الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة التحرير / نجيب محفوظ يهنئنا بالعيد

نجيب محفوظ يهنئنا بالعيد

 جريدة التحرير

27-8-2011

تعتعة التحرير

نجيب محفوظ يهنئنا بالعيد

منذ أربع وثلاثين أسبوعا وأنا أقوم –فى موقعى- بقراءة استلهامية نقدية لما خطه نجيب محفوظ  فى “كراسات التدريب” بعد الحادث: أكثر من خمسمائة صفحة، احتفظت بها بكل حرص، وسلمتها للصديق الأستاذ الدكتور جابر عصفور، مقرر لجنة الحفاظ على تراثه، الذى سمح بنسخة منها لأتم هذه الدراسة،  وقد أرسلت لهذه الصحيفة الغراء قراءتى للصفحة 33 مع صورة من خط يد محفوظ شخصيا أملا فى أن تنشرها لتلحقها هذه المعايدة، إلا أن صعوبات فنية حالت دون نشر خط يده !! مع وعد بإعادة المحاولة، فقررت أن أجرب أن أقدم  هذهالمعايدة دون صورة، آمـِلا فى  حل الصعوبة لاحقا.

كتب نجيب محفوظ فى الصفحة 34 من الكراسة الأولى من كراسات التدريب بتاريخ  30 رمضان  سنة  1415 هجرية (ليلة العيد) ما نقلناه كما يلى:

بسم الله الرحمن الرحيم

نجيب‏ ‏محفوظ

عيد‏ بأية‏ ‏حال‏ ‏عدت‏ ‏يا‏ ‏عيد

يا‏ ‏ليلة‏ ‏العيد‏ أ‏نستينى

وجددت‏ ‏الأمل‏ ‏فينا

نجيب‏ ‏محفوظ

كل‏ ‏عام‏ ‏وأنتم‏ ‏بخير

نجيب‏ ‏محفوظ

2 /3/ 1995

القراءة:

نبدأ بالمتنبى، وقد سبق أن اشرت إلى إعجاب شيخنا بهذا الشاعر الفحل، وعدم مسايرتى له فى هذا الإعجاب برغم احتفائى بشعره وتحفظى على علاقته بسيف الدولة، هذا البيت هو استهلال  “دالية” المتنبى، وهى من أروع هجائيات الشعر العربى :

عيدٌ بأيةِ حالٍ عدت يا عيد’ …………… بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد’

وكما اعتدت فى قراءتى هذه فإنى أعتبر ما ظهر على السطح فى التدريب هو قمة جبل وعى تحرك فى عمق وجدانه، فأبحث عن بقية الجبل وأسمح لنفسى بالتداعى،والانتقاء، وهذا المقال مجرد عينة للمنهج:

   أنظر كيف تصور المتنبى أن الأسى حين يشتد يصل إلى “اللامبالاة” أو “البلادة”.

أصخرةٌ أنا ؟ ما لى لا تحركنى …………… هذى المُدام ولا هذى الأغاريد’

أو حين يصف كيف  يتقزز الموت من نتن جثة فاسدٍ حتى بعد موته.

ما يقبِض الموت’ نفساً من نفوسِهِمو’ …………… إلا و فى يَدِهِ مِن نتنها عود’

أو حين يصبح السيد عبداً والعبد سيداً.

صار الخَصِيّ’ إمامَ الآبقينَ بها …………… فالحـر مستعبدٌ و العبد’ معبود’

نامتْ نواطير’ مِصرٍ عن ثعالبِها …………… فقد بَشِمْنَ و ما تفنى العناقيد’

(بَشِمْ من الطعام أكثر منه حتى أتخم)

هل يذكرك أى من هذا بحالنا بشكل ما،  لم أكن قد قرأت هذه القصيدة قبلا، وبرغم دقة صقلها لم أحبها، فقد وصلتنى منها عنصرية بشعة ضد السود، وكأن السواد فى حد ذاته سبة وعار، وحتى معايرته كافور، بأنه خصىّ، لا تليق، فهو لا ذنب له  فى ذلك بل ذنب من فعل به ذلك، رفضتُها وشعرت بأن هذه القسوة هى الوجه الآخر لتدلههه الذليل فى حب سيف الدولة، وكلا الموقفين مرفوض عندى مهما بلغ شعره من قوة وفحولة.

 عذرا يا شيخى العزيز، وكأننا نكمل نقاشنا مختلفين.

وقد أجاب شاعر معاصر – لم أعثر على اسمه للأسف- على تساؤل المتنبى قائلا :

يا شاعر السيف والقرطاس إن بنا ………  أضعاف مابــــك آلام وتنكيــــدُ

دعني أجيبك ما للعيد تسألـــــــــــه ………  بأى حال أتى هل فيه تجديــــدُ ؟

بكل ما ألحقت أيدي الدمار بنـــــــا ……… بكل فاجـعة : قــــتلٌ وتشريــــــد

لم تبق مهلكة الا سقـَت وطنــــــــي …….. كأس الهوان وأغتيل الصناديد

شعب يباد وأرض تستباح ومـــــن ……… خلف الشتيتين أفاق وعربيـــد

أعارَنَا جبنه العبرى ثم مضـــــــى ……… يدكنا غضبٌ يـُدعى عناقيـــــــد

فهبّ قادتنا للـرد حينــــــئــــــــــــذ ……….  لكن ردَّهم شجبٌ وتنديــــــــــدُ

و ما زلنا نواصل التدريب على أسلحة الشجب والتنديد بمهارة لا تبارى !!

لست أعرف لماذا يقلـّـبنا العيد هكذا؟  فتقفز آلامنا إلى السطح بكل أشواكها وقسوتها، مع أن المناسبة هى فرحة وتعاطف وتهانٍ ودعوات؟

قصيدتى الوحيدة فى العيد هى من أكثر القصائد إيلاما لى كلما أعدت قراءتها، وبرغم من أننى – بعيدا عن الشعر- أفرح بالعيد لما يعد به من تجديد آمال، وما يصاحبه من صلة رحم، ناهيك عن العيديات صغارا، وعن فرحتنا بلبس الجديد، وهو ما افتقدته فى الشعر، فهذه القصيدة تقول عكس كل ذلك:

-1-‏

مارتَّبَ ‏مهدى ‏قبلَ‏ ‏النومْ‏،‏

بعد‏ ‏النومْ‏.‏

ما‏ ‏مرّت‏ كفــٌّ  ‏حانيةُ‏ -‏غافلةٌ- ‏فوق‏ ‏الخصله‏ْ.‏

ما‏ ‏أعطانى ‏اللُّعـٌّبهّ‏.

‏-2-‏

ما‏ ‏حاكت‏ ‏لى ‏جلباباً‏ ‏ذا‏ ‏صوتٍ ‏هامسْ.‏

لم‏ ‏يمسسه‏ ‏الماءُ‏ ‏الهاتكُ‏ ‏للأعراضْ‏. ‏

لم‏ ‏يتهدّل‏ ‏خيطـُـــه‏.‏

لم‏ ‏تتكسَّر‏ ‏أنفاسُــه‏.‏

‏-3-‏

‏ ‏صدّقتُ‏ ‏بأن‏ ‏الماحدثَ‏ ‏طوال‏ ‏العامْ‏،‏

يأتينى ‏الآن‏. ‏

لم‏ ‏يأتِ ‏سوى ‏الطيف‏ ‏الغامضْ‏.‏

‏-4-‏

أجرِى ‏بين‏ ‏الأطفالِ ‏ِ ‏وأرتقبُ‏ “‏العادهْ‏،‏

ذات‏ ‏بريقٍ‏ ‏وحضورٍ‏ ‏وروائحَ‏ ‏وكلامْ.‏

يقطر‏ ‏ثدىُ ‏العمِّ ‏رحيقَ ‏الرُّضَّعْ‏.‏

أتلفع‏ ‏بُالورقةِ ‏تُدْفئنى،‏

تتمايلْ‏.‏

تتأرجحُ‏ ‏مثل‏ ‏الأيام‏ .‏

تتفتَّح‏ ‏أكمام‏ ‏الحـُبِّ ‏الآخرْ‏،‏

فأخاف‏ ‏النوم‏ ‏وصبحا‏ ‏يترقَّبنُىِ.‏

‏-5-‏

أقف‏ ‏بذيل‏ ‏الصَّفِّ ‏وأفركُ ‏كفـِّى،‏

أيديهم‏ ‏فـَرِحَه‏.‏

تبحثُ‏ ‏عن‏ ‏ظِلَّ‏ ‏البسمهْ،‏

وذراعى ‏مبتورهْ. ‏

تختبئ‏ ‏بثنيات‏ ‏الوعد‏ ‏الميّت‏.‏

أنزعُها‏..‏تنَزَعنُى. ‏

أهربُ‏ ‏من‏ ‏كومة‏ ‏ناسٍ ‏مختلطهْ.‏

أخرج‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏الدرب‏ ‏الآخرْ‏ ‏

‏-6-‏

‏ ‏دربى ‏بكرٌ‏ ‏فوق‏ ‏حصاهُ  ‏تسيل‏ ‏دماءُ‏ ‏القدِم‏ ‏العارِى. ‏

يتبعنى ‏الناسُ ‏الـمِثلى،‏

ليسوا‏ ‏مثلى.‏

من‏ ‏مـِثلى ‏لا‏ ‏يسلكُ‏ ‏إلا‏ ‏دربه‏،‏

يحفره‏ ‏بأنين‏ ‏الوحدهُ،‏

يزرع‏ ‏فيه‏ ‏الخطواتُ‏ ‏الأولىَ:‏

‏-‏دوماً ‏أولىَ‏- ‏

يَرْويهــَا ‏بنزِيفِ ‏الرّؤيْهْ.‏

تتفتح‏ ‏أكمامُ ‏العيد‏ ‏بلا‏ ‏موعدْ‏.‏

ذات‏ ‏بريقٍ ‏وحضورٍ ‏وروائح‏ ‏وكلامُ.‏

‏21/7/1982 ‏أول‏ ‏شوال‏ 1402‏

تكملة قراءة التدريب :

يلحقنا محفوظ – بعد كل هذا الغم – بحضورحبيبتنا وحبيبته أم كلثوم “تجدد فينا  الأمل”:

 “يا ليلة العيد أنسيتنا وجددت الأمل فينا”. إلا أننا نلاحظ أنه كتب “أنستينى” ولم يكتب “أنستينا“، شيخى يأتنس بنفسه كما يأتنس بالناس، وبنا،  فرحت أنه استعمل صيغة المفرد “أنستينى” بعد بيت المتنبى الساخط، واطمأننت عليه فى هذه المرحلة بالذات، إذْ يأتنس بنفسه فالناس، وبالعكس، عند كل مواجهة قاسية مع  الواقع الصعب.

وأخيرا لاحظت فى هذه الصفحة بالذات أنه كتب اسمه “نجيب محفوظ” (زيادة) وسط النص بين : “أنستينى” و “كل عام وانتم بخير”، وهذا غير مألوف لى حتى الآن، فهو يكتب اسمه فى بداية التدريب، وعند التوقيع قبل التاريخ، فقدرت أنه بعد أن أزاح همّ المتنبى، وأحضر بهجة الأمل مع أم كلثوم، ائتنس بنفسه وجدد أمله، فأثبتَ ذاته، فوجَدَنَا حوله، فحيـّانا  بـ ” كل عام وأنتم بخير”

 وأنتَ بالصحة والسلامة يا شيخنا الغالى، ومصر كلها كذلك.

يارب

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *