليلا أو كثيراً، ولكنه دائماً يحمل متعة رائعة جديدة.

وإنما اخترت “الشحاذ” لأنها من الناحية النفسية تمثل وضوحاً وصراحة فى الأعراض لا مثيل لهما .. فهى تصف نوعاً من المرض النفسى وصفاً لا أكاد أصدق أن إنسانا يستطيع وصفه إلا إن مر به وعاناه، والحق يقال: إنى أشفقت على كاتبنا الكبير أن يكون قد عاش بعض هذه الآلام، وجزعت حين خطر ببالى هذا الخاطر برغم ما داخلنى من راحة حقيقية، إذ أن هذا الاحتمال نفحنا نحن قراؤه هذا الوصف الذى لا يقدر عليه إلا هو … إلا أنى – حبا فيه ثانية – استبعدت ذلك جداً، وراجعت نفسى وقلت لعله صديق صادق، اندمج معه كاتبنا العظيم، حتى قاسمه مشاعره، ثم استطاع ببصيرته أن يترجم خلجاته إلى ما قرأنا من فن صادق.

ولكن اذى استبعدته تماماً هو أن تكون هذه القصة برمتها محض خيال.

****

ويبدأ المرض – أعنى تبدأ القصة – بعد حوار قصير بين “عمر” المحامى الكبير، وبين أحد عملائه، ويغتاظ عمر ويصاب بدوار مفاجئ، ولكن … هل كانت هذه هى البداية فعلا؟ إنه يقرر أنه كان هناك تغير خفى مستمر قبل ذلك ومن هنا جاء “تأثره الذى لا معنى له” بكلام الرجل.

وينطلق عمر يستشير طبيباً صديقاً .. فيطمئنه هذا بما لا يدع عنده أى شك، ويخبره بأنه طبيب نفسه.

وتستمر الحوادث، وتضطرد الحال اضطراداً رهيباً، وقد تتحسن حالته أحياناً تحسناً ظاهرياً وتعتريه صحوة انتعاش نتيجة تغيير فى السكن أو فى الصحبة، أو حين يعلم أن ابنته تقرض الشعر مثل ما كان يفعل فى صباه، ولكن لا تلبث هذه الصحوة أن تهمد تحت وطأة المرض العاتية، ويهجر مكتبه، ثم يهجر بيته، ثم يدخل فى تجربة حب جديد، ثم يرتمى فى أحضان اللذة المحرمة فى شغف ثم فى ضجر، وإلأمور تزداد سوءاً والناس من حوله فى انزعاج وعجب لا يجدون لما يحدث تفسيراً ولا يستطيعون له دفعاً – “نشوة الحب لا تدوم ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر”.

وذات يوم ذهب إلى الطريق الصحراوى وحيداً، ووقف وسط الصحراء يضرع للصمت أن ينطق، وفجأة ينبض القلب بفرحة ثلمة ويجتاح السرور مخاوفه وأحزانه، ولكنه لا يلبث أن يضعف ليهبط إلى الأرض، ويستقبل موجات من الحزن.

ويستمر الحال لا يوقظه منها أن يرزق بمولود جديد، وإن دفعه ذلك إلى أن يرجع إلى بيته فترة يلقى فيها صديق عمره، وزميل كفاحه – بعد خروجه من السجن – فيترك له مكتبه … ويزوجه ابنته، أو يدعه يتزوج ابنته.

ويعود ثانية إلى هجر بيته ويعاود محاولة الصحراء مرات ومرات، فلا يمن عليه بها ثانية أبدأ.

وبازدياد وطأة المرض يرفض استشارة الأطباء ويعرض عن إظهار أعراضه خوفاً من مستشفى الأمراض العقلية.

وتتم المأساة بأن يعتزل الناس فى كوخ بعيد يناجى الصخر، ويخاطب الحيوان ويناقش الكائنات المنقرضة، ويفكر فى السمو  طيلة يقظته، وينزعج لأحلامه التى تتمسك بالحياة الدنيا.

****

لم يدع نجيب محفوظ فى الأمر لبساً أو غموضاً.

فهو يتحدث عن الحالة بوصفها مرضاً صريحاً فى كل مجال، وبكل لسان، فأى مرض هذا الذى يفرض كل هذه المرارة والقسوة والسواد؟ وهل هو حتمى التطور بهذه الصورة المفزعة، وما أعراضه وأسبابه وعلاجه إن كان ثمة علاج؟

هو مرض “الاكتئاب” وآسف لاضطرارى إلى تسميته.

وهو نوع من الأمراض النفسية (أو العقلية إن شئت) يبدأ أساساً باضطراب العاطفة دون سبب ظاهر، أو لسبب لا يتناسب ومقدار هذا الحزن ومدته .. ويترتب على ذلك همود حركى وانصراف عن الدنيا والناس دون مبرر حقيقى، بل وفوق ذلك يصاب التفكير ببطء ظاهر وسوداوية قاتمة.

إذاً فهذا المرض يصيب وظائف النفس الثلاث (العاطفة، والتفكير والسلوك الحركى) بالهمود والانحطاط، وهو يصيب عادة ذوى الشخصية النوابية: أى التى يتناوب مزاجها بين المرح والحزن فى الأحوال العادية، تلك الشخصية التى أطلق عليها صلاح جاهين مؤخراً ” الشخصية الفرحانقباضية” وهى تسمية خليقة بالاعتبار (وهى موضوع دراسته على صفحات هذا الكتاب).

وإذا ترك المرض يتطور حتى يبلغ مداه، زاد الضجر والاكتئاب إلى حد التبلد، وانتهى إلى جمود حركى بالغ، وعزلة تامة، وسكون خامد، ثم يتوقف التفكير، ويزيد سواداً أو اضطراباً ويختل الإدراك وتختلط المرئيات فيرى المريض ما لا وجود له، وينكر ما هو كائن.

ولكن ما حقيقة هذا المرض ووظيفته؟ أهو تحطيم للذات هرباً وجزعاً .. فقط؟ أهو اليأس من مستقبل الإنسان، والرفض لهذا النوع من الحياة التى يحياها؟ أهو تغير كيميائى يصيب خلايا المخ فيقلب الدنيا على رأس صاحبها؟ أهو استعداد وراثى فى الخلايا ذاتها يجعلها عرضة لهذا التغير الكيميائى ومن ثم لهذا الرفض واليأس والتحطيم؟ أم هو كل ذلك؟ بل هو كل ذلك ..

 وأنا – رغم أنى طبب أمارس المداواة – كثيرا ما أرفض ولو داخلياً أن نستسلم لفكرة الحتمية فى الوراثة، والآلية فى الكيمياء، ولكنى لا أتسطيع أن أكف عن إعطاء المرضى الكيمياء، وأن أبحث فى تاريخ أسرهم عن جذور هذا الضجر والحزن، بل هى جذور الثورة ..، ولكنى دائماً أقر وأعترف أن الكيمياء ستهدئ من – ثائرة المرض – وهذا واجب إنسانى لا محالة، فما أقسى الضجر! وما أشد وطأة المرض! ولكنى دائماً أتمنى أن تخفف الكيمياء المرارة، ولا تخفف الثورة التى يحملها المرض، وأن تحد من العمق فى رؤية اللامعنى واليأس، ولكن أن تحافظ على العمق فى رؤية المشكلة الإنسانية ووجوب الامتداد فى الآخرين.

لذلك فإن مرض الكتئاب بالرغم من أنه يفسر كثيراً من أعراض “عمر” إلا أنهم حديثاً بدأوا يتحدثون عن نوع منه اسمه “الاكتئاب الوجودى” ولا أحب أن يخطر على البال ارتباط سطحى بمذهب فلسفى بذاته، ولكن دعنا نسميه “الاكتئاب المتعلق بالكينونة” الذى يواجه فيه الإنسان السؤال الخالد “أن يكون أو لا يكون” إذ هو حينئذ يواجه حقائق الأشياء بعد تعريتها من كل زيف … لذلك كان علينا ونحن نسير مع عمر فى مأسأته ألا نغفل الجانب البناء من هذا المرض … وإلا مسخنا كل شئ، ونحن نرى جوهر الإنسان فى عنفوان ثورته … رغم احتمالات تصدعه.

ولعل الإنسان لا يكون إنساناً بغير مسحة من هذا الاكتئاب

****

ثم نرجع إلى “عمر”

ماذا عنده مما نسميه أعراضاً؟

هى أعراض صريحة تقليدية، أو كما يجب أن يسميها الأطباء المختصون “كلاسيكسة” ليس فيها لبس أو غموض أو التواء، ومع ذلك يقابلها الطبيب الصديق بأنها “لا شئ البتة”.

وهذا هو بيت القصيد الذى نحب أن نوضحه فى هذا المجال .. ولو أنى أعترف – ابتداء – برغم قسوة التجربة ومرارتها، أنه داخلى فرح خفى إذ أخطأ الطبيب التشخيص، وإلا لهجم عليه من فوره يقمع ثورته بالكيمياء والكهرباء، ولكنه أتاح لنا أن نتمتع بكل هذا الإمتاع والروعة فى الوصف التفصيلى للمرض من أوله إلى آخره، حتى إنى أستطيع أن أعتبره مرجعاً أصيلا وأساسياً فى وصف الاكتئاب، فهو يشرحه ويوضحه بكل دقائقه، ويعطى القارئ صورة كاملة عنه، تفوق – بلا أدنى شك – أى صورة يمكن أن نقدمها له عن هذا المرض فى كتاب مختص.

ولنعرض معا أعراض هذا المرض.

من أول ما أدرك عمر بصيرته أن “المسألة خطيرة مائة فى المائة”، وأن الحال أخطر من ان أسكت عليها، وذهب طائعاً مختاراً إلى الطبيب الصديق .. إلى أن فقد بصيرته فى آخر الأمر، وتطور الحال، وأنطر على زوجه قولها أنه مريض، وخاف الاتهام بالجنون، واعتزل العالم اعتزالا تاماً.

وقد بدأت الحالة دون مبرر ظاهر حين أظهر أحد عملائه أمله فى كسب قضيته بفضل قدرة محامينا الكبير .. ويشعر عمر بغيظ لا تفسير له حين يسأله:

“تصور أن تكسب القضية اليوم وتملك الأرض ثم تستولى عليها الحكومة فيهز العميل رأسه استهانة ويقول:

– المهم أن أكسب القضية، ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم ان الله يأخذها.

وزاد غيظه، وأصيب بدوار مفاجئ.

واختفى كل شئ .. هكذا دون أدنى سبب.

ولنسأل: ماذا غاظه فى الظاهر؟ أهى استهانة عميله بتعليقه؟ أهو صدى للغيظ من الحياة برمتها حين تذكر أنها تنتهى برغم كل شئ دون مبرر ظاهر؟ أهو مجرد إعلان لبداية المرض؟

بل هو كل ذلك

ويظهر اضطراب العاطفة فى كل كلمة وكل فعل، ونجد الضجر كله منشراً منذ البداية: لفظاً ومعنى:

“كثيراً ما أضيق بالدنيا وبالناس وبالأسرة”.

وأنه

“ما أجمل كل زمان باستثناء الآن”. وأنه شد ما كرهتها (الدنيا) فى الأيام الأخيرة!

هو ينظر إلى كل شئ من خالل منظار قاتم يناجى ابنته فى سره، وهو يتأمل الأفق فلا يرى فيه إلا سور السجن.

“ها هى ذى أمك تحكى البرميل .. والأفق يحاكى السجن.

فقد كل شئ طعمه الأصيل”.

ويسقط الاكتئاب على مباهج الطبيعة فلا يرى فيها إلا السكون والهمود:

“فالنيل يبدو من تغراث الشجر ساكناً هامداً شاحباً معدوم المرح” وتصل قمة الضيق إلى ترجمة حاسمة للحالة النفسية:

“ذكريات معادة كالقيظ والغبار”

“ضجر يضجر ضجراً فهو ضجر وهى ضجرة والجمع ضجرون وضجرات”!

ولا ينطق لسانه إلا بالضجر ومشتقاته.

وبعد كل هذا.

وبرغم كل هذه الأعراض الظاهرة منذ البداية، فما زالت النصيحة الطبية (المشكورة) ترن فى أذنى أنه:

“بالرجيم والرياضة يحل كل شئ …”.

“وأنه (المريض) طبيب نفسه”

ويطمئن الطبيب مريضه حين يبدى مخاوفه من أن يصبح “سجين العيادات النفسيه بقية عمره”.

بأنه “لا نفسى …. ولا دياولو”!!

أى أنه “بلا كلام فارغ”

ونعود إلى ما أصاب تفكير عمر وإرادته وسلوكه الحركى منذ البداية:

“ماتت رغبتى فى العمل بحال لا تصدق”

“مازلت قادراً على العمل ولكنى لا أرغب فيه”

” أشعر بخمود غريب”

“لا أريد أن أفكر، أو أن أشعر، أو أن أتحرك .. كل شئ يتمزق ويموت”

إذا لابد أنه المرض.

وما دامت حدة الأعراض تبلغ هذا المبلغ فإن المريض نفسه تصور أنه لابد أن يكون لذلك سبب ملموس، تغير عضوى مثلا، إذا فالأمل فى القضاء عليه قائم، لأن وجود سبب عضوى ينفى أن يكون هذا الذى هو فيه لعنة الشياطين مثلا، أو سخط آلهة الشر بما يترتب على ذلك من استسلام للمقادير فهو يقول.

فخطر لى – على سبيل الأمل – أننى سأجد سبباً عضوياً – ولكن الطبيب الكبير يقول:

” عزيزى المحامى الكبير لا شئ البته”

ما أصدق المريض، وما اشد حسن نية الطبيب (على أحسن تعبير)

ويعجب المريض: “ألبته؟”

فيؤكد الطبيب: “ألبته!”

ولو كررها المريض عشرين مرة لأعادها الطبيب مثلها، دون أن يجد فى كل هذا حرجاً أو ما ينبهه إلى أى احتمال آخر، أو يهز ثقته بنفسه وبتشخيصه، ولعل أصدق تعليق على هذا النوع من التطبيب هو قول مصطفى صديق عمر.

“ياله من علاج هو باللعب أشبه”!.

مل هذه الأعراض برغم وضوحها وصراحتها فإنها مبكرة .. فما زال المريض يأكل ويشرب ويشارك الناس حياتهم بشكل أو بآخر.

وتستمر النصائح بتغيير الهواء، وتغيير البيئة، بالقراءة، وبالرياضة .. وهو يحاولها جميعاً ولا فائدة. وينذر الجميع بعدم الاستهانة بحالته:

“أنى أشم فى الجو شيئا خطيراً، وأرعبنى إحساس حركة داخلى بأن بناء قائما سينهدم”.

ولمن من يسمع ومن يفهم؟

هل يمكن تصوير الانهيار بأبداع من هذا التعبير؟ لا أظن.. ثم تنتقل المرحلة إلى ما هو أكثر خطورة: فيبدأ التفكير فى الجنون:

يبدأ بالإعجاب الخفى بما يتضمنه الجنون من التحرر من القيود والثورة على سجن العقل:

“لماذا يثيرنى الكلام العاقل فى هذه الأيام”؟

“الشخص الوحيد الذى أعجبت بحديثه رجل مجنون يرفع يده على طريقة الزعماء طول الطريق..وتمنيت أن أتسلل إلى رأسه.. نحن الذين نعيش فى السماحة المجسمة لا نعرف لذة الجنون”

وهو فى هذه المرحلة يدخل باستبصاره إلى “ديناميات” النفس، ليشرح كيف يكون الجنون لذة وأملا، وكيف يكون تحرراً وانطلاقا، وكيف يمكن أن يكون حلا سهلا لضجر وضيق لا يحتملان، ولكنه الجنون.

وبالفسحة والفيتامينات والمشهيات يتحسن جسمه، ويحس ذلك التقدم الجسمانى الظاهرى، ولكنه يقول لصديقه فى سخرية:

“إننى أتقدم نحو شفاء جسمانى واضح، ولكنى أقترب فى الوقت نفسه من جنون ظريف والعقبى لك”.

ويستمر إحساسه بفقدان معنى الأشياء، وأنه لا حقيقة ثابته إلا الموت.

“لم يعد القلب يفرز إلا الضياع، ولا حقيقة ثابتة فى الصحف إلا صفحة الوفيات”.

وتعود النصائح للظهور: بالمثابرة والصبر.

بالإرادة والعزم.

ويؤكد كل ذلك عجز من حوله عن إدراك طبيعة ما يدور فى داخله وخطورته.

ويبدأ التوسل للسر الإلهى.. ويستمر استجداء الوحى، لعل ذلك يشفى من المرض.

أريد أن تعرف سرى يا مصطفى؟

إسمع:

“عندما أمضنى الفشل جريت نحو القوة التى أمنا من قبل بأنها شر لابد أن يزول”.

وهو يشير إلى أنه كان هو ومصطفى فى صدر شبابهما يعتنقان المبدأ الذى يقول بأن الدين أفيون، وأن الله شر معوق لتقدم الإنسان.

ثم تأتى الفكرة عفواً، وهى ليست بنت الساعة، ولكنها اللمسة الأخيرة التى ظهرت من قصته الطويلة مع اليأس والضجر والضياع، فلعل الحل فى “الهرب”.

ولكن إلى أين يهرف والصراع كله داخل نفسه، وكيف يهرب منها “وقد كتب عليه أن يناطحها“؟

ويحاول الهرب فى أحضان اللذة.. ولكنه هرب وقتى ينتهى فى حقيقة الأمر إلى عكس ما بدأ منه فى أول الأمر على أنه حل سريع.

“تلك الدفعة الغادرة إلى الوراء.. مجرد رد فعل مضاد بقوة مضاعفة وها انت ذا فى سباق حاد مع الجنون”.

ويتطور الاكتئاب إلى لا مبالاة بشئ ولا رغبة فى شئ.

“ماذا أريد؟

الفقه: لا يهم.

والحكم لصالح موكلى. لا يهم.

وإضافة مئات جديدة لحسابى.. لا يهم”.

و.. لا يهم.. و … لا يهم”.

لم تعد أمامه غاية يتطلع إليها.

ويصل الوصف الذاتى والتأمل الباطنى إلى قمة روعته:

“حبست الروح فى برطمان، ذبلت أزهار الحياة وتهاوت على الأرض ثم انتهت إلى مستقرها الأخير فى مستودعات القمامة، أى نهاية مروعة، قتل الضجر كل شئ وانهارت قوائم الوجود” ويستمر فى محاولاته اليائسة:

“إنى أدفع عن نفسى الموت.

إنى أدفع عن نفسى ما هو أشد”.

ويفيق أحياناً قليلة إفاقة تشبه سكرات الموت.. ولكن يعاوده المرض فيهجر رفيقته، ويعاود ضراعته وتسوله للوحى، للسر الإلهى.. ويأخذ فى البحث عن شئ، شئ ما، فيه كل شئ:

“لابد من شئ – الشئ أو الجنون أو الموت”.

ويجد الشئ مرة واحدة لا تتكرر.

يجده فى الصحراء حيث السكون واللانهاية.. ولكنها مرة لا تتكرر:

“نظر إلى الأفق وأطال وأمعن فى النظر، وثمة تغير جذب البصر، رقص القلب بفرحة ثملة، واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه، وشد البصر إلى أفراح الضياء، وشملته سعادة غامرة جنونية أسرة”

ثم ينتهى كل شئ ويعود الحال كما كان.

ماهذا الذى حدث؟ وأى تفسير له إن كان ثمة تفسير؟

إن كان المرض هو “الاكتئاب” بكل ظلامه وعبوسه، فما هذه النشوة الحقيقية التى لم تستغرق سوى لحظات؟

الحقيقة أن مرض الاكتئاب هو أحد وجهى مرض ذى وجهين يسمى “جنون الهوس والاكتئاب” ويمتاز وجه المرض الآخر وهو الهوس – بكل هذه الفرحة والنشوة والسعادة دون مبرر، وهذا المرض كما ذكرنا يصيب عادة شخصية نوابية تعيش نفس التناوب بين المرح والاكتئاب فى الأحوال العادية.. وما يحدث أحياناً فى بعض الأنواع المختلطة من المرض أن يتخلل الاكتئاب لحظات من الهوس، أى أ، الوجه الآخر للمرض يظل لحظات ثم يختفى تحت وطأة الشعور الحزين المسيطر، وقد تظهر بعض زوايا الوجهين أحياناً فى نفس الوقت، ولكن سرعان ما يغلب أحدها، كما كان الحال عند صاحبنا الذى انتهى به الأمر إلى جنون الاكتئاب عندما تطورت الأعراض إلى مظاهر الذهان التام وأخذ يحس أنه “جثة منسية فوق سطح الأرض”.

ولكنه يشعر – على خلاف معظم الذهانيين – بخفايا نفسه وبعض دوافعه إلى الجنون، فما دفعه إلى ذلك إلا ضياع محاولاته لإثبات ذاته أو معرفة هدف لحياته”.

“أنت لم تستطع أن تستلفت أنظار الناس بالتفكير العميق الطويل، فقد تستطيع أن تجرى فى ميدان الأوبرا عارياً”.

ومن مظاهر الجنون المتأخرة أن يفقد المريض بصيرته فينكر مرضه ويأبى استشارة الطبيب.

–       “ألا تفكر فى استشارة طبيبك

–       لا أستشير أحداً فيما يجهله”

وهو رد بالغ الدلالة والصدق فى كثير من الأحيان.

–       “إن المرض ليس بعيب.

–       إنك تظن بى الظنون”.

ويهرب من كل شئ، ويتقوقع فى ذاته، ولا يعود يتحدث عن أعراضه خوفاً من مستشفى الأمراض العقلية، وهو الذى كم سعى فى أول المرض إلى الطب يحدوه الأمل أن يكون مابه مرض.. ولكن!

***

ويختل التفكير وتظهر النزعات العدوانية والانتحارية:

–       أفكر فى تفجير الذرة.

فإن تعذر ذلك ففى القتل.

فإن تعذر ذلك ففى الانتحار”.

وهكذا يظهر التسلسل الجميل (آسف للتعبير غير المناسب) فى أعراض المرض. فهو يطلب أن يثبت ذاته بالمستحيل، ثم يعجز، فينطلق التوتر الناشئ عن الإحباط إلى العدوان، فإذا عجز أنقلب الدافع العدوانى إلى داخل نفسه، وهذه هى نفس الخطوات التى تنتهى بالتفكير فى الانتحار فى كثير من الأحوال، ولكن معظم الحالات لا تدركها ولا تصورها بهذه الدقة والروعة.

ويستمر نجيب محفوظ فى وصفه للجنون الصريح بنفس الدقة التى وصف بها الحالة النفسية فى أولها، وذلك بعد أن تبدأ الهلاوس (رؤية أشياء لا وجود لها) والضلالات (مثل إنكار كيان قائم).

“إنه يخاطب الجماد والحيوان، وهو يرنو إلى شجرة أو إلى النيل وتتحقق للمنظور شخصية حية، وتتخذ هيئة ملامح خفية لا يعوزها الشعور أو الإدراك”.

“وأسدل عمر على وجهه ستاراً أصفر من اللامبالاة وتحول شخصاهما (محدثيه) فى نظره إلى مجموعة من الذرات فامحت ذواتها.

ويموت إحساسه!

“ألم تلاحظى يا ابنتى أننى أصم”.

وفى موضع آخر

“ألم تدرك أننى ميت الحواس”.

ثم يخاطب النجوم ويسمع ردها:

“ونورت إلى نجم متألق بين النجوم”.

أريد أن أرى”

فأهمس:

أنظر:

فنظرت فرأيت فراغاً – فانحسرت هالة من الظلام عن رجل عار وحشى الملامح”.

ليس هذا ما يريد ولكنه يريد وجهه.

ويكاد يفيق من كل هذا، هل يمكن أن يفيق؟ بم يفيق؟ صدمة؟

أية صدمة؟ نع رصاصة فى الكتف- هجوم بوليسى يبحث عن صديقه (الذى تزوج ابنته).

ويخامره شعور بأن قلبه ينبض فى الواقع لافى الحلم، ويكاد يعود يقينه.

ويرن فى أذنه شطر بيت شعر:

“إن كنت تريدنى فلم هجرتنى”.

وبهذه اللمسة الصوفية يحاول الكاتب أخيراً أن يلقى بتبعة هذا الضياع على اهتزاز إيمانه، ولا أخاله إلا يصف عرضاًَ ضمن ما وصف من أعراض المرض، ألا وهو السعى إلى التمسك بالإيمان هرباً من الضياع، وهو بذلك لم يبعد عن الحقيقة، فالإيمان الراسخ كثيراً ما يحمى من الهزات والضياع. والله أعلم إن كانت هذه الصحوة مثل ما سبقها من صحوات سوف تنتهى إلى نكسة ثانية فى جب الاكتئاب الرهيب، أم أنها كانت البشير بانتهاء طور الاكتئاب الذى يتصف أساساً بأن نهايته ذاتية لا سيما إذا أصيب المريض بصدمة أيقظته (ولكن بعد ماذا)؟.

ولكن ما علاقة تلك الصدمة التى أصابته بهذه الإفاقة التى أملنا أن تكون صحون الشفاء؟

فى الواقع أن هذا المرض رغم شدة سواده وعنف أطواره، يستجيب للعلاج استجابة سريعة وكاملة فى كثير من الأحيان، ومازال علاجه المفضل هو نوع من الصدمات، يشبه فى طبيعته ومفعوله تلك الصدمات التى انتابت عمر نتيجة للهجوم البوليسى والرصاصة فى الكتف وما اعتراه إثرها من غيبوبة ثم من إفاقة.

ولو أنفق ان الطبيب الذى رآه عرف ذلك ونصح به منذ البداية، وعرف أن كثيراً من أنواع الاكتئاب – حقيقة لا سخرية – قد تحله ملعقة بعد الأكل أو ملعقة قبل الأكل، كما كان يتمنى عمر، لو حدث ذلك لما حصلنا على هذه الروعة والإبداع، ولا نتهت الرواية فى بضع صفحات إذا لما كانت رواية.

***

فلا انزعاج من حتمية هذا المرض ومصيره، فما أسهل علاجه فى أكثر الأحيان، وإنما الإنزعاج هو من تصور هذه الخبرات الإنسانية العميقة مثل الإنفونزا أو الصداع، وبالتالى إحتمال تشويه طبيعة كل هذه الروائع الخالدة التى تصور الإنسان من الداخل فى عنف مأساته مع الحياة، ولكنه انزعاج نظرى بحت، فلا يوجد سحر طبى يمحو التجارب الإنسانية ولا أقراص أسطورية تغير المشاعر الأصلية، ولكن ما يعمله التطب ليس سوى علاج الاضطراب إذا وصل إلى أقصى غاياته: وهو المرض بهذه الصورة.

ولن تفقدنا هذه المتعة النفسية أن نشعر أن واجبنا الأساسى هو إلا ندع إنسانا يقاسى ما قاساه عمر. فهى معاناة نهايتها التصدع والتحطيم والإنهيار، وإنما أن تضبط الهدامة لتصبح قوة بناءة … تقتل الزيف وتسهم فى تطور الإنسان، هذا هو الطب النفسى .. كما أعرفه أو كما ينبغى أن يكون.

إن وصف المرض جميل .. ولكن وصف الصحة أجمل.. إن المرض غنى بكل ما هو عميق مثير.

ولكن الصحة الإيجابية – وليس مجرد انتقاء المرض – أروع وأمتع، وقد يبدو ان هذه الدعوة قد تحرمنا من مثل هذا الصدق والإبداع فى رؤية تجربة إنسانية مرضية … ولكن هذا إحتمال نظرى بحت، لأن مثل ذلك الطبيب الكبير الذى ينكر كل ذلك. كثير وكثير، وضحاياه ستملأ أعمال الأأدباء .. ولن نعدم أبداً أعمال كاتب عظيم مثل نجيب محفوظ وهو يرى هذه الإنسانيات، ويتأثر لها، فينفعل به ليتحفنا بكل هذه الروعة.

إن الصحة الإيجابية فيها من الثورة والألم والبناء والتطور ما يهز أركان النفس نشوة وانفعالا وهى تقلب إهتزازة المرض وارتعاشاته إلى نبض الحياة وقوة الفن.

(رباعيات صلاح جاهين) وشخصيته الفرحانقباضية

(رباعيات صلاح جاهين) وشخصيته الفرحانقباضية

رباعيّات صلاح جاهين

وشخصيته الفرحانقباضية

“وفتحت قلبى عشان أبوح بالألم ما خرجش منه غير محبة وسماح”

لقد أعفانا الشاعر الأديب الرسام المتعدد المواهب “صلاح جاهين” من تسمية حالته النفسية التى تكمن وراء كتاباته ونشاطاته المترامية الخلاقة، فقد طلع علينا فى مجلة “صباح الخير، بوصف حالته تلك بهذه الصفة التى استعرتها منه لأعنون بها هذا المقال، وقد كان أدق تعبيراً وأشجع موقفاً وأكثر صراحة من كثيرين من المتخصصين، فقد ذكر أنها حالة “عقلية”، ونحن كثيراُ ما نخلط بين “العقلية” و “النفسية”، ولعلهما واحد، ولعل الفرق لا يعدو جرأة بعضنا وتحفظ الآخرين من المشتغلين بهذه العلوم، أى أن جوهر الحقائق لا يختلف كثيراً، غير أن هذه القضية كسائر التسميات – فيها اختلاف كبير، المهم أن صلاح جاهين أعفانا من كل هذا وسمى الحالة بالاسم الأكثر صدقاً وصراحة.

وأدق من تسميتها عقلية لا نفسية، تسميتها “حالة” وليست “مرضاَ” وهنا لابد أن يوضح الفرق تماماً، فإن المراوحة بين الفرح والانقباض تتصف بها شخصيات سوية وتسمى الشخصية النوابية Cycloid (التى يتناوب مزاجها بين النقيضين)، والتى عادة ما تكون ذات تكوين بدين أو مستدير، فإذا زاد هذا التناوب كما وكيفاً سميت “حالة” وهى مرحلة وسط بين السواء والمرض ..، أما إذا زادت حدتها حتى هددت كيان الإنسان وأخلت بسلوكه الاجتماعى، وعوقت إنتاجه فإن هذا هو المرض الصريح، وأحياناً تتداخل هذه المراحل تداخلا تدريجياً وخفياً فلا يمكن فى الواقع تحديدها على وجه الدقة أو فصلها فصلا مستقلا تماماً.

وصاحب هذه الشخصية – أو هذه الحالة – إما سعيد فرح نشيط مقبل على الحياة بالطول وبالعرض، وإما حزين مكتئب غير مكترث لا يرى فى الحياة متعة ولا يرى فى المستقبل أملا، ولا يجد أى دافع يدعوه للاستمرار، فإذا زاد الفرح أصبح نوعاً من الهوس Mania على اختلاف درجاته من انطلاق وسرور إلى هياج وثورة فى بعض الأحيان، وإذا زاد الانقباض وصل إلى حد الاكتئاب Depression الذى يتفاوت من انحراف المزاج البسيط إلى الهمود العام والعجز عن كل شئ .. حتى عن الانتحار.

***

وصلاح جاهين يعيش عمق الحزن وقمة الفرح، دون الانحدار إلى درجة المرض بل يمارس هذه المشاعر فى أوج الصحة … والفرق موجود وهو فى غاية الأهمية، ففى طور الهوس مثلا نجد أن الاهتمامات المتعددة لا تصل أبداً إلى أى هدف، أما فى حالة الصحة فهى اهتمامات وملكات مثمرة جميعها.

وسوف نستعرض سوياً مظاهر هذه الحالة فى “رباعيات” صلاح جاهين خاصة، وذلك لأنها تأملات عميقة، وخلاصة فكر صادق مع أيجاز فى بلاغة، فهى تفى بإيضاح هذا التناوب بين الإقبال والإدبار، أو بين الفرح والانقباض، أو بين الهوس والاكتئاب غير أن هذه الصفات تصبغ كثيراً من أعماله الأخرى النثرية والشعرية، والفنية على حد سواء، ووراءها جميعاً موقف القلق والصراع، ومحاولة إثبات الذات بالتعبير الفنى على اختلاف أشكاله.. وكثيراً ما نجده فى هذا الإنتاج الفنى كمن يدافع عن قضية وجوده، بكل الصور، وكأنه يدفع تهمة لا يعرفها، فنراه فى “قصاقيص ورق” فى موقف الاتهام، يطلق غناءه وأنينه يدافع عن جريمة لا يعرف أبعادها ولا دوره فيها، ولا يجد تفسيراً لهذا “الشعور بالذنب” الذى يدفعه إلى كل هذه “المرافعة” .. الباكية مرة:

“مؤيد بكل أنين الكمنجات فى كل الوجود”

العذبة البريئة حيناً

“بتهنينة الأمهات للعيال فى المهود”

المرحة المنطلقة تارة أخرى:

“بصوت القبل .. وكل ابتسامة بحق وضيق”

فهو يحس أنه فى حياته مهاجم بغير ذنب، متهم بغير تهمة أمام أسياد وهميين يريدون نهش لحمه:

“سيادى الحدادى اللى حايمة على رمتى”

ولعل هذا الموقف هو الدافع الحقيقى وراء انطلاقه فى كل هذا الإنتاج الفنى الوفير ليواصل معركة الوجود، فإما أن يعبر عن صراعاته بهذا الأسلوب وإما المرض، لذلك دائماً يؤكد أهمية التنفيث: لابد من التعبير .. والكلام .. وإلا ..

“ده اللى ما يتكلمشى يا كتر همه”

أو:

“ياعندليب ما تخافشى من غنوتك …. كتم العنا هوه اللى حيموتك”

إذا فهذا الإنتاج كله هو المخرج الخقيقى السليم للطاقة العظيمة الناتجة عن الصراع الداخلى .. ذلك الصراع الذى يثور فى النفس ويملؤها بالتساؤل والحيرة، ويتولد عنه القوى الدافعة التى إما أن تظهر فى صورة إنتاج وإبداع، وتصطبغ بنزعات الفنان الخلاق، أو هى تشتت فى غير نظام وتضغط بغير توجيه، فتحطم الشخصية وتشوععا، ويظهر المرض.

 والإنسان الفنان السوى يحس بهذا الصراع، ويدرك أبعاده ويعيشه بكل قوته وعنفه، ثم هو يعبر عنه فى القالب الذى شاءت موهبته أن يصيغه فيه، وحالة الصراع والحيرة هذه هى الأساس وراء ما يجد بعد ذلك من نزوع إلى أى اتجاه.

ويعيش صلاح جاهين هذا الصراع ويحس بذاته محملة بخبرات الأجيال السابقة،وتخاف نفسه من نفسه، ويشعر بالثورة الداخلية، ويمتلئ وجدانه بما يريد أن يفصح عنه.

“أنا شاب لكن عمرى ولا ألف عام

وحيد ولكن بين ضلوعى زحام

خايف ولكن خوفى منى أنا

أخرس، ولكن قلبى مليان كلام”

وهو إذا يطلب الحواب المحدد لتساؤلاته، يحاول أن يجد مفهوماً كاملا واضحاً متصلا لكل علامات الاستفهام الى حيرته وأقلقته، ولكنه لا يجد دائماً الجواب بهذا الوضوح. وكثيراً ما لا يجد جواباً أصلا.

“أسال سؤال والرد يرجع سؤال .. وأخرج وحيرتى أشد مما دخلت”

أو

“ده ياما فيه سؤالات من غير ردود”

فهو يتساءل عن أصل الوجود

“الأصل هوه الموت ولا الحياة”

أو عن الأيمان

“قلبى ارتجف وسألنى أأمن بايه

أأمن بايه محتار بقالى زمان”

أو عن ذاته

“دقيت سنين والرد يرجع لى: مين

لو كنت عارف مين أنا، كنت أقول”

أو عن حقيقة أعماقه وما يختفى وراء ظاهره

“يا مرايتى ياللى بترسمى ضحكتى

ياهلترى دا وش ولا قناع”

ويلاحظ أنه زودها “حبتين”، ويحاول أن يقنع نفسه بأن يفوت .. وإلا فإن الحياة لا ينبغى أن تقاس بهذه المقاييس الحادة، وليس هناك حد فاصل بين الصواب والخطأ، وبين الصدق والكذب.

“وقفت بين شطين على قنطرة

الكذب فين والصدق فين يا ترى

محتار حاموت .. الحوت طالعلى وقال

هوه الكلام يتقاس بالمسطرة؟”

وبدفعه هذا الصراع أحياناً إلى شعور التحدى فهو يصارع الزمن، ويشق طريق بقائه يوما بيوم، فيستقبل نهاراً جديداً بهذا الموقف.

“نهار جديد أنا .. قوم تشوف تعمل إيه؟

أنا قلت يا حتقتلنى .. يا ح اقتلك”

وفى هذا التحدى يثور على رتابة الحياة وجمودها ولو بالتحطيم.

“أقلع غماك يا تور وارفض تلف

أكسر تروس الساقية وأشتم وتف”

ثم يصل الصراع إلى أوجه، ويواجع بهذا الموقف الملح: الاختيار، لابد من الاختيار إن كلن لابد من الوجود والاستمرار، وإلزام الاختيار يكون متعلقاً بالهدف.

“جالك أوان ووقفت موقف وجود

يا تجود بده يا قلبى، يا بده تجود”

فلابد من أن يتنازل الإنسان عن شئ ليصل إلى آخر، رغم رغبته فى أكثر من غاية فى نفس الوقت.

والاختيار لا يقتصر على الغايات، بل إنه لازم فى انتقاء الوسيلة التى توصل إلى الهدف .. وتزداد الحيرة حتى ولو وضحت المسالك:

“ولما ييجى النور .. واشوف الدروب

احتار زيادة .. أيهم أسلكه”

صراع وتحدى وثورة، حيرة وتساؤل ورغبة فى تحديد المصير.

هذا هو القلق العارم، وهو الثقل المتذبذب الذى يظل يحرك كفتى الميزان لتميل إحداهما بعد فترة تطول أو تقصر، تميل أما إلى الفرح وإما إلى الانقباض، وإما إلى الهوس وإما إلى الاكتئاب، وتتكرر هذه النوبات وتنتاوب، ومرة ترجح هذه الكفة ومرة ترحج تلك، والحزن ينتهى ويحل محله الفرح، والعكس صحيح.

وهو يعبر عن هذا بوضوح ودقة، فيظهر حدود طور الاكتئاب مثلا ويحذر من الاستغراق فيه.

“حاسب من الأحزان وحاسب لها

حاسب على رقابيك من حبلها

راح تنتهى، ولابد راح تنتهى

مش انتهت أحزان من قبلها؟”

وعلاقة هذا التناوب بفصول السنة علاقة وثيقة، ولكنها غير منتظمة وهذا هو شأن هذا املرض أو هذه الحالة، فليس هناك فصل بذاته عند صلاح جاهين يغلب فيه نوع على الآخر، ولكنا نلاحظ دائما أن ثمة تغييراً يحدث مع قدوم الربيع أو الشتاء، ولكنه لا يحدث فى اتجاه واحد، أى أنه ليس هناك تلازم واضح بين فصل بذاته ودور بذاته، فيدب النشاط –مثلا- فى  فصل الشتاء ويمتلئ بما هو أهل للامتلاء به، ويدور هذا الحوار.

” الدنيا من غير الربيع ميته

ورقة شجر ضعفانة ومفتفتة

لأ يا جدع غلطان تأمل وشوف

زهر الشتا طالع فى عز الشتا”

وهو يحس أن الشتاء فصل مفترى عليه رغم ما يتساقط فيه من مظاهر بهجة الطبيعة، إلا أن عواطفه ترفض الاستسلام.

” دا حاجات كتير بتموت فى ليل الشتا

لكن حاجات أكثر بترفض تموت”

أما الربيع فهو يتوقع فيه نوبة المرح والانطلاق، غير أنه أحياناً يعجز أن يحرك وجدانه حسب ما يرجوه أو يتوقع:

” دخل الربيع يضحك لقانى حزين

نده الربيع على اسمى لم قلت مين

حط الربيع أزهاره جنبى وراح

وأيش تعمل الأزهار للميتين”

وفى نفس المعنى يقول:

” وأنا يع بيمضى ربيع وييجى ربيع

ولسه برضه قبى حته خشب”

ويستقبل ربيعا آخر ببرود:

“نسمة ربيع لكن بتكوى الوشوش

هبه الحياة كده كلها فى الفاشوش”

لكنه يستقبل ربيعاً ثالثاً بالهتاف  والصياح والفرح والأمل، وتصيح كل قطعة فيه بالسعادة، ويحب كل شئ حتى دود الأرض والغربان.

“مرحب ربيع ربيع مرحباً

يا طفل ياللى فى قلبى ناغى وحبا

عشان عيونك يآصغنن خويت

حتى ديان الأرض والغربان”

ثم نتنقل من هذه الصفة، صفة التناوب والارتجاع، وارتباط الحالة الانفعالية بفصول السنة إلى صور الفرح والانقباض فى هذه الرباعيات، فنجد كل أعراض الاكتئاب من أول عدم الاكتراث والملل، إلى الشعور بالضياع وفقدان المعنى، إلى لاإحساس بتغير الكون وتغير الذات ثم الميل للانتحار أو العجز عن الانتحار، كل ذلك يتتابع فى صور رغم مرارتها جميلة، جميلة: عمق فى الأحساس ثم روعة فى الصياغة.

وهو يكاد يعرف أن الامتئاب مرض مثل سائر الأمراض، وهو يرفض هذا المنطق ويسخر منه  لما فيه من مساس بجلال الحزن، وهو – بينى وبينك – على حق إلى درجة ما:

“يا حزين ياقمقم تحت بحر الضياع

حزين أنا زيك وإيه مستطاع

الحزن مابقالهوش جلال يا جدع

الحزن زى البرد زى الصداع!”

ثم إلى أعراض الاكتئاب المتنوعة بكل أبعادها وتفاصيلها، فنرى السلبية والتسليم، وهو يعبر عنهما بأنه لم يكن له الاختيار فى أصل وجوده، وأنه مرغم على الحياة من حيث المبدأ، وبالتالى فلتفعهل به ما تشاء، وهو فى هذا يجارى أبا العلاء أو الخيام ولكنه لا يقلدهما، فلا يحتج على المسئولين عن وجوده أو يهرب من واقعه بالاغتراف من لذتها على زيفها ولكن اكتئابه يجعله يقرر هذه الحقيقة، ثم يعلن الاستسلام.

“مرغم عليك يا صبح معصوب ياليل

لا دخلتها برجليه، ولا كان لى ميل

شايلنى شيل دخلت أنا فى الحياة

وبكره حاخرج منها شايلنى شيل”

ثم تعالوا نرى تغير الكون والناس فى نظره حين يقول:

“والناس مهماش ناس بحق وحقيق”

وإذا ما اكتئب رأى كل شئ اسود، وأحس بالحزن فيما حوله بل أسقطه على الناس وكأن نظراتهم هى الحزينة مهما كان شكل العيون:

“أعرف عيون هى الجمال والحسن

وأعرف عيون تاخد القلوب بالحضن

وعيون مخية وقاسية وعيون كئيبة

وباحس فيهم كلهم بالحزن”

بل إنه قد يعزو ضيقه وضجره إلى نظرات الناس الحزينة.

“أيش تطلبى يا نفس فوق كل ده

حظك بيضحك وأنتى متنكده

ردت قالت لى النفس: قول للبشر

ما يبصوليش بعيون حزينة كده”

وهو يشرح فى هذه الرباعية كيف أن الاكتئاب حدث دون أى مبرر ظاهر فالحظ يضحك والأمانى محققه، ومع ذلك فالحزن هو الحزن رغم كل شئ.

ويزيد الاكتئاب وتصبح الحياة: بلا مبرر ولا معنى، ويرى أن الهم والملل مشترك بين الحيوان والإنسان، لأنها الحياة هكذا، ولا يجد مبرراً حتى للانتحار، وهذا من أعمق درجات الاكتئاب حيث يستلم الإنسان ولا يقدر على أى شئ حتى على إنهاء حياته .. ولا يجد معنى لأى شئ حتى للتخلص من اللامعنى.

“الدنيا أوضه كبيرة للانتظار

فيها ابن آدم زيه زى الحمار

الهم واحد والملل مشترك

ومفيش حمار بيحاول الانتحار”

وهو يسخر حتى من الطير فى السماء، ويذكره بالموت والعفن وكأنه يعز عليه وهو مكتئب أن يرى حياً مخدوعاً بالحياة.

” يا طير يا طاير فى السما طز فيك

ما تفتكرش ربنا مصطفيك

برضك بتأكل دود وللطين تعود

تمص فيه يا حلو، ويمص فيك”

وأين الخلاص؟

هل هو فى إحياء الأمل؟ قد ينفع هذا مرة إذا كانت الحالة هينة ولكن إذا تكرر الاكتئاب و احتد، فإن ضياع الأمل هو من أشد الأعراض ولا جدوى من وصف دواء ضياعه هو أصل البلاء.

“شاف الطبيب حرجى وصفلى الأمل

وعطانى منه مقام يا دوب ما اندمل

مجروح جديد يا طبيب وجرحى لهيب

ودواك فرغ منى وإيه العمل؟”

أم أن الدواء فى الحب والحنان، فهو إذا يسأل الطبيب عن حالة قلبه ودواؤه يرد:

“قاللى لقيته مختنق بالدموع

ومالوش دوا غير لمسة من إيد حبيب”

وفجأة وبدون مقدمات يصحو من النوم ذات يوم ليجد نفسه بلا هموم يعمره صفاء وراحة، وتمتلئ نفسه بالبهجة والرغبة فى الحياة والإقبال عليها.

“فى يوم صحيت شاعر براحة وصفا

الهم راح والحزن راح واختفى”

نعم إن الفرح يأتى فجائياً وغامراً دون مقدمات مثل لسعة كرباج

“كرباج سعادة وقلبى منه انجلد

رمح كأنه حصان ولف البلد”

ويرى الطبيعة مبتهجة مسرورة حتى يرى نفور صدور اصبايا نوع من دلعها الظريف.

“ياللى نهيت النبت عن فعلها

قول للطبيعة كمان تبطل دلع”

ويراقص الدنيا فى نشوة غريبةك

“غمض عنيك وارقص بخفة ودلع

الدنيا هى الشابة وأنت الجدع”

وتغمره السعادة وتصبح اصوات الطبيعة موسيقى رائعة، ويجتمع شمل الأحبة، ثم تفيض السعادة حتى يتسأءل هل كل الناس سعداء، وهكذا يرجو الفرح ليغمر به كل الناس:

“مزيكة هادية الكون فيها انغمر

وصيف وليل وعقد فل وسمر

يا هلترى الناس كلهم مبسوطين

ويا هلترى شايفين جمال القمر”

ثم يغنى للجمال، ويناشد قلبه أن يرفرف بين ضلوعه ويستعبد احتمالات الهم، بل يئدها قبل أن تولد:

“أنشد يا قلبى غنوتك للجمال

وأرقص فى صدرى من اليمين للشمال

ماهوش بعيد تفضل لبكرة سعيد

ده كل يوم فيه ألف ألف احتمال”

ثم يقول فى مكان آخر:

“والهم قبل ما يجىء يبقى مضى”

وبالتالى فإن قلمه لا يطاوعه فى كتابة الألم بل بالعكس يرسم الحب والسعادة فى فرح عشوائى.

“غسمت سنك فى السواد يا قلم

عشان ما تكتب  شعر يقطر ألم

مالك جرالك أيه  يا مجنون وليه

رسمت وردة وبيت وقلب وعلم”

وقلبه لا يطاوعه أن يشكو أو يتأوى:

“وفتحت قلبى عشان أبوح بالألك

ماخرجشى منه غير محبة وسماح”

وتستمر السعادة غامرة وهو بين الناس، ولكنها أيضا سعادة داخلية تنمو وتزدهر حتى فى وحدته وبدون سبب.

” أيديا فى جيويى وقلبى طرب

سارح فى غربة بس مش مغترب

وحدى ولكن ونسان وماشى كده

وبابتعد ما عرفش أو بأقترب”

ويدفعه الفرح إلى محاولة التصعيد فى سماوات الأمل، وليس المهم أن يكون تحقيق الأمل بعيد المنال، ولا أن يصل، ولكن غاية المراد أن يرتوى بنشوى المحاولة وكأن الأمل غاتية فى حد ذاته ومصدر للسعادة.

“أنا اللى بالأمر المحال اغتوى

شفت القمر نطيت لفوق فى الهوى

طلته ماطلتوش إيه أنا يهمنى

وليه .. مادام بالنشوة قلبى ارتوى”

وكما ينتهى الاكتئاب بالزهد فى الحياة والتفكير فى التخلص منها والانتحار، يتصف الهوس فى قمته بحب الحياة فى أى مكان وفى أى صورة لأنه حب غالب غامر فياض:

“أحب أعيش ولو أعيش فى الغابات

اصحى كما ولدتنى أمى و أبات

طائر، حيوان، حشرة، بشر، بس أعيش

ما أحلى الحياة .. حتى فى هيئة نبات”

ما أحلى الحياة فعلا

 وما أحلى الفن وهو يصف الحياة والنفس والحزن والفرح.

وما أحلى المرض إذا لم يكن مرضاً .. بل خلقاً وإبداعاً .. هذا هو الحزن الأصيل بكل جلاله.

ثم الفرح الطاغى بكل نشوته.

فى شخص واحد بكل حيرته وثورته وفنه وثورته، وما أبلغ كل هذا وأروعه، حتى يأسف الإنسان فعلا إذ يتصور وصف الحالات النفسية بما يوحى بأنه تجريد للمشاعر الإنسانية من روعتها وجلالها، وكأن اضطرابها مثل البرد أو الصداع.

ولكن الاضطراب الذى يخرج لنا هذا الإبداع فيصف المشاعر الإنسانية بأعمق أبعادها وأجمل مفاهيمها لهو الوجه المشرق للاضطراب وهو وجه رائع يفيض أصالة وإبداعا.

أما إذا كان الحزن مقيتاً، وكان الفرح مهووساً مشوشاً، وأعجز أحدهما أو كلاهما الإنسان عن الإنتاح، فذلك هو الوجه الآخر للمرض بكل بشاعته وإظلامه.

****

وهكذا نرى صلاح جاهين من الداخل فى أوج معاناته، أظهر علامات فنه هو الصدق يبدو فى دقة التعبير فى كل حال فهو يجعلك تحس بنبضات مشاعره وخلجات نفسه، وكأنه اقتطع جزءاً من نفسه ومنحك إياه، فلا تجد مناصاً من أن تتقمصه وتعيشه وتهتز معه نشوة أو ألماً.

(الغبى) لفتحى غانم

(الغبى) لفتحى غانم

الغـبـى

لفتحى غانم

“.. وعليه .. فيا حبذا لو راجعنا أنفسنا حتى لا نستسلم للذكاء الأمريكى الصنع ..

لعلنا نفيق قبل فوات الأوان”

تبدأ الدراسة أو القصة بأن يعثر الكاتب على أوراق أثارت فضوله مرتين:

مرة لأنها دراسة عن موضوع لا يخطر على باله .. وهو الغباء، وثانية لأنه لم يعرف كاتبها .. ولذلك فهو لا يدرى لمن ينسبها.

ثم يبدأ فى سرد ما جاء فى الأوراق:

فالعبى اسمه محمود بلغ من العمر أربعين سنة، ولد من أب متوسط الذكاء وأم أقرب إلى الغباء مصابة بنوع من الشذوذ، وقد ظهرت عليه علامات الفهم وتأخر النضج العقلى منذ لحظة ولادته، ثم تعلم ببطء شديد، ولكنه واصل حياته وتزوج وسافر و “بالغباء وحسن الهضم” كما يقول كارليل .. استطاع أن يستمر.

وقد أمضى الغبى معظم حياته فى القاهرة، وهو قد أتم تعليمه حول الثانية والعشرين من عمره، ووصل إلى منصب وكيل وزارة وهو حول الأربعين وسافر فى رحلات كثيرة إلى أوربا وأمريكا فى الفترة ما بين الثلاثين والأربعين من عمره.

أى والله .. وهكذا تقول الأحداث.

والقصة عموما تحاول أن تصور عالما خاصا من داخل رأس محمود … هو عالم الغباء.

***

فهى دراسة: على حد قول المؤلف.

أو قصة: كما تبدو للنقاد.

أو بحث علمى: كما يذكر كاتب الأوراق.

وهى دراسة تثير قضية قديمة ننساها فى أغلب الأحيان، إذا أننا لا نضطر إلى الخوض فيها فى زحمة ممارسة الحياة دون تأملها.

والقضية تدور حول ماهية الألفاظ ومضمونها، وحو المعايير التى نقيس بها الظواهر دون التعمق فى مكنونها وجوهرها.

ولكن هل لنا أن نتناول هذه الدراسة الساخرة ونحاسبها بالمنطق العلمى المحدد؟

لقد ألقى المؤلف القفاز حين قدم إعتذاره “للأذكياء الذين ضاقوا به، وأصبحوا يتربصون له، حتى وجدوا الآن فرصتهم للانقضاض على الكاتب واتهامه بالجهل والتخريف”.

وهو اعتذار فيه إثارة كافية لنا نحن “أدعياء” الذكاء والعلم، حتى نلتقط القفاز ونقبل التحدى لاسيما وقد اوضح أن هذه الدراسة وضعت أساساً للنيل من الأسلوب العلمى فى تقييم الغباء، يقول “إن الغبى ليس غبياً أو متأخراً عقلياً بسبب حكم هذا الممتحن ممن يدعون الذكاء، لأن أحكام هؤلاء تافهة وخاطئة وتعتمد على نظريات لا تقوى على البقاء .. وهى تتناول الغباء بسطحية مخجلة .. ولعل ذلك هو أحد الأسباب الرئيسية التى دفعت الكاتب إلى كتابة هذا البحث الطويل عن الغباء”.

إذا فهو يسميه بحثاً، فيفضح عن هجومه الصريح، وهو فى نظره بحث علمى، وكثيراً ما يشير إلى بعض الأمور على أنها ما “لا يليق ذكرها فى هذا البحث العلمى”.

والمؤلف يتصور أن الغباء هو حكم الأذكياء  من وجهة نظرهم الخاصة، وأنه لم يوضع فى الاعتبار فكر الغبى وتأملاته العاطفية واستبصاره لذاته، وهو لذلك حكم جائز، لأنه – فى تصوره – حكم القوى فى الضعيف، لذلك فهو يستنكر الحكم على الأشياء لمجرد مقارنة مشابهتها أو إختلافها عنا، فيرفض حكم الذكى على الغبى لمجرد أنه ذكى، بل ويشكك فى الحكم بالحياة دون العدم لمجرد صدور هذا الحكم من أحياء، فيشير إلى الغبى ساعة ولادته كقطعة من اللحم.

“… ما من شئ يقطع بأنها حية .. إلا يقين النسوة الأحياء الملتفات حولها بأنها الحياة”.

فالقضية هى: من يحكم على من؟ وبأى حق؟

“فالغباء ليس حقيقة موضوعية، وإنما هو حكم منا نحن الغرباء عنه، نحكم به عليه، وهذا يجعلنا فى موقف أخلاقى حرج، فلماذا نقول إن محموداً غبى؟ ولنتصور محموداً يعيش وحيداً لا يعرفه أحد، هل كان يصبح غبياً، أنا نحن الأذكياء نحمل الغباء ونلطخ به من يشاء”.

وهو بهذا يحاول تجريد الأحكام من صفات من أصدروها ومن نسبيتها، وكأن هذه هى الموضوعية، ولكنه أمر مستحيل على إطلاقه، وإنما كل الممكن هو تجنب الأحكام العاطفية والمتحيزة، ويتم ذلك باحترام القيمة الحقيقية للتقنين والمعايير الثابتة – إن كان هناك معايير ثابتة – نظرية وتحقيقاً – وهو يتصور على هذا الأساس أن تكون هذه الدراسة تفكيراً حراً أو لعله “.. يكتشف طريقا أو مسلكا للحرية”.

ولكن هذه الحرية لا تتحقق إلى فى عالم خاص يتهيأ بتصور محمود يعيش وحيداً لا يعرفه أحد، وفى هذه الحال لا يكون غبياً إذ أنه لا يوجد من يلطخه بالغباء، إذا فهى حرية لا تتم إلا بالعزلة، كتلك الحرية التى تتم بالجنون، فنيتشه لم يعرف الحرية الكاملة إلى حين فقد عقله.

وفى يقينى أن الحرية لفظه أشد غعموضاً وإلغازاً وأولى بالدراسة والتوضيح.

فها هو صاحبنا الغبى يحاول الوصول إلى الحرية بالتحرر من الألفاظ بقيودها والتزاماتها، إذا ما هى إلا رموز لأشياء تعارفنا عليها – ربما خطأ – ولذا فهو يستبدلها برموز جديدة أكثر تحرراً فى نظره – وانطلاقا ولتكن الحروف بديلا للكلمات، وهو ناس أنه بتقادم استعمال الحروف – فرضا – ستتداخل معانيها ويملؤها الغموض واللبس مثل الكلامات سواء بسواء، وينسى أن الكالمات كانت حروفاً .. وأن حرف “ع” مثلا ينطق كلمة هكذا “عين”!!.

لكن الكاتب يتردد فى أهمية دراسة الغباء، ويرجح تصورنا إياها عمل تافه وغبى، وكأنها لا تستأهل كل هذا الاهتمام، على أن هذا يخالف الواقع تماماً، فإن دراسة الغباء غلمياً فاقت وتقدمت دراسة الذكاء المتميز بكثير، إذا فالغباء فعلا “أمر جوهرى وخطير وجدير بالدراسة” وهذا ليس جديداً البتة.

ثم نعود إلى نسبة الأوراق وشكلها.

إن تعمية نسبتها إلى صاحبها أمر يدعو للتساؤل:

هل هو اعتذار عن ما بها من تناقض على أساس أن احتمال كونه كلام أغبياء يعفى من المؤاخذة؟ ثم هل كونها أوراقاً وليست كراسة يثير الظن فى فقد إحداها كلما تعرقلت سلسلة التفكير واضطرب الترابط والاتساق؟ ربما …

وقد خلط بعد ذلك بين الغباء الأصيل، وبين التبلد الذى يمكن أن يخفى تحته ملكات وقدرات غير محدودة، وهو الذى  يسمة أحيانا – أو على الأقل تاريخاً – “العته المبكر” ويسمى حديثاً “الفصام”، والنوع الأول يظهر فى أشد صوره بعد الولادة فى سن مبكرة وهذا الذى وصف بدقة فى حالة محمود حدث منذ ولادته “فأنه لا يبكى ولا يجوع ولا يرضع ولا يستجيب لأى مؤثر”.

وبعد شهر “هو لا يتعلم أى شئ، ولا يتعلم أنه فى حاجة إلى اللبن أو الدفء، وهو لا يعبر عن رغبته، فلا أمل فى أن ينمو نفسياً”.

وفى الشهر السادس “هو يتعلم ببطء شديد شأنه شأن الغبى الأصيل”.

كل هذا الوصف يدرجه تحت أشد أنواع نقص العقل التى تتصف بعدم القدرة على التمييز وتجنب الأخطار العادية، فنرى محموداً طفلا بلغ مبلغ من يلعب مع الأولاد فى الشارع، ومع ذلك فهو يسمك بالثعبان على أنه حبل ويقف فى وجه كلب مسعور، ولا يظهر عليه الانزعاج من فيل هائج.

 وإذا صدق هذا الكلام – وهو لابد صادق فهو مكتوب فى الأوراق – فنحمود يندرج على احسن الظروف تحت المجموعة التى يستحيل تعليمها فى المدارس العامة أو الخاصة أو حتى تعليمها حرفة فنية.

واستناداًَ إلى اختبار الذكاء جاء التقرير:

“الولد ليس معنوها، ولكنه متأخر الفهم ضعيف الملاحظة لا يستفيد من الخبرات السابقة، وهذا التأخر العقلى من الممكن علاجه بتحريك انتباه الطفل”

ولم يدرك الكاتب – لأسباب ما – إلى أى مدى يمكن علاجه، ولا ماذا يرجى من ترحيك انتباهه، وأن كلمة “ليس معتوهاً” لا معنى أنه “ليس غبياً”.

وينطلق بعد ذلك ساخراً من اختبارات الذكاء ومخترى الذكاء، وهى سخرية ليست جديدة، ولكن الكاتب يشير إلى النظريات التى تفنن بها درجاته يمكن أن يثبت خطؤها بعد عشر سنوات مثلا. وهذا أمر غير مستبعد ولا هو مستحيل، ولكنه زعم يدعو ضمنياً إلى رفض كل الحقائق الثابتة علمياً فى الوقت الحالى، والتى يستحيل الجزم ببقائها كما هى دون تغيير إلى ما لا نهاية، و كأن المؤلف يريد أن يرتد بالتطور العلمى والحضارى من التجربة العلمية الثابتة إلى الحدس والتفكير العفوى. ولعله محق بعض الشئ حين يزيد تقديسنا للتجريب مهما خالف الفطرة والبديهة.

على أن هذا الاحتمال قد جاء فى أوراق الغبى (أو أوراق صاحب الأوراق) ولكن القارئ لن يلبث أن ينسى أن هذه أوراق يمكن أن يكون الغبى هو كاتبها.

ومحمود فى المدرسة: لا يتعلم وإنما يلصق العلم بظاهر عقله، وبما أن الذكاء – حتى كما يقرر الكاتب نفسه – هو القدرة على التعلم، فالغبى لا يتعلم حتى لو لبس من المعلومات ما شاءت له حافظته أن يستوعب، فالتعلم هو تنمية القدرات وليس مجرد الحفظ.

ولا ينسى الكاتب أن يضفى على “محمود” مسحة من الصوفية والكشف حين نتبأ بموت أبيه، ولكنه مترددد فى تقييم هذا الكشف، وهو بذلك لم يقصد التقليد الشائع بأن ضعاف العقول والصرعيين يتخذون “بركة” ويطلق عليهم ألفاظ “الشيخ” و “بتاع ربنا” و” المبروك”، الأمر الذى يدعو إلى الإهمال والتواكل فى العناية بهذه الفئة وإن حمل فى طياته رحمة بهم وتجنباً لإيذائهم.

وفى الحياة الجنسية “هو لا يشتهى، ولا ينفر، وليست لديه أدنى فكرة عن كلمات مثل “الغريزة” أو ” الجنس” أو “الشهوة”، و”ولكنه يتورط فى تفاصيل”.

وهذا النوع من نقص العقل الذى تضطرب فيه الغرائز وتقل حدتها نوع شديد من البله حيث أن سائر درجات ضعف العقل تتميز بغريزة عادية أو مفرطة.

وبعد كل هذا .. ورغم كل هذا …

فمحمود يتقدم فى الدراسة حتى يتم تعليمه وهو حول الثانية والعشرين من عمره، وهذا مقياس للذكاء متعدد الدرجات، يدل على أنه بالغ الذكاء دون أى حاجة إلى مقاييس أخرى، وهو الأمر الذى يتنافى مع كل ما ورد سابقاً.

“وبعد ذلك يوصله المؤلف وهو فى الأربعين إلى درجة مدير عام. أو وكيل وزارة  أو ما شابه!!”.

إن الغباء الأصيل الذى شرحناه لا يمكن أن يوصل صاحبه حتى إلى مستوى العامل الماهر، فهل نتجاهل ببساطة كل الحقائق العلمية فى سبيل السخرية من غباء بعض القيادات، أو النظم التى توصل الأغبياء إلى قيادتها، أم للأمر تفسير على آخر؟ ولكن المؤلف محق فكم فى القيادات من غباء.

فى الحقيقة أننا لو تناسينا ذلك النوع من الغباء الذى أكده وألح فى إبراز معالمه كاتب الدراسة، وتذكرنا فى نفس الوقت البديل الذى أشرنا إليه، وهو ذلك النوع المتبلد من الناس الذى يخفى وراء تبلده من الملكات والقدرات ما لا يخطر على بال، لأمكن بذلك توضيح بعض الأمور:

فإن هناك من لأمراض ما يصيب العقل بعد اكتمال نضجه فيفقد المريض شعوره ويعزله فى عالم خاص، فيبدو غير مبال بأحد ولا شئ مطيعاً مردداً لما يدور،و لكن ذكاؤه الأصيل لا يتغير وإن اختفى تحت ستار كشثيف من مظاهر المرض.

وهذا المريض يمكن أن يبرز فى مجالات متعددة، ويأتى بأعمال لا نتوقعها من ظارهة أبداً .. ولكن إذا افترضنا هذا تفسيراً لنجاح محمود الدراسى والمهنى، فعلينا أن نلغى كل ما ذكر من مظاهر تأخره العقلى منذ الولادة فى فترة الطفولة الأولى.

وعلى الكاتب أن يختار أن ينسج خياله عن الغباء إما من النوع الأول الحقيقى أو النوع الثانى الظاهرى، أما أن يدمج هذا بذاك فلن يخرج إلا بأبله معتوه بلا زيادة.

إذا فاعتراضنا ليس على أن كل من يشغل منصباً قيادياً، ليس بغبى، ولكنه على اى حال غبينا هذا، والكاتب بم يدع فرصه ليكون وصوله إلى هذا المنصب – أو حتى ما دونه بردحات – بالأقدمية فقد أولاه إياه فى الأربعين، ولك أن تتصور أى منصب سيحال منه إلى المعاش؟!

إذاً .. فلنكمل الشوط، ونتناسى ما ذكر حول الجزء الأول من طفولته، ولنراجع تاريخه الأسرى لنجده جاء من أب طموح عادة الذكاء، وأم تبدو عليها علامات الشذوذ فى فترات الضغوط البيولوجية، فأثناء الحمل “… استسلمت للمعجزة ودفعت ثمناً لذلك عقلها، وهى لم تجن، ولكن تصرفاتها أصبحت شاذة فى نظر العقلاء”.

وقد أنجب محمود فيما بعد طفلين ذكيين.

هل يرجح كل هذا أن ما أصاب محموداً لم يكن غباء أصيلا، وإنما كان شذوذاً وتبلداً ظاهرياً، وقد هذا الشذوذ فى صورة محورة خفية اختلطت على كاتب الأوراق أو كاتب لدراسة؟ ويمكن المبالغة فى وصف غباء الطفل لا ترجح أن يوضح هذا اتلفسيبر كل الغموض، دون حذف كامل للمظاهر الأكيدة للتأخر العقلى الشديد منذ الولادة، ولم تم هذا الحذف، فإن المرض المعنى – وهو نوع من الفصام بطئ التطور سلبى المظاهر – قد يفسر تفكيرة وبعض أعراضه، ففيه يفقد المريض القدرة على التجريد واستنباط العلاقات ولكنه يحتفظ بالقدرة على الحفظ والتسميع، ومحمود ” يحفظ الجغرافيا على ظهر قلب” ولكنه لا يستطيع أن يفهم ما وراء كلمة ترحيب عادية “.. أنت فوق رءوسنا” فيتصور نفسه والحمار الذى يركبه فوق رأس قائلها فعلا، ثم هو يظهر من البلادة فى معاملة أقرانه وخادمته وآل بيته ما يعلن عن عرض اللامبالاة، الأمر الذى ظهر أكثر وضوحاً حين ثار جاره فى الطائرة لانعدام انفعالاته قائلا:

– ألا تغضب أبداً

– أنا لا أعرف هذه الكلمة

والغبى الأصيل سريع الغضب صعب المراس، ولا يتبلد إلا إن كان من الدرجات الدنيا جداً.

ثم هو يبدة فى اكثر من موقف مظاهر الطاعة الآلية، قالت له زوجه:

قالت: لا تذهب

قال: لا أذهب

قالت: وتذهب إلى المطار

***

قالت: تكلم

قال: سوف يأتون بالعربة وأذهب إلى المطار

وأحيانا أخرى يبدو حديثه مصاداة وأسلوبية يكرر ما يقال بلا إجابة.

قالت: ولكنهم سوف يأتون

قال: سوف يأتون

وفى المحادثة مع جليسه العجوز تصبح هذه الظاهرة معلنة طوال ثلاث صفحات.

– ما تقوله أنت أقوله أنا

– أى شئ                  – أى شئ

– سمك                    – سمك

– بصل                    – بصل

– نظام                    – نظام

حتى سكت العجوز     فسكت (غ)

أما موقف محمود فى بلاد الأمريكان فيبدو أن هذا هو الموقف الوحيد المعقول – مجازا – فى الدراسة كلها .. فلا شك أن الذكاء هناك يكاد  يصبح من صفات العقول الالكترونية فحسب، أما الإنسان فقد اختص بالغباء، وبالتالى كلما كان الإنسان أكثر غباء كلما كان أكثر إنسانية ..  وأقل مكينة؟!.

***

ولولا تعرض هذه الدراسة للمفاهيم العلمية تعرضاً صريحاً وجراحاً، ولولا التصريح بأنها وضعت أساساً للتهجم على أحكام العلم والعلماء ممن يتناولون الغباء بسطحية مخلجة.

ولولا المبالغة فى وصف التأخر العقلى الأولى ثم الانتقال إلى البمالغة وصف التبلد الشعورى المرضى.

لولا كل هذا لوجدنا لها مخرجاً رمزياً هادفاً، ولأمكن اعبتارها من نوع الدراسات التى تستنطق ما لا ينطق، وتناقش من لايفهم وأمثلة هذا كثيرة فى أعمال توفيق الحكيم مثلا: مع العصا والحمار والصرصار والتمثال .. إلى ىخر هذه الرموز التى ننفذ من خلالها إلى ما نريد، ونسخر بها مما نشاء.

ولنأخذها نحن نفهم رمزى بحت، ذلك الفهم الذى يتيح لنا التجاوز عن استعمال المقاييس العلمية والمنطقية، بهذا المأخذ فقط يمكن القول أن الكاتب قد نجح فى هذا السرد البديع، وهذا التحدى البالغ للتقاليد والأوضاع البالية المتوارثة، والتى ندمغ به الآخرين دون تردد أو مراجعة.

فقد سخر الكاتب من التواجد فى الحياة أصلا، فهو يقرر مثلا أن “أو عمل غبى هو الخروج إلى هذه الدنيا دون ضمانات كافية ودراسة واعية لاحتمالات العيش فيها، والتأكد من التأمنيات ضد التعاسة والقسوة”

وبهذا فهم يتهم أغلب الأحياء بالغباء، وهذا الاتهام متكرر فى أغلب المواقف، فقد عمم صفة الغباء على معظم الأشخاص بطريقة أو بأخرى، فالطبيب الذى رأى الطفل عقب ولادته “تبدو عليه مسحة من بلاهة”، “والنسوة حول الوليد أغبياء، والأب أحمق إذ يظن أن ابنه لن يموت”

 و “ومختبر الذكاء ذو تصرفات بلهاء شاذة”.

ويوضح الأمر أكثر حسين يسخر من التفكير الذكى الذى تعارف الناس عليه:

“… أنه يبدو من الغباء التفكير فى أصل الأشياء حيث أن الأذكياء هداهم ذكاؤهم إلى تجاهل التفكير فى مثل هذه الأمور وانصرقوا إلى ما هو أهم – فى نظرهم – كجمع المال والبحث عن المتعة واللذة وغير ذلك من المطالب المشهورة المعروفة”.

وهذا هو اللعنى الرمزى المقبول لهذه الدراسة.

وقد نجح فى الإشارة إلى أن هناك أغبياء – وبشدة – يشغلون بعض المراكز لمرموقة، سواء كان هذا نتيجة الإخلاص أو الوصول أو لأنهم “حمير شغل” والله أعلم.

****

وبالرغم من تشويش المعنى العلمى والتهجم عليه، فإن ذلك لم ينتقص من عمق الدراسة وطراقتها فى ذات الوقت، ولا من توفيقها فى نقد نظام حياتنا، و “المقلب” الذى يمكن أن نأخذه فى تقييم أنفسنا ومسخ الآخرين.

وعليه .. فيا حبذا لو راجعنا أنفسنا حتى لا نستسلم للذكاء الأمريكى الصنع .. لعلنا نفيق قبل فوات الأوان

الفصل الثانى

نظرات فى الطب

نظرات فى الطب

الفصل الثانى

نظـرات فى الطـب

“إذا أردت أن تشفى الجسم، فإنه ينبغى أن تعم معرفتك كل الأشياء”

هيبوقرات

“كما أنه لا يمكن محاولة شفاء العين دون الرأس، أو أن تشفى الرأس دون الجسم،

كذلك فإنه لا ينبغى أن تعالج الجسم دون الروح”

سقراط

إن نظرات الطبيب النفسى فى الحياة لابد أن تبدأ فى مجال الطب بصفة عامة، قال إن نظرات الطبيب النفسى فى الحياة لابد أن تبدأ فى مجال الطب بصفة عامة، فالطبيب النسى هو طبيب أولا وقبل كل شئ، ولعله من أكبر الأخطاء الشائعة أنه هو وحده الكفيل بأن يعالج المشاكل والأمراض الناشئة عن اضطرابات العاطفة، فإن الطبيب غير النفسى يجب أن يقوم بعبء أكبر فى هذا المجال، وهو لذلك محتاج إلى هذه الرؤية الإنسانية لمنته حتى يعلم مدى إمكانية ممارسة مهنة الطب بصورة أفضل مما هيأته له كليات الطب بوضعتها الحالى.

لذلك فقد حاولت أن أجعل هذا الفضل للطبيب العام، وأن أوضح للصديق القارئ كيف يكمن أن يرى الطبيب العادى – طبيب الأسرة وطبيب الحى – الإنسان الذى يقوم بعلاجه، وكيف يمكن أن يساعده فى كثير من مجالات حياته، وعرضت بصورة أقل لوضع الطب النفسى كفرع من فروع الطب لا أكثر ولا أقل.

وتبدو المشكلة فى صورتها المجسمة فى الإحصائيات التى أوردتها فى حديثى عن “الحبو الطب”، ثم إنى رأيت فى الأغنية الشعبية “إنت حكيم ولا تمرجى” عمقاً هائلا عن تقييم وظيفة الطبيب أمام مشكلة الحياة والموت .. بصفة عامة. وأخيراً فقد عرجت على مجال هام من مجالات ممارسة الطب وخاصة فى فترة الإنتقال الصناعى الذى يمر به مجتمعنا وهو مجال الرعاية الصحية للعاملين فى مجال الصناعة.

والحديث عن الطب ومستقبله وطريقة تدريسه حديث طويل .. لمسته فى هذا الفضل على قدر ما تسمح به فكرة هذا الكتاب فى حجمه هذا، وهدفه المحدد.

ولعل الطبيب يجد فى ذلك رؤية جديدة، ولعل القارئ يعلم منه فهما أعمق لهذه المهمة التى تمس صميم حياته، ثم هو يستطيع بهذا الفهم العميق – لأنه صاحب المصلحة – أن يطالب بحقه فى إعادة النظر فى طريقة تثقيف الطبيب..

ودعونا نأمل أن يحقق صاحب المصلحة ما عجزنا عن تحقيقه فى دهاليز الكليات وحول موائد اللجان.

ولكن التطور يفرض نفسه ..

لا محالة.

الحب والطب

الحب والطب

الحب والطب

الحب، ..؟ نعم هو الحب ولا شئ غيره، لا شئ يتم بدونه ولا شئ يصلح سواه. وهو ليس حب قيس لليلى، ولا حب روايات الجيب أو مسلسلات التليفزيون، ولكنه حب الإنسان للإنسانية، حب إنسان يعالج – إنساناً يعانى، وهو حجر الزاوية فى العلاقة بين الطبيب والمريض فعلا.. وهو أساسها ولبها وغابتها.. بل ووسيلتها كذلك. ولا أخص بهذا الحديث العلاقة الخاصة التى يتصف بها العلاج النفسى – مجال اختصاصى – وإنما أعنى أى علاقة بين أى طبيب وأى مريض.

ولعل الهدف من هذا المقال أساساً وقبل كل شئ هو تعريف الطبيب الممارس بوجه خاص كيف أنه يمكنه فعلا وبلا أدنى مبالغة أن يقوم إلى حد بعيد بذلك الدور الذى يقوم به الطبيب النفسى.. إذا علم أبعاد الموقف علماً يؤهله أن يرتقى بذاته ومهنته حتى يستطيع أن يمنح الحب الإنسانى الأصيل قبل أن يكتب العقار أو حتى يشخص الداء.

ولنقترب أكثر من المشكلة: فلنتساءل أولا عن ضرورة هذا التعميم ودواعيه ولتكن إجابات تساءلاتنا علمية على قدر ما تسمح به الاحصاءات. وعلى الرغم من كرهى للأرقام وأنا أتحدث عن “الحب” إلا أنها المدخل المغرى فى عصرنا الحاضر للحديث فى أى موضوع.. حتى عن الحب.

ونبدأ بالتساؤل الأول:

كم مريضاً يحتاج إلى نوع ما من الرعاية النفسية؟

أو كم من الناس عامة يحتاج إلى هذه الرعاية الخاصة؟

ودعونا نأخذ بعض الاحصاءات من بلاد الأرقام (الغنية أو الغبية أو الاثنين معاً) فقد وجد أنه فى الولايات المتحدة الأمريكية – مثلا – تختص الأمراض النفسية بأكثر من 50% من مجموع الأسرة فى كل المستشفيات ووجد فى إحصائية أخرى أن 50% إلى 70% من المترددين على الممارس العام لديهم مشاكل نفسية يمكن أن تؤدى بهم إن عاجلا أو آجلا إلى أن تشخص حالتهم “حالة نفسية”. فضلا عما تحدثه حالتهم الانفعالية فى مرضهم العادى مما يضيف إلى ما يعانون من الآلام أو العجز أكثر مما يفسره المرض العضوى وحده.

بل إنه قد أجريت إحصائية على عينة من عامة الناس فى المدينة والريف (فى بلاد الغنى والغباء أيضا) فوجدت أن ثلث مجموع هذه العينة تعانى من بعض الأعراض النفسية فعلا، وأن 20% هم الذين يمكن أن نصفهم أنهم لا يعانون من أى مظهر الاضطرابات النفسية.

وقد قمت شخصياً بالمشاركة فى بحث فى الصحة النفسية على عينة من عامة الناس من غير المترددين على العيادات النفسية أثناء مهمتى العلمية بفرنسا ووجدنا أن 40% من العينة قد عانت فى فترة ما من حياتها من العجز لأسباب نفسية، وأن أكثر من 75% كانت لديهم أعراضاً نفسية أو نفسية جسمية وقت الاستفتاء، وحتى يتم تطبيق هذه الدراسات محلياً دعونا نحترم هذه الأرقام مؤقتاً لأن نصفها أو ربعها يكفى لتبرير ما سنقوله فى هذا المقام..، بل إننا لو اكتفينا بالحسابات المعترف بها دولياً لحصلنا على صورة صارخة تكفى لإفاقتنا جميعاً. فمن المعروف أن نسبة المرضى اللازم حجزهم داخل مستشفيات الأمراض العقلية هى 0.3% من مجموع السكان وأنه يقابل كل مريض هناك خمسة عشر مواطنا فى حاجة إلى رعاية نفسية خارج الأسوار فى المجتمع الأوسع، ودعونا نحسبها ثانية فى مصر العزيزة، وعلى أساس أن تعدادنا هو ثلاثون مليوناً فقط لا غير… فماذا نجد؟

سوف نفاجأ أن من يلزمهم دخول هذه المستشفيات هو 33 ألفاً وأن من يحتاجون لرعاية نفسية يبلغون مليونا وثلاثمائة وخمسين ألفاً!! أى والله..

وبزيادة الثقافة والتوعية ومسلسلات التليفزيون والتلويح بحبوب السعادة على صفحات الجرائد سيزداد العدد أضعافاً مضاعفة..

فمن ذا الذى سيكون فى خدمة هؤلاء جميعاً؟

أهو الطبيب النفسى فحسب؟

كيف بالله؟

إذا فمن هو المعالج فعلا..؟

وقبل أن نستطرد تعالوا نرى كم طبيباً نفسياً فى مصر الآن وكم نحتاج؟

وهنا، وبغير دقة كافية (هو إهمال مقصود) نجد أن عدد الأطباء النفسيين يبلغ حوالى 300، نصفهم على الأقل يعملون فى مستشفيات الأمراض العقلية (آسف.. فى دور الاستشفاء للصحة العقلية) وأكثر من 90%ت من الجميع لم يلقوا أى تدريب منظم فى العلاج النفسى وهو أساس الطب النفسى بل وهو أساس الطب عامة.

فماذا يفعلون – مهما فعلوا – إزاء واجباتهم المتراكمة.

ثم تعالوا مرة ثانية – وأعاهدكم أن هذا آخر رقم أذكره – نرى كم طبيباً نفسياً تحتاجه مصر (وناهيك عن دولة العرب الكبرى وخدماتها الطبية مسئولية مصر فى المقام الأول). تقول الإحصاءات أنه يلزم فى أى بلد متحضر لكل ثمانية آلاف مواطن طبيب نفسى واحد، أى أن مصر فى حاجة إلى 3800 – ثلاثة آلاف وثمانمائة طبيب نفسى فقط لا غير – وحتى حينذاك سيكون اختصاصهم هو علاج الأمراض النفسية دون سائر المشاكل النفسية والعاطفية التى تصاحب سائر المشاكل.

وإلى هنا.. أظن أن حديث الأرقام قد زاد وفاض وآن لنا أن ننتقل إلى حديث “الحب”.

والحب الذى نعنيه هنا هو شئ ينبغى أن يدرس ويتعلم وتتقن فنونه فى كليات الطب تماماً مثلما ندرس مظاهر الأنفلونزا؟ وكيفية وضع “السماعة” على صدر المريض، لأن الطبيب – دون أى تخصص وفى أى تخصص – هو الشخص الذى سيقوم بمهمة فهم المريض ثم يمارس الحب الذى تعلمه – إن كان قد تعلمه – ثم يمد يده من خلاله ليكتب دواء أو يضمد جرحاً.

إن الطبيب قد ورث دوره فى المجتمع من مهن متعددة كان يقوم بها شيخ القبيلة وإمام المسجد والقسيس والحلاق وغيرهم. ولست أدرى لماذا ارتضى على نفسه – تحت وهم العلمانية والتكنولوجيا أن يحتفظ بدور الحلاق دون سائر المهن التى ورثها (مع اعتذارى لزملاء المهنة وخاصة حلاقى الصحة.. واحترامى لدورهم العظيم)، لماذا اقتصر الطبيب على أن يكتب شيئاُ ما على ورقة ما، أو أن يشق بمشرطه جرحاً دون أن يحسن الاستماع لحديث إنسان فى موقف معاناة، أليس ذلك تنازلا عن أهم أدواره، دون مبرر ظاهر؟ ولكن الذنب ليس اساساً ذنبه بقدر ما هو خطأ طرق تعليمه لقد أصبح من البديهى أن معرفة شخصية المريض ودوافعه كائناً ما كان نوع مرضه نفسياً أو جسمياً – هو أهم وأصعب من معرفة نوع مرضه، تلك المعرفة التى كادت تصبح من اختصاص الأجهزة الطبية الحديثة أكثر فأكثر. وكلنا يذكر ما نشر مؤخراً من أنه بتقدم العلم سوف تتم صناعة الطبيب الالكترونى الذى سيقوم بالكشف والحساب والتشخيص ووصف الدواء.. أليست هذه حقيقة تنذر بها أجهزة الأشعة ورسام القلب مثلا، ألا تنحنى الآن سماعة الطبيب خجلا أمام صورة أشعة الصدر أو رسام مسماع القلب؟ ماذا ينتظر الطبيب بعد كل ذلك؟ ألا يمكنه بقليل من التخيل أن يتصور اليوم الذى ستقتنى فيه كل أسرة طبيباً الكترونيا تضعه فى “الحمام” مثل ما تضع الميزان الآن؟

إلا أن شيئاً واحداً لن يستطيع أن يقوم به هذا الطبيب الآلى منافس المستقبل ألا وهو “الحب”، لن يستطيع هذا الحديد البارد أن يحب أبداً، ولن يصنع الحب إلا فى كيان إنسان ينبض بالإنسانية.

والمريض لا يذهب إلى الطبيب لمجرد أن يضع السماعة على صدره وينقر على بطنه ويدغدغ قدميه ثم يكتب له الأسبرين أو البنسلين أو الكورتيزون ولكنه يذهب ليبحث عن قلب يسمع، ولا أقول أذن ولا عقل، لأن الذى يسمع بقلبه هو الذى سيحب بإنسانيته، وإذا كنا زرعنا القلب (المضخة) وتفاخر الطب بهذا الفتح العظيم فإننا لم نزرع ولن نزرع القلب القابع فى وجدان الإنسان – صحيح بين خلايا مخه – ولكنه هو القلب الحقيقى الذى أعنيه فى هذا المجال…

إن الذى يحدث فى ظاهرة المرض ليس مجرد دخول الميكروب فى الجسم – مثلا – ولكن المرض ما هو إلا تفاعل إنسان ما – له صفاته ونزعاته وميوله وعواطفه لهذا الميكروب الذى دخل جسمه.

من هنا نقول: إذا كان الطبيب – دون أى تخصص وفى أى تخصص – سوف يقوم بدور هذا الخبير الذى سيسمع منهم فماذا  عليه فعلا أن يفعل ويعرف فى هذا الصدد؟ ولكن طبيب اليوم لم يتعلم فن الحب  المهنى الناضج فى دراسته للطب فلا أقل من أن يحيط ولو بطريقة شاملة ببعض أبعاد الموقف.

دور الطبيب أمام المريض:

لابد أن يكون تصور الطبيب للموقف غير مقتصر على معرفة نفسه ونفس مريضه بل عليه أن يتخيل فكرة المريض عنه، تلك الفكرة التى يكونها المريض حتى قبل المثول بين يديهن وعليه أن يحترم هذه الفكرة وأن يقوم بدوره كاملا، وكما ينبغى، ليس فقط كما يتوقع المريض ولكنه يتعدى هذا المطلب إلى ما يحتاجه المريض من إزالة العوارض الطارئة واستعادة الطمأنينة ثم الانطلاق المثمر فى مجالات الحياة.

وعلى الطبيب (ومن أول مرة) أن يتساءل عن الذى دعا هذا المريض دون غيره ممن هم فى مثل حالته أن يحضر ليسأل النصح، أهو مجرد الارتفاع هذه “درجة الحرارة” مثلا أم هو نقص طارئ فى “درجة الاهتمام”؟ أم هو ميل لزيادة “درجة العطف”؟ وبهذا الفهم ومهما كانت الإجابة يستطيع الطبيب أن يفهم دون كلام وأن يعطى دون من أو تعال، وأن يكون عند حسن ظن مريضه… وأكثر.

على أن هذه العواطف التى سيعطيها ذلك الحب الذى نتحدث عنه ليست شيئاً خيالياً مثل قصص الروايات أو مسلسلات الإعلام، ولكنه خبرة مدروسة موضوعية تعطى بحساب دقيق ولكن بصدق حقيقى.. فلا يترك الأمر لمجرد التهليل فى الاستقبال، “والفهلوة” فى الاحترامات الزائفة وإنما هو الصدق الأصيل النابع من الاحترام الحقيقى للإنسان، لمجرد أنه إنسان.

ولكى يصل الطبيب إلى ممارسة هذا الحب الموضوعى عليه أن ينحى جانباً معتقداته الخاصة وآرائه. ولا يعتبرها أساس الحياة وخاتم ما قيل فيها، ولا يقيس على أساسها مرضاه وإنما هو يقبلهم كما هم متبينا فى كل آن أن وظيفته هى إسعاد هؤلاء الناس وتخفيف آلامهم قبل تأكيد ذاته وقدراته الخارقة التى ليس كمثلها شئ!

معنى المرض وفائدته للمريض:

ولا تنسى أن حالة المرض رغم كل ما يصاحبها من آلام وأوجاع وعجز. إنما تثير بعض النزعات الكامنة عند كل إنسان بما يصاحبها من اهتمام زائد ورعاية خاصة ومن هنا ينبغى أن نأخذ كل الحذر ونحن نفهم الموقف ثم نمنح الحب، نمنحه بقدر، وللمريض وليس للمرض، وأن نفرق بين المريض والمرض لهو أمر صعب عند الممارسة. ولكنا سنجده ليس ضرباً من السفسطة والتلاعب بالألفاظ، وليكن السؤال عن المرض نصف الوقت والسؤال عن المريض النصف الآخر حتى ولو لم يكن الوقت إلا دقائق معدودة، فإن لحظة صدق إنسانى، سرعان ما يلتقطها قلب إنسان متعطش قد تكفى أكثر مما تتصور بكثير، ولتكن المعونة العاطفية بقدر الحاجة تماماً فلا تنقص حتى يبطل مفعولها ولا تزيد حتى يصبح الاعتماد عليها عرضة لإطالة مدة المرض، أو اكتساب عادة المرض.

التفاعل بين الطبيب والمريض:

تعتبر هذه العلاقة المتبادلة بين إنسانيين مثل كافة العلاقات الإنسانية يحدث فيها من التقارب والتباعد والصراع مثل ما يحدث فى أى علاقة بين اثنين، فكل منهما عنده تصور سابق عن صاحبه، وهذا التصور ناشئ من الخبرة السابقة أو من الحالة النفسية الخاصة لكل منهما، وعند المقابلة قد يتفق الواقع مع الصورة المسبقة وقد يتنافر، فهناك من المرض من يتصور أن الطبيب تاجر سوقى لا أكثر ولا أقل، فهو يذهب إليه بكل حذر وشك، وكل همه أن يأخذ منه أكثر ما يستطيع بأقل ما يمكن، ولا مانع مثلا أن يخدعه ويكشف على ابنه “بالمرة”، فإذا أحس الطبيب هذا الإحساس فهو إما أن يستجيب له تماماً وبذا يصبح أداة سلبية تسيرها نوايا المريض الحذرة، فلا يستفيد من إنماء علاقة إنسانية حقيقية وإيجابية، أو هو يثار من هذا الأسلوب وينفعل ويتصرف بحذر هو أيضاً بل وبعدوانية أحيانا سواء بعلمه ودرايته، أو بالرغم منه – أى بدوافعه اللاشعورية – وهنا لا يستطيع أن يحب وبالتالى لا يستطيع أن يمنح. ولأضرب مثالا آخر عن المريض الذى يذهب للطبيب شاكا فى قدراته فهو يخفى عنه أعراضه ليمتحنه، ويكون كل همه أن يكتشف هل هذا الطبيب “ناصح” أم “خائب”، وتجاه هذا الموقف يختلف تفاعل الطبيب، فهناك من يدخل اللعبة حتى يكسب التحدى وبهذا ينسى دوره الأساسى ويصبح أمام غريم يتحداه وليس مريضاص يحتاج لمساعدته، وهناك من يثيره هذا التصور، مما يجعله لا يستطيع أن يفهم الدافع إلى هذا التصرف وبالتالى لا يستطيع أن يساعد عن طيب خاطر وهو يمنح الحب والفهم والدواء.

وغير ذلك كثير من الأمثلة التى توضح كيف يؤثر موقف المريض السابق وتفاعل الطبيب اللاحق على العلاقة بينهما من أول وهلة..

وعلى قدر نجاح الطبيب فى فهم كل هذا وغيره، وعلى قدر إيمانه بطبيعة عمله، على قدر نجاحه فى أداء مهمته فى مساعدة مريضه ما ينبغى، فليس مهما كمية المعلومات التى يملأ بها الطبيب رأسه، بقدر ما هو مهم طريقة فهمه لمريضه ولنفسه، فكم سمعنا عن أطباء يفوق علمهم كل الحدود، ولكنهم لم ينجحوا أبداً فى فهم مرضاهم الفهم الكافى بما يحقق صلب وظيفتهم وجوهرها، وهم فى رأيى يستأهلون اسم “عالم الطب” اكثر من اسم الطبيب حيث الطب مهنة مثل سائر المهن قبل أن يكون علماً أكاديمياً بحتاً.

وقد يمثل الطبيب للمريض سلطة والديه ويتوقف موقفه تجاهه حسب خبراته السابقة مع والديه حبا أو رفضاً أو كرها، وعلى الطبيب أن يدرك ذلك ويحسه ويتصرف بأناة تجاهه، وإذا كان للطبيب أن ينجح فى هذه المهمة العسرة فإنه ينبغى أن يفهم نفسه تجاه المريض بقدر ما يفهم موقف المريض منه، وأن يحمل القدرة على ضبط ومراجعة دوافعه حتى لا يكون كل همه التصرف من على منصة سلطة الطب بخيلاء كاذبة، ولا تكون نهاية واجبه هو توصيل المريض إلى خارج حجرته.

دور الطبيب فى فاعلية الدواء:

وهنا أحب أن أشير إلى دراسة بسيطة ٍأجريت على دواء مهدئ قام بغعطائه طبيبان لمجموعتين متشابهتين من المرضى اختيرت بدقة وضبط شديدين وكان أحد هذين الطبيبين مؤمن بجدوى وفاعليه هذا العقار. والآخر لا يعتقد فى ذلك، وقد قام الطبيبان بوصف الدواء بنفس الجرعات وبطريقة محدة للإثنين وكانت النتائج هو تحسن واستجابة المجموعة الخاصة بالطبيب المؤمن بفاعليه الدواء بنسبة أكبر بكثير من المجموعة الأخرى.

وهذه التجربة يعرفها كل الأطباء حين يتبادلون الحديث عن الأدوية الحديثة فيقول أحدهم أن هذا الدواء قد كان له فعل السحر معى ويقول زميل فى نفس الإختصاص، ولكنى أعتقد أنه أقراص من الدقيق الفاخر.. لهذه الدرجة يبلغ الإختلاف، والإثنان قد يكونان على حق، ورما نشأ هذا الاعتقاد من تجربة أولى نجحت وأكدت فاعلية الدواء لدى الأول فى حين فشلت عند الثانى واستمرت عقيدة الفشل معه فى كل مرة يصف فيها الدواء ذاته والمريض يشعر فى كل حال بما يدور فى داخل الطبيب من مشاعر حتى ولو حاول أن يخفيها، بل إن مريضة قالت لى أنها تستطيع أن تعرف مقدار ضغطها بالضبط بمجرد ملاحظة الطبيب وهو يقرأ الترقيم ثم تفاعله وهو يفك الرباط الضاغط.

لهذه الدرجة ينبغىأن نقدر المريض وأن نعرف أنه يكشف علينا ونحن نقوم بالكشف عليه.

كل هذا الذى ذكرته ليس سوى إشارة لحقائق نعرفها جميعاً، وإن كانت ستفيد، فهى ستفيد من عنده استعداد طبيعى لإدراكها أما الآخرين فلا سبيل أمامهم إلا أن يتعلموها مع ما يتعلمون من أشياء لازمة وغير لازمة.

ولنطرح سؤالا أخيراً للمناقشة.

إذا كان الطبيب – دون أى تخصص وفى أى تخصص – هو الذى سيقوم بهذا الدور، ويفهم هذا الفهم ومن خلال ممارسته لمهنته سيعالج أغلب المشكلات النفسية والجسمية على حد سواء فماذا بقى للطبيب النفسى وما هى وظيفته؟

وبأسلوب آخر: إذاً متى يحول المريض إلى الطبيب النفسى، وكيف؟ ولماذا؟

وللإجابة على هذا السؤال ينبغى أن نستعين ببعض الحقائق التى ذكرتها فى مستهل المقال وهى أنه – حتى من باب الواقع العملى لا يمكن تحويل الجميع، ولا ينبغى. ولعل كل الممارسين قد ترددوا مرات كثيرة قبل أن يقدموا على هذه الخطوة: مرة لعدم اقتناعهم بجدواها وأخرى لخوفهم من تفاعل المريض ونفوره. وعندى أنه لو تعلم الأطباء عامة دورهم الإنسانى الأساسى لا ستغنوا فعلا وفى أغلب الحالات عن هذه الخطوة الصعبة، وحتى يكون هذا التحويل ذا معنى، فإنه ينبغى أن يكون ذا هدف محدد عند الطبيب قبل المريض وأن يكون ثابتاً عن اعتقاد حقيقى بجدوى هذه الخطوة وليس لمدرد التخلص من مريض مزعج أو ثقيل الظل. وعلى الطبيب أن يتخذ قراره منذ البداية وقبل أن يتولاه المريض فى بحر المحاولات والأبحاث التى لا يؤمن الطبيب ذاته بجدواها، ولكن عملا بالمثل القائل “إن ماكانش ينفع ما يضرش” فى حين أن كثيراً ما يكون عدم النفع هو الضرر عينه، حين تثبت الأعراض دون جدوى.

وعلى الطبيب أن يكون واضحاً مع مريضه تماماً فكثيراً ما يلجأ الأطباء إلى أخفاء الأمر ظانين أنهم بهذا يخففون من مقاومة المريض. ولكن هذا الخداع يزعزع الثقة فى الطبيب وفى الأخصائى على حد سواء ولعلى أشعر أى أطلت وأن هذه المرحلة بالذات تحتاج إلى شئ من التفصيل لأهبط فى نهاية المقال إلى دنيا الواقع.. لحظات.

فإنى وأنا أكتب هذا المقال لم أنس صفوف المرضى فى عيادات القصر العينى، ولم أنس السوق فى أى مستوصف شعبى، ولا الأعداد الهائلة من العاملين طالبى الأجازات فى خدمات التأمين الصحى، ولم يغب عن عينى زحمة الوحدات الريفية كل ذلك كان ماثلا أمامى ولكن هذا لا يمنع أبداً. ولن يمنع أبداً من أن ما ذكر هو وظيفة الطبيب الأساسية من الآن وبدون انتظار. وبأن هذا الفهم الإنسانى يشع على مجاميع المرضى ولو خلال دقيقة من زمان، بقدر ما يؤثر النفور والموقف العدائى منهم فى نفس الدقيقة من الزمان. وإن كان ملالا يدرك كله لا يترك كله.. فلا بد من بداية، فإن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة.

وحين تزداد الأعداد والخدمات ينبغى أن تكون مضاعفة للصواب وليست تكراراً للخطأ… فلنعمل الصواب مهما كان ضئيلا ولنتجنب الخطأ مهما كان تافهاً.

لأن المشكلة فى أساسها تتركز فى تكوين الطبيب قبل ان تتعلق بالإمكانيات.

دعونا نأمل فليس هناك بديل….

لعل..!

أنت حكيم .. ولاّ تمرجى

أنت حكيم .. ولاّ تمرجى

أنت حكيم .. ولاّ تمرجى؟

 “.. وبهذا فقط يصبح  الطب حكمة، ويصبح الحكيم:

لقمانا ويصبح المريض: إنسانا.”

 ” واحد إتنين سرجى مرجى

إنت حكيم.. ولا تمرجى

أنا حكيم بتاع الصحة

العيان أديله حقنه

والمسكين إديله حقنه

والمسكين أديله لقمة

نفسى أزورك يا بنى

ياللى بلادك بعيدة

فيها أحمد وحميدة

حميد ولدت ولد

سمته عبد الصمد

مشته عالمشاية

خطفت راسه الحداية

حد يابد يا بوز القرد”

سمعت إبنى يغنى هذه الأغنية مرة ومرات، وبدون مناسبة – كالعادة – سألنى: يعنى إيه؟ – وصهينت، وألح، وقلت له ممن تعلمت هذه الأغنية؟” قال “من جدتى” قلت “أسألها يا أخى”. وذهب يسألها فلم تتهرب مثلى، فهى دائماً أكثر شجاعة، وفطرتها أصدق من علمى، لذلك فإجاباتها على الأطفال حاضرة دائماً، وأخذت تحكى له “حدوته”.. ووجدتنى أسمع بنصف أذن ثم بكل حواسى لأكتشف أن فى هذه الأغنية البسيطة قصة الإنسان والحكمة والطب والمرض والموت.

فقد وجدتها تحكى أن أصل الإنسان هو أحمد وحميدة، وأن الإنسان نشأ فى بلاد بعيدة، ومازال تواقا إلى زيارتها لمعرفة أصله.. وأصل الحكاية نبى، والنبى هو الإنسان المتصل بأصل الخليفة، وتريد الأغنية أن تصل الإنسان بأصل الوجود.

وما دام هناك أحمد وحميدة، فالنتيجة الطبيعية أن حميدة تلد إنساناً جديداً، وأن تأخذ بيده فى دروب الحياة، وما يكاد يمشى حتى يخطفه الموت فجأة وبدون مبررات كافية، وكل ما نملك أن نقوله للموت هو “حد يا بد يا بوز  القرد”.

وأثناء هذه الرحلة الغريبة التى بدأت فى بلاد بعيدة، وانتهت بغير تفسير، يقابل الإنسان صعوبات وآلام لا مبرر لها أيضا.

ويحاول بكل ما أوتى من قدرات وتحد وإصرار أن يجعل هذه الرحلة أروع ما تكون.. رغم أنها رحلة لها نهاية محتومة.

ويحاول الإنسان أن يرفض تلك النهاية… ويبدأ السعى نحو الخلود. ويحاول أن يجده لنفسه… أو حتى فى ولده.. ولكن الحداية تخطف رأسه. لا محالة..

وما دام الخلود مستحيلا – جسداً، فليكن خلوداًَ بالعمل والكلمة والفن والحكمة… من أجل حياة فاضلة وسعيدة. مليئة بالأمل والصحة. فماذا تقول الأغنية عن الحكمة.. وعن الصحة.

نقول إن الفرق بين الحكيم والتمرجى، (لا بتجرح للتمرجى ما دام لم يدع الحكمة أو الطب) إن الحكيم هدفه الإنسان والمريض والإنسان المسكين على السواء، وأن هذين أمران لا ينفصلان، وأن المريض مسكين والمسكين مريض، وبهذا فقط يكون الحكيم حكيما.

والحكمة – لغة – هى معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم.

وما أروع هذا التعريف وأصدقه..

والطب من علوم الحكمة..

وطب الشئ أصلحة وأحكمه، والأجمل من ذلك أن: “طب به” تعنى: ترفق وتلطف.

وحتى الكلمة الدارجة طبطب… تعنى ربت عليه.

كل هذا قديم قديم قديم.

وكل هذا أصيل عريق.

ورغم كل هذا.. فإن الطب الآن – عندنا على الأقل – يعانى من البعد عن أصل تعريفه. يبتعد عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويكتفى بمعرفة ظاهر الأشياء ببعض العلوم.

الطب, بهذه الصورة، ليس له علاقة بالمسكين ولقمته، ولا بالإنسان ونفسيته، ولكن فقط: بالأعضاء وتركيبها.

وليس هذا طب أبداً، ولا حكمة، ولا صحة.

وممارسة ليس طبيباً، ولا حكيما وإنما هو ما توضحه الأغنية فى جلاء لأنه لكى يكون الحكيم “بتاع صحة” فلابد أن يهتم بصحة الإنسان ككل: نفس وجسم فى بيئة إجتماعية.

فالإنسان وحدة وأجزاؤه مترابطة أشد الترابط، وتؤثر فى بعضها أبلغ التأثير وأدقه.

ومما لا شك فيه أن الحالة النفسية تؤثر على الحالة البدنية تأثيراً حقيقياً وظاهراً، ومن أبسط الأمثلة على ذلك سرعة ضربات القلب نتيجة للخوف، واحمرار الوجه نتيجة للخجل. وغير ذلك مما لا حصر له.

وبالمثل نجد أن الحالة العضوية تؤثر على الحالة النفسية تأثيراً مباشراً وشديداً ومن أبسط الأمثلة أن إرتفاع رجدة الحرارة قد يصحبه أعراض عقلية شديدة مثل الهذيان والخداع والهلوسة.

ونستطيع القول دون تردد أنه لا يوجد مرض جسمى بحث يؤثر فى الجسم دون النفس، كما أنه لا يوجد مرض نفسى بحث يؤثر فى النفس دون الجسم، وذلك لأنه لا يوجد جسم بدون نفس إلا الجماد والجثث، ولا توجد نفس بدون جسم إلا الأرواح والأشباح.

والطبيب الذى لا يدرك ذلك – سواء كان طبيب جسم أم طبيب نفس – ليس حكيماً، فالمرض ليس إلا تفاعل الجسم والنفس معاً لصعوبات الحياة وأخطارها: سواء كانت هذه الصعوبة جرثومة تغزو جسم الإنسان أو خيبه تصيب آماله.

-1-

والحقيقة أنه لو عرف الطبيب الجسمى معنى الحكمة والطب، ولو طب المريض وطب به، أى لة أصلحه وأحكمه، وترفق به وتلطف فى نفس الوقت، لأدى أعظم خدمة للمريض الإنسان. أو الإنسان المريض. فالإنسان لابد أن يعبر عن ذاته.

وهو لا يذهب إلى الطبيب لمجرد أن يضع السماعة على صدره، وينقر على بطنه، ويدغدغ قدميه، ولكنه يذهب يعبر عن حاله ويشكو، والعرب والغرب من قديم يقولون:

ولابد من شكوى لذى مروءة.

ويواسيك أو يأسوك أو يتوجع.

هذه هى وظيفة الطبيب فعلا.

وكم يكون المرض الجسمى لغة.. مجرد لغة..

واللغة هى وسيلة الإتصال بين الناس، ووسيلة التعبير عن الذات ووسيلة التكيف ووسيلة الحضارة.

والطفل يتكلم منذ ولادته، ولكن طريقة الكلام تختلف وتتطور، فهو أولا يتكلم باحشائه بمعنى أنه يعبر عن نفسه بالتبول والتبرز والدموع، ولا يسمع إلا جوعه بطنه ولا يحس إلا بعملية إخراجه.

ثم ينتقل إلى الحديث بلغة الحركة والإشارة والإيماءات وغيرها.

وأخيراً يصل إلى مرحلة الكلام اللفظى، وفيها يعبر الطفل عن نفسه بالألفاظ التى يستطيع بها أن يترجم مشاعره وأن يجرد المعانى والمفاهيم.

إذاًَ.. فالإنسان محتاج إلى التعبير عن ذاته منذ لحظة الولادة، وبأى وسيلة فإذا حرم الإنسان الناضج فرصة التعبير الكلامى بحنجرته، فإنه قد يعبر عن نفسه بجسمه وأحشائه.

فالفتاة التى لا تستطيع أن تقنع الآخرين بما فى نفسها، أو التى لا تجد فرصة لذلك، فإنها قد تقنعهم بالإغماء، فالاغماء هنا “لغة”.

والرجل الذى لا يستطيع أن يعبر عن صراع قائم داخل نفسه بين الاستقلال والاعتماد على والديه، قد يصاب بقرحة المعدة التى تعلن الاحتجاح على هذا الموقف غير المستقر.

والموظف الذى لا يستطيع أن “يبلع” رئيسه، يتقيأ.

والوجة التى لا تستطيع أن تشتم زوجها قد تسعل.. وهكذا، وقديماً كنا نتحدث عن “الأراجوز” الذى يتكلم من بطنه.

وقد ثبت أن الإنسان فعلا يمكن أن يتكلم من بطنه.. بالمرض.

وعلى الطبيب الجسمى أن يعلم ذلك تماماً.

وأن يعلم أيضا أنه هو –وليس الطبيب النفسى دائماً – الذى ينبغى أن يستمع وأن يفسح صدره لمرضاه، ولا يتصور أنه لا علاقة بين زيارة حماة المريض له وبين اضطراب هضمه.

فإذا وجد المريض أن الطبيب يقوم بعمله كإنسان حكيم.

وإذا وسع الطبيب دائرة اهتمامه حتى يشمل الأحوال الاجتماعية، وحتى يعلم – كما تقول الأغنية الشعبية أن من وظيفته أن يعطى للمسكين لقمة وأن هذه العملية من صميم الصحة، وأنها فى الطب الحديث تتم بالدراسة الاجتماعية بواسطة المختصين الذى يهيئون المساعدة اللازمة، بل وتتم بصورة وقائية بإصلاح المجمتمع ككل.. (وهذا موضوع آخر) إذا فعل ذلك كان حكيماً فعلا.

ولنذكر فى هذا الصدد إحصائية تقول إن نسبة الأمراض التى يسببها الانفعال هى 50% من سائر الأمراض.

وبأسلوب آخر إن احتمال إصابة أى فرد بأمراض الانفعال تعادل احتمال إصابته بكل الأمراض الأخرى مجتمعة.

والحقيقة الأساسية هى أن الطبيب الجسمى إن كان حكيما فهو يستطيع أن يساعد مرضاه دون تحويلهم إلى الطبيب النفسى لو أنه:

سمع…

وفهم..

وأحس…

مجرد أن يشعر المريض أن إنساناً يهتم به، لا بأعضائه فحسب مجرد أن يجد المريض مكاناًَ يتحدث فيه وإنسانا يسمع له ويفهمه قد يكفيه مؤونة التحول إلى أخصائى، له مع السمعة والرهبة ما ينفر منه الشخص العادى، فلا يخفى ما يحمله اقتراح تحويل المريض إلى الطبيب النفسى من خوف وتردد وخجل، بل من اعتراض واحتجاج، الأمر الذى ينبغى تجنبه ما دامت الحالة فى متناول طبيب إنسان يجيد الاستماع ويحسن الفهم.

وبهذا المعنى فقط يصبح الطب حكمة.

ويصبح الحكيم: لقمانا

ويصبح المريض: إنساناً.

وليس المرض النفسى بدعاً من الأمراض.

ويذكر لنا التاريخ أنه لا يوجد مرض طبى أو جراحى لم يمر بامتحان الشعوذة والدجل، ولم يعالج بالتمائم والرقى، حتى انتهت البشرية – بعد خسائر ليست يسيرة – إلى أن الطبيب هو المسئول الأول عن هذه المهمة الإنسانية الخطيرة.

ولم يختلف المرض النفسى عن سائر الأمراض. فقد مر بنفس مراحل التخطيط بالتشوش. غير أن تلكأ فى تلك المراحل طويلا، ولم يكن ذلك إلا لطبيعته الإنسانية أو افتقاره إلى الأدلة المادية الصارخة التى توقف هذا الهراء عند حد.

وهو لم يتأخر عن سائر فروع الطب فى مجال العلاج فحسب، ولكنه تأخر عنها فى التحديد والتصنيف والتشخيص أيضاً.

غير أن الأوان قد آن لوضع حد لكل هذا.. وهذا هو فعلا ما يجى لأن هذا هو سنة التطور ولكن وظيفتنا أن نعجل بهذا التطور ما أمكن.

فالمرض النفسى “مرض” بكل مفهوم الصحة والمرض، وعليه فالمعالج هو الطبيب بكل علمه ودراسته وحكمته، تلك الحكمة التى هى (مرة ثانية): معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وليست معرفة بعض الأشياء بظاهر الأشياء..!

فالطبيب هو من درس الطب ومارسه، ودرس تكوين الإنسان كمفهوم موحد من جسم ونفس يتفاعلان فى بيئة اجتماعية تحيط بهما، ثم درس ما يعترى جسم الإنسان ونفسه من اضطراب وخلل، ثم تخصص بعد ذلك كيف شاء – فى ما يصيب النفس (أكثر من الجسم) من اضطراب، أو ما يصيب الجسم (أكثر من النفس) من أمراض.

وبمرور السنين الطوال، وممارسة التشريح والمداواة والكشف والعلاج يختلط هذا الفهم المتكامل للإنسان، بعقله ولحمه ودمه، فيصبح جزءاً لا يتجزء منه يعمل بوحيه ويسير على هداه.

وبالنسبة لعلاج المرضى نستطيع أن نقول إنه يكاد يستحيل على أى صورة من الصور، وبأى جهد خارق، أن يعالج هذه الوحدة المتكامل علاجاً كاملا إلا من درسها كوحدة متكاملة، وأنه كما أن الطبيب الذى يكتفى بإعطاء المريض حقنة ليس “حكيما” وإنما هو “تمورجى”، كذلك المعالج النفسى الذى يصر أن يكتفى بالكلام لكل حالة ليس حكيما قط.

فالأسس العامة للعلاج تتضمن بادئ ذى بدء فحص وحدات الإنسان من نفس وجسم كما تشمل دراسة بيئته من ناس وأشياء… كل ذلك الوصول إلى هدف محدد فى النهاية وهو القضاء على ذلك الطارئ الذى اعتراه.. وهو المرض.

ولا يعنى قولنا إن الطبيب هو الذى يعالج المريض النفسى أنه سيقوم بكل هذا العبء وحده، ولكنه فى الأمراض النفسية – مثل سائر الأمراس سيلجأ إلى من يعاونه فى مهمته الإنسانية تلك – ممن يجد عندهم من الخبرة والوقت ما لا يستطيع هو أن يلم بكل أبعاده.

فهو يستعين بالأخصائى النفسى لدراسة وظائف النفس دراسة تفصيلية عميقة مقننة.

ويستعين بالأخصائى الاجتمعى لدراسة البيئة الاجتماعية بكل ضغوطها واحتمالاتها.

وإن كنا قد كررنا حتى أمللنا فى الحديث عن مفهوم الإنسان ككل لا يتجزأ يعيش فى بيئة محيطة به، فبديهى هنا أن نقول إن علاج المرض النفسى ينبغى أن يكون ذا ثلاث شعب. وأنه لا يمكن أن يغنى علاج عن آخر مهما بلغ الحماس له والإيمان به والبذل فيه، ولكن الذى يحدث هو أن يغلب علاج على الآخر.. مما لا يعنى إطلاقاً الاستغناء عن ذلك الآخر.

وأمر علاج المريض النفسى مهما اختلفت وسائل ذلك العلاج، لا يعدو أولا وأخيرا أن يكون تقوية قوى المريض الدفاعية للانتصار على القوى المخربة التى اجتاحته حتى المرض.

فتركيب الإنسان العادى لا يختلف عن تركيب المريض إلا فى التفاصيل كماً وكيفاً.. بمعنى أن الإنسان العادى يعانى مما يعانية المريض، ولكن وجه الصحة يغلب عليه فيعيش فى أمن وطمأنينة وفاعلية وتكيف..

فماذا يحدث عند المريض.

الذى يحدث أن القوى الطبيعية التى تقاوم ضغوط الحياة الخارجية وضغوط الصراعات الداخلية.. تقل لدرجة لا تعود تسمح للحياة بالاستمرار فى دعة وسواء، وهنا يختل التوازن وتظهر الأعراض…

فماذا يفعل الطبيب النفسى؟

إنه يمد يده – وبسرعة كلما أمكن ذلك – ليرجح كفة مقاومة المريض الطبيعية ضد هذا الهجوم المرض المخرب. وهو إذ يفعل ذلك، يلجأ إلى الوسائل العلمية التى تعينه وتساعده للوصول إلى هدفه:

هو يلجأ إلى طبل مساعدة الخبراء كل فى اختصاصه.

وهو يلجأ إلى العقاقير.. وربما الصدمات..

وهو يقف بجوار المريض ويرتبط به ليأخذ بيده من خلال علاقة عاطفية، يعرف كيف ينهيها قبل أن يعرف كيف يبدؤها وينميها وهو يحاول أن ينصح بتغير البيئة إذا كان ذلك لازماً.

والذين يتصورون العلاج النفسى ليس سوى التحليل النفسى، واهمون تماماًَ، وخاصة إذا كان مفهوم التحليل النفسى هو المفهوم التقليدى الذى ما زال يتمسك به كثيرون.

والمفهوم التقليدى للتحليل النفسى يتلخص فى أن المحلل يلقى بالمريض على حشيته ويبدأ المريض فى التداعى الحر.. أى يطلق لأفكاره العنان بأقل توجيه، ويتكرر هذا مرة يومياً خمسة أيام فى الأسبوع لمدة سنتين أو تزيد..

لاشك أن التحليل النفسى حدث خطير فى تاريخ البشرية، ولكن أين موقعه بالضبط من العلاج؟

ولا شك أن أعى علاج يستمد كثيراً من أفكاره من مفهوم التحليل النفسى وتشريح النفس الإنسانية التى أبانها التحليل.

ولكن هذا الشكل التقليدى فى العلاج مستحيل التطبيق من الناحية العملية وينبغى أن يقتصر على حالات بالغة الأهمية: مثل حالة فنان أو زغيم الأمر الذى نعرف أنه من خلاله ستعم الفائدة على مجاميع من الناس أو على البشرية كافة.

أو أن يتم لغرض البحث العلمى فحسب، حتى يكون لما يستخرج من حالة أو أكثر هدف وقائى فى طرق التربية والوقاية.

وحتى هذه الاستخدامات ينبغى أن يصطحبها الحذر، وخاصة فى خطوة الاستنتاج والتعميم.

على أن هناك سبيلا آخر لعلاج الأمراض النفسية ليس أقل خطراً ولا أهون شأناً.

وهو سبيل أولئك الأطباء الذين يتصورون أن علاج الأمراض النفسية لا يعدو أن يكون عقاراً يعطى، أو صدمة تؤخذ. وتنتهى القصة..

وإذا كنا قد أخذنا على الطبيب الجسمى هذا الفهم الناقص، فإن الطبيب النفسى الذى يؤمن بهذا المفهوم أشد خطأ وأبعد عن الحكمة.

فالإنسان ليس آلة تحتاج إلى ضبط الكهرباء أو تزييت القطع. ودمتم.

***

إذاً فالطبيب النفسى لا ينكر أى وسيلة من وسائل العلاج ولكنه لا يتعصب لأى منها دون سواها.

وهدفه دائماً هو أن يأخذ بيد الإنسان المريض، كائنة ما كانت شكواه، وأن يقف بجواره حتى يجمع شتات نفسه، ويواصل رحلة الحياة كأحسن ما يكون، وأصح ما يمكن… إلى أن يجئ الوقت التى تخطف رأسه الحداية.

والتى لا نملك إلا أن نقول لها:

حدْ يا بدْ يا بوز القرد

الفصل الثالث

مع الأحداث

مع الأحداث

الفصل الثالث

مـع الأحـداث؟

 “.. فوجدت ما قالت العلماء فرضاًَ واجباً على الحكماء إلوكهم ليوقظوهم من رقدتهم، كالطبيب الذى يجب عليه فى صناعته حفظ الأجساد على صحتها.. أو ردها إلى الصحة..”

باب مقدمة الكتاب

كليلة ودمنة

إن الطبيب النفسى إنسان يعيش عصره ومجتمعه، وما لم ينفعل بما يجرى حوله انفعالا صادقا وأميناً، وما لم ينبض بالناس فى الشارع والمنازل والمصانع والحقول، وما لم يفرح لنقص عدد الأميين واحداً. ويعيش الألم كله مع تجربة هزيمة أمته ويقول ما يشعر أنه ينبغى أن يقال، بالطريقة التى تسمح له أن يقول، ما لم يحدث ذلك فهو ليس بإنسان، ومن ثم فهو ليس بطبيب.

وتفاعل الطبيب النفسى ينبغى أن يكون أقرب إلى تفاعل الإنسان العادى بلا فلسفة أو استعلاء، صحيح أنه يفهم بعداً أعمق، وصحيح أنه يهدف إلى غاية أشمل، وصحيح أنه يستطيع تفسير ما يجرى وبالتالى تخطى لحظة الانفعال غير الهادف بسرعة أكبر، ولكنه أولا وقبل كل شئ إنسان عادى ينبض بالعواطف العادية.

وفى هذا الفصل أعرض انفعالاتى مع الأحداث، وأبدأ بذلك الاهتزاز الشامل حين أصبحنا فوجدنا أنفسنا صرعى لؤم القوة الغبية، وضحايا حسن النية، وتطايرت نفوسنا فى لوعة لم أعشها أبداً، وأرجو ألا أعيش مثلها أبداً، فمن يومها وأنا أبحث عن ضحكة تخرج من جوفى فلا أجدها، وحتى إذا ظهرت خلسة خجلت حقيقياً، ورغم أن ذلك تصرف غير ناضج (فى عرف النفسيين) إلا أنى أقر وأعترف أنى أمارسه.. ولكن ما أسخف كل هذا.. لأننا سننتصر.. ولا أعنى “أننا” كمصريين أو عرب فقط.. ولكن أعنى أننا “نحن البشر” سننتصر على التعصب والقوة والآلات الحمقاء… وسينطلق الضحك والحب يملأ أرجاء الدنيا كلها.. فلا بديل لذلك..

أما ما بعد ذلك فهى انفعالات وآراء عابرة مع أحداث حياتنا العادية.

بعد بيان 30 مارس، وعند حلول رمضان، وحين أرادوا ضبط الجامعة بمفهوم الضباط أعنى الضبط والربط.

ثم صحوتى يوم 28 سبتمبر سنة 1970 وقد فقد الناس جمال عبد الناصر يرحمه الله، واهتزازى لكل ما كان، بعد أن أختفى هذا الإنسان الفذ، بكل ما تحمل كلمة “إنسان” وكلمة “فذ” من معان..

هذه انفعالاتى مع الأحداث.. ولعلها ليست مشاعر خاصة أفرضها على الناس ولكنها جانب من حياة الطبيب النفسى أعرضه على الأصدقاء.. القراء.

عن النكسة

عن النكسة

انفعالات النكسة

 لماذا النكسة.. وهل تمرض الشعوب؟(1)

 عن النكسة

“.. وفى كل الأحوال علينا أن نذكر أن الإنسان الفرد العادى هو حجز الزاوية فى كل شئ: منه يتكون الشعب، وفيه تنصهر المبادئ، وبه تنتصر الأمم..”

هى تجربة عنيفة مريرة بكل قسوة العنف وجزع المرارة.

ومع ذلك، فإننا يجب أن نصر على أنها ليست الهزيمة، ولا حتى النكسة، فإن مباشرة الألم ومعايشته. وقسوة الأيام وضراوتها من ألزم مقومات الإنسان الحر، وبالتالى فهى من أهم علامات أصالة الشعوب.

وعلينا أن نتساءل لماذا؟ وكيف؟ وهل نتعلم؟

فمن الدروس التى ينبغى أن نعيها – وليس هذا وقت تفصيلها – دروس فى الدعاية والحرب وتربية الشعوب.

فبإعادة النظر فى وسائل الإعلام خلال التجربة، وخاصة الإذاعة نجد أنها أساءت أشد الإساءة لكل الناس سواء فى محيط جماهير الشعب أو فى ساحة القتال.

فمازالت دعايتنا – حتى فى أشد الأوقات حرجاً – تعتمد على الصياح، وكلما علا صوت المذيع كلما تصور نفسه بطلا اصاب الهدف.

وأورد هنا بعض الأمثلة التى ألحقت أضراراً بالغة السوء بالناس شعباً وجيشاً:

فقبل المعركة كان الحماس شديداً دون تفريغ موجه، وكانت الدنيا كلها تصيح وتهتف وتجرى وتقفز دون هدف واضح، إلا أننا: سنقلب الدنيا… أى دنيا؟

ونعلى الكلمة.. أى كلمة؟…

ونصنع المستحيل.. أى مستحيل؟ أى مستحيل لم يستطعه الأوائل!

وزاد الحماس فعلا إلى درجة ضارة شأن أى دافع يزيد عن إمكانية التعبير عنه، وبذا انقلب إلى دافع معجز لا موجه، وقوة محطمة لا بناءة، فما بالك إذا أصيب هذا الدافع فجأة، ودون مقدمات، بالإحباط؟

إن الإنسان ليفقد إيمانه بالناس وبالحق وبالشرف، وفى لحظة يأس وجزع يفقد إيمانه بنفسه وبالله من كثرة ما كان متحمساً بلا تفريغ، ثم محبطاً بلا تفسير.

قبل بداية المعركة حسب الناس من خلال الاعلام أنها انتهت بالنصر.

وبعد بداية المعركة ثم تعثرها انتهى الناس للحظات، ثم أفاقوا لترتسم على وجوههم علامات الاستفهام، وتعبيرات الحسرة..

وكره الناس كل شئ وخاصة أغانى الحماس لأنها ارتبطت فى أذهانهم بهزيمة الجولة الأولى.

وعلى قدر ما بلغ تحميس الناس، على قدر ما همدوا وهم يثبطون وكأنهم سقطوا من شاهق..

فما بين “نشعل إسرائيل حريقاً..” إلى “إلهى ليس لى إلاك عوناً” لم تمض سوى ساعات قليلة..

وفى ساحات القتال لم يدرس الإعلام وتأثيره وتوقيته على الجندى الذى يحارب أقسى القوى وأعتاها، فإذا كان للتعجيل والتهويل فى إعلان أشتراك قوى استعمارية فى المعركة هدف سياسى متين، فهل كان ذلك وقته؟ إن الجندى فى ساحة القتال وصباح يوم الثلاثاء المشئوم لا شك أصيب بنوع نم الفزع لتصوره المباشر والأكيد عدم تكافؤ المعركة وبالتالى عدم جدوى المقاومة، ولقد كان لهذا الإعلان الصريح الصارخ المتكرر وقت آخر بغرض تفسير ما حدث وترتيباً لرد الفعل.. ولكن حرام أن نقول لجندى فى ساحة القتال، سبق أن قلنا له إن الأمر لن يستغرق فى تل أبيب، نقول لهذا الجندى فجأة وبدون مقدمات:

أنت الآن فى الصحراء، تحارب دون غطاء، أقوى الدول وأعتاها وأغباها وأقساها.. ثم ماذا ننتظر منه بعد ذلك؟

والناس الآن يتمنون الحرب، انتقاماً لما كان ورداً للشرف المجروح. وفرصة لممارسة صدق الجهاد ودفع ثمن الحرية، ولكن كل ما يرجونه هو أن تقتصر الإذاعة على الموسيقى العسكرية، والمناقشات الهادفة ثم الأخبار الصادقة الموضوعية، فخبر واحد صادق أبلغ ألف مرة من ألف أغنية حماسية.

***

أما بالنسبة للمستقبل فإنه ينبغى لنا أن نتدارس ذلك الدرس الذى اضطر إلى خوضه أفراد القوات المسلحة تحت أسوأ الظروف.

فبعد الأمر بالإنسحاب حقيقة أو تشويشاً أو تصوراً – اضطراب الرجل المحارب حتى لم يعد يدرى من هو، وماذا يصدق؟ ولماذا؟ وأصبح يتوقع أى شئ فى أى وقت، واختلط الأمر عليه وكأنه فى تجربة العصاب التجريبى وقد قصد به ألا يعرف الجزاء من العقاب أو الصواب من الخطأ، حتى سقط بعضهم صرعى الاضطراب النفسى إلى درجة المرض، والبعض الآخر عاش أياماً عصيبة مع نفسه وزملائه.

هؤلاء الرجال علينا أن ندرس نفسياتهم، لا من حيث آثار التجربة واستعادتهم ثقتهم بأنفسهم فحسب، وإنما لإعادة تأهيلهم لواجبات بذاتها، واضعين فى الإعتبار أن تصرفاتهم فى المستقبل قد تكون مجرد منعكس شرطى لما كان… بمعنى أنهم قد يتصرفون نفس التصرف دون تفكير أو إرادة أو أوامر ما لم يتضح كل شئ ويتغير كل شئ، ولن يكفى التحميس والتفهيم، وإنما هو النصر وبالحرب – الذى يمحو هذه الرواسب، ويعيد هؤلاء الرجال إلى أنفسهم وإلينا، رجالا من صميم الشعب يمثلون خط الدفاع الأول فعلا ضد القوى الخارجية التى لا تفهم إلا منطق القوة.

***

وعلينا أن نعيد النظر فى الشروط النفسية للخدمة العسكرية من حيث المبدأ، ثم من حيث نوع السلاح، فدرجة معينة من الذكاء لازمة، وتوجيه خاص للنزعات بما يوافق نوع الحرب ونوع السلاح ضرورى.

ولنأخذ فكرة عن أعدائنا – وليس هذا بعيب – ففى الولايات المتحدة فى الحرب العالمية الثانية منع مليون وثمانمائة وأربعون ألفاً من خمسة ملايين من الإلتحاق بالخدمة العسكرية اصلا لأسباب نفسيه، أى بنسبة تبلغ حوال 35% كما ثبت أن من سرح بعد الدخول لأسباب طبية بلغ 1.541.020 كان منهم 718.184 لأسباب نفسية أى بنسبة 46% وهذا يدل على مدى أهمية النوع دون الكم فى الخدمة العسكرية، فما بالك نيف وعشرين عاما وبعد تقدم الأساليب والتكنولوجيا الحديثة تقدما يجعل الخدمة العسكرية عملا عقلياً عنيفاً قبل كل شئ.

وزاد الطين بلة – كما يقولون – أن غموض الموقف وقسوته أطلق العنان لنزعات إيذاء النفس، فانطلق بعض الناس دون وعى أو دون قصد – وأحيانا بحيث يهزأون ويسخرون من أنفسهم بنكات بالغ من قسوتها ظرفها وسخريتها.. وكأن الناس يحاربون أنفسهم بالانتحار المعنوى.

والدرس الثالث يتعلق بطريقة تكوين الشعوب وتنمية شخصيات أفرادها بالفكر والإنطلاق والمسئولية، ومهما يكن من أمر الاهتمام بسرعة التطور ومظاهر الإنطلاق، إلا أن الشعب دائماً أبداً يتكون من إنسان وإنسان وإنسان وأناس كثيرون، وكل فرد قائم بذاته ينبغى أن يهياً ليعرف مكانته ومسئوليته ودوره وسط شعبه بالاختيار والاختبار والألم والصبر والتفكير، فيحترم نفسه ويعرف مشكلة شعبه ويحس أنها مسئوليته وحياته..

هذه الحقائق البسيطة هى أولى لبنات بناء الشعوب مهما طال الأمد.

فليس من المعقول أن نتقابل شباباً فى أوج المعركة لا حراك به ينتظر تعليمات رياسة المنظمة – ليس تعليمات بشأن ماذا يفعل، فهذا نظام واجب – ولكن تعليمات بشأن كيف يفكر، وفيم يفكر، ومن يحب ومن يكره.

وليس من المعقول أن يكون جواب شاب هو عماد هذه الأمة عن دوره فى المعركة بأن والده يدفع ضريبة دفاع تبلغ “كذا” شهرياً.

تلك أمثلة متفرقة، ربما كانت قليلة.. ولكن لها دلالتها الخطيرة.. منها ندرس ومنها ننطلق.

ومهما كانت النوايا حسنة فإن التلقين دون إيمان، والترديد دون تلقائية تخرجان لنا نسخاً مكررة… وغالباً ممسوخة سرعان ما تهزها التجربة.

هذه بعض الدروس على قدر ما ظهر من ملامح وسط الضباب..

وكلما تكشف الأمر كلما إزددنا تعلما وتأملا وفهما، ثم ازددنا وعياً وتصميما على الاستمرار.

وفى كل الأحوال علينا أن نذكر أن الإنسان الفرد العادى هو حجر الزاوية فى كل شئ.

منه يتكون الشعب…

وفيه تنصهر المبادئ…

وبه تنتصر الأمم…

***

هذه بعض ملامح التجربة… وكأنها المرض.. فهل تمرض الشعوب؟

(1) كتب هذا المقال يوم 20/6/67 وقبل أن يتبين كل ما تبين

هل تمرض الشعوب

هل تمرض الشعوب

هل تمرض الشعوب؟

“.. إن مجموع انهيار الأفراد.. لا يعنى انهيار المجموع، إن الشعب وحدة أخرى وكيان آخر له مواصفات يعرفها القدر والحق والتاريخ: قدر الأمم، وحق الحياة وتاريخ الشعوب..”

هل تمرض الشعوب؟

والمرض – لغة – هو إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها، وبهذا التعريف فإن الشعوب قد تمرض..

فك تضطرب طبيعتها وتظلم، وكم تعصف وتنسف، حتى تختل الموازين وتشل القوى.

ولكن..

هل تمرض الشعوب كما يمرض الأفراد؟

هل الشعب كالإنسان الفرد؟

يقول أفلاطون فى جمهوريته: نعم.

فالمجتمع عنده ليس مجموعة من الأفراد، بل هو وحدة منتظمة مستقرة العلاقات تشبه الفرد الواحد تركيباً وتفاعلاً.

وعلى هذا الرغم يمكن أن يمرض الشعب… فنتكلم عن “أمراض الشعوب النفسية” إن صح هذا التعبيرن وهو لا يصح إطلاقاً بغير توضيح، ولا يصح بالذات إذا راجعنا الدراسات العلمية المنهجية..

فالفرد يختلف عن المجتمع فى الصحة والمرض، حتى لو تداعى الناس – كأعضاء الجسد الواحد – لآلام بعضهم بالسهر والحمى..

إذاً..

ما هذا التساؤل الذى يخطر فى بالى، بل ويلح على رغم ظاهر خطئه وسوء تأويله؟

إنه ضريبة المهنة.

فالمهنة تصبغ تفكير صاحبها بصفة متميزة، وتجعله يرى رؤية خاصة ويصدر أحكاماً ذاتية قد تكون أحياناً بعيدة عن الموضوعية.

ويذكر من قرأ “أوراق بكويك” للكاتب الانجليزى “تشارلزديكنز” كيف كان ماسح الاحذية يتعرف على الناس بأحذيتهم، بل ويكنيهم بها، وقد يشبههم بأنواع الجلد أو أنواع الأحذية، وهذا ليس بعيب فى حد ذاته ولا هو استخفاف أو سخرية، ولكنها طبيعة المهنة وتأثيرها، فقد يصف شخصاً بأنه كالح لا يصلح فيه التلميع، وآخر بأنه “قرنيه” شديد اللمعان معتدل الاحتمال، وثالث بأنه “شمواه” صعب التلميع سهل الاتساخ، ورابع بأنه “أجلاسيه” متين أصيل لا عيب فيه.

وربما إذا هو فكر فى تصنيف الشعوب أتبع نفس الطريقة..

وأنا كطبيب نفسى قد تثير مهنتى فى عقلى تخيلات، وفى نفسى تساؤلات، فكثيراً ما أحس بأمراض الشعب هى هى مثل ما أرى فى الأفراد، وأتخيله جاء يوماً – أو ذهبت معه وفيه ومنه يوماً – نسأل الطبيب التشخيص فالعلاج!

وهكذا… لعل هذا المقال ضرب من الخيال.

ولعل احتمال صدقه العلمى ضرب من المحال.

أو لعله مجرد سؤال:

هل تمرض الشعوب؟

وبماذا تمرض؟

***

نحن نرى المرض النفسى نوعاً من الهرب من الواقع، يلجأ إليه الإنسان هرباً من قسوة الحياة الواقعية وضراوة متطلباتها، وخوفاً من الشعور بالعجز فالضياع، فنرى مريض الهستيريا إذا اضطر إلى رؤية ما لا يحب، أو ما لا يطيق رؤيته، أصابه العمى دون أن يدرى، فحجز عنه رؤية ما لا يقدر عليه، لكن ذلك لا يحل الموقف الصعب: مثل النعام لا يزيل الخطر بدفن رأسه فى الرمال.

فهل يحدث مثل هذا للشعوب؟

إذا كانت المصيبة عظيمة وغير محتملة، وكان العجز ماثلا أو مهدداً ربما تجاهل أفراد الشعب الأمر كله وكأن شيئاً لم يكن… وربما لجأوا إلى الاحتماء فى سند حقيقى أو خيالى. اطمئناناً إليه أو اتكالا عليه، يحجز عنهم رؤية الخطر ويمكنهم من الهرب من مواجهة النفس، وإدراك العجز وبالتالى تحمل المسئولية ومتطلباتها.

فإذا كان علاج مرضى الهستيريا هو المواجهة المتأنية للواقع مهما بلغت مرارته.. ثم محاولة تغييره مهما كان ذلك صعباً أو شاقاً..

إذا كان ذلك كذلك؟ هل يكون هذا هو نفس الحل لنفس الموقف عند الشعوب؟

هل لابد من مجابهة النفس دون الاختباء وراء ساتر، مهما بدا صلباً أو قادراً؟

هل لابد من ممارسة الألم بأبعاده الحقيقية وحمل المسئولية بكل ثقلها حتى يعتق الشعب من المرض؟

ربما..

***

وعندنا مرض أشد وأقسى يقال له “الفصام” وأحياناً يسمى انفصام الشخصية، وفيه تنفصم عرى العقل وتسير على غير هدى وبغير توافق أو ارتباط فيفكر المريض فى ناحية، ويحس شعوراً مختلفاً عن نوع تفكيره ثم هو يتصرف بما لا يتفق مع هذا أو ذاك، أو هو لا يتصرف إطلاقاً، وتصبح الأفكار الخيالية وظيفة فى حد ذاتها، وترضى الذات بالخيال، وتصبح العاطفة ضحلة متقلبة دون فكر ظاهر يصاحبها أو يبرر تقلبها، وتضمحل الإرادة فيبتعد الإنسان عن الحياة الفعالة، ويهرب من مسئولية المواجهة بالانزواء والتقوقع.

والسؤال الذى يفرض نفسه على هو:

هل يصل الاضطراب بالشعوب فى فترات المرض، إلى هذا الحد؟ هل يصل المرض بشعب ما أن يفكر فى واد، ويشعر فى واد آخر، ويتصرف لا مع هذا ولا مع ذاك؟

هل يصل المرض إلى أن يفقد الشعب إرادته، ويعيش فى أوهام الخيال وسيولة الانفعال دون ضابط أو رابط؟

وإذا كان علاج مريض الفصام هو الصدمات، واقتحام الواقع مع التدعيم الكامل حتى يفيق ويتجمع ويواجه وينتصر.. فهل تلزم الصدمة مع الدعامة لإفاقة شعب من الفصام؟

ما أقسى هذا الخيال؟

ولكنه مجرد سؤال..

***

وقد يصل المرض عندنا إلى أن يفقد الإنسان قدرته على تسيير أموره فيختل حكمه على الأشياء، ويفرط فى نفسه وكيانه فيحتاج حينئذ للحجز أو الحجر، ويتصرف له أو يتصرف عنه بعض أهله، دون أن يرجعوا إليه أو يستأذنوه.

هذا هو المريض ذاهب العقل..

فهل يذهب عقل الشعب أبداًَ؟

***

فى يقينى أن الجواب فى كل حال هو:

لا وألف مرة لا..

يقولها علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعى.

ويقولها مؤرخو التاريخ.

يقولونها بكل لغة وعلى كل لسان.

يقولون:

كما أن الإنسان ليس حذاء

فإن الشعوب لا تمرض مرض الأفراد.

الشعب ليس فرداً تهزه الأحداث حتى المرض.

قد تمر به فترات عصيبة ورهيبة يشبه فيها تصرفه تصرف الأفراد المرضى، ولكنه ليس المرض – بهذه الصورة القاتمة – مهما احتدت الأعراض وطال الزمن.

حتى لو أصاب أفراد الشعب فرداً فرداً تمزق وانهيار فإنهم متى تجمعوا ليستحقوا لفظ شعب أصبحوا شيئاً آخر، إن مجموع إنهيارات الأفراد لا تعنى إنهيار المجموع.

إن الشعب وحدة أخرى وكيان آخر له مواصفات لا يعرفها الطبيب النفسى، فهو طبيب “قطاعى” لا يتعامل “بالجملة”.

إنما مواصفات الشعب مواصفات يعرفها القدر والحق والتاريخ.

قدر الأمم.

وحق الحياة.

وتاريخ الشعوب.

وسننتصر.

بين الاشتراكية والتكنولوجيا

بين الاشتراكية والتكنولوجيا

بين الاشتراكية والتكنولوجيا

الحديث اليوم فى كل مكان، وخاصة بعد الذى كان، ثم البيان(1)، هو حديث التكنولوجيا والعلم “ويحاول البعض أن يصوره”

أو يتصوره حديثاً جديداً لم يسبق إليه أحد.. حتى أن بعض العلماء وقعوا فى هذا الوهم أثناء الحماس والإندفاع.

إن الجديد هو استعمال ذلك التركيب اللفظى فى هذا المقام، ولكن القصة قديمة قدم الإنسانية، فإن تطبيق التفكير العلمى والأسلوب العلمى فى مجالات الحياة المختلفة قديم عريق منذ غير الإنسان الفاس الحجرى إلى الفأس الحديدى، الجديد فقط هو نوعية التطبيق بعد تقدم الرياضيات تقدماً مذهلا بما يتيح من دراسة الإحتمالات وحسابها ودراسة الطاقة وتوجيهها، ومن ثم الجهد والوقت وتقليل نسب الأخطاء.. هذه هى المسألة.

ولكن الذى يستأهل عناية خاصة وتوجيهاً خاصاً، هو دراسة العلوم الإنسانية بنفس هذه الوسائل العلمية والحسابات الدقيقة، والغريب – جداً- إن المتحدثين فى هذا الأمر ينسون هذا الواقع أو يجهلونه للأسف.

***

معركة الإنسان:

والإنسان فى معركة قديمة مستمرة، وليس هذا مجال سرد تاريخى عن كيفية صراعه مع الوحوش وقوى الطبيعة وقوى المرض وقوى الحرب والخراب، ولكن الذى يعنينا فى هذا المجال أن ثورة تطبيق العلوم الحديثة من أول استخدام الطاقة الجديدة غير المحدودة، إلى علم حساب الاحتمالات- تضع الإنسان فى معركة جديدة عنيفة هى معركته مع الآلة: هل يصبح بعداً لصنم الحديد.. أم يستمر إله الآلة وسيدها؟ إن الإنتباه إلى طبيعة هذه المعركة وأبعادها هو المنقذ الوحيد من إنتحار الإنسانية نتيجة عدم تقديرها لخطورة العملاق المادى الذى أخرجته بيديها من القمقم بتطبيق علوم الذرة والسيبر ناطيقا معاً. إن خسران هذه المعركة لا يخلف إلا الضياع والجشع والقهر والخوف ثم التدهور إلى هوة النهاية ولن ينقذنا من كل هذا إلا العلم: إن الأسلوب العلمى الخاص من فرض وإثبات، وحساب، وتقنين، أصبح هو أسلوب دراسة الإنسان ذاته مخترع الآلة وسيدها، وهو إذا نجح فى تسخير هذه الآلة لدراسة وسائل سعادته وطرق كسب عيشه وتنظيم ملكاته وإثراء قدراته، فقد كسب المعركة الجديدة الهائلة، وكل ذلك لا يتم إلا بدراسة مظاهر سلوك الإنسان بنفس المنطق وأسلوب التقنين والتعميم الذى تدرس به العلوم الطبيعية، إن “التكنولوجيا”، لفظ يعنى طريقة فى التطبيق العلمى، وهو لذلك ينبغى أن يطبق على الإنسان إن تكنولوجيا الإنسان هى الأصل: فالإنسان العالم له دراسة توجهه وتهديه. والإنسان المحارب له دراسة تحمسه وتقيمه وتسيره، والإنسان الصحفى له دراسة تصقله وتشير عليه، والإنسان الزعيم له دراسة ترشده وتحدده. ورجل الشارع، وربة المنزل، وعامل المنجم، وربان السفينة، ومهندس الطائرة، وقائدها، وصاحب القرش، ومودعه.. ومستغله.. وحابسه.. و.. و.. كل هؤلاء لهم دراسات عملية ثم تطبيقات “تكنولوجية” – دراسات عميقة جادة وهادفة.

 ليست حماساً.. ولكن حساباً وتنظيماً، ليست أمانى.. ولكن تقديرات واحتمالات، ليست تخمينات.. وإنما تدبير وتخطيط. وهذا لا يعنى أنه لا مجال للخطأ فى هذه الدراسات، ولكنه خطأ محسوب وتلافيه محسوب، وليست التجربة والخطأ هى أفضل وسيلة للممارسة على الإطلاق، ولكن الخطأ الذى لا يمكن تجنبه بالحساب هو الذى ينبغى تصحيحه بالمراجعة والتقييم.

على أن وسائل دراسة الإنسان تختلف تماماً عن الوسائل التكنولوجية الأخرى، فإن الإنسان يدرسه إنسان.. ومهما لجأ إلى وسائل تحد من تحيزه ونظرته الشخصية فإن فى الأمر بعداً وعمقاً يجعل قياس الإنسان أمر فى غاية الصعوبة حقيقة يمكن أن نقيس كل شئ، ولكن هناك ذلك البعد الثالث للنبض الإنسانى، هناك ذلك الاتصال العميق بين إنسان وإنسان هناك “الصدق الصوفى” الذى يستطيع أن يصل بكل أمانة إلى أغوار النفس الإنسانية، وفى لحظة ما يرى رؤية لا حدود لها ليضع كل الدراسات العظيمة المتناثرة فى إطار شامل موحد، هذه الرؤية يمكن أن تسمى “وحى العبقرية” أو “انتفاضة التطور، وهى لن تتم فى معمل له درجة حرارة ودرجة رطوبة ودرجة ذكاء ودرجات للميول الشخصية، ولكنها سوف تتم نتيجة صدق صوفى، وعمق إنسانى، وحيرة ورفض، ومعاناة، وعلم شامل يجمع كل شئ، ويرفض الجزئيات أن تكون غاية المطاف وقمة العلم.. لذلك كان طريق تطور العلم الإنسانى طريق صعب إذا قيس بالعلوم الطبيعية ولذلك ينبغى التفرقة بين قياس مظاهر سلوك الإنسان، وما يتبع ذلك من تجميع مشاهدات مقننة، وبين انتفاضة التطور التى تجعل لهذه المشاهدات قيمة وتجيب على كثير من التساؤلات فى بساطة ويسر..

ولكن..

بما أن “انتفاضة التطور” هذه ليست حدث كل يوم وكل عصر.

وبما أن “طفرة الأصالة” ليست سبيل كل عالم ولا هى شئ يكتسبه الفرد بالمحاولة والخطأ. فينبغى أن نحترم هذه المشاهدات الجزئية التى تمثل حقائق الساعة… وأن نعمل على أساسها وبهديها.. وأن نحترم كل ما تشير به، ثم لنا بعد ذلك أن نتوقع، أو ننتظر، أن يحمل إنسان ما هذه الرؤية الحادة المشرقة التى تجمع كل هذا لتدفع الإنسان إلى طفرة على سلم التطور.

ولن تحدث “انتفاضة التطور” هذه فى فراغ، ولكنها نتاج البذور العلمية التى سيحملها ذلك الإنسان الفريد ويسير محتاراً بها يومه ولياليه، ثم يتعرى من كل زيف ليعيش مشكلة الإنسان فى صراعه من أجل البقاء والتطور، ثم يحتضن كل ذلك عبر الأيام والشهور والسنين والحيرة تهز كيانه، والأمل يملؤ وجدانه حتى يكتمل الجنين.

وفى لحظة إفاقة عظيمة تتضح الرؤية وتبدو معالم الأشياء محددة فيجيب على تساؤلات الساعة، ثم يستمر الإنسان فى التحقيق والتثبت والتطبيق والملاحظة والمراجعة.. وهكذا تتجمع الجزئيات فى المعامل وتوجه نشاط الإنسان فى مرحلة تطور ما.. حتى ينتفض فى طفرة تالية ليدخل مرة أخرى يجمع جزئيات مشاهداتها ويقننها ويثبتها، وتسير العجلة دوما رغم النكسات ورغم كل شئ..

الاشتراكية العلمية… علمية الاشتراكية:

على أن لفظ “العلم” ذاته كاد يصبح لفظاً غامضا له استعمالات خاصة، فمثلا نحن نسمع ونقرأ كثيراً عن لفظ “الاشتراكية العلمية” يستعمل مرادفاً وحكراً على عقيدة “الماركسية اللينينية” ويشيع هذا الإستعمال وينتشر حتى يخيل للسامع أو للقارئ أن هناك اشتراكية علمية واشتراكية جهلية أو تخريفية أو تضليلية، وأن العلم صفة خاصة لهذا النوع دون غيره، فإذا اختلف أتباع المذهب الواحد فى التفسير أو فى التطبيق أدعى كل منهم العلم واتهم الآخر بالجهل أو الردة أو التعصب.

ويذكرنى هذا الموقف بموقف مشابه للفردويديين (الأرثوذكس) الذين يؤمنون بالتحليل النفسى نظرية مذهباً وطريق علاج أوحد، ويتعصبون له، ويتكلمون عن صاحب مدرسته باسم “الأب” سيجموند فرويد، فهم يعتبرون نظريته ديناً منزلاً فيتجمدون عند آخر ما قال .. هم يأخذون كلماته دون طريقته، غير حاسبين أنه لو عاش أطول لغير أفكاره أكثر (مثلما فعل مرتين – على الأقل – فى حياته).

كذلك الحال فى بعض المتحدثين عن الاشتراكية العلمية، ينسون أن العلم لا يكون علماً إلا بالتطبيق والممارسة والمراجعة والتعديل والتثبت والموازنة والصحة والثبات على مرور الزمن وفى شتى المجالات، وتفسير هذا الموقف – على حسن الظن – هو اللاتكنولوجيا، والتفسير الآخر هو أن الجمود عند موقف معين هو أسهل الحلول السريعة، حتى لو كان أخطرها لأنه يعفى صاحبه من المحاولة الجادة المستمرة والمراجعة الجادة المستمرة.

إن “عملية الاشتراكية” ينبغى أن تعنى تحديد الهدف منها. وهو سعادة أكبر عدد من الناس، ثم محاولة الوصول إلى هذا الهدف بأقل جهد وأصدق سبيل علمى، إن ذلك يشمل تسخير العلم لخدمة الفكرة والهدف معاً، ومن ثم تقييم الفكرة وتعديلها وتوجيهها، كما ينبغى أن يشمل تأصيل الإيمان بها عن طريق العلم كذلك: ينبغى أن يتعلم الطفل منذ ولادته حلاوة العطاء، وقيمة العيش مع الآخرين ولهم وبهم، ينبغى أن يتعلم الفرق بين أن يعيش وحده بكل الملذات حتى تصرعه نفسه بين أنين الجوع وذل الخوف، وأن يعيش حياته ببعض الرفاهية وسط مجتمع إنسانى نابض بالحياة والمشاركة والتعاون.

ينبغى أن يتعلم التأثر كيف يضبط حماسه ويوجهه بالعلم، ويراجع نفسه أولا بأول حتى لا ينزلق تحت نفس الشعار إلى أسوأ مما قام ليجاريه، ينبغى أن يتعلم كيف يوقف سعار ذاته حتى لا يصبح عبداً لقرش لا يملكه أو لسلطة لا تؤمنه.

***

إن العالم الآن.. أضيق من الصراع.

ولكن الشر أعتى من النية الحسنة.

والعلم أسرع من الأحلام.

والإنسان هو الأصل، وهو الغاية.. وهو الوسيلة

(1) كتب هذا المقال عقب بيان 30 مارس سنة 1968

عن العلم والدين

عن العلم والدين

من وحى رمضان

عن العلم والدين

وكل عام وأنتم بخير …

جاء رمضان ووجب الصيام ..

وستبدأ الصحف والناس والأطباء فى الكلام عن فوائد الصيام التى لا تحصى على الجسم والنفس والعقل والقلب والاقتصاد

 والحرب والسياسة (1) إلى آخر هذه المقالات والأبحاث التى تطالعنا كل عام وستطالعنا كل يوم  … وهذا كلام ظريف

  بسيط يقوله الظرفاء ليقتنع البسطاء، إلا أنه يثر قضية عميقة وخطيرة وهى: أسلوب تفسير الدين بالعلم ومحاولة إثبات صحة ما ورد من تعاليم الدين بما اكتشف ويكتشف من حقائق العلم، ومهما بدا ذلك الأمر مغرياً .. ومهما كان فى ظاهره مقنعاً، إلا أنه امر جد خطير، لا لأن ما يقال خطأ فى حد ذاته .. ولكن لأن ما يثبته العلم، قد ينفيه العلم، وجوهر الدين أعظم وأبقى وأجل من كل هذا.

فمثلا إذا ظهرت نظرية عليمة توافق آية دينية هلل الناس وكبروا، وصاحوا وتصايحوا أن هكذا يكون العلم مصداقاً لما جاء من عند رب العالمين، فماذا يكون الأمر إذا ثبت كذب هذه النظرية وزيفها بعد أعوام؟

هل يكون الدين غير سليم؟

أم يكون التفسير هو الذى كان قاصراً أو متعجلا؟

لا يا سادة .. الدين أصيل وأساسى فى الحياة.

هو الذى يربط وجود الإنسان بأصل الوجود.

وهو باعث الإطمئان وحافز لخير وملهم للحق.

والعلم نور وهدى على طريق الحياة.

هو الذى يتبح للإنسان حياة أرحب وإمكانيات أكبر.

وهو الذى يمنى القدرات ويطلق مواهب الإنسان فى رحاب الله بغير حدود.

والإثنان يكمل بعضهما بعضاً، وهما معا لا زمان لحياة مطمئنة بناءة.

*****

ولكن هذا لا يمنع أن نتدارس – كلما سمحت لنا أحداث الحياة ومناسباتها – ما توصل إليه العلم من حقائق تلقى مزيداً من الوضوح على ما بدا فى بعض الأحيان غامضاً أو بغير مباشر، وهذه من ا÷م وظائف العلم الأساسية: توضيح بعض مظاهر الحياة ومنها وأهمها: الدين.

فالصيام – مثلا – استجابة مؤجلة لدوافع الجوع  والعطش والجنس.

والإرادة: استجابة مؤجلة. هذا هو تعريفها العلمى.

فالصيام إرداة.

ولكنه لا يمكن القول إنه أنما شرع مثلا لتقوية الإرداة.

ولكن الذى حدث أن فى الصيام إرادة، والإرادة نضج، والنضج صحة نفسية والصيام مشاركة للجماعة فى مظهر من مظاهر الحياة، ومشاركة الجماعة صحة إيجابية .. والصائم ضيف الله، والتوجه إلى الله فى يقين وهدوء وسيلة صادقة وأصيلة فى العلاج، وفى كل مكان فى العالم يوجد ما يسمى بالعلاج الدينى بأصول علمية سليمة ومدروسة.

فحين تضيق الدنيا بما رحبت، وتضيق نفوس البشر، وتفقد الحياة معناها، وتهتز القيم وتنقلب الحال غير الحال، يمكن أن يكون التوجيه إلى الله هو الحل الحقيقى والأصيل، ويمكن أن يكون هذا اللجوء إلى رحاب الله مدروساً وهادفاً حتى لا يصبح نوعاً من الهرب من مسئوليات الحياة وواجباتها، ولكنه توجه واع أصيل، حيث يجد الإنسان فى رحابه تعالى راحة حقيقية، ودافعاً أصيلا لمواصلة حياته فى بناء وبذل وطمأنينة.

هذه هى “النفس المطمئنة”.

وهذا هو الاستقرار فى أكمل صوره”.

وهذا هو رب العالمين فى فيض كرمه على عباده:

ملجأ وملاذاً من كل ضيق.

منقذاً ومعيناً فى كل كرب.

ورمضان شهر كامل، يتغير فيه “روتين الحياة”، وتنكسر فيه العادة، وأخلق بالإنسان أن يراجع فيه نفسه، ويجعله محطة فى طريق زمن، يقف عندها ما أمكن الوقوف، يتأمل نفسه ويعيد تقييم حياته، داعياً أن يجعلها أكثر غنى لنفسه وعطاء للآخرين.

وكل عام وأنتم بخير.

(1) كتب هذا المقال بمناسبة حلول رمضان عام 1387 هجرية.

الانضباط فى الجامعة

الانضباط فى الجامعة

الإنضباط فى الجامعة

أثار تنظيم الجامعة الجديد ضجة كبيرة صحفية وعلمية وشعبية، وهذا موضوع عام يتصل بقضايا نفسية عامة وخاصة: مثل القدرات الخاصة واختلاف النزعات الفردية، وكذا تهيئة الجو الصحى الملائم بين المعلم والمتعلم بالثقة والاحترام والتقابل الفكرى على أعلى المستويات.

ولسنا ندرى هل الغرض من هذا التنظيم هو إظار جهود الجامعة القائمة فعلا والتى لا يحسها الشعب إحساساً مباشراً. أم هو مزيد من الدفع نحو أهداف أكثر وضوحاً وأشد جلاء؟ أم هو محاولة لتغيير مفاهيم أساسية، تعبيراً وإعلاناً لتغيير الوزارة؟ والحقيقة التى لا تختلف حولها هى أن الجامعة تساهم منذ البداية فى نهضة البلد وثورته، فهى مصدر الكفايات ومستودع الخبرات الذى لا ينفد، وأى نجاح حققته الثورة تنفيذاً، هو نجاح للجامعة فى إمدادها بهذه الكفاءات الخلاقة التى حاولت أن ترسى قواعدها على أساس من الفكر السليم على المستوى السياسى، ودعائم قوية من الإنتاج المثمر: على المستوى الاقتصادى.

إذا بالنهضة التى يراد لها الظهور لا يمكن أن تكون وليدة الساعة؟ ولا يمكن أن تكون بداية من فراغ، فهى قائمة ومتطورة ومنتجة فعلا.

ولكن ما هو الطريق إلى تحقيق هدف هذا التنظيم الجديد؟ هل هو التواجد مدة أطول فى الجامعة، أم التواجد مدة بذاتها؟

الواقع أنه لابد من النظام.. على أن يكون وسيلة للإنتاج لا معوقاً له، وخليق أن يقاس الإنتاج فى الجامعة بالمستوى العلمى والسياسى على حد سواء، فلا تهم كمية المعلومات بقدر ما يهم تنمية قدرات الأفراد  على الاستزادة من العلم. والتطلع إلى آفاق أوسع، وممارسة كرامة الإنسان، والمشاركة الفعلية فى الإحساس بهذا الشعب ومشاركة الفكر والعمل والمسئولية جملة وتفصيلاً.

على أن الأستاذ الجامعة الحق يستشعر أن حضوره للجامعة شرف وليس تكليفاً، لأن طفولته العلمية استمرت بين أحضانها حتى نال الدكتوراه وهو حول الثلاثين على الأقل (فى أحسن الأحوال). وطفولة استمرت طوال هذه السنين لا يمكن الفطام منها.

إذاًَ فالحقيقة التى تغيب عن أنظار بعض الناس وعن المسئولين خاصة، هى أن رجال الجامعة يتواجدون فى جامعاتهم أربع وعشرين ساعة فى اليوم لا فى الأسبوع (1). بعقلهم وفكرهم ووجدانهم جميعاً، ومن يشك فى ذلك فليسأل زوجاتهم وأولادهم الذين يفتقدونهم وهم معهم، لانشغالهم بأمهم التى لم ينفطموا عنها أبداً، وقديما قالت زوجة عالم جليل “لهذه الكتب أضر على من ثلاث ضرائر”.

كما أن الممارسة العلمية خارج أسوار الجامعة، بالمشاركة فى منح الخبرة أو الاستزادة منها لخدمة المجتمع الأوسع على المستوى العام أو الفردى هى فى الحقيقة زيادة فى المهارة والعلم، وهى تعود أولا وأخيراً على الطالب الجامعى، وتنساب دائماً فى فكر الأستاذ ثم فى إنتاجه العلمى رضى أم لم يرض، أراد أم لم يرد، فإن الخبرة التى تختلط باللحم والدم والعقل والوجدان لا يستطيع أن يحتجزها إنسان سوى، وإذا وهب الله بعض رجال الجامعة القدرة على أن يعددوا مجال خدماتهم لتصب أخيراً فى وعاء الجامعة وتصل إلى عقول الطلبة، فلا نملك إلا أن ننحنى لهم تقديراً واحتراماً.

وعلينا أن نضع فى الاعتبار أن الوحدة الأساسية للإنتاج فى الجامعة هى عقول الأساتذة وفكرهم الخلاق الذى لا يمكن أن يؤتى ثمارها إلا بالاستقرار النفسى والثقة والحافز، وبهذا وحده تعطى عن رغبة أصيلة ونضح طبيعى.. أما أن ترغم على العطاء فهى إما أن تتحوصل وإما أن تلتوى، وما أتفه مظهرية العطاء.. وما أخفى البخل بالعلم والخبرة حتى على المعلم نفسه.

وعلى الطريق الثورى المخلص لا نجد فى النفوس حرجاً من القول، ولا فى الأعمال تنزيهاً عن الخطأ، فإن حساسية القضية تحتاج دائماًَ إلى الفهم العميق والقول الصادق والممارسة الهادفة المتطورة.

(1) إشارة إلى تعليمات تلزم بالتواجد 24 ساعة أسبوعياً.

يا من ذهب نحن باقون

يا من ذهب نحن باقون

يا من ذهب… نحن باقون…

وفجأة…

ذهب الأب المخلص القوى الحكيم.

كان مخلصاً.. حتى تصورناه جمع الإخلاص وحده، فى حين أن أخلاصه ما كان إلا تجسيداً لإخلاص هذه الأمة.

كان قوياً.. حتى حسبناه مصدر القوة كلها.. فى حين كم أكد أن قوته مستمدة من أصالة هذا الشعب..

كان حكيما.. حتى خيل لنا أنه هو – فقط – الذى يفكر ويقرر وينفذ.. فى حين أنه لم يدع مجالا إلا وأصر أن الشعب هو الحكيم وهو الصابر وهو الصامد.

* * *

لقد اختلط جمال عبد الناصر بروح هذا الشعب المصرى الأصيل، وتقمص إنسانه فى هذه الحقبة من الزمان فبدا هو والملايين شيئاً واحداً.. حركته حركتهم، قوته قوتهم، ضعفه ضعفهم، إخلاصه إخلاصهم، فكاهته فكاهتهم، أحلامه أحلامهم، ومن هنا كان سر قوته وضخامته ودقة إحساسه.. وكذا خوفه وحسن نيته أيضا.. ومن هنا كانت الزعامة الفردية بكل مزاياها وخفاياها.

* * *

وحين ذهب.. كانت اللوعة أشد ما تكون.

وكان ذلك طبيعياً ومتوقعاً فى ذلك الوقت، وكانت الحسرة أمر من أن يتحملها فرد أو أفراد أو شعب لم يكد يفبق من قهر الزمن والوصاية.. لم ينضج بعد وإن كان فى طريقه للنضج الأكيد.. فكانت الإنفعالات والتفاعلات والعويل والصياح..

كل ذلك أدى وظيفته فى حينه، كان تصريفاً واجباً للتعبير عن هول المصيبة.

* * *

ولكن..

بعد هذا التفريغ نستطيع أن نعود إلى أنفسنا أو أن تعود إلينا أنفسنا أكثر قدرة على الحكم على الأمور وعلى الصبر، وعلى الأمل، وعلى العمل.

لقد كان شبح اليأس – لفترة ما – يطل علينا وكأنه حتم رهيب.

وترددت ألفاظ وصور الجزع والقنوط حتى كادت تطمس معالم الغد.

وجزع الذين يعرفون

وجزع أكثر الذين يعرفونه.. لأنهم يعلمون انه ما أراد ذلك أبداً – فى شعوره – وهذه كلماته تحذر منه:

“كان شعورى دائماً ضد الإعتماد على الفرد، وضد توهم احتياج النضال الشعبى إلى شخص بالذات مهما كرمته أمته.. وكنت أصدر فى ذلك عن يقين بأن الشعب هو الباقى والخالد، وأنه قادر فى كل مراحل نضاله أن تخرج من صفوفه من يخدم أمانيه ويحقق أحلامه”.

هكذا كان شعوره.. وكانت كلماته، ولكن يبدو أن القدر إختطفه قبل أن يصبح شعوره فعلا حياً.. وقبل أن تصبح كلماته نبضاً واقعاً، ولو كان ذلك تحقق فى الواقع وأتيح للشعب فرصة النضج لما كان كل هذا القنوط وكل هذا اليأس:

* * *

ولكن

يا كل أب

لا تنزعج فهى لحظات الفراق – ثم تستمر الحياة بالرغم من كل تصاريف القدر التى تبدو للحظات أنها مصيبة المصائب ونذير التدهور، إلا أن التطور فى النهاية يصر على أن الغد دائماً أرحب.

وأنت تعلم القول المصرى الأصيل “الموت على رقاب العباد.. لكن الفراق صعب”.

صحيح كان الفراق صعباً.. ولكنا مستمرون.

فالارض تنبت الرجال.. وما أنت إلا نبات هذه الأرض فى هذه الحقبة من الزمان بحلوها ومرها.

يا من ذهب.

نحن باقون.. ولسوف يظهر من أبناء هذه الأرض رجال – أقوى الرجال – كما ظهرت.

ولسوف يمضى النضال – أشرف النضال – هى سبيل خير الإنسان وتقدمه كما تمنيت.

يا كل أب..

إن نجاحك وإنما يقاس “بكيف صنعت أولادك”، لا “بماذا صنعت لهم”.

إن الأب الذى يسيح فى أولاده فيسيحون فيه تظهر آثار التخلخل والتصدع إذا ما اختفى، لأن كيانهم لا يكتمل إلا به، أما الاب الذى يصنع الرجال، فهو يكرر نفسه فيهم، بل هم يتخطون مرحلته، لأن ذهابه دافع لهم على البقاء وعلى الانتصار وعلى الاستمرار.

ولا أظن أن مأساة هذه الفجيعة لانك ذهبت، ولكن مفاجأة توقيت القدر لها كان صعباً، لأنه لو كان النضج كاملا أو على وشك الكمال. لكان التفاعل بناء، ومع ذلك فما أحرى أن يكون فقد الأب دافع أصيل للاستمرار وللاحتمال وللاستقلال.

يا من ذهب.

هذه مصر.. لم تخل من الرجال ولن تخلو منهم.

وهذا هو الإنسان لم تتوقف مسيرته لفرد ولا لحرب ولا لجوع ولا لتدهور.

وهذا هو الغد المشرق لم يطمس معالمه أمس مظلم ولا حاضر غامض.

ولسوف نستمر

ونتطور

ولن يموت الخير والحق بعدك.

لأن الخير والحق قبلك وقبل كل إنسان.

وبعدك وبعد كل جسد فان.

الفصل الرابع

متنوعات

متنوعات

الفصل الرابع

مـتـنـوعـات؟

“.. كرمى على درب..

فيه العنب وفيه الحصرم..”

“ميخائيل نعيمه”

هذه النظرات فى النفس الإنسانية.. تتعلق بمظاهر نفسية.. وأمراض نفسية أردت بها أن أوضح بعض المفاهيم الشائعة.. دون رابط محدد بين المواضيع وبعضها.

بدأنها بحديث عن موضوع شائع وأساسى فى تكوين النفس الإنسانية وهو “الحيل النفسية”، وهو موضوع صعب العرض صعب الفهم، مع أنه حقيقة أصيلة وقديمة يعرفها الناس دون التحدث فيها ويمارسوها بنصف إدراك، وأنت تجد ذلك كله فى التراث الشعبى فى الأمثال العامية، لذلك فضلت عرض الموضوع من هذا المدخل “الحيل النفسية… فى الأمثال الشعبية”.

ثم كانت معايشتى لثوراث الشباب التى شاعت فى السنوات الأخيرة دافعاً لمناقشة موضوع صراع القيم بين الأجيال وجوانبه النفسية وآثاره والمخاطر التى تحف به.

وبعد ذلك قدمت حديثاً خفيفاً عن الكرة حيث شاعت حتى دخلت كل بيت، ثم تناولت “الأنانية” وحاولت أن أضعها حيث هى وأن أخرج بها من مفهوم التهمة القبيحة، إذ يمارسها كل الناس ولكنهم يلصقونها بالآخرين، إلى فهم موضوعى يرتقى بها إلى حيث يحترم الإنسان دوافعه ويطورها.

أما حديثى عن الحب فهى عرض سريع لموضوع من أهم المواضيع التى تشغل الناس، وإن كنت أحس أنه مبتور وينبغى أن يوفى حقه أكثر من ذلك لذلك اعتبرته مجرد “مقدمة”.

وقد حاولت أخيراً أن أجيب على تساؤلات شائعة عن: هل المرض النفسى معد، وهل هو وراثى؟ وعن الغربة والغرابة التى يعانيها المريض النفسى.

وإنى إذ أعتذر للقارئ عن عدم التجانس أرجو أن يقبل ما يروق له، ولا يقحم على عقله ما يضرس منه، وربما كان لعدم التجانس هذا فى حد ذاته ميزة التنوع.

الحيل النفسية فى الأمثال العامية

الحيل النفسية فى الأمثال العامية

الحيل النفسية فى الأمثال العامية

شعر الإنسان أثناء تطوره الطويل بالحاجة الملحة إلى التكيف مع بيئته والدفاع عن نفسه، وكذا إلى تجنب الألم والسعى إلى تحقيق أهدافه..

ونعنى بالبيئة فى مجال التكيف كلا من البيئة الداخلية (محتوى اللاشعور) والبيئة الخارجية (المجتمع الكبير) على حد سواء.

وليس التكيف بمعناه الواسع قاصراً على الإنسان، فإن بعض أنواع الحيوانات قد يلجأ إلى وسائل للتعمية مستعملة أساليب الخداع حتى تحمى نفسها من عدوها فى البيئة الخارجية، ومثال ذلك ما تلجأ إليه الفراشة أو الحرباء من تغيير لونها، فتماثل الأولى ما حولها من أزهار وتماثل الأخيرة ما حولها من أحجار، وبالتالى تتجنبان الخطر.

والحيل النفسية ما هى إلا أساليب دفاعية تهدف أساساً إلى التخلص من التوتر وتساعد الإنسان على التغلب على ما يلاقيه من صعوبات فى بيئته، تلك الصعوبات التى قد تكون شعورية يعلم الإنسان ماهيتها ويقدر خطورتها كما قد تكون لا شعورية تهدد كيانه دون وعى منه … وفى كلا الحالين يكون دفاعه مباشراً أو غير مباشر بوعيه أو بدون وعيه.

ولنا أن نتساءل مطالبين بتفصيل أكثر، ما هو المثير الحقيقى لهذه الأساليب وما هو الهدف الأساسى من ورائها؟. والجواب هو أن القلق الشديد الذى لا يتسطيع الإنسان احتماله هو المثير لكل هذا السلوك، وأن الهدف الأساسى من وراء تلك الأساليب هو “خفض التوتر”.

وينشأ التوتر من حدة الصراع فى النفس الإنسانية، ومتى اشتد الصراع زاد التوتر والقلق، وعانى الإنسان بالتالى من حالة تهدد سعادته وتشفى نفسه المطمئنة … الأمر الذى يدفعه إلى التخلص منها بكل وسيلة .. ومن أهم هذه الوسائل: “الحيل النفسية”. وهى الأساليب التى لا دخل للتفكير الشعورى فيها .. فهى تحدث تلقائيا دون إدراك الإنسان أى بعيداً عن دائرة إرادته الواعية .. وهى تحدث آلياً بقصد خفض التوتر عند الأسوياء من الناس.. ولكنها قد تتكر حتى تصبح عادة سلوكية تكون معوقة أحيانا لا سيما فى الأشخاص ناقصى النضج  أو المهيئين للأمراض النفسية – أما إذا زاد اللجوء إليها زيادة أعمت الفرد عن إدارك نقصه ودراسة عيوبه فخدعته عن حقيقته، وألجأته إلى تجنب الألم مهما صغر أو كان ضرورياُ لمعرفة مجريات الأمور والوصول إلى أهداف الحياة فى إطار الواقع .. وإذا بلغت زيادتها حداً أبعده عن الحياة الإجتماعية والمشاركة فى معترك الحياة المتلاطم بالأهوء والأنواه، إذا حدث هذا اصبحت هذه الأساليب أساليب مرضية تعوق التوافق السوى رغم أنها فى البداية كانت تهدف للتوافق وخفض التوتر.

وهذه الحيل النفسية قديمة الإنسان ذاته، وهى متأصلة فى عاداته وسلوكه من قديم الأزل، وقد أدرك الأقدمون هذه الحقيقة وصاغوها فى تعقيبات متداولة مما تمثل فى الأمثال العامية والأغانى الشعبية العريقة فى مجتمعنا، وهذه ظاهرة تدل على عمق جذور الاستبصار عند الإنسان على مر العصور ومع اختلاف مراحل التطور، كما تدل كذلك على قدرته الفائقة على التعمق فيما وراء السلوك الظاهرى من دوافع خفية ملتوية.

وتبدا كل الحيل النفسية بعملية أساسية، وهى “الكبت”، فالكبت حيلة دفاعية أساسية تحدث وحدها أو تسبق حيلة أخرى تكميلية أو ثانوية، وهى العملية اللا إرادية اللاشعورية التى تحدث بصفة آليه فتنقل الأفكار والخبرات من دائرة الشعور والوعى إلى دائرة اللاشعور حيث لا يمكن – فى الأحوال العادية استرجاعها أو تذكرها، ويمكن بهذا أن يعتبر الكبت “عملية نسيان آلى للأفكار والنزعات.. وهذا النسيان يصاحبه إنكار للحدث أصلا”، وشتان بين الكبت والقمع، فإذا أحسست مثلا برغبة فى مصاحبة إحدى الفتيات وامتنعت عن ذلك لظروف اجتماعية فهذا ليس كبتاً لأنك أدركت رغبتك واحترمتها ثم تحكمت فيها.. أما إذا أنكرت أصلا أنك ترغب فى مصاحبتها فإن إلغاء الإعتراف بهذه الرغبة – رغم وجودها فى اللاشعور – هو الكبت بعينه وفيه ما فيه من خدا النفس… وعادة ما تكون النزعات والأفكار المكبوتة مشحونة بالانفعال الذى عجز الإنسان عن أن يتحمله فى حياته الشعورية فآثر أن يخفيه فى داخل ظاناً منه أن تخلص منه فى حين أنه يدخل اللاشعور بكل شحناته.

إذاً فالكبت هو العملية التى تمحو من الشعور والتعبير الحركى المباشر إندفاعات وأفكار لو أدركها وعاشها الإنسان لكانت مؤلمة أو مخزية أو مخيفة، أو باختصار هو عملية نفى فكرة أو اتجاه بما يصاحبهما من انفعال – من حظيرة الشعور إلى غياب الشعور.

وبعد عملية الكبت تبدأ كل الحيل الأخرى.. فإن الإنفعال الذى يصاحب الفكرة المكبوتة يبحث له عن تصريف ويتم هذا عن طريق الحيل النفسية.

والحيل النفسية قد تكون حيلا إعتدائية مثل “العدوان” Aggression  ويتجه العدوان هنا – كحيلة نفسية – إلى غير هدفه الأصلى.. أى أنه يتجه إلى هدف غير مسئول عن التوتر، فإذا كان التوتر ناشئاً من الحيلولة بين الإنسان وغايته مثل إشباع دافع ما، فإن العدوان قد يأخذ سبيلا آخر للتنفيس عن هذا التوتر، وقد عبر ذلك المثل القائل “مالقوش عيش يتعشوا بيه جابوا عبد يلطشوا فيه” وقد يتجه العدوان إلى الجماد وهو غير مسئول عن الإعاقة، فنرى أن دافع العطش مثلا إذا لم يشبع أنشأ حالة من التوتر لا قبل للمرء باحتمالها فقد يكسر الإناء عدواناً عليه.. وفى هذا قيل “العطشان يكسر الحوض”، وقد يكون العدوان على أشياء تافهة لا علاقة لها بمصدر التوتر. وقد عبر عن ذلك المثل الذى قيل فيمن يطارد ذبابة ويتابعها فى غيظ يحاول قتلها بأنه لا يعدو أن يكون مليئاً بالتوتر وأن هذا التصرف ما هو إلا تننفيث عن عدوانه.. فالمثل يقول “دى مش دبانة .. دى قلوب مليانة”.

وقد يكون الإعتداء عن طريق إسقاط المشاعر الضارة على الآخرين، فالإسقاط  Projection حيلة لا شعورية نلقى بها اللوم عن أنفسنا وننسبة إلى الآخرين فنتحرر من المسئولية التى نشعر بها بأن ننسبها لغيرنا، ولهذا يلصق الإنسان بغيره ما يعتمل فى نفسه ولا يرضى عنه.. فالزوج الذى تنطوى نفسه على رغبة فى خيانة زوجته يرميها هى بالعزم على الخيانة.. وفى المثل “زانى ما يأمن لمراته” رغم أن المثل قد يعبر أيضاً عن حيلتى التعميم والتقمص.

وعكس الإسقاط تماما “الاحتواء” Introjection  وهو يحدث غالباً فى الأشياء الحبيبة إلى النفس، فالطفل يحتوى “شكل” أمه… والأغانى الشعبية فى الحب والغزل فيها من معانى الإحتواء أكثر من أى مظهر آخر.. فالإغنية الشعبية تقول “أحطك فى عينى واتكحل عليك” أو “أحطك فى شعرى واتضفر عليك… وإن جم يسألونى ما قولشى عليك” وهذا هو الاحتواء بعينه.

وقد تكون الحيل فى كثير من الأحيان إنسحابية، وفى هذه الحال يهرب المرء بعيداً عن مصدر التوتر والقلق.. فينسحب عنه إلى ذاته أو إلى أحلامه يحقق بها ما عجز عن الوصول إليه فى عالم الواقع.

وأوضح هذه الحيل هى حيلة الإنطواء Introversion  حيث يكون الإنسحاب مادياً ومعنوياً فيعزف الإنسان عن مشاركة الناس ويهرب منهم ثم يأخذ فى تبرير موقفه وكأنه القائل “اللى يخرج من داره ينقل مقداره”.

وهناك حيلة أخرى فيها نوع من الإنسحاب والتراجع وهى “الإنكار” Denial فهى تعتبر حيلة هروبية كذلك وفيها ينكر الإنسان وجود أحد شقى القوى المتصارعة فى داخل نفسه وبالتالى ينهى الصراع القائم، وقد ينكر وجود الخطر الخارجى الذى يحتمل أن يسبب قلقاً وتوتراً فى النفس وكأن ذلك ما يعبرون عنه فى قولهم “ودن من طين.. وودن من عجين”.

ومثل الإنكار “الإبطال” Undoing ويعنى إبطال مفعول عمل ما، أو شعور يشعر به الإنسان بتغطيته بفعل آخر، وهذا الذى قيل فيه “زى اللى الصابونة فى أيد.. والنجاسة فى ايد.. يطرطش ويغسل” وهذا الموقف هو ما يحدث أيضاً فى حيلتى التكفير والإصلاح Reparation  حيث يقوم الفعل الأخير بإصلاح ما حدث فعلا – أو تخيلا – من أذى وبذلك يتخلص من شعوره بالذنب عن طريق محاولة تعويض الخسارة أو إصلاح الفساد.

أما التبريرRationalization فهو الحيلة التى تمثل اللمسة الأخيرة فى كل الحيل الأخرى، فالتبرير هو محاولة من جانب الشعور لتفسير وتسويغ فعل أو رأى ليس له فعلا ما يبرره.. إلا دوافع خفية لا يقبلها الإنسان على نفسه ويأبى الإعتراف بها – أى أنه تقديم أعذار مقبولة للنفس تبدو مقنعة لكنها ليست الأسباب الحقيقية.

وإن دراستنا للتراث الشعبة لتوضح كيف تعمل الأمثلة العامية بصورة ملحة فى هذا الغرض، وكأنها ذخيرة لا تنضب لتبرير الأعمال غير المقبولة حتى قيل “إفعل أى شئ تقرره…. وستجد مثلا يبرره” والتبرير يعمل لتغطية الشعور بالنقص فى الخبرة أو العجز فى القدرات وهذا ما يعبر عنه المثل القائل “اللى ما تعرفش ترقص.. تقول الأرض عوجه” أو “ايش حايشك عن الرقص يا أعرج.. قال قصر الأكمام”.

وحيلة التبرير موجودة فى قصص شائعة ومتداولة، ولا أظن أن أحداً لا يعرف قصة الثعلب والعنب المر فى كل اللغات، فى العربية مثلا نظمت شعراً وزجلاً والشعر العربى يقول:

وثب الثعلب يوما وثبة      شغفاً منه بعنقود العنب

لم ينله، قال هذا حصرم    حامض ليس لنا فيه أرب

وصلاح جاهين ينظمها زجلا:

“العنب دا طعمه مر

قال كده التعلب فى مرة

والدليل على إنه مر

إنه جوه وأنا بره”

أما الحيل الإبدالية فهى الحيل التى تعنى إبدال هدف مكان هدف أو إزاحة شعور مكان شعور غير مقبول من النفس ومثال ذلك أن تتحول مشاعر الكره التى قد تراود الطفل تجاه والده إلى هدف أكثر إحتمالا لهذا الكره دون أن يلحق بالطفل شعور بالذنب، فإن بغض الطفل لمدرسه – لا يثير عنده شعور بالذنب فى حين أن كرهه لوالده يثير عند خليطاً من المشاعر مما قد يسبب له التوتر والألم، وكذلك المدرس الذى يقسة على طلبته قد يكون هدفه هو القسوة على المجتمع الكبير الذى حرمه حظه من التقدير والرعاية ثم أزيح هذا الشعور العدوانى وانصب على الطلبة الأبرياء وهذا ما يعبر عنه المثل القائل: “ما قدرشى على الحمار اتشطر على البردعة”.

وقد يكون الإبدال هو إبدال شعور خفى بعكسه: فيظهر على الإنسان عكس ما يبطن دون وعى منه أو إرادة، وهذا ما يسمى “تكوين رد الفعل”Reaction Formation فإذا ما أظهر طفل مثلا حنواً بالغاً نحو أخيه الأصغر فإنه يخفى عادة دافعاً عدوانياً وكأن حنوه هو حنو القط على الفار ولهذا قالوا فى ذلك “الفار وقع فى السقف”. القط قال له اسم الله.. قاله ابعد عنى وخلى العفاريت تركبنى” ويضرب هذا المثل فى التحذير من العواطف الزائدة التى ليس لها ما يبررها.

أما التقمصIdentification فهو أن يدمج الفرد شخصيته فى شخصية آخر وذلك بشعوره وسلوكه جميعاً – فالطفل يتقمص شخصية أبيه وقارئ القصة يتقمص شخصية بطلها.. وهكذا، وقد يتقمص الآباء شخصية أبنائهم سواء بسواء – وهذا يحس الوالد – مثلا – بشعور ابنه فى الفرح والألم وغيرهاما، ولعله يحس حتى بإشباع حاجاته العضوية مصداقا للمثل السائر “من أطعم صغيرى بلحة.. نزلت حلاوتها بطنى” وكأن شعر بشعورى الشبع واللذة الذين شعر بهما الصغير.

أما التقديسIdealization  فهو أن يبالغ الشخص فى تقدير من يحب وتنزيهه بشكل زائد عن الحد حتى يصفه بكل المحاسن التى فيه فعلا والتى ليست فيه كذلك، بل ويخلع عليه أفضل أفكاره وغاية أمانيه وبهذا يجد مبرراً للتعلق العاطفى به ويحس أن عواطفه قد اتجهت اتجاهاً تستحقه، فالوقوع فى الحب مثل واضح من أمثل المبالغة فى صفات المحبوب والتغاضى عن عيوبه، أو بتعبير أصح التعامى عنها، وهنا نحب أن نشير إلى ما يتواتر فى هذا الصدد من آثار وأقوال، فحين قال عمر بن أبى ربيعة “حسن فى كل عين ما تود” كان يعنى إغفال المحبوب عيوب المحب وإبراز الحسن دون غيره إرضاء لنزعة الحب.. وقد تصل المبالغة ما وصل إليه قيس بن الملوح (مجنون ليلى) فى قوله “محب لا يرى حسنا سواها”. ففى الحالة الأولى أضفى الحب الصفات الحسنة على المحبوب أما فى الحالة الأخرى فقد نفى صفات الحسن عن أى أحد إلا محبوبته، وهذا هو مصداق المثل القائل “عين الحب عميا”.

وبعد:

فلعل ما ذكرنا يشير أصدق إشارة إلى أن مفهوم النفس الإنسانية وأبعادها لم تغب عن الأذهان لحظة من زمان، وأن ما حدث مؤخراً أثناء تطور العلوم هو النظرة العلمية للمظاهر النفسية أما ديناميكيات النفس، وإدراك القوى المتصارعة فيها، فهى حقيقة موجودة منذ وجد الإنسان لذلك لنا أن نعجب كل العجب من هؤلاء الذين ينكرون اليوم ما أقره الشخص العادى منذ آلاف السنين!.

صراع القيم بين الأجيال

صراع القيم بين الأجيال

صراع القيم بين الأجيال(1)

الحديث عن ثورات الشباب ملأ العالم فى السنوات الأخيرة وقد فرضت نفسها على المجتمعات بغض النظر عن النظم فيها سواء اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، والفرق الوحيد الظاهر بين مجتمع وآخر هو أن مجتمعاً ما استطاع أن يؤجل الانفجار ومجتمع آخر استطاع أن يستغله دون أن يرفضه، ومجتمع ثالث يحاول أن يتجاهله، ولكن الحقيقة هو أن الثورة هناك، تسرى فى الظلام.. أو تزمجر وتثور فى النور.

ما هى أسس هذه الثورة؟ نفسياً واجتماعياً، وهل هناك علاقة بينها وبين ظاهرة البلوغ؟

ويكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل عن انهيار “الرواسى الرواسخ” من القيم والمعتقدات التى كانت تحكمنا حتى الآن والتى لم تعد تكفى للتحكم فى الجيل الجديد ويشمل فى حديثه القيم الدينية والسياسية والاجتماعية ويربط ذلك باقتحام الفضاء.

ويكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل عن انهيار “الرواسى الرواسخ” من القيم والمعتقدات التى كانت تحكمنا حتى الآن والتى لم تعد تكفى للتحكم فى الجيل الجديد ويشمل فى حديثه القيم الدينية والسياسية والاجتماعية ويربط ذلك باقتحام الفضاء.

ويكتب الأستاذ توفيق الحكيم عن تجربته شخصياً كمثل صارخ للصراع بينه وهو الفنان الرائد وبين ابنه وهو الفنان الثائر.

ويكتب الدكتور عبد الملك عودة فى الأهرام ايضاً عن الصراع بين الاجيال فى الدول النامية فى افريقيا بالذات فى مجال السياسة.

يكتب كل الناس… وتلح الأسئلة. ونبحث سوياً عن جواب.

ما هى الحقيقة وراء كل ذلك.. متى يبدأ الصراع وكيف ينمو؟ وهل له علاقة بالنمو البيولوجى فى مرحلة البلوغ؟

ما دام هناك فروق بين الأفراد والجماعات فإن هناك صراع بشكل أو بآخر، ولو كان التشابه هو القاعدة لكان الصراع استثنائى..، وعلى قدر فهمنا لهذه الحقيقة على قدر تمكننا من إلقاء النور على مقومات الصراع، ومن ثم توجيهه أو الاستقادة منه.

وإن كان الصراع قد ظهر أخيراً بحدة حقيقية وملزمة للتفكير، فإن هذا لا يعننى أنه لم يكن موجوداً قبل ذلك وإنما هو كان خافياً فحسب، والصراعات توجد باستمرار وهى تتجمع بتتابع حتى تحين الفرص الاجتماعية لإعلانها وجودها فى صورة ثورة أو احتجاج أو مقاومة أو رفض شامل أو حتى شذوذ.

بداية الصراع:

والطفل حين يولد ينفصل عن أمه جسمياً ولكن ولادته النفسية تتأخر عن ذلك كثيراً، فهو وأمه من الناحية النفسية جزء واحد لا ينفصمن ولكنه – ومن اللحظة الأولى- يحاول الانفصال والاستقلال بتكوين ذات خاصة، وعلى قدر درجة فهم الأم واستقرارها النفسى ونضجها العاطفى على قدرها تسمح له بهذا الانفصال أو تقاومه وتمنعه…

وهو بدوره يمارس هذه المحاولة فى سهولة احيانا وفى عنف وثورة أحياناً وهو يتقدم إلى الاستقلال ثم ينجذب إلى الاعتماد الكامل والتبعية ويتراوح تصرفه ذلك بين وقت وآخر حتى يتم هذا الاستقلال أو لا يتم.. فليس هناك قاعدة ثابتة تلزم جميع الأطفال بأن يستمروا فى حياتهم فى الخطوات الطبيعية نحو الاستقلال، وإنما هناك من يعيش ويموت وهو لم يستقل بعد مهما بلغ به السن، فقط تختلف التبعية، ولو كان الأمر يتم ببساطة نظرية لما تصورنا طفلا يرفض الاستقلال أو أما ترفض لابنها النضج، ولكن هذا الرفض سواء من ناحية الطفل أو من ناحية الوالدين له جذوره اللاشعورية التى تتحكم فيه بالرغم من صدق المحاولة الشعورية من الجانبين للابتعاد والنمو والاستقلال.

لماذا يقاوم الوالدان الاستقلال؟

إن تفسير هذه الظاهرة يتضح بدراسة مقدار نضج الوالدين أولا.. ومقدار تطور المجتمع ثانياً، فإن الأب أو الأم اللذين وصلا إلى درجة طيبة من الاستقلال والاكتفاء العاطفى ليسا فى حاجة إلى مزيد من “الاتباع النفسيين” لتقرير ذواتهم أو لتأكيد وجودهم، فإذا كانت الأم مكتملة النضج العاطفى فإنها تمنح الحب والفرص لنمو جزء منها بعيداً عنها دون خوف أو تردد، فهى لا تخاف من أن يعنى استقلال ابنها انفصاله عنها بل تدرك بتجربتها الناضجة أن الاستقلال غير الانفصال والبعد، وأنه إن كان سيغير نوع العواطف تجاهها، فهو لن يغير مقدار هذه العواطف بل سيضمن دوامها واستمرار نموها فى الاتجاه الطبيعى.

هذا من ناحية نمو العواطف والسماح باستقلالها- أما من ناحية تعارض المعتقدات فإن تفسير ذلك يحتاج إلى عمق آخر، فإن المعتقدات الراسخة سواء كانت صحيحة أو ضالة.. تحيط العقل الإنسانى – بل والذات جميعها – بسياج متين يفرض حمايتها بالحق أو بالباطل، لأنه بالمعتقدات يجد الإنسان تفسيراً لأغلب الظواهر وتحليلا للمواقف وتفسيراً للاتجاهات سواء كانت إتجاهات ذاته أو اتجاهات الآخرين نحوه، فالمعتقدات والقيم هى التى تربط جوانب الذات فى كل متناسق، وتدفعها فى اتجاه له معنى وتعطى لها قيمة وهدفاً. والإنسان لا يصل إلى الاستقرار عليها إلا بعد جهد وتذبذب شديدين، وخاصة فى المجتمعات المتحضرة، لذلك فإنه متى ما استقر عندها فإنه يتمسك بها تمسكا بالغاً ويرفض مجرد مناقشتها خشية الرجوع إلى حالة الضياع والتردد واللامعنى.

والقيم والمعتقدات تؤدى هذه الوظائف سواء كانت صحيحة أم خاطئة، المهم هو تناسقها ورسوخها وتفسيرها لكثير من الظواهر أو معظمها ثم وظيفتها الاجتماعية بعد ذلك.

وكلما كانت المعتقدات شائعة بين أغلب الناس كلما كانت أسهل فى الانتشار وأعمق فى الأثر، والإنسان فى المجتمع البدائى مثلا ينمو ذكاؤه الاجتماعى بسهولة وسرعة أكثر مما ينمو ذكاؤه الفردى وتلقائيته وإبداعه، وهو يتعلم الاستجابات الاجتماعية دون مساءلة أو مناقشة ويجد فى ذلك راحة وسعادة، وهو فى هذه المجتمعات لا يتعرض لأى نوع من التناقض لأنه يحصل على معلوماته من مصدر واحد أو من عدة مصادر متفقة على قيم واحدة ومعتقدات ثابتة، اما فى المجتمعات الأكثر تقدماً فان الجماعات اقل حجما وأضعف ترابطا، والذكاء الفردى هو الأصلن ومصادر المعلومات متنوعة وكثيراً ما تكون متناقضة، وهنا يصح من العسير الوصول إلى معتقدات ثابتة بنفس السهولة التى يتم بها الاعتقاد فى المجتمعات البدائية..

والوالدان يميلان فى أغلب الأحيان إلى أن يسير أولادهم على نفس الطريق الذى سلكوه هم، حتى تثبت معتقداتهم هم أنفسهم، ولا يتعرضون لمراجعة أنفسهم، الأمر الذى قد يعرضهم إلى هزة من الأعماق قد لا يتحملونها فى هذه السن وبعد الوصول إلى مرحلة الاستقرار.

ومن هنا ينشأ الصراع. والد يريد تأكيد قيمه وحجته فى ذلك أنه هو ذاته مستريح مستقر إلى هذا الطريق، وابن يحاول أن يجد قيمه بنفسه وخاصة وأنه يمارس حياته فى ظروف مختلفة، ويحاول أن يتم تكوين ذاته بفرص أكبر وفى مجال أوسع.. وعلى قدر ما يتيح المجتمع للشباب فرصة التناسق والتنظيم بين مصادر المعرفة وتقرير القيم على قدر ما يتم الاستقرار والايمان بقيم مشتركة تساعد على النمو وتدفع لتحقيق أهداف الحياة.

إذاً فالوالدان يعارضان القيم الجديدة للحفاظ على استقرارهما أولا، ثم للسعى إلى إتاحة نفس الفرصة – على حد تصورهم – من الاستقرار والهدوء لأولادهم وذلك بمقاييس قد مارساها قبلا، العامل الأول لا شعورى والعامل الثانى شعورى لأنه مقبول اجتماعياً ونفسياً.

البلوغ والقيم:

فى المجتمع القديم كان الطفل – ذو المصدر الأوحد لتعلم القيم – يستقر إلى قيمه ومعتقداته وتقاليده فى سن مبكرة، وبهذا تهزه أزمة البلوغ هزة طفيفة سرعان ما يطفئها – ولو ظاهريا – بأن يسلط عليها الموانع والنواهى التقليدية، ولكن شباب اليوم يتردد فى معتقداته حتى سن متأخرة، فتحل به ثورة البلوغ وهو لم يستقر بعد، فتظهر فى ميدان المعركة قوة بيولوجية لا جدال فى وجودها ولا سبيل لانكارها، هذه القوة تبدأ فى التأثير وفى تحديد اتجاه الفكرة والعواطف للتمسك بالقيم التى تسمح لهذه القوة الجديدة بالانطلاق، أو على الأقل التى تفسرها فى إطار مقبول ولا تقهرها أو تكبتها دون تفسير، وهنا يختلف موقف الوالدين، فهم إما أن يمثلوا تأثيراً خارجياً قاهراً مضاداً لتصريف هذه الطاقة مما يزيدها قوة ويضاعف توترها حتى تنفجر، وإما أن يتجاهلوا الأمر برمته ويتغافلوا ويتعاموا عن كل شئ، ويبدأ التخطيط فى الظلام حتى يفاجأوا بعد ذلك بالتباعد الصارخ بين مفاهيمهم وقيمهم وبين قيم أبنائهم..

صور الصراع وآثاره:

الصورة الصريحة:

وتتمثل صور الصراع فى مظاهر مختلفة تبدأ من شكلها الطبيعى من اختلاف الآراء والتعارض بين النزعات الذى قد يزيد أحياناً لدرجة تهدد العلاقات الأسرية من جذورها، بل وقد تثير بعض الانفعالات الكامنة فى نفس الابن أو الاب ويظهر فى صورة الكره أو الحقد اللذان يصلان أحياناً الى محاولة الايذاء.

السخط العام واللامعنى:

ولكن كثيراً ما يظهر الصراع فى صورة مختلفة ومحورة مثل أن يلجأ الشاب أو الفتاة إلى الثورة ليس على قيم الوالدين فحسب، بل على قيم المجتمع كله. وهو فى ثورته وتعميمه للسخط قد يحطم قيما ثابتة وأصيلة ومفيدة. إلا أنه يرفض التسليم بأى شئ يقيده، وهو يكون عرضة فى هذا الأمر إلى الانخراط مع الجماعات الرافضة أو الساخطة والتى تتعدى فلسفة الثورة إلى عقيد التحطيم، ثم يصبح الاستسهال والعزوف عن بذل الجهد هو سبيل الحصول على اللذة العاجلة دون محاولة البحث عن قيم بديلة، ولا التفكير فى الآخرين حتى إذا كان هؤلاء الآخرون ممن يشاركونهم السخط فإن الذى ينظمهم عادة ليست قيما جديدة ولكنه مجرد الرفض.

النكوص:

وقد يصل عنف الرفض أحياناً أخرى الى فقدان الذات والنكوص الى مرحلة طفولية، نظراً لأنه تخلى عن الحماية التى كانت تساعده لتبين معالم ذاته وفى نفس الوقت لم يتكتسب القيم التى تنظم وظائفه النفسية والبيولوجية فى كل متناسق له شكل وأبعاد وأهداف ومعنى، وبتمزق الذات يتعرض المراهق لأن يفقد علاقته بالآخرين وبالأشياء. ويصبح عدم تحديده وارتداده صورة مرضية أكثر منها صورة صراع بين الأجيال أو مجرد رفض.

الانشقاق:

وقد يظهر الصراع فى محاولة إيذاء الذات، فيرفض الشاب أو الفتاة أى شئ صريح أو ضمنى يرضى الوالدين أو يتماشى مع رغباتهم، فهو لا يستذكر مثلا أو لا يدخل الامتحان، لمجرد إحساسه الشعورى أو اللاشعورى أن هذا هو هدفهم منه وغايتهم من وجوده، وقد يكون هذا العزوف عن الدراسة هو العرض الوحيد للصراع والرفض، بل إن كثيراً من الشبان والفتيات يأتون هم أنفسهم يشكون من هذا العجز عن التركيز وعدم الاهتمام بالمستقبل، وكأن الدافع اللاشعورى قد قلب الصراع إلى عداء صارخ، ولسان حاله يقول: “على وعلى أعدائى”، ويظهر هذا واضحاً فى الحالات التى يهتم الأهل أكثر ما يهتمون بالدراسة والتحصيل دون اهتمامهم بالكيان الإنسانى الذى يدرس. وهم يغذون بذلك الإنشقاق بين الكيان العاطفى السذى لا يعنيه إلا الوجود الكامل وبين القشرة الإجتماعية التى تركز أساساً على المكاسب الاجتماعية وبذا تصبح القشرة الاجتماعية ممثلة للأخرين أكثر مما تمثل ذاته، وتنقلب الحرب إلى داخل النفس بدل أن تقتصر على الصراع بين الفتى أو الفتاة ككل وبين الآخرين خارج النفس، وكأن الآخرين بذلك يمثلون جزءا من النفس يرفضه الكيان العاطفى الأصيل ولو استمر هذا الانشقاق وتمادى فإن نوعا من المرض يصبح عنوان الصراع الذى انتقل من الخارج الاجتماعى إلى داخل النفس.

فيقول شاب يعانى هذه المأساة تحت علاج طويل لم ينته بعد… “إنى أتبين الآن أن ضرتى هى أنا، إن الناس يعاملونى على أساس خاطئ يرسمون شخصاً فى أذهانهم لا أعرفه، وقد صبرت عليه طوال هذه المدة وأنا أحسب أنه أنا، ولكنى حين حاولت أن اتبين الحقيقة وجدته شيئا آخر، ولم يكن أمامى إلا أن أختبئ وراء زيفه، كنت مغطى بالتفوق والتقدم وحين اكتشفت نفسى الحقيقية رفضت كل شئ حتى لا استمر فى هذا الخداع حتى لا أعمل لحسابهم، على حساب نفسى بل إنى أقتلها الآن بهذا التقدم وربما يفسر ذلك التوقف الدراسى الفظيع الذى لحقنى، ولكنى حينما أحاول التخلص من هذه القشرة الاجتماعية أجد فراغا هائلا، أجدنى فى حالة انعدام الوزن.. وأصاب بالخوف أحس أنى أتلاشى فأرجع بأقصى سرعة وراء الأغطية الاجتماعية ولكنى أحس أنها تكتم انفى وارفض الاستمرار. والنتيجة أنى أدفع الثمن وحدى.. ولا أتحرك فى اى اتجاه، فلا الصورة الاجتماعية اكتملت، ولا الصورة الحقيقية ظهرت، والآخرون يخرجون لى ألسنتهم”.

ولعل هذه الصورة هى من أقسى أشكال الصراع بين الأجيال وقيمهم، ولو أنها تبدو صراعا بين الإنسان ونفسه إلا أن جزءا من نفسه فى هذه الحالة يمثل الآخرين، الذى شكلوه كما أرادوا ونسوا كيانه الذاتى المستقل الجائع إلى العاطفة، المحروم من الحنان الساعى إلى السعادة الحقيقية لا المكاسب الزائفة.

تفاعل الوالدين:

وهناك صور لتفاعل الوالدين تجاه هذا السخط أو هذا الرفض وهى تختلف حسب مقتضى الحال، فهناك من يستسلم وينزوى ويكف عن المحاولة للتوفيق بينه وبين القيم الجديدة حتى يصل الجميع إلى نوع من التوازن.

وهناك من يزيد من سلطانه وجبروته ويفرض مزيداً من القيود مما قد يأتى بنتيجة ظاهرية وإن كانت هذه النتيجة عادة ما لا تستمر ويتولد عنها إما الانفجار وإما الانشقاق كما ذكرنا.

* * *

ولا يمكن أن نتصور أن هذا الصراع هو أمر فردى يحل نفسه بطرق خاصة تختلف حسب ظروف كل أسرة، لأن القيم هى فى المقام الأول أسلوب جماعى للحياة، ولابد أن تقل التناقضات بين وسائل الإعلام وبين تعاليم الأسرة وبين دروس المدرسة وبين أماكن العبادة، هناك اختلافات فى التفاصيل ولكن الانسجام والتناسق ينبغى أن يصبح سياسة عامة ومدروسة ومتناسبة.

ولابد من التفرقة بين غسيل المخ وبين توحيد القيم، فالأولى عملية فرض أفكار وأساليب دون حرية أو إرادة أو اختيار، والثانية هى إتاحة الفرصة لممارسة الحرية فى اختيار الأصلح، ولابد من فهم الحرية فى إطار النضج النفسى، أكثر من كونها شعارات السخط والرفض، لأنها إنما تعنى مرحلة كاملة من النضج يستطيع الإنسان بها أن يختار دون خوف أو صراع معطل.. وبهذا يمكن أن تتضاءل الفجوة بين الأجيال ويصبح الصراع الذى ينشأ منذ الولادة موجهاً لبناء المستقبل وليس عائقاً للتطور.

(1) كتب هذا المقال عقب الثورات التى اجتاحت الدنيا وسميت ثورات الشباب ما بين مايو 1967 حتى أوائل سنة 1970 ثم أخذت تتشكل بأشكال متنوعة

الإنسان كروى بطبعه

الإنسان كروى بطبعه

الإنسان كروى بطبعةُ (1)

لابد مما ليس منه بد ..

لابد من الخوض فى المسألة الكروية من وجهة النظر النفسية وسواء رضى القلة الذين يتوهمون أنهم لا يهتمون بالكرة أم سخطوا، فالكرة أصبحت واقعاً فى حياتنا. وأصبحت تمثل ظاهرة لا يمكن إنكارها ولا إغفال آثارها وأخطارها، بل إن حياتنا أصبح فيها من الكرة – للأسف – ما يفوق اهتماماتنا بمشاكل كثيرة: جادة وخطيرة.

والناس كرويون – اعترفوا أم أنكروا – فهم أحد اثنين. كثرة تهتم بالكرة، وقلة تهتم “بعد الاهتمام” بالكرة.

وهكذا بطريقة ما “الكرة فى بيوتنا وفى نفوسنا”، وبالتالى فلهذا المقال مبرراته أرجو أن تكون له وجاهته.

* * *

لابد للإنسان أن ينتمى..

وهو منتم منذ كان – بإرادته حيناً وبالرغم منه أحياناً – فهو منتم إلى أسرة ثم مدرسة ثم عمل، وأسرة جديدة وأولاد… وهكذا، وهو منتم إلى ناد وإلى وطن وإلى حزب وإلى نقابة، وهو فى انتمائه هذا وذاك يكرر علاقاته الأولية مع أب وأم وإخوة وأخوات، ويحقق غاية سامية وهى مشاركة الإنسان للإنسان على طريق الحياة الغامض الشائك، وهو بهذا يرضى دافعاً أولياً عرف منذ عرف الإنسان، فهو يحس بالمجموع ويرغب فيه ويحتمى به، ولكنه فى نفس الوقت قد يرفضه، أو يخشى من ضياع فرديته فيه، فالحاجة للجماعة التى تشعره بذاته بطريقة ما، تهدد كيانه بالإحتواء الكامل حتى ليصير رقما أى رقم، وهذه الرهبة من الإندماج حتى الضياع. ومن تكرار الأسلوب حتى يصبح الإنسان واحداً من قطيع، أو خرتيتاً من خرانيت يوجين أونسكو، هذه الرهبة هى التى غذت الموجة الحديثة والثورة على أسلوب القطيع أو حياة الخراتيت – أو ما تصوروه كذلك – فنادوا بأهمية تأكيد فردية الإنسان إثباتاً لوجوده وتحقيقاً لكيانه.

ولكن رغم شعورهم بأن الناس خطر على وجودهم وكيانهم فالناس تدرك تماما أنهم لا يستطيعون العيش بدون ناس.

ونظر كثير منهم إلى ورائهم ساخطين على ما فرض عليهم من قوالب إجتماعية أو أفكار جماعية، واصبح لفظى “المنتمى” و”اللامنتمى” بدعة معاصرة تؤكد فى النهاية أهمية الجماعة للفرد: رفضاً أو قبولا، فحتى هؤلاء اللامنتمين على اختلاف نزعاتهم سيجدون أنفسهم – أو على الأقل سيراهم الناس – منتمين إلى بعضهم الآخر، فلا مفر.

وتشجيع الكرة ما هو إلا تعبير عن الانتماء ومظهر له.

فجمهور الكرة يشعر بهذا الدافع – دافع الانتماء – ويجده فى تشجيع ناد معين والتحمس له، وهو ٍإذ يفعل ذلك يختلط بناديه ومشجعيه ويصير ممثلا له متقمصاً لشخصيته، ويفرح بانتصاره لأنه يشعر أنه انتصار ذاتى فى النهاية:

فالذى يقول “بص شوف حماده بيعمل إيه”

إنما يعنى “بص شوف نادينا بيعمل إيه” أو “إحنا بنعمل إيه”

وبالتالى “بص شوف أنا باعمل إيه”

ولكن إذا تساءلنا كيف يجد الإنسان نفسه كرويا! لكان الرد متنوعا ومتوقفاً على عوامل كثيرة.

فقد تأتى المسأله بمحض الصدفة، ثم تتكرر، ثم تصبح الصدفة عادة، ثم تثبت العادة وترضى بعض نوازع النفس ورغباتها.

وقد تبدأ الحكاية بتشجيع “اللعبة الحلوة” ثم تنتهى بتشجيع “اللاعب الحلو”.

ومهما اختلفت البداية فإن النهاية هى الإنتماء والحماس والإثارة والتوتر ثم خفض التوتر أو المزيد منه.

* * *

أما لماذا يتحمس “زيد” لهذا النادى؟ ويتحمس “عمر” لذاك؟

ولماذا نجد أن نادياً محظوظاً بوفرة جمهوره والآخر يشكو قلة المشجعين رغم إمكانياته؟

فلكل سؤال جواب، أو احتمال جواب.

قد يكون التعصب لمحل الإقامة أو مسقط الرأس: فهو انتماء للوطن أصلا ثم للنادى تبعاً لذلك! مثل حال مشجعى “الاسماعيلى” أو “الإتحاد السكندرى” وقد يكون التعصب لرفاق المهنة مثل عمال الترسانة، أو رفاق السلاح مثل قوات الطيران.!

ولكن الذى لاشك فيه أن نجاح فاد فى كسب بطولات متتالية هو أكبر حافز على الانتماء إليه. فالمشجع فى هذه الحالة يضمن مكاسب نفسية ترضيه، ويصبح انتماؤه الى هذه المجموعة الكبيرة ذو فائدة مضمونة، فإن كسب النادى فهو لم يستند إلى حائط مائل، وإن أخفق، وخيب ظنه فهناك من يشاركه همه، وفى الحالة ما أكثرهم! فلو نظرنا مثلا إلى جمهور النادى “الأهلى” لوجدنا أن الأهلى قد حقق انتصارات متتالية على مر السنين جذبت له هذا الجمهور المخلص المتحمس، وما إن اهتزت نتائج هذا النادى الكبير فى السنين الأخيرة، حتى نقص هذا الاندفاع إيه وارتفعت أسهم أكبر ناد يليه، لاسيما لمن تعلم مشاهدة الكرة على كبر (تليفيزونياً فى الأغلب)، أو لمن تفتحت مداركهم على مكاسب هذا النادى التالى (الزمالك) لأن اسهمه كانت أرجح فى الفترة التى أبتدأوا يميزون فيها شخصياتهم، ويأتلفون فيها مع من على شاكلتهم، ويسمعون فيها عن الفوز، الذى يلصقونه بأنفسهم بمجرد انتمائهم إلى النادى الفائز.

ثم يأتى بعد ذلك عامل مهم هو حجم الجمهور ذاته، فإن المزيد يجذب المزيدن ومادام الإنتماء هو الهدف فليكن انتماء إلى اكبر المجاميع، وليدع الفرد ما يسرى على أغلب الناس يسرى عليه.

إلا أن ضخامة الجمهور قد تنفر مجموعة من الناس. أولئك الذين يحتجون على سياسة التبعية، ويرفضون الانسياق وراء أفكار المجاميع. هذه الفئة التى تمثل شخصيات تخشى على ذاتها من الضياع وسط المجموع، قد تجد مخرجاً بأن تصبح ضد المجموع، ويعدد “المحتج” لذلك مزاعم حقيقية أو متخيلة، ثم يسخط على النادى الأهلى مثلا لله فى لله – كما يتخيل ويقول – ثم تداخله روح التحدى، ولكنه لا يطيق الوقوف وحيداً فى هذا الموقف الساخط، حقيقة لقد حقق استقلاله ولكن موقفه الوحيد لا يحسد عليه، لذلك فهو لن يلبث أن يجد نفسه مؤتلفاً مع أى مجموعة مضادة: ربما كانت أكبر مجموعة تالية لتحقيق قوة التحدى فينتمى مثلا إلى نادى الزمالك، وربما كانت أقل مجموعة ليثبت ويؤكد مزيداً من المحافظة على كيانه من الأعداد الكبيرة فربما انتمى إلى الترسانة وهى أقل جمهوراً.

وهناك عوامل أخرى تحدد سبب الإنتماء وطبيعته، فعامل الأسرة كمجتمع صغير يوجه أفراده إلى بعض الاتجاهات. فالطفل الذى يتقمص شخص أبيه أو أخيه الأكبر لن يلبث أن يصبح مثله سواء كان مع المجاميع الكبيرة أو الصغيرة – ولكن العكس قد يحدث كنوع من التفاعل المضاد والثورة على السلطة – سلطة الأب أو سيطرة الأخ الأكبر، ويجد نفسه متحمساً للفريق المضاد.

وهناك عامل التمييز الطبقى لا سيما فى مجتمع لم يتخلص تماما من حب التميز أو الترفع، فهناك من يعبر عن تميزه بالقلة، وهناك من يفخر بالإنتماء إلى النادى الأقوى، وهو شئ يميز والسلام!

وقد يكون وراء التعصب حيل نفسية أهمها الإزاحة والإبدال، فالمثل الذى ذكرناه ما هو إلا إبدال مميز مكان طبقة اجتماعية مميزة.

وهناك أمثلة أخرى نقابلها كثيراً بين الناس، فكثيراً ما توجد عواطف لا يراد لها الظهور بطريقة صريحة وإلا هددت الاستقرار النفسى أو أخلت بالعلاقات الاجتماعية، من ذلك مثلا ما نراه فى بعض العلاقات الأسرية لا سيما عند الطبقة الوسطى – من حقد خفى أو تنافس فى المكسب أو الأولاد أو النجاح – أو غير ذلك مما لا يجد فرصة للتعبير عن حقيقته تعبيراً صريحا مباشراً، فيستبدل به التعصب لأحد النوادى المعادية لميول المنافس العايلى، ويصبح التحدى والتصارع بينهم على الكرة ستارا يخفون به حقيقة مشاعرهم ويزيحون بغضاءهم إلى هدف أكثر تقبلا.

وقد تتعدى هذه الإزاحة مجال الأسرة، فيجد بعض أصحاب المذاهب اليسارية التى ترفع من قدر العامل بدرجة خاصة تصل إلى الإيمان بدكتاتورية طبقته، نجدهم يزيحون عواطفهم إلى ناد من العمال (الترسانة مثلا) ويكون إبدال عمال الملعب بعمال المصنع والسياسة حيلة نفسية ترضيهم فى التعبير عن آرائهم ولو بصورة محورة.

 على أن هناك من يحاول أن يتهم التعصب للكرة بأنه بديل للحياة السياسية بأحزابها وصراعاتها، وهو أمر محتمل دائماً، وقد يلجأ إليه فى بعض الأحيان لملء فراغ الناس أو تحويل انتباهم، ولكنه ليس صحيحاً على إطلاقه، حيث أننا نجد التعصب ظاهرة غالبة فى بلاد بها من الأحزاب والحرية السياسية ما لا حدود له مثل انجلترا، ولكن الكرة هى الكرة فى كل مكان.

ومهما يكن من أ/ر فإن لمشاهدة الكرة هدفاً ومغذى، فهمى عملية إثارة للتوتر، وربما تفريغ له أو تحديد لموضوعه، وهذه الإثارة والتفريغ وتحديد الموضوع مفيدة إذا تمت فى حدود معينة، فالإنسان فى حاجة دائمة إلى التحرر من القيود وإلى التصرف الإنفصالى المنطلق. وإلى إعلان الحماس والمشاركة بأى صورة من الصور، وإلى الانطلاقوسط المجموع لا يفرق بينه وبينهم شئ. فهم يصيحون سوياً ويفرحون سوياً ويصمتون سوياً، وترتفع الحواجز بين الناس وتختلط مشاعرهم وأحاسيسهم وتعبر عن نفسها تلقائياً ودون حساب أو تردد.

ولكن إذا زاد الحماس حتى أعمى بصيرة الفرد وهدد علاقاته الإجتماعية وأسلمه إلى سلسلة من التوتر أشد وأعنف من انفراج القلق أثناء المباراة إذا حدث هذا، انقلبت فائدة الكرة إلى أضرار حقيقية وخطيرة، لا سيما أن هذا الاهتمام قد يغلب على الاهتمام بما هو أكثر حيوية وأشد إلزاما للفرد أو المجتمع، فلابد للانسان أن ينطلق بين الحين والحين، ولابد أن يعمل هو أيضا واجبه نحو نفسه ومجتمعه، ومثل كل ظاهرة وكل ضرورة إذا زادت فسدت وأفسدت.

ولو نظرنا إلى متعصب يشاهد الكرة لاستطعنا أن ندرك مدى ما تفعله العواطف بالتفكير والحكم على الأشياء فهو يتابع الكرة فى أرجل دون أخرى، وهو ينتبه إلى ألعاب ناديه أضعاف ما يرى ألعاب خصمه، ويختلط عليه الأمر دائماً لصالح من يشجعه، فيرى “الجول” “أوفسيد”، و “الأوت” “جولا” حسب مقتضى الحال، ويصدر أحكاما فورية وسريعة دون تردد أو مساءلة، وأحكامه تقع على اللاعبين والحكام والجمهور الآخر بنفس الحسم والإيمان، وقد يصل انفعاله إلى إطلاق نزعات عدوانية ربما تصل حد التشفى فى مصيبة إنسان يتألم، فهو يزف خصمه إلى خارج الملعب محمولا بعد إصابته، بأغنية “اتمخطرى يا حلوة يا زينة”  وهو موقف يشير إلى مدى انطلاق العواطف إلى أبعد الحدود حتى ولو كان انطلاقها غير إنسانى.

****

وبعـد ….

فلا شك أن الإغاق فى أى شئ مهما كان لازما مآله إلى الضرر، فقليل من الملح لازم للطعام، وكثير منه مفسد له.

ومهما يكن من فائدة تعود على الشخص من الحماس والانتماء إلا أن التوسط فى الانفعال هو خير الأمور.

وكما أن “منطقة الوسط” فى الملعب هى أهم المناطق، كذلك فإن “منطقة الوسط” فى الانفعال والحماس هى أكثر المناطق سواء وأقربها إلى الأمان.

(1) كتب هذا المقال سنة 1966 فى عز العز الكروى ثم عاد النشاط .. ثم توقف .. وسيعود لأن الإنسان كروى بطبعة

الأنانية الفضيلة

الأنانية الفضيلة

الأنانية الفضيلة

“والنفس كالطفل إن تتركه شب على

 حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم”

 كثر الحديث عن الحافز الشخصى ودوره  كدافع أساسى للسعى نحو الأسمى، وبالتالى لرفع مستوى الفرد، فالإنتاج، فالمجتمع جميعاً.

فمن قائل إنه الدافع الأوحد أم أنه الدافع الأول.

إلى مشكلك فى قيمته.

إلى ناكر له إطلاقاً.

إلى آخر ما قيل وما قد يقال.

ولابد أن للعلم عامة، وعلوم النفس خاصة رأى فى هذا المجال.

فالحافز الشخصى فردى فى جذوره وطبيعته، ولكى ندرك أبعاد هذا الموضوع البالغ الخطورة، علينا أن نتعمق داخل النفس الإنسانية لنعلم طبيعة دوافعها وحقيقة أطوارها.

” والأنانية” هى المعنى الحقيقى وراء التعبير المهذب “الحافز الشخصى” (ورغم أنى لم أجد أصلا عربياً ثابتاً لاستعمال هذا اللفظ بهذا المعنى، وأن لفظ “الأثرة” هو اللفظ الأصح فى هذا الموضع، إلا أنى فضلت استعمال هذا الخطأ الشائع فهو أيسر فهماً وأوضح وقعاً علاوة على ارتباطه بلفظ “أنا” ارتباطاً وثيقاً) والأنانية صفة تعارف الناس على أنها رذيلة ما بعدها رذيلة، وهم فى ذلك مصيبون طالما كان مفهوما هو ما تعارف الناس عليه، ولكن إذا أعدنا النظر مدققين فى ماهية هذا اللفظ ومراميه، لوجدناه فيه كثيراً من الفضيلة بل والواقعية حتى لتكاد هذه الصفة – التى تبدو بغيضة لأول وهلة – أن تصبغ كل سلوك إنسانى.

قالوا: وكيف كان ذلك؟

قيل: زعموا أن الأنانية أنانيتان .. الأولى هى أنانية “الطفل”، وهى التى تعارف الناس على أنها رذيلة بغيضة – فالطفل أنانى فى تفكيره يعتبر نفسه مركز الكون، وأن كل من فى هذا العالم مسخر لخدمته، مخلوق لإجابة مطالبه وتحقيق رفاهيته وهو يحب امتلاك ماله وما ليس له، فيعتبر كل شئ ملكه ما لم يؤخذ منه عنوة واقتداراً – وتمتد هذه النزعة إلى التملك حتى تشكل والديه (وأمه بوجه خاص) وتصل إلى درجة أن يحتويها (لا شعوريا) فى ذات نفسه وكأنها اصبحت جزءاً لا يتجزأ منه، والطفل يريد الشئ ونقيضه فى ذات الوقت، ولا يحب أن ينزل عن شئ مقابل آخر، فهو يريد النوم مثلا واللعب، والطفل يريد اللذة العاجلة، فلا يستطيع تأجيل إشباع رغباته مهما تعارضت مع رغبات الآخرين، والدوافع التى تحكمه فى المرتبة الأولى هى الدوافع الفطرية العضوية مثل دوافع الجوع والعطش، ثم الدوافع الفنسية والاجتماعية فى المرتبة التالية.

فهل هناك أنانية أخرى؟

يقولون إن اليافع – إذا نضج نضجاً نفسياُ سليما – تتحور أنانيته لتصبح نوعاً آخر، فالناضج يشعر تماماً بمكانه وسط المجموع، وبأهمية المجموع لاستكمال ذاته وتهيئة الجو لسعادته ورفاهيته. فمن أهم علامات النضج الفنسى – وهو غاية أمل الإنسان فرداً عادياً ومريباً ومعالجاً وقائدا – أن يواجه الإنسان الواقع ويدرك أبعاده، ويتقبله بغير استسلام، ثم يغيره – إذا دعا الأمر – بغير حقد ولا مغالاة خيالية – هذا الواقع الذى من أول معالمه أنه لا يمكن لإنسان ناضج أن يعيش منفصلا عن مجتمعه، لذلك كانت المشاركة الإجتماعية من مقومات النضج النفسى، ومن علامات الاستقرار العاطفى الذى يتصف بالقدرة على حب كل الناس مع الإهتمام الخاص بالأدنى فالأدنى حتى ينتهى هذا الإنجذاب العاطفى إلى قطاع البشر عامة، فأين الأنانية فى كل هذا؟

الحقيقة أن الفهم الناضج الواعى يشمل التفكير فى الذات وفى صالحها قبل كل شئ، فالناضج لا يستطيع أن يفضل صالحه على صالح الجماعة، لا لأنه بفضل الجماعة على ذاته، ولكن لأن خير الجماعة يعم عليه، وهو يحس – كما ذكرنا – بالقدرة على حب الناس جميعاً .. إذ أنه رغم ارتباطه بقلة من المجموع إلا أنه يدرك أن هذه القلة ليست سوى عينة للإشاع العاطفى ترمز إلى ما يمكن أن يمنحه له المجتمتع من فرص السعادة والطمأنينة، والذى نجب أن نذكره ونؤكده هو أن هذه المشاركة الاجتماعية هى استجابة لدوافع ذاتية أصيلة فى نفسه لابد أن تشبع مثل دافع الحب الذى يتطلب أن يحب الإنسان وأن يحب، ودوافع الانتماء التى تستلزم أن يكون الإنسان فرداً فى جماعة يشعر بشعورهم، ويشاركهم السراء والضراء.

فالأنانية الأولى أو الأنانية الرذيلة هى “أنا.. وبعدى الطوفان”.

والأنانية الثانية أو الأنانية الفضيلة هى ” فلا هطلت على ولا بأرضى … سحائب ليس تنتظم البلاد”.

لأن الفرد لايستطيع – إن كان ناضجاً – أن يحصل على سعادته دون مشاركة الآخرين، لأنه يحس أنه لا قيمة لحياة ينفرد فيها بالخير دون الناس، وأنه لا يمكن أن يحقق لذاته الهناء والرخاء فى مجتمع الجوع أو الخوف.

ونحب أيضا أن نوضح أن مفاهيم النضج النفسى لا تشمل المثالية مطلقاً، و أن حب الآخرين لا ينبع إلا من حب الذات، وأن المشاركة الإجتماعية لا تمثل إلا سعياً من الفرد لتحقيق طمأنينته بالطريقة الهادفة الواعية الدائمة، حيث يكون الفرد فرداً وفى نفس الوقت ممثلا للمجموع، وبمعنى آخر إننا إذ ندعو إلى مشاركة الآخرين وإلى التخلى عن بعض صفات الطفولة إنما نسلك سبيل النضج الطبيعى الذى ليس فيه ادعاه التضحية وإنكار الذات.

فأى إنكار للذات إذا كان الهدف هو ان يعيش الفرد وسط مجموعة سعيدة من البشر؟

وأى تضحية إذا كان فى راحة الآخرين وسعادتهم ما يبعث على المشاركة الوجداية لهذه السعادة وتلك الراحة؟

فالناضج لا يستطيع أن يسعد فعلا وحده، وجاره أو أخوه أو أى إنسان يعانى البؤس والقهر والتعاسة.

إذاً فالحافز الشخصى دافع أساسى فى كل أطوار النضج ولكن أشكاله تختلف باختلاف كل مرحلة وباختلاف صور الحياة الإجتماعية.

والتضحية، والإيثار .. وغيرها من الفضائل اللازمة، ليست سوى تصرفات طبيعية تصف مرحلة النضج الحقيقى وتحقق للفرد السعادة قبل أن يحققها للمجموع.

وفى كل الأحوال لا يوجد مجال لتصور فرد ما أنه مبعوث العناية آلهية لإنقاذ البشر دون أن يتضمن ذلك أنه فى إنقاذ البشر إنقاذ لذاته، والإنقاذ هنا لا يكون فقط إنقاذاً من واقع الحياة المر، وإنما يكون إنقاذاً من ثورة النفس الأبية الناضجة على ما لا يليق من مستوى معيشى أو اجتماعى أو مادى…، إذاً فالكلمات الرنانة التى نستعملها مثل التضحية والإيثار والتفانى، إن لم تستند إلى واقع اصيل وتخرج من النفس كطبيعة بشرية تهدف إلى سعادة الفرد فالجموع – وإن لم ندرك أنها وسيلة مشتركة لنحافظ على ا،فسنا وعلى نوعنا جميعاً .. إن لم يحدث ذلك بطريقة تربوية واعية ومنظمة وهادفة، أصبحت عرضة للاهتزاز أمام صعوبات الحياة – وأصبحت كلمات مرحلية تصلح للشاب المتحمس، ولا تصلح لليافع المجرب ..، بل إن الخوف كل الخوف أن تصبح مظهراً لالتواء داخلى، حيث يستغل فيه الآخرون باسم الفضلية، فى حين أنه يرجع أولا وأخيراً لدوافع لا يدركها حتى الفرد ذاته.

على أنه لا ينبغى أن يكون الحديث عن الأنانية “الفضيلة” قد سرق من “التضحية” و “الواجب” و المثالية” روعتها وفاعليتها ووقعها.

فإنه ليس انتقاصاً منها أنها تعود على الفرد بالسعادة قبل أن تعود على المجتمع بالخير .. ولكنه تثبيت لها وتعميق لمفهومها وتقريب بها إلى طبيعة الأشياء فتكون الفضيلة طبع الناضج .. وليس ادعاء اللمتوى.

ويكون الخير إذا خرجت بدافع ذاتى طبيعة ضمنت البقاء والاستمرار فارتباط التضحية مثلا بارضاء الذات فالمجموع أو إرضاء المجموع بما فيه الذات أكثر بقاء واستمراراً وفاعلية.

فالمضحى الذى يفهم أن تضحيته تلك سوف ترضى فيه نزعة الطموح وتهدئ من ثائرته وتبرر سخطه ثم تعود عليه أخيراً بالخير، فإن لم تعد عليه هو شخصياً عادت على ولده أو بنى جنسه .. هذا المضحى الذى يتبين أبعاد سلوكه وحوافزه، لا يلبث أن يتواضع فى طلب “العوض” من الذين ضحى من أجلهم، وسوف يكف عن المن بما بذل لأن حسابه خالص منذ قام بالتضحية سواء نجح أم لم ينجح، ذلك أن العمل فى حد ذاته كان له دافع ذاتى منذ البداية أثاره النضج والسخط على ماهو كائن مما لم يقبله على نفسه أو أبناء جنسه، وإن تحقيق هذا الدافع لتخفيف التوتر والقلق راحة شخصية قبل أى ئ، إذاً فالفضل فى إثارة هذا الدافع الشريف يرجع أولا وقبل كل شئ لدرجة النضج التى وصل إليها، والتى ألزمت أن تكون راحته فى سعادة الآخرين، والتى رجحت كفة الدوافع السامية على الدوافع الدنيا.

وإن كنا قد سلبنا هذه المعانى الوهج والرونق والشاعرية فقد أكسبناها قوة الفطرة السليمة ومنحناها مقومات الإستمرار على مستوى الواقع بغير اهتزاز ولا تلقب.

****

وقد تنشأ مشكلة جديدة وهى:

إذا ما تعارض – ولو ظاهرياً – الحافز الشخصى العاجل (الفردى) مع الحافز الشخصى الآجل (الإجتماعى)، بمعنى أنه إذا تعارضت الأنانية الرذيلة مع الأنانية الفضيلة فما هو الحل؟

هما ينشأ صراع بين:

” أنا الآن ولا شئ سواى”

و “الآخرين الآن .. ثم أنا واحد منهم”

هذا الصراع قد لا ينتهى بسهولة، بل وقد لا تتضح معالمه أبداً، وهذا أخطر، والذى يحدد صورة نهايته عاملان:

عامل النضج النفسى: الذى من علاماته القدرة على التأجيل ورجحان كفة دافع الإنتماء ومشاركة الآخرين على اللذة العاجلة، فإذا كان النضج النفسى كاملا انتصرت الأنانية الفضيلة وأحس الفرد أن صالحه فى صالح المجموع بل وإنه لا سبيل له إلى الإختيار.

والعامل الثانى الذى يحدد نهاية الصراع هو شكل المجتمع، فإذا أحس الفرد أن تأجيله لصالح ذاته العاجلة يتم فى مجتمع يقدر ذلك ويحيمه من سعار التنافس على المستويات الدنيا، ويؤمن مستقبله كفرد وكنوع، فإن الأنانية الفضيلة سترحج بغير تردد، فالذى يدفع الإنسان إلى النظر فى ذاته قبل أى شئ هو أمرين بالغى الأهمية وهما:

عدم الأمان  – وعدم الثقة

وهما فى النهاية واحد

فعدم الأمان على نفسه وإبنه وصحته ومستقبله.

وعدم الثقة فى القوانين والدوافع التى تحكمه من حيث ثباتها ووضوحها ومدى عدلها وموضوعيتها والقائمين على تنفيذها.

على أننا لا نستطيع أن نحمل الإنسان فى فترة ما من تطوره فوق ما يحتمل، فإن الإنسان مهما بلغ من نضج وضبط للعواطف تبقى فيه معالم الطفولة بدرجة كافية تعبث بقراراته وتشكك فى عواقب التأجيل والإيثار، وأول خطوات التغلب الهادئ على هذه الصعوبة هى إدراكها ثم تقبلها مرحلياً .. ثم الانتصار عليها بالمحاولة المستمرة فى وضع النهار.

****

بقيت كلمة عن الحافز الشخصى “الأدبى”.

فإن كانت الدوافع الفطرية – عضوية أم نفسية – لها أولويتها وأهميتها فى تحديد أهداف الإنسان، فإن هناك من الدوافع المتكسبة ما يحدد سلوك الإنسان ويشبع دوافعه كذلك مثل دوافع الاهتمامات والميول.

والجزاء الأدبى يرضى دافعا فطرياً هو دافع إثبات الذات، كما يرضى دوافع مكتسبة هى الميول والاهتمامات.

ولكن لا يمكن أن نتمادى فى تقدير قيمته حتى لا نحمل الأمور أكثر مما تحتمل، فإن للدوافع قيمة نسبية بالنسبة لبعضها، والدوافع الفطرية أكثر إلحاحاً وألزم إجابة عن الدوافع المكتسبة، إن عجزنا عن التوفيق بينها، والدافع الأدبى يمكن أن يرضى انفرادية الإنسان ويقرر ذاته، ما دام مقصوراً على قلة من الناس تشعرهم أهميته لأن التمييز انتقى منه إذاً فهو لن يرضى بطبيعته إلا فئة قليلة من المجتمع لأنه إذا انتشر “نيشان الإنتاح” مثلا بشكل مبالغ فيه أصبح مثله مثل “رباط العنق” يرتديه البعض دون الآخرين ليس إلا.

****

ماذا يعنى أن الأنانية الرذيلة هى أنانية الطفل، وهى إن لم يهذبها المجتمع انطلقت إلى سعار لا نهاية له، حتى ينسى الإنسان ذاته، ولا يكاد يتمتع بأهدافع ويصبح ترساً فى آلة، لا تتوقف إلا بنهاية الدورة .. نهاية الحياة، ونحن نجدها فى صورتها الفجة فى المجتمعات الانفرادية من الإقطاع إلى الرأسمالية المطلقة بغير حدود.

أما الأنانية الفضيلة فهى أنانية اليافع الناضج التى تعود على الفرد فالمجتمع بالخير والسعادة، أو هى تعود على المجتمع والفدر بالطمأنينة والأمان، فهى تشمل الفهم الواعى للمشاركة الاجتماعية والمشاركة العاطفية للآخرين، وهى تعمق معنى الفضيلة وتضمن الاستمرار لكل ما هو شريف.

والنفس الإنسانية طفل ما لم تنضج، ولن تنضج إلا بممارسة الكف والإحباط فى حدود معقولة، وهذا هو معنى الفطام، وهو المعنى القديم القائل:

والنفس كالطفل إن تتركه شب على             حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

والمجتمع السليم ينبغى أن يمارس هذه العملية كالأب الواعى الحازم الرحيم فى نفس الوقت .. فهو يهيئ للفرد الفرصة كى يفيق إلى نفسه ويدرك جوهر حياته، ويهيئ الفرصة أولا وقبل كل شئ للنضج النفسى السليم.

فالتضحية والإيثار بهذا المفهوم طبيعة فى الإنسان الناضج، وبما أنها طبع ثان فهى ترضى ذاته قبل غيره ولا مجال للمن بها، وتصويرها على غير صورتها.

ولن تزال الدنيا بخير ما فهمنا.

ولن يزال الإنسان هو الإنسان.

ينمو على ذاته … فينتصر على أجداده – ولكنه لا ينساهم.

مقدمة عن الحب.. والجنس

مقدمة عن الحب.. والجنس

مقدمة عن الحب .. والجنس

يعد تعريف الحب تعريفاً علمياً من أصعب الأمور، وقد يمكن أن نقول إن الحب هو “استجابة عاطفية مستمرة لمؤثر بذاته يبعث الرضا والسرور” ولكن هناك العديد من أشكال الرضا والسرور.

وعلى هذا الأساس فالحب بهذا التعريف يشمل حب الأسرة وحب الوالدين وحب الوطن وحب المثل، ولعلنا نقصر هذا الحديث على الحب الشائع بين الجنسين وما يحمله من اقتران بالجنس.

مراحل الحب

وكما هو الحال فى النمو فى أى مجال نفسى فإن الحب ينمو وستطور منذ ساعات الطفولة الأولى وحتى آخر العمر، وأثناء هذا النمو تختلف أشكاله وأنواعه وارتباطاته.

ففى بادئ الأمر يحب الطفل نفسه لأن ارتباطاته فى هذه المرحلة تكون متعلقة فى المقام الأول – بتحقيق ذاته الأولية، ولكن تحقيق هذه الاحتياطات فى تلك المرحلة إنما يتم عن طريق الوالدين ومن هنا يأتى التعلق الشديد بهما مع المبالغة الهائلة فى قدراتهم غير المحدودة على تحقيق احتياجاته وإرضاء دوافعه بغض النظر عما يأتى هو من أفعال مقبولة أو غير مقبولة.

والطفل فى مراحله الأولى لا يميز بين ذاته وذات والديه وخاصه أمه، فهو هى، وهة هو، ولكنه إذا اطمأن إلى الحب الدافئ الدائم، فإنه سرعان ما يتبين ذاته مستقلة عن الآخرين ثم يبدأ ممارسة عواطفه مع هؤلاء الآخرين كأشياء منفصلة عن ذاته، وتوجهه خبراته إلى كيفية حب بعض هؤلاء الآخرين وإلى جعلهم يحبونه بالتالى، وعلى قدر نجاح الطفل فى اجتياز هذه المرحلة على قدر اكتسابه إمكانيات الاستقلال فى مراحل نموه التالية، ذلك الإستقلال الإيجابى الذى يسمح له بممارسة عواطفه فى حرية وسهولة.

وهذا يعنى أن القدرة على الحب تستمد جذورها من الحصول عليه خالصاً دافئاً ثابتاً مطمئناً، وأن حب الآخرين إنما ينبع أساساً من حب الذات، وأنه ما لم يكن هناك ذات مستقلة فلن يكون هناك حب أصيل لأن الذات غير المكتملة أو غير الناضجة سوف تمارس الحب الطفيلى الذى لا يميز بينها وبين المحبوب كنفس .. وآخر، وإنما ستختلط الأشياء ببعضها ويصبح الإحتواء والتملك هما جوهر الحب فى حقيقة الأمر.

هذا الحب المتداخل على الدوام فى كتلة واحدة لا معالم لها وهو الذى يختلط فيه الحبيبين ولا يبقى من ذواتهم الخاصة شئ قائم بذاته، وهو فى الغزل الشائع والشعر كثير التواتر: “فما زلت إياها وإياى لم تزل، ولا فرق بل ذاتى بذاتى جئت”.

أو “أنا من أهوى ومن أهوى أنا، نحن روحان حللنا جسداً”

أو “أنا إنت .. وأنت أنا … الخ”

****

وعلى عكس ما قال فرويد من أن حب الذات يتناسب عكسياً مع حب الآخرين فإن الإتجاه الحديث الذى أكده فروم هو أن حب الذات هو أساس حب الآخرين (راجع الأنانية الفضيلة ص 162).

إن الإنسان الذى يستطيع أن يعطى ويأخذ الحب دون خوف أو تردد أو صراع لهو الإنسان الناضج السعيد، وهو الذى يرى الحب نوعا من التعلق بآخر عزيز قريب حميم، ولكنه دائم “آخر”، وهو يحاول أن ينمى هذه العلاقة وأن يعمل كل ما فى وسعه لإسعاد هذا الآخر ومن ثم لإسعاد ذاته.

ولكن أين تقع الوظيفة الجنسية من كل هذا؟

إن النضج الجنسى يصل قمة تطوره ونموه حين تكون العلاقة بين شخص من جنس ما  وآخر من الجنس الآخر مبنية على هذا التعاطف الدائم الحر، وعلى القدرة على الأخذ والعطاء بسهولة ويسر، وتكون هذه العلاقة فى تمام سلامتها حين يساعد الحب على تنمية القدرة على ما يمكن تسميته “بالإستقبال الإيجابى” الذى يعنى أن الشخص يسمح لشريكه أن يحبه بينما هو يمارس حبه فى ذات اللحظة .. وهذا يشمل ما إشرنا إليه من أن حب الآخرين ينبع من حب الذات كما أن حب الذات السليم إنما يتضمن حب الآخرين.

وإذا أخذت العلاقة الجنسية هذه الصورة الصحية فإنها تصبح – بحق – العامل البيولوجى الأصيل فى استمرار علاقة الحب الناضج وتنسيقها.

ويمكن القول أن قيمة هذا الحب المتكامل عاطفياً وبيولوجيا تتلخص فى أنها تعطى للذات إثباتا، كما تبعث الزهو والإعتزاز بالإضافة إلى ما تمنح من لذة حسية فى جو من الدفئ والحنان ينتهى فى قمته بالشعور بالإتحاد والاندماج، وبهذا تصبح هذه العلاقة كاملة تغذى بعضها بعضاً، أى أن الحب يعطى للجنس نجاحاً، والجنس يزيد الحب قوة وثباتاً.

المفاهيم الشائعة للحب:

إلا أن الفتى والفتاة وخاصة فى مرحلة البلوغ والمراهقة يسمعون عن الحب تناقضات لا حدود لها، ففى ظرف ما يكون الحب هو التفانى والتضحية والبذل والصمت عن بعد… حتى يصبح نوعاً من الخيال الذى يسحب من الذات مقوماتها الإيجابية ليغذيها فى عالم نظرى شاعرى غير محدد، وهذا النوع الخيالى يفيد فى تعريض الذات بعض حرمانها، كما أنه يجنبها إحتمالات الصد والإحباط، ولكنه خطير لأن الإنسان لا يستطيع التمادى فيه إلى غير حدود، ولأنه كلما طال التمادى فيه كلما كان إنهاؤه أو الإقامة منه نوع من الكوارث التى لا يمكن التنبؤ بمضاعفاتها.

وهناك مفهوم “الحب” على أنه العيب والحرام، الذى لا يصح ولا يكون ولا ينبغى، وإن كان هذا المفهوم شديد الشيوع فى الماضى إلا أنه قد خفت وطأته بعد دخول التليفزيون حجرات النوم واستسلام الوالدين لاجتماعات السهرة الإجبارية حوله، بنا تعرضه أو تفرضه من مناظر الحب والصد والوصال فى صور دافئة أو ساخنة.

إلا أن مفهوماً ثالثاً يطغى على الشباب والفتيات. وهو  نقيض الفمهوم الأول وهو يقول إن الحب لا يكون إلا بالارتباط الحسى مثلما يشاهدون أو يسمعون اويتخليون، وكثير منهم يعتبر ذلك نضجاً أو شطارة أو جرأة يفخر بها وكأنه حقق فتحاً فى عالم الرجولة أو الأنوثة، أو أنجز ثورة على المعتقدات القديمة، وهذا التصور ممسوخ خاطئ كذلك، فإنه كما أوضحنا لا يكون الاقتراب الحسى ذو فاعلية صحية إلا إذا كان فى إطار من النضج، والحب الكامل الذى يتم بين اثنين أتما مراحل تطورهما حتى أصبحا فى الطور الذى يعطى ويأخذ عن حرية واختيار سليمين، أما أن تصبح اللذة الحسية بديلا عن ممارسة جوهر الحب وهو العلاقة الإنسانية الغالية فهذا تشويه للإنسان وهبوط به إلى مستوى أقل من تطوره الذى حققه بعد ملايين السنين.

إذا فالحب ليس تضحية وتفانياً ولا هو لذة حسية ميكانيكية .. ولكنه صانع الإنسان منذ خروجه من بطن أمه إلى هذه الدنيا، وهو غايته والطاقة التى تسيره. ثم هو وسيلة سعادته وحقيقة حياته فى نفس الوقت.

فالإنسان الذى لا يحب، ما هو إلا آلة باردة لا تفترق عن العقل الإلكترونى فى شئ.

والإنسان الذى لا يحب ما هو إلا كمّ مهمل مثل متاع البيت.

لذلك فإن العناية بهذه العاطفة ومنذ لحظة الوجود لهو أولى الأمور دراسة، وأحقها بالجهد والصبر والرعاية حتى تنمو كما ينبغى.

والتربية عندنا تركز تماماً على نجابة الأبناء وتفوقهم فى دراستهم مثلا، ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إذا تصورنا والذين يفكران فى مجموع ابنهما فى الثانوية العامة وهم يزنانه عارياً بعد ولادته، مما يترتب عليه ما نعلم من نجابة فى الدراسة مع جفاف عاطفى مهيب، فعلى الوالدين أن يجعلا من أولى الأمور باهتمامهما أن يعلمان أولادهم الحب الأصيل الشامل. وهو تعليم يتم أساساً بالممارسة ويتوقف على مقدرتهم هم ذاتهم على ان يحب بعضهم الآخر، وأن يحبوا أنفسهم كما ينبغى، وأن يحبوا بالتالى أبناءهم فى جو من العطاء والتسامح يهيئ لهم فرصة الترعرع فى حب .. وبالتالى القدرة على أن يحبوا بلا خوف ولا صراع ولا شعور بالذنب.

الحب قبل الزواج

كل ما تقدم يشير إلى قواعد عامة أساسية تنبى عليها تنمية القدرة على الحب. ولكن ينبغى أن نهبط إلى دنيا الواقع لنواكب ركب الشباب من سن البلوغ إلى مرحلة الزواج. كيف يقيم عواطفه ويوجهها؟

كيف يحترم ذاته وفى نفس الوقت ينتصر على خيالة وحسه جميعاً؟ وكيف ينتظر؟

فى الحقيقة أنها مشاكل ليست سهلة بالمرة .. وأن أى حلول تفرض فى شكل نصائح ونواه لن تحل هذه التناقضات بشكل عملى وواقعى وعلمى فى آن واحد.

ولكن الشئ الواجب على الأسرة أن تنتبه إليه هو أن تكون الدوافع إلى الحب شيئاً آخر غير “الحرمان” و” الجوع العاطفى” إذ أن الحرمان العاطفى يخلق الجوع والعطش، إلى أن يصادف الشاب أو الفتاة من يهتم بهم ويقدرهم ويعطيهم مالم يجدوه فى أسرهم وبين ذويهم فيستجيبون لأول طارق استجابة قصوى وخطيرة كذلك، وهذا الحرمان قد ينشأ من اللحظة الأولى للولادة ويتسبب عن صور مختلفة من المعاملات قد لا يبدو فى ظاهرها الإهمال:

فهناك من الأمهات من يربى أولاده، بمنتهى الإخلاصث والنظام وتؤدى هذه الأم كل الواجبات كما هى مكتوبة أو معروفة، ولكن العاطفة الدافئة التى تعطى بغير حساب ودون توقف ودون تفكير تكون سجينة الأصول ولاذى “يصح” والذى “لا يجوز”، وبهذا ينشأ هذا الجهاز الإنسانى الجديد محكم النظام عظيم الإنتاج دون نبض عاطفى صادق، ينشأ محروماً جائعاً .. يبحث فى قراره نفسه عن من يشعره بكيانه العاطفى وليس بتركيبه العضوى أو العقلى فحسب، لذلك فهو يقع فى أى تجربة باندفاع وعمى يحملان كل المخاطر والمخاوف.

وهناك من الأمهات ما يغرق طفله بالحب إغراقا يحيطه من كل جانب حتى لا يسمح له بالتنفس مستقلا فى اى مرحلة مهما كبر، إن هذا الإغراق لا يسمح له بحال بأن يستقل عاطفياً فهو يستمر جزءا من أمه لا يتجزأ، وهو لا يعرف معنى الحب وإنما هو يعرف معنى الإندماج أو الاحتواء ليس إلا، وهو إذ يستشعر أى احتمال للانفصال عن أمه، أو إذ يواجه ضرورة الانفصال إنما يبحث عن بديل ينمحى فيه أو يحتويه، لأن أى انفصال او تهديد بالإنفصال يثير جوعاً فظيعاً إلى العواطف يجعله يلتهم المحبوب التهاماً يفنيه فيه أو يفنى هو فيه..

إذا فالحرمان من الحب منذ الطفولة سواء بالنظام أو بالإهمال أو بالإغراق. ينتج الجوع الشديد والملحّ الذى سرعان ما تضطرم فيه نار النضج البيولوجى لوظائف الجنس فى سن المرهقة .. ليعبر عنه بالتجارب المشوهة أو السطحية التى يعانى منها شبابنا فى هذه المرحلة الحرجة من النمو.

ماذا يعنى هذا؟

إنما نريد أن نقول إن الحب شئ طبيعى، وأن القدرة على الحب هى ظاهرة صحية لا شك فيها، وأن الحرمان منه والجوع إليه لهما جذورهما منذ الطفولة، وأن البلوغ يلهب هذا الحرمان ويعرض الشباب الاندفاع والخطأ.

فالأساس الصحى لممارسة الحب الصحى هو أسرة ناضجة تعطى ةتفهم وتسمح .. وتوجه.

ولكن بصراحة .. إذا وجدت هذه الأسرة .. هل تمنع وقوع الشباب فى تجارب الحب قبل الزواج بكل ما تمليه الغدد البيولوجية؟

إن الجو الأسرى الدافئ الهانئ لن يكبل الغدد الجنسية ولم يمنعها عن الإفراز، إذا ماذا..؟

نرجع إلى ما ذكرنا من أن الجنس فى حد ذاته ليس حباً، وإنما هو ظاهرة تأتى مبكرة، ولها تصريفها الطبيعى أو الصناعى حتى تتم لها فرصة مناسبة تتناسب مع المجتمع والدين والتطور العاطفى، وحتى يحين ذلك الحين لابد أن تكون الأسرة بكل صدر رحب وبكل فهم وبكل ثقة – هى المجال الأول للمناقشات وتبادل العواطف والفهم والتسامح والتوجيه، وليحدث كل شئ فى النور، ولتكن الأخطاء مجرد مجال للتوجيه ومزيد من النضج وليختفى الخوف والحرمان والجوع العاطفى من حياتنا..

إن الشباب يدخل أبواب الرجولة والبنات تكتمل أنوثتهن، فلنحترم ذلك ولنفتح صدورنا لهم ونحترم كل شئ فى حدود، حتى نسمح لهم باحترام أنفسهم.

الخوف: يحطم الإنسان صغيراً وكبيراً.

والحرمان والجوع: يدفعه إلى البحث عن مصدر أى مصدر، للعزاطف.

والجهل والتجاهل: هو الظلام ذاته، وفى الظالم يحدث كل شئ، وأى شئ .

وما دام الزمن يمضى .. فالأطفال يصبحون شباناً وشابات والغدد تفرز الجنس .. والجو الأسرى السليم هو الأمان .. وهو المتنفس الحقيقى، والحقل الطبيعى لنمو هذه املرحلة بأقل ما يمكن من مضاعفات.

الجنس قبل الزواج

فى دراسة أجراها كير كندال فى الولايات المتحدة الأمريكية للمقارنة بين الممارسة الجنسية قبل الزواج وهل تفيد فى التكيف الجنسى فى الزواج تبين إحصائيا أنه لا توجد علاقة بين هذا وذاك، إذا، فإن الوهم الشائع فى المجتمعات الغربية من أن يجرب الشباب بعضهم بعضاً قبل الزواج هو تبرير لواقه الوحدة التى يعاينها الشباب، والانفصال العاطفى بين أفراد الأسرة، والأنانية المطلقة التى يمارسها الوالدان متصورين أن مهمتهما تنتهى بمجرد أن يقول الفتى أو الفتاة “أنا حر .. أو انا حرة”.

وكما أشرنا فإن الحرية هى الاختيار الذى لا تحكمه دوافع لا شعورية، والاختيار بهذه الصورة لا يتم إلا فى ظروف النضج العاطفى والاستقلال الذات من الداخل وليس مجرد مظاهر الاستقلال.

إذا فالذى يفيد فى كل هذا هو النضج العاطفى للفتى أو الفتاة الذى يترتب عليه القدرة على الأخذ والعطاء سواء فى المجال الجنسى أو العاطفى.

أنواع الزواج

والزواج ثلاثة أنواع: زواج الحب والزواج المرتب، والزواج بالإكراه، وفى النوع الأول يتم الزواج بعد تعارف الشريكين وممارسة الحب بصورة ما، ثم يتفقان على الارتباط ثم يتزوجان، وفى النوع الثانى وهو الزواج الموفق أو المرتب يتم الارتباط بين الطرفين نتيجة لوسيط سواء خاطبة أو قريب أو صديق وتتم بموافقة الطرفين، أما النوع الثالث فهو الذى يتم بالرغم من رفض أحد الطرفين أو كليهما، ولكن لظروف اجتماعية أو إقتصادية يفرض الزواج فرضاً على أحدهما أو كليهما. وقد وجدت الإحصاءات أن الزواج بالإكراه هو أقلها فى احتمالات النجاح، أما زواج الحب فأنه لا يفترق كثيراً عن الزواج المرتب إن لم يكن أقل فى بعض النواحى.

ورغم أن هذه الحقائق تبدو مناقضة للشائع بين الشبان إلا أنها حقائق، وتفسيرها يمكن فى أن كلمة “الحب” تعنى معان كثيرة متنوعة مما سبق الإشارة إليها ..  منها الصحيح ومنها ما لا يعنى حباً أصلا بقدر ما يعنى حرماناً أو شهوة، ولو أننا قصرنا تعريف الحب على هذا النضج الذى يسمح بالاختيار والأخذ والعطاء دون خوف أو صراع، وأعدنا الدراسة لوجدنا أن النسب قد تغيرت.

فالذى يهم فى تكون أسرة ناجحة هو “القدرة على الحب” أكثر من “الوقوع فى الحب” أو “ممارسة الحب أو الجنس” وعلى الأسرة والشبان أن يدركوت ذلك ويسعوا إليه بإصرار وفهم .. وألا تكون صور المجتمع الغربى الذى يعانى أشد المعاناة من المغالاة فى التصورات، هى المثل الأأوحد الذى يفرض نفسه أما أعيننا، فإن هذا المجتمع ذاته يراجع نفسه وإن كان يبدو حتى الآن أنه لا يستطيع أن يتراجع.

هل المرض النفسى معد؟

هل المرض النفسى معد؟

هل المرض النفسى معد

تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد

بعدوى، فما أعدتنى الثؤباء

تعارف الناس عامة على أن العدوى فى سائر الأمراض هى انتقال المرض من العليل إلى السليم بواسطة الجراثيم وما شابه.

ولكن كيف يكون المرض النفسى معدياً؟ وهو لا ينقل بالجراثيم (إلا فى أقل القليل)؟ وإنما هو غالباً مظهر غير سوى للصراعات الداخلية وعدم التكيف الخارجى؟

كيف ينتقل الحزن أو الوهم أو الشك أو الضلال من المريض إلى السليم حتى يمكن القول بأن المرض النفسى قد يعدى – مثل سائر الأمراض؟

فى الحقيقة أنه بالنسبة للأشخاص المهيئين يمكن أن تكون العدوى بالأمراض النفسية أكثر احتمالا من أمراض عضوية كثيرة، بحيث يكون للانتباه للعلاج المبكر فائدة مزدوجة: شفاء المريض، ووقاية من حوله فى ذات الوقت. وقد عنينا أن ننص على لفظ الأشخاص المهيئين، وذلك لأن الناس يختلفون بالنسبة لاستعدادهم للاصابة بالمرض النفسى عن طريق العدوى بقدر اختلافهم لقابليتهم للاستهواء، ومدى ما يحملونه من أسباب مهيئة للمرض النفسى فى نفس الوقت.

فمن المعروف أن الإيحاء سهل بالنسبة للأشخاص ذوى الشخصية السهلة التى تتأثر بالغير وتحسب حسابهم، والتى تتقبل آراء الآخرين بسهولة ويسر، والتى لا تصبر على التمسك بالرأى طويلاً، وهذه كلها صفات غير مرذولة أساساً، ولكن المغالاة فيها قد توحى بما يسميه العامة “ضعف الشخصية” وهو أن يكون الإنسان تابعاً فى فكره وتصرفه جميعأً، ولكن هذه التبعية ليست رذيلة بصورة دائمة، بل إنها تكون أحياناً مشاكة – بشكل ما – فى عملية التكيف، فالإنسان دائماً: تابع حيناً ومتبوع حيناً آخر، ولكن التبعية المطقة، والإستهواء المبالغ فيه هو ما يمكن أن يستنكره الناس ويعتبرونه نقيصة يتبرأون منها، فمن قديم تفاخر الشعراء بعدم قابليتهم للاستهواء فى قول الشاعر العربى:

تثائب عمرو إذ تثاءب خالد      بعدوى، فما أعدتنى الثؤباء

إذاً، فالشخص العادى قد يكون مهيأ للتقليد والإيحاء، سواء كان هذا الذى يوحى به: حركة أم سلوكاً سوياً أم مرضياً، ومن المتعارف عليه كذلك أن الخلق السيئ يعدى كما أن الطبع الحميد يعدى، وقد شبهوا عدوى الأخلاق بالعدوى المرضية حرفياً.

واحذر مصاحبة اللئيم فإنها     تعدى كما يعدى السليم الأجرب

فإذا كان التثاؤب معدياً، والطبع اللئيم يعدى، فالمرض النفسى قد يعدى سواء بسواء، وهو معد فعلا ولكن.. للشخيص المهيأ فحسب.

ولنضرب أمثلة لهذه العدوى بادئين بمرض الإيحاء الشهير؟ الهستيريا: والهستيريا لا تعنى الجنون، ولا تعنى الهوس، أو “الوش” كما يحب الناس أن يطلقوا هذا اللفظ على أكثر من معنى، ولكنها تعنى مرضاً نفسياً (وليس عقلياً) تصدر فيه أعراض جسمية (كالنوبات أو فقد النطق) أو عقلية (كفقد الذاكرة) دون إرادة المريض بعيداً عن دائرة وعيه هرباً من مواجهة موقف قاس، وهذا المرض رغم بساطته وسهولة علاجه فى أغلب الأحيان إلا أنه حاز شهرة تاريخية وشعبية لا نظير لها، فمعظم القصص وروايات السينما التى تحكى إزدواج الشخصية وفقدان الذاكرة والشلل المؤقت مبنية على فكرة هذا المرض.. بغير مبرر يتناسب مع مركزه بين الأمراض.

ما علينا.. ليس هذا موضوعنا، ولكن كيف تُعدى الهستيريا؟

كثيراً ما نشاهد نوبات الإغماء الهستيرى لا تصيب أخت المريضة فحسب ولكنها ق تصيب جارتها أو صديقتها أو خادمتها على حد سواء.. ويتم هذا من خلال المعاشرة التى أوحت إلى الشخصية المعنية – دون وعى أو قصد – بهذا النوع من الهرب المرضى، لا سيما بعد أن لاحظت ما توليه الأسرة والمحيطين بالمريضة الأولى من الرعاية والاهتمام أثناء النوبة، وما تحققه هذه النوبة من حل سهل أمام صعاب الحياة.

وفى أوقات الذعر العام قد يصاب أكثر من شخص بنفس أعراض الهستيريا، كأن يفقد أثنان أو ثلاثة أو أكثر القدرة على الكلام، وتبدأ الظاهرة عادة بأن واحدا يفقد النطق ثم يعدى الآخرين، وقد روى أن قرية بأكملها أصابها البكم الهستيرى، وأخرى أصيب أهلها بالضحك الهستيرى.

وفى خلال حرب يونيو الأخيرة شاهدنا عدوى الهستيريا بين المحاربين فى ساحة القتال وأكثر فى قاعات المستشفى، فما أن يتوقف ذراع أحدهم من الشللل الهستيرى ويراه الأشخاص المهيئين وقد أعفاه مرضه من مواجهة الموقف الصعب، حتى ينتشر هذا العارض، وانتشاره لا يعنى الإدعاء – وإن كان هذا محتمل – ولكن يعنى ظهور العرض دون قصد المريض وبعيداً عن دائرة وعيه، وفى قاعات المستشفى شاهدنا مريضاً يعاوده البكم فور تقرير خروجه من المستشفى خوفاً من مواجهة المجتمع الأوسع أو العودة إلى ميدان القتال، وسرعان ما تنتشر موجة البكم بين الآخرين، إذا ما أجل خروجه لأن معنى ذلك أن العرض حقق غايته.

وتتم كل هذه الإصابات بواسطة الإيحاء الجماعى الذى يحرك الجماهير سوياً فى اتجاه بذاته دون ترو أو اقتناع. وإنما بمجرد الاستهواء والتقليد.

ومن هنا كانت ضرورة التدخل السريع وعزل المريض فوراً.

ولا تقتصر العدوى على مرض الهستيريا، وإنما اخترناه فى أول الحديث حيث أعراض واضحة المعالم، ومريضه عاده سهل الاستهواء ذو شخصية من الصنف الذى يتصف بالرغبة فى التقليد وسهولة الاقتناع إلى غير ذلك مما ذكرنا.

ولكن العدوى تلاحظ فى سائر أنواع العصاب، ولكن بدرجة أقل فالقلق لا شك يعدى، فإن معاشر المريض القلق الذى يراه دائماً (موهوما) من مجهول، مصراً على أنه خائف دون سب، غير مستقر على حال. هذا المعاشر قد يستنكر المرض وأعراضه بادئ الأمر، ولكنه لن يلبث أن يحس بذات الشعور إن كان مهيئاً له، وخاصة إذا استمرت عشرته للمريض مدة طويلة.

****

فإذا انتقلنا إلى اضطرابات العاطفة الصريحة مثل الاكتئاب والهوس فإننا نجد أن الحزن يعدى بشكل لا يختلف فيه إثنان – والعامة يدركون هذه الحقيقة إدراكاً واضحاً سليما، فيقال عن ذى الشخصية الكئيبة أنه “.. رجل نكدى قعدته تجيب لهم” ونرى هذه المشاركة فى المآتم حتى ولم يعن المشارك أمر الميت، إلا أن جو الحزن قد يذكر المشيعين بهمومهم الشخصية، لذلك كانت الإجابة عن التساؤل عن سب “حرارة الجنازة” بأن “كل يبكى على حاله” دليل على أن الهم يجلب الهم، ثم يبحث كل إنسان على ما يبرر به حزنه، فيتذكر أسوأ ذكرياته يجترها ليفسر ما هو فيه.

وفى الطب النفسى تصل مشاركة المكتئب انفعاله درجة يستفاد منها حتى فى التشخيص، لأن العدوى تصل إلى الطبيب النفسى شخصياً، فكثيراً ما يقابل الطبيب النفسى مريضاً لا تكاد تظهر على وجهه علامات حزن واضح إلا أنه ساكن لا يبين، ويحتار الطبيب هل هذا التعبير على وجهه “اكتئاب” أم تبلد شعور”، وعليه أن يخرج من هذه الحيرة بالنظر فى شعوره هو نحو المريض، فإن كان يشاركه حزنه فيحزن معه “لا إشفاقاً عليه” فإن تشخيص الاكتئاب هو الأصح والأقرب احتمالا – أما أن عجز عن هذه المشاركة – على شرط أن يكون الطبيب سليما – اعتبر تعبير وجه المريض هو “التبلد” وكان التشخيص إلى الفصام (الشزوفرانيا) أقرب. ويجب أن نميز هنا بين الشفقة، وهى العطف على المريض كائناً ما كان تشخيص حالته، وبين المشاركة الوجدانية وهى الشعور بنفس شعور المريض، وهذا الموقف التشخيص ما هو إلا استفادة من العدوى الطفيفة التى انتقلت من مريض الاكتئاب إلى الطبيب.

وكذلك الحال بالنسبة للوثة المرح: ففى الهوس الخفيف مثلا ينتقل المرح من المريض إلى الطبيب فيشعر أن مريضه خفيف الظل رغم ما قد يبديه من خروج عن اللياقة أو عدوان طفيف، فى حين لا ينتقل إليه شعور المريض الفصامى ذو الضحكة الصفراء غير ذات المعنى.

****

وننتقل بعد ذلك إلى اضطراب الفكر، وهل يعدى مثل ما تعدى العاطفة، فى الحقيقة أن الفكر لا يمكن فصله عن العواطف الحاملة له – حتى الشاذ منه – فهو يمكن أن ينتقل من المريض إلى السليم، ويتم هذا الانتقال خلال جسر العاطفة، إلا أنه فى النهاية يصبغ تفكير السليم بنفس محتواه وشذوذه، ولنضرب لذلك مثلا من أمثلة اضطراب الفكر وهو ضلال الشك: فالضلال اعتقاد وهمى خاطئ لا ينبع من الواقع ولا يمكن تصحيحه بالمنطق السليم، فإذا اعتقد مريض ما بأن زوجته تخونه، فإن والدته – مثلا – نتيجة لحبها الشديد لابنها، واستبعادها أن يكون متخيلا (رغم وثوقها من خلق زوجته) قد تعدى بهذه الضلالات ذاتها، حتى أننا شاهدنا مريضاً بهذا الاعتقاد وقد شفى بتناول العقاقير والعلاجات الخاصة بحالته، شاهدناه وقد تخلص من الفكرة الضالة واستنكرها تماماً حتى استغرب كيف وردت على ذهنه فى يوم من الأيام.. إلا أن والدته استمرت على هذا الضلال حتى عولجت وشفيت بدورها، فانتقال الضلال من الإبن إلى الأم – رغم اعتماده على الارتباط العاطفى بينهما – لم ينته بانتهاء مرض الابن إذ أنه أصبح مرضاً خاصاً بالأم شخصياً.

وقد ينتشر الضلال بصورة جماعية وقد يكون ما حدث فى ألمانيا النازية نوعا من ذلك، إذ بدأ مع وجود الأسباب القيصرية اليهودية والتاريخية المهيئة – بلوثة مرض الضلال الذى أصاب “هتلر” حينذاك بكل محتويات المرض من ضلالات الشك والعظمة التى بدت لأول وهلة مرتبطة منظمة، ثم استمرت طوال سنين عديدة، وانتقلت هذه الضلالات إلى المهيئين من الشعب لا سيما الشباب المراهق، وهى السن المناسبة لهذا النوع من الأعراض والأمراض.

ولكن الذى يبرر أن يجعل ضلالات العظمة مقبولة فى حدود الطبيعى هو انتشارها فى شعب بأكمله، والضلالات المنظمة سواء كانت لفرد أو لشعب تتفكك وتفقد اتساقها بالفشل ومرور الزمن.

****

على أن هناك من المشاركة فى المرض لا يعتبر عدوى بالمعنى المفهوم وإنما يمكن تسميته تقاسم المرض وذلك أن مرضاً واحداً يتقاسمه شخصين اثنين متصلين عاطفياً أشد الاتصال مثل أم وابنها أو زوج وزوجته أو أختين تقيمان معاً دون شريك ثالث، وهنا يقوم أحد الشخصين بدور الشخص الطاغى فى حين يقوم الآخر بدور التابع المستسلم فى الشكوى، فإذا عولج وتحسن أو هم بالاستقلال انهار الشخص الطاغى وحاول أن يحول دون استكمال العلاج، وفى حالة استحالة ذلك تظهر عليه الأعراض صريحة، وعادة ما تكون أعراض الشخص المستسلم من نوع الاكتئاب وأعراض الطاغى من نوع الشك والضلال، وقد يعجب القارئ بصفة مبدئية من هذا التشابك الغريب الذى يبدو مستبعداً لأول وهلة، ولكن التلاشى العاطفى بين اثنين حتى يصبحا نفساً واحدة فى جسدين شائع أكثر مما يتصوره العقل بل أكثر مما تصوره قصص الحب والغرام، وكثير من هذه القصص والأغانى تتحدث عق التفانى فى المحبوب والإندماج به والإنعدام فيه أو “الموت فيه” وكلها تعبر عن طبيعى هذه العلاقة المعقدة والتى ظاهرها فيه الحب وباطنها من قبيل المرض.

****

وبعد..

فهل معنى أن المرض النفسى معد، أننا ندعو إلى مزيد من النفور من المرضى النفسيين أكثر مما نعانى الآن؟

وهل تزيد هذه الحقائق من التمادى فى الخجل من الإصابة بالمرض النفسى وإخفائه كأنه وصمة أصابت الفرد أو أصابت الأسرة؟

لا وإطلاقاً لا…

فالأشخاص الأقوياء ذوو الشخصية المتماسكة لا يعديهم المرض النفسى، على أن عدوى المرض النفسى خليق بأن يدفع بالمريض ومن يعنون به إلى الإسراع بالعلاج لصالحه وصالح معاشريه لا سيما المرتبطين به عاطفياً، والذين هم فى سن حرجة مثل الأطفال والمراهقين والمسنين، وإن تخصيص احتمال العدوى “للمهيئين” فحسب تدعو إلى الاهتمام بتنشئة الأطفال والشباب، حتى نوفر لهم الفهم والاستقلال وقاية لهم باكتمال تكوين شخصياتهم الناضجة الصلبة.

على أن التهيؤ للمرض يعنى فيما يعنى الاستعداد الوراثى، فإن أشد الناس عرضة للعدوى هم أفراد أسرة المريض.

وهذا يجرنا إلى سؤال آخر:

هل المرض النفسى وراثى؟

هل المرض النفسى وراثى؟

هل المرض النفسى وراثى؟

هل المرض النفسى وراثى؟

إن هذا السؤال الذى يخطر على بال كل مريض، وكل قريب لمريض، وكل قادم على الارتباط بأى منهما لهو أولى الأسئلة بالإجابة المحددة الواضحة.

وهو سؤال له حجمه العلمى كذلك، فإن الصراع حوله بين المدارس المختلفة مازال على أشده، فالمدارس التى ترجع أسباب الأمراض النفسية وطبيعتها إلى أصل عضوى تتخذ حقيقة ظهور نفس المرض عند أكثر من فرد فى الأسرة الواحدة، يتخذونها ذريعة للتدليل على أن المرض النفسى عضوى تماماً، فى حين أن المدارس النفسية التحليلية تحاول أن تنفى ذلك تماماً وتعزو ظهور المرض فى الأسرة الواحدة إلى أن المريض يسئ تربية الجيل التالى فيظهر المرض..، وهكذا تمتد الخلافات بلا حل ظاهر.

وفى الحقيقة أن الدراسات المقارنة ترجح الاتجاه الأول بصورة عامة، ولن ينبغى أن يكون هناك توضيح، وتصحيح.

فمثلا يمكن القول إنه لا توجد أسرة، بالبعد العريض، تخلو من وجود مرض نفسى أو عقلى بالمفهوم الشامل – وعلى ذلك، فالناس كلهم عرضة للمرض النفسى.

كذلك، فإنه لا يوجد حتم فى وراثة المرض النفسى إلا فى حالات عضوية نادرة ندرة عظيمة مثل شلل هانتنجتون الرعاش المصاحب بالعته.

إلا أن دراسة التوائم المتماثلة تشير إلى أنه فى حوالى 75% من الحالات النفسية (والعقلية) التى تصيب أحد التوأمين، يصاب الثانى بنفس الحالة، وتقريباً فى نفس السن وربما بنفس الأعراض.

ما معنى كل هذا؟

إذا استثنينا ضعف العقل الوراثى الذى له تفسيرات متنوعة ومتعددة، واستثنينا الأمراض العقلية التى تنشأ نتيجة مباشرة لالتهاب أو إصابة أو ورم، وركزنا على الأمراض العقلية والنفسية الوظيفية التى تؤكد الدراسات أهمية العامل الوراثى فيها، فإننا يمكن ان نوضح بعض الغموض حول هذه المسألة.

إن الذى ينقل الصفات الوراثية هى الجينات، التى هى بالتالى تركيب بروتينى معقد فى الخلية، واختلاف كل منها عن الآخر هو اختلاف كيميائى – وربما فيزيائى دقيق، وهى تتأثر بالمؤثرات الخارجية بطرق مختلفة.

وفى حالة الأمراض النفسية، فلابد أن هذه التجينات (المورثات) التى تنتقل من جيل إلى جيل مرتبة ترتيباً يهيئ لسلوك مرضى معين، ولكن هذا السلوك يمكن أن يظهر إذا غذته البيئة وهيأت لظهوره، ثم زاد الضغط حتى ترسب المرض وأعلنت مظاهره.

ولكن اصحاب مدارس التحليل النفسى، وخاصة الاتجاه الحديث يؤكدون أهمية ارتباط التربية بالتهيئة للمرض النفسى ويقولون إن افتقار الطفل فى الشهور الأولى للأمان فى علاقته بأمه يهيئ لمرض الفصام أو التشكك وأن رغبته العدوانية تجاهها مع كبتها قد يهيئ لمرض الاكتئاب وغير ذلك من مواقف يرجعون إليها أصل الأمراض ويفسرون بها معظم الأعراض.

كيف يمكن التوفيق بين هذا وذاك؟ أين الحقيقة؟

لعل الحقيقة فى أن الوراثة كانت فى الأصل تأثير بيئى متصل على مر الأجيال… ولو قبلنا ذلك التفسير – وهناك مايبرره من أراء وأبحاث لا مارك، وهربرت سبنسر، ووود جونس معارضين فى ذلك رأى فيسمان بثبات الوراثة – فإن التقارب والتفاعل بين المتناقضات – يجعل الصورة أكثر إشراقاً.

ولنضرب مثلا تاريخياً يوضح ذلك:

إذا ذهب إنسان أبيض وعاش فى خط الاستواء مع زوجته البيضاء، فإن جلده سرعان ما سيميل إلى السمرة، ولكنه سنجب أولاداً بيضاً تمام البياض. ولكنهم بالتالى سرعان ما سيصبحون أكثر سمرة بعدت التعرض المستمر للشمس، فاذا أنجب هؤلاء الأبناء فإن ذريتهم ستصبح أكثر وأكثر سمرة وهكذا على مر الأجيال نجد أن الآباء سمر، والأبناء سود.. وتتغير الجينات بهذا التأثير البيئى، بدليل أنه إذا ذهب هؤلاء الأحفاد، أو أحفاد الأحفاد، إلى بلاد الشمال فإنهم ينجبون أولاداً سمراً أو سوداً رغم غياب الشمس الطويل وهذا المثل يوضح ما نعنيه من أن الوراثة ما هى إلا تأثير بيئة مستمر، تميز فى تكوين الجينات.. فأصبح يورث من جيل لجيل وهذا هو الرأى الأرجح فى نظريات الوراثة.

فإذا كان الأمر كذلك فى لون البشرةن فلا بد أن يكون كذلك فى طريقة السلوك.

والمرض النفسى هو طريقة للسلوكن والاستعداد له موجود فى تركيب المخ.. وموروث عبر الأجيال، وبالتالى فإن التربية الأولى تهيئ لما هو موجود وتنميه، فتشترك بذلك البيئة فى تكوين وتحوير ما هو قائم من ميول معينة فى الجهاز العصبى المركزى، ثم تجئ ظروف الحياة وضغوطها ليظهر هذا الاستعداد فى صورة سلوك مرضى معين، كما أن نفس الاستعداد قد يؤدى إلى تطور ثورى معين.

ولنضرب مثلا لوراثة استعداد لسلوك معين.. كان تفاعلا بيئياً فى أول الأمر:

إن الإنسان الأول حين كان يدافع طوال ليله ونهاره عن وجوده وكيانه ضد أبناء جنسه وضد العالم الخارجى بوجه عام، كانت تصرفاته كلها خوف وترقب، وكان لسان حاله يقول: الناس من حولى تريد مهاجمتى، تريد أن تسحقنى، تتربص لى، إن لم أهاجمهم قتلونى، النظرات تلاحقنى.. إلى آخر.

هذا الموقف الحذر المتحفز الذى تفسره ظروف حياته البدائية، وصراعه نحو البقاء، غير أن نفس هذا التصرف الآن لو حدث لإنسان متحضر ليس فى حياته ما يبرر ظن السوء فإننا نسميه مريضاً… فما الذى حدث؟

إن تكرار ذلك الموقف الحذر المهاجم على مر الآجيال والسنين جعل الإنسان الاول ينظم جهازه العصبى فى مرحلة ما من تاريخه بطريقة ترجح الشر فى العالم الخارجى وتستجيب لأى مؤثر بحذر وعدوانية، ثم ينتقل هذا النظام المعين فى الجهاز العصبى إلى أجيال لاحقة يمكن تحت ضغط ظروف معينة أن تتخذ هذا الموقف الحذر، حتى لو كان الإنسان فى مرحلة تطور لا تتطلبه.. بل تعتبره شذوذاً أو مرضاً.

إذاً، فإن ترتيب الجينات فى مرحلة معينة للتطور كان نتيجة سلوك طبيعى للحفاظ على الجنس والذات، وتغير الظروف وإعادة ترتيب الجهاز العصبى على مر الأجيال – نتيجة لهذه الظروف المتغيرة لن يقضى على الترتيب السابق للتطور فى الحال، ولكنه سوف يبطل مفعوله مستقلا إذ لم تعد للانسان به حاجة وسيدخله فى الكل الجديد، وهنا يصبح إنسان اليوم حاملا – ولكن بصورة كامنة ومضبوطة – لاستعدادات وميول سابقة تحددها الجينات الموروثة.

ولنا بعد ذلك أن نتصور أن قبائل بأسرها وعشائر، مرت بظروف بيئية جعلت هذا التنظيم فى الجهاز العصبى أقوى وأثبت وبالتالى جعلت سلالتها أكثر حذراً وعدوانية، فى حين أن غيرها مال إلى سلوك آخر.. ثم تفرعت القبائل والعشائر إلى أسر تحمل درجات متباينة من أنواع مختلفة من السلوك الكامن.

إذاًن فيمكن الفرض أن الوراثة فى الأمراض النفسية ما هى إلا “سلوك كامن” نتج عن ترتيب معين للجينات فى الجهاز العصبى نتيجة لظروف التطور فى الأغلب.

وإذا كان الأمر كذلك. وهو فى نظرى كذلك – فلابد أننا نعيش إشراقة أمل جديدة، ومسئولية خطيرة فى نفس الوقت فلن يقف تطور الإنسان على مر الأجيالن وبذلك يصبح امتدادنا فى الأجيال، وتفاؤلنا بالمستقبل معيناً له على بذل الجهد الجاد المستمر نحو حياة أرحب وأكثر إنسانية بل نحو نوع أرقى، إذ أن سلوك اليوم هو جينات المستقبل.

* * *

وهكذا، يحدث التصالح بين تأثير البيئة والوراثة، وتصبح الوراثة بيئة منقولة عبر المورثات، والبيئة وراثة محتملة..

وبهذا، يخفف إخواننا علماء التحليل النفسى من التأكيد على تأثير مراحل معينة للتثبيت أثناء الطفولة، وعلى نوع معين من العلاقات ينشأ عن طريق ارتباط الطفل بأمه فى الشهور الأولى، فرغم الأهمية القصوى لفرضهم هذا إلا أنه لا يمكن بحال أن يفسر كل الاضطرابات دون الأخذ فى الاعتبار استعداد معين لسلوك معين نتيجة لتركيب معين بالجهاز العصبى، ولكن الذى يحدث أن هذا الاستعداد أو ذاك تنميه طريقة السلوك والتربية منذ الأشهر الأولى، وإلى وقت ظهور المرض، كما أن العوامل المرسبة أو المهيرة (التى يظهر على أثرها المرض مباشرة) تثير هذا السلوك الكامن فيظهر المرض.

* * *

وإنى إذ أقدم فكرة هذا التصالح بين الوراثة والبيئة فى أسباب الأمراض النفسية من زواية التطور أحب أن أشير إلى حقيقة مشرقة وسط هذا الضباب، وهو أنه ثبت أن بعض أقارب المرضى النفسيين متميزون بشكل أو بآخر فى مجال أو أكثر من مجالات التحصيل العلمى أو الخلق الفنى. مما قد يشير إلى أن الوراثة، فى الذهان الوظيفى، قد لا تكون للمرض ذاته ولكن لنوع من الطاقة يمكن توجيهه للأحسن.. وتنبع هذه الفكرة مثل سابقتها من مفهوم التطور.

فالوراثة لها أهمية بالغة فى الاستعداد للمرض النفسى.. ولكنها ليست حتما مرعباً.

والبيئة تتحكم فى ظهور المرض، وكذا فى توقيته، ولكنها ليست وحدها المسئولة.

والبيئة والوراثة لا يمكن فصل تأثيرهما لا فى الفرد الواحد، ولا على مدى الأجيال.

ولسوف ننتصر على مخلفات التطور، وينبض الإنسان بالصحة الإيجابية.. ولن يقتصر أملنا على التحكم فى طارئ المرض لفرد بذاته، ولكنها الصحة، سوف توجه الوراثة إلى الانتصار على الإنسان الحالى حتى بعد ملايين السنين.

وها نحن نبدأ.. أو نواصل البداية.

ولسوف نصل.

وحتى ذلك الحين، دعونا نرى إنسان المستقبل أسعد وأرقى واكثر سمواً..

أو على الأقل لا تحرمونا من الأمل.. حتى نجد معنى للحياة.

الغربة والغرابة فى المرض النفسى

الغربة والغرابة فى المرض النفسى

الغربة والغرابة فى المرض النفسى

“أنا.. لست أنا”

“أنا غريب”

“لا أحد يفهمنى. لا أحد يحس بى”

“الناس غير الناس والدنيا ليست هى”

“أنا.. من أنا؟”

“الأشياء لم تعد لها معناها القديم”

“أنا.. أين أنا؟ .. كم أنا؟”

*****

هذا قليل من كثير مما نسمعه من مرضى النفس.. فضلا عما نراه. ونحسه من غربة، وغرابة، وعزلة قاسية. قاسية جميعها.

ولن يزال المرض النفسى دنيا هائلة مهولة، ولا عجب فإنه دنيا الإنسان فى عنف صراعه مع الصحة والحياة ضد المرض والفناء.

والمرض النفسى له وضع خاص بين الأمراض لأن الحدود بين السواء والمرض حدوداً غامضة متداخلة؟ ففى الأمراض الجسيمة نجد نموذجاً محدداً للأوصاف الطبيعية للعضو وبذلك يمكن أن نقارن بينه وبين حالة المرض الطارئة، فنحن نعرف انتظام دقات القلب مثلا، ولو سمع الطبيب آلاف القلوب الطبيعية لوجدها متماثلة تماما، وبالتالى لكان من السهل عليه أن يميز الدقات غير الطبيعية فى القلب المريض، ولكن فى المرض النفسى لا نجد سلوكا نموذجياً للقياس، وهذه مشكلة المشاكل.

وأهم علامات المرض النفسى هى غرابة الإنسان عن سابق عهده

أما غرابة المريض عن نفسه، فهى شعور المريض ذاته بشذوذه عن نفسه وعن الناس، فيحس أنه غريب عمن حوله، غريب عن واقعه وأحياناً غريب عن نفسه، وقد يدرك المريض هذا الشعر ويتحدث عنه صراحة، وقد يمارسه ويتصرف على أساسه مباشرة.

ويحدث هذا الشعور بوجه خاص فى مرضين شهيرين هما الاكتئاب والفصام. أما فى الاكتئاب فإن الشعور بالغربة يأتى نتيجة لتغير النظرة إلى الذات والحياة؟ إذ تظلم الدنيا وتسود الوجوه وتضيق النفوس، ويصبح الناس عديمى الخير، ولا تعنى الألفاظ إلا ما تحمله من تأويل سئ، ويختلط ظلام الدنيا بظلام العقل. ويمحى الامل ويتعثر الفكر ويتسكع فى طرق مسدودة وينسج المرض خيوطه اللزجة حول الفهم والتصرف والإدراك ويدور المريض حول نفسه ويعيش حياته فى ضياع قاس، ويحس أنه ليس مثل الناس:

“الناس يجرون وراء الحياة هو لا يجد لها طعما.

الناس يضحكون – ربما بلاهة وغباء – الأمر الذى يطيب لهم أن يسمونه صحة وعقلا – وهو فى هم مقيم.

الناس يفكرون فى الغد. وهو لا غد له.

الناس يبنون، وهو لا يرى إلا خراب الديار.

هو غريب عنهم”.

وهو يشعر بالغربة حتى عن ذاته فلا يكاد يتعرف على معالمه السابقة، وهو يتساءل كيف كان يعيش قبلا، أهو إنسان آخر غريب أمره، ضيق فكره، محدود أفقه؟

هل الناس غير الناس لانه هوغير ما كان..؟

أم الناس هم الذين تغيروا؟

بل إن الشعور بالغربة قد يحدوه إلى أن يتخلص من هذا الموقف الشاذ كلية، فيضع حداً لحياته ويتركها للذين يعرفونها ويخدعون فيها.

هذا هو المريض الإكتئابى، نجد غربته نتيجة للحزن المقيم الذى حل عليه وغيره وبدله.

أما الغربة الأصيلة الأساسية فى المرض النفسى فهى ما يصيب المريض الذى يسمونه الفصامى فى إختلاف تفكيره عن الناس وفى عزلته، فهو يفكر بطريقة خاصة وفريده. أفكاره تائهة غامضة، ولكنه غموض ندركه نحن أكثر مما يحس به هو، فقد يعنى شيئاً ما مميزاً فى ذات نفسه، ولكنه لا يستطيع إظهاره فى ألفاظ مفيدة، فكلامه ليس كلاماً مثل الكلام، ولكنه رموز لمعان أخرى، وهنا تنشأ صعوبة التعبير، والفهم، لأن الغير – بما فيهم الطبيب – يجد صعوبة فى إدراك مراميه فرغم أن الألفاظ هى الألفاظ إلا أن المعانى غير المعانى، لذلك فإنه كثيراُ ما يبدأ الحديث مع المريض الفصامى حديثاً عادياً سلساً، ولكن سرعان ما يكتشف الطبيب أنه يسير فى طريق والمريض يبتعد فى طريق آخر، ذلك لأن الكلام واحد والمعانى عند الأثنين مختلفة. وهنا تأتى خطورة اللغة اللفظية كوسيلة للتفاهم فى كل الأحوال، ومن هنا يحدث كثيراً أن يوصف تفكير المريض الفصامى بأنه “شبه فلسفى” لأنه يبدو لأول وهلة عميقاً غامضاً. ولكنه بالاستمرار والربط بين المقدمات والتوالى يثبت أنه فلسفة ظاهرية على حد فهمنا لها، وعلى حد قدرته على التعبير عنها، وقد تصل الرمزية فى تفكير المريض الفصامى درجة عامة شاملة، ولا تقتصر على الألفاظ، ولكن تتعداها إلى معانى الأشياء التى تفيد غير معانيها العامة، وترمز إلى معان خاصة جداً، لا يفهمها إلا المريض بطريقته الخاصة جداً.

وإذا ضاعت وسيلة التفاهم مع المريض ضاعت المشاركة العاطفية وبدا المريض متبلد الشعور فاقد الإحساس، وفى الحقيقة أن شعوره ينسحب وهذا الانسحاب هو السبب فى التغير الغريب، والبعد الآخرين، فقد يبتسم ابتسامة لا معنى لها بالنسبة لنا ولكنها قد تعنى الكثير لديه، ولكن الغربة، والوحدة فالعزلة والغموض تفصله عنا تماما.

هذه الغربة، هى التى تصور الواقع غير الواقع فلا يعود يفى باحتياجات المريض النفسية، وحين يعجز الواقع عن الوفاء بالحاجات الأساسية يصبح غير ذى معنى فعلا فينعزل المريض عنه، بل ويخلق لنفسه واقعاً فى دنيا خياله يعيش بلغته الخاصة ويحصل فيه على راحته ومتعته بطريقته الخاصة، ومن هنا تحدث العزلة والانطواء، ثم الخيال المريض بما فيه من هلاوس يتصورها، ويرى ويسمع مخيلات تمثل قمة الغربة، إذ أنها تمثل واقعه الجديد الخاص جداً.

هذه الغربة هى مشكلة المشاكل للمريض النفسى، فلابد للإنسان أن يفهم وأن يجد من يفهمه، ولكى يتم التفاهم لابد من لغة، ولكن اللغة تفقد وظيفتها إذا كانت معانى الالفاظ مختلفة بين السامع والمتحدث، وهنا يصعب الاتصال مع المريض – كما قلنا – ويزيد التباعد فتزيد العزلة وتزيد الغربة وتنشأ حلقة مفرغة تسحبه من الواقع رويداً رويداً .. إلى صقيع حياة بلا آخرين ويعطى المريض العلاج: عقاراً أو ترفيها أو كل ذلك معاً، ولكن يظل الفهم والتفاهم والتفهيم لازمين للمريض حتى يعود للواقع.

والطبيب النفسى عليه واجب أساسى وخطير فى مثل هذه الحالات بالإضافة إلى ما يصف من عقار أو ما ينصح من عمل. وهو أن يفهم مريضه بالصبر والإحساس العميق والحب والقدرة على العطاء، بل إن المداواة، ومواصلة الجهد وبذل الوقت فى الاستماع واليقظة لن تلبث أن تصل إلى أعماق هذا الإنسان المريض لتحل رموزه، ولن نلبث أن نجد طريقاً إلى عالمه، وهذا أمر بالغ الصعوبة لا يحذقه الطبيب إلا بعد الممارسة المتأنية الجادة، والمران الطويل الصبور، واللغة بين الطبيب والمريض فى هذه الحال ستكون نوعاً من “الفهم العاطفى” إن صح هذا التعبير، وهو يعنى خليطاً من المشاركة الوجدانية العميقة واحترام الشذوذ المؤقت، مع الإحساس بالأمل الأكيد فى غد أسعد، فإذا نجح الطبيب – بطريقة ما – أن يكون مترجماً للمريض أثناء رحلة عودته إلى دنيا الصحة ولغة الواقع، فإنه يفهمه ويترجم له ويأخذ بيده طوال فترة مرضه. فيكون النافذة التى يطل منها على العالم، ثم يكون المعبر الذى يعبر عليه إلى عالم الألفة والحياة الواقعية العادية.. أو المميزة فى بعض نواحيها، إذا فعل كل ذلك فقد قام بمهمة الطبيب فعلا.

ولكن..

إن الإحساس بالغربة ليس مرضاً أو خللا فى كل حال، بل قد يكون ولادة ثورة أو أصالة فكر أو مشروع إبداع فليس ما يفعله أغلب الناس هو الصواب، ولا الاستسلام لقوانينه وقيوده هو النضج.

وسيظل الشرف غريباً فى دنيا النفاق

والشجاعة غريبة فى دنيا الحق

والبذل غريباً فى دنيا الذاتية المطلقة والطمع

وسيظل ما فى الامكان أبدع وأروع دائماً مما كان، وسيغير الانسان – فى كل أوان – واقع تاريخه المر ليصنعه بكل ما يحمل من أمانة الشرف، وجمال الخلق، وإيجابية الصحة، رائعاً مشرقاً متجدداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *