الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة التحرير / “البحث عن مصر” خلال واجب عزاء

“البحث عن مصر” خلال واجب عزاء

 جريدة التحرير

12-11-2011

تعتعة التحرير

“البحث عن مصر” خلال واجب عزاء

كانت رحلة عزاء اصطحبنى فيها سائق استعرته من المستشفى، فأنا أفضل أن أقود سيارتى بنفسى عادة. أحزان هذا اليوم طغت بمناسبة رحيل أربعة أعزاء، لم يخفف منها أن رحل أيضا فى نفس التوقيت من كنت أتمنى رحيله.  كانت فرصة أننى لا أقود السيارة بنفسى، فرصة  سمحتْ لى بأن تحضرنى أسئلة كثيرة لم أنجح أن أجد لها إجابات جاهزة، أسئلة من أهمها سؤال مكرر يقول “ماذا حدث للمصريين بعد ما حدث ؟”

 وأنا جالس فى المقعد الخلفى حضرتنى إجابات محتملة، وإذا بها ليست إجابات، وإنما فيض من أسئلة جديدة مؤلمة، ليس لها إجابات أيضا، وإليك بعض ذلك:

أولا: يبدو أن الطريق أصبح  أسوأ، لكن إيش عرفنى؟ لعله كان كذلك من زمن !! المهم أن ما كنت أقطعه فى ساعة وثلث ساعة، قطعته اليوم فى ثلاث ساعات ونصف، ورجحت طبعا أن هذا ليس ذنب شباب الثورة أو غياب الأمن، فتدهور الخدمات بدأ منذ انصراف العهد البائد عن الناس ومصالحهم، فانهيار الدولة يتمادى منذ سنين وحتى الآن!!

ثانيا: على طول الطريق تقريبا كانت هناك حواجز خراسانية تفصل الطريق المزدوج، وكنت أعرف أن ذلك يتم للوقاية ضد أن يعشى السائقون ليلا من بهر الضوء المقابل، وإن كنت أفضل الشجر القصير المورق بفروعه وأوراقه الخضراء المتكاثفة، فهو أرخص من كل تلك الخراسانات، وأجمل، لكننى تصورت أن زراعة الشجر القصير الجميل ذى الأوراق المتكاثفة أقل عمولة من كتل الأسمنت هذه التى انتبهت إلى ما كتب عليها ، وسألت نفسى ، هل هذا الاسم الذى عليها مرشحا ليخدم مصر، هل خطر له الفرق بين الشجر وكتل الخرسانة بما ينفع “مصر” ويقلل العمولة؟ إذا نجح ؟

ثالثا: انقلبت هذه الحواجز تقريبا إلى لوحات انتخابية مكتوب عليها بخط عملاق اسم مرشح أو أكثر من المرشحين، غالبا  فرادى “عن العمال”، أو “عن الفلاحين”، فتساءلت من أين لهؤلاء “العمال والفلاحين” بتكاليف هذه الإعلانات هكذا؟ وهل أخذوا إذن الدولة أن يستعملوا هذه الحواجز لدعاياتهم؟ وهل تعهد هذا المرشح أن يعيد الحال إلى ما هو عليه بعد انتهاء الانتخابات، ولو”حلاوة” نجاحه إذا نجح بالسلامة؟ وهل هو يعرف أن هذه الحواجز العامة، وقد خصخصها بمعرفته، هى ملك لبلد اسمه “مصر” التى رشح نفسه لخدمتها جدا؟

رابعا: لاحظت أن الشعارات الدينية الإسلامية تحيط بأسماء أغلب المرشحين بإلحاح ملاحِق، وكانت بالإضافة إلى الكتابة على تلك الحواجز الخرسانية تتحدى وهى ترفرف على لافتات عملاقة معلقة، ثم تتكثف أكثر قرب المساجد، وعلى حوائط المساجد نفسها، وهى تتنوع بين الآيات القرآنية، والأحاديث الشريفة، والوعود بالجنة، والتهديد للمخالفين بأنهم سيسألون عن كيف لم يؤيدوا من سيقيم لهم شرع الله، إلى آخر ما لا أريد المبالغة فيه، وحضرنى تساؤل أصعب يقول: يا ترى هل يعرف أيا من هؤلاء أين تقع “مصر” أرض الله الطيبة من رحمة الله وعدله قبل وبعد شريعته؟

خامسا: وصلتُ إلى السرادق بصعوبة، تغيرت المعالم، لكن لأن الفقيد كان قادرا مستورا، فقد اهتديت إلى المأتم بفضل مكبر الصوت الذى لا بد يصل إلى القرى المجاورة، ثم بالأنوار الباهرة جدا، فاستقبلنى أهل الفقيد بكل دفء وحفاوة، أصررت على أن أجلس فى الهواء الطلق قرب مدخل السرادق  برغم إلحاح أبناء الفقيد أن يسحبونى نحو الصدر، فسمح لى الهواء النقى فى هذا الموقع أن أتذكر أننى اشارك فى معزى، لا أكتب مقالا، فخجلت من نفسى، وقررت أن أحزن حصريا على الفقيد، لكننى وجدت حزنى يتوجه إلى “مصر” أولا، وكدت أبكى من جديد، واختلط عندى الخاص بالعام كالعادة، وحمدت الله أن أحدا لا يستطيع أن يقرأ داخلى، وخطر لى فجأة أن أجول بناظرى بين وجوه الناس: يا ترى مَن مِن هؤلاء يصله ما أكتبه؟ وخجلت من نفسى ومما أكتبه، وخفت أن أعجز عن الكتابة بعد ذلك متيقنا أن “مصر” الحقيقية تحتاج شيئا آخر من واحد مثلى، يا ترى ما هو؟

سادسا: عدت أتأمل وجوه الداخلين والخارجين فرادى، وحمدت الله أن أغلبهم لا يعرفوننى، وحضرتنى السياسة من جديد لأتساءل عن علاقة هؤاء بميدان التحرير، وماسبيرو، وميدان مصطفى محمود، بل وميدان مديرية أمن الجيزة، ورفضت الإجابات السلبية، إذ أنه “إيش عرفنى”؟!، وبدلا من أن أخجل من نفسى، رحت أدقق النظر فى كل الداخلين والخارجين وأنا أتساءل من جديد: ماذا لو سألت أيا من هؤلاء، ماذا تعنى كلمة “مصر” عندك” حالا، ثم أمام صندوق الانتخابات؟ فبم يجيب؟  ثم حضرنى سؤال أصعب يقول: هل يعرف حكامنا الانتقاليون الآن، والدائمون قبل الآن، معنى هذه الكلمة “مصر” التى ليست –غالبا- إلا جـُمّاع كل هؤلاء؟

سابعا: وسؤال آخر أكثر تخصيصا قفز لى يقول: من يا ترى سوف ينتخبه -من بين الأسماء التى على اللافتات – هذا الوجه؟ ثم هذا الشيخ؟ ثم هذا الشاب؟ ثم هذا القريب؟ ثم هذا البعيد؟ وهل يعرف أى منهم برنامج حكم عملى واقعى يتعهد بتنفيذه هذا المرشح أو ذاك ليقود سفينة مصر التى تكاد تغرق فينقذها، ولو فى آخر لحظة؟

ثامنا: ثم انتقلت الأسئلة وأنا افشل أن أحِلّ الحزن خالصا محلها، تقول: يا ترى ما الذى يحدد لأىٍّ من هؤلاء إلى أين سوف يتجه صوته قبل وبعد كل هذا؟ إلى الإسلام، أم إلى الشريعة (وهل يعرف الفرق بينهما!) أم إلى إنقاذ الاقتصاد المصرى؟ أم إلى زيادة الأمان، فالعمل، فالإتقان، ليزداد الانتاج فالكرامة فالاستقلال الحقيقى فالحرية؟ أم إلى وجه الله من خلال كل ذلك دون وصاية؟

 فكادت الإجابات التى تصلنى من داخلى  تغنينى عن انتظار نتيجة الانتخابات بعد بضع شهور.

وأخيرا:

انتبهت إلى المقرئ وهو يختم قراءة هذه الفقرة، وكان الظلام قد حل، فدعوت لنا  بالسلامة حتى نصل إلى القاهرة ولو فى أربع ساعات، ودعوت بالصبر لهؤلاء الناس الطيبين حتى لو لم يعرفوا ماذا تعنى “مصر”، ثم دعوت لمصر بدعوات كثيرة جدا لا أشك أن الله سبحانه سوف يقبل بعضها على الأقل، شريطة أن تعمل فى اتجاه تحقيقها لنستأهلها، وأن نتذكر ربنا ونحن ندلى بصوتنا لوجهه تعالى، ليرعى مصر، فهو سبحانه أرحم بها من كل هؤلاء، أنا متأكد!

“بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *