الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ..عن “المصداقية” بالاتفاق

..عن “المصداقية” بالاتفاق

   “يوميا” الإنسان والتطور

    12-11-2007

..عن “المصداقية” بالاتفاق

تحدثنا أمس عن المصداقية عامة، تمهيدا للحديث عن المصداقية بالاتفاق consensual validity  وهو حديث أصعب، وأخطر، لكن يبدو أنه أهم.

الفكرة الأساسية هى أن الفرض، أو الرأى، أو الموقف، يكون حقيقى وصادق (أى تتحقق مصداقيته) إذا اتفَقَ على صحته أكثر من واحد (بالإضافة إلى صاحبه).

هى مسألة أصعب لأن تعبير “اتفق على صحته” يصعب تقييمه، كما أن صفات ومواصفات المتفقين يصعب تحديدها أكثر

وهى مسألة  أخطر لأنها قد تفتح الباب لتصديق آراء وأفكار قد تكون خاطئة، وقد تكون سلبية، وقد تكون ضارة، ثم نعتد بمصداقيتها لمجرد الاتفاق عليها

وهى مسألة أهم لأن كثيرا من أحداث التاريخ، بل واستمرار التطور، وربما بقاء الأنواع قد تم بنوع خاص من الاتفاق الذى سمح بهذا البقاء أن يستمر ويتطور.

إذن الذى نقصده بالاتفاق هنا ليس مجرد “إبداء الرأى بالموافقة” أو بتسجيل الأصوات أنْ نَعَمْ!، وإنما يعنى الاتفاق هنا كلا من: الاتفاق بالمشاركة، الاتفاق بالمواكبة، الاتفاق بالتكافل، الاتفاق بالرأى غير المعلن، الاتفاق بالرأى المعلن.

طبعا، سوف لا أتناول كل هذه التصنيفات معا فى يومية واحدة،

بداية شخصية

أشرت أول أمس أن البحث فى مكتبتى عن مواد مثيرة لكتابة هذه اليومية جعلنى  أكتشف أن “…مواضيع ونظريات وآراء” أكون شخصيا قد وصلت فيها مؤخرا إلى فرض أو تصور أو نظرية تصورت أنها جديدة وأصيلة، أكتشف أنها قديمة، وأن هناك من سبقنى إليها بأروع وأدق مما اكتشفُتُه أنا بينى وبين نفسى مؤخرا، فأخجل من جهلى، وأحمد الله أننى لم أسارع بنشر أفكارى هذه حتى لا تبدو أنها سرقة بشكل أو بآخر، ثم أعود أفخر أننى وصلت بنفسى إلى ما سبق أن وصل إليه هؤلاء الرواد الثقاة، يتكرر ذلك معى حتى اخترعت ما أسميته “المصداقية بالاتفاق “الطولى“، أو “التاريخى Consensual Validity  Longitudinal بمعنى أن إعادة اكتشاف نفس النظرية ولو بعد عشرات أو مئات السنين هو فى حد ذاته نوع من إثبات مصداقيتها

قيل وكيف كان ذلك؟

 هذا هو ما يحتاج هنا إلى أيضاح

متون هيرميس

مثلا: وأنا أجتهد فى قراءة الموت بداخلى، وحولى، ثم ناقدا بالذات لحرافيش محفوظ، وقبلها أفيال فتحى غانم، ثم فى (كتاب الموت والوجود الذى أشرت إليه منذ أيام يومية 7-11-2007) ثم أثناء مناقشاتى مع أصدقاء وصديقات، خطر ببالى فرض ما عن الموت وعلاقة الوعى الخاص (الوعى الفردى/الوعى الذاتى) بالوعى الكونى، بالمطلق إلى وجه الله عز وجل، جاءنى فرض يقول: “إن الموت قد يكون، أو يشمل، انتقال الوعى الخاص إلى الوعى الكونى إليه سبحانه وتعالى”، مع اختلاف نوع النقلة سهولةً وصعوبةْ، اتساقاً ونشازَا، ألماً وتناغماً ..إلخ، وإذا بى أكتشف – وأنا أبحث عن مواد لهذه اليومية- أن نفس الرأى ورد فى”متون هيرميس”، وكان الذى نبهنى إلى ذلك صديق سمع منى هذا الرأى، مما جعل صديقا آخر يهدينى نص هذه المتون فأعيد اكتشافها الآن فى مكتبتى. كل هذا لا يعنى بالضرورة أن فرضى هذا، أو متون هيرميس (هو هو) هو صحيح فى ذاته لمجرد وجود هذا الاتفاق، ولكن التساؤل الذى جاءنى يقول: كيف يصل العقل البشرى/الوعى البشرى مفصولا بآلاف السنين إلى نفس الفكرة بنفس التفاصيل؟

هذه واحدة، وهى خبرة شخصية محدودة.

نظرية فى الانفعالات

ثم تذكرت نظرية الانفعالات المسماة بـاسم جيمس-لانج، (وهى النظرية التى تقول بسبق التفاعل الجسدى – خاصة الأتونومى – للانفعال العاطفى المصاحب)، وقد كنت قد حسبت لأول وهلة أن هناك واحداً اسمه جيمس لانج هو صاحب هذه النظرية، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا الشرطة بين الاسمين؟ لكننى حين قرأت التفاصيل عرفت أنهما عالمان لا عالم واحد، وأن جيمس هو أمريكى، فى حين أن لانج دانيماركى، وأن أحدهما اكتشف النظرية ونشرها سنة 1884 والآخر اكتشفها أيضا سنة 1885، وأنه لمّا صَعُبَ التحقق بشكل كامل من أيهما أسبق، وخاصة مع اعتبار وقت الاكتشاف بالنسبة لوقت النشر، انتهى الأمر إلى أن تكتب النظرية باسمهما معا، وأن تلحق السنتان بعد اسمهمها هكذا: نظرية جيمس-لانج 1884-1885.  هذان العالمان وصلا إلى نفس الفكرة – النظرية، بالصدفة برغم التباعد المكانى بينهما، وصلا إليهما فى نفس السنة تقريبا، وقد أدى اتفاقهما إلى دعم النظرية لفترة من الزمن قبل أن تلقى نقدا قاسيا أعتقد أنه ينبغى أن يُراجع الآن، بعد اكتشاف العلم المعرفى إسهام الجسد ليس فقط فى برمجة العواطف وإنما أيضا فى التفكير.

 نظرية التطور وأصل الأنواع

اتفاق نبيل آخر تم حين تواكب اكتشاف تشارلز داروين نظريته فى أصل الأنواع، بعد رحلة دامت عشرين عاما وبعد عودته إلى انجلترا وقبيل أن ينشرها، تواكب فى نفس الوقت تقريبا مع اكتشاف ألفريد والاس (الذى كان فى الهند آنذاك على ما أذكر) لنفس النظرية ولكن خلال بضعة أيام أو أسابيع من الفكر المنظم والحدْس الفائق.

 الجميل فى هذه القصة هو تلك الصداقة التى نشأت بين الاثنين على اختلاف وضعهما الاجتماعى والطبقى والمالى، وعلى اختلاف تخصصهما،  وبرغم احتمال التنافس على أحقية السبق بينهما، ومن مظاهر نبل هذه الصداقة موقف داروين الذى أصر أن يقدم والاس باعتباره شريكا فى النظرية إذْ راح يعترف بفضله طول الوقت، وبدوره راح والاس يحرص على أن يسمى النظرية “بالداروينية”. والاس أيضا هو الذى أطلق على داروين صفة “نيوتن التاريخ الطبيعى”.

 ليس هذا هو المهم فيما نحن بصدده، إن غاية ما أريد التركيز عليه هو أن نفس الفكرة (النظرية) تولدت فى نفس الوقت عند اثنين بعيدين عن بعضهما البعض قبل ان يتصادقا، إننى أريد أن اقتطف من فريريك بندز الذى أوضح تلك العلاقة النبيلة والأمينة بين الاثنين تعقيبه فيما يتعلق بالمصداقية بالاتفاق على الوجه التالى”…بالنسبة لى (بندز)  يبدو أن ولادة نفس النظرية بواسطة شخصين مختلفين فى نفس الوقت يزيد من احتمال أن كلا منهما قد استخلص حقيقة لها مصداقيتها ،..إنه من المستبعد أن يصل باحثان مختلفان وبعيدان عن بعضهما البعض إلى نفس النظرية، إن لم يكن ثَمَّ دليل فى الطبيعة على أنها صحيحة

هذا هو ما عنيته – فى العلم – بالمصداقية بالاتفاق،  سواء الاتفاق الآنى (العرضى) ظهور نظريتان فى وقت متقارب جدا، أم الاتفاق الطولى، إعادة اكتشاف نفس النظرية بعد زمن طويل بواسطة آخرين لم تصل إلى علمهم أن نفس النظرية قد سبق اكتشافها”

تساؤلات صعبة

أتوقف هنا لأغامر وأضع عدة تساؤلات (قد تولّد فروضا) تقول

1-    هل يوجد ما يمكن أن يسمى العقل البشرى الجمعى (أو الوعى المعرفى الجماعى) القادر على “الحمل” بمشروع معرفٍة ما، كأنه رحم الكون البشرى، ليلدها من خلال بعض الأفراد بعد أن تكتمل مدة الحمل؟ وهل هذا هو ما يفسر التزامن فى ظهور مثل هذه النظريات معا فى مكانين مختلفين، وفى نفس الوقت تقريبا؟

2-    هل يمكن أن يظل هذا الرحم الجمعى المعرفى حاملاً لمشاريع نفس الأجنة، مع اختلاف فترات الحمل، فتولد النظريات من خلال الأفراد فى أحقاب مخلتفة كلما أتيحت لها الفرصة؟

3-    يا ترى ماذا فعلت الفرص التكنولوجية التواصلية الأحدث فى هذا العقل الجمعى (الوعى الجماعى المبدع)؟ هل زادت من فرص نشاطه معا، ومن ثم من فرص أن “يحمل” بالأفكار الجديدة أفرادا أكثر فأكثر، حتى من الأفراد العاديين فتكون فرص ولادة ما ينفع الناس أكثر فأكثر؟ أم أنها أفسدت تناغم هذا الوعى المعرفى الجمعى (العقل البشرى الجماعى) بالتركيز حتى الإغراق بتواصل رمزى لفظىّ ملاحق طول الوقت؟

4-    هل توجد علاقة بين احتمالات تكوين الأفكار والنظريات الأصيلة المتجددة فى رحم هذا العقل الجمعى، ثم ولادتها فى أزمان متقاربة (أو إعادة ولادتها فى أزمان متباعدة) من خلال بعض الأفراد المتميزين عادة، وبين نظرية “المثل” لأفلاطون (أذكر أن احدهم – ربما أليكسيس كاريل- قال إنه يشك أنه عبر التاريخ لم يفهم جمهورية أفلاطون أكثر من “دستة” من البشر، وأنا أصدقه)

5-    هل يمكن أن يطمئننا ذلك إلى أن الكون، بهذا التركيب، يحمل مقومات حفظ الحياة، بفضل الله، فتُنْقذ البشرية ضمنا، فى مواجهة كل هذا العبث القاتل الذى تمارسه قوى الانقراض التدميرية الانتحارية الزاحفة من أعلى معظم الوقت؟

وأسئلة أخرى كثيرة، لا أستطيع، أو لا أريد، الإفصاح عنها

اعتذار (نصف نصف)

ولكن ما جدوى كل ذلك فى هذه اليومية؟

لست أدرى

لابد أن لها جدوى،

وإلا ما كتبتها هنا الآن.

الوجه السلبى

ثم إنى سوف أؤجل الحديث عن الوجه السلبى لما أسميته “المصداقية بالاتفاق” التى لابد وأن تكون سلبية، بل وضارة وخطرة حين يكون الاتفاق زائفا، أى بفعل فاعل، أى بتأثير مغرض أو أعمى، يشوه الطبيعة البشرية كما خلقها الله. فنحن نعرف – مثلا- عبثية الديمقراطية المزيفة التى يتبرمج بها مجموعة من الناس فيتفقون على تولية أسوأ من فيهم عليهم،

كما نعرف الإعلام الغاسل لأمخاخ البشر حتى يتفقوا على هلاكهم، لصالح هلاك الأثرى فالأثرى!! من خلال عماه الانتحارى،

وأيضا لا يخفى علينا غباء الاتفاق على استهلاك ما لا لزوم له لمجرد الاتفاق على أنه له لزم جدا بفضل الإعلانات،

كل هذا جدير بأن يقلل من غلوائنا وحماسنا لما يسمى المصداقية بالاتفاق “المصنوع”.

وفى العلاج الجمعى

فى خبرتى فى العلاج الجمعى، أثناء الجلسة النشطة، التى تستغرق90 دقيقة أسبوعيا، وتتكون من مجموعة من 8-10 أفراد غير المعالجين، يحدث التالى: يُطرح رأىٌ ما، أو يعلن أحد المرضى موقفا ما، أو يبدو على المريض، أو المعالج تعبير جسدى، أو يلوح فى عين أحدنا قولٌ ما، ونحن فى المجموعة لا نتناقش، وإنما نعايش ما نقول بكل اللغات(!!)، لا يوجد: إِثْبتْ لِىَ واثبت لَكْ، لا يوجد “بأمارة، وعشان، وبما إن…”،

 إذن ما ذا يوجد؟

 نروح نعمّق هذا التعبير أو نعيش هذا الرأى ، ونعرضه على بعضنا البعض، فيصل إلى البعض ولا يصل إلى آخرين، وقد يصل معكوسا إلى بعضنا، فندرك عكسه، ثم نعيش الاحتمال ونقيضه، ونشارك فى القبول والرفض، وننتهى باتفاق نسبى (طبعا ليس بأغلبية الآراء، وإنما بتحريك رأى جَمْعِىُّ يُحْضَرُ – دون إعلان مباشر – وسط المجموعة  ضامًّا نَشِطا) ثم نأخذ ما اتفقنا عليه، ليس قضية مسلمة، فنعيد اختباره، ونرى نتائجه على صاحبه، ثم على المجموعة، ونواصل مسيرة النمو

أعرف أعرف،

وصلنى اعتراضك عزيزى القارئ/الزائر

لتأخذها نكتة إن شئت

لكنها “مصداقية باتفاق المجموعة” على شىء مشترك

على أن “شيئا” يتم من خلاله النمو فالشفاء

وتظهر نتائجه باضطراد

هل هكذا تمّ التطور؟

ربما هذا هو ما حدث بين الأحياء على مدى التاريخ الحيوى،

 فبإعادة النظر فى قوانين ومسار البقاء، انتبه العلماء فالناس إلى أن مسألة البقاء للأقوى ليست هى القاعدة الأولى والأخيرة، وإنما البقاء – أيضا وقبلا – “للأقدر تكافلا”، مع أفراد نوعه، ومع بقية الأنواع.

وأحسب أن اتفاق الأحياء (الباقية) على أن البقاء ممكن ومستمر، قد أُعلنت مصداقيته لنا نحن البشر، من خلال أننا مازلنا نحيا بين كل هذه الأحياء، مع أننا  – مع جميع الأحياء الباقية – لا نمثل إلا واحداً فى الألف من كل الأحياء عبر التاريخ، والباقى 99.9 % انقرضت.

فأين نضع صراعات الإنسان المعاصر بين كل ذلك؟

وأى “اتفاق” هو الذى يسود الآن،

 الاتفاق المصَّنع من خارج الطبيعة البشرية لصالح هلاك الانتحاريين الأثرياء العمى، ونحن معهم؟

 أم الاتفاق التكافلى الذى يثبت مصداقية أننا “يمكن أن نعيش معاً”؟

هيا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *