الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة التحرير / الاختيار هو: بين أنواع الدكتاتوريات!!

الاختيار هو: بين أنواع الدكتاتوريات!!

جريدة التحرير

16-6-2012

تعتعة التحرير

الاختيار هو: بين أنواع الدكتاتوريات!!

من قديم وحتى الآن وكلمة “الديمقراطية” تستعمل بوفرة بالغة، كما أنها تـُنتقد بكثرة وافرة، لكنها تـُقدس بدرجة أكثر كثيرا، وكلما رسينا على بر مناسب، أو اتفقنا على مفهوم عملى مفيد، نتعرف به على هذا الدين الجديد، شعرنا بالحاجة إلى النقد والمراجعة، من الذى مازال يستطيع أن يمارس فضيلة النقد والمراجعة، أما من لا يملك إلا الحماس والانبهار والاتباع والترديد، “الديمقراطية هى الحل”، دون فحص أو تأمل فهو يقع فى متاهة الاختزال ومبالغة التقديس.

خيل إلىّ مؤخرا أننى حللت مشكلتى مع الديمقرطية باستسلامى لحكمة شيخى محفوظ باعتبار ان الديمقراطية هى “أحسن الأسوا”، كما علمنى بعد مقاومة لم تنته تماما. قلت لنفسى: أحاول أن أتعرف على “أحسن الأسو” بأن أنظر فى أسوأ الأسوأ: أعنى “الدكتاتورية” أليست  هى نقيض الديمقراطية، “وبضدها تتميز الأشياء”!، إلا  أننى وجدت نفسى أضيع فى عدد من الدكتاتوريات بلا حصر، بعضها من إفراز الديمقراطية شخصيا.

 ولكن دعونا نبدأ بالتعريف التقليدى: إن الدكتاتورية هى شكل من أشكال الحكم تكون فيه السلطة مطلقة فى يد فرد واحد (دكتاتور) وكلمة دكتاتورية من الفعل: أمـْلـَى  (dictate)أمـْلـَى يٌمْلى إملاءًا، وهذا يشير إلى أنه يصدر أوامره، وما على الآخرين إلا أن يكتبوا ما يـُملَى عليهم، وينفذوه كما يشير، وعادة ما يكون الحكم  المطلق لهذا الفرد الواحد غير متقيد بالدستور ولا بالقانون، وأشهر الأمثلة تلك الانظمة الفاشية فى إيطاليا وألمانيا فى النصف الأول من القرن العشرين، ثم النظام الشيوعى فى الاتحاد السوفييتى السابق، وتوابعه، الذى يتمثل فى نظام الحزب الواحد ويعتمد على تعبئة الجماهير بأيدولوجيا النظام الحـاكم، بالسيطرة على وسائل الإعلام و تحويلها إلى بوق للدعاية لصالح النظام، ..إلخ

العجيب أن كثيرا من الدول التى تسمى نفسها باسم “الديمقراطية”  لا تمارس الحكم  إلا من خلال دكتاتورية صريحة، مثلما كانت ألمانيا الديمقراطية، ومثل كوريا الديمقراطية (ومازالت محتفظة باسمها حتى الآن)…إلخ، أما الأعجب فهو  أن الدول الأخبث التى تزعم التبشير بدين الديمقراطية والمسئولة عن تسويقه عبر العالم، راحت تواصل ممارسة أشكال من الدكتاتورية من أخبث الأنواع  وأخطرها تحت نفس الاسم: “الديمقراطية”، فى حين أنها لا تمارس بداخلها إلا دكتاتورية المال والإعلام والقهر الأمنى، ثم خارجها حق الفيتو، والكيل بعدة مكاييل حسب الموقف والجنس والنوع والجغرافيا والتاريخ، مرورا بالتمويل المشروع وغير المشروع، للحكومات والمنظمات : سرا وعلانية.

على أن ثمة نظم أقسى وأغلظ تمارس الدكتاتورية دون استعمال اسمها، وهى تستعمل الدين واسم الله سبحانه باعتبارها وكيلة رسمية له تعالى دون تفويض، وهى تفرض حدود أوامرها وقهرها بما تفهمه هى لمصلحتها، وتمنع كل ما عدا ذلك مما هو ثابت عندها بالضرورة!

فكرت أن  أحيل القارئ إلى المصادر التى حصلت منها على تفاصيل شديدة الأهمية، ثم عدلت عن هذا الاقتراح السخيف، وقلت أكتفى بمقدمة محدودة، حتى تتاح الفرصة لعرض بعض الدكتاتوريات المتنوعة  بتفصيل مناسب واحدة واحدة؟

خطر لى أن أطوّر تعريف الدكتاتورية ليشمل ما وصلنى من البحث فى هذه المتاهة على الوجه التالى:

“الدكتاتورية هى النظام (ليست فردا) الذى يتيح لشخص أو فصيل، كبُر أم صغُر، أن يفرض على الباقين، قلة أم كثرة، رأيا أو نظاما أو سلوكا لا ينبع من جـماع وعيهم، ولا يمكن من خلال الممارسة نقده أو تعديله – فى الأحوال العادية-  بآليات لاحقة فاعلة مُـلزمة”.

يا خبر!! بمجرد أن وضعت هذا التعريف اجتهادا حتى وجدت نفسى أمام قضايا معاصرة وتاريخية مترامية، تكاد تشمل كل أنواع (1) خداع الميديا و(2) غسيل المخ و(3) سياسة السوق و(4) سيطرة الاستعمار و(5) سطوة المؤسسات و(6) توحش المال و(7) احتكار التكنولوجيا، بل امتدّت إلى (8) المناهج العلمية المؤسساتية و(9) الوصاية على دين الله، وسوء استعماله و(10) كل الأيديولوجيا !!

 أتوقف قسرا عند الرقم “عشرة”، لأركز اليوم –كمثال– على مدخل إلى نوع  واحد له وضع خاص فى ظروفنا الحالية، وهو: 

“دكتاتورية الأغلبية”

أول ما سمعت عن دكتاتورية الأغلبية كان على لسان مارجريت تاتشر حين فاز حزب المحافظين بأكثر من ستين فى المائة من مقاعد مجلس العموم، فقد انزعجتْ وهى رئيسة الوزراء وصاحبة الأغلبية، من أن هذا الرقم قد يهدد الممارسة الديمقراطية الحقيقية، لان حكومتها  قد تطمئن إلى مؤازرة السلطة التشريعية الرقابية لها طول الوقت، وحين يكون الأمر كذلك يصعب عمل حساب المعارضة، كما يخفت صوت الحوار، ويتمادى أى انحراف بلا تصحيح!!

ثم تكرر استعمال هذا التعبير مؤخرا بعد فوز الجناح الإسلامى فى مصر بمقاعد مجلس الشعب فالشورى، ثم مشروع تشكيل لجنة المائة لتأسيسية الدستور، وبدلا من أن ينتبه الذين فازوا إلى المسئولية المترتبة على مثل ذلك، كما فعلت مسز تاتشر، راح مستشار فاضل منهم  يرفض وبعنف حاسم هذا المصطلح وهو يشجب استعماله ، وكان مما قال عن من استعمل هذا المصطلح “دكتاتورية الاغلبية”: “…. خرجت علينا أقليه ليس لهم أى تواجد فى الشارع المصرى …إلخ” هكذا ببساطة يوصف المعارضون بأنهم :”  ليس لهم أى تواجد فى الشارع المصرى..إلخ” ، مع أن الانتخابات الرئاسية بعد أسابيع أثبتت – بعد إذن سيادته – أن هذه القلة لها “بعض” التواجد “جدا”  فى الشارع المصرى، وفى صناديق انتخابات الرئاسة، وسوف يكون لها تواجد أكثر فى انتخابات الإعادة، ثم بعد أربع سنوات إذا كانت الديمقراطية ما زالت على قيد الحياة، ولكن يبدو أنه لم يصل إلى علم سيادته أن الديمقراطية – برغم كل قصورها – لا تكتسب زخم حركيتها إلا من وضع الأقلية فى الاعتبار، وعمل حسابها طول الوقت.

هذا، وقد استعمل هذا المصطلح أيضا فى تونس عقب فوز حركة النهضة بالانتخابات وتحالفها مع حزبين آخرين، وقد استنتجتُ من ذلك فرعا آخر أسميته: “الدكتاتورية التوافقية” وهو ما أخشاه مما يجرى حاليا على الساحة فى مصر وكأنه الحل الأمثل.

مع قبول التعريف الأشمل وإعادة النظر يمكن التقدم نحو ما يسمى بدكتاتورية الأقلية، مثلما يجرى فى ميدان التحرير، حيث يفرض مليون أو اثنين من المواطنين الشرفاء، بالإضافة لمَا تيسر من مندسين، يفرضون رأيهم على باقى التسعين مليونا آراءهم دون إذن أو صندوق؟

يبدو أننا نختار بين أنواع الدكتاتوريات وليس بين الديمقراطية والدكتاتورية

وللحديث بقية…

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *