الرئيسية / الأعمال الأدبية / دراسات نقدية / دراسات نقدية أحدث فــى نجيب محفوظ – الطبعة الأولى 2017

دراسات نقدية أحدث فــى نجيب محفوظ – الطبعة الأولى 2017

دراسات فى نجيب محفوظيحيى الرخاوى

الطبعة الأولى

 2017

 الإهــــداء

          إلى:

أ.د. جابر عصفور (عرفانا ومحبة)

مقدمة:

رحت أكرر فى كل مناسبة طلبى الذى تقدمت به فى 1/11/1988 لرئيس تحرير مجلة فصول أ.د. عز الدين إسماعيل حينذاك بإنشاء دورية مختصة بنقد نجيب محفوظ ([1]) ثم عد أكرر إلحاحى الذى أتراجع عنه أبدا حتى بعد رحيله حين عرضته على لجنة الحفاظ على تراثه برئاسة أ.د. جابر عصفور، وأخيرا ظهرت هذه الدورية التى حلمت سنين عددا، وترأس تحريرها رئيس لجنة الحفاظ على تراثه أ.د.جابر عصفور، ثم من بعده الإبن الناقد المتميز أ.د. حسين حمودة، الذى طلب منى أن أشارك فى تجسيد استمرار حلمى القديم الجديد، فكتبت لهذه الدورية ست دراسات هى ما يحويه هذا الكتاب الآن

وإنى إذ أرجـِع الفضل الأول للأستاذ الجميل المبدع أ.د. جابر عصفور أن أتاح لنا هذه الفرصة عاما بعد عام، الأمر الذى تعهده وشجعنى على المشاركة فيه الإبن الفاضل أ.د.حسين حمودة، اعترف أننى لا أستطيع التفضيل بين ما علىّ أن أنجزه فى وقته إلا من خلال التعهد بالالتزام بالاستجابة لمثل هذا الكرم والتكريم، مِـمـَّـن يثق فى قدرتى على المشاركة، ويرحب بما أحاوله،

ويرجع الفضل لظهور هذا الكتاب الحالى إلى الفرصة التى أتاحتها لى دورية محفوظ السنوية أدام الله صدورها، وبارك فى القائمين عليها

الفصل الأول  

الأسطورة الذاتية: بين سعى كويلهو، وكدْح محفوظ ([2])

1 دراسات نقدية

ذات يوم (أو ذات ليلة) تطرق الحديث معه إلى مسألة الاقتباس، حين تتكرر نفس “التيمة” من أكثر من مبدع، حتى يختلط الأمر على العامة، وأحيانا على بعض النقاد، أن ثـَم اقتباسا، أو أكثر من ذلك، قد قام به مبدع سطوا على إبداع سابق. لست متأكدا إن كان هذا الحديث قد جرى ونحن نناقش مئذنة جلال (صاحب الجلالة) فى ملحمة الحرافيش، أم كان يدور حول مسائل أخرى، أو شبهات أخرى، قال لى شيخى بهدوء ما معناه: إن هذه قضية زائفة غالبا، حيث أنه يمكن أن يوجـَز كل الإبداع الروائى فى حكاية واحدة فى بضع كلمات، وحين يتناولها المبدع، فإنه يخلّقها من جديد بتشكيل آخر، وإيقاع آخر، ونبض آخر، وحين بدا له أننى لم أفهم بدرجة كافية، أردفَ ما معناه: ماذا فى الدنيا يمكن أن يحدث، لم يحدث قبلا!! خذ مثلا: واحدْ أحب واحدة، فخانته أو لم تخنه، أو خانها هو، فصبرت، أو انتقمت، أو هجرت وتربصت، أو كادت تفعل أيا من ذلك، فتراجع أو هاجر هو،..وخلاص، هات بعد ذلك عشرين أو ما شئت من مبدعين، وانظر كيف سيتناولون هذه الحكاية نفسها، كلٌّ بطريقته، وسوف تجد أنه لم يشبه أحدهم الآخر لو كانوا مبدعين بحق، (هذا ما وصلنى مما قال، وليس بحروفه).

 لا أذكر ماذا كان موقفى تحديدا، يبدو أننى لم أوافق بسهولة، إلا أننى تذكرت كيف أن مرضاى، مهما اتفق التشخيص، وتوحدت الأسباب، وتماثلت الأعراض، يستحيل أن يشبه أى منهم أى آخر من كل ملايين المرضى المتماثلين فى التشخيص، قلت فى نفسى: كيف غاب عنى هذا والمريض مبدع فاشل أجهض إبداعه بانسحابه وهزيمته، فكيف أتصور أن المبدع الناجح هو أقل قدرة على أن يخلق من التماثل ما هو أصيل جدا غير متماثل أصلا مهما تشابهت الخطوط العامة، فهو يخلـّقُ، بإبداعه ما ليس كمثله غيره؟

 هكذا تعلمت من شيخى بعد أن دهشت، وبعد أن تذكرت، وبعد أن انتبهت، ففهمت ما سمح لى إدراكى أن أفهمه

ذات مرة أخرى: قلت له: “يبدو أن المبدع لا يبدع إلا ذاته” فقال لى ما معناه” هذا صحيح تقريبا، لكنه لا يكون صحيحا فعلا إلا إذا تذكـَّرنا أن المبدع لا يعرف ذلك ولا يقصده تماما، فهو يكتشف نفسه، ويكشف عنها من خلال إبداعه، أى حالة كونه يبدع فعلا، أى أنه لا يرصد ذاته أو يصورها بل يتعرف عليها وهى تنطلق منه”، ثم أضاف ما معناه: إن الذى يصور نفسه تماما هو لا يبدع ذاته، وإنما يحكى شخصه، ومثل هذا الشخص لا يكتب إلا عملا واحدا، لأنه شخصٌ واحد، وقد يكون هذا العمل صادقا تماما، وقد يكون جميلا وأصيلا، لكنه لا يستطيع أن يكتبه مرتين، ولنفس السبب هو قد لا يستطيع أن يكتب غيره.

فهمت أكثر، وقلت فى نفسى: هذا هو.

عاودنى سؤال آخر لم أطرحه عليه وأنا أعد الأطروحة الحالية، سألت نفسى هذه المرة: فماذا عن المبدع الذى نستنتج من مجموع إبداعه، أنه لم يقل، ولا يقول، إلا جملة واحدة مفيدة، هى هى، فيبدو للقارئ المتعجل، أو الناقد السطحى، أنه يكرر نفسه؟ وهل يا ترى ثَمَّ فرق بين شخص المبدع وذاته، وقضيته الوجودية المحورية، درى بها أم لم يدرِ؟

ثم خطر لى تساؤل له علاقة بكل هذا يقول: فماذا عن “الأسطورة الذاتية”([3]) وأين تقع بين كل هذا؟ وهل ثمَّ فرق بين تخليق الذات، والبحث عن الذات، والبحث عن الأسطورة الذاتية أو معايشتها، وأخيرا عن تخليقها  وإطلاق مسيرتها؟ ثم صياغة كل ذلك، أو أىٍّ من ذلك: إبداعاً؟

 من هنا كل ذلك بدأت فروض هذه الأطروحة

الأسطورة وإبداع الذات

الأسطورة – بصفة عامة – هى الأصل عندى (لا أتكلم عن الأسطورة الذاتية تخصيصا)، وعلى قدر خصومتى مع ما يسمى التاريخ، وأعنى به علم التاريخ، وأْكَدمة التاريخ (من أكاديمى)، وتسجيل التاريخ، واعتبارى أن كل ذلك – على أحسن الفروض – ليس إلا “وجهات نظر”، أقول على قدر ضخامة هذه الخصومة، اكتشفت تصالحى مع الأسطورة باعتبارها التاريخ الأكثر دقة، الذى يمكن أن يهدينا إلى مسار البشرية وأسرارها بمصداقية أدق موضوعية.

 كيف هذا وأنا لم أدرس أيا من الأساطير كما ينبغى، ولا حتى كما لا ينبغى؟

 أرجع مرة أخرى إلى منهلى الأصلى، فأكتشف أننى أقرأ مرضاى، باعتبارهم “نصا بشريا“، تعرَّى حتى كشف عن “أسطورته الذاتية”، (وأحيانا عن اسطورة البشر، ومَن قبلهم، وما قبلهم) بشكل أو بآخر، المريض للأسف لا يستطيع أن يعيش أسطورتة الذاتية  كما تحضره وهو فى نفس الوقت لا يستطيع أن يتنازل عن محاولة إعادة تشكيلها، فلا هو حققها، ولا هو تراجع عن المحاولة، فاختلطت الأمور عليه، فهو المرض (مما لا مجال للاستطراد إليه هنا الآن)، هذا بالنسبة للمريض (العقلى بالذات = المجنون)، فماذا عن الشخص العادى؟

أعتقد أن أغلبهم – أغلبنا – تنازل عن أسطورته الذاتية، عن الاعتراف بها، فضلا عن العمل فيها، أو إعادة تشكيلها.

فماذا عن المبدع؟

وهل الإبداع الحق إلا النموذج الأحدث فالأحدث لإطلاق أسطورة المبدع الذاتية تشكيلا فى إبداعه، كلّ بالأداة التى يتقنها، إلى المدى الذى يستطيعه؟!!

كويلهو ومنبع خبراته فى روايتين:

ماهى حكاية “الأسطورة الذاتية” التى تكرر ذكرها عشرات المرات فى رواية باولو كويلهو “السيميائى” أو “الكيميائى” أو ساحر الصحراْء؟ ما علاقتها بالأسطورة عامة، وبالدين، وبالتطور، وبالسحر، وبالخرافة، وبالجنون، وبالإيمان، وبالله سبحانه؟

لماذا انتشرت رواية السيميائى التى تتناول البحث فى، وعن، “الأسطورة الذاتية” بهذا الاتساع؟ انتشرت كل هذا الانتشار! بكل تلك اللغات؟ لا أظن أن السبب هو تميـُّزها الأدبى الخاص، ولا بساطة الحكى مع ثراء الخيال، أين هى – بمقايس النقد التقليدية – من مائة عام من العزلة (جارثيا ماركيز) أو العطر (باتريك زوسكيند) أو ملحمة الحرافيش أو ابن فطومة أو كثير من أحلام النقاهة (محفوظ)؟

 رجحتُ أن سبب انتشارها قد يرجع إلى أنها ظهرت فى وقت مناسب (من تطور الإنسان المعاصر، فى الغرب خاصة) لتعلن الاعتراف بوجود عمق خاص آخر للوجود البشرى، يشغل مساحة أساسية من تركيبه، ومع ذلك يكاد العلم المؤسساتى، والفكر السلطوى، والمنطق الأرسطى وما شابه ينكرونه أو يصنفونه خرافة لا معنى لها، أو ردة دينية بدائية (خصوصية) ضارة غالبا.

سوف أكتفى بوضع فرض يمكن من خلاله أن نقرأ كويلهو من موقعه الشخصى، ومن خلال روايته السيميائى معا، كما يمكن أن نفهم كدْح محفوظ الإبداعى فى عمل مواز هو “رحلة ابن فطومة” وهو يحتوى أسطورته الذاتية يتمثل من خلالها رحلة البشرية إلى الوعى الكونى، فوجه الحق سبحانه وتعالى، وهى القيمة التى شغلت حيزا كبيرا من إبداعه الفائق، وكأنها حكاية واحدة لها تجليات متعددة، رائعة متنوعة معا.

مدخل بيولوجى:

يحمل الإنسان تاريخه البيولوجى والمعـْرفى (أو إن شئت الدقة: البيولجى/المعرفى”) بشكل يستحيل إنكاره، ناهيك عن التنكر له، وهو لا يكون جديرا بهذا التاريخ إلا إذا تحمل مسؤوليته ليواصل انطلاقه. وصل الإنسان بعد رحلة طويلة من المعاناة، والقهر، والانتصار، والهزيمة، والفخر، والتحايل، والاستغلال، والتآمر إلى موقع يسمح لوعيه أن يحيط بعدد من المتناقضات دون تناقض، وذلك فى عملية جدل متصل، لا يعى منها إلا بعض جوانبها بعض الوقت، وإذا كنت قد فضلت الأسطورة العامة كمصدر له مصداقية أكبر من علم التاريخ، فإننى أقرأ الكائن البشرى الفرد، المتمزق خاصة (المريض)، باعتبار أنه قد سجّل فى كل خلاياه (وليس فى خلايا مخه فحسب) تاريخ تطوره كله، ناهيك عن تاريخ تطوره إنسانا، ثم تاريخ نموه شخصا فريدا، وقد أتاحت لى مهنتى هذه الفرصة بوجه خاص حتى صرت أسمِّى علاجى مريضى “نقد النص البشرى” بمشاركة النص (المريض) شخصيا فى إعادة تشكيله (نقدا) علاجيا.

تناقض رائع:

 يعيش الإنسان المعاصر تناقضا من أهم ما يميزه فعلا: ذلك أن إنسان اليوم هو شديد التفرد وهو يحاول أن يحقق نفسه مؤكدا أنه ذات مستقلة جدا، لها معالمها الفريدة التى ليس كمثلها أحد، ذات مستقلة عن العالم (وعن الآخر) وعن الكون من حيث المبدأ، مع السماح بالتفاعل على شرط أن يؤكد هذا التفاعل تفرده أكثر فأكثر إذْ يزيد من تعميق معالم ذات محدودة المعالم هى “هو”، وكأن كل فرد معاصر (خاصة فى الغرب) قد قرر أنه لكى يكون “ذاته” فلا بد أن يكون كونا مستقلا كاملا بلا نقصان، هذا من حيث المبدأ، يصاحب كل ذلك وتدعمه أوهام الحرية، وضلالات القدرة الفريدة، ومزاعم الاستقلال، وفى نفس الوقت يجد كل فرد نفسه أنه لا يمكن أن يكون إنسانا إلا بتفاعله مع آخر من نوعه، ومن ثم مع آخرين، إلى حركية وجوده فى شبكية وعى جماعته، وما بين الحرص على تفرده، وضرورة اندماجه فى جماعات، فثقافات، فى شبكة من العلاقات لا تنقصها درجة من الوعى، شبكة متداخلة ينسجها توجه البشر معا توجها ضاما: يترجَّح الانسان المعاصر اقترابا وابتعادا، رفضا وانتماء، رغبة وخوفا، مع احتمالات جدل متصاعد متجدد، يستوعب هذا التناقض الانسانى الرائع.

 هذه المواجهة بين تأكيد التفرد إلى أقصاه، وبين حتمية التواصل فالامتداد إلى ما بعد مداه، هى- فى تقديرى- منبع (ومصب) ما يمكن أن يسمى “الأسطورة الذاتية” للكائن البشرى: من وجهة نظرى، فكيف صورها كويلهو فى رحلة “الشاب”، (سنتياجو) وكيف قدمها محفوظ فى رحلة قنديل محمد العنابى: ابن فطومة؟.

نبدأ بكويلهو:

كويلهو انتبه من واقع ثقافته إلى: كيف بالغ انسان عصره فى تعميق ما شاع تحت اسم “تحقيق الذات)[4])” أو “تأكيد الذات” ([5])، حتى تنامت فرديته على حساب انتمائه إلى “آخر” من نوعه على ناحية، اللهم إلا فى قبوله بالالتزام بتنظيمات اجتماعية سلوكية محكمة، والأهم أن هذه المبالغة فى التركيز على “تحقيق الذات”، جاءت أيضا على حساب علاقته بالطبيعة والكون والمطلق بشكل أو بآخر، اهتم الإنسان المعاصر الغربى (خاصة) أكثر فأكثر بأن ينظم حياته من خلال القوانين والمواثيق ليؤكد حقه فيما أسماه حرية (وتوابعها وبدائلها وتزييفاتها) لكى يعيش كائنا اجتماعيا سياسيا فى حدود ما اتُّفق عليه من نظم مُعلنة مكتوبة، على أن يمارس “بقيته” بطريقة خاصة: بعضها سرى جدا، سواء فى الحلم أو بعض الخرافة أو بعض “الممارسة” الدينية المختارة، (السرية أحيانا)([6])، والمؤلفة ذاتيا فى أحيان أخرى، لكن يبدو أنه تمادى فى تبرير وتدعيم هذه المناهج والأبجديات المُمَنطقة ظاهرا، والمعقـلنة تعليلاً، التى تؤكد هذا الترجيح لجانبٍ من وجوده على حساب الباقى، ليكن، فهذا جيد بشكل ما، يقوم بوظيفة ضرورية إلى حدٍّ ما، أما أن يصبح ذلك هو غاية المطاف للبشر كافة ونهاية السعى للنوع لدرجة استبعاد التاريخ، وتسطيح العمق، وإهمال تنوع وسائل الاتصال فيما بين البشر، فهذا هو ما أدى إلى كثير من المضاعفات المعاصرة، فى صورة المعاناة أو الاغتراب أو المرض، لكن يظل الإنسان إنسانا مهما انحاز “بندول” ترجيحاته إلى هذه الناحية أو تلك، ومن هنا تبدأ رحلة كل فرد على حدة فى جدل متجدد لحل هذه الإشكالة بين تحقيق وتأكيد الذات بما هى، كما هى، من ناحية، وبين حركية احتواء تاريخها، وإعادة تشكيلها متجددة منطلقة، من ناحية أخرى.

أين كويلهو (فى السيميائى بالذات) من كل ذلك؟

تسارع سعى المبدعين من البشر، كلٌّ فى مجاله، فى محاولة مراجعة المنهج وتطوير الإبداع أملا فى تجاوز خلاّق إلى ما يمكن أن يحافظ على تنامى المسيرة البشرية، بدءا من اختراقات المنهج فى مجال العلم فى توجه نحو علم حقيقى أعمق وأشمل وأكثر انفتاحا، إلى تنشيط دور الشعر فى إحياء حركية اللغة وتخليق الوعى إلى غير ذلك، وكان من البديهى وجود ضحايا ومضاعفات، تظهر بعض هذه المضاعفات على المستوى الفردى فيما يسمى الجنون، وعلى المستوى السلطوى العولمى فى مجالات حروب الإبادة، وأشكال الإرهاب الفوقى والجماعاتى والرسمى، ثم على المستوى الأشمل فى تمادى الاغتراب وتهديد البيئة والانفصال عن الطبيعة واحتمالات الانقراض.

قرأت كويلهو وروايتيه: “السيميائى”، و”فيرونيكا تقرر أن تموت”، من هذا المنطلق، كويلهو – شخصاً – عاش الرعب من هذا التنميط والميكنة والإملاء الحرفى التى يفرضها علينا المجتمع المعاصر، ويبدو أنه رفضها جميعا حتى جُـنَ مكررا ودخل (أو أدخل) مستشفى الأمراض العقلية ثلاث مرات، ثم إنه انضم إلى الهيبيز، فالسحرة، وخرج من كل هذا مبدعا متميزا بسيطا مجتهدا، أفرز إبداعات متواضعة، بغض النظر عن انتشارها، وحين أراد أن يسجل بعض خبراته تلك: هم بكتابة سيرته الذاتية لكنه لم يكملها ولم ينشرها (وحسنا فعل!!)، لكنه أثبت بعض آثارها أروع وأعمق وأبسط فى السيميائى، وبدرجة أقل فى: “فيرونيكا” مع أن المتوقع كان العكس، رواية “فيرونيكا تقرر أن تموت” جرت أحداثها داخل مستشفى للأمراض العقلية، وهو له خبرة أكثر من مرة – بفضل مرضه- فى التواجد فى هذا الوسط بالذات، ومع ذلك جاءت رواية فيرونيكا أكثر سطحية، وليست فقط: أكثر بساطة، على النقيض من ذلك، لم يحضر المرض ولا أعراض أى اضطراب نفسى فى السيميائى بشكل مباشر، كما أنه جهّل اسم البطل إلا فى أول صفحات الرواية وآخرها، فكان يتحدث عنه طول الوقت باسم “الشاب”، وكأنه قصد بذلك أن يخلع عنه صفته الشخصية المُجـَسدة فى شخص بذاته له اسم محدد (اسم علم)، فهو إما يُحضره بضمير الغائب، أو بصفة “الشاب” طوال الرواية، ربما ليمثل “أى شاب” من هذه الثقافة المَعْنِيّة.

الرواية تبدو صريحة من البداية باعتبارها بحثا عن الذات الحقيقية القابعة داخلنا، بعد أن تغطت بما ألبسها الأهل منذ الولادة، ثم بما غطتها قوانين المجتمع وقواعد نحوه وصرفه ولغته وقِيِمَهْ بعد ذلك، “البحث عن الذات” هو التعبير الشائع الذى يصف المحاولات “الاستبطانية” (عادة) لرؤية نفس الشخص من الداخل، وهو تعبير برغم شيوعه ليس من آليات النمو الطبيعى لأن به جرعة من “العقلنة”([7]) تعطل بشكل أو بآخر حركية الخبرات النمائية الأعمق، يتبادل مع هذا التعبير تعبير آخر وهو “تحقيق الذات”، وهو يشير إلى عملية لاحقة أو مكملة للبحث عن الذات، لكنها أيضا ليست كافية للإحاطة بحركية جدل النمو تكاملا، كويلهو شخصيا حاول أن يفرق بين ثلاث مستويات: البحث عن الذات، والبحث عن الأسطورة الذاتية، ثم محاولة معايشتها، إلا أن هذه التفرقة وردت فى الحوار أكثر مما يمكن أن يستنتجه القارىء أو الناقد فى عموم السياق، حيث كان تركيز السرد يؤكد أن هذه الذات الداخلية الحقيقية هى الكنز الخاص الموعود به فى الرواية (وعند أىٍّ منا)، وهذا أيضا ماذهب إليه المترجم “بهاء طاهر”، وهو مبدع رائع، فى مقدمة الترجمة حيث ذكر بالنص: “… السعى إلى تحقيق الحلم” الذى يساوى فهم وتحقيق الذات“([8])، الرحلة الممتدة التى واكبنا فيها الكاتب عبر الرواية كلها، والتى أُسقطت فى الخارج جغرافيا، لم تخدعنا أبدا، فهى لم تكن سوى رحلة إلى الداخل كما نبهنا توماس مان فى افتتاحية ثلاثية “ذات التوجه الأسطورى، يوسف وأخوته” وهو يقول:

 “…عميق جدا بئر الماضى، ألا يحق لنا أن نسميه بلا قرار؟.. وكلما غصنا أعمق، توغل بحثنا، وكلما هبطنا فى العالم السفلى للماضى ازددنا تنقيبا وبحثا لنتبين أن الأساسات الأولى للإنسانية بتاريخها وثقافتها تتكشف على أنها فى ذاتها لا غور لها…”.

هذه النهاية التى اشار إليها توماس مان ليست هى النهاية المطلقة، فهى تتضمن دعوة إلى البدء من الصفر فعلا، فليس بعد الغوص فى التاريخ الأعمق لوجودنا حتى صفره، إلا البدء فى إعادة تشكيله. رحلة “الشاب” فى السيميائى كانت بحثا فى الماضى بكل قوانينه السحرية، وقواعده الحُلمية، ومفاجآته الخارقة، لكن مع يقين باكتشاف كنزٍ وراء كل هذا، هو الذات الحقيقية، وحتى لا أظلم كويلهو، فإن مجرد اختيار اسم السيميائى عنوانا هو دليل على أن المسألة عنده ليست مجرد “بحث” عن كنزٍ تنتهى عملية البحث بالعثور عليه فقط، حتى لو كان بداخلنا، وإنما يشير الاسم- فى أصل تعريفه، إلى السعى لتحويل المعادن الرخيصة (التافهة) إلى ذهب، وهو ما يقابل الدعوة إلى الانتباه إلى إمكانية تحويل ما نحمل بداخلنا من تاريخ بيولوجى نعتبره ثانويا أو تافها، إلى واقع قائم واعد قادر على أن يشارك فى الفعل، فى الإبداع، فى التطور، فهو ثروة حقيقية فينا ولنا، جمّاع كل هذا هو فى واقع الأمر الأسطورة الذاتية لكل منا، إذن فقد وُفق كويلهو فى استعمال عنوان “السيميائى” أكثر من توفيقه فى التركيز على البحث عن “كنز مخبوء”، وربما فكرة “البحث” لا التخليق هى التى جذبت نظر المترجم القدير حتى قال فى مقدمته:

“… هذه المرة نحن بالفعل فى رحلة بحث عن كنز حقيقى قيل إنه مخبوء فى الصحراء…” … “وكلمة الكنز هى المدخل الصحيح لرؤية السيميائى”([9])، إشارة كويلهو، فى الحوار، وليس فى مجمل السياق، إلى أن المسألة هى معايشة للأسطورة الذاتية وليست بحثا عنها لم تكفِنِى لتوضيح الفرق، لأن إعادة تشكيل الذات ليست مجرد معايشة الأسطورة الذاتية بقدر ما هى “تخليق لها”، ثم إن كويلهو قد انتهت معايشته للأسطورة الذاتية “للشاب” عند الفرحة باكتشافها، وقبولها، ومن ثـَمَّ القدره على تحويل ذواته (مستويات وعيه، أعماق تاريخه) المنسية بلا قيمه، إلى كنز من الذهب واللآلئ النادرة، وهذا يتفق تماما مع ثقافة كويلهو، ورسالة روايتة، وهو أمرٌ جيد على أية حال.

نقلة إلى ابن فطومة

الشاب عند كويلهو بدأ رحلته بحثا عن بديل لما نشأ فيه وفـُرض عليه من حياة دراسية راتبة، ومستقبل تقليدى، انطلق، مجذوبا بداخلٍ أكثر ثراء وأجمل وعدًا، يناديه، مدعوما من خارجه بتنويعات مختلفة من السماح والدعم والقبول، ساعيا إلى تحقيق ذاته بكل مستوياتها ما أمكن ذلك، لكن “تحقيق ذات الشاب” لم يقتصر على تأكيد “ما هو”، ولا على البحث عن داخله فردا، فكان به قدر ليس يسيرا من السعى إلى المعرفة “… كان يحلم منذ صباه الباكر بأن يعرف العالم“…، لكن ما بلغنى هو أن هذا السعى لمعرفة العالم كان يتوقف عند معرفة تصب فى “معرفة الذات” = تأكيداً للذات، فهو لا يتطور إلى التعبير الأحدث “امتداد الذات” الذى تجاوز به “سلفانو أريتى”([10]) مفهوم أبراهام ماسلو ([11]) يكمل الشاب فى نفس الفقرة:

“…بأن يعرف العالم، كان ذلك فى نظره شيئا أهم بكثير من معرفة الرب”

وهو بذلك يحدد غاية ما تسمح به غالبية من ينتمون إلى ثقافته، وهو أمر لا يعيبه بداهة، محفوظ تجاوز فى ابن فطومة مستوى تحقيق الذات إلى “امتدادها”، انطلاقا أيضا من ثقافته، ملبوسا بقضيته –قضيتنا- الجوهرية، محفوظ منغرس طول الوقت فى إعادة اكتشاف رحلة الإنسان فى امتداد وجوده عبر تاريخه الحيوى والبشرى وقد اختصر وتركز وتمثل فى وجوده الفردى امتدادا إلى الوعى المطلق، نحو وجه الحق سبحانة وتعالى، الحق الواقعى البعيد القريب الواعد طول الوقت.

يبدأ قنديل محمد العنابى (ابن فطومه) من واقعه المصرى المسلم البسيط الذى تجسد لنا من أول صفحات الرواية، وهو نموذج لأى حى تجارى فى مدينة مصرية متوسطة، يعيش فيها تاجر ميسور، يتزوج للمرة الثانية من جميلة صغيرة، وينجب منها إبنا، يُرفض من إخوته الأكبر غير الأشقاء، حتى ينسبونه إلى أمه، بتسميته باسمها “ابن فطومة” استبعادا، أو نبذاً، ثم يتطور بنا الحكى، كما اعتدنا من محفوظ، لنصحبه فى رحلة إعادة كتابة تاريخ الإنسان (أو الإنسانية)، بحيث لا يتوقف لا عند تحقيق الذات، ولا عند معرفة العالم، بل يمتد الى ما يريد محفوظ أن يرشدنا إليه، حالة كونه هو شخصيا يحاول ذلك فى إبداعه أساسا، وفى حياته غالبا، هذا هو ما دأب عليه محفوظ المرة تلو الأخرى بكل التشكيلات الممكنة والأدوات المتاحة

إعادة كتابة التاريخ بالتشكيلات الإبداعية المعاصرة هى لعبة محفوظ المفضلة وشغله الشاغل، وقضيته الدائمة، وقد حذقها حتى تجلت فى تجليات شديدة الاختلاف رغم واحدية القضية المحورية، محفوظ لا يعيد كتابة التاريخ ليعرفنا به أو يحدّثه، أو حتى لمجؤد أن يتعرف على نفسه من خلاله، وإنما هو يدعونا لاصطحابه حتى يوصلنا فى معظم محاولاته هذه إلى بوابة “الغيب” ليكمل كلٌّ منا مشواره “إليه”، “يأتيه” كل منا بنفسه “يوما ما” “فردًا” بما يتراءى له ويقدر عليه. حتى الجبلاوى بعد أن قــُتل فى أولاد حارتنا، ترك محفوظ لنا عرفه وهو يحاول إحياءه بشكل أو بآخر، بل إن ما وصلنى من ذلك هو دعوة لكل منا أن يحييه بطريقته وعلى مسئوليته([12]).

الدافع إلى “رحلة ابن فطومة” لم يكن دافعا شخصيا ممثلا أساسا فى محاولة البحث عن الذات أو تأكيد تحقيقها، أو حتى تحقيق أسطورته الذاتية، أو حتى للتعرف والاطلاع على ما هو مختلف كما هو الحال فى السيميائى، وإنما كان الدافع هو فتح ملف “المعرفة” التى تهدى، أو يأمل أن تهدى، إلى الطريق إلى “دار الجبل”، لا يوجد فى الرواية فصل مستقل بعنوان “دار الجبل”، مقارنة بسائر فصولها مثل: “دار المشرق” أو “دار الحلبة” أو “دار الغروب”، ومع ذلك فقد كان واضحا منذ البداية أن هذه المعرفة التى تحفز ابن فطومه لا تكتمل بتحقيق الأسطورة الذاتية مهما كانت هى الكنز الذى ليس كمثله شىء، مثلما هو الحال عند كويلهو فى حالة سنتياجو، ولا هى تقتصر على معرفة العالم الواقعى، ولا هى تكتفى بإعادة اكتشاف التاريخ، وإنما هى خطوات إثر خطوات، وكشفٌ ونقدٌ ومخاطرةٌ نحو معرفة الطريق إلى دار الجبل (وليس بالضرورة الوصول إليها)، ثم إن قنديل لا يتوقف عند ذلك، بل يوظـِّف هذه المعرفة المتنوعة الممتدة فى الاستفادة فى تصحيح أوضاع الناس، بدءًا بناسه عند عودته.

لم ينشغل قنديل (ابن فطومة) بنفسه أساساً، ولا بكنزه الداخلى يبحث عنه ليتحقق لو أنه وجده، ولا هو انشغل بالتفتيش فى جواهر أعماقه، هو لم يشدّ الرحال ليتعرف على أى من ذلك، وإنما كان يطلب المعرفة الهادية الموجِّهه إلى دار الجبل، حتى يتمكن من أن يرجع ليصحح ناسه (وكل الناس) ما أمكن ذلك، بدا ذلك واضحا منذ البداية، نقرأ هذا الحوار مع أمه: فى حضور استاذه، شيخه،

ونظرت إلى استاذى مليا وقلت:

– سأزور المشرق والحيرة والحلبة .. ولكنى لن أتوقف كما توقفتَ (أنتَ) بسبب الحرب الأهلية التى قامت فى الأمان، سأزور الأمان والغروب، و”دار الجبل، ثم يردف:

 “… أريد أن اعرف، وأن أرجع إلى وطنى المريض بالدواء الشافى”(ص19)

المعرفة عند قنديل لها وظيفتها الفاعلة، هى معرفة مطلقة وفى نفس الوقت هى متوجهة امتدادا نحو تحقيق أسطورة ليست ذاتية تماما، هى أسطورة عامة مطلقة، انطلاقا من ذاته “إقرأ”، قنديل (ابن فطومة) لم يكن فردا يبحث عن ذاته ليحققها إلا بقدر ما تمثــِّل هذه الذات حضور “كل شىء” فى كيان فردى: هو جماع الحلم/الواقع فى فرد بذاته ممتدا إلى الناس (ناسه، ومن ثَمَّ عامة الناس) إلى رحاب المطلق.

يضيف قنديل مباشرة لنفسه:

“واستحوذ علىّ الحلم وتلاشى الواقع، وتراءت دار الجبل لعين خيالى كنجم معشوق يعتلى عرشه وراء النجوم…”(ص19)

ثم إنه يحدد بعد ذلك مباشرة معنى “الكدح” بقوله

 “…فنضجتْ الرغبة الأبدية فى الرحلة على لهيب الألم الدائم”(ص19)

 أحاول منذ عشرات السّنين من خلال كل خبرتى الإكلينيكية ومسئوليتى التعليمية والتدريبية أن أوصـِّل إلى زملائى وأبنائى وبناتى طالبى العلم وصبية الصنعة، أن أوصل أبعاد إيجابية هذه النوعية من “الألم الخلاّق”، أحاول ذلك بما تيسر لى من أبجدية الأعراض ولغة الطب النفسى الأحدث، فأعجز، ثم إنى أحاول أيضا أن أشرح فى مجالات أخرى معنى الكدح فى “كادح إلى ربك كدحا” فلا تسعفنى الألفاظ، ثم أفاجأ هنا شاكرا متعلِّما: كيف صاغها محفوظ شعرا محكما على لسان قنديل هكذا: “…فنضجت الرغبة الأبدية فى الرحلة على لهيب الألم الدائم” أليس هذا هو “الكدح” إليه “تحديدا”!!؟، لا يستدرجنا التركيز على غاية الرحلة الأقصى أن ننسى أن دافعها البدئى كان حافزا شخصياً أيضا، كان إحباطا عاديا، واقعيا، مؤلما:”خاننى الدين، خانتنى أمى، خانتنى حليمه”….(حليمة خطيبته التى اختطفها منه، وتزوجها غصبا، الحاجب الثالث للوالى)، وهذا لا يتعارض مع تولد الحافز العام فى نفس الوقت، فهو منذ البداية يرى ما حاق بناسه: ” ساءنى الظلم، والفقر، والجهل”(ص11)

منذ بدأت الرحلة والمعرفة تتأكد أنها الغاية والوسيلة معا، ليست فقط معرفة الذات، وإن لم تغفلها أبدا، ولكنها معرفة شاملة مسلسلة، آمِلة أن تؤدى إلى “طريق دار الجبل“، يبدو أن محفوظ شك فى قدره تلقينا تركيزه على أن يكشف لنا أن هدف رحلة حياتنا، وغاية البشرية، بعد المعرفة ومن خلالها هى الاهتداء إلى طريق دار الجبل، فراح يكرر فى كل دار (كل فصل) تقريبا، ومن البداية، أن هذه هى غايته الجوهرية، خذ مثلا:

فى “دار المشرق” يحدد لصاحب الفندق “فام” أنه:

– دار الجبل هى الهدف الأخير من رحلتى (ص27)

فيرد “فام”

– وهى هدف الكثيرين ولكن أسباب الرزق حجزتنى عنها

إذن: فالأسطورة الذاتية” هى بداية السعى نحو الاسطورة البشرية.

وفى نفس “دار المشرق” يعود محفوظ يؤكد من خلال ابن فطومة وهو يقول لابن “حمديس” قائد الرحلة ……

“مايهمنى حقا هو دار الجبل”(ص 39)

فى دار الحيرة، يدور حوار بين ابن فطومة والحكيم ديزنج، يكشف لنا عن صورة أخرى مزيفة لدار الجبل حين يعلن الحكيم ديزنج أن قوانين دار الحيرة (وهى تسمح بتعليق رؤوس المتمردين تتدلى من هامات الأعمدة معلقة بهدف الزجر والتأديب): يقول الحكيم ديزنج لابن فطومة فى يقين.

“دار الحيرة هى دار الجبل” (ص69)

وهو يعنى بذلك أن الملك (الإله البشرى) يحقق أقصى ما يطمح إليه الإنسان من سعادة

ويتذكر ابن فطومة ما يجرى فى وطنه (دار الوحى) ويسأل أستاذه مغاغة الجبيلى عن بعد:

“أيهما أسوأ يا مولاى، من يدعى الألوهية عن جهل أم من يطوع القرآن لخدمة أغراضه الشخصية؟ (ص67)

أوردت هذا المقتطف الطويل نسبيا لأبين أن دار الجبل التى شدت ابن فطومة منذ البداية يمكن أن يـَسرق اسمها دون حقيقتها أى مدع، أو جاهل، أو مزيِّف ناكر لها بإطلاق، سواء بسوء استعمال اسم الحقيقة ليخدم عكسها، أم بتألـِّه إنسانى تميُّزى طبقى مغرور ينفيها.

وفى “دار الحيرة”، أيضا بعد أن يستولى الحكيم ديزنج على “عروسَه،” زوجة ابن فطومة، بالقوة ويسجنه بتهمة ملفقة، يأتيه فى السجن، صوت لم يحدد مصدره يدير معه حوارا يقول:

– لكن ثمة بلدان أفضل

………….

فيتساءل ابن فطومة عن ما يعرفه عن “دار الجبل”

فيرد الصوت:

– ليس أكثر مما يقال من أنها دار الكمال ( ص 79)

وحين وصل إلى “دار الحلبة”، (حيث ترتع الحرية) وصف الشيخ حمادة نظامهم بأنه

“نظام فريد لن يصادفه أبدا”

فيتساءل قنديل (ابن فطومة):

– ولا فى دار الجبل؟

فيؤكد الشيخ حمادة السبكى أنه لا يعرف شيئا عن نظام دار الجبل ولا يستطيع أن يقارنها بأى بنظام ليترك الباب مفتوحا إلى الغيب.

وفى حواره مع الحكيم “مرهم”  فى دار الحلبة أيضا، يؤكد أن حبه للمعرفة، هو السبيل إلى تحقيق هدفه الأساسى. (ص 104)

“- لست من علماء وطنى ولا فلاسفته، ولكنى محب للمعرفة ومن أجل ذلك قمت بهذه الرحلة”

يرد عليه الحكيم (؟) (كما يتبادر لكل من يقدس المعرفة للمعرفة)

  • فى هذا (فى طلب المعرفة) ما يكفى،

ثم يردف متعجبا:

  • وما هدفك من الرحلة؟

فيؤكد ابن فطومة من جديد أن هدفه هو:

– زيارة دار الجبل

فينبهه الحكيم مرهم إلى احتمال شطحه، وأن العقل أغناهم عن مثل كل ذلك حين يؤكد “أن دار الحلبة، قد قدست العقل الذى أغناها، قائلا:

“.. من آمن بعقله أغناه عن كل شئ”

ولا نتصور أن سيطرة العقل وسجن الحواس هى ظاهرة حديثة لم تظهر إلا مع غرور وغطرسة نظام دار الحلبة، مرتع الحرية – بتعريفهم- فقد نتذكر حوار جرى فى دار المشرق (ص 47) مع كاهن القمر، حين احتج ابن فطومة على تأليههم القمر، وهو يؤكد أن إِلـَهـَـنَا (إله ابن فطومة)

– .. فوق العقل والحواس

فيرد الكاهن:

  • إذن فهو لا شىء

 وهذا يقابل تماما ما قاله الحكيم مرهم فى دار الحلبة

 من آمن بعقله أغناه عن كل شىء

دار الجبل ليست حلما طوبائيا:

قنديل يواصل حديثه مع الحكيم مرهم ليؤكد ما يفيد أن الوصول إلى دار الجبل، وإمكان معرفة بعض أسرارها، هو وسيلة أيضا حين يقول:

– دار الجبل ليست بغايتى الأخيرة، ولكنى أرجو أن أرجع منها إلى وطنى بشئ يفيده.

وفى “دار الأمان” (حيث الضبط والربط البوليسى الشمولى) نكتشف أن دار الجبل لم تكن حلما طوبائيا، وأنه ليس مستعد بعد أن يكتشف بعدها عن الواقع، وأنها ليست إلا حلما،  نقرأ كيف يجرى الحوار مع ساميه، زوجته الثانية (ص114):

وذكرتنى بمشروعى النائم، أيقظتنى من سبات الراحة والعسل، من الحب والأبوة والحضارة، وقلت كأنما لأستحث المستنيمة للواقع:

– سأكون أول من يكتب عن دار الجبل

فقالت ضاحكة:

– لعلك تجدها ابعد ما يكون عن الحلم

فقلت باصرار:

– إذن أكون أول من يبدد الحلم … 

 ويجرى مثل ذلك فى حوار آخر حين راح “فلوكه” (حارسه، بل مُرَاقِبُه) يعاير ابن فطومة إذ سأله فلوكه بعد حوار قصير

– إذن لم كانت الرحلة إلى دار الجبل

فيقول قنديل:

– العلم نور

فيسخر منه فلوكه

– فهى رحلة إلى لا شىء

السجن الحسى فى دار المشرق، ثم الموقف العقلى الاختزالى فى دار الحلبة، يتكاملان، ليؤديا إلى الموقف العدمى الإنكارى هنا فى دار الأمان “فهى رحلة إلى لاشىء” 

يتحدى محفوظ (ابن فطومة) ويواصل

وبعد (1)

من البداية ومنذ أن أشار له شيخه الجبيلى[13] أن زيارة دار الجبل كانت “أهم هدف لرحلته” هو (رحلة استاذه) يسأله قنديل وما “خطورة دار الجبل”، (ص10) فيرد الشيخ

 – “نسمع عنها الكثير، كأنها معجزه البلاد، كأنها الكمال الذى ليس بعده كمال”…،

نلاحظ بعد ذلك أن أحداً فى الرواية لم ينجح أن يصل إلى “دار الجبل” فعلا ليكشف لنا عن وجهها الذى يبدو أنه ليس كمثله شىء، الوحيدة التى أُعلن نبأ وصولها فى نهاية الرواية(ص 154، علما بأن آخر صفحة هى 162) كانت “عروسة”، زوجته السابقة وأم أولاده الأُوَل، وهى التى اصبحت بوذية بزواجها من بوذى بعد انفصالها عنه ثم تحررها، أقول: كان وصول عروسه إلى دار الجبل مرتبطا أيضا “بالألم” (الكدح)

هكذا يخبره الشيخ الذى التقاه قرب نهاية الرحلة فى دار الغروب، والذى نفى أنه حاكم هذه الدار

 “لا حاكم لهذه الدار، أنا مدرب الحائرين، (ص 150)

ثم أخبره بمصير “عروسة” قائلا:

– لقد سبقـَتْ إلى دار الجبل!

فسأله فى دهشة

– وفقت إلى خوض التجربة؟

فقال باسما

– بفضل ما عانت من آلام (ص 154)

فهو “الكدح الذى يمكن أن يوّصل “إلى دار الجبل”، وليس مجرد “البحث” الذى يوصل إلى الكنز بالداخل، سواء كان تأكيداً الذات، أو معايشة الأسطورة الذاتية، مثلما كان الحال عند الشاب فى “السيميائى” عند كويلهو.

كنزٌ آخر: القوة الكامنة

بصريح العبارة، يعترف محفوظ بهذا الكنز الداخلى فى كل منا، لكنه ليس كنزا من ذهب الذات وجواهرها، تكتمل به راحة البال وتحقيق الذات، بل هو كنز من القوى الكامنة أغيـّر به حالى، وأدفع به مسارى، وأصحح به مسار ناسى (فالناس)، قرب آخر حوار مع الكهل الذى التقاه فى آخر دار الغروب “كهلا أبيض الشعر مرسل اللحية، صامتا ناعسا أو غائبا متوحدا بلا قرين أو قرينة”، فى الجنة بلا ناس (148) دار هذا الحوار:

  • كل شىء يتوقف عليهم، انى أدربهم بالغناء لتمهيد الطريق، ولكن عليهم أن يستخرجوا من ذواتهم القوى الكامنة فيها.

فقلت بحيرة:

  • لم أسمع مثل هذا الكلام من قبل.

  • هذا شأن كل جديد.

فسألته بضراعة:

  • ما معنى أن استخرج من ذاتى القوى الكامنة فيها؟

  • معناه أن فى كل إنسان كنوزا مطمورة عليه أن يكتشفها خاصة إذا أراد أن يزور دار الجبل.

كنز ابن فطومة هو قوى كامنة نكتشفها إذا أردنا أن نواصل إلى دار الجبل لتصب فى الناس وكنز الشاب فى السيميائى هو ذاته الداخلية الرافضة الواعية الساعية إلى أن تتحقق.

البداية

محفوظ أنهى رحلة قنديل محمد العنابى (ابن فطومة) بعنوان يقول “البداية” (وليس النهاية) مقارنة بعنوان كويلهو “خاتمة” (الختام العادى لأى عمل!)

أوضح محفوظ فى هذه “البداية”: كيف أن قنديل يزمع أن يواصل رحلته إلى الجبل الآخر “… ووقفنا أسفله ننظر إلى أعلاه فوجدناه يعلو على السحب ويتحدى الأشواق”(ص156).

 هكذا تنتهى الرحلة “بأن تبدأ”.

ويتركنا محفوظ وكل واحد فينا يشعر أن عليه أن يواصل رحلته فردا، فى الممر الضيق الذى لا يتسع لناقة أو جمل.

إلا أن المسألة هكذا قد تبدو أنه أنهاها باعتبارها قضية فردية، حتى لو كانت هى البداية، وليست النهاية، وهذا ما أحاول أن أنفيه طول الوقت، فها هو قنديل لا يترك المسألة غامضة، فهو يعلن الخاطر الذى يجعل الوصول إلى دار الجبل، ومعرفة بعض أسرارها، هو من أجل الناس، بدءًا بناسه وليس نهاية المطاف، فها هو يتجه بدفتر رحلته:

“…. إلى صاحب القافلة ليسلمه إلى أمى أو إلى أمين دار الحكمة ففيه من المشاهد ما يستحق أن يعرف، بل فيه لمحات عن دار الجبل نفسها تبدد بعض مايخيم علينا من ظلمات، وتحرك الخيال لتصور ما لم يعرف منها بعد“(ص157).

(ربما مما ليس كمثله شىء).

 وهل فعل محفوظ طوال حياته مبدعا غير ذلك؟

هكذا ينهى محفوظ رحلة ابن فطومة ويفتح الباب إلى المطلق المجهول الرائع اليقين

نهاية (بداية) رحلة ابن فطومة شديدة الدلالة: محفوظ بعد أن أوهمنا أنه “جبل” “واحد”، وأنه نهاية المطاف بعد “دار الغروب”، لوّح لنا بجبل آخر أبعد، أروع وعْـدًا، هكذا نكتشف أن الجبل الأول ليس إلا “جنة بلا ناس” برغم الناس اثنين اثنين (ص147) خطوة تمهيدية نحو الجبل الأبعد الواعد الغامض، ويمكن هنا أن نتذكر بحذر شديد “الجبلاوى فى أولاد حارتنا”، وغموضه، البعيد القريب.

 يحكى ابن فطومة وصولهم الجبل الأول هكذا:

غادرت القافلة دار الغروب، كان علينا أن نعبر الجبل صعودا وهبوطا، وواصلنا نسير بالنهار، ونعسكر بالليل، حتى بلغنا السطح بعد انقضاء ثلاثة أسابيع (سطح الجبل الأول)(ص155)

وهكذا يوهمنا محفوظ أن هذا الجبل الأخضر (لاحظ الأخضر) هو نهاية نهاية المطاف وغاية المراد.

“كان سطحا غزير الأعشاب“، لكن الشيخ قال وهو يشير بيده “هاكم دار الجبل”

إذن فهذا الجبل الأقرب ليس هو دار الجبل، ولا هو نهاية المطاف!!

“كان يشير إلى جبل آخر يفصل بينه وبين الجبل الأخضر صحراء، وعلى سطحه قامت الدار عالية مترامية الأطراف هائلة القباب تنطق بالعظمة والسمو”

وإذا بصاحب القافلة يقول:

“هنا ينتهى سير القافلة يا سادة”(ص156).

ولا يصدق قنديل ويحتج قائلا:

“بل تصعد بنا حتى دار الجبل” (الحقيقى الأصلى) (ص 157)

هكذا يتركنا محفوظ دون أن يحكى حتى تصور قنديل عن الجبل الآخر الشاهق الذى “يعلو السحاب ويتحدى الأشواق”

يأمل قنديل فى “النهاية”/”البداية” أن يصل دفتره (إبداع محفوظ) إلى من خَلَفَ وراءه، وبرغم أنه ليس فيه ما يشفى الغليل، بدرجة كافية عن هذا الجبل الأخر، لكن بالدفتر (مثل إبداع محفوظ) لمحات عن دار الجبل بما…: “يخيم عليها من ظلمات، وتحرك الخيال لتصور ما لم يعرف منها بعد”.

نهاية رواية السيميائى بعنوان “خاتمة” (مقارنة)

كويلهو ينهى رحلة الشاب مع السيمائى بعنوان محدد مألوف، هو “خاتمة” وهو يذكر الشاب أخيرا باسمه سنتياجو، ويجعله يحصل على الكنز من حفرة تحت الشجرة، وفى نفس موقع انطلاقه، (تذكر أن عنوان  نهاية رواية محفوظ هو: “البداية” وهو عنوان غير المألوف، بل عكس المألوف، وله دلالته المقصودة).

نواصل مع الشاب:

 “وبعد نصف ساعة اصطدم الجاروف بشىء صلب، وبعد ساعة كان أمامه صندوق مُلىء حتى حافته بعملات ذهبية أسبانية قديمة..، وكانت أحجار كريمة.. الخ”،

وكان الشاب قد تساءل عن لماذا أخفى عليه الساحر العجوز أن الكنز هو هنا، وليس هناك، فجعله يقوم بكل تلك الرحلة، وأجاب نفسه عن طريق الريح بلسان الساحر:

“لا.. فلو أننى أخبرتك لما رأيت الأهرام وهى آية فى الروعة”.

وهكذا يظهر الفرق بين تحقيق الذات، ومعايشة الأسطورة الذاتية لتخليق الآتى، تحقيق الذات هو تأكيد لما هو أنت، وهو لا يحتاج إلى كل هذه الرحلة، يكفى أن تتعاظم قشرتك وتتحدد معالمك لتكون أنت ذاتك، أما معايشة أسطورتك الذاتية فهو يحتاج إلى قبول “مكونات” “ما هو أنت”، “كل ما هو أنت”/”هم”، لتتخلق منه باستمرار خلال رحلة الحياة كلها،

“الحياة سخية حقا لمن يعيش أسطورته الذاتية، لا لمن يجد كنزه نفسه فى المحل ذاته”

تتم رحلة السيميائى بقفلة خاتمة طيبة حين يعد فاطمة بعد أن نادته من خلال الريح، أنه

“ها أنذا يا فاطمة إنى قادم”

كانت هذه هى آخر جملة فى السيميائى، فبدت لى نهاية أكثر تواضعا من حلم الإنسان الممتد، وإن كانت نهاية طيبة ضرورية بشكل ما، خيل لى أن كويلهو – هكذا- قد وضع الصحراء، والغزو على الطرف الآخر من الرقة والحب، مع أن الصحراء والحرب والتهديد والموت والمخاطرة كانت من أهم معالم الطريق إلى “روح العالم”، ثم إن نداء فاطمة وتلبية الشاب له بدا نهاية مطاف “تحقيق الذات”، مقارنة بنداء دار الجبل الغامض الواعد لكل الناس بالموعود فردا فردا امتدادا من الذات الفرد إلى  الذات الكل  إلى المطلق.

هل هذه النهاية الرقيقة الوديعة فى السيميائى هى ما يفسر نهاية المؤلف شخصيا: حيث عاد كويلهو إلى معتقداته الكاثوليكية التى آمن بها والداه” (بعد تجربة روحانية عميقة وحادة)؟ مما قد يفسر أيضا نشاطه مؤخرا (شخصيا) فى تمويل رعايته للأطفال اللقطاء وكبار السن ..إلخ؟

كويلهو حقق للشاب “سنتياجو” غايته بمجرد أنه أعاده إلى قواعده ليحفر الأرض فيجد الكنز ثم يناديه صوت فاطمة عبر الريح فيعد بأن يلبى النداء

هذه الخاتمة الرقيقة مقبولة ومهمة، وهى ليست أقل وعداً بالحركة، لكنها على أية حال تركز على مكافأة للفرد الذى غامر لمعايشة أسطورته الذاتية فى حين أن نهاية رحلة أبن فطومة كانت جماعية واعدة، حتى بعد الوصول إلى دار الجبل، واعدة، بالعودة إلى ناسه يتعلمون من رحلة المعرفة والكشف والكدح مفتوحة النهاية.

مقابلات جوهرية:

أولاً: التحذير من استسهال نقد ابن فطومة بفك الرموز:

محفوظ بدأ رحلته إنطلاقا من الوطن إلى دار المشرق، لينتهى بها إلى ابتغاء وجه الحق تعالى دون تعيين أو اغتراب، مرورا بدور الحيرة، فالحلبة، فالأمان، فالغروب، الخوف هو أن يتعجل القارئ أو الناقد المستسهل ترجمة كل ذلك اختزالا إلى رموز تشير إلى مرحلة الحياة البدائية، ثم دول شيوعية أو رأسمالية أو شمولية فالموت (الغروب) أو غير ذلك، مع أن كل هذا جائز، إلا أنه ليس من فخر المبدع أو من مهمته، أن يقدم لنا ما نعرف، برموز لا نعرفها ليؤكد ما نعرف([14]) محفوظ هنا قدم لنا أسطورة قنديل العنابى الذاتية حالة كونها فى جدل مع كل الأنظمة المتاحة على أرض الواقع الآنى، وعبر التاريخ المعروف، بما فى ذلك الأساطير كتاريخ، لينتهى وهو يحفزنا أن يخلّق كل منا أسطورته الذاتية بكل ما هو متاح، توجُّها إلى ما بعدها مما لا يلغيها، بل يثريها، لتصب معرفتنا فى الناس، “إليه” معا.

ثانياً: المقابلة بين كويلهو ومحفوظ، واختلاف الثقافات والغاية:

رأيت قبل أن أختم أطروحتى أن أشير إلى أننى رفضت بعض ما تواتر من تعليقات ساذجة فرحة برواية كويلهو لمجرد أنه ذكر أهرام الجيزة، أو جعل الفيوم مسرحا، وأن أنبه إلى سطحية الترحيب بنظرته “الموضوعية الحانية” لبعض سلوكيات المسلمين، هذا الموقف أو ذاك قد يمثل موقفا طيبا منه، لكنه لا يمثل الواقع كما جاء على لسان ابن فطومة “ديننا عظيم وحياتنا وثنية”، لا يمكن أن تقارن طبطبة كويلهو على الإسلام والمسلمين بما غاص إليه محفوظ فى عمق إشكالة التعامل مع قضية الوجود الممتد، بدءا بنقد قاس، ورؤية جريئة حازمة لواقعنا الذى وجدنا أنفسنا فيه مسلمين، مزيفين، ونحن نشوه الإسلام بادعائه غالبا.

 كويلهو كان مثل سائح أمين يرانا (نحن المسلمين) بكرم واحترام، لكن محفوظ راح يضعنا – كمسلمين – فى بؤرة أسئلة الوجود مثلنا مثل كل الأديان واللا أديان، ربما لهذا انتهى كويلهوا – شخصيا- كاثوليكيا طيبا، وظل محفوظ حتى اقترب من المائة، يكدح إلى ربنا كدحا ليلاقيه، وكلاهما يدعونا أن نسعى إلى تحقيق أسطورتنا الذاتية: الأول “كويلهو”، لتتحقق ذواتنا بالعثور على كنزنا داخلنا فردا فردا، والثانى “محفوظ” لنحقق أسطورتنا الذاتية كجزء من الأسطورة الكونية الواعدة بما لا نعرف ومن ثم الدائمة الكدح إليه، لتصب فى ناسنا، فالناس.

محفوظ، فى ابن فطومة، تَحَمَّل مسئولية الحيرة الوجودية التى انتهى إليها الإنسان المعاصر، ولم يحلّها بهذا الحل السحرى الذى يفرح به معظم أهل الغرب “ديكورا” أكثر منه حلا جوهريا، فى حين نتمادى نحن فى سلبياته دون إيجابياته حتى الخرافة.

كويلهو – وهو ابن قومه – راح يقرص أذن ناسه حتى لا يذهب أى منهم بعيدا عن أسطورته الذاتية، مهما بدت سحرا أو لاحت غامضة، ربما لهذا انتشرت هذه الرواية عندهم.

محفوظ فى ابن فطومة يدعو قومه (وكل الناس) أن يتحمل كل واحد منهم مسؤولية إعادة تخليق أسطورته الذاتية، من خلال احتواء تاريخه، واقعا آنيا، ومن ثم إطلاق طاقته الداخلية، فى سعى معرفى متصل، “إقرأ”، على كل المستويات، ومن خلال كل قنوات البحث، لينشط بذلك جدل التطور امتدادا إلى الوعى المطلق فوجه الحق سبحانه وتعالى.

ثالثاً: عوْد على بدء

نعود إلى السؤال الذى لاح منذ البداية: ماذا لو فشل أى منا فى تحقيق فتخليق أسطورته الذاتية؟

ماذا لو قبل الواحد منا هذا التحدى بقبول الاعتراف بوجود أسطورته الذاتية، ثم تخلت روح العالم عنه، ولم تتآمر لتحقيقها، كما يقول الشيخ للشاب عند كويلهو فى بداية الرواية الأمر الذى نفاه صاحب القافلة فى نهاية ابن فطومة وأن كل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه، وهو يعلن: من هو قَدْرُ الكدح فليكدح، ومن يشق عليه السير فليرجع مع القافلة.

هكُذا يفتح محفوظ الأبواب لكل الاحتمالات بما فيها الرجوع كلية عن المحاولة: فعليه أن يرجع عن المحاولة من لا يريد أن يعبر إلى دار الجبل كما لاحت كيف لاحت، وغير ما لاحت!!،

 ربما تجنب كويلهو ترك الباب الأخير مفتوحا على الغيب نظراً لخبرته الشخصية، فمن يمر بخبرة الجنون ثم يبرأ منها بطريقة فيها بعض الحلم، والمثالية والتسكين، يصبح غير مستعد لمجرد التفكير فى فشل معايشة محاولة تحقيق (لا تحقيق) أسطورته الذاتية.

محفوظ يترك لنا الباب مفتوحا لمواصلة السعى، مع أنه لا ضمان: “إذ ترامت الصحراء أمانا بلا نهاية، ولم نكد نرى الجبل الآخر“.(ص160)

فشل تحقيق الأسطورة الذاتية، مع فشل التراجع عن المحاولة هو “المرض” فى أخطر صورة.

الجواب عاشه كويلهو شخصيا (مما سبقت الإشارة إليه عن مرضه) كما صوره فى روايته “فيرونيكا تقرر أن تموت”: إن إجهاض هذه المحاولة لتخليق (وليس للبحث عن، ولا تحقيق) الأسطورة الذاتية قد يترتب عليه ليس فقط العدول عنها، كما سمح محفوظ، وإنما التفسخ أمام زخم حركيتها التى إذا لم يحتوها التشكيل القادر الجديد أصبحت مفسٍّخة، أو الانسحاب بعيدا عن المواجهة، …فهو الجنون.

لا أعرج إلى جنون كويلهو فأنا لا أعرف عنه شيئا، وهو لا يعيبه أصلا، فأكتفى بالوقوف عند جنون فيرونيكا، حيث قدم كويلهو رؤيته للجنون باعتباره تعبيرا رائعا عن رفض النمطية والتكرار واللامعنى (مثل بداية الشاب سنتياجو أيضا)، وفى حين انهزمت جرونيكا، ولو مرحليا، فإن سنتياجو الشاب فى السيميائى عملها وانتصر، كما أن فيرونيكا نفسها انتصرت فى النهاية حتى على مرضها الجسدى تماما مثلما انتصر كويلهو شخصيا على مرضه فى حياته الخاصة.

الانتصار بالشفاء المريح (العثور على الكنز) غير الانتصار بالاستمرار والإصرار والأمل فى الوعد، بدفع عجلة النمو وهذا نوع أعمق من الشفاء النامى مثلما يعلمنا محفوظ من ابن فطومة.

المفهوم الذى قدمه كويلهو هكذا فى فيرونيكا هو مفهوم جيد للجنون، لكنه ليس كل الجنون، فثم جنون أخطر وأعمق مثل ذلك الذى صوره زوسكند فى العطر([15]) (مثلا) حين غاص حتى نخاع الدنا DNA منذ الولادة وهو يعلن الانفصال الحاسم عن هارمونية الكون كله، وليس فقط عن البشر فرادى وجماعات، هذا الانفصال عن الكون كله هو الذى يحيل الكيان البشرى نيزكا غريبا دائرا فى فلكه الخاص بما يمثله الجنون المتأله القاتل، كما صوره زوسكند فى رحلة باتيست جرينوى، فى العطر، ربما كان هذا المستوى من الجنون فى عمق ورعب خطورته هو ما يقابل على أقصى الجانب الإيجابى الآخر ذلك الوجود الرائع الواعد الذى يدعونا محفوظ لمواصلة السعى إليه.

رابعاً: مفترق الطرق

يمكن إيجاز تنويعات رحلة الكائن البشرى من خلال كل ما سبق إلى ما يلى:

(أ) تحقيق الذات – اكتشافا- بمعنى تأكيد قبولك نفسك، بنفس معالمك من خلال قبولهم إياك، بما هو أنت، بعد الاعتراف بك وبإنجازاتك وبأحقيتك كما وصلتك، فسكنتَ إليها واكتفيت بأن تتأكد أنك أنت بما هو “أنت”. ويبدو أن هذا ما كان فى رحلة الشاب “سنتياجو” فى السيميائى.

(ب) رفضك، ناقدا، التوقف عند ذاتك الظاهرة الجاهزة المنمطة باعتبار أنها ليست بالضرورة “أنت”، وإنما أنت جّماع أسطورة تطورك، الواعد بطبيعة التطور بالتكامل المتواصل، بما يتضمن أن الحياة الحقة هى أن تعيد تخليق هذا الجمّاع من كل تاريخك، تعيد تخليقه بخبراتك ورحلاتك وكدحك المعرفى الآنى فتتخلق منه أسطورتك الذاتية الدائمة التخلق، فتتحقق ذاتك ضمنا كلما احتجت إلى وقفة تلتقط فيها أنفاسك، لتعاود الرحلة والتشكيك، إلى نهاية مفتوحة، دون توقف، ويبدو أن هذا هو ما تجلى من خلال رحلة ابن فطومة بوجه خاص.

(ج) أن تفشل هذه المحاولة فلا تستطيع أن تحقق ذاتك ولا أن تخلق أسطورتك الذاتية فهو الجنون والتناثر برجعة أو بغير رجعة.

(ء) أخيرا، وآخراً (مع أنه الأغلب): ألاّ تحاول أصلا، وتظل مسجونا فى ذاتك القشرية التى استلمتها من “مخصوص”، أوصاك بعدم فتح المظروف أصلاً، فسمعتَ كلامه وأطعته، ولم تقم بمثل هذه الرحلة، ولا أية رحلة اللهم إلا مرغما فى أحلامك أثناء النوم وتلك الأحلام التى نمحو آثارها أو ننكرها، أو نُحِل محلها أحلاما “مصنوعة” أولا بأول، ثم تزيِّف ما تبقى منها بالتفسير وهذا هو اختيار الأغلبية).

خامساً: ما بقى أعظم

هذه ليست دراسة شاملة لرحلة ابن فطومة بالذات بقدر ما هى تركيز على الفرق بين مسارين، ثم بالتركيز على النهايتين، بما فى ذلك عروج إلى بعض معالم الخلفية فى كلًّ، وبالذات فيما يتعلق بالفرق بين ثقافتين من ناحية، وبين مبدعين، من ناحية أخرى.

كويلهو يخاطب ناسه أن ثَمَّ حل آخر، قوانين أخرى، علوم أخرى، قواعد أخرى، وأن هذه الحلول ليست سحرية أو خرافية بقدر ما هى تكميلية لها جذورها التى ننطلق منها وبالتالى، نجفّ ونندمل ونغترب إذا نحن انسلخنا عنها.

أما محفوظ فهو يخاطب ربه بدءاً من نفسه إلى ناسِهِ إلى المطلق، فهو ينشـِّط حركية التطور عبر التاريخ ليعرف أكثر، فيعود يسهم فى تغيير ناسه، وهو يعلن أن النظُم الحياتية مهما اختلفت بالطول (تاريخا) وبالعرض (تنوعا) فالسعى مستمر، والمعرفة ممكنة، والخطأ قابل للتصحيح، وأن تحقيق المراد من كل مرحلة هو ممكن، لكنه مرحلة متجدده إلى “مراد” “فمراد”.. بلا نهاية، وأن انفصال الفرد عن المجموع ليحقق أسطورته الذاتية ليس هو غاية المراد، فهو أمر ناقص يكاد يكون ضد الطبيعة البشرية الأكمل (بل الطبيعة الحيوية عموما)، وأن رحلة الإنسان التى قد ينفصل فيها عن الناس هى فى نهاية الأمر إلى الناس مرورا بتحقيق الذات المستمرة أبدا مع الناس إلى المابعد، فابن فطومة لم ينفصل لتحقيق أسطورته الذاتية مستقلا، وإنما لتخليق وجوده المستمر طولا، بدءًا من تاريخه، وامتدادا إلى ما لا نعرف، وعرضا فى ناسه بكل اختلافاتهم وأديانهم وحروبهم وظلمهم ومحاولاتهم.

قراءتى فى رحلة ابن فطومة لذاتها لم تكن مطروحة فى المقام الأول من خلال هذه المداخلة، فهى رواية شديدة الثراء والحفز، إذ تعيد تاريخ البشرية، وهى أيضا فرصة لإعادة النظر فى الذات والوجود والحياة إليه.

كما قلنا فى البداية إن المبدع الجاد والأصيل هو صانع الأساطير الأحدث، فهو يعيد كتابة التاريخ بوعى معاصر، ليس قاصرا على وعيه الشخصى مهما بلغ تفرد إبداعه، بقدر ما هو استيعاب لوعى ناسه، رواية ابن فطومة مليئة بقضايا كثيرة، تقدم لنا إنارة متعددة الزوايا، وهى تصحح لنا فى نفس الوقت بعض ما شاع عن محفوظ، وآرائه، وكتاباته.

خذ مثلا ما شاع عن محفوظ من رأيه فى المرأة: هذه الرواية تقدم المرأة “أصلا” فى الوجود البشرى، ليس فقط كأم مثل فاطمة (فطومة) وإنما ككيان فاعلٍ، مُبادئٍ مبدعٍ مخترقٍ عامل خلاّقٍ، بدا ذلك من أول ظهور المرأة البدائية الأولى فى دار المشرق حيث جعلها محفوظ حرة  لا تابعة، هى التى تختار وتنتقى، وهى التى تترك كيف شاءت متى شاءت بمسئولية قادرة، وظل هذا التقدير والتقييم الإيجابى طول الرواية حتى أن الشخص الوحيد الذى وصل فعلا إلى دار الجبل كان إمرأة (عروسة زوجته وأم أولاده الأولين: كانت بوذية بل أصبحت بوذية). كما أن أولوية وضرورة وحق العمل للمرأة تجلت فى دار الحلبة بوجه خاص، أما مسئوليتها فى رعاية الأولاد واستمرار الحياة، والإسهام فى المجتمع فبدأت من البداية، واستمرت طوال الرحلة.

خذ أيضا موقف محفوظ من الجنس أو من العلاقات الأسرية التقليدية، وكيف تعامل معها جميعا بنقد مسئول متنوع متطور بنفس هذا التناول السهل الممتنع.

خذ أيضا موقفه من الدين والسماح فى مقابل تشويه الدين واختزال الايمان وحيرة الإنسان إزاء هذا وذاك فى كل الدور بلا استثناء.

خذ مثلا نقده للتشويه الذى ألحقناه نحن بالاسلام ونحن نستعمله لغير ما هو، فى حين نزعم أننا ننتمى إليه ونطبقه

خذ مثلا موقفه من الحرية، ومن العدل، والحاكم الظالم ومن القهر، ومن إغارة الأقوى للاستيلاء على موارده([16]).

 خذ مثلا تحذيره من إغارة الأقوى والأظلم على الأضعف والأفقر، وإرغامه على تغيير مبادئه من خارجه، مستعملا كل ما بيده من إعلام وخداع بما فى ذلك الحروب الاستباقية وتنوير الآخرين “بالعافية”، ليكونوا صورة منه.

كل هذا يحتاج إلى عوده وعودة إن كان فى العمر بقية.

      مقدمة عن:

حركية الزمن، “وإحياء اللحظة”

فى إبداع: نجيب محفوظ ([17])

 دراسات نقدية 2

استهلال:

هذه القراءة  ليست إلا “مقدمة” تهدف إلى تقديم الخطوط العريضة من واقع فروض سابقة للكاتب، وهى تعد بدراسة أشمل لنفس الموضوع،  من البديهى أننى لا أطمع أن تغطى هذه الورقة كل علاقة إبداع محفوظ بالزمن، وسوف أكتفى بالانتقاء الدال من عمليْه الأخيرين: أصداء السيرة الذاتية، وأحلام فترة النقاهة، مع إشارة محدودة إلى ما قبل ذلك، وبالتالى أجد أنه علىّ أن أقدم اعتذاراً باكر لما سيجده القارئ من إشارات واعدة دون أن تفى بما تعد.

محفوظ والتاريخ والزمن والمكان

التاريخ الذى انشغل به محفوظ،  فشغلنا معه، عبر  رحلته الإبداعية ليس تأريخاً لأحداثٍ مضت، وإنما هو عملية إحياء لما تحتويه خلايانا (نحن المصريين، ومن ثَمَّ  نحن البشر) هذا التاريخ هو “هنا والآن” متجددا أبدا.

  والزمن الذى يتحرك فيه إبداع محفوظ، طول الوقت،  ليس هو الزمن الذى يمرّ بنا أو نمر عبره، وإنما هو تشكيل  إبداعىّ لحركية الوجود  بكل ما يعنيه جدل “وعى الحياة” مع “وعى الموت”.

لا أود، ولا ينبغى، أن أدخل فى مناقشة نظرية، أغلب النقاد (وغير النقاد) يلمون بها إلماما كافيا، للتفرقة بين “الزمن”، و”الزمان”، و”الوقت”، دعونا نستبعد ابتداء كلمة “الزمان” التى تستعمل أحيانا لتعبر عن عصرِ ما أو عن القدَر،([18]). “الوقت” هو قَدْر معلوم يمر بين حدثين، هو كَمٌّ يـُقدر بوحدات متجاورة متتالية متفق عليها، هذا هو ما يمكن أن نسميه الزمن التتالى، أو الزمن التتابعى، أما الزمن الذى  هو جوهرٌ موضوعىُّ قائم، وحضور مكانىًّ مَرنَ،  متعدد المستويات، ووعى نشط متكاثف الطبقات  قابل للتشكيل والتخليق، فهو موضوع هذه الورقة .

محفوظ، فى معظم، إن لم يكن فى كل أعماله، حذق تخليق الزمن وتشكيله ليصل إلى المتلقى “هنا والآن” طول الوقت، محفوظ، وهو فيلسوف كامل، ومتصوف كادح، يتخفى فى صورة روائى جميل سهل ممتنع: استطاع أن يكشف عن نبض التاريخ فى خلايا الإنسان إذ يتعرى له فى تجربة إبداعه، فيحييه إحياء، وقد امتلك أيضا ناصية تخليق الزمن تجديداً فى كل آن، وهو يعايش الموت وعيا، والحياة كذلك طول الوقت، عناوين كثيرة من أعماله تسربت إليها علاقته بالزمن([19]) وقد التحم الزمن بالمكان عنده التحاما جوهريا طول الوقت. المكان عند محفوظ لا ينفصل عن الزمن، والزمن عند محفوظ هو مكان متعين، وقد أنار لنا د.حسين حمودة قضية “الزمكان” عند محفوظ  فى عمله المتميز “فى غياب الحديقة” ([20]) حين نبهنا إلى هذا الالتحام فى رحلة جادة طويلة عبر كل أعماله كشفت لنا أبعاد وأهمية ودلالات هذا المفهوم (فالمصطلح)، غير أنى شعرت أننى لست بحاجة إلى هذا اللفظ الجديد، مع الاعتراف بجدية الدراسة وفوائدها، ذلك أنه طوال رحلتى مع محفوظ  لم يبلغنى منها أبداً أن ثمة مسافة، أو حتى خط يفصل بين الزمان والمكان، محفوظ لا يخلّق الزمن إلا فى المكان، ولا هو يرتاد المكان منفصلا عن زمنه، هو يحرك المكان بزمنه، فيتحرك الزمن فى مكانه طول الوقت، ومن البداية، إلى ما شاء الله إبداعاً.

محفوظ يمد الزمن إلى مداه بلا مدى، فيُحضّر لنا المطلق فى “الهنا والآن” مفتوحا  إلى غايته بيقين التوجه دون تحديد الوصول، المتابع لأعماله المفتوحة إلى المطلق لا يخطئ بحثه عن الحق المحيط سبحانه وتعالى، فهو لا بد أن يجد نفسه فى رحاب كرسىٍّ وسع السماوات والأرض ليس كمثله شىء، محفوظ يتقن الإمساك بدفة الإبداع يوجه بها سهم الزمن نحو المطلق، من أول “زعبلاوى” حتى “أحلام النقاهة”، مرورا “بالطريق” و”رحلة ابن فطومة” و”العائش فى الحقيقة” و”الحرافيش” إلى “الأصداء”، وغيرها.

فى أطروحتى الباكرة فى نقدى للحرافيش بعنوان “دورات الحياة وضلال الخلود: ملحمة الموت والتخلق فى الحرافيش” بدأت فروضى بهذا المقطع ([21])

” فوق قمة الوجود الحيوى، وما بين طرفى “الموت المصير”، و”التخلق: إعادة الولادة”، تتجدد الحركة، وتبعث الحياة من أبيات القصيدة/الملحمة طولا وعرضا، دورة وإعادة، جدلا وتوليفا، دون انقطاع”.

الدافع/البدء: هو الموت.

والقانون/الحتم: هو الحركة.

والمسرح/المجال: هو الزمن.

والفصول/التتالى: هى دورات الحياة المفتوحة النهاية.

والعلاقات/التجاوز: هى التراكمات المتفاعلة معا، حتى التغيّر الكيفى. كذلك: الكمون/التمثيل حتى التفجر/البدء مرة أخرى.

حين عدت الآن إلى هذه الأطروحة ناقدا نقدي كالعادة،  انتبهت كيف أن تلك الدراسة الباكرة، قد  ركزت أساسا على دورات الحياة من خلال تفعيل برامج الإيقاع الحيوى شاملة الموت والبعث، أكدتْ هذه الدراسة ان “الوعى بالموت” هو الدافع الذى يدفعنا إلى أن تكون الحياة حياة تستأهل بحق، إلا أننى  اكتشفت الآن أن مضمون تعبير “الوعى بالموت”، كان أقرب إلى المعرفة المُعَقلنة التى تصلنا من خلالها هذه الحقيقة الماثلة: “أننا أموات من أموات”، إلا أننى الآن أتوسع فى ماهية هذه المعرفة لتشمل الإدراك والعقل الوجدانى الأعم، ليكون هذا الإدراك هو الدافع إلى أن “نعيش” إلى أجل مسمى، إلى أن يأتنيا الموت”، يترتب على ذلك أن  إنكار الموت أو محوه ولو بجنون فكرة الخلود بالسحر الأسود (جلال الأول صاحب الجلالة)، فى ملحمة الحرافيش، هو الموت العدمى الحقيقى، لأنه يحقق توقف الحركة والكف عن التغيير، التركيز إذن فى تلك الأطروحة الباكرة كان على أنه: ما دامت لعُـمْـرِ كلٍّ منا نهاية، إذنْ فلنعشْ كما خلقنا به، وخلقنا له، وما قـُدّر يكون.

 لم أكن قد تعرفت بعد بقدر كافٍ على أن الموت نفسه هو “وعىٌ آخر”.

توضيح منهجى:

منذ دعيت ضيفا إلى محفل النقاد وأنا أحدد منطلقى الشخصى أمانة وتحذيرا، هذا ما أثبتـُّه منذ أول إسهاماتى ناقدا فى مجلة فصول “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”([22])  كما يلى: “إن هذه الدراسة هى من منطلق شخصى خبراتى أساسا حيث تتحدد أبعاد هذا المنطلق من ممارستى لفن اللأْم”، وهذا هو ما أسميته لاحقا “فن المواكبة العلاجية”، حتى اكتشفت مؤخرا حقيقة طبيعة هذا الفن العلاجى، وكيف أنه ممارسة نقدية تشكيلية فابتدعت له اسم: “نقد النص البشرى”، الفرض الحالى الذى حضرنى بعد تطور موقفى من الموت، ومن الزمن فى آن، هو:

 “إن الزمن هو كيان حاضرٌ فاعل، يتخلق باستمرارا، من خلال جدل الموت والحياة : هنا والآن”.

 أطروحة اليوم لا تتناول كل أبعاد هذا الفرض وخاصة فى نصفه الأخير، وإنما هى مقدمة متواضعة لتقديم عينات دالة من إبداع محفوظ تمهيدا لتحقيق هذا الفرض برمّته فى عمل قادِمٍ – أو أعمال قادمة – أكمل غالبا.

مصدران أساسيان:

إلحاقا بما أقررت حالا عن المُنطلق الشخصى لقراءاتى النقدية أود الاشارة إلى مصدرين لهما تأثير خاص فيما وصلت إليه، أولاً: العلاج الجمْعى للعامة من المرضى، وثانياً: العلاج المكثـَّف لمحنة الفصام، فقد أعاننى كل من هذا وذاك على إعادة الكشف والمراجعة، وأنا أواصل معايشة وعى مرضاى ذهابا وجيئة، دخولا وخروجا، نكوصا وتطورا، تفسخا وخَلقاً،  بآليات النقد إبداعا، أكثر من تطبيق معلومات العلم حساباتٍ – نعم: رحت أقرأ المريض النفسى باعتباره “نصا  بشريا” يحتاج إلى نقد بناء لإعادة تشكيله، بمشاركته، فى نفس الوقت الذى يعتبر فيه المعالج نصا بشريا آخر: نصًّا مجادِلا محاورا ناقدا مبدعا معا، ومن ثَمَّ يعمل العلاج على حفز الانطلاق/أو استعادته من خلال الخبرة المشتركة هادفا إلى أن يتحول به إلى عكس مسار التدهور المحتمل من خلال إعادة التشكيل الناقد الخلاق.

خبرتى فى العلاج النفسى الجمعى امتدت على مدى أربعة عقود تقريبا فى مجتمعنا العام ، مع عينة طبيعية من البشر[23] – ليست بالضرورة ممثلة – وهم يمرون بأزمة المرض، وهم يُعتبرون قطاعا عشوائيا من ناسنا بثقافتهم الجارية العادية.

أما خبرتى الشخصية، والعلاجية، والتدريسية فى  “قراءة” ونقد مرضى الفصام باعتباره نواة وأساساً، معظم الأمراض النفسية ([24]) فقد جرت وتجرى على مدى أكثر من خمسين عاما من الممارسة.

الواقعية البيولوجية:

ذكرت سابقا فى أطروحتى عن “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” ([25])، أن منطلقاتى النقدية والتنظيرية هى انبعاث مما أسميته: “‏الواقعية‏ ‏البيولوجية‏”: كما ركزت فى كثير من نقدى على علاقة هذه‏ ‏ ‏الواقعية‏‏ بإيقاع النشاط الحيوى على مسار دورات النمو[26].

أثناء قيامى بنقد آخر أعمال محفوظ، “أحلام فترة النقاهة”، حضرتنى بطزاجة بالغة، وتنوع رائع، علاقة إبداع محفوظ  بالـ “هـُنا والآن”، (أهم قواعد العلاج الجمعى) ومن ثم بالزمن الذى تتخلق به حركية الإبداع بكل هذه الحيوية المتجددة، هذا العمل (ومن ثم نقدى له) كان بمثابة تحقيق نسبى لفروضى عن إبداع الحلم قبيل اليقظة فى وحدة زمنية متناهية الصغر، هذا الكشف  الموازى الذى تجلّى لى، وأنا أنقد أحلام فترة النقاهة برغم أنها ليست أحلاماً أصلا، وإنما هى إبداع صرف، كان سبيلى إلى اطمئنانى إلى فروضى التى كادت تتحدى إمكانية التحقيق، وقد تبين لى من هذا النقد كيف أن محفوظ قد أثبت قدرته الفائقة على التجول فى مستويات وعيه إبداعاً، بشكل أقرب ما يكون إلى تحقيق فروضى عن الإبداع والحلم والشعر والنقد فى هذه الأطروحة الباكرة، هذا النوع من الإبداع هو ما أشرت إليه تحديداً فى العنوان بتعبير “حركية الزمن وإحياء اللحظة”، وهو أقرب إلى المنطلق الذى تناول به جاستون بشلار الزمن مؤيدا روبنال ومعارضا بيرجسون (أنظر بعد).

إبداع‏ ‏الحلم‏، ‏وأحلام‏ ‏المبدع‏:‏

الفرض الذى انطلقتُ منه إلى نقد هذا العمل (أحلام النقاهة) هو الفرض الباكر الذى أشرتُ اليه فى دراستى عن الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع، وهو يقول (بعد تحديث محدود للتوضيح):

 ‏نحن‏ ‏لا‏ ‏نحلم‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏شاع‏ من حكى الحلم أو من تفسيره، ‏نحن‏ ‏نؤلف‏ ‏أحلامنا‏ ‏التى ‏نتذكرها‏ ‏تأليفا‏ ‏فى ‏الثوانى (‏أو‏ ‏البضع‏ ‏ثانية‏) ‏التى ‏تسبق‏ ‏اليقظة‏ ‏مباشرة‏، نؤلفها ونحن ‏فى حالة من ‏يقظة‏ ‏غير‏ ‏كاملة‏ ‏بعد‏، ‏أما‏ ‏ما‏ ‏يحدث قبل‏ ‏ذلك‏ ‏فهو ما أسميته‏ “‏الحلم‏ ‏بالقوة‏” وهو النشاط التحريكى التنظيمى ‏الذى ‏يسجـَّل‏ ‏برسام‏ ‏المخ‏ ‏الكهربائى ‏أثناء‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏النوم‏ ‏النقيضى ‏أو‏ ‏النوم‏ ‏الحالم‏ ‏والذى ‏يعرف‏ ‏أيضا‏ ‏باسم‏ ‏نوم‏ “‏حركة‏ ‏العين‏ ‏السريعة‏”(نوم الريم) ([27]) REM “، وهو إيقاع نوبىّ منتظم 20 دقيقة كل 90 دقيقة طوال ساعات النوم، ‏الحلم‏ ‏الذى ‏نحكيه‏، ‏ونتصور‏ ‏أنه هو‏ ‏الحلم‏، ‏هو‏ نتاج ما ‏نلتقط‏ ‏من أبجدية‏ ‏من‏ ‏مفردات‏ ‏ما‏ ‏تحرك من معلومات‏ ‏فى هذا ‏الوعى ‏الحالم النشط‏، ‏ثم نروح‏ ‏ننسج‏ ‏منها ‏ما‏ ‏تيسر‏ من تشكيلات وتربيطات، ‏ونصوغه‏ ‏على ‏أنه‏ ‏الحلم الذى نحكيه، وبقدر قـُربنا من وعى النوم يكون الحلم أقرب إلى البيولوجى والإبداع، وبقدر قربنا من “وعى اليقظة، يكون الحلم أقرب إلى الخيال المُعـَقـْلـَن المصنوع”‏.

 ‏هذا‏ ‏‏ ‏الفرض‏ ‏الذى ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏قدمته‏ ‏منذ‏ ‏حوالى ‏ربع‏ ‏قرن‏ ‏فى ‏أطروحة‏ “‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏ونبض‏ ‏الإبداع‏”: لم‏ ‏أكن‏ ‏أتصور‏ ‏أننى ‏سوف‏ ‏أستطيع‏ ‏تحقيق‏ ‏بعـض‏ ‏جوانبه من خلال نشاطى النقدى فى الأدب‏، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يخطر‏ ‏ ‏ببالى ‏أن‏ ‏أعايش‏ ‏مبدعا‏ ‏بحجم‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏، ‏وأن تتاح لى فرصة نقد إبداع بهذا العمق، إبداع استطاع المبدع فيه أن يستدعى وعى الحلم “هنا والآن” وهو فى حالة وعى فائق ليخلق من خلاله هذا التوازى الكاشف هكذا.

فروض جديدة، أمْ صياغة جديدة؟

حين أطلق نجيب محفوظ على بعض أعماله اسم الحلم، أو رؤية النائم، لم يكن يشير إلى أحلام الليل، لكننى أتصور أنه قد وصل إلى حدْسه الإبداعى مثل هذا الذى هدانى إلى وضع هذا الفرض الحالى بشكل جديد فى هذه الأطروحة هكذا:

 “الحلم هو تنشيط الماضى فى  الحاضر فتشكيله”

 وأيضا:

 “الحلم الإبداع هو القدرة على هذا التنشيط بوعى فائق وإرادة مسئولة”.

المبدع يعيش هذه الخبرة حين يستطيع امتلاك ناصية أكثر من مستوى من الوعى معا ليقوم بتشكيل ولافى جديد لما يريد ويقدر.

خلاصة القول:

إن محفوظ استطاع أن يقدم لنا نموذجا مركزا لآلية “إحياء اللحظة الطرافة”([28]) فى إبداع هذه الاحلام خاصة، وبشكل صريح مباشر جميل عميق، انتبهت‏ ‏إلى ‏موقع‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏مما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى: ‏الإبداع‏ ‏الحالم‏ ‏أو‏ ‏الحلم‏ ‏الإبداع‏، ‏سواء‏ ‏وضعه‏ ‏هو‏ ‏تحت‏ ‏اسم‏ ‏الحلم‏ ‏أو‏ ‏الرؤية‏، (رأيت فيما يرى النائم) ‏أم‏ ‏تحت‏ ‏أى ‏مسمى ‏آخر‏ (‏مثل‏ ‏ليالى ‏ألف‏ ‏ليلة‏ ‏أو‏ ‏بعض‏ ‏قصصه‏ ‏القصيرة‏ ‏فى ‏مجموعة‏ ‏خمارة‏ ‏القط‏ ‏الأسود‏‏) ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏الثمانينات‏ ‏حين‏ ‏قمت بنقد‏‏ ‏مجموعة‏ “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏” ([29]) ذلك النقد ‏الذى ‏نشر ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏فى “‏قراءات‏ ‏فى ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏” ([30])، ‏ثم‏ ‏عاودت‏ ‏الكتابة‏ ‏عن‏ ‏أحلام‏ ‏محفوظ‏ ‏المبدعة‏ ‏أو‏ ‏الإبداعية‏ ‏فى ‏دراستى ‏التى ‏لم‏ ‏تكتمل‏ ‏عن‏ ‏أصداء‏ ‏السيرة‏ ‏الذاتية([31])، ‏ثم‏ ‏ كتبت‏ ‏ما‏ ‏تراءى ‏لى ‏عن‏ ‏طبيعة‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏،‏ نقدا لعمله الأخير‏ (‏أحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏)([32])، ‏وهو ما نشر‏ ‏بعضه ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏مجلتى “‏إبداع‏”([33])، ومجلة “‏وجهات‏ ‏نظر‏”([34]).

أسئلة‏ ‏ليس‏ ‏لها‏ ‏إجابات‏:‏

حين كثرت‏ ‏التساؤلات‏ ‏حول‏ ‏أحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏ ‏بالذات‏، ‏اضطر‏ ‏محفوظ‏ ‏-‏ ‏ضمن‏ ‏آخرين‏-‏ ‏للرد‏ ‏على ‏أغلب‏ ‏تلك‏ ‏التساؤلات‏ ‏بما‏ ‏تيسر‏، ‏مع‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏مُلزما‏ ‏بالرد‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏فهى‏ ‏ليست‏ ‏مسئوليته‏، ‏وفى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏ قد لاتكون فى مقدوره، فالمبدع لايكون ناقدا  نفسه إلا مضطرا أو بإبداع لاحق، بعض‏ ‏هذه‏ ‏التساؤلات‏ ‏الساذجة‏ ‏تقول‏: ‏هل‏ ‏هى ‏أحلام‏ ‏أم‏ ‏إبداع؟‏ ‏هل‏ ‏هو‏ ‏يرصد‏ ‏ما‏ ‏جرى ‏فى ‏الحلم‏ ‏أو‏ ‏يضيف؟‏ ‏هل‏ ‏هو‏ ‏يستقى ‏مادة‏ ‏الحلم‏ ‏وشخوصه‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏فقط‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏والواقع؟‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏والواقع‏ ‏والذاكرة‏ ‏جميعا؟‏ ‏ما‏ ‏علاقة‏ ‏ما‏ ‏يكتب‏ ‏الآن‏ ‏بما‏ ‏يسمى”‏أحلام‏ ‏اليقظة‏”‏؟‏ ‏كنت‏ أتحفظ أحيانا على بعض ما‏ ‏يجيب‏ ‏به‏ ‏ ‏محفوظ نفسه، ثم كنت‏ ‏أتعجب حين‏ ‏يتصدى ‏بعض‏ ‏المفتين‏ (‏من‏ ‏العلماء‏ ‏والنقاد‏ ‏جميعا‏) ‏بفتاوى ‏وتأويلات‏ ‏ترد‏ ‏على ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏رد‏ ‏لها.

جولة مبدئية فى محاولات باكرة لقراءة محفوظ

فى الفقرات التالية سوف أحاول أن أقدم بعض ما يفيد الفرض الحالى من خلال عينات من محاولاتى الباكرة:

أولا‏:‏ رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏ (1982)([35])  

الحلم‏/ ‏الإبداع‏:

‏”…… ‏فى ‏هذه‏ ‏المجموعة‏ ‏نجد‏ ‏هذا‏ ‏اللحن‏ ‏المميز‏ ‏الضارب‏ ‏فى ‏التاريخ‏ ‏المتطلع‏ ‏للمستقبل‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏حلم‏ ‏وأكثر‏ ‏من‏ ‏موقع،

نلاحظ فيما يلى من مقتطفات من هذا النقد الباكر كيف يحضر “التاريخ” فى “الهنا والآن” زمنا متعينا فى مكان:

 “‏أهى ‏حجرتى ‏الراهنة‏: ‏أم‏ ‏أخرى ‏آوتنى ‏فيما‏ ‏سلف‏ ‏من‏ ‏الزمان؟‏” ‏حلم‏ 1 (7/‏ص‏142). ‏

ثم نلاحظ هذا الإيقاع‏ ‏السريع‏ ‏فى ‏سعى ‏المعرفة‏ ‏اللاهث‏، ‏وهو‏ ‏يتواءم‏ ‏مع‏ ‏طبيعة‏ ‏زمن‏ ‏الحلم‏ (الذى هو إحياء اللحظة).‏

“‏لن‏ ‏أحيد‏ ‏عن‏ ‏التطلع‏ ‏إلى ‏الأمام‏” ‏حلم‏ 1 (7/‏ص‏ 142).” ‏

“وشعرت‏ ‏طوال‏ ‏الوقت‏ ‏بأننى ‏أسعى ‏وراء‏ ‏غاية‏: ‏لكنها‏ ‏غابت‏ ‏عن‏ ‏وعيى ‏أو‏ ‏غاب‏ ‏عنها‏ ‏وعيى‏” ‏حلم‏ 11 (3/‏ص‏ 163).‏

‏ “‏هذا‏ ‏الدافع‏ ‏إلى ‏المعرفة‏ ‏ينبعث‏ ‏أساسا‏ فى “هنا” ‏من‏ ‏مجرد‏ ‏أن‏ ‏الإنسان‏ ‏له‏ ‏تاريخ”‏.

وقد وصلنى أن الماضى هنا، ليس بمعنى “فات”، وإنما بمعنى الحاضر الكامن “فى المتناول“.

جاء أيضا فى هذه الدراسة ما يلى:

‏”…‏فى ‏فيضان‏ ‏أحلام‏ “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏” ‏نتعرف‏ ‏على ‏المغامرات‏ ‏المعرفية‏ ‏(فى حضورها النشط‏)‏ ‏ملتفة‏ ‏بأجواء‏ ‏الغموض‏ ‏دون‏ ‏الإقلال‏ ‏من‏: “‏نشاط‏ ‏السعى ‏الدؤوب‏”: “‏مثقلة‏ ‏بآلاف‏ ‏الكلمات‏ ‏المبهمة‏” (7/‏ص‏ 143) ‏حلم‏ (2) “‏عدوت‏ ‏منها‏، ‏ولكنى ‏عدوت‏ ‏فى ‏مجالها‏ ‏وحضنها‏” (7/‏ص‏ 143) ‏حلم‏ (7)…، الجمع بين أن نعدو من الكلمات المبهمة وبين أن نعدو فى مجالها هو تكثيف للحظة بشكل واضح.

كل هذا الحضور المكانى الزمانى “هنا والآن”، والغموض الثرى، والنقلات النشطة، وصلتنى (الآن) باعتبارها لحظات مكثفة طازجة متجددة تؤكد قدرة محفوظ على إبداع الزمن بتخليقه لحظة فلحظة بحيوية فائقة.

ثانيا‏: ‏أحلام‏ ‏محفوظ‏ ‏فى ‏أصداء‏ ‏السيرة ([36])

لم‏ ‏تظهر‏ ‏الأحلام‏ ‏فى ‏الأصداء‏ ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏إلا‏ ‏قليلا‏، ‏وفيما‏ ‏يلى ‏عينة‏ ‏لقراءة‏ ‏حلمين‏.‏

فقرة:‏ 58 (‏همسة عند الفجر‏):‏

‏”‏ تسير‏ ‏وأنا‏ ‏فى ‏مقدمها‏ ‏أسير‏ ‏حاملا‏ ‏كأسا‏ ‏كبيرة‏ ‏مترعة‏ ‏برحيق‏ ‏الحياة.

‏ فى ‏مرحلة‏ ‏حاسمة‏ ‏من‏ ‏العمر‏ ‏عندما‏ ‏تنسم‏ ‏بى ‏الحب‏ ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق‏ ‏همس‏ ‏فى ‏أذنى ‏صوت‏ ‏عند‏ ‏الفجر‏. ‏هنيئا‏ ‏لك‏ ‏فقد‏ ‏حمَّ‏ ‏الوداع‏، ‏وأغمضت‏ ‏عينى ‏من‏ ‏التأثر‏ ‏فرأيت‏ ‏جنازتى” ‏

القراءة‏:([37]) ….. هكذا ‏تتكثف‏ ‏اللحظات‏ ‏فى ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏، ‏ويصَّاعد‏ ‏الحب‏، ‏لا‏ ‏إلى ‏ذروة‏ ‏السعادة‏ ‏بل‏ ‏إلى ‏ذروة‏ ‏أروع‏، ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق‏، ‏فنتعلم‏ ‏التمييز‏ ‏بين‏ ‏حب‏ ‏مخدر‏ ‏حتى ‏السعادة‏ ‏وبين‏ ‏حب‏ ‏منتش‏ ‏بالحيرة‏ ‏محوط‏ ‏بالشوق، هكذا‏: ‏عادت‏ ‏الأصداء‏ ‏تمزج‏ ‏الحلم‏ ‏بالجسد ‏وتجسّد‏، ‏الموت‏، ‏وتشق‏ ‏الذات‏ ‏البشريه‏ ‏ليعلن‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ ‏نهاية‏ “‏مرحلة‏ ‏حاسمة‏ ‏من‏ ‏العمر‏”، ‏ويشاهد‏ ‏نفسه‏ ‏بنفسه‏، ‏وهو‏ ‏يتقدم‏ ‏المشيعين‏ ‏حاملا‏ ‏دلالات‏ ‏ولادته‏ ‏الجديدة‏ “‏الكأس‏ ‏المترعة‏ ‏برحيق‏ ‏الحياة‏”، ‏ثم‏ ‏يؤكد‏ ‏ضمنا‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏ ‏إدوارد‏ ‏الخراط‏ ‏فى “‏يقين‏ ‏العطش‏” ‏من‏ ‏أن‏ ‏الارتواء‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏اليقين‏، ‏وإنما‏ يتحقق اليقين بتعميق‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق‏ ‏أبدا‏ ‏(يقين‏ ‏العطش‏ ‏إدوار‏ ‏الخراط‏) ([38])

فقرة: ‏65 ‏ـ‏ (‏الأصداء‏) ‏اللحن

‏”‏فى ‏حلم‏ ‏ثان‏ ‏وجدتنى ‏فى ‏حجرة‏ ‏متوسطة‏ ‏يضيئها‏ ‏مصباح‏ ‏غازى ‏يتدلى ‏من‏ ‏سقفها‏، ‏فى ‏ركن‏ ‏منها‏ ‏جلس‏ ‏جماعة‏ ‏من‏ ‏الرجال‏ ‏والنساء‏ ‏على ‏شلت‏ ‏متقابلة‏ ‏يتسامرون‏ ‏ويضحكون‏ ‏بأصوات‏ ‏مرتفعة‏، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏فى ‏الجدران‏ ‏باب‏ ‏ولا‏ ‏نافذة‏ ‏إلا‏ ‏فتحة‏ ‏صغيرة‏ ‏فى ‏اتساع‏ ‏عين‏ ‏منظار‏ ‏مرتفعة‏ ‏بعض‏ ‏الشيء‏، ‏فلم‏ ‏أر‏ ‏منها‏ ‏إلا‏ ‏سماء‏ ‏تتوارى ‏وراء‏ ‏المساء‏. ‏شعرت‏ ‏برغبة‏ ‏شديدة‏ ‏فى ‏العودة‏ ‏إلى ‏أهلى ‏ودارى، ‏ولم‏ ‏أدر‏ ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتيسر‏ ‏لى ‏ذلك‏، ‏وسألت‏ ‏السمار‏: ‏أكرمكم‏ ‏الله‏ ‏كيف‏ ‏أستطيع‏ ‏الخروج‏ ‏من‏ ‏هنا؟‏ ‏فلم‏ ‏يلتفت‏ ‏إلى ‏أحد‏ ‏وواصلوا‏ ‏السمر‏ ‏والضحك‏، ‏وغزت‏ ‏الوحشة‏ ‏أعماقى، ‏عند‏ ‏ذاك‏ ‏لاح‏ ‏لى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الفتحة‏ ‏وجه‏ ‏غير‏ ‏واضح‏ ‏المعالم‏ ‏وقال‏ ‏لى: ‏إليك‏ ‏هذا‏ ‏اللحن‏ ‏إحفظه‏ ‏منى ‏جيدا‏، ‏وترنم‏ ‏به‏ ‏عند‏ ‏الحاجة‏، ‏وستجد‏ ‏منه‏ ‏الشفاء‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هم‏ ‏وغم‏”‏.

من القراءة الباكرة‏:‏

يظهر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الحلم‏ “‏رحم‏ ‏الدنيا‏”، ‏وتولد‏ ‏قصيدة‏ ‏قصيرة‏ “‏سماء‏ ‏تتوارى ‏وراء‏ ‏المساء‏”، ‏وتتأكد‏ ‏لى ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الموت‏ ‏والعودة‏، ‏فكرة‏ ‏العودة‏ ‏أصيلة‏ ‏فى ‏الوجود‏ ‏الإنسانى ‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏فى ‏تعبير‏ “‏أن‏ ‏يسترد‏ ‏الله‏ ‏أمانته‏” ‏كما‏ ‏يفهم‏ ‏الموت‏ ‏عند‏ ‏أهل‏ ‏التقوى وفى الثقافة الشعبية عندنا، ‏أو‏‏ ‏أفادت‏ ‏أن‏ ‏يرجع‏ ‏المنفصل‏ ‏منها‏ ‏إلى ‏الالتحام‏ ‏بأصله‏ ‏كما‏ ‏يشير‏ ‏المتصوفة‏ ‏عادة‏، ‏العودة‏ ‏إلى ‏الأهل‏ ‏والدار‏ ‏وصلتنى ‏هنا‏ ‏باعتبارها‏ ‏العودة‏ ‏إلى ‏الأصل‏” ‏الكل‏”، ‏وحين‏ ‏تستحيل‏ ‏العودة‏ ‏إراديا‏ (‏إلا‏ ‏بالانتحار‏ ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏عودة‏ ‏وإنما‏ ‏إجهاض‏) ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتكيف‏ ‏ونحن‏ “‏فى ‏الانتظار‏” ‏حتى ‏يحين‏ ‏الأوان‏، ‏هذا‏ ‏اللحن‏ ‏الذى ‏هبط‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏الفتحة‏ ‏التى ‏تبدو‏ ‏منها‏ ‏السماء‏ ‏وهى ‏تتوارى ‏وراء‏ ‏المساء‏ حضرنى باعتباره استدعاء اللحظة الآن (الفرض الحالى) فهو يستلهم من خلالها ما ‏يمكن‏ ‏أن‏ طقسا يكون له معالم، ألحانا من يترنم بها عند الحاجة يجد منها الشفاء،‏‏ ‏لكنه ‏يكون‏ ‏اغترابا‏ ‏لو ابتعد عن اللحظة وانتظر اللحن من خارجه تماما، فهو‏ ‏التنويم‏ ‏والتسكين‏، ‏الزمن هنا لم يذكر صراحة، لكننى استقبلت الفتحة التى طل منها الوجه أنه هو “الآن”.

زمن الحلم وزمن الابداع والإيقاع الحيوى

فى الدراسة الباكرة الأولى([39]) التى قدمت من خلالها هذا الفرض الذى حاولت تحقيقه الآن من خلال نقدى لأحلام فترة النقاهة بالذات، ركزت على شرح التوازى فالمقارنة بين إبداع الحلم والشعر والجنون ثم بين النقد وقراءة المريض (هذا الذى اسميته مؤخرا: “نقد النص البشرى” كما أسلفت).ورد فى تلك الدراسة ما يلى:

“ماهية‏ ‏الزمن‏ ‏فى ‏الحلم‏ ‏تقبل‏ ‏كل‏ ‏الاحتمالات‏: عندنا‏: ‏الزمن‏ “‏الدائرى‏”، ‏و‏”‏المتقطع‏”، ‏و‏”‏الثابت‏” (‏المتوقف‏)، ‏و‏”‏العكسى‏”، ‏و‏”‏المتداخل‏”، ‏وذلك‏ ‏فى ‏مقابل‏ (إدراك) ‏الزمن‏ “‏التسلسلى ‏التتابعى‏” ‏فى ‏اليقظة‏، ‏ويرجع‏ ‏هذا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الزمن‏، ‏فى ‏الحلم‏، ‏يصبح‏ ‏مكانا‏ ‏وتركيبا وعلاقات، كما يصبح زماناً وليس زمنا‏ فقط، ‏الشائع‏ ‏الغالب‏ ‏أن‏ ‏الزمن‏ ‏هو‏ ‏علاقة‏ ‏بين‏ ‏حدثين‏، (الدراسة السابقة 1979) ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏يقع‏ ‏الحدثان‏ (‏فأكثر‏) ‏فى ‏اليقظة‏([40]) (العادية دون إبداع) فى ‏تتابع‏، ‏فيتحدد‏ ‏الزمن‏ ‏طوليا‏.

هذا نص ما جاء فى الأطروحه الباكرة سنه 1985 (فصول)، ربما إشارة إلى ما أثبته فى كتابى الأم سنة 1979([41]) (دراسة فى علم السيكوباثولوجى) حيث وجدت مثل هذا النص… ولكن التأكيد فى النشر اللاحق فى الكتاب (2007) على أنه لابد أن يقع الحدثان وأكثر فى اليقظة دون إبداع، كان إضافة لا لزوم لها، وقد رجعت الآن إلى الأصل مرة أخرى، فوجدت هذا التعريف ص 75، قد نُسِخَ ص231 فى نفس المرجع (1979) بفقرة تقول:

“…إذا جاءت هذه الخبرة مضغوطة فى وقت محدود (دقائق أو ساعات)، وكان استعادة الجزء الكامن للمخ لنشاطه فجائيا وعنيفا فلا شك أن الفرد لا يستطيع أن يستوعبها مما يعرّضها للإجهاض والتشوه، أما إذا كان التنشيط أقل حدة ومفاجأة، وكانت الخبرة مفرودة على زمن أطول.. استطاع صاحبها أن يلضم رؤيته اليقينية فى عمل معرفى لفظى (أو غيره) قابل للتحقيق والتواصل والمراجعة”، إن هذا التطور الناسخ لمفهومى للزمن فى نفس المرجع، جاء تأكيدا لفكرة إحياء الزمن بفعل التنشيط، وإن كانت المدة الزمنية التى أشرت إليها سابقا فى المقتطف قد جعلت التنشيط إبداعا إذا امتدت الخبرة على مدى أطول، وجعلت التنشيط الأقصر على مدى دقائق أو ساعات هو الأكثر تهديدا للتماسك، ومن ثم احتمال الإجهاض والتشوه، لكن النقلة الحالية التى انتقلتُها من خلال نقدى أحلام النقاهة واستيعاب حدس لحظة بشلار تجعلنا أقرب إلى فهم فعل الإبداع وبالذات فى بداية عملياته من منطلق إحياء لحظات متجددة ضامّة، هى مبدعة مهما بلغت من القصر ما دامت تنتهى إلى غايتها فى التشكيل الجديد.([42])

نرجع إلى ماهية زمن الحلم كما وردت فى أطروحة “الإيقاع الحيوى”([43])

‏”أما‏ ‏فى ‏الحلم‏، ‏ومع‏ ‏التنشيط‏ ‏بالبسط‏ ‏الإيقاعى، ‏فإن‏ ‏الأحداث‏ (‏الكيانات‏/‏المعلومات‏) ‏تتحرك‏ “‏معا‏”، ‏ثم‏ ‏تنشئ ‏علاقات‏ ‏مستعرضة ومتداخلة ومتنوعة ‏ ‏بسهولة‏ ‏لا يُحترم‏ ‏فيها‏ ‏التتبع‏ ‏التسلسلى، ‏الذى ‏يؤلف‏ ‏الزمن المعروف‏ ‏فى ‏اليقظة ([44])‏. ‏من‏ ‏هنا‏ ‏نفهم‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏أية ‏علاقة‏، ‏وكل‏ ‏علاقة‏، ‏هى ‏احتمال‏ ‏قائم‏.

يتحدد‏ ‏طول‏ ‏الزمن‏ فى الحلم ‏بمدى ‏سهولة‏ ‏أو‏ ‏صعوبة‏ ‏عملية‏ ‏التوصيل‏ ‏أو‏ ‏الترابط‏ ‏بين‏ ‏معلومة‏ ‏ومعلومة، بين حدث‏ ‏وحدث‏، ‏بين تشكيل‏ ‏وتشكيل‏، ‏وهكذا‏ ‏تتباعد‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الكيانات‏ ‏وتتقارب‏ ‏وتتبادل‏ ‏وتتداخل‏، ‏بحيث‏ ‏يصبح‏ ‏من‏ ‏السهل‏ ‏أن‏ ‏تختزل‏ ‏القرون‏ ‏فى ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الثانية‏، ‏وأن‏ ‏تمتد‏ ‏الثانية‏ ‏إلى ‏عقود‏ ‏من‏ ‏الزمان‏ ‏بحسب‏ ‏سرعة‏ ‏التوصيل، أو غير ذلك‏، ‏كما‏ ‏يمكن‏ ‏للمستقبل‏ ‏أن‏ ‏يبدو‏ ‏قبل‏ ‏الحاضر‏، ‏ويكاد‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏ثَمَّ‏ ‏ماضٍ‏ ‏أصلا‏، ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏مؤسس‏ ‏على ‏أن‏ ‏الترابط‏ ‏بين‏ ‏الأحداث‏ ‏أصبح‏ ‏مكانيا‏، ‏مستعرضا‏، ‏فى ‏الجهاز‏ ‏العصبى ‏أساسا‏ ‏وفى ‏المخ‏ ‏بالذات‏ ‏دون‏ ‏استبعاد‏ ‏سائر‏ ‏الجسد‏…”

فضلت أن أثبت هذا المقتطف الطويل دون تدخل لاحق، لأنه يثبت بشكل مباشر ما أريد توضيحه فى هذه المقدمة، وأن هذا التصوير لزمن الحلم بكل ما ورد فى المقتطف كان حاضراً بطول أحلام النقاهة وعرضها طول الوقت.

مستويات الوعى وحركية الزمن

فى دراسة أسبق (1983) اقتربت فكرة تشكيلات مستويات الوعى – احتمال ما أسميته لاحقا- “وعى الموت”، هذه الدراسة الباكرة كانت عن رواية الأفيال لفتحى غانم، وكانت الدراسة بعنوان  “‏الموت‏…‏الحلم‏..‏الرؤية‏، (‏القبر‏/‏الرحم‏) ([45]).

جاء فيها ما يلى:

“…‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏التى ‏تواصلت‏ ‏بكل‏ ‏المقاييس‏ ‏المعروفة‏ ‏لـلحلم‏، ‏وبخاصة‏ ‏من‏ ‏حيث‏ “‏التكثيف‏” ‏و‏”‏تجاوز‏ ‏الزمن‏ الراتب حتى تلاشيه” ‏و‏”‏دائرية‏ ‏الحركة‏”، ‏كانت‏ ‏فائقة‏ ‏الحبكة‏، ‏حقيقة‏ ‏كانت‏ ‏خيوطها‏ ‏كثيرة‏ ‏ومتداخلة‏، ‏لكنها‏ ‏خيوط‏ ‏متينة‏ ‏ومتصلة‏، ‏بل‏ ‏شديدة‏ ‏الطول‏ ‏والتعقيد‏ ‏المنظم‏، ‏وهى ‏بهذا‏ ‏الوصف‏ ‏الأخير‏ ‏تبتعد‏ ‏قليلا‏ ‏بل‏ ‏كثيرا‏ ‏عن‏ ‏مستوى ‏الحلم‏ ‏الأعمق‏، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏الكاتب‏ ‏خفف‏ ‏جرعة‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏حلم‏ ‏بنسج‏ ‏روايته‏ ‏فى ‏نسيج‏ ‏منمنم‏ ‏متين‏، ‏حبك‏ ‏به‏ ‏التناثر‏، ‏وسلسل‏ ‏الأحداث‏ ‏حتى ‏كادت‏ ‏معالم‏ ‏الحلم‏ ‏تختفى”‏.‏

بالمقارنة نجد أن نجيب محفوظ فى أحلام فترة النقاهة بالذات، وإلى درجة أقل فى الأصداء، لم يضطر إلى التراجع عن حريته فى التجوال فى الزمن وتخليقه وتدويره، وربما ساعده فى ذلك نوع هذا الإبداع “الموجز المركز” حين تتجمع الوحدات فى محور ضام دون التدخل فى حرية نقلاتها، ولا الخوف من تمادى تناثرها.

واحدية اللحظة تعلن “فعل الحرية” فى الإبداع:

فى دراسة بعد ذلك عن الحرية والإبداع ([46]) ربطتُ بين الزمن والحرية واللحظة كما يلى:

“….إن‏ ‏الواحدية‏ ‏الحقيقية‏ – ‏فى ‏حالة‏ ‏الصحة‏- ‏لاتكون‏ ‏حاضرة‏ ‏حضورا‏ ‏يسمح‏ ‏بالحديث‏ ‏عن‏ ‏الاختيار‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏ركزنا‏ ‏فعل‏ ‏الحرية‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏، ‏فاللحظة‏ ‏هى ‏التى ‏تحدد‏ ‏الذات‏ ‏لتكون‏ ‏كيانا‏ ‏واحدا‏ ‏مفردا‏ ‏شاعرا‏ ‏فاعلا‏،‏ وقد‏ ‏يحدث‏ ‏فى ‏حالات‏ ‏الجنون‏ ‏والحلم‏ ‏والشعر أن‏ ‏يصبح‏ ‏الزمن‏ ‏هو‏ ‏نفسه‏، ‏اختيارا‏: ‏إذ‏ ‏تحضر‏ ‏فى ‏الوعى ‏أزمنة‏ ‏كثيرة‏ ‏فى ‏آن‏، ‏ويمكن‏ ‏للمجنون‏ ‏أو‏ ‏الحالم‏ ‏أو‏ ‏الشاعر‏ ‏أن‏ ‏يتحرك‏ ‏بينها‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏يتحرك‏ ‏بعشوائية‏ ‏تامة‏ ‏فى ‏الجنون‏، ‏وبعشوائية‏ ‏مرحليه‏ ‏نسبية‏ ‏فى ‏توليف‏ ‏الحلم‏، ‏فى ‏حين‏ ‏يتحرك‏ ‏بحرية‏ ‏منشِئة‏ ‏فى ‏الإبداع‏”.‏

وفى نقدى الحالى لأحلام فترة النقاهة اكتشفت كيف أن هذه المادة المتدفقة التى أتحفنا بها محفوظ، ظلت محتفظة بتلك الواحدية الضامة، وسط كل هذا التناثر الظاهرى، وهذا إعجاز أعتقد أنه خاص بهذا الإبداع فى النثر خاصة، (وهو وارد فى الشعر الأحدث بشكل أكثر تواتراً).

المكان‏/ ‏الساحة‏/ ‏المساحة‏: ‏مجال‏ ‏الحرية

ورد أيضا فى نفس الدراسة عن الإبداع والحرية ما يلى:

“…حين‏ ‏تحدثنا‏ ‏عن‏ ‏الزمن‏ ‏خيل‏ ‏إلينا‏ ‏تحقيق‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏استيعاب‏ ‏أبعاده‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏كل‏ ‏من‏ “‏النسبية‏”، ‏والتعامل‏ ‏معه‏ ‏باعتباره‏ “‏مكانا‏” ‏يـُرتاد‏، ‏وكأن‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏المكان‏ ‏هو‏ ‏أكثر‏ ‏ألفة‏ ‏وتحكما‏، ‏وواقع‏ ‏الأمر‏ ‏أن‏ ‏مفهوم‏ ‏المكان‏ ‏ليس‏ ‏مفهوما‏ ‏منبسطا‏ ‏محددا‏ ‏كما‏ ‏يبدو‏ ‏لأول‏ ‏وهلة‏، ‏وبما‏ ‏أن‏ ‏الحرية‏ ‏هى (إرادة) “‏توجه‏ ‏حركية‏ ‏الوجود‏..” ‏إلخ‏، ‏فإن‏ ‏طبيعة‏ ‏المكان‏ ‏ومساحته‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏تحدد‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏أو‏ ‏الحركية‏، ساحة‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏الإبداع‏ ‏هى ‏داخل‏ ‏الذات‏، ‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏بأية ‏حال‏ ‏من‏ ‏الأحوال‏ ‏الانفصال‏ ‏عن‏ ‏الواقع‏ ‏الخارجى ‏أو‏ ‏إهماله‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الذات‏ ‏المبدعة‏ ‏تصبح‏ ‏الساحة‏ ‏الممثِّلة‏‏ ‏لكل‏ ‏من‏ ‏الواقع‏ ‏والذات‏ ‏فى آن‏، ولكى ‏تتمتع‏ ‏حركية‏ ‏الوجود‏ ‏بالقدرة‏ ‏المناسبة‏ ‏على ‏الإبداع‏ ‏يجدر‏ ‏أن‏ ‏يتوفر‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏مكان‏/‏ساحة‏/‏مساحة‏ ‏ الذات المبدعة عدد من‏ ‏المواصفات‏، ‏مثل‏ ‏أن‏ ‏يكون المكان/الساحة/المساحة:

‏1- ‏مُحكما‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏ذا‏ ‏نفاذية‏ ‏كافية‏.‏

‏2- ‏مُمتدا‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏محدودا‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏.‏

‏3- ‏مَرنا‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏مستقل‏ ‏النبض‏ ‏منتظمه‏.‏

‏4- ‏حاويا‏ ‏لوفرة‏ ‏كافية‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏والموضوعات‏ ‏والذوات‏ ‏والأزمنة‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏غير‏ ‏مزدحم‏.‏

‏5- ‏ذَا‏ ‏مسافات متغيرة متقاربة‏ ‏بين‏ ‏مفردات‏ ‏محتواه‏‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏غير‏ ‏متلاصقة‏.‏

‏6- ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏مكانا‏ ‏معينا‏ ‏بذاته فى مستوى وعى واحد بمعنى أن يكون ‏مشروعا‏ ‏دائم‏ ‏التكوين: اتساعا وتنظيما وحركية وتبادلية‏.‏

وكل هذه المواصفات لا تتحق إلا إذا ارتبط كل من المكان/الساحة/المساحة/ ببعد الزمن الحاضر المرن المتجدد.

بالنسبة لأحلام فترة النقاهة، ومن حيث المبدأ وفى حدود اجتهادى فإننى عايشت كيف أن أغلب هذه المواصفات، إن لم تكن كلها، كانت حاضرة فى أحلام النقاهة وكأنها تحقيق إبداعى عملى لفرضى هذا  الباكر([47]).

ماهية “اللحظة”:

وقد انتهيت إلى وصف ما وصلنى عن تلك اللحظة المعينة التى يركز عليها بشلار، وهو ما تأكد لى من نقدى لأحلام النقاهة حيث كانت هى هى اللحظة التى تبرق بكل الحضور والتجدد فى هذا العمل بالذات، وكنت قد انتهيت إلى وصفها بالقيادة والحضور والإنارة والتجدد، تعقيباً على ما وصلنى من حدس لحظة بشلار مما أسميته فى نقدى لأحلام نقاهة محفوظ إحياء اللحظة تلو اللحظة إلى مالا نهاية، وفيما يلى هذا الوصف الباكر الذى تأكد لى من برْق حضور اللحظات فى أحلام النقاهة تحديدا:

‏1- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏المنيرة‏ ‏بالانتباه‏ (‏خذ‏ ‏فكرة‏ ‏هزيلة‏، ‏واحصرها‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏تجدها‏ ‏تنير‏ ‏الفكر‏).‏

‏2- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏الفعل‏ (‏الآنى ‏هو‏ ‏الفعل‏، ‏ولا‏ ‏شيء‏ ‏يدوم‏ ‏سوى ‏الكسل‏).

‏3- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏المرهَفَة. ‏

‏4- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏البدْء‏ (حيث‏ ‏يتحول‏ ‏الانتباه‏ ‏إلى ‏قرار‏- ‏حيث‏ ‏تتلاقى ‏بداهة‏ ‏الحوادث‏ ‏وفرحة‏ ‏الفعل‏) (‏حتى ‏خلايا‏ ‏الوراثة‏ ‏لا‏ ‏تحمل‏ ‏معها‏ ‏شيئا‏ ‏آخر‏ ‏غير‏ ‏بداية‏ ‏لإنجاز‏ ‏خلوى ).‏

‏5- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏الطرافة‏، ‏الجدة‏ ‏آنية‏ ‏دائما‏، ‏إن‏ ‏أهم‏ ‏القوى ‏هى ‏السذاجة‏.

‏6- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏الخلاّقة.  ‏

‏7- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏الشجاعة‏. ‏

8- ‏هى اللحظة التى يختلف تسجيل‏ ‏الأحداث‏ ‏فى ‏واقعنا‏ ‏البيولوجى ‏باختلاف‏ ‏مستوى ‏إدراكها‏، ‏ومع‏ ‏قبول‏ ‏حقيقة‏ ‏تعدد‏ ‏المستويات‏ ‏الكيانية‏ ‏للتركيب‏ ‏البشرى (‏والمخى ‏على ‏وجه‏ ‏الخصوص‏) ‏فإننا‏ ‏نفترض‏ ‏تسجيل‏ ‏نفس‏ ‏الحدث‏ ‏على ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مستوى، ‏وبالتالى ‏وجود‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏زمن‏ ‏واحد‏ ‏بحسب‏ ‏نشاط‏ ‏أى ‏مستوى‏، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يتعلق‏ ‏بسرعة‏ ‏الانتقال‏ ‏بين‏ ‏الأحداث‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر. ‏

حضور اللحظة الفارقة فى العقل الخلاق عند محفوظ:

بصراحة، لقد وجدت فى أغلب إبداع محفوظ، وفى أحلام النقاهة بوجه خاص كل هذه المواصفات تقريبا حتى أننى كدت أظن – برغم مرور هذا الزمن- أننى استلهمت من إبداع محفوظ ما وصلنى من حدْس بشلار، وفيما يلى ما أثبته بهذا الصدد تعقيبا على بشلار، وهو ما تأكد لى تطبيقا فى نقدى لأحلام نقاهة محفوظ بشكل متكامل:

‏1- ‏إن‏ ‏الزمن‏ ‏الموضوعى – ‏منفصلا‏ ‏عن‏ ‏المكان‏ – ‏لا‏ ‏وجود‏ ‏له.‏

‏2- ‏إن‏ ‏الزمن‏ ‏المكانى، هو الزمن ‏بمعنى أنه ‏المجال‏ ‏الحيوى ‏لتسجيل‏ ‏الأحداث‏، ‏بما‏ ‏تحمل‏ ‏من‏ ‏علاقات‏ ‏محتملة‏ ‏ومتعددة‏ وبالتالى تبرز أهمية التأكيد ‏على أنه هو‏ ‏الكيان‏ ‏الحيوى (البيولوجى)‏ ككل، ‏وكذلك التأكيد على إمكانيات‏ ‏المخ‏ (‏بمقابلاته‏ ‏وامتداداته‏ فى الجسد) ‏للطبع([48])‏ ‏والتربيط‏ ([49]) ‏بوجه‏ ‏خاص‏.

 ‏“اللحظة” والوعى والإيقاع الحيوى:

جاء أيضا فى نفس التعقيب ما أنار لى نقدى لأحلام النقاهة، فيما يتعلق بالوعى والإيقاع والتركيب الدماغى بما قد يفيد فى بيان أساس النقد الذى قرأت به محفوظ، جاء ما يلى:

‏تأتى‏ ‏لحظات‏ ‏روبنال‏ (بشلار‏) ‏بكل‏ ‏المواصفات‏ ‏الخاصة‏ ‏بها بمثابة ‏إعلان‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏الحاد‏ ‏والنشط‏ ‏بحركية‏ ‏الأحداث‏ ‏المنطبعة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏تصبح‏ ‏هى ‏الإعلان‏ ‏عن‏ ‏فعل‏ ‏الإرادة‏ ‏بالنسبة‏ ‏للأحداث‏ ‏الخارجية‏ ‏أساسا‏، ‏ومن ثَمَّ‏ ‏عن‏ ‏الحرية‏ ‏التى ‏هى ‏نتاج‏ ‏الوعى ‏والإرادة‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏تخليق‏ ‏الأحداث‏ ‏فى ‏تضفر‏ ‏بين‏ ‏الداخل‏ ‏والخارج، ‏ولما‏ ‏كانت‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏اللحظات‏ ‏‏من‏ ‏الندرة‏ ‏والصعوبة‏ ‏بحيث‏ ‏يستحيل‏ ‏اعتبارها‏ ‏القاعدة‏ ‏للجميع‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏فإن‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نضعها‏ ‏فى ‏موقعها‏ ‏الطولى ‏بالنسبة‏ ‏للإيقاع‏ ‏الحيوى، ‏فهى ‏تظهر‏ – هكذا‏- ‏فى ‏أوقات‏ ‏الإبداع‏، ‏ونقلات الوعى ‏فى ‏أزمة‏ ‏النمو‏ ‏الذاتى، ‏وبعض‏ ‏خبرات‏ ‏القمة ([50]‏) (بما‏ ‏يشمل‏ ‏التصوف‏) (‏وكذلك‏ ‏بعض‏ ‏بدايات‏ ‏الجنون‏)، ‏وهذا‏ ‏الموقع‏ ‏مرتبط‏ ‏بطور‏ ‏البسط ([51]) ‏دون‏ ‏طور‏ ‏الاكتساب‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏إيقاع‏ ‏حيوى، وهو بعض ما أشرنا إليه فى دراستنا للحرافيش.

‏وعلى ‏ذلك‏ ‏يصبح‏ ‏الزمن‏- ‏أساسا‏- ‏قائما‏ حاضرا ‏ومتصلا‏ من خلال انبعاث لحظاته المتجددة ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏نعش‏ ‏تلك اللحظات‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الدرجة‏ ‏من‏ ‏الانتباه‏ ‏والإبداع‏ ‏والنشاط‏ ‏والعمق‏.‏ وكأن‏ ‏هذه‏ ‏اللحظات‏ ‏الروبنالية‏ ‏هى ‏قفزات‏ ‏الإبداع‏ ‏الخلاقة‏ ‏التى ‏تظهر‏ ‏مع‏ ‏نوبات‏ ‏البسط‏ ‏من‏ ‏أرضية‏ ‏جريان‏ ‏المجرى ‏النابع‏ ‏من‏ ‏مُحَصِّلات‏ ‏الخبرات‏ ‏المنطبعة‏ ‏على ‏كل‏ ‏المستويات.

‏فإذا‏ ‏تذكرنا‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏تسجيل‏ ‏نفس‏ ‏الحدث‏ (‏وراثيا‏ ‏ومكتسبا‏) ‏يتم‏ ‏على ‏مستويات‏ ‏متعددة من الوعى‏ ‏وبالتالى ‏بنوعيات‏ ‏مختلفة‏، ‏لأمكننا‏ ‏تصور‏ ‏إمكانيات‏ ‏غير‏ ‏محدودة‏ ‏للتوافيق‏ ‏والتباديل‏ ‏الجائزة‏ ‏لمعايشة‏ ‏بُعْد‏ ‏الزمن‏ ‏الخلاّق‏ ‏بيننا حالا.

ثم أنى أنهيت موجز رأيى بما يكاد ينطبق حرفيا على ما سوف أحاول بنيانه من حيث تخليق اللحظة فى أحلام محفوظ، كما يلى:

‏الزمن‏ ‏هو‏ ‏رحلة‏- ‏إرادية‏/ ‏واعية‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏الإبداع‏ – ‏رحلة‏ ‏بين‏ ‏مستويات وعى‏ ‏أكثر‏ ‏منها‏ ‏رحلة‏ ‏بين‏ ‏أحداث‏، ‏مستويات‏ ‏تُزار‏ ‏وتعاود‏ ‏حيث‏ ‏هى (‏كما‏ ‏هى ‏بمختلف‏ ‏التسميات‏)، ‏وأن‏ ‏إبطاء‏ ‏إيقاع‏ ‏هذه‏ ‏الرحلة‏ ‏بوعى ‏جسور‏، ‏يسمح‏ ‏بمعايشة‏ ‏عمق‏ ‏الخبرة‏ ‏فى ‏تفاصيلها‏ ‏المتشكِّلَة‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏صفات‏ ‏الإبداع‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يتيح‏ ‏للمبدع‏ ‏أن‏ ‏يغوص‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الثانية‏ ‏فأقل‏، ‏بالسرعة‏ ‏التى ‏يريدها‏، ‏فيخرج‏ ‏منها‏ – ‏إن‏ ‏خرج‏ (!) – ‏بالصحوة‏ ‏التى ‏يبلغها‏. ‏

وهل أحلام فترة النقاهة إلا إثباتاً لكل هذا معاً؟!

رجعة إلى الحرافيش

قبل أن أرجع إلى عينات محدودة من الأحلام فالأصداء، تتناسب مع هذه المقدمة الصعبة، رأيت أن التقط أنفاسى بتذكرة أخرى من قراءتى كيف حضر الزمن فى الحرافيش، ليس بوجه خاص فى صورة تلك اللحظات الطرافة الخلاقة البرقية، وإنما كما ذكرنا، باعتباره – أيضا – مكانا متعّينا ([52])، وحركة ممتدة (ليست لحظية بالضرورة)، وآمل من خلال ذلك أن يصلنا كيف أن محفوظ فى حركية إبداعه قد استطاع أن يواكب الزمن طولا وعرضا، إحياء للحظة أو ممرا من مقابر، أو جدارا يخفى وراءه المجهول استطاع محفوظ بنفس قدرة إبداعه الفائق أن يحيط بكل ذلك، ويستعمل كل تشكيل وحضور فى مقامه:

أولاً: تعيين ([53]) الزمن فى كيان (مكان)

حضر الزمن فى ملحمة الحرافيش، مكانا (ممَرَّا) من أول لحظة، بدأت الملحمة هكذا “فى ظلمة الفجر العاشقة، فى ‏الممر العابر‏ ‏بين‏ ‏الموت‏ ‏والحياة‏”(ص5).‏

وليس بين الحياة (بداية) والموت (نهاية)، هذا الممر وصلنى زمنا متعينا منذ البداية، وأن اتجاه السهم فيه هو: من الموت إلى الحياة، وهى الدلالة التى بُنِيَتُ عليها فروض الأطروحة النقدية السابقة عن الإيقاع الحيوى فى الملحمة.

كذلك‏ ‏كانت‏ “التكية”  ‏بمثابة‏ ‏جدار‏ ‏الزمن‏ ‏الثابت‏، ‏ففضلا‏ ‏عن‏ ‏أنها‏ ‏تمثل‏ ‏رمز‏ ‏خلود‏ ‏غامض‏، ‏كانت‏ ‏تمثل‏ ‏تحدى ‏الهمود‏ ‏المرفوض‏ ‏فى ‏الآن‏ ‏نفسه‏،‏ وتشبيه‏ ‏عاشور‏ الأول ‏ببوابة التكية‏” ‏نما‏ ‏نموا‏ ‏هائلا‏ ‏مثل‏ ‏بوابة‏ ‏التكية‏ “، ‏ثم‏ ‏اختفاؤه‏ ‏الواعد‏ ‏بالرجوع‏، ‏جعلنى أقرر فى هذا النقد الباكر أنه‏، “إن‏ ‏كانت‏  ‏التكية‏ ‏هى ‏جدار‏  ‏هذا‏ ‏الزمن‏  ‏الراتب‏، ‏فعاشور‏  ‏الناجى ‏الأول‏ ‏هو‏ ‏طواره‏”‏.

‏بل‏ ‏إن‏ ‏صراع‏ ‏شمس‏ ‏الدين‏ ‏مع‏  ‏زحف‏ ‏الزمن‏  ‏قرب‏ ‏النهاية‏، ‏فى ‏صورة‏ ‏معركته‏ ‏الإرادية‏ ‏مع‏ ‏ابنه‏ ‏وصفه محفوظ بلغة مكانية بحتة مع استحضار التاريخ” ‏كالتالى (‏ص‏132):

‏ شعر‏ ‏شمس‏ ‏الدين‏ ‏أنه‏ ‏يغالب‏ ‏السورالعتيق‏، ‏وأن‏ ‏أحجاره‏ ‏المترعة‏ ‏برحيق‏ ‏التاريخ‏ ‏تصكه‏ ‏مثل‏ ‏ضربات‏ ‏الزمن”‏.‏

ثانيا: حركية الزمن طوليا تصنع التاريخ وترصد الوجود

ثم إن محفوظ فى ملحمة الحرافيش أكد أن من لا يحيى حركية الزمن – كما قدمه طوال الملحمة- يمضى بلا تاريخ، وكأنه “ما كان” أصلا، مهما بدت سلاسة رحلته وطيبعتها.

“‏وتمر‏ ‏أيام‏ ‏رتيبة‏ ‏ومريحة‏ ‏فى ‏حياة‏ ‏جلال‏ ‏عبد‏ ‏الله‏ ‏وأسرته‏، ‏ويعرف‏ ‏الرجل‏ ‏بالطيبة‏ ‏والأمانة‏ ‏وحسن‏ ‏الخلق‏ ‏والورع‏. ‏ويتوفر‏ ‏له‏ ‏الرزق‏، ‏وعشق‏ ‏العبادة‏…… ‏وتدل‏ ‏البشائر‏ ‏على ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏ستشق‏ ‏طريقها‏ ‏فى ‏يسر‏ ‏وبلا‏ ‏تاريخ‏”‏‏(‏ص‏449)

“هنا‏ ‏نقف‏ ‏كما‏ ‏ينبغى ‏عند‏: ‏بلا‏ ‏تاريخ‏.‏ ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏الزمن‏ ‏الراتب‏ ‏المتتالى، ‏الماضى ‏فى ‏يسر‏، ‏هو‏ ‏والعدم‏ ‏سواء‏. ‏فمن‏ ‏لم‏ ‏يع‏ ‏ذلك‏ ‏فولد‏ ‏ومات‏، ‏فكأنه‏ ‏ما‏ ‏ولد‏ ‏وما‏ ‏مات”([54])‏،

تمضى الملحمة بعد ذلك لتؤكد علاقة الزمن بالحركة وخاصة فى دوراتها وتغيرها

 “…‏لا‏ ‏دائم‏ ‏إلا‏ ‏الحركة‏. ‏هى ‏الألم‏ ‏والسرور‏. ‏عندما‏ ‏تخضر‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏الورقة‏، ‏عندما‏ ‏تنبت‏ ‏الزهرة‏، ‏عندما‏ ‏تنضج‏ ‏الثمرة‏، ‏تمحى ‏من‏ ‏الذاكرة‏ ‏سفعة‏ ‏البرد‏ ‏وجلجلة‏ ‏الشتاء‏…”. (‏ص‏247)‏

“‏لو‏ ‏أن‏ ‏شيئا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يدوم‏، ‏فلم‏ ‏تتعاقب‏ ‏الفصول؟”‏(‏ص‏194)

“الشمس‏ ‏تشرق‏  ‏الشمس‏ ‏تغرب‏، ‏النور‏ ‏يسفر‏ ‏الظلام‏ ‏يخيم“‏(‏ص‏199)

حركية متبادلة

‏”كان‏ ‏يحمل‏ ‏فوق‏ ‏كاهله‏ ‏أربعين‏ ‏عاما‏، ‏وكأنها‏ ‏هى ‏التى ‏تحمله‏ ‏فى ‏رشاقة‏  ‏الخالدين”‏.‏‏(‏ص‏27)

‏” ‏لقد‏ ‏اختفى ‏عاشور‏ ‏الناجى”‏،‏ “ولكن‏ ‏الزمن‏ ‏لن‏ ‏يتوقف‏، ‏وما‏ ‏ينبغى ‏له”‏.‏

وبعد

تجاوز محفوظ كل ذلك بعد ذلك (وقبله!) دون الإقلال من معناه وحضوره ووظيفته، ليقدم لنا تشكيلات أخرى متنوعة عن الزمن فى الأصداء والأحلام بالذات.

عينات من الأحلام والأصداء:

برغم التأكيد على النقلة التى تعد بها هذه المقدمة للكشف عن كيف أن الموت هو وعى آخر فى حركية جدلية مع وعى ما هو حياة لتخليق الزمن بإحياء اللحظة، فإننى أجد أنه من المفيد أن أبين كيف أن محفوظ – بالإضافة إلى هذا الإحياء المبدع – قد تعامل مع الزمن بتنويعاته المختلفة، وتجلياته المتغيرة حسب مقتضى الحال ونوع الإبداع وتشكيلات الخلق، ولتبيان بعض ذلك سوف أكتفى بعينة محدودة من أحلام فترة النقاهة وكذلك من الأصداء:

أولا:‏ ‏من‏ ‏أحلام‏ فترة ‏النقاهة‏. ‏

المعركة بين الأزمان: (تدخّل الزمن، واستدعاء اللحظة، وزمن الساعة)

الحلم (25)

رأيتها‏ ‏فى ‏الحجرة‏ ‏معى، ‏ولا‏ ‏أحد‏ ‏معنا‏، ‏فرقص‏ ‏قلبى ‏طربا‏ ‏وسعادة‏، ‏وكنت‏ ‏أعلم‏ ‏أن‏ ‏سعادتى ‏قصيرة‏. ‏وأنه‏ ‏لن‏ ‏يلبث‏ ‏أن‏ ‏يفتح‏ ‏الباب‏ ‏ويجئ‏ ‏أحد‏…، ‏وأردت‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏لها‏ ‏إن‏ ‏جميع‏ ‏الشروط‏ ‏التى ‏أبلغت‏ ‏بها‏ ‏على ‏العين‏ ‏والرأس‏، ‏ولكن‏ ‏تلزمنى ‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏ ‏ولكنى ‏فتنت‏ ‏بوجودها‏ ‏فلم‏ ‏أقل‏ ‏شيئا‏، ‏وناديت‏ ‏رغبتى ‏فخطوت‏ ‏نحوها‏ ‏خطوتين‏، ‏لكن‏ ‏الباب‏ ‏فتح‏ ‏ودخل‏ ‏الأستاذ‏ ‏وقال‏ ‏بحدة‏ ‏إنك‏ ‏لا‏ ‏تفهم‏ ‏معنى ‏الوقت‏ ‏واقتلعت‏ ‏نفسى، ‏وتبعته‏ ‏إلى ‏معهده‏ ‏القائم‏ ‏قبالة‏ ‏عمارتنا‏، ‏وهناك‏ ‏قال‏ ‏لى ‏أنت‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏العمل‏ ‏عشر‏ ‏ساعات‏ ‏يوميا‏ ‏حتى ‏تتقن‏ ‏العزف‏”. ‏ودعانى ‏للجلوس‏ ‏أمام‏ ‏البيانو‏ ‏فبدأت‏ ‏التمرين‏ ‏وقلبى ‏يحوم‏ ‏فى ‏حجرتى، ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏انهمكت‏ ‏فى ‏العمل‏. ‏وعندما‏ ‏سمح‏ ‏لى ‏بالذهاب‏ ‏كان‏ ‏المساء‏ ‏يهبط‏ ‏بجلاله‏. ‏وبادرت‏ ‏أعبر‏ ‏الطريق‏ ‏على ‏عجل‏. ‏ولكن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏ثمة‏ ‏أمل‏ ‏فى ‏أن‏ ‏تنتظرنى ‏مدة‏ ‏غيابى. ‏وإذا‏ ‏برجل‏ ‏صينى ‏طويل‏ ‏اللحية‏ ‏بسام‏ ‏الوجه‏ ‏يعترض‏ ‏سبيلى ‏ويقول‏: ‏كنت‏ ‏فى ‏المعهد‏ ‏وأنت‏ ‏تعزف‏، ‏ولا‏ ‏شك‏ ‏عندى ‏أنه‏ ‏ينتظرك‏ ‏مستقبل‏ ‏رائع‏ ‏وانحنى ‏لى ‏وذهب‏ ‏وواصلت‏ ‏سيرى ‏وأنا‏ ‏مشفق‏ ‏مما‏ ‏ينتظرنى ‏فى ‏مسكنى ‏من‏ ‏وحشة‏.‏

القراءة:

‏ ‏الحجرة‏ ‏هنا‏ ‏هى ‏المشهد‏ ‏الأول‏ ‏الذى ‏جمعه‏ ‏معها‏ ‏وحدهما‏، ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏فرحته‏، ‏أو‏ ‏يرصدها‏، ‏قفز‏ ‏إليه‏ ‏الزمن‏يشكك‏ ‏فى ‏الاستمرار‏. ‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏قبل‏ ‏ومع‏ ‏الفرحة‏، ‏لاح‏ ‏له‏ ‏التهديد‏ ‏بالفراق‏ “….‏كنت‏ ‏أعلم‏ ‏أن‏ ‏سعادتى ‏قصيرة‏، ‏وأنه‏ ‏لن‏ ‏يلبث‏ ‏أن‏ ‏يفتح‏ ‏الباب‏”. الزمن‏ ‏الملاحِقُ‏ ‏هنا‏ “‏لن‏ ‏يلبث‏” ‏أن‏ ‏يكسر‏ ‏خصوصية‏ ‏المكان‏ ‏بفتح‏ ‏الباب‏، ‏فيختفى ‏وتختفى ‏معه‏ ‏رقصة‏ ‏القلب‏ ‏وسعادة‏ ‏اللقاء،   ‏بدا‏ ‏فتح‏ ‏الباب‏ ‏كأنه‏ ‏انتهاك‏، ‏فإلغاء‏ ‏لهذه‏ ‏الحميمية‏ ‏الواعدة‏. ‏لم‏ ‏يترك‏ ‏له‏ ‏شعوره‏ ‏بالزمن‏ ‏المهدد‏ ‏بالنهاية‏ ‏فرصة‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏قبوله‏ ‏لكل‏ ‏شروطها‏.‏

هنا‏ ‏يقفز‏ ‏زمن‏ ‏آخر‏ ‏زمن‏ ‏الحسابات‏ ‏الخطى ‏التتبعى ‏حين‏ ‏يقترن‏ ‏قبوله‏ ‏شروطها‏ ‏بضرورة‏ ‏الانتظار‏ “‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏”. ‏الزمن‏ ‏الأول‏ ‏كان‏ ‏ذاتيا‏ ‏محيطا‏ “…. ‏أعلم‏ ‏أن‏ ‏سعادتى ‏قصيرة‏” ‏أما‏ ‏هذا‏ ‏الزمن‏ ‏المحسوب‏ ‏فهو‏ ‏زمن‏ ‏الساعة‏ ‏ذات‏ ‏العقارب‏ ‏الدوَّارة‏  ‏والأرقام‏ ‏المتدرجة‏ (‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏)، ‏من‏ ‏فرط‏ ‏حرصه‏ ‏وفتنته‏ ‏بوجودها‏ ‏لم‏ ‏يعلن‏ ‏موافقته‏ ‏المرتبطة‏ ‏بفترة‏ ‏السماح‏ ‏المحسوبة، ‏استبدلها‏ ‏بأن‏ “‏نادَى ‏رغبته‏”، ‏كيف‏ ‏ينادى ‏الواحد‏ ‏رغبته؟‏ ‏يقولها‏ ‏محفوظ‏ ‏هكذا‏ ‏ببساطة‏ ‏وكأنها‏ (‏الرغبة‏) ‏كانت‏ ‏تنتظر نتيجة‏ ‏حسم‏ ‏المعركة‏ ‏بين‏ ‏الأزمان‏، فى حجرة مجاورة توقعا للاستدعاء، ‏زمن‏ ‏التوجس‏ ‏بسرعة‏ ‏اختفاء‏ ‏السعادة‏، ‏ثم‏ ‏زمن‏ ‏الانتظار‏، “‏فترة‏” ‏حتى ‏يحقق‏ ‏طلباتها‏، ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏نداءه‏ ‏رغبته‏ ‏كان‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏طلب‏ ‏النجدة‏ ‏ليكف‏ ‏عن‏ ‏الحسابات‏، وهى طلب فى نفس الوقت لتنشيط مستوى آخر من الوعى، ‏وبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تستجيب‏ ‏الرغبة‏ ‏لندائه‏ ‏يدخل‏ ‏الأستاذ‏ ‏وهو‏ ‏يحمل‏ ‏معه‏ ‏معنى ‏ثالثا‏ (وعياً ثالثا) ‏لما‏ ‏هو‏ “‏زمن‏”، ‏يؤنبه‏ ‏الأستاذ‏ ‏مباشرة‏ ‏على ‏ضياع‏ ‏الوقت‏ “‏أنت‏ ‏لا‏ ‏تفهم‏ ‏معنى ‏الوقت‏” ‏وكما‏ ‏نادى ‏الراوى ‏رغبته‏ ‏وكأنه‏ ‏ينادى ‏الحاجب‏، “‏اقتلع‏ ‏نفسه‏” ‏وكأنه‏ ‏ينقلها‏ ‏نقلا‏ ‏من‏ ‏مكانها‏، ‏وتبع‏ ‏الأستاذ‏ ‏إلى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ “‏قبالة‏ ‏عمارتنا‏”، ‏أىُّ ‏وقت‏ ‏يعنيه‏ ‏الأستاذ‏ ‏بسؤاله‏؟‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏استجابت‏ ‏فيه‏ ‏الرغبة‏ ‏إلى ‏دعوته‏ ‏حتى ‏عجز‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏قبول‏ ‏شروط‏ ‏الحبيبة؟‏ ‏أم‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يحتاجه‏ ‏لإعداد‏ ‏نفسه‏ ‏للوفاء‏ ‏بطلبات‏ ‏المحبوبة‏، ‏والذى ‏أسماه‏ “‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏” ‏حتى ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يحقق‏ ‏طلباتها؟‏ ‏أم‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏تمنى ‏أن‏ ‏يطول‏ ‏بصحبتها‏ ‏وهما‏ ‏وحدهما‏ ‏وقلبه‏ ‏ممتلئ‏ ‏فرحا‏ ‏وسعادة‏‏؟

نلاحظ‏ ‏هنا‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نستطرد‏، ‏قدرة‏ ‏محفوظ‏ ‏على ‏التجول‏ ‏بين‏ ‏حالات‏ ‏ذاته‏ (مستويات وعيه = ذواته =‏ أزمنته)، ‏فاختياره‏ ‏لتعبيرىْ “‏ناديت‏ ‏رغبتي‏” ‏و‏ “‏اقتلعت‏ ‏نفسي‏” ‏يشير‏ ‏إلى ‏ذات‏ ‏محورية)[55]) ‏مستعيرين‏ ‏أبجدية‏ ‏ساندور‏ ‏رادو([56]) ‏وهى ‏الذات‏ ‏التى ‏تتمحور‏ ‏حولها‏ ‏الكيانات‏ (‏الذوات‏) ‏الأخرى ‏الداخلية‏، ‏الرغبة‏ ‏هنا‏ ‏تبدو‏ ‏مشخصنة‏ ‏فى “‏ذات‏” ‏وليست‏ ‏مجرد‏ ‏عاطفة‏.‏

تشكيل المكان: زمنًا

الحلم‏ (27)

فى ‏سفينة‏ ‏عابرة‏ ‏للمحيط‏ ‏أجناس‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏لون‏ ‏ولغات‏ ‏شتى. ‏وكنا‏ ‏نتوقع‏ ‏هبوب‏ ‏ريح‏ ‏وهبت‏ ‏الريح‏ ‏واختفى ‏الأفق‏ ‏خلف‏ ‏الأمواج‏ ‏الغاضبة، ‏إنى ‏ذعرت‏ ‏ولكن‏ ‏أحدا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يعنى ‏بأحد‏. ‏وقال‏ ‏لى ‏خاطر‏ ‏إننى ‏وحيد‏ ‏فى ‏أعماق‏ ‏المحيط‏، ‏وأنه‏ ‏لا‏ ‏نجاة‏ ‏من‏ ‏الهول‏ ‏المحيط‏ ‏إلا‏ ‏بأن‏ ‏يكون‏ ‏الأمر‏ ‏كابوسا‏ ‏وينقشع‏ ‏بيقظة‏ ‏دافئة‏ ‏بالسرور‏، ‏والريح‏ ‏تشتد‏ ‏والسفينة‏ ‏كرة‏ ‏تتقاذفها‏ ‏الأمواج‏، ‏وظهر‏ ‏أمامى ‏فجأة‏ ‏حمزه‏ ‏أفندى ‏مدرس‏ ‏الحساب‏ ‏بخيرزانته‏ ‏وحدجنى ‏بنظرة‏ ‏متسائلة‏ ‏عن‏ ‏الواجب،  ‏كان‏ ‏الإهمال‏ ‏الواحد‏ ‏بعشرة‏ ‏خيرزانات‏ ‏تكوى ‏الأصابع‏ ‏كيا‏. ‏وازددت‏ ‏كرها‏ ‏من‏ ‏ذكريات‏ ‏تلك‏ ‏الأيام‏، (‏وقال‏ ‏لى ‏الرجل‏ ‏سوف‏ ‏تكتب‏) ‏وهممت‏ ‏بدق‏ ‏عنقه‏ ‏ولكنى ‏خفت‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏أى ‏خطأ‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏هلاكى ‏فسكت‏ ‏على ‏الذل‏ ‏وتجرعته‏ ‏رغم‏ ‏جفاف‏ ‏ريقى. ‏ورأيت‏ ‏حبيبتى ‏فهرعت‏ ‏نحوها‏ ‏أشق‏ ‏طريقا‏ ‏بين‏ ‏عشرات‏ ‏المذهولين‏،  ‏ولكنها‏ ‏لم‏ ‏تعرفنى ‏وتولت‏ ‏عنى ‏وهى ‏تلعن‏ ‏ساخطة‏ ‏وجرت‏ ‏نحو‏ ‏حافة‏ ‏السفينة‏ ‏ورمت‏ ‏بنفسها‏ ‏فى ‏العاصفة‏ ‏واعتقدت‏ ‏أنها‏ ‏تبين‏ ‏لى ‏طريق‏ ‏الخلاص‏ ‏فجريت‏ ‏متعثرا‏ ‏نحو‏ ‏حافة‏ ‏السفينة‏ ‏ولكن‏ ‏مدرس‏ ‏الحساب‏ ‏القديم‏ ‏اعترض‏ ‏سبيلى ‏ملوحا‏ ‏بعصاه‏.‏

القراءة:

المكان‏ ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏متحرك‏، ‏لكنه‏ ‏مكان‏ ‏محدد‏ ‏يسمح‏ ‏بالتجمع‏ ‏والتجمهر‏ ‏والانتقال‏، ‏فقط‏ ‏هو‏ ‏محوط‏ ‏بالمحيط‏، ‏فلا‏ ‏مجال‏ ‏للهرب‏ ‏إلى ‏المنزل‏ ‏مع‏ ‏الرضا‏ ‏بالوحشة‏ ‏مثلا‏، ‏ولا‏ ‏مهرب‏ ‏إلى ‏الهواء‏ ‏الطلق‏ ‏قبل‏ ‏انهيار‏ ‏البيت‏ ‏الصغير‏، ‏وكما‏ ‏بدأ‏ ‏حلم‏ “25” ‏بتوقع‏ ‏قصر‏ ‏عمر‏ ‏السعادة‏، ‏يبدأ‏ ‏هذا‏ ‏الحلم‏ ‏بتوقع‏ ‏العاصفة‏، “وكنا‏ ‏نتوقع‏ ‏هبوب‏ ‏الريح‏، ‏وهبت‏ ‏الريح‏” (‏لاحظ‏ ‏اختفاء‏ ‏أى ‏برهة‏ ‏زمنية‏ ‏بين‏ ‏التوقع‏ ‏والواقع‏).‏

ومع‏ ‏أن‏ ‏السفينة‏ ‏بها‏ ‏أجناس‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏لون‏ ‏ولغات‏ ‏شتى، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الراوى ‏يشعر‏ ‏بالوحدة‏ “وقال‏ ‏لى ‏خاطر‏ ‏أننى ‏وحيد‏”، ‏هذا‏ ‏الخاطر‏ ‏نقله‏ ‏فجأة‏ ‏من‏ ‏السفينة‏ ‏إلى ‏أعماق‏ ‏المحيط‏، ‏فتمنى ‏بأن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏يعيشه‏ ‏كابوسا‏، ‏بدت‏ ‏هذه‏ ‏الأمنية‏ ‏ ‏وكأنها‏ ‏جذب‏ ‏العودة‏ ‏إلى ‏الرحم‏ ‏الحانى ‏هربا‏ ‏من‏ ‏احتمال‏ ‏الغرق‏ ‏فى ‏المحيط‏ ‏الهادر‏، ‏إنها‏ ‏أمنية‏ ‏نكوصية‏ ‏واضحة‏. ‏لو‏ ‏أحسنا‏ ‏قراءة‏ ‏تعبير‏ “‏يقظة‏ ‏دافئة‏ ‏بالسرور‏” ‏هذا‏ ‏تعبير‏ ‏نادر، ‏اليقظة‏ ‏عادة‏ ‏تكون‏ ‏نقلة‏ ‏من‏ ‏الدفء‏ ‏إلى ‏النشاط‏، ‏من‏ ‏سكينة‏ ‏النوم‏ ‏إلى ‏دفع‏ ‏الحركة‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الدفء‏ ‏الذى ‏يصف‏ ‏اليقظة‏ ‏بأنها‏ “‏دافئة‏ ‏بالسرور‏” ‏ألهمنى احتمال نكوص حدسى مبدع استرح إحاطة‏ ‏السائل‏ ‏الأمنيتونى ‏داخل‏ ‏الرحم‏ ‏بالجنين وهو ما‏زال‏ “‏يبلبط‏” ‏فى ‏الداخل‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏العواصف‏ ‏والأنواء‏،  ‏لم‏ ‏يدم‏ ‏هذا‏ ‏الخاطر‏ ‏الهروبى طويلا‏ ‏وحل‏ ‏محله‏ ‏واقع‏ ‏أظهر‏ (‏كما‏ ‏فى ‏الحلم‏ ‏الأول‏ 25) ‏المعلم‏ ‏هنا‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏آخر‏ “‏مدرس‏ ‏حساب‏ ‏قديم‏”. ‏هذا‏ ‏المدرس‏ ‏لا‏ ‏يسأل‏ ‏أو‏ ‏يتساءل‏ ‏عن‏: “‏معنى ‏الوقت‏” ‏مثل‏ ‏أستاذ‏ ‏البيانو‏ (‏حلم‏ 25)، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يدعو‏ ‏فى ‏حزم‏ ‏إلى ‏تدريب‏ ‏على ‏مهارة‏ (‏البيانو‏)، ‏هو‏ ‏مدرس‏ ‏جاف‏ ‏لا‏ ‏يتكلم‏ ‏إلا‏ ‏بلغة‏ ‏الواجب‏، ‏والإهمال‏، ‏وليس‏ ‏عنده‏ ‏إلا‏ ‏العقاب‏، ‏المواجهة‏ ‏هنا‏ ‏مع‏ ‏الخيرزانة‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏ولا‏ ‏أقل‏، ‏فكانت‏ ‏استجابة‏ ‏الراوى ‏هى ‏الرغبة‏ ‏فى ‏قتله‏، ‏وحين‏ ‏تبين‏ ‏عجزه‏، ‏استشعر‏ ‏الذل‏ ‏وابتلعه‏ ‏وهو‏ ‏خائف‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يضبطوه‏ ‏متلبسا‏ ‏بالشروع‏ ‏فى ‏القتل‏، ‏ثم‏ ‏كان‏ ‏رد‏ ‏فعل‏ ‏القتل‏ ‏إلى ‏ذاته‏، ‏فهو‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الهلاك‏.

مازلنا‏ ‏فى ‏السفينة‏، ‏ومازالت‏ ‏العاصفة‏ ‏تحيط‏ ‏بها‏، ‏وظهور‏ ‏معلم‏ ‏الحساب‏ (‏الأب‏ ‏القاهر‏ ‏الجاف‏) ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏بديلا‏ ‏إيجابيا‏ ‏ليحتوى ‏الفن‏ ‏الرغبة‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏المدرس‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏واقعا‏ ‏أصلا‏، ‏كان‏ ‏مجرد‏ ‏تجسيد‏ ‏لذكرى (‏وازددت‏ ‏كرها‏ ‏من‏ ‏ذكريات‏ ‏تلك‏ ‏الأيام‏)‏، ‏الحبيبة‏ ‏التى ‏ظهرت‏ ‏ ‏لم‏ ‏تحضر أصلا‏، ‏هو‏ ‏الذى ‏جسَّدها‏ ‏فى وعيه‏ ‏ثم‏ ‏راح‏ ‏يشق‏ ‏طريقه‏ ‏إليها‏ (‏بعد‏ ‏أن‏ ‏فشل‏ ‏فى ‏الهرب‏ ‏إلى ‏الرحم‏) ‏وهى ‏لا‏ ‏تعرفه‏، ‏فتولت‏ ‏وهى ‏تلعن‏ ‏ساخطة‏ (‏لم‏ ‏يقل‏ ‏تلعن‏ ‏مَنْ‏)، ‏ثم‏ ‏إنها‏ ‏اختفت‏ (‏هل‏ ‏زال‏ ‏الخيال؟‏) ‏بأن‏ ‏رمت‏ ‏نفسها‏ ‏فى ‏العاصفة‏ (‏لم‏ ‏يقل‏ ‏فى ‏المحيط‏)، ‏فكاد‏ ‏يتبعها‏ ‏وهو‏ ‏يتصور‏ ‏أنها‏ ‏بفعلتها‏ ‏تلك‏ ‏إنما‏ ‏تشير‏ ‏إليه‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الحل‏: ‏إفناء‏ ‏الذات‏.‏

الذى ‏حال‏ ‏دون‏ ‏إتمام‏ ‏استجابته‏ ‏لهذه‏ ‏الدعوة‏ ‏هو‏ ‏مدرس‏ ‏الحساب‏، ‏والصورة‏ ‏التى ‏يقدمها‏ ‏محفوظ‏ هنا ‏تشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المدرس‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏حريصا‏ ‏على ‏إنقاذه‏ ‏بمعنى ‏دعوته‏ ‏إلى ‏بديل‏ ‏محيط‏ ‏راق‏ ‏مثابر‏ (‏مثل‏ ‏معلم‏ ‏البيانو ‏فى ‏حلم‏ 25) ‏وإنما‏ ‏الإنقاذ‏ ‏هنا‏ ‏كان‏ ‏أيضا‏ ‏بالتهديد‏ ‏بالعقاب‏ (‏اعترض‏ ‏سبيلى ‏ملوحا‏ ‏بعصاه‏). ‏وكأن‏ ‏الدافع‏ ‏لاستمرار‏ ‏الحياة‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏العقاب‏ ‏الذى ‏ينتظر‏ ‏المنتحر‏ (‏كما‏ ‏يقول‏ ‏النص‏ ‏الدينى‏) ‏وليس‏ ‏قبول‏ ‏تحدى ‏الحياة‏ ‏بخوض‏ ‏تجربتها‏. ‏

ينتهى ‏هذا‏ ‏الحلم‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نعرف‏ ‏ماذا‏ ‏حدث‏ ‏للراوى ‏ولا‏ ‏للمدرس‏ ‏ولا‏ ‏للباقين‏ ‏لينطلق‏ ‏خيال‏ ‏المتلقى فى زمن مفتوح ‏كيفما‏ ‏شاء إلى ما يشاء‏.

ثانياً: من أصداء السيرة الذاتية

من البداية، ومن واقع اسم العمل خطر لى أن اختيار لفظ أصداء  فى العنوان يضعنا على بداية طريق حركية تشكيل المكان زمنا، والموت وعيا، فاعتقدت‏ ‏أن‏ ‏الأصداء‏ ‏إنما‏ ‏سميت‏ ‏كذلك‏، ‏أو‏ ‏هى ‏كذلك‏، ‏لأنها‏ ‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏ترجيع‏ ‏صدى ‏وأصداء‏ ‏صوت‏ ‏الذكريات‏ ‏الحية‏ ‏بين‏ ‏طبقات‏ ‏الوعى (/‏الواقع ‏الداخلى)، ‏وتضاريس‏ ‏الوعي‏(/‏الواقع‏) ‏الخارجى ‏متجاوزة‏ ‏سجن‏ ‏الزمن‏ ‏التتابعى ………..”

ثم إنى اخترت بعض الفقرات كعينة محدودة، وذلك لنعرف كيف تردد الزمن (والموت: أحدهم تجلياته) معا هنا وهناك، نبدأ بأول فقرتين:

فقرة: 1

‏دعاء

دعوت‏ ‏للثورة‏، ‏وأنا‏ ‏دون‏ ‏السابعة‏ ‏ذهبت‏ ‏ذات‏ ‏صباح‏ ‏إلى ‏مدرستى ‏الأولية‏ ‏محروسا‏ ‏بالخادمة‏، ‏سرت‏ ‏كمن‏ ‏يساق‏ ‏إلى ‏سجن‏، ‏بيدى ‏كراسة‏ ‏وفى ‏عينى ‏كآبة‏ ‏وفى ‏قلبى ‏حنين‏ ‏للفوضى، ‏والهواء‏ ‏البارد‏ ‏يلسع‏ ‏ساقى ‏شبه‏ ‏العاريتين‏ ‏تحت‏ ‏بنطلونى ‏القصير‏…، ‏وجدنا‏ ‏المدرسة‏ ‏مغلقة‏ ‏والفراش‏ ‏يقول‏ ‏بصوت‏ ‏جهير‏: ‏بسبب‏ ‏المظاهرات‏ ‏لا‏ ‏دراسة‏ ‏اليوم‏ ‏أيضا‏،‏ غمرتنى ‏موجة‏ ‏من‏ ‏الفرح‏ ‏طارت‏ ‏بى ‏إلى ‏شاطيء‏ ‏السعادة‏ ‏ومن‏ ‏صميم‏ ‏قلبى ‏دعوت‏ ‏الله‏ ‏أن‏ ‏تدوم‏ ‏الثورة‏ ‏إلى ‏الأبد‏!‏…..

القراءة:

هذه‏ ‏البداية‏ ‏ ‏تغرى ‏القارىء‏ ‏أننا‏ ‏أمام‏ “‏سيرة‏ ‏ذاتية‏” حقيقية، ‏لكننا‏ ‏نلاحظ‏ ‏منذ الوهلة الأولى‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏حنين‏ ‏الطفل‏ ‏للفوضى ‏وبين‏ ‏مظاهرات‏ ‏الثورة‏ ‏فى ‏الخارج، ‏ ‏فنلمس‏ ‏ذلك‏ ‏الخيط‏ ‏السحرى ‏بين‏،‏الداخل‏ ‏والخارج‏ ‏والذى ‏يؤكد‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الأصداء‏، ‏إذ‏ ‏تتردد،‏ ‏لا‏ ‏تفصل‏ ‏أصلا‏ ‏بين‏ ‏واقع‏ ‏الذات‏ ‏والواقع‏ ‏الملموس‏ ‏خارجها‏، ‏بل‏ ‏والواقع‏ ‏المتجدد‏ ‏والمتولد‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حوارهما‏،‏

هذا ما كان من قراءتى لأول فقرة

ثم فوجئت مباشرة أن الموت يحضر ماثلا فى الفقرة الثانية، ونحن ما زلنا فى مرحلة الطفولة الباكرة :

فقرة: ‏2

‏رثاء

كانت‏ ‏أول‏ ‏زيارة‏ ‏للموت‏ ‏عندنا‏ ‏لدى ‏وفاة‏ ‏جدتى، ‏كان‏ ‏الموت‏ ‏مازال‏ ‏جديدا‏، ‏لا‏ ‏عهد‏ ‏لى ‏به‏ ‏إلا‏ ‏عابرا‏ ‏فى ‏الطريق‏، ‏وكنت‏ ‏أعلم‏ ‏بالمأثور‏ ‏من‏ ‏الكلام‏ ‏أنه‏ ‏حتم‏ ‏لا‏ ‏مفر‏ ‏منه‏، ‏أما‏ ‏عن‏ ‏شعورى ‏الحقيقى ‏فكان‏ ‏يراه‏ ‏بعيدا‏ ‏بعد‏ ‏السماء‏ ‏عن‏ ‏الأرض‏، ‏هكذا‏ ‏انتزعنى ‏النحيب‏ ‏من‏ ‏طمأنينتى ‏فأدركت‏ ‏أنه‏ ‏تسلل‏ ‏فى ‏غفلة‏ ‏منا‏ ‏إلى ‏تلك‏ ‏الحجرة‏ ‏التى ‏حكت‏ ‏لى ‏أجمل‏ ‏الحكايات‏. ‏ورأيتنى ‏صغيرا‏ ‏كما‏ ‏رأيته‏ ‏عملاقا‏، ‏وترددت‏ ‏أنفاسه‏ ‏فى ‏جميع‏ ‏الحجرات‏ ‏فكل‏ ‏شخص‏ ‏نذكره‏ ‏وكل‏ ‏شخص‏ ‏تحدث‏ ‏عنه‏ ‏بما‏ ‏قسم‏. ‏وضقت‏ ‏بالمطاردة‏ ‏فلذت‏ ‏بحجرتى ‏لأنعم‏ ‏بدقيقة‏ ‏من‏ ‏الوحدة‏ ‏والهدوء‏، ‏وإذا‏ ‏بالباب‏ ‏يفتح‏ ‏وتدخل‏ ‏الجميلة‏ ‏ذات‏ ‏الضفيرة‏ ‏الطويلة‏ ‏السوداء‏، ‏وهمست‏ ‏بحنان‏ : ‏لا‏ ‏تبق‏ ‏وحدك‏.‏

واندلعت‏ ‏فى ‏باطنى ‏ثورة‏ ‏مباغتة‏ ‏متسمة‏ ‏بالعنف‏ ‏متعطشة‏ ‏للجنون‏ ‏وقبضت‏ ‏على ‏يدها‏ ‏وجذبتها‏ ‏إلى ‏صدرى ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏يموج‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏حزن‏ ‏وخوف‏.‏

فى قراءتى لهذه الفقرة (الثانية) ما يلى: 

فجأة،‏ ‏نجد‏ ‏أنفسنا‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏موت‏ ‏الجدة‏”، ‏فننتبه‏ – ‏أيضا‏ ‏من‏ ‏البداية‏ – ‏إلى ‏دلالات هذه ‏النقلات‏‏ ‏الخاصة‏، ‏من‏ ‏طفل‏ ‏طائر‏ ‏إلى ‏شاطىء‏ ‏السعادة‏، ‏إلى ‏جدة‏ ‏تموت‏، ‏والموت‏ ‏طوال‏ ‏الأصداء‏ ‏كان‏ ‏حاضرا‏ ‏بحيوية‏ ‏بادية‏، ‏حيث‏ ‏تتفجر‏ ‏منه‏ ‏الحياة‏ ‏وتتحدد الأزمنة فى ‏معظم‏ ‏الأحيان‏، ‏كما‏ ‏علـّمنا‏ ‏محفوظ‏ ‏فى ‏الحرافيش‏ ‏أساسا‏. (لكن) محفوظ ‏يعامل‏ ‏الموت‏ ‏هنا‏ ‏باعتباره‏ ‏كائنا‏ ‏حيا‏ “‏لا‏ ‏عهد‏ ‏له‏ ‏به‏ ‏إلا‏ ‏عابرا‏ ‏فى ‏الطريق‏”، ‏ثم‏ ‏يحكى ‏عن‏ ‏الموت‏ ‏إذ‏ ‏تسلل‏، ‏ثم‏ ‏وهو‏ ‏يصير‏”‏عملاقا‏ ‏له‏ ‏أنفاس‏ ‏تتردد‏ ‏فى ‏كل‏ ‏الحجرات‏”، ‏وفجأة‏ ‏ينقلب‏ ‏الموت‏ ‏شبحا‏ ‏يطارد‏ ‏الطفل‏ ‏شخصيا‏، ‏فيجرى ‏أمامه‏ ‏ليلتقى ‏بالحياة‏، “‏الجميلة‏ – ‏ذات‏ ‏الضفيرة‏”.، ‏هذه‏ ‏الوصلة‏ ‏بين‏ ‏الموت‏ ‏والحياة‏ ‏هى ‏لعبة‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏المفضلة‏.

ثم:

“……تنتهى ‏الفقرة‏ ‏بالالتحام‏ ‏بالجميلة‏ (‏طفل‏ ‏وطفلة‏) ‏وبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏أنها‏ ‏لذة‏ ‏النجاة‏ ‏بسبب‏ ‏الهرب‏ ‏من‏ ‏الشعور‏ ‏بالفقد‏ ‏بالموت‏، ‏نفاجأ‏ ‏بأنه‏ ‏جذب‏ ‏الجميلة‏ ‏إليه‏ ‏ولم‏ ‏يرتم‏ ‏فى ‏حضنها‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏الموت‏ ‏المطارد‏، ‏ومع‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏جذبها‏ ‏وهو‏ ‏فى ‏ثورته‏ ‏المتسمة‏ ‏بالعنف‏ ‏المتعطشه‏ ‏للجنون‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الجذب‏ ‏كان‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏يموج‏ ‏به‏ ‏صدره‏ ‏من‏ “‏حزن‏ ‏وخوف‏”، وهكذا انتبهت الآن أن المسألة ليست مجرد أن نعرف أننا “أموات من أموات” كما جاء فى نقدى لملحمة الحرافيش بل هى أعمق من ذلك، إن هذا الربط بين الموت كوعى وكيان حاضر، وهو ما أطلقت عليه حالا تعبير “وعى الموت”، وبين “وعى” الحياة بزخم الجنس والحزن والخوف، بما يمثل حركية نشطة، أقول: إن هذا الجدل المحتمل هو الذى يتشكل منه الوجود زمنا لحظيا متجددا أبدا.

فقرة ‏204

 “‏الزمن”‏

قال‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏التائه‏:‏

‏- ‏يحق‏ ‏للزمن‏ ‏أن‏ ‏يتصور‏ ‏أنه‏ ‏أقوى ‏من‏ ‏أى ‏قوة‏ ‏مدمرة‏، ‏ولكنه‏ ‏يحقق‏ ‏أهدافه‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يسمع‏ ‏له‏ ‏صوت‏.‏

أضيف الآن: كتبت نقدى الأول وأنا أتصور أن التدمير هو تخريب وإبادة فحسب، لكننى حين راجعت نفسى الآن اكتشفت أن المقارنة يمكن أن نقرأها على أن الزمن أقوى بشكل آخر، من حيث أن قوة الزمن المدمرة قد تكون موجهة لمن يعترض طريق إنجازه لصالح التطور، أليس الزمن هو الذى حقق تطور الأحياء حتى ظهر هذا الكيان الرائع المسمى الإنسان، حققها بقوة استمراره تحت جناح الزمن بكل هذه القوة.

وقرب النهاية أيضا على لسان عبد ربه أيضا جاء ما يلى:

فقرة: ‏209

 ‏خفقة‏ ‏قلب

قال‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏التائه‏:‏

“ما‏ ‏بين‏ ‏كشف‏ ‏النقاب‏ ‏عن‏ ‏وجه‏ ‏العروس‏ ‏وإسداله‏ ‏على ‏جثتها‏ ‏إلا‏ ‏لحظة‏ ‏مثل‏ ‏خفقة‏ ‏قلب‏..”‏

 جاء فى قراءتى الأولى: لولا‏ ‏أننى ‏كررت‏ ‏فرحتى ‏بالاهتمام‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏نبضة‏، ‏وهمسة‏، ‏ولمسة‏، ‏ونظرة‏، ‏ولحظة‏، ‏لقلت‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏لم‏ ‏تضف‏ ‏جديدا‏ ‏إلا‏ ‏التذكرة‏ ‏بروعة‏ ‏إيقاع‏ ‏الزمن‏ ‏حين‏ ‏يتكثف‏، ‏وبالموت‏ ‏فى ‏انقضاضة‏ ‏جديدة‏، ‏اختزلت‏ ‏العمر‏ ‏كله‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الخفقة، دون أن تفزعنا حتى باسدال النقاب على جثة العروس‏.‏

وأضيف الآن: اختصار العمر كله إلى هذه اللحظة التى هى مثل خفقه القلب، إنما يؤكد ما نحاول تقديمه هنا من إحياء اللحظة فى الأحلام أساسا وفى الأصداء أحيانا وأنه أساس حركية الإبداع، ومع ذلك فإن هذا التكثيف قرب نهاية الأصداء يضيف إلينا ما نريد الاشارة إليه من تحكم محفوظ فى رؤيته لوحدات الزمن كما يشاء له إبداعه.

****

ثم نرجع إلى منتصف الأصداء لنواجه الموت شخصيا (فى علاقته بالزمن أيضا) بصورة أخرى:

فقرة: 42

‏رجل‏ ‏الساعة‏:‏

دائما‏ ‏هو‏ ‏قريب‏ ‏مني‏، ‏لا‏ ‏يبرح‏ ‏بصرى ‏أو‏ ‏خيالي‏، ‏بريق‏ ‏على ‏نظراته‏ ‏الهادئة‏ ‏القوية‏، ‏من‏ ‏وجه‏ ‏محايد‏ ‏فلا‏ ‏يشاركنى ‏حزنا‏ ‏أو‏ ‏فرحا‏، ‏ومن‏ ‏حين‏ ‏لآخر‏ ‏ينظر‏ ‏فى ‏ساعته‏ ‏موحيا‏ ‏إلى ‏بأن‏ ‏أفعل‏ ‏مثله‏، ‏أضيق‏ ‏به‏ ‏أحيانا‏،‏ ولكن‏ ‏إن‏ ‏غاب‏ ‏ساعة‏ ‏ابتلانى ‏الضياع‏، ‏جميع‏ ‏مالاقيت‏ ‏فى ‏حياتى ‏من‏ ‏تعب‏ ‏أو‏ ‏راحة‏ ‏من‏ ‏صنعه‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏جعلنى ‏أتوق‏ ‏إلى ‏حياة‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏بها‏ ‏ساعة‏ ‏تدق‏.‏

أضيف الآن: (لأول وهلة) تجسد هذه الفقرة الزمن فى صورة إدراكه التى وردت فى قراءتى للحرافيش، هو زمن الساعة (بإيقاعها الثقيل الجميل) وهى تدق فتزعج بقدر ما تنبه، وإدراك هذا الزمن بهذه الحدة هو دافع للحياة انتباها فهى الراحة بأننا نحيا، وفى نفس الوقت فهذه التذكرة اللحوح هى متعبة لأنها تقوم بتصدير النهاية قبل أوانها بما يّصد النفس!

أما أمنية إنكار الزمن “أن أتوق إلى حياة لا يوجد بها ساعة تدق”، فهى هنا مجرد أمنية، عابرة لأنه يقر بفضل الوعى بمرور الزمن هكذا، من حيث أنه إعلان لحركية الحياة، “إن غاب ساعة ابتلانى بالضياع”، إلا أنه يستدرك بسرعة ليقول لنا إن هذه الامنية (إنكار حقيقة مرور الزمن) إذا تعملقت واستبعـَدت كل ما عداها فهى الموت العدمى نفسه، هى الخلود العدم “الجلالى” (جلال صاحب الجلالة الحرافيش).

باختصار: هذه الفقرة ترينا كيف أن محفوظ  يتعامل مع الزمن بتناسب إبداعى مرن سواء كان زمن الساحة الموضوعى، أو حتى زمن الساعة التتابعى الملاحِق  الموقظ.. المنذر معا.

فقرة: ‏13

 ‏رسالة

وردة‏ ‏جافة‏ ‏مبعثرة‏ بين ‏الأوراق‏ ‏عثرت‏ ‏عليها‏ ‏وراء‏ ‏صف‏ ‏من‏ ‏الكتب‏ ‏وأنا‏ ‏أعيد‏ ‏ترتيب‏ ‏مكتبتى، ‏ابتسمت‏، ‏انحسرت‏ ‏غيابات‏ ‏الماضى ‏السحيق‏ ‏عن‏ ‏نور‏ ‏عابر‏، ‏وأفلت‏ ‏من‏ ‏قبضة‏ ‏الزمن‏ ‏حنين‏ ‏عاش‏ ‏دقائق‏ ‏خمس‏. ‏وندّ‏ ‏عن‏ ‏الأوراق‏ ‏الجافة‏ ‏عبير‏ ‏كالهمس‏.‏

‏ ‏وتذكرت‏ ‏قول‏ ‏الصديق‏ ‏الحكيم‏” ‏وقسوة‏ ‏الذاكرة‏ ‏تتجلى ‏فى ‏التذكر‏ ‏كما‏ ‏تتجلى ‏فى ‏النسيان‏.

أضيف الآن: تحضرنى الآن قراءة أخرى غير التى سجلتها فى نقدى الباكر،

فى هذه الفقرة من بضعة أسطر تحضر تشكيلات ثلاثة للزمن

 الزمن الأول: هو القابض على الذكريات الوصى على التذكر، لكنه هنا يبدو أعجز من أن يحتكر ما هو زمن خلف جدار كجدار التكية فى ملحمة الحرافيش،

الزمن الثانى: هو  الذى أطل من وراء هذه القبضة كنور عابر ليسمح بالزمن الثالث أن ينفلت إلينا

الزمن الثالث: هو ذلك الحنين الهامس الذى عاش خمس دقائق ليست دقائق الساعة على كل حال، هذه القراءة تختلف عن القراءة الأولى حين عاملت أحداث هذه الفقرة من منطلق أنها ذكريات، منتبهاً اكثر إلى ما جاء فى آخرها إشارة إلى حركية التذكر والنسيان التى هى فى النهاية ليست إلا تنشيط محتوى الدماغ (والجسد) “هنا والآن” ليتجدد الزمن فى صورة كل من النسيان والتذكر معاً، إذن فالزمن حاضر هنا حتى لو لم ندركه أو نرصده أى أنه حاضر سواء كان ذكرى ماثلة أو نسيان كافٍ.

فقرة: 43

 ‏الساحرة‏ ‏

مرت‏ ‏بى ‏فى ‏خلوتى ‏كالوردة‏ ‏اليانعة‏ ‏فوق‏ ‏الغصن‏ ‏النضير‏، ‏وانهمرت‏ ‏ذكريات‏ ‏تلك‏ ‏الأيام‏ ‏الباهرة‏، ‏وذهلت‏ ‏لسرعة‏ ‏الزمن‏، ‏وكنت‏ ‏شكوت‏ ‏إلى ‏صديقى ‏الحكيم‏ ‏بعض‏ ‏مالقيت‏ ‏فعقب‏ ‏على ‏شكواى ‏قائلا‏.: ‏هل‏ ‏تنكر‏ ‏حظك‏ ‏من‏ ‏دفء‏ ‏الدنيا‏ ‏ونشوتها؟‏ ‏

فعددت‏ ‏الحسنات‏ ‏إقرارا‏ ‏منى ‏بفضل‏ ‏الوهاب‏ ‏

فقال‏: ‏جميع‏ ‏تلك‏ ‏الحظوظ‏ ‏ثمرة‏ ‏لإعراضها

وبعد‏ ‏صمت‏ ‏قصير‏ ‏سألني‏: ‏ألا‏ ‏تذكر‏ ‏أثرا‏ ‏من‏ ‏إقبالها؟‏ ‏

فقلت‏: ‏نظرة‏ ‏رضا‏ ‏عابرة‏ ‏تحت‏ ‏النخلة‏!‏

‏ -‏هل‏ ‏تذكر‏ ‏مذاقها؟

‏ -‏أطيب‏ ‏من‏ ‏جميع‏ ‏الحظوظ‏ ‏مجتمعة‏.. ‏

فقال‏ ‏بهدوء‏ : ‏لذلك‏ ‏أقول‏ ‏لك‏ ‏إنها‏ ‏سر‏ ‏الحياة‏ ‏ونورها‏.‏

كتبت فى القراءة الأولى:

 ‏يظهر‏ ‏لنا‏ ‏هنا‏ ‏ملمح‏ ‏آخر‏ ‏يؤكد‏  ‏وقوف‏ ‏محفوظ‏ ‏عند‏ “‏اللحظات‏ ‏الدالة‏”، ‏و‏”‏البوارق‏ ‏المخترقة‏”، ‏و‏”‏الإشارات‏ ‏والنظرات‏ ‏العابرة‏” ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏تدم‏ ‏إلا‏ ‏ثوان‏ ‏معدودة‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏بضع‏ ‏ثانية‏، ‏ونتذكر‏ ‏باشلار‏ ‏فى “‏حدس‏ ‏اللحظة‏”، ‏كما‏ ‏تذكـرنا‏ ‏علاقة‏ ‏محفوظ‏ ‏بالمكان‏ (‏بكل‏ ‏الأمكنة‏) ‏أيضا‏ ‏بــ‏ “‏باشلار‏” ‏فى “‏شاعرية‏ ‏المكان‏”، ‏فهنا‏ ‏يحضر‏ ‏الاثنان‏ ‏معا‏، حدس‏ ‏اللحظة‏ ‏وشاعرية‏ ‏المكان‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏التأكيد‏ ‏على “‏اللحظة‏” ‏أكبر‏، ‏حتى ‏لتصبح‏ “‏سر‏ ‏الحياة‏ ‏ونورها‏” ‏والراوى هنا‏ ‏يذكرها‏ ‏باعتبارها‏ “‏أطيب‏ ‏من‏ ‏جميع‏ ‏الحظوظ‏”، ‏ولا‏ ‏نربط‏ ‏ذلك‏ ‏كثيرا‏ ‏بخبرة‏ عمر‏ ‏الحمزاوى (‏الشحاذ‏) ‏فى ‏صحراء‏ ‏الهرم‏، ‏فلم‏ ‏تكن‏ ‏لحظة‏ ‏بهذا‏ ‏المعني‏، ‏ولم‏ ‏تترك‏ ‏أثرا‏ ‏باقيا‏، ‏بل‏ ‏أثارت‏-‏ بعد‏ ‏اختفائها‏- ‏بحثا‏ ‏بغير‏ ‏جدوي‏.‏

ثم‏ ‏تأتى ‏الذاكرة‏، ‏فتمد‏ ‏يدها‏ ‏الطويلة‏ ‏القادرة‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏اللحظة‏، ‏فتكثفها‏ ‏وتضاعفها‏ ‏وتجسدها‏ ‏وترققها‏ ‏وتمـر‏ ‏بكل‏ ‏ذلك‏ ‏عليها‏ ‏كالوردة‏ ‏اليانعة‏، ‏لكن‏ ‏الذكريات‏ ‏التى ‏تتابعت‏ ‏نتيجة‏ ‏لحركتها‏ ‏الرقيقة‏، ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏مثلها‏ ‏رقيقة‏ ‏بل‏ ‏جاءت‏ ‏متسارعة‏ ‏منهمرة‏ “‏انهمرت‏ ‏ذكريات‏”، ‏و‏”‏ذهلت‏ ‏لسرعة‏ ‏الزمن‏”، ‏ولم‏ ‏يستطع‏ – ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حواره‏ ‏الأمين‏ ‏مع‏ ‏صديقه‏ ‏الحكيم‏ (‏الداخلي‏: ‏لم‏ ‏يظهر‏ ‏بعد‏ ‏خارجه‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏التائه‏) ‏أن‏ ‏يقيـم‏ ‏فضلها‏ ‏ويميزها‏ ‏عن‏ ‏الذكريات‏ ‏المنهمرة‏ ‏والمتسارعة‏،….

وأضيف الآن: أننى اطمأننت لظهور جاستون بشلار هكذا فى قراءتى الأولى، وهو ما حضرنى أكثر كثيرا، تدعيما لفروض الأطروحة الحالية، كما أننا نلاحظ هنا كذلك إشارة إلى أن حركية الحياة هكذا، تعطى حتى لإدبارها فضل أى فضل “جميع تلك الحظوظ بفضل إعراضها”، أما إقبالها “لحظة رضا تحت النخلة”،  فى تكثيف رائع  يجعل تلك اللحظة (مثل اللحظات التى نعنيها فى هذه الأطروحة) “أطيب من جميع الحظوظ مجتمعة” حتى تصير “سر الحياة ونورها”

هل ثم شك فى أن محفوظ قادر على إحياء الزمن لحظة بلحظة – كما علمنا بشلار- طول الوقت.

فقرة: 104

 ‏ملخص التاريخ

أحببت‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏أحببت‏ ‏وأنا‏ ‏طفل‏، ‏ولهوت‏ ‏بزمنى ‏حتى ‏لاح‏ ‏الموت‏ ‏فى ‏الأفق‏، ‏وفى ‏مطلع‏ ‏الشباب‏ ‏عرفت‏ ‏الحب‏ ‏الخالد‏ ‏الذى ‏يخلفه‏ ‏الحبيب‏ ‏الفانى، ‏وغرقت‏ ‏فى ‏خضم‏ ‏الحياة‏، ‏ورحل‏ ‏الحبيب‏، ‏واحترقت‏ ‏الذكريات‏ ‏تحت‏ ‏شمس‏ ‏الظهيرة‏، ‏وأرشدنى ‏مرشد‏ ‏فى ‏أعماقى ‏إلى ‏الطريق‏ ‏الذهبى ‏المفروش‏ ‏بالمعاناة‏ ‏والمفضى ‏إلى ‏الأهداف‏ ‏المراوغة‏، ‏فطورا‏ ‏يلوح‏ ‏السيد‏ ‏الكامل‏ ‏وطورا‏ ‏يتراءى ‏الحبيب‏ ‏الراحل‏، ‏وتبين‏ ‏لى ‏أن‏ ‏بينى ‏وبين‏ ‏الموت‏ ‏عتابا‏ ‏ولكننى ‏مقضى ‏على ‏بالأمل‏.‏

القراءة الأولى:

 كيف يلهو الطفل بالزمن؟

وأضيف الآن:

هذا، ومثله، هو ما أكد لى النقلة الضرورية فى التعامل مع الموت ليس باعتباره نذيرا يلهب ظهورنا لنقبل على الحياة بما تستحق بأسرع مايمكن، ولكن باعتباره “وعيا متكاملا” مع وعى الحياة، وهكذا نعايش مرة أخرى تلك الرقة البالغة فى علاقتنا بالموت وعتابه:

“بينى وبين الموت عتابا ولكننى مقضى علىّ “بالأمل” (وليس بالأجل).

فقرة: ‏133

 ‏قول‏:‏

قال‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏ذات‏ ‏ليلة‏ ‏فى ‏سهرة‏ ‏الكهف

ما‏ ‏أجمل‏ ‏قصص‏ ‏الحب‏، ‏عفا‏ ‏الله‏ ‏عن‏ ‏الزمن‏ ‏الذى ‏يحييها‏ ‏ويميتها‏.‏

القراءة الأولى:

 الجملة‏ ‏الأولى ‏مقبولة‏ ‏بفتور‏ “‏ما‏ ‏أجمل‏ ‏قصص‏ ‏الحب”، ‏فتور‏ ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يذكر‏ “‏أيام” ‏الحب‏ ‏أو‏ “‏عهد” ‏الحب (بل قصص الحب)‏.

وأضيف الآن:

 ‏أما‏ ‏الجملة‏ ‏الثانية‏ “‏عفا‏ ‏الله‏ ‏عن‏ ‏الزمن‏ ‏الذى ‏يحييها‏ ‏ويميتها”، ‏فهى ‏تحتاج‏ الآن ‏إلى ‏وقفة‏ ‏لأن‏ ‏الموقف‏ ‏الذى ‏يسمح‏ ‏بتذكر‏ ‏قصص‏ ‏الحب‏ (‏وليس‏ ‏أيامه‏ ‏أو‏ ‏عهده‏) ‏يجعل‏ ‏الزمن‏ ‏هو‏ ‏خالقها‏ ‏وقابضها‏، ‏جمال‏ ‏قصص‏ ‏الحب‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏جمالا‏ ‏حقا‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏بعد‏ ‏الزمن‏ ‏الدوار‏ ‏الذى ‏يرتفع‏ ‏بها‏ ‏وينخفض‏، ‏فلا‏ ‏جمال‏ ‏لدوام‏، ‏ولا‏ ‏جمال‏ ‏لسكون‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏الخلود‏ ‏ذاته‏، قصص الحب لا تنفصل عن زمنها، هو الذى يجمعها، أما الذى يمنها فهو توقفه وانسحابه عنها لتصبح ذكريات مرموزه.

****

خاتمة:

هذه مجرد مقدمة أرجو أن تعد بدراسة أشمل – كما أملنا من البداية – للإحاطة ببقية ما لوّح به الفرض، وخاصة علاقة وعى الموت (وليس مجرد إدراك حقيقة الموت) بوعى الحياة بتخليق الزمن وتشكيله (وليس بمرور الزمن وحتم النهاية)

هذا إن كان فى العمر بقية،

 وفى الوقت فسحة.

ملحق الدراسة: “حول إشكالة الزمن”

بين باشلار (روبنال) وبرجسون

حين نتكلم عن أن حلم الشخص العادى هو إبداع آنىّ فى لحظة متناهية الصغر ثم نقرأ أحلام محفوظ من منطلق تجدد “اللحظة الطرافة”، فلابد أن يحضرنا “حدس اللحظة” لبشلار([57]) فى مواجهة برجسون.

دعونا نعلنها من البداية أن إبداع محفوظ خاصة فى ما أسماه بالأحلام (دون استبعاد غير ذلك) ينتمى أكثر فأكثر إلى لحظات بشلار فى الوقت الذى يبتعد أكثر فأكثر عن ديمومة برجسون، ولكى يتضح بعض ذلك قبل أن نعاود قراءة بعض الأحلام من جديد، رأيت أنه قد آن الأوان لوقفة استطراد قصيرة نحدد من خلالها الخطوط العريضة لهذا التناقض الهام، لحين العودة إلى تطبيقه ما أمكن ذلك فى الدراسة الكاملة، وسوف أكتفى الآن بأن أورد قراءتى لما دار فى ندوة ثقافية ([58]) قمت بإدارتها وإيجازها والتعقيب عليها وذلك عن كتاب بشلار “حدس اللحظة”.([59])

أولا: عن برجسون:

‏(1) ‏يرى ‏برجسون‏ ‏أننا‏ ‏نمتلك‏ ‏تجربة‏ ‏باطنية‏ ‏ومباشرة‏ ‏للديمومة‏، ‏بل‏ إن ‏هذه‏ ‏الديمومة‏ ‏هى ‏معطى ‏مباشر‏ ‏للشعور، ‏ومن‏ ‏دون‏ ‏شك‏ ‏قد‏ ‏تصاغ‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏، ‏وتوضح‏، ‏وتحرف‏، ‏فيتخذ‏ ‏منها‏ ‏الفيزيائيون‏ – ‏بحكم‏ ‏تجريداتهم‏ – ‏زمنا‏ ‏مسترسلا‏ ‏خاليا‏ ‏من‏ ‏الحياة‏، ‏لا‏ ‏نهاية‏ ‏ولا‏ ‏انفصال‏ ‏له‏، ‏وهكذا‏ ‏يسلمون‏ ‏للرياضيين‏ ‏زمنا‏ ‏مجردا‏ ‏من‏ ‏الانسانية‏ ‏تماما.

‏ (2) ‏اللحظة‏ ‏فى ‏نظر‏ ‏برجسون‏” ‏ليست‏ ‏إلا‏ ‏قطيعة‏ ‏مصطنعة‏ ‏تساعد‏ ‏التفكير‏ ‏المبسط‏ ‏للهندسى = إذن فاللحظة ‏ليست‏ ‏إلا‏ ‏تقطيعا‏ ‏خاطئا‏ ‏للزمن‏. ‏

‏(3) ‏الحاضر‏ – ‏إذن‏- ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏عدما‏ ‏خالصا‏.‏

‏(4) (‏من‏ 2، 3) ‏يمثل‏ ‏بشلار‏ ‏الحاضر‏- ‏عند‏ ‏برجسون‏ – ‏بخط‏ ‏مستقيم‏ ‏أسود‏ ‏فيه‏ ‏نقط‏ ‏بيضاء‏ ‏تجسِّم‏ ‏اللحظة‏ ‏باعتبارها‏ ‏عدما‏ ‏وفراغا‏ ‏وهميا‏. ‏

‏(5) ‏العمل‏ ‏هو‏ ‏دوما‏ ‏تتابع‏ ‏مستمر‏ ‏يضع‏ ‏بين‏ ‏القرار‏ ‏والهدف‏ ‏ديمومة‏ ‏طريفة‏ ‏وحقيقية‏ ‏دائما.

ثانيا‏:‏ عند‏ ‏روبنال‏ (و: بشلار):‏

أشار‏ ‏بشلار‏ ‏إلى ‏تسلسل‏ ‏حواره‏ ‏مع مقولات‏ ‏برجسون‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى:‏

‏(1) (‏إذا‏) ‏انتصرنا‏ ‏فبرهنا‏ ‏على ‏عدم‏ ‏وجود‏ ‏اللحظة‏ ‏فكيف‏ ‏نستطيع‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏بداية‏ ‏الفعل‏؟‏

‏(2) ‏إذا‏ ‏انتقلنا‏ ‏إلى ‏مجال‏ ‏التحولات‏ ‏المفاجئة‏ ‏حيث‏ ‏يبرز‏ ‏الفعل‏ ‏الخلاق‏ ‏فجأة‏، ‏كيف‏ ‏لا‏ ‏نفهم‏ ‏أن‏ ‏عهدا‏ ‏جديدا‏ ‏يبدأ‏ ‏دائما‏ ‏بمطلق‏‏؟‏ ‏

‏(3) ‏إن‏ ‏بوسعنا‏ ‏بناء‏ ‏الديمومة‏ ‏بواسطة‏ ‏لحظات‏ ‏لا‏ ‏ديمومة‏ ‏لها‏ (‏اللحظات‏ -‏هى ‏الأصل‏‏).

‏(4) ‏نحن‏ ‏نسكن‏ ‏فى ‏الحاضر‏ ‏بكامل‏ ‏شخصيتنا‏.‏

‏(5) ‏إن‏ ‏بين‏ ‏الإحساس‏ ‏بالحاضر‏ ‏والإحساس‏ ‏بالحياة‏ ‏تطابق‏ ‏مطلق‏. ‏

‏(6) ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نفهم‏ ‏الماضى ‏بالحاضر‏ ‏لا‏ ‏أن‏ ‏نسعى ‏إلى ‏تفسير‏ ‏الحاضر‏ ‏بالماضى.‏

‏(7) ‏لا‏ ‏بداهة‏ ‏حقيقية‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏الإرادة‏ ‏وفى ‏الشعور‏ ‏الذى ‏يمتد‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏إقرار‏ ‏فعل‏، ‏والفعل‏ ‏هو‏ – ‏قبل‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ – ‏قرار‏ ‏آنىّ ‏يحمل‏ ‏كل‏ ‏خصائص‏ ‏الطرافة‏: ‏إن‏ ‏فلسفة‏ ‏روبنال‏ ‏هى ‏فلسفة‏ ‏الفعل‏ (والفعل‏ ‏هو‏ ‏الآنى‏).‏

‏(8) ‏إن‏ ‏فهم‏ ‏الحياة‏ ‏لا‏ ‏يأتى ‏من‏ ‏تأمل‏ ‏سلبى، ‏فهى ‏لا‏ ‏تنساب‏ ‏على ‏طول‏ ‏منحدر‏ ‏فى ‏محور‏ ‏زمن‏ ‏موضوعى ‏يتلقاها‏ ‏مثل‏ ‏قنال‏، ‏إن‏ ‏فهم‏ ‏الحياة‏ ‏يقتضى ‏أن‏ ‏ندفعها‏ ‏وهو‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏نحياها‏..‏

ثالثا: محاولة بشلار للتوفيق:

حاول‏ ‏بشلار‏- ‏فى ‏بداية‏ ‏الأمر‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏- ‏التوفيق‏ ‏بين‏ ‏برجسون‏ ‏وروبنال‏ ‏فجعل‏ ‏اللحظة‏ ‏بُعدا‏ – ‏باعتبارها‏ ‏الذرة‏ ‏الزمنية‏- ‏وجعل‏ ‏داخلها‏ ‏ديمومة‏، ‏باعتبار‏ ‏أنه‏ ‏يحق‏ ‏للكائن‏ ‏أن‏ ‏تمثل‏ ‏له‏ ‏الديمومة‏ ‏ثروة‏ ‏عميقة‏ ‏ومباشرة‏، ‏وبتعبير‏ ‏آخر‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏الكائن‏ ‏هو‏ ‏الجديد‏ ‏فى ‏زمن‏ ‏متشابه‏ ‏وإنما‏ ‏اللحظة‏ ‏هى ‏التى ‏بتجددها‏ ‏تنقل‏ ‏الكائن‏ ‏إلى ‏الحرية.

‏كما تبينت ‏إن‏ ‏التجربة‏ ‏المباشرة‏ ‏للزمن‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏التجربة‏ ‏السريعة‏ ‏جدا‏ ‏والصعبة‏ ‏جدا‏ ‏والمركبة‏ ‏جدا‏ ‏للديمومة‏، ‏بل إن العكس هو‏ الصحيح: ‏فكل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏بسيط‏، ‏وكل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏قوى ‏فينا‏، ‏وحتى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دائم‏، ‏هو‏ ‏هبة‏ ‏اللحظة.‏

ثم أشار بشلار إلى‏ أن ‏ذكرى ‏الديمومة‏ ‏هى ‏من‏ ‏الذكريات‏ ‏الأقل‏ ‏دواما‏، ‏فنحن‏ ‏نتذكر‏ ‏أننا‏ ‏كنا‏، ‏ولا‏ ‏نتذكر‏ ‏أننا‏ ‏دمنا‏. ‏

إذن‏ ‏فاللحظة‏ ‏هى ‏الأصل،‏ ‏وهى ‏الكل،‏ ‏وهى ‏الزمن‏، لكن‏ ‏أية ‏لحظة‏ ‏وكيف‏؟‏

مصر فى “مستويات وعى محفوظ”

عبر قرنين تتجلى فى:

 “حديث الصباح والمساء”‏ ([60])

 بدون عنوان-3

استهلال

هذه دراسة نقدية متعددة الأجزاء (لا أعرف كم حتى الآن)، وهذا المقال هو الجزء الأول منها: مجرد مقدمة، وقد كتبتُ معظمها منذ أحد عشر عاما وقدمتُها فى احدى الندوات الثقافية لجمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى بتاريخ 3 مارس سنة 2000، إلا أننى ترددت فى نشرها لشعورى بحاجتها إلى مزيد من البحث والمراجعة، قررت أن أنشر ما تيسر منها منتظرا السماح بإكمالها إن جاز ذلك.

‏ مقدمة

سألت‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏، ‏ذات لقاء وسط أصدقائه ومحبيه: ‏أى ‏أعماله‏ ‏لم‏ ‏ينل‏ ‏حقه‏ ‏من‏ ‏النقد‏ ‏أو‏ ‏البحث أو منهما معا، فأجاب على الفور “حديث الصباح والمساء”، ولم أكن قد قرأته بعد، لا أعرف السبب، فخطرت لى فكرة تقديمه فى الندوة الثقافية الشهرية لجمعيتنا، وأعلنتُها له مترددا، وتعجبت أنه قال: “يا ليت”، وهو يعرف تواضع هذه الندوة وخصوصية المشاركين فيها، برغم إصراره على تشجيعى لمواصلتها، ولومى لوما شديدا إن اعتذرت عنها أو فكرت فى إيقافها، حفزنى ترحيبه، ربما تمهيدا لمناقشته، كما فرحت أننى سأغطى بذلك بعض ما تنقصنى قراءته من أعماله، وتم ذلك فعلا فى التاريخ السالف الذكر، وكنت أحد المقدِّمين بالاشتراك مع الابن الأستاذ يوسف عزب المحامى([61])

رجعت الآن إلى ما قدمت آنذاك، وبرغم أنه بلغ عشرات الصفحات، إلا أننى رأيت أنه ليس أكثر من عناصر دالة لمحتوى كتاب كامل يمكن أن يكشف لنا وجه مصر حاضراً الآن عبر قرنين من الزمان، من خلال إبداع هذا الوعى المصرى الفريد، وتحديدا من خلال عمل واحد بهذه الكثافة، عمل يتحدى بمنهج إبداعى غير مسبوق، وما أصعبه!

بعد تقديم الندوة وكتابة مسودة هذه الأطروحة، عدت أسأله بإلحاح ثقيل إن كان قد كتب هذا العمل العبقرى بنفس الترتيب الذى نشر به أم أنه كتبه مسلسلاً متتابعا بالطول، ثم أعاد ترتيبه بهذه الصورة الأبجدية: ألف باء: أحمد محمد إبراهيم، أحمد عطا المراكيبى،… حتى (الواو)  وردة حمادة القناوى، ليختمه بـ (الياء) .. يزيد المصرى؟ أجابنى بلا تردد أنه كتبه كما نشر، زاد سخفى فأعدت عليه السؤال، فسامَحَنِى وجهه وهو يجيب نفس الإجابة.

الجغرافيا البيولوجية التاريخية والإبداع([62])

سجلت فى أكثر من مناسبة وموقع علاقتى الحذرة والضعيفة جدا بما هو “تاريخ”، وشكوكى في مصداقية ما يصلنا تحت رايته من أول السير الذاتية حتى ما يسمى “علم التاريخ”، بغض النظر عن الوثائق الرسمية، مما أسميته أحيانا “الكذِب الموثق”، كل ذلك مع كل احترامى لجهود علمائه، وللمؤرخين عامة، وتقديرى لجهودهم، وقد سبق أن عدّدت المصادر الأخرى الأهم التى يمكن أن نستلهم منها التاريخ، بما فى ذلك تاريخنا، وكان من أهمها الإبداع الأدبى خاصة، بل وأشرت تحديدا إلى أهمية مسوّدات الإبداع بنفس القدر وربما بقدر أكبر، ومع أننى أنتمى إلى الفكر التطورى بكل حماس ويقين، إلا أننى أستقى معارفى من واقع “الآن”، أكثر من أى زمن آخر، القاعدة الأساسية: “هنا والآن”، هى أساس ما أمارسه أثناء العلاج عامة، والعلاج الجمعى خاصة، وهى قاعدة تضعنى مع مريضى ومرضاى واقعا “حاليا” فى “بؤرة حدْس اللحظة” بتعبير جاستون باشلار.

هدتنى هذه الممارسة من منطلق فكرى البيولوجى التطورى، إلى منهج إكلينيكى لقراءة التاريخ والحياة، حيث رحت أعتبر دَنَا DNA مرضاى، مثله مثل دناى: الكتاب الأساسى الأوْلَى بالقراءة إذا كنت أريد أن أعايش مرضاى ونفسى حاضرا يحتوى تاريخنا معا، وتطور بى الأمر إلى أن أعتبر مريضى، وبالذات من يسمونه المجنون (الذهانى)، “نصّا بشريا” بكل معنى الكلمة، نصّاً يحتاج لقراءة آنيّة ناقدة، حالة كونه يتفاعل “هنا والآن”، مع نص بشرى آخر، قابل للقراءة أيضا، هو الطبيب أو المعالج، بحيث تتاح الفرصة أن يتعاونا لإعادة تشكيلهما من خلال علاقة مهنية مبدعة، حتى أننى أسميت هذا العلاج كما كررت مرارا “نقد النص البشرى“، وقد ساعدنى ذلك أن أواصل عزوفى عن الاهتمام بأولوية التشخيص، بمعنى وضع لافتة، جامعة مانعة على نص بشرى بهذا التعقيد والروعة والتحدى، وصرت أعتبر آلية التشخيص بمثابة عملية غير علمية، وأحيانا غير أخلاقية، فضلا عن أنها غير مفيدة إلا لأغراض تنظيمية إحصائية (مغتربة غالبا).

حين هممت بالقراءة الأولى لهذه للرواية فوجئت بإبداع يَمْثُلُ أمامى مستعرضا بكل عنفوانه، وهو يفرد ذراعيه ممسكا بالهمزة من ناحية، حتى الياء الناحية الأخرى، وهو يتحدى، فرحت أقرأه كما اعتدت، أن أقرأ محفوظ، ولكن بتركيز خاص، وجهد جهيد، فأنا أقرأ محفوظ عادة مثلما أقرأ الشعر الحقيقى: على أكثر من مستوى من مستويات الوعى معا، لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيا، فحضرنى وعى آخر، وعى ناقدٌ أساسا، هو الذى يجمع تناثر ما يصلنى وأنا أمارس مهنتى ليصيغ منه توليفا جديدا فتشكيلا جديدا، فما بالك إن كان هذا التناثر مقصودا ليترتب فى منظومة أعلى حول فكرة محورية ضامة وأنه علىّ أن ألاحقه، وقد اكتشفت أننى منذ اتبعت هذا الأسلوب، راحت رؤيتى تتضح أكثر فأكثر حتى تبلورت فى يقين يقول: إن العلاج الحقيقى لا يكون كذلك إلا بإعادة تشكيل النص البشرى، نقداً، بل إنه لا يكون كذلك إلا بإعادة تشكيل النصين البشريين المتفاعلين معا: المريض والمعالج، بالضبط كما لا يكون النقد نقدا إلا بإعادة تشكيل النص الأدبى من وجهة نظر وعى إبداعى آخر هو وعى الناقد، الفرق بين نقد النص البشرى علاجا، ونقد النص الأدبى تشكيلا، هو أن النص البشرى الماثل هو إبداعٌ مُجـْـهض، وفى نفس الوقت هو‏ يشارك فى عملية نقده شخصيا، بل ويمتد إلى الاشتراك فى نقد النص البشرى المشارك، أعنى المعالج، إذن: فأنا أقرأ النص البشرى أساسا باعتباره كيانا حيا حاضرا “هنا والآن”، كيانا دائم التغيّر قابلا للتشكل والتجدد، أكثر منه سردا طوليا مسلسلا يحتاج حلاً، أو يقدم تبريرا أو يعدد أسبابا، أو يفك عقدا، من هنا رحت أتعامل مع  الإنسان “الآن” بما هو “حالاً”، فوجدت أن ذلك هو أكثر موضوعية كمصدر‏ ‏لقراءة‏ ‏التاريخ‏ ‏من خلال‏ ‏واقع‏ ‏البيولوجيا‏ ‏الماثلة ‏فيما ‏هو‏ “دنا” DNA، بمعنى أن هذا ‏الذى ‏يتجلى ‏فى ‏كل من الجنون والإبداع – مع الفارق حتى العكس- هو ‏الوسيلة‏ ‏الأمثل‏ ‏للحصول‏ ‏على ‏معلومات‏ ‏عنا نحن البشر، معلومات‏ ‏توازن‏ ‏أو‏ ‏تصحح‏ ‏أو‏ ‏تنسخ‏ ‏ذلك‏ ‏الوهم‏ ‏الآخر‏ ‏الشائع‏ ‏تحت‏ ‏مسمى “علم‏ ‏التاريخ” ‏أو‏ ‏رواية‏ ‏المؤرخين‏، ‏دون إهمال أى من ذلك، حيث أن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يصلنا‏ ‏موثقا‏‏، ‏أو‏ ‏منمقا‏، ‏أو‏ ‏محكيا‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏الأمور‏ ‏الاحتمالية‏ المساهمة فى الكشف عن بعض جوانب الحقيقة التى هى عادة مقولة بالتشكيك!‏

عن اسم الرواية

لم أصل بسهولة إلى دلالة جاهزة تعيننى على فهم مغزى اختيار اسم هذه الرواية، ولعل من أصعب المهمات على الكاتب عامة هو أن يختار اسما لرواية ما يتكون من كلمة أو اثنتين أو بضع كلمات، بعد أن يكون قد امتلأ بمئات الشخوص، والأحداث والاحتمالات، وتزداد الصعوبة حين تكون الرواية بكل هذا الترامى المستعرض، وقد تصورت، لأدعم فرضى الأساسى، أن هذا الاسم إنما ينبهنا إلى‏ ‏التاريخ‏ ‏الأصدق‏ ‏حتى نعاود معايشته بلا توقف: “صباحَ مساء”، كل صباح وكل مساء بالطول والعرض، فهو ليس‏ ‏حديث‏ ‏الأمس‏ ‏الموثـَّق‏، وهو ‏ليس صباحا بذاته، ولكنه كل صباح وكل مساء، وأى صباح وأى مساء، مما يحضرنا فى “الآن” “حالا”، ومما يحضر فينا بمثل هذا الإبداع المستعرض، وهو يحتوى قرنين من الزمان كعينة ماثلة.

حين‏ ‏خطر‏ ‏ببالى ‏هذا‏ ‏الخاطر‏ ‏رجحت‏ ‏أن‏ ‏حدْس‏ ‏الكاتب هكذا‏ ‏- ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏قصده‏ ‏واعيا-‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏دفعه‏ ‏للإقدام‏ ‏على ‏هذه‏ ‏المغامرة‏، ‏بأن‏ ‏يتجنب‏ ‏الرواية‏ ‏الطولية‏ ‏الخطية‏، ‏فيقوم‏ ‏بأبْجَدَةِ‏ ‏الشخوص‏ ‏ليحضروا‏ “معا” ‏بكل‏ ‏تحد‏ ‏فى ‏وعى ‏القارئ‏، الذى عليه أن يفتح أذرع كل مستويات وعيه ليتلقى هذا العمل المحيط، بما هو!

قبول التحدى، ودليل مرفوض

يا ترى ما الذى دفع محفوظ، وهو فى قمة نضجه الإبداعى، وبعد الحرافيش وأولاد حارتنا، والثلاثية، أن يجذبنا جذبا إلى هذا الامتداد بالعرض لنتعرف علينا من خلال هذا التكثيف الزمانى فى “الآن” هكذا، بهذه الآلية الإبداعية غير المسبوقة؟ هل ياترى كان فى ذهنه كيف سيتلقى قارئه هذا العمل وهو يقدمه له متحديا بهذه الصورة؟ حضرنى هذان التساؤلان مع تداعياتهما وأنا أقبل التحدّى:

كـتب‏ ‏محفوظ هذا‏ ‏العمل‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏تمام‏ ‏نضجه الإنسانى والإبداعى (‏نشرت‏ ‏الطبعة‏ ‏الأولى ‏سنة‏ 1987) وقد‏ ‏حصل‏‏ ‏على ‏نوبل‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بسنتين‏، ‏ولم‏ ‏ينشر‏ ‏بعده‏ ‏رواية‏ ‏طويلة‏ ‏إلا‏ ‏قشتمر (على حد علمى)‏، وقد أدهشنى ظهور‏ ‏عمل‏ ‏فى هذا‏ ‏التوقيت‏ ‏من‏ ‏مبدع‏ ‏بهذا‏ ‏الحجم‏ ‏بهذا المنهج الفذ الجديد، مما‏ ‏يحتاج‏ إلى ‏وقفة‏ ‏وتفسير.

‏بعد‏ ‏صدمة‏ ‏محاولات‏ ‏القراءة‏ ‏الأولى، ومواجهة درجات مختلفة من المقاومة، لم ‏أجرؤ‏ ‏‏أن‏ ‏أنحى ‏على الكاتب‏ ‏باللائمة‏، ‏الكاتب‏ ‏حر‏، ‏يفعل‏ ‏ما‏ ‏بدا‏ ‏له‏، ‏وعلينا‏ ‏أن‏ ‏نسعى ‏إليه‏، ‏ونتشاجر‏ ‏معه‏، ‏ونعترض‏، ‏ونختلف‏، ‏ولكن‏ ‏أبدا‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏حقنا‏ ‏أن‏ ‏نفترض فيه ما نريد، أو نشترط عليه أن يكتب فى حدود ما نستوعب، علينا نحن، قراءًا ونقادا، أن نبذل جهدا جادا يتناسب ما بذل هو، وأن نحترم كل ما طرح من حيث المبدأ لعلنا نصل، بأية درجة من الحوار، إلى الوُلاف الجديد لنحقق هدف الإبداع، ولكن كيف بالنسبة لهذا العمل بالذات؟

 قبل الندوة المشار إليها خطر لى أن أضع بين يدى المشاركين ممن أعرف دليلا لقراءة العمل، حرصا منى على متابعتهم الجادة، ومشاركتهم المأمولة، وحين جاء أوان النشر الآن عدت إلى هذا الدليل فوجدته حلاًّ سخيفا خشيت أن يمثل وصاية على تلقائية القارئ بشكل أو بآخر، وكان أهم ما فيه هو التوصية بقراءة النص كما هو، ثم التوصية بإعادة قراءته – لمن شاء – مسلسلا طوليا بتتابع تاريخى‏ ‏قمت بترتيبه طوليا على الحاسوب، ثم العودة ثانية إلى قراءة النص كما كتب، وقد يتكرر ذلك، وقد وجدته حلا ماسخا رفضت أن أضمنه التحديث الحالى.

‏سيرة‏ ‏ذاتية‏ “جماعية”!!‏

هذا‏ ‏هو‏ ‏العمل‏ ‏الثانى ‏الذى ‏أقوم‏ ‏بقراءته‏ ‏-‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏نقدية‏ ‏-‏ ‏حالة كونى‏ ‏أعرف‏ ‏كاتبه‏ ‏شخصيا‏، ‏أعرفه‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏حميمة‏ ‏وخاصة‏ ‏تماما‏، ‏أعرفه‏ ‏ومصر‏ تجتاز‏ ‏فترة‏ ‏من‏ ‏أدق‏ ‏وأهم‏ ‏فتراتهاا‏، ‏أعرفه‏ ‏عن‏ ‏قرب‏ ‏عميق‏ ‏وجميل‏، ‏وأنا‏ ‏عادة‏ ‏لا‏ ‏أرحب‏ ‏بمثل‏ ‏هذا‏ ‏الاقتراب‏ ‏أصلا‏، ‏خصوصا‏ ‏الاقتراب من‏ ‏كاتب‏ ‏أحبه‏، ‏وأفضل‏ ‏أن‏ ‏أعيش‏ ‏أعماله‏ ‏بالصورة‏ ‏التى ‏أرسمها‏ ‏له‏، بحيث تعاد صياغته لى جديدا من خلال كل عمل‏ ‏الواحد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏، ‏فأستطيع‏ ‏أن‏ ‏أحاور‏ ‏تلك الصورة ‏التى ‏نسجها‏ ‏خيالى ‏خالصة من حضوره الشخصى‏، ‏كنت‏ ‏-‏ ‏وما‏ ‏زلت‏ ‏-‏ ‏أخشى ‏من‏ ‏الاقتراب‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏مبدع‏ ‏بذاته‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏تتداخل‏ ‏صورته‏ ‏شخصا‏ ‏لحما‏ ‏ودما‏، ‏مع‏ ‏صورته‏ ‏التى ‏نسجها‏ ‏له‏ ‏خيالى، خشية أن‏ ‏يعشى ‏بصرى ‏من‏ ‏بهر‏ ‏حضوره‏ ‏فيفسد‏ ‏تحقيق‏ ‏معايشة‏ ‏نصه‏ ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏، وأيضا خوفا من أن أكتشف فيه – شخصيا – ما لا أحب أن أراه، ‏حدث‏ ‏هذا‏ ‏منى فى خبرة مع ‏ ‏يوسف‏ ‏إدريس‏، ‏ومع‏ ‏صلاح‏ ‏جاهين‏، ‏ومع‏ ‏غيرهما‏. ‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أتكلم‏ ‏هنا‏ ‏عن‏ ‏منظارى ‏المهنى، ‏فأنا‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أخلعه‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أستطيع‏ ‏حين‏ ‏أقترب‏ ‏ممن‏ ‏أحب‏، ‏نصًّا‏ ‏كان‏ ‏أو‏ ‏شخصا‏، ‏لكننى ‏أتكلم‏ ‏عن‏ ‏مجرد‏ ‏الاقتراب الواقعى‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏المبدع‏ ‏حتى لا ‏تصل‏ ‏لى ‏معلومات‏ ‏وتفاصيل‏ ‏قد‏ ‏تفسد‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه تصورى أو خيالى.

‏ بالنسبة‏ ‏لهذا‏ ‏العمل‏ ‏بالذات:‏ ‏‏كان‏ ‏لزاما‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏أستبعد‏ ‏صورة‏ ‏الكاتب‏ ‏شخصا‏، ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏لأن‏ ‏العمل‏ ‏بدا‏ ‏لى ‏بمثابة‏ ‏إبداع‏ “‏واقع‏ ‏موضوعى”، ‏أوقع‏ ‏من‏ ‏الواقع‏ ‏التاريخى، وأشمل من الواقع الحالى، ‏فكيف‏ ‏أستثنى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الواقع‏ ‏كاتبه‏، ‏بل‏ ‏كيف‏ ‏أستثنى ‏منه‏ ‏نفسى متلقيا أو ناقدا، ‏ولا‏ ‏يكفى ‏لفض‏ ‏هذا‏ ‏الإشكال‏ ‏بالنسبة‏ ‏لهذا‏ ‏العمل‏ ‏بالذات‏ ‏أن‏ ‏أكرر‏– ‏لنفسى ‏أولا–‏ ‏أن‏ ‏شخص‏ ‏المبدع‏ ‏لحما‏ ‏ودما‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العادية‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏بالضرورة‏ ‏ذاته‏ ‏المبدعة‏، ‏لكنه‏ ‏أيضا‏ ‏ليس‏ ‏شخصا‏ ‏آخر‏،‏ ‏فكيف‏ ‏أواصل‏ ‏قراءة‏ ‏هذا‏ ‏النص‏ ‏وأنا‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏القرب‏ من مبدعه ‏هكذا‏؟

عرفت‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏الإنسان‏ عن قرب ‏منذ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏خمس‏ ‏سنوات‏، (كتبت أصل هذه الأطروحة سنة 2000) ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏رسمت‏ ‏له‏ ‏صورة‏ ‏فى ‏مقدمة‏ ‏كتابى “قراءة فى نجيب محفوظ‏” ([63]) لم‏ ‏تختلف‏ ‏كثيرا‏ ‏عما‏ ‏لقيته‏ ‏بها‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏ومع‏ ‏هذا‏ ‏فإنى ‏أقرأه‏ ‏مبدعا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏عمل‏ ‏على ‏حده‏ ‏باعتباره‏ ‏شخصا‏ ‏آخر‏ ‏جديدا‏ ‏على ‏تماما‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏ساعدنى ‏فى ‏تخطى بعض ‏‏الصعوبة‏ ‏الحالية‏.‏

حين رحت أقرأ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏الحالى للمرة الأولى– برغم كل هذا التحفظ – وجدته شخصيا حاضرا فيه بجرعة أكبر من أعمال كثيرة، بما فى ذلك ‏أصداء‏ ‏سيرته‏ ‏الذاتية‏ ‏التى (كنت) ‏أقوم‏ ‏بتكملة‏ ‏دراستها‏ نقدا ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏(سنة 2000)‏، ‏ثم إنه خطر ببالى أن هذه هى سيرتنا نحن الذاتية، حيث افترضت أن المبدع المنتمى لناسه وزمانه يمكن أن يستوعب هذا وذاك (الناس والزمان) حتى يصبح “هو” نفسه ممثلا لما هو “نحن”، وكأنه يكتب سيرتنا الذاتية ‏بالأصالة‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏والنيابة‏ ‏عن‏ ‏ناسه دون أن يظهر بشخصه ولا بظله ولا برمزه أصلا، لكنه يظل يمثلنا، أو على الأقل يمثل طبقة بذاتها منا، وقد وصلنى هنا أنها الطبقة الوسطى ‏بأكملها‏ ‏عبر‏ ‏قرنين‏ ‏من‏ ‏الزمان‏، إلا أنه أحضرها لنا لتحل مستعرَضَةً بكل هذا الاتساع فى وعينا “الآن” لعلنا نرى ما هو نحن: هكذا!

حتى يتحقق هذا الفرض، علينا أن نتصور ان‏ ‏هذا‏ ‏الرجل‏، ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏هو‏ ‏هو من نعرفه فردا‏، على الأقل وهو يبدع هذا العمل، فما وصلنى هو أنه قد استطاع أن يحتوى ‏ناس‏ ‏تاريخه‏، ‏تاريخنا‏، ‏فامتد‏ هذا وذاك فى وعيه الإبداعى ‏ليصبحا‏ ‏جغرافية‏ ‏أمكنته‏، ‏أمكنتنا‏، ‏ثم‏ ‏راح‏ ‏يرسمنا‏ ‏بالأصالة‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏والنيابة‏ ‏عنا‏، “حالا” “الآن” ‏بمعنى ‏أنه ‏احتوَى، ‏واحتوَى، ‏واحتوَى، ‏وتمثـَّل‏ ‏وتمثل‏ ‏حتى ‏هضم‏ ‏واستوعب،‏ ‏فأصبح‏ هو ‏ناس‏ ‏زمانه‏ ‏ووعى ‏ناسه‏، ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏كونه‏ ‏شخصا‏ ‏ولد‏ ‏وكبـُر‏ ‏ودرس‏، ‏وتخرج‏، ‏وتوظف‏، ‏وأبدع‏، ‏ونال‏ ‏التقدير‏ ‏والجوائز‏ ‏وتزوج‏ ‏وأنجب‏، ‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أقصد‏ ‏بهذا‏ ‏تمجيدا‏ ‏أو‏ ‏مديحا‏، ‏بل‏ ‏إننى ‏أعنى ‏تحديدا‏: ‏إن‏ ‏محفوظ‏ا ‏بما‏ ‏عاشه‏ ‏طول‏ ‏الوقت ‏وسط‏ ‏الناس‏ ‏ملتحما‏ ‏بنبضهم‏، ‏مسامحا‏ ‏لهم‏، ‏متحملا‏ ‏اختلافهم‏، ‏متعلما‏ ‏منهم‏، ‏مستلهما‏ ‏إياهم‏، ‏قد‏ ‏سمح‏ ‏بذلك‏ ‏لوعيه‏ ‏أن‏ ‏يمتلئ‏ ‏بهم‏، ‏حتى ‏كادوا‏، ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل كمثال‏‏، ‏أن‏ ‏يحلوا‏ ‏محله‏، ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يلغوه‏، بل على العكس امتلأ بما “هو” “هم”، ‏فاستطاع أن‏ ‏يفرزهم‏ ‏من‏ ‏بؤرة‏ ‏وجوده‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏ليرسم‏ ‏لنا‏ ‏هكذا‏ ‏فى ‏لوحات‏ ‏جغرافية بيولوجية تاريخية آنية معا([64])، ‏تقول‏ ‏الكثير‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تحتاج‏ ‏منا‏ ‏إلى ‏جدية‏ ‏التلقى، ‏واحترام‏ ‏الجهد‏. بألفاظ أخرى: ‏امتلأ‏ ‏محفوظ‏ ‏بالناس‏، ‏ففاضوا‏ ‏منه‏، ‏وفاض‏ ‏بهم‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏الدفق‏ ‏الدال‏ ‏حتى ‏حضروا “معا” فى هذه البانوراما‏ ‏‏‏متعدد‏ة ‏الحضور‏ ‏والتجليات معا.

أعترف أننى منذ البداية وبعد عدة قراءات فوجئت‏ ‏بهذا‏ ‏الزخم‏ ‏الدافق‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏والأحداث‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الحيز‏ ‏المحدود‏ ‏من‏ ‏الصفحات‏ ‏حتى ‏قلت‏ ‏له‏ ‏قبيل‏ ‏الندوة‏،” ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏أعرف‏ ‏أنك‏ “عفى” ‏هكذا‏، ‏فضحك‏ ‏ضحكته‏ ‏الواسعة‏ ‏المحتوية‏، ‏وهو‏ ‏يقول‏” ‏لا‏ ‏يا‏ ‏شييخ‏”؟!!‏

‏ ‏هذه‏ ‏المفاجأة‏ ‏المتجددة ‏فاجأتنى ‏أكثر وأنا‏ ‏أتبين‏ ‏حجم‏ ‏قدرته‏ ‏المغيرة‏ ‏على ‏وعى ‏القارئ والناقد معا،‏ ‏وهى ‏من‏ ‏نفس‏ ‏نوع‏ ‏المفاجأة‏ ‏التى ‏فاجأتنى ‏بها‏ ‏عدوانيته‏ ‏الرائعة‏ ‏المبدعة‏ ‏فى “ليالى ‏ألف‏ ‏ليلة‏”، ‏التى ‏ساحت‏ ‏فيها‏ ‏دماء‏ ‏كثيرة‏ ‏من‏ ‏فرط‏” ‏القتل‏: ‏بين‏ ‏مقامىْ ‏العبادة‏ ‏والدم” ‏وهو‏ ‏العنوان‏ ‏الذى ‏اخترته‏ ‏لقراءتى ‏لذلك‏ ‏العمل‏([65])، ‏وحين‏ ‏فوجئت هنا‏ ‏هكذا من جديد‏ ‏لم‏ ‏أستطع‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏أشفق‏ ‏عليه‏ ‏وعلى ‏من‏ ‏حوله‏ ‏وأنا‏ ‏أتصور‏ ‏زخم‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏وعيه‏، ‏مع‏ ‏احتفاظه‏ ‏بمرونة‏ ‏تواجده‏، ‏ومسامية‏ ‏تلقيه‏، ‏وسماح‏ ‏حريته‏.‏

الخلاصة‏: ‏أننى ‏قرأت‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏وأنا‏ ‏على ‏يقين‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏البشر‏ ‏ليسوا‏ ‏إلا‏ ‏هو‏، ‏الذى ‏هو‏ ‏ليس‏ ‏هو‏.‏

‏‏خيوط‏ ‏الذاكرة‏ ‏ونسيج‏ ‏الإبداع

لا‏ ‏أملك‏ ‏قبل‏ ‏الدخول فى هذه المقدمة‏ ‏إلى بعض تفاصيل ‏النص‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏ملاحظة‏ ‏كان‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏هامشا‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏المتن‏، ‏إلا‏ ‏أننى ‏وجدتها‏ ‏فى ‏بؤرة‏ ‏قراءتى ‏للعمل‏، ‏وهى ‏تتعلق‏ ‏بمسألة‏ ‏الذاكرة‏ ‏والسن‏: الشائع‏ (‏والثابت‏ ‏علميا‏ أيضا) ‏أن‏ ‏الذاكرة‏ ‏تتدهور‏ ‏مع‏ ‏التقدم‏ ‏فى ‏السن‏، ‏وثمة‏ ‏بحوث‏‏، ‏وقياسات‏،‏ ومعلومات كثيرة‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏ذلك‏، ‏بل‏ ‏تثبته‏، ‏وقد‏ ‏لاحظت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏قد‏ ‏كتب‏ ‏والكاتب‏ ‏فى العقد الثامن من عمره‏، ‏وبالقياسات العادية فى هذه السن يحتاج الكاتب لكى ‏يكتب عملا روائيا‏ ‏خطيا‏ ‏مسلسلا‏ ‏طوليا‏ ‏كالعادة‏ ‏إلى ‏ذاكرة‏ ‏تفوق‏ ‏المستوى ‏العادى ‏لشخص‏ ‏فى ‏مقتبل‏ ‏العمر‏، فما بالك ‏إذا‏ ‏كُتِبَ‏ ‏العمل‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏التكثيف‏، ‏والتوفيق‏، ‏والحبكة‏، ‏والتداخل‏، ‏والتبادل‏، والتدقيق؟ ‏لابد وأنه‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏حضور ذاكرة خاصة قادرة‏ ‏أكثر‏ ‏بكثير جدا‏ ‏مما يحتاجه الحكى الإبداعى الطولى‏، ‏فإذا‏ ‏أضيفت احتمالات‏ ‏تأثير‏ ‏مرض‏ ‏السكر‏ ‏وبعض‏ ‏ارتفاع‏ ‏متقطع‏ ‏فى ‏ضغط‏ ‏الدم‏، ‏فإن‏ ‏الأمر‏ ‏يصبح‏ ‏دعوة‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏النظر‏-‏ ‏علميا‏‏-‏ ‏فى طبيعة‏ ‏الذاكرة‏ ونشاطها عند المبدعين خاصة، للتعرف على ما‏ ‏يحافظ‏ ‏عليها هكذا‏ بمرور السن، ‏إن هذا‏ ‏العمل‏، ‏بهذه‏ ‏الصورة‏، ‏فى ‏هذه‏ ‏السن مع‏ ‏هذه‏ ‏الظروف‏ ‏الصحية‏، ‏يقول:‏ ‏إننا‏ ‏نعرف‏ – عامة وعلميا – ‏القليل‏ ‏عن ماهية ما نسميه‏ “‏الذاكرة”، ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تتوجه‏ ‏الذاكرة‏ ‏إلى ‏موضوع‏ ‏له‏ ‏دلالته‏ ‏وغايته المحورية الضامّة عند المبدع خاصة، يظل هذا‏ ‏الشخص‏ ‏محتفظا‏ ‏بما‏ ‏يجعل ‏هذه‏ ‏الوظيفة تقوم بدورها‏ ‏بكفاءة‏ ‏لا‏ ‏تختل‏ ‏لا‏ ‏بالسن‏ ‏ولا‏ ‏بالمرض‏، ‏وقد‏ ‏تأكدت‏ ‏من ‏ذلك‏ ‏وأنا‏ ‏أعاشر الكاتب‏ ‏وأقارن‏ ‏ذاكرته‏ ‏بذاكرتى مثلا، ‏وبذاكرة‏ ‏بقية‏ ‏الحرافيش‏ ‏الأكبر‏ ‏منى ‏سنا‏، ‏وبذاكرة‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏المريدين‏ ‏المحيطين‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏مختلف‏ ‏الأعمار‏، ‏ووجدت‏ أن ‏كاتب‏ ‏هذا‏ ‏النص‏، ‏وهو‏ ‏يقترب من التسعين‏ ‏بسلامة‏ ‏الله‏، ‏هو‏ ‏أقدرنا حفاظا على ذاكرة تفوقنا‏ ‏‏جميعا‏ ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏ظروفه الصحية، ‏وتوقفه‏ ‏الاضطرارى ‏عن‏ ‏القراءة‏ ‏والمتابعة‏، ‏بل‏ ‏حتى ‏عن‏ ‏الاستماع‏ ‏للمذياع‏ ‏أو مشاهدة‏ ‏التلفاز‏ ‏مما‏ ‏كان‏ ‏خليقا ‏أن‏ ‏يخل‏ ‏أكثر‏ ‏بحدة‏ ‏الذاكرة‏، ‏نتيجة‏ ‏لفتور‏ ‏أو‏ ‏عدم‏ ‏الاستعمال‏.‏

أعلنت مرارا، وكتبت، أننى أتعلم معارفى النفسية من الإبداع أكثر مما أتعلمها من المراجع والدوريات النفسية والطبنفسية([66]) وفيما يلى بعض ما تعلمته من إضافات وإبداع ما هو ذاكره وما هو “وعى” من هذا العمل بوجه خاص.

بعد ما وصلنى عن‏ ‏هذه‏ ‏الذاكرة‏ ‏بهذه‏ ‏المتانة‏ ‏والتنوع‏ ‏والثراء‏ ‏معا‏، ‏ثم‏ ‏بالطريقة‏ ‏التى ‏عُرِض‏ ‏بها هذا‏ ‏النص‏، ‏ثم‏ ‏بمحاولاتى ‏لإعادة‏ ‏بنائه نقدا،‏ ‏‏تشجعت فعاودت سؤال ‏الكاتب‏ ‏مباشرة‏ ‏عن‏ مراحل كتابته مرة أخرى، رحت أسأله بنفس السخف دون أدنى احتمال لعدم التصديق: ‏هل‏ ‏كتب‏ ‏النص‏ ‏طوليا‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏حتى ‏انتهى ‏به‏ ‏إلى ‏ابن‏ ‏أدهم‏ ‏حازم‏ ‏سرور‏ (‏الذى ‏لم‏ ‏يذكره‏ ‏بالاسم‏)، ‏فأكد‏ ‏لى ‏أنه‏ ‏كتبه‏ ‏أبجديا‏ ‏هكذا‏ ‏من‏ ‏البداية‏، ‏فألححت‏ ‏عليه‏ ‏وكنت قد رسمت شجرات‏ ‏العائلات‏ ‏المتوازية‏ ‏ورحت أشرح له ما فعلت، وأننى أخطات عدة مرات وصححت عدة مرات قبل أن أنجح نجاحا لست متأكدا من كامل إتقانه، فعلّق بأن ‏الشجرة‏ ‏كانت‏ “فى ‏رأسه ‏فقط”، ‏إلا أننى تماديت وأنا‏ ‏أبدى رأيى، ربما بسخف أقل، أنه لابد‏ ‏أن‏ ‏الحبكة‏ ‏والمراجعة‏ ‏والإحكام قد ‏تمت‏ ‏بعد‏ ‏المسودات‏ ‏الأولى، ‏فأجاب‏ ‏بالإيجاب‏، وقد تصادف أن المرحوم “محسن زايد” كان حاضرا هذا الحوار، وكان فى نفس الوقت يكتب سيناريو هذا العمل ليُعْرض فيما بعد فى مسلسل جذب الناس جميعا، بنفس الاسم، وعرضت على محسن أن أعطيه شجرات العائلات التى رسمتـُها لعلها تعينه فى إبداعه للسيناريو، فشكرنى وأخبرنى أنه استأجر شاليها فى منتجع نخيل سقارة (بالم ترى) لإنجاز هذا العمل، وأنه رسم شجر العائلات على الحائط – باذن المسئولين مؤقتا – وأنه كان يجلس فى مواجهة أشجار العائلات وفروعها أثناء كتابته السيناريو، ففرحت، وتيقنت أنه سيكون عملا رائعا كما حدث فعلا.([67])

انتماء الكاتب للغته وناسه دون غيرهما

لم‏ ‏ينفعنى ‏هذا الترتيب الأبجدى المتحدى‏ فى ‏فهم‏ ‏آليات‏ هذا ‏التفكيك‏ ‏فالتركيب الإبداعى‏ ‏فحسب‏، ‏وإنما ‏أكد‏ ‏لى ‏انتماء‏ ‏هذا‏ ‏الكاتب‏ ‏إلى ‏لغته‏، ‏ووطنه‏، ‏وعالمه‏، ‏فى المقام الأول حتى ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يضع‏ ‏فى ‏اعتباره‏ ‏أى ‏احتمال‏ ‏للترجمة‏، ‏وقد أبديت له تحفظى هذا، وأنه‏ ‏لو‏ ‏ترجم‏ ‏هذ‏ا ‏العمل وهو مرتب‏ ‏بهذه‏ ‏الأبجدية‏ ‏العربية‏ ‏فقد‏ ‏يفقد‏ ‏دلالاته‏ ‏الظاهرية‏ ‏حتى لو وضعت‏ ‏الحروف‏ ‏العربية‏ ‏بشكلها‏، ‏ورمزها‏ ‏بجوار‏ ‏اللغة‏ ‏الترجمية‏، وقد علق هو على ذلك بأن هذا لم يشغله أبدا فى أية مرحلة من المراحل منذ كتابته هذه الرواية حتى النشر.

حضرتنى ‏صورة‏ ‏بعد‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏لكيفية‏ ‏كتابة‏ ‏هذا‏ ‏النص‏ ‏استلهمتها‏ ‏من‏ ‏منظر‏ ‏سيدة‏ ‏تمسك‏ ‏بالإبر‏ ‏الكبيرة‏ ‏لشغل‏ ‏خيوط‏ ‏السترات‏ ‏الصوف‏ ‏المنسوجة‏ ‏يدويا‏ (‏البلوفرات) ‏المتعددة‏ ‏ألوان‏ ‏خيوطها‏، ‏وهى ‏تمسك‏ ‏بأكثر‏ ‏من‏ ‏إبرتين‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، (‏أربعة‏ ‏أحيانا‏) ‏ثم‏ ‏تمارس‏ ‏نسيجها‏ ‏بهذا‏ ‏الخيط‏ ‏مرة‏، ‏وذاك‏ ‏الخيط‏ ‏مرة‏ ‏حتى ‏ترسم‏ ‏ما‏ ‏شاءت‏ ‏من‏ ‏أشكال‏ ‏بمختلف‏ ‏انواع‏ ‏وألوان‏ ‏الخيوط‏، ‏فتصورت‏ ‏محفوظ‏ ‏وهو‏ ‏يمسك‏ ‏بستين‏ ‏خيطا‏ معا (‏عدد‏ ‏الشخوص‏ ‏الرئيسيين‏ ‏تقريبا‏)، ‏يستجلبهم‏ ‏من‏ ‏الذاكرة والوعى الخلاق‏، ‏ثم‏ ‏يروح‏ ‏ينسج‏ ‏هذا‏ ‏النسيج بهذا الشكل‏ ‏ ‏ ‏المعجز‏، ‏حتى ‏إذا‏ ‏أتمه‏ ‏لم‏ ‏تجد‏ ‏فيه‏ “غرزة” ‏واحدة‏ “‏ساقطة‏” ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعيبه‏.‏

إن‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏-‏ ‏هكذا‏ ‏-‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏خيوط‏ ‏ذاكرة‏ ‏شديدة‏ ‏المتانة‏ ‏شديدة‏ ‏التنوع‏، ‏وإلى ‏نساج‏ ‏ماهر‏ ‏رائق‏، ‏يتمتع‏ ‏بمهارات‏ ‏لا‏ ‏مثيل‏ ‏لها‏ ‏من‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏اليقظة‏، ‏والتربيط‏، ‏والتوقيت‏، ‏والاستعادة‏، ‏والتدقيق‏، ‏تسمح ‏له‏ ‏بامتلاك‏ ‏كل‏ ‏الخيوط‏ ‏معا‏، ‏فلا‏ ‏يفلت‏ ‏منه‏ ‏خيط واحد‏، ‏ولا‏ ‏يتداخل‏ ‏لون‏ ‏خيط‏ ‏فى ‏لون‏ ‏آخر‏. ‏

الفروض:

انتهيت من معايشة هذا النص إلى فرض أساسى يربط بين الذاكرة والوعى والإبداع هكذا: إن‏ ‏الذاكرة‏ البشرية ‏ليست‏ ‏مخزنا‏ ‏سلبيا‏، ‏ولا‏ ‏أرشيفا‏ ‏مبرمجا‏، ‏بل‏ ‏هى ‏ثروة‏ ‏الوعى ‏الحى ‏النابض‏، وهى ‏تحضر‏ ‏-‏ ‏لا‏ ‏تُستدعى فقط، ‏وتتشكل‏ باستمرار – ‏لا‏ ‏تستعاد‏ فقط، ‏فهى تتجدد‏ ‏حاضرا‏ – ‏لا‏ ‏توثَّق‏ ‏ماضيا‏ فقط ([68])، ثم إننى مع مواصلتى كتابة نظرية عن الذاكرة اكتشفت مزيدا من الفروض العاملة تفسر لى ذاكرة هذا المبدع النادر القدرات([69]‏)، ثم إن ‏هذا البعد المستعرض بكل زخم حيويته أكد لى فروضا أخرى أعيشها فى ممارستى نقدى للنص البشرى (العلاج) والنص الأدبى (النقد) ومنها:

 إن الحياة برمتها لا “تمر” بقدر ما هى “‏تتجدد”‏، بمعنى أن ‏أحداث الحياة بكل ما تحوى قد تتوارى‏: ‏لا‏ ‏لتختفى ‏لكن‏ ‏لتعود‏، ‏فتتشكل‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏بلغة‏ ‏أخرى ‏فى ‏ظروف‏ ‏أخرى. وهكذا يتجدد ‏ ‏نبض‏ ‏الماضى ‏حالة‏ ‏كونه‏ ‏حاضرا‏ ‏فى ‏خلايانا،‏ و‏يبدو أن محفوظا قد أدرك ذلك بحدسه الإبداعى فقدمه لنا بمستوياته المختلفة، فى أعمال متعددة: ففى الثلاثية، توالت الأحداث شديدة الحبكة على مستوى “الظاهر السلوكى” أكثر وأوضح، أما فى ملحمة الحرافيش فقد دارت الأحداث تعلن “دورية الإيقاع الحيوى” حيث كشفت عن دورات الموت وإعادة الولادة بإلحاح حتى تعرى وهم (ضلال) الخلود([70]) فى الدنيا باعتباره هو الموت العدمى الحقيقى، أما فى هذا العمل فقد حضرت الشخوص والأحداث معا فى وعى ممتد مستعرض وصلنى بشكل متعدد المستويات كنوع من ‏تدوير‏ ‏الزمن ليتكثف فيقول أغلب “ما هو” “هنا والآن”:

فى نفس الوقت وصلنى أن هذا العمل تجاوز دورات البطولة والبلطجة والفتونة والانهيار والصعود – التى ميزت ملحمة الحرافيش بوجه خاص – إلى‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏روعة‏ ‏وقيمة‏ “ما‏ ‏هو‏ ‏عادى” ‏جدا‏، بمعنى أنه حاول أن يكشف كيف ‏أن‏ ‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الأحداث‏، ‏وكل هؤلاء‏ ‏الشخوص‏ الحاضرة صباح مساء هو ‏أمر‏ ‏عادى‏ ‏يتكرر‏ ‏بتصميم واضح، وهو يتجدد مهما بلغ تكراره، حتى يحضر نابضا فينا الآن، كما أظهر إبداع محفوظ المُعْجِز فى هذا العمل.

خطر لى أن تقديس من هو “عادى” سلباً (حضرة المحترم) وإيجابا (الثلاثية) هو من أهم ما يميز إبداع محفوظ وهو يقدم لنا هذا الشخص العادى باعتباره كونا متكاملا بذاته، وربما نجد فى ذلك تفسيرا لما شغل الناس عن عظمة حضور هذا المبدع – شخصاً – بكل هذه العادية الروتينية، وهوهو الذى يفرز كل هذا الإبداع الخالقى شبه الإلهى.

مرة أخرى: عن‏ منهج‏ ‏القراءة

مثل‏ ‏كل‏ ‏الناس‏، ‏وكل‏ ‏الروايات‏، ‏بدأت‏ ‏قراءة الرواية‏ ‏من‏ ‏صفحة‏ ‏خمسة‏، ‏بعد‏ ‏العنوان‏ ‏والصفحات‏ ‏الخالية‏:

 ‏حرف‏ ‏الألف‏، ‏أحمد‏ ‏محمد‏ ‏إبراهيم‏، ‏إسم‏ ‏فاتر‏ ‏لا‏ ‏يقول‏ ‏شيئا‏ ‏فى ذاته‏، ‏وسوف‏ ‏نعرف فيما‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏محمد‏ ‏إبراهيم‏ ‏هو‏ ‏محمد‏ ‏إبراهيم‏ ‏الشاذلى ‏زوج‏ ‏مطرية‏ ‏بنت‏ ‏عمرو‏، ‏ابن‏ ‏عزيز‏، ‏ابن‏ ‏دواد‏، ‏ابن‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏الذى ‏لم‏ ‏يظهر‏ ‏إلا ‏فى ‏آخر‏ ‏صفحة‏ ‏فى ‏الرواية‏، ‏وحتى ‏اسم‏ ‏الوالد‏ “محمد‏ ‏ابراهيم‏ ‏لم‏ ‏يذكر‏ ‏كاملا‏ ‏محمد‏ ‏ابراهيم‏ ‏الشاذلى، ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏أيضا‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏شخوص‏ ‏الرواية‏ ‏الذين‏ ‏خُصِّصَتْ‏ ‏لهم‏ ‏فقرة‏ ‏مستقلة‏، ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏زوج‏ ‏مطرية‏ ‏التى ‏هى ‏من‏ ‏إحدى ‏شجرات‏ ‏الرواية‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ الطفل ‏أحمد‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏بدأت‏ ‏به‏ ‏الرواية‏، ‏مات‏ ‏بعد‏ ‏بضع‏ ‏صفحات‏، ‏فما‏ ‏معنى‏ ‏أن‏ ‏تبدأ‏ ‏به‏ ‏الرواية‏ ‏هكذا؟ فبلغنى التحدّى منذ البداية!!

نقد النص:

يبدأ‏ ‏النص‏ ‏بطفل‏(‏أحمد‏) ‏من‏ ‏أسرة‏ ‏متوسطة‏ ‏الحال‏،”يستعيره” ‏أهل‏ ‏أمه‏ ‏ليؤنس وحدة ‏خاله‏ “‏قاسم‏” ‏الطفل‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏سنة‏ ‏تقريبا‏، و‏يمرض‏ ‏هذا‏ ‏الطفل‏ (أحمد)، فجأة، ويموت بسرعة، ‏فيحزن‏ ‏عليه‏ ‏خاله‏ (الطفل)، ‏ولا‏ ‏يفهم الطفل‏ الخال ‏معنى ‏أو‏ ‏مبرر‏ ‏هذا‏ ‏الفقد‏ ‏القهرى ‏الأقرب‏ ‏إلى ‏الخطف‏ ‏أو‏ ‏الخيانة،‏ ‏يحزن‏ ‏جدا‏ ‏حتى ‏قيل (ص11) ‏”…‏إن‏ ‏حزنه‏ ‏عليه‏ ‏فاق‏ ‏حزن‏ ‏أمه‏ ‏نفسها‏، …‏ولم‏ ‏يسلُ‏ ‏عن‏ ‏حزنه‏ ‏حتى ‏تحطم‏ ‏واقعه‏ ‏وخلق‏ ‏خلقا‏ ‏جديدا‏ ‏لم‏ ‏يجر‏ ‏لأحد‏ ‏على ‏بال..”‏.

هكذا، ومنذ‏ ‏اللحظة‏ ‏الأولى، ‏نواجه‏: ‏الموت‏، ‏والسؤال‏ ‏بلا‏ ‏جواب‏، ‏كما نواجه زخم الحزن‏، ‏والإشارة‏ ‏إلى ‏المفاجآت‏ ‏القادمة‏ ‏لدرجة‏ ‏التخلق‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏فنتذكر أن هذا‏ ‏التخلق‏ ‏المفاجئ‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏آليات إبداع‏ ‏محفوظ‏ ‏المفضلة‏ ‏والتى ‏تبدت‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏فى ‏ملحمة‏ ‏الحرافيش‏ ‏وكذلك ليالى ‏ألف‏ ‏ليلة([71])، يحدث‏ ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏فى ‏بضع‏ ‏صفحات‏ ‏أولى ‏ونحن‏ ‏لا‏ ‏نعلم‏ ‏شيئا‏ ‏عن‏ ‏أى ‏شىء.‏

فإذا‏ ‏انتقلنا‏ ‏إلى ‏النهاية‏، ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏آخر‏ ‏شخص‏ ‏قدمه‏ ‏محفوظ‏ ‏هو‏ الجد‏ ‏الأكبر‏ ‏لأهم‏ ‏سلسلة‏ ‏من‏ ‏سلاسل‏ ‏أشجار‏ ‏الأسر‏ ‏فى ‏الرواية‏، ‏وهو‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى، ‏ولا‏ ‏أقف‏ ‏طويلا‏ ‏أمام‏ ‏الاسم‏ ‏فقد‏ ‏تخلص‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏من‏ ‏فكرة‏ ‏الأسماء‏ ‏الرموز‏ ‏من‏ ‏قديم‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فاسم‏ ‏المصرى ‏هنا قد‏ ‏يحتاج إلى وقفة خاصة، فلفظ المصرى هو اسم أسرة يزيد بالميلاد، وليس بالإشارة إلى منبع هجرته إلى مصر (القاهرة)، فهو سكندرى المنبع، وقد تصورت أن لقب المصرى هكذا قد يدعم الفرض الأساسى لهذه الدراسة، القائل: إن هذه الرواية هى السيرة الذاتية لمصر الطبقة الوسطى عبر هذين القرنين كما خطر لى، لكننى تراجعت، فمحفوظ أعمق كثيرا من كل ذلك.

‏لم‏ ‏تفاجئنا‏ ‏النهاية‏ ‏كما‏ ‏فاجأتنا‏ ‏البداية‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏حين‏ ‏نكتشف‏، ‏أو‏ ‏نتمنى – ونحن مخطئين- ‏أن‏ ‏آخر‏ ‏صفحة‏ ‏كان‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏أول‏ ‏صفحة‏، ‏حتى ‏كدت‏ ‏أصيح‏ ‏بعم‏ ‏يزيد‏: ‏هو‏ ‏انت‏ ‏هنا؟‏!!، ‏أين‏ ‏كنت‏ ‏طول‏ ‏الرواية‏‏؟

فى ‏هذه‏ ‏النهاية‏ ‏تحدد‏ ‏تاريخ‏ ‏بداية‏ زمن ‏الرواية حيث بدأت ‏قبل‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ ‏بأيام‏، (ص‏160)‏: “… وشهد‏ ‏الرجال‏ ‏نابليون‏ ‏بونابرت‏ ‏على ‏جواده‏ ‏وهو‏ ‏يسير‏ ‏على ‏رأس‏ ‏جنوده‏ ‏أمام‏ ‏المشهد‏ ‏الحسيني… “.، ‏وقد‏ ‏رجحت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التحديد‏ (‏أيام‏) ‏يضع‏ ‏أرجلنا‏ ‏على ‏واقع‏ ‏روائى ‏حى، ‏فيبعدنا‏ ‏عن أى‏ ‏تقريب‏ ‏تاريخى ‏محتمل‏، ‏فحتى ‏الوثائق‏ ‏التاريخية‏ ‏لا‏ ‏تحدد‏ ‏الأحداث‏ ‏بالأيام‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بحركة‏ ‏الناس‏، ‏هذا التحديد يدعم الفرض الذى اسميتـُه “الواقع الإبداعى”، الذى هو‏ ‏وعى ‏واقع‏ ‏روائى ‏لعله‏ ‏- ‏كما‏ ‏أشرت‏ ‏-‏ ‏أصدق‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الوثائق‏ ‏والأبحاث الأكاديمية‏ فى كشف عمق وقائع التاريخ.

 ‏من خلال ‏هذه‏ ‏النهاية‏ ‏البداية‏، ينبهنا ‏ ‏الكاتب بطريقة أو بأخرى‏ ‏‏إلى ‏المصير الطبيعى‏ ‏الذى يزيدنا يقظة، ويملؤنا حبا وحياة، فلا نستطيع أن ننسى أننا نسير إلى ‏قبر‏ٍٍ ‏فاتحٍ‏ ‏فاه‏، ‏يستقبل‏ ‏الراحلين‏ ‏منا ومن ذريتنا – مثل ذرية يزيد المصرى -‏ الواحد تلو الآخر: (ص 217) “…..‏وشَـيّـدَ ‏ ‏الحوش‏ ‏الذى ‏دفن‏ ‏فيه‏، ‏وما‏ ‏زال‏ ‏يستقبل‏ ‏الراحلين‏ ‏من‏ ‏ذريته‏ ‏المنتشرة‏ ‏فى ‏أنحاء‏ ‏القاهرة…”‏. لم‏ ‏تصلنى ‏من‏ ‏هذه‏ ‏النهاية‏ ‏أية‏ ‏نغمة‏ ‏يأس‏ ‏أو‏ ‏زهد‏ ‏أو‏ ‏حزن‏، ‏بل‏ ‏أكدت‏ ‏لى ‏أن‏ ‏الفرض‏ ‏الذى ‏بدأته‏ ‏فى ‏الحرافيش‏، ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يشغل محفوظ وهو يعيد محاولة أن يوصله إلينا من حيث “أن ‏الوعى ‏بالموت‏‏، ‏هو‏ ‏حفز‏ ‏الحياة‏ ‏الأعمق‏ ‏والأرحب”‏.‏([72])

الطبقة الوسطى

يبدأ‏ ‏التسلسل‏ ‏تاريخا‏ ‏من‏ ‏ثلاثة‏ ‏أصدقاء‏ (‏معارف‏، ‏جيران‏) ‏يكونون‏ ‏أسرهم‏ ‏الواحد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏، ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏من‏ ‏أسرة‏ ‏عطارين‏ ‏بالإسكندرية‏ ‏قدم‏ ‏إلى ‏القاهرة‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏عصف‏ ‏الوباء‏ ‏بأسرته‏ ‏فكـرَّها كرا، ‏وعطا‏ ‏المراكيبى ‏صبى ‏جلعاد‏ ‏المغاورى ‏فى ‏تصليح‏ ‏وعمل‏ ‏المراكيب، ‏والشيخ‏ ‏القليوبى، ‏ويتزوج‏ ‏الثلاثة‏، ‏ويتزاورون‏ ‏ويتناسبون‏، ‏وتتسلسل‏ ‏ذريتهم‏ ‏تتقارب‏ ‏وتتباعد‏ ‏حتى ‏المهندس‏ ‏أدهم‏ ‏حازم‏ ‏سرور‏ ‏عزيز‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى. ‏

الأسر الثلاثة‏ ‏تمثل – ابتداءً -‏ ‏الطبقة‏  الأقرب إلى ‏الأدنى ‏من‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏حتى ‏عطا‏ ‏المراكيبى، ‏وإن‏ ‏‏بدأ‏ ‏صبيا‏ ‏عند‏ ‏جلعاد‏ ‏المغاورى (‏حميه‏ ‏فيما‏ ‏بعد)، إلا أنه ما ‏إن‏ ‏شب‏ ‏حتى ‏تزوج‏ ‏من‏ ‏ابنة‏ ‏معلمه‏ ‏فدخل‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى ‏ثم‏ ‏تصعّـد‏ (‏ماليا‏) ‏بزواجه‏ ‏أخرى وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏تحريك‏ ‏بعض‏ ‏الفروع‏، ‏وبعض‏ ‏الأسر‏، ‏وبعض‏ ‏الأفراد‏ ‏إلى ‏أعلى، ‏حتى ‏نال‏ ‏ثلاثة‏ ‏من‏ ‏أسرة‏ ‏داود‏ ‏يزيد‏ ‏رتبة‏ ‏الباشوية‏ (عبد العظيم باشا داود، لطفى باشا عبد العظيم،……)  ‏فقد‏ ‏ظلت‏ ‏احتمالات‏ ‏التواصل‏ ‏والتزاوج‏ ‏والتزاور‏ فيما بينهم ‏قائمة‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏معظم الوقت.

‏وكما‏ ‏حدد‏ ‏محفوظ‏ ‏حضور‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏إلى ‏القاهرة‏ ‏قبل‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ ‏بأيام‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏ ‏دلالة ذلك حالا‏ ‏فإنه‏ ‏بلغ‏ ‏من‏ ‏حرصه‏ ‏على ‏تجسيد‏ ‏الحدث‏ ‏واقعا‏ ‏أن‏ ‏ذكر‏ ‏كيف‏ ‏مرت‏ ‏عليهم‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ ‏مثلما‏ ‏يمر‏ ‏بائع‏ ‏دوم‏ ‏أو‏ ‏فجل، فيحضر الزمن واقعا ماثلا. (ص152) “…وجاءت‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ ‏وذهبت‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يبلغ‏ ‏الشقيقان‏ ‏الوعى، ‏فمرَّ‏ ‏بهما‏ ‏نابليون‏ ‏كما‏ ‏يمر‏ ‏بياع‏ ‏الفجل‏ ‏أو‏ ‏بياع‏ ‏الدوم…”‏.

رفض الالتزام بنمطية بدايات متشابهة

لا‏ ‏ينفصل‏ ‏الشكل، ‏خاصة‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏المتحدى، عن المضمون، ‏فنلاحظ‏ مثلا ‏أن‏ ‏الكاتب‏ ‏لم‏ ‏يلتزم‏ ‏بنمط‏ ‏معين‏، ‏فى ‏سرده‏، ‏لا‏ ‏بالنسبة‏ ‏لمحتوى ‏الفقرات‏، ‏ولا‏ ‏لبداياتها‏، ‏ولا‏ ‏للإيقاع‏، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏التزم به‏ ‏-‏ ‏شكلا‏ ‏-‏‏ ‏هو‏ ‏الترتيب‏ ‏الأبجدى، ‏والعزوف‏ ‏قصدا‏ (‏فى ‏الأغلب)‏، ‏عن ‏الإلحاح‏ ‏فى ‏الربط‏، ‏إما‏ ‏ثقة‏ ‏فى ‏القارئ‏، ‏وإما‏ ‏تحديا‏ ‏له‏ ‏بمعنى ‏استثارته‏ ‏وتحريكه‏ ‏ليقوم‏ ‏باللازم‏،‏ لا‏ ‏توجد‏ ‏نمطية‏ ‏محددة‏ ‏التزم‏ ‏بها‏ ‏الكاتب‏ ‏وهو‏ ‏يقدم‏ ‏شخوصه‏، ‏فمرة‏ ‏يبدأ‏ ‏بالتعريف: هو‏ ‏فلان‏ فقط ومرة‏ ‏يبدأ‏ ‏بالتعريف‏ ‏المفصل‏، هو‏ ‏فلان‏ ‏ابن‏ ‏فلانة‏، ‏أو‏ ‏ابن‏ ‏فلان‏، ‏وأحيانا‏ ‏يذكر‏ ‏الترتيب، وأخرى يشير إلى صفة بارزة وقد بدا لى هذا التنوع مقصودا، ومن أمثلة ذلك:

  • مرة بالاسم كاملا والترتيب (زينة سرور عزيز: ص‏103): ‏هى ‏صغرى ‏بنات‏ ‏سرور

  • ومرة بموقعه الأول ونسبته لأمه‏ ‏بدون‏ ‏هو‏ ‏أو‏ ‏هى: (خليل‏ ‏صبرى ‏المقلد‏: ص 76): بكرى ‏زينة‏ ‏صغرى ‏بنات‏ ‏سرور

  • ومرة‏ ‏يبدأ‏ ‏تاريخيا‏ ‏سردا‏ ‏عاديا مع ذكر الأم والأب معا‏: (عبده محمود عطا المراكيبى: ص 148): الثالث فى ذرية محمود بك ونازلى هانم أو (عزيز يزيد المصرى: ص 152) : بكرى يزيد المصرى وفرجة الصياد

  • ومرة‏ ‏بأداة‏ ‏التعريف مع إشارة لعموم الأسرة: (عبد العظيم داود يزيد: ص 145):‏ “.. الإبن‏ ‏الوحيد‏ ‏الذى ‏بقى ‏من‏ ‏ذرية‏ ‏داود‏ ‏باشا…”.

  • ومرة‏ ‏بالصفة‏ ‏المميزة‏ ‏أو‏ ‏فرحة‏ ‏والديه‏ ‏به‏: ‏‏(عامر عمرو عزيز: ص ‏139): “. أول‏ ‏هدية‏ ‏من‏ ‏عالم‏ ‏الغيب‏ ‏تغمر‏ ‏قلب‏ ‏عمرو‏ ‏وراضية‏ ‏بالفرحة‏ ‏والرضا‏”…

  • ومرة‏ ‏يبدأ‏ ‏بفعل‏ ‏يحكى ‏حدثا ‏(يزيد المصرى: ص 216): “وصل‏ ‏إلى ‏القاهرة‏ ‏قبل‏ ‏وصول‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية…”

  • ومرة‏ ‏يبدأ‏ ‏بحكاية‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏سمة‏ ‏الشخص‏ ‏وما‏ ‏شاع‏ ‏عنه: (صدرية عمرو عزيز: ص 129):” ‏قيل‏ ‏عنها‏ ‏بحق‏ ‏نحلة‏ ‏آل‏ ‏عمرو…”.

  • ومرة‏ ‏يبدأ‏ ‏بوصف‏ ‏الشكل‏: (حكيم حسين قابيل: ص 68): “.. ‏الناظر‏ ‏فى ‏عينيه‏ ‏الواسعتين‏ ‏العسليتين…“.

الإيقاع الدافق والزحمة الجميلة

تميز هذا العمل بصفة عامة بإيقاع دافق وزحمة ناتجة، فنرى كيف يتسارع هذا الإيقاع‏ ‏فى تلاحق‏ حتى فى سلسلة مواكب ‏الأموات‏ حتى نكاد نرى ازدحام القبر الذى افتتحه الجد يزيد المصرى: (ص‏ 83): “…‏ورحل‏ ‏الشقيقان‏ ‏فى ‏عامين‏ ‏متعاقبين‏، ‏فى ‏أوائل‏ ‏عهد‏ ‏الاحتلال‏، ‏ودفنا‏ ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏فى ‏القبر‏ ‏الذى ‏افتتحه‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى، ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏حلت‏ ‏بجناحه‏ ‏الحريمى: ‏فرجة‏ ‏الصياد‏، ‏ونعمة‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى ‏وسنية‏ ‏الوراق‏ ‏والجارية‏ ‏آدم‏ ‏فى ‏قبرها‏ ‏الخاص…”.‏

نفس الإيقاع المتسارع يميز أغلب ‏مسيرات‏ ‏الأحداث

“‏عفت‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ ‏داود”  “ولدت‏ ‏ونشأت‏ ‏بفيلا‏ ‏الأسرة‏…”. “… وبها ختم عبد العظيم باشا داود، وفريدة حسام ذريتهما المكونة من لطفى وغسان وحليم وفهيمة وعفت…” (ص‏157)

ثم: “…‏وقامت‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏ ‏وتعاقبت‏ ‏الهزائم‏ ‏ثم‏ ‏هل‏ ‏النصر‏ ‏والسلام…” (ص 159) (هكذا‏ ‏من‏ 1952 ‏حتى ‏بعد‏ ‏كامب‏ ‏ديفيد‏ ‏فى ‏أقل‏ ‏من‏ ‏سطر‏)‏

وأيضا: نلقى نفس الدفق حين يحكى ‏رواية‏ ‏كاملة‏ ‏فى ‏بضعة‏ ‏أسطر: “…وكان‏ ‏ابناه ‏سرور‏ ‏ومحمد‏ ‏قد‏ ‏صارا‏ ‏ضابطين‏ ‏طيارين‏، ‏وانقرضت‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏بقضاء‏ ‏لا‏ ‏راد‏ ‏له…‏” (ص46)

وكذلك: فى ‏تعاقب‏ ‏الصفات‏ ‏من‏ ‏سبب‏ ‏واحد‏: (‏حليم‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ ‏داود) ‏”…وبتدليل‏ ‏أمه‏ ‏له‏: ‏أتقن‏ ‏السباحة‏ ‏والكرة‏ ‏والقمار‏ ‏والخمر‏ ‏والعشق‏ ‏والمزاح‏ ‏وامتاز‏ ‏أيضا‏ ‏بصوت‏ ‏عذب…‏ “.(ص 72)

وقد رجحتُ أن تسارع الإيقاع هكذا هو مسئول جزئيا عن سرعة حضور شخوص كُثْرِ فى زحام دال فى كثير من الأحيان مثل ذكر الأولاد معا، وهو الأمر الذى‏ ‏تكرر‏ ‏‏حتى ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏استشهاد‏ات كثيرة، فنكتفى بهذه العينة:

“…ولدت‏ (‏راضية‏) ‏فى ‏بيت‏ ‏الزلط‏، ‏وتبعتها‏ ‏شهيرة‏ ‏وصديقة‏ ‏وبليغ‏!!…”(ص 90) “…وأنجبت‏ راضية ‏مع‏ ‏الأيام‏ ‏صدرية‏ ‏وعامر‏ ‏ومطرية‏ ‏وسميرة‏ ‏وحبيبة‏ ‏وحامد‏ ‏وختمت‏ ‏بقاسم…‏ “.(ص92)

وأحيانا تشتد الزحمة حتى نكاد نتوه وسط تدافع الحضور حتى فى التزاور مثل: “…وأقبل‏ ‏رجال‏ ‏الأسرة‏ ‏ونساؤها‏ ‏للتعارف‏ ‏والتوادد‏، ‏سرور‏ ‏شقيق‏ ‏زوجها‏، ‏وعزيز‏ ‏حموها‏، ‏والدكتور‏ ‏داود‏، وحرمه سنية هانم الوراق وابنهماعبد العظيم، ومحمود عطا المراكيبى، ‏ونازلى ‏هانم‏، ‏وأحمد‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى، ‏وفوزية‏ ‏هانم‏…”

ويتكرر‏ ‏تسارع‏ ‏هذا‏ ‏الإيقاع‏ ‏حتى ‏فى ‏النقلات‏ ‏بين‏ ‏الأماكن‏ والأفعال،  “…فى ‏خان‏ ‏جعفر‏ ‏ولد‏، ‏وفيما‏ ‏بين‏ ‏بيت‏ ‏القاضى ‏وبين‏ ‏القصرين‏ ‏وحارة‏ ‏الوطاويط‏ ‏وابن‏ ‏خلدون‏ ‏والعباسية‏ ‏الشرقية‏ ‏وبين‏ ‏الجناين‏ ‏وميدان‏ ‏خيرت‏: ‏لعب‏ ‏وطاف‏ ‏وساح‏ ‏وصادق‏ ‏وأحب‏…”‏(ص163)

كذلك‏ ‏حين‏ ‏يجمع ‏تطور‏ الزمن واختلاف الأماكن وتنوع الأحداث “معا” ‏الأماكن‏:   “…‏ وجاء‏ ‏الزمن‏ ‏بالراديو‏ ‏والتليفزيون‏ ‏وراحت‏ ‏القاهرة‏ ‏تتضخم‏ ‏وتنهمر‏ ‏عليها‏ ‏الأحداث‏ ‏والحروب‏ ‏والعلل‏…”(ص105)

وأخيرا: قد‏ ‏يجمع‏ ‏التسارع‏ ‏بين‏ ‏نشاط‏ ‏شخصى ‏وتأريخ‏ ‏زمنى ‏هكذا‏:

 ‏”..يوخزه‏ ‏الحنين‏ ‏فيمضى ‏مع‏ ‏أحد‏ ‏أبنائه‏ ‏فى ‏سيارته‏ ‏إلى ‏الحى ‏العتيق‏، ‏فيزور‏ ‏البيت‏ ‏القديم‏ ‏حيث‏ ‏يقيم‏ ‏قاسم‏، ‏ويصلى ‏فى ‏الحسين‏، ‏ويجلس‏ ‏ساعة‏ ‏فى ‏الفيشاوي‏، ‏ويتناول‏ ‏غداءه‏ ‏عند‏ ‏الدهان‏، ‏ثم‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏بين‏ ‏الجناين‏ ‏منتشيا‏ ‏مغرد‏ ‏الروح‏. ‏وعاش‏ ‏حتى ‏قارب‏ ‏التسعين‏، ‏فطرب‏ ‏لأمجاد‏ ‏يوليو‏، ‏وانكوى ‏بخمسة‏ ‏يونية‏، ‏وأفاق‏ ‏فى 15 ‏مايو‏، ‏وطرب‏ ‏مرة‏ ‏أخرى ‏فى 6 ‏أكتوبر‏ ‏المجلجلة‏، ‏وانقبض‏ ‏فى 6 ‏أكتوبر‏ ‏الدامية..”(ص 144)

وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التدفق‏ ‏كان‏ ‏مزعجا‏ (‏لى ‏ولغيرى ‏فى ‏الأغلب‏) ‏فى ‏القراءة‏ ‏الأولى ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏بدا‏ ‏طبيعيا‏ ‏فى القراءة ‏الثانية‏ ‏والثالثة‏، ‏ثم‏ ‏بدا‏ ‏ضروريا‏ ‏وجميلا‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ربما لأنه يؤكد هذا التجميع الواقعى ونحن نخوض معا “الآن” وقائع قرنين من الزمان.‏

جمال السرد، والشعر أحيانا

‏القارئ‏ ‏لا‏ ‏يجد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏شعرا حاضرا‏، ‏مثلما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏فى ‏ملحمة‏ ‏الحرافش‏ ‏مثلا‏، ‏كذلك‏ ‏لا‏ ‏يسترسل‏ ‏الكاتب‏ ‏فى ‏إطناب‏ ‏مستطرد‏ ‏مثل‏ ‏الثلاثية‏، ‏السرد هنا‏ ‏يتراوح‏ ‏بين‏ ‏دفق‏ ‏الإيقاع‏ ‏فى ‏زخم‏ ‏متلاحق كما بيّنا‏، ‏وبين‏ ‏انسياب‏ ‏رائق‏ ‏سهل‏ ‏ممتنع‏، ‏فتكتمل الصورة الجمالية، وإن‏ ‏صح‏ ‏تشبيه‏ ‏أنه‏ ‏عمل‏ ‏منسوج‏ ‏بإبر‏(‏تريكو‏) ‏كثيرة‏ ‏يحمل‏ ‏كل‏ ‏منها‏ ‏خيطا‏ ‏مختلفا‏ ‏ليتكامل‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏فى ‏نسيج‏ ‏ضام‏، ‏فيمكن‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏نضيف‏ ‏أنه‏ ‏تزين‏ ‏أيضا‏ ‏بنقوش‏ ‏دقيقة‏، ‏لعلها‏ ‏صنعت‏ ‏بإبر‏ ‏أدق‏، ‏ربما‏ ‏تشبه‏ ‏إبر‏ “‏الكوريشيه‏”، ‏وإلى درجة أقل‏ ‏شغل‏ “‏الكانافاة‏”.

لكن الشعر يحضر، ربما رغما عن الكاتب،‏ ‏وهو‏ ‏يجسد‏ ‏طبع‏ ‏إنسان‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏معمار قائم، وليس العكس كما اعتدنا، فنقرأ وهو ‏يصف‏ ‏أحمد‏ ‏عطا‏ ‏المراكبى: “…‏وتشع‏ ‏من‏ ‏عينيه‏ ‏البنيتين‏ ‏نظرة‏ ‏وانية‏ ‏متوددة‏ ‏تتحلى ‏بالطيبة‏ ‏والسلام‏، ‏كأنه‏ ‏مسجد‏ ‏ضخم‏ ‏يجمع‏ ‏بين‏ ‏الجلال‏ ‏والأمان‏!!!…”‏(ص11)

بسلاسة‏ ‏أبسط‏، ليست، شاعرية بالضرورة، يوصل لنا الأقل جمالا فى صورة أرق حضورا فى عادية محببة حين يصف‏ ‏رشوانة‏ ‏عزيز‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏قائلا:‏ “…‏تبين‏ ‏أن‏ ‏الولدين‏ ‏أجمل‏ ‏من‏ ‏البنت‏، ‏ولكنها‏ ‏كانت‏ ‏مقبولة‏ ‏ذات‏ ‏جسم‏ ‏ممتاز…”‏(ص 96).

كلام‏ ‏سلس‏ ‏بسيط‏ ‏تقوله‏ ‏أية ‏زائرة‏ ‏لأختها‏ ‏عند‏ ‏عودتها‏ ‏من‏ ‏زيارة‏ ‏أسرة‏ ‏عزيز‏ ‏وراضية‏ ‏والدى ‏رشوانة‏.‏

ثم يقفز منه الشعر وهو‏ ‏يلخص‏ ‏الحياة‏ ‏التى ‏تبدت‏ ‏لعقل حمادة القناوى بعد أن شجعته جدته راضية ألا ييأس من رحمة الله: “…وتبدت‏ ‏له‏ ‏الحياة‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏رغائب‏ ‏مستحيلة‏. ‏دائما‏ ‏حبيبة‏ ‏ومستحيلة…‏”(ص 164)، فيصلنى العادى شعرا شعرا.

‏تجسيد “الطبقة‏ ‏المتوسطة‏” فى “‏وعى” ‏الآن؟

وضعت فى الفرض الأساسى أن هذه الرواية قد أحضرت لنا مصر عبر قرنين فى “هنا والآن”، وبالذات ممثلة فى الطبقة الوسطى التى اسميها بدءًا من هنا: “المتوسطة” وليست الوسطى (لست أدرى لماذا) أتعامل هنا مع هذه الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏باعتبارها وعيا جماعيا، ‏يفرز‏ ‏ناسه‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هم‏ ‏صانعوه‏ ‏عبر‏ ‏تاريخ‏ ‏طويل‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏شىء‏، ‏ولا‏ ‏يوجد‏ ‏توصيف‏ ‏عام‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏طبقة‏ ‏متوسطة‏، ‏بحيث‏ ‏ينطبق‏ ‏على ‏كل‏ ‏الأماكن‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏فالطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏غير‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏السويد‏ ‏غيرها‏ ‏فى ‏ولاية‏ ‏متشجان‏ ‏أو‏ ‏بنجلاديش‏ ‏أو‏ ‏كوريا‏ ‏الشمالية‏، ناهيك عن اختلافها فى الوطن الواحد، فهى فى مصر القديمة غيرها فى كوم يعقوب مركز أبوطشت (قنا) غيرها فى بركة السبع منوفية، ‏وهى ‏أيضا‏ ‏تختلف‏ ‏معالمها فى نفس البلد‏ ‏حسب‏ ‏بعد‏ ‏الزمن‏، ‏فالطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏القرن‏ ‏السابع‏ ‏عشر‏ ‏غيرها‏ ‏فى ‏القرن‏ ‏الواحد‏ ‏والعشرين‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏مثلا‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏محفوظ‏ ‏قد‏ ‏غامر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏فجمع كل ذلك من خلال‏ ‏حركيتها‏ جميعا ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏يقرب‏ ‏من‏ ‏قرنين‏ ‏من‏ ‏الزمان‏، فتجسدت لنا – كما أشرت مرارا – فى “هنا والآن”، فهو لم يهمل فعل الزمن والأزمنة، بل جمعها معاً على اختلاف الأمكنة، وجعلها تصب فى “هنا والآن” فى صحن واحد.

محفوظ‏ ‏بإبداعه الفائق هنا حدد‏ ‏أماكن‏ ‏روايته‏ ‏بالقاهرة‏، ‏أو‏ ‏بشكل‏ ‏أكثر‏ ‏تحديدا‏ ‏بالقاهرة‏ ‏الحسين‏ (‏فيما‏ ‏عدا‏ ‏استثناءات‏ ‏مرحلية‏ ‏وعابرة‏)‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏امتداد‏ ‏الرواية‏ ‏على ‏مدى ‏ما‏ ‏يقرب ‏من‏ ‏قرنين‏ قد جسد صعوبة أخرى‏ هى احتمال تغيير الثقافات الفرعية بمرور الزمن، ‏لهذا‏ ‏سوف‏ ‏أكتفى ‏برصد‏ ‏بعض معالم‏ أبعاد هذه الطبقة‏، الأكثر ثباتا نسبيا ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏تحديدا‏، أنتقيها ‏من‏ ‏المحاور‏ ‏التى ‏تتمحور‏ ‏حولها‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏مصر‏، أساسا ‏فى ‏هذه‏ ‏الحقبة‏ ‏من‏ ‏زمن‏ ‏الرواية‏ دون استبعاد امتدادها حتى الآن، وذلك فى حدود ما‏ ‏ظهرت‏ ‏لى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏النص‏ بوجه خاص، وفيما يلى ما وصلنى مما يمكن أن يميز هذه الطبقة فى حدود ما ذكرنا:

أولا‏: ‏نوع‏ ‏معين‏ ‏من‏ ‏التدين‏ ‏يتراوح‏ ‏بين‏ ‏صعوبة‏ ‏الإلحاد‏ ‏والثقة‏ ‏بالغفران‏ ‏مع‏ ‏الالتزام‏ ‏السلس‏.‏‏

ثانيا‏: ‏منظومة‏ ‏خلقية‏ ‏ظاهرة‏ ‏من‏ ‏التزمت‏ ‏والكبت‏، ‏تسمح‏ ‏باختراقات‏ ‏خفية‏ ‏محدودة‏، ‏غالبا‏ ‏ومؤقتة‏: ‏من‏ ‏التسيب‏ ‏والتجريب‏.‏

ثالثا‏: ‏مؤسسة‏ ‏زواجية‏ ‏راسخة‏ ‏البنيان‏، ‏مع‏ ‏تجليات‏ ‏داخلها‏ ‏تجعلها‏ ‏متعددة‏ ‏الأشكال‏ ‏والألوان.‏

رابعا‏: ‏تطلعاتٌ‏ ‏استحواذية‏، ‏وتكاثرٌ‏ ‏مضطرد‏ ‏التصعيد‏، ‏مع‏ ‏نقلات‏ ‏زائفة أو حقيقية‏ ‏إلى ‏طبقة‏ ‏أعلى.‏

خامسا‏: ‏موقف‏ ‏سياسى “متفرجٌ” أغلبه ‏معظم‏ ‏الوقت‏، ‏يساهم‏ ‏أحيانا‏ ‏فى ‏تحريك‏ ‏الأحداث‏ ‏‏إذا‏ ‏سُمح‏ ‏له‏ ‏أصلا‏، لكنه لا يصنع الأحداث أو يبادر بالنقلات ‏مع‏ ‏استثناءات‏ ‏فاعلة‏ ‏محدودة‏ ‏قصيرة‏ ‏العمر‏.‏‏

سادسا‏: ‏درجة‏ ‏مناسبة‏ ‏من‏ ‏القدرية‏، ‏تحت‏ ‏ظلال‏ ‏مختلفة‏ ‏العتمة‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏بالنهاية‏ مثلا: “‏يقين حتم‏ ‏الموت‏”.‏

‏ثَمَّ تساؤل حضرنى بإلحاح يقول: هل صحيح ‏أن‏ ‏مصر‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏فترات‏ ‏تاريخها‏ ‏إلا‏ ‏طبقة‏ ‏متوسطة‏ ‏تتسع‏ ‏جدا‏ ‏أوتتسع‏ ‏فقط‏، ‏تحتوى ‏عادة‏ ‏الطبقة‏ ‏الأدنى ‏بحركية‏ ‏هادئة‏ ‏وقد‏ ‏تتحاور‏ ‏مع‏ ‏الطبقة‏ ‏الأعلى ‏أو‏ ‏يرتقى ‏بعض‏ ‏أفرادها‏ ‏إليها‏ ‏دون‏ ‏انفصال‏ ‏عنها؟‏

لعل‏ ‏ظهور‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏التوقيت‏ ‏بالذات‏ 1987 ‏كان‏ ‏نتيجة‏ ‏رصد‏ محفوظ‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏ينفصل‏ ‏عن‏ ‏ناسه‏ ‏أبدا‏، ‏لما‏ ‏يتهدد‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏من‏ ‏تلاش نتيجة‏ ‏للتمادى ‏فى ‏إثراء‏ ‏الأغنى، ‏وإفقار‏ ‏الأفقر‏، ‏ثم‏ ‏هذا‏ ‏الزحف‏ ‏المضطرد‏ ‏على ‏قيمها‏ ‏بوسائل‏ ‏ولغة‏ ‏الإعلام‏ ‏المستوردة‏، ‏فانطلقت‏ ‏منه‏ ‏هذه‏ ‏الصرخة الإبداعية‏، ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏بقصد‏ ‏كامل‏، ‏تقول‏:‏ إحذروا‏، ‏إن‏ ‏انتهت‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏انتهت‏ ‏مصر.‏

هذا‏، ‏وقد‏ ‏اعتدنا‏ ‏أن‏ ‏نذكر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏برجوازى ‏لنلحق‏ ‏به‏ ‏صفات‏ ‏سلبية‏، ‏مثل‏: ‏البرجوازى ‏المغترب‏، ‏أو‏ ‏البرجوازى ‏المتطلع‏، ‏أو‏ ‏البرجوازى ‏الصغير‏ (‏استتفاهاً‏)، ‏لكننا‏ ‏لم‏ ‏نعتد‏ ‏أن‏ ‏نسمع‏ ‏مثلا‏: ‏عن‏ ‏البرجوازى ‏النبيل‏، ‏أو‏ ‏البرجوازى ‏المبدع‏، ‏مع أن هذين‏ ‏النوعين‏ ‏الأخيرين‏ ‏هما‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نخرج‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏هذا‏ ‏النص‏، ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏شخصيا‏ ‏هو‏ ‏خير‏ ‏مثال‏ ‏على ‏ما‏ ‏أسميتـه‏ “البرجوازى ‏النبيل”، ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر.‏

تقدم‏ ‏لنا‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏حركية‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ أساسا‏، ‏وفى ‏القاهرة‏ ‏دون‏ ‏غيرها‏ ‏من‏ ‏المدن‏، ‏من المعروف أن‏ ‏محفوظ‏ ‏قد ركّز‏‏ ‏مواقع‏ ‏حركة‏ ‏إبداعه‏، ‏بجغرافيا‏ ‏القاهرة‏، ‏وبالذات‏ ‏وسط‏ ‏القاهرة‏ ‏وحول‏ ‏الحسين‏، لكن هذا التركيز كان ضامّا لغيره بسلاسة معجزة، فهو يحدد هنا ميدان بيت القاضى، بصفتين دالتين: الأولى: “…يشرق بنور الشمس…”، والثانية: “…يتلقى من الحارات هديرا لا ينقطع…“، وقد شعرت أن تعبير “يتلقى من الحارات هديرا”ً يدعم تصورى أنه اختار تحديد المكان هكذا ليس ليستبعد غيره وإنما باعتباره الممثل لأغلب ما هو ثقافات فرعية لهذه الطبقة التى هى فى نهاية النهاية “مصر” ثم إنه راح ‏‏يغوص‏ ‏ما‏ ‏شاء‏ ‏له‏ ‏الغوص‏ ‏فى ‏طبقات وعى‏ ‏هذه‏ ‏الشريحة‏ ‏المحددة‏، ‏من واقع إيحاءات ‏هذه‏ ‏البقعة‏ ‏الضامّة هكذا. ([73])

‏ ‏حضرت‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏بكل‏ ‏تشكيلاتها‏ ‏وطموحاتها‏ ‏وأخلاقها‏ ‏ووظائفها‏ ‏وتدينها‏ ‏ومؤسساتها‏ ‏الزواجية‏ ‏والمهنية‏، ‏حتى‏ ‏كادت‏ ‏تتوازن‏، ‏فى ‏المراحل‏ ‏المتأخرة. ‏نسب‏ ‏الوظائف‏ ‏والمهن‏ ‏التى ‏تعرف‏ ‏بها‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏وتتميز‏، ‏قارن‏ ‏مثلا‏ ‏عدد‏ ‏الأطباء‏ ‏وعدد‏ ‏القانونيين‏ ‏والضباط‏ ‏والتجار‏ ‏وهو‏ ‏يكاد‏ ‏يقترب‏ ‏بعضه‏ ‏من‏ ‏بعض‏، ‏ولم‏ ‏أجد‏ ‏مبررا‏ ‏لأن‏ ‏أقوم‏ ‏بعدٍّ‏ ‏مقارن‏ ‏فهو‏ ‏لن‏ ‏يفيد‏ ‏كثيرا‏، ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏شخصيا‏ ‏تعجبت‏ ‏من‏ ‏كثرة‏ ‏الأطباء‏، ‏حتى ‏أنه‏ ‏توجد‏ ‏طبيبات‏ ‏فى ‏الجيل‏ ‏الثالث‏ ‏مباشرة‏ ‏مثل‏ ‏دكتورة‏ ‏نادرة‏ ‏محمود‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الكاتب‏ ‏لم‏ ‏يتردد‏ ‏فى ‏تزويج‏ ‏د‏‏كتور‏ ‏فاروق‏ ‏حسين‏ ‏قابيل‏ ‏من‏ ‏د‏كتورة عقيلة‏ ‏ثابت‏ (ص 173) ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏حين‏ ‏خصصها‏ ‏أسماها بالاسم الشعبى “مولدة”، ‏ثم‏ ‏تمادى ‏فأدخل‏ ‏ابنتاهما‏ ‏الطب‏ ‏بالمرة‏، ‏وقد‏ ‏تكررت‏ ‏حكاية الأطباء‏ ‏بالجملة‏ ‏هذه‏ ‏فى ‏أولاد‏ ‏حسن‏ ‏محمود‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى، ‏مع‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏ضابطا‏ ‏فى ‏سلاح‏ ‏المهندسين‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏أولاده‏ ‏الثلاثة‏، ‏محمود‏، ‏وشريف‏ ‏وعمر‏، قد ‏تخرجوا‏ ‏أطباء (ص 65)، وقد وصلنى من ذلك كيف أظهر محفوظ أن النقلات فى هذه الطبقة غالبا ما تتم بالطموح والتفوق والذكاء. ‏

عموما لم‏ ‏تكن‏ ‏المسألة‏ ‏بالنسبة لأغلب المحاور التى تصف هذه الطبقة تصويرا‏ خارجيا ‏لواقع‏ ماثل ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏سبر هذا‏ ‏الواقع‏ ‏إلى ‏أعماق ما وراءه من حركية وشبكات علاقات ومراحل تطور، ‏وأيضا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يعد‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏قادم‏ ‏أو‏ ‏محتمل‏، وأكتفى فى هذه المقدمة بعرض موجز من ملامح المنظومة الدينية والأخلاقية:

أولا: عن الدين والتدين

المحور‏ ‏الأول‏ ‏الذى ‏تدور‏ ‏حوله‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ هنا يغلب عليه ‏نوع‏ ‏معين‏ ‏من‏ ‏التدين‏ ‏يتراوح‏ ‏بين‏ ‏صعوبة‏ ‏الإلحاد‏ ‏والثقة‏ ‏بالغفران‏ ‏مع درجات متفاوته من‏ ‏الالتزام‏ ‏السلس‏، ‏وقد‏ ‏تجلى ‏ذلك‏ ‏فى ‏توجهات‏ ‏عامة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ (‏يمثلها‏ ‏فرد‏ ‏أو‏ ‏أفراد‏‏)، ‏ثم‏ ‏مواقف‏ ‏ومعتقدات‏ ‏وسلوك‏ ‏فردى ‏شديد‏ ‏التنوع‏ ‏حسب‏ ‏ظهوره‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏بذاته‏ ‏أو‏ ‏عند‏ ‏فرد‏ ‏بذاته‏،‏‏ ‏إن‏ ‏أغلب‏ ‏الشخوص‏ ‏كانوا‏ ‏يمارسون‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏العبادات‏ (‏الطقوس‏) ‏بغير‏ ‏انتظام‏ ‏فى ‏الأغلب‏، ‏نلاحظ مثلا: أن‏ ‏أحدا‏ ‏منهم‏ ‏لم‏ ‏ينكرها‏، ‏وأن‏ ‏الإيمان‏ ‏كان‏ ‏تلقائيا‏ ‏وكأنه‏ ‏من‏ ‏المسلمات‏ ‏دون‏ ‏تفكير‏ ‏أصلا‏، ‏وأن‏ ‏عكسه‏ ‏كان‏ ‏مرهقا‏ ‏حتى ‏يكاد‏ ‏يبدو‏ ‏مهددا‏ ‏أو‏ ‏مستحيلا‏، ‏وأن‏ ‏التدين‏ ‏لم‏ ‏يحل‏ ‏دون‏ ‏الممارسة‏ ‏التجريبية‏ ‏أو‏ ‏الانحرافية‏ ‏كلما‏ ‏أتيحت‏ ‏الفرصة‏، ‏وأنه‏ ‏سواء‏ ‏أعلن‏ ‏ذلك‏ ‏أو‏ ‏لم‏ ‏يعلن‏ ‏فإن‏ ‏القارئ‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يرصده‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر.

‏وقد ‏ظل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “سيدنا‏ ‏الحسين” ‏يمثل‏ ‏الخلفية‏ ‏التدينة‏ ‏المصرية‏ ‏لهذه‏ ‏الطبقة‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏مع‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ تقريبا، ‏حتى ‏الذين‏ ‏تركوا‏ ‏سيدنا‏ ‏الحسين‏، ‏كان‏ ‏أغلبهم‏ ‏يحن‏ ‏إليه‏، ‏ويدور‏ ‏ويلف‏ ‏ويعود‏ ‏إليه‏، ‏زائرا‏ ‏أو‏ ‏مبتهلا‏، ‏أو‏ ‏ضيفا‏، ‏أو‏ ‏أى ‏شىء لا يحتاج إلى تمييز‏، ‏وسيدنا‏ ‏الحسين‏، ‏هنا‏، ‏وفى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏أعمال‏ ‏محفوظ‏ ‏ليس‏ ‏دينا‏ ‏بديلا‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏رمز‏ ‏خاص‏، ‏لكنه‏ ‏يمثل‏ “أرضية” ‏نوع‏ ‏التدين‏ ‏المصرى لهذه ‏الطبقة‏ ‏الوسطى بوجه خاص، ‏وهو‏ ‏نوع‏ جامع ‏غير‏ ‏مانع‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏غالب ظاهر مسيطر‏، ‏لكنه‏ ‏يقبع‏ ‏فى ‏الخلفية‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يذكر‏، يظهر‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ (‏تاريخيا‏) ‏فى ‏حلم‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏حين‏ ‏زاره‏ ‏سيدى ‏نجم‏ ‏الدين‏ ‏فى ‏المنام‏.‏

 ‏بعد‏ ‏آخر‏ أعمق ‏لهذا‏ ‏التدين المصرى الراسخ‏ ‏هو حضور‏ “القرآن” ‏وحامليه فى مساحة رحبة من الوعى وكذا الأزهر‏ ‏والمنتسبين‏ ‏له‏، ‏ولا‏ ‏أقصد‏ ‏حفظة‏ ‏القرآن‏، ‏أو‏ ‏من‏ ‏يقومون‏ ‏بتلاوته‏ ‏أ‏و تفسيره‏، ‏وأيضا‏ ‏لا‏ ‏أقصد‏ ‏بالأزهر‏ ‏مبنى أو معهدا، ‏وإنما‏ أعنى ‏حضور هذا ثم ذاك‏ ‏فى ‏الوعى، ‏الشعبى، ‏وربما يمثل‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏الشيخ‏ ‏القليوبى ‏الكبير‏، ‏وابنه‏ ‏معاوية‏ ‏القليوبى.‏

‏‏البعد‏ ‏الثالث‏ لتدين هذه الطبقة ‏هو‏ ‏ما‏ ‏تمثله‏ ‏راضية‏ ‏معاوية القليوبى، وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏: ‏قاسم‏ ‏عمرو‏ ‏عزيز‏ ‏المصرى، (‏الشيخ‏ ‏قاسم‏) ‏وهو‏ ‏بُعد‏ ‏السحر‏، ‏والبركة‏، ‏والجان‏، ‏والبخور‏، ‏والغيب‏، ‏ولا‏ ‏أعنى ‏ما‏ ‏وراء‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏معتقدات ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يرتبط‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏سلوك‏ ‏وما‏ ‏يساعد‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏علاقات‏ ‏وتوجهات‏ ‏فاعلة‏ ‏ومنتشرة‏. ‏وقد‏ ‏نجد‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏فى ‏سلوك‏ ‏متصل‏ ‏مثل‏ ‏حال‏ ‏راضية‏ ‏القليوبى، ‏كما‏ ‏قد‏ ‏نجده‏ ‏فى ‏سلوك‏ ‏مفرد‏ ‏مثل‏ ‏زغرودة‏ ‏جليلة‏ مرسى ‏الطرابيشى ‏يوم‏ ‏قدوم‏ ‏نيشان‏ ‏عرس‏ ‏ابنتها‏ ‏راضية ‏(ص42)، ‏الذى ‏تصادف‏ ‏مع‏ ‏موت‏ ‏والدها‏ ‏الشيخ‏ ‏معاوية‏، ‏حين‏ ‏قررت‏ ‏بكل‏ ‏شجاعة‏ ‏أن‏ ‏تفك‏ ‏النحس‏ ‏بما‏ ‏يليق‏، ‏فانطقت‏ ‏منها‏ ‏زعرودة‏ ‏تؤدى ‏الغرض‏، ‏وهى ‏تعتذر‏ ‏للمرحوم‏ ‏المسجى ‏بلحافه‏ ‏الأخضر‏ ‏لم‏ ‏يدفن‏ ‏بعد، ولا تقصر فى واجبها نحوه فتهرول إلى حجرة الجثمان “…وراحت تصوت من أعماق قلبها…” حتى يحق وصلها بأنها (ص 42) “…جمعت بين التقوى والحب والجنون…”.

وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏ينتمى ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏ ‏إلى ‏المعتقد‏ ‏الشعبى ‏والتقاليد‏ ‏الخاصة‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏ينتمى أكثر ‏إلى ‏ما‏ ‏يسمى ‏بـ‏ “‏الدين‏ ‏الشعبى” ‏وهو الذى ‏يميز‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏بوجه‏ ‏خاص، ويسمح لها بما يسمى فى غيرها تناقضا.

‏‏البعد‏ ‏الرابع‏ ‏هو‏ ‏التدين‏ ‏الأحدث‏، ‏الذى ‏تمثله‏ ‏المحاولة‏ ‏المعاصرة‏ السطحية ‏لتحديث‏ ‏الدين‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏أقل‏ ‏هذه‏ ‏الأبعاد‏ ظهورا فى هذا العمل لأنه أقل ‏ارتباطا‏ ‏بالوعى ‏الغائر‏، ‏إذ‏ ‏ينتمى ‏أكثر‏ ‏للاقتناع‏ ‏الظاهر‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏والتوظيف‏ ‏السياسى ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أخرى، ‏وهو‏ ‏ما‏ قد ‏يمثله‏ ‏تحديدا‏ ‏الإخوان‏ ‏المسلمين‏ (‏ويمثل‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏فى ‏الجانب‏ ‏الرجولى ‏والسياسى: ‏سليم‏ ‏حسين‏ ‏قابيل‏، ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ ‏صالح‏ ‏حامد‏ ‏عمرو‏ ‏عزيز‏- ‏الذى ‏أحب‏ ‏حركة‏ ‏الإخوان‏ ‏ولم‏ ‏يدخلها‏) (ص 128)، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏الأول‏ ‏قد‏ ‏تلقى ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏التدين‏ ‏ابتداء‏ ‏من‏ ‏أخته‏ ‏هنومة‏، ‏فقد‏ ‏تلقى ‏الأخير‏ ‏صورة‏ ‏معدلة‏، ‏أرستقراطية‏ ‏بعض‏ ‏الشىء‏، ‏من‏ ‏أمه‏ ‏شكيرة‏ ‏محمود‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى، ‏ولا‏ ‏أتمادى ‏فأنبه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من التدين ‏هو‏ ‏الأقرب‏ ‏إلى قيم و‏أخلاق‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى الأحدث ‏المتطلعة‏ ‏أرستقراطيا‏ ‏أو‏ ‏سياسيا‏ ‏منه‏ ‏إلى ‏تدينها‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فله‏ ‏آثاره‏ ‏السلوكية‏ ‏اليومية‏ ‏المتميزة‏، ‏وربما‏ ‏هذا‏ هو ‏ما‏ ‏تجسد‏ ‏حين‏ ‏اختلط‏ ‏ شكل‏ ‏الالتزام‏ ‏الزواجى ‏بالهداية‏ ‏التقليدية‏، ‏وكيف‏ ‏أثر‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ تدين‏ ‏سليم‏ ‏قابيل‏ ‏على ‏زوجته‏ ‏هدية‏ ‏محمد‏ ‏إبراهيم‏ (‏بنت‏ ‏أمانة‏ ‏ابنة‏ ‏مطرية‏ ‏عمرو‏ ‏عزيز‏) (ص112). ‏

وقد‏ ‏لاحظت‏ ‏-‏ ‏برضا‏ ‏موافِق‏ ‏-‏ ‏أن‏ ‏الكاتب‏ ‏لم‏ ‏يدرج‏ ‏مظاهر‏ ‏التطرف‏ ‏الدينى ‏كأحد‏ ‏التنويعات‏ ‏الدينية‏ ‏لهذه‏ ‏الطبقة‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏إشارة‏ ‏عابرة‏ ‏لموقف‏ ‏سليم‏ ‏وقلقه‏ ‏من‏ “…التيارات‏ ‏الدينية‏ ‏الجديدة‏ ‏التى ‏انبثقت‏ ‏من‏ ‏الإخوان‏، ‏ثم‏ ‏شقت‏ ‏لنفسها‏ ‏مجارى ‏جديدة‏ ‏محفوفه‏ ‏بالتطرف‏ ‏والغموض…” (ص111، 112)، ‏مع‏ ‏أن محفوظ‏ ‏وقت‏ ‏كتابة‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏كان‏ ‏مهددا‏ ‏بالاسم‏ ‏مع‏ ‏آخرين‏، ‏حيث كان متهما‏ ‏بالهرطقة‏ ‏وغير‏ ‏ذلك‏، ‏ومع‏ ‏هذا‏ ‏لم‏ ‏يُستدرج‏ ‏إلى ‏موقف‏ ‏حُكْم فوقىّ‏ يشوبه هذا التيار تعميما‏، ‏بل‏ ‏جنّبه‏، ‏دون‏ ‏إغفاله‏ ‏بهدوء‏ ‏واع‏.

وبالنسبة‏ ‏للمسارات‏ ‏والمسالك الدينية‏ ‏الفردية‏، ‏فقد‏ ‏تنوعت‏ ‏فى ‏طول‏ ‏الرواية‏ ‏وعرضها‏، ‏لذلك‏ ‏بما لا يسمح إلا بعرض مجرد ‏أمثلة‏‏:

‏(1) ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏تردد‏ ‏الموقف‏ ‏الدينى ‏مقترنا‏ ‏بالمؤسسة‏ ‏الزواجية‏، ‏بدءا‏ ‏بالتعبير‏ ‏البسيط‏ ‏الشائع (ص 176): يزيد المصرى:  “…أريد‏ ‏أن‏ ‏أكمل‏ ‏نصف‏ ‏دينى…” ‏حتى ‏أن‏ ‏من‏ ‏يرحب‏ ‏به‏ ‏هو‏ ‏المتدين‏ ‏فعلا‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏يؤجله‏ ‏أو‏ ‏يلغيه‏ ‏يبدو‏ ‏مخالفا‏، ‏ولو‏ ‏فى ‏أعماقه‏، ‏نرى ‏ذلك‏ ‏مثلا‏ ‏فى ‏استجابة‏ ‏عمر‏ ‏عزيز‏ ‏لعرض‏ ‏أبيه‏ ‏الزواج: (ص166): “…وما‏ ‏كاد‏ ‏أبوه‏ يزكى ‏له‏ ‏فكرة‏ ‏الزواج‏ ‏حتى ‏رحب‏ ‏بها‏ ‏ترحيب‏ ‏شاب‏ ‏قوى ‏تقى…”، وذلك‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏عزوف‏ ‏قدرى ‏عامر‏ ‏عمرو‏ ‏عن‏ ‏الزواج‏ (‏خصوصا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏رفض‏ ‏من‏ ‏جيران‏ ‏له‏ ‏لشكهم‏ ‏فى ‏إسلامه‏ ‏بسبب‏ ‏يساريته‏) (ص 186)، ‏وتجسدت‏ ‏علاقة‏ ‏المؤسسة‏ ‏الزواجية‏ بالدين ‏فى ‏وصف‏ ‏موقف‏ ‏قدرى “..‏وغضب‏ ‏قدرى ‏على ‏فكرة‏ ‏الزواج‏ ‏كغضبه‏ ‏على ‏البرجوازية‏ ‏بعامة.”(ص 186)

(2) ‏كان‏ ‏تدين‏ ‏الاثنين‏ ‏الكبار‏ ‏هو‏ ‏التدين‏ ‏الذى ‏أعتقد‏ ‏أنه‏ ‏يميز‏ ‏تدين‏ أغلب ‏الشعب‏ ‏المصرى (‏تعمدت درجة أكبر من‏ ‏التعميم ‏هذه‏ ‏المرة‏)، ‏والذى ‏يتلخص‏ ‏فى ‏وصف‏ ‏الكاتب. ‏”… ‏ولكن‏ ‏دين‏ ‏يزيد‏ ‏كصديقه‏ ‏الثانى ‏عطا‏ ‏المراكيبى ‏الذى ‏كان‏ ‏يقيم‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏البيت‏ ‏كان‏ ‏قانعا‏ ‏بأداء‏ ‏الفرائض‏ ‏المتاحة‏ ‏كالصلاة‏ ‏والصوم‏ ‏لا‏ ‏يتجاوزهما‏ ‏إلى ‏أحلام‏ ‏دينية‏ ‏أعمق‏،…”(ص79)

(3) ‏تناسب‏ ‏هذا‏ ‏التدين‏ (‏حتى ‏فى ‏صورته‏ ‏البسيطة‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏المنتظمة‏) ‏تناسبا‏ ‏عكسيا‏ ‏مع‏ ‏علوالمكانة‏ ‏وزيادة‏ ‏الثراء‏ ‏فى ‏عدد‏ ‏من‏ ‏المواقع‏، ‏فمثلا‏ ‏نرى ‏وصف تدين ‏عبد‏ ‏العظيم‏ ‏باشا‏ ‏داود‏، ‏إبن‏ ‏داود‏ ‏باشا‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى: “…الدين‏ ‏لم‏ ‏يلعب‏ ‏فى ‏حياته‏ ‏عشر‏ ‏معشار‏ ‏دوره‏ ‏فى ‏حياة‏ ‏صديق‏ ‏روحه‏ ‏عمرو…” (ص 90) ‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏كان‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يصبغ‏ ‏كل‏ ‏أسرة‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏، ‏حتى ‏إذا‏ ‏مال‏ ‏أحدهم‏ ‏للدين‏ ‏لظرف‏ ‏أو‏ ‏لآخر‏، ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏نشأ‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏تجنيبه‏ ‏دون‏ ‏إنكاره‏، ‏نرى ‏ذلك‏،‏مثلا‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏حليم‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ ‏داود‏: “…ولما‏ ‏وقعت‏ ‏كارثة‏ 5 ‏يونيه‏ ‏قرر‏ ‏أن‏ ‏يحج‏ ‏لبيت‏ ‏الله‏ ‏الحرام‏ ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏الدين‏ ‏إلا‏ ‏الاسم‏ ‏كغالبية‏ ‏اسرته‏ ‏ولكنه‏ ‏حج‏ ‏ورجع‏ ‏إلى ‏حياته‏ ‏لم‏ ‏يغير‏ ‏منه شيئا…“.(ص 75)

ويتأكد‏ ‏هذا‏ أيضا بالنسبة‏ ‏لعفت‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ (‏أخت‏ ‏حليم‏ ‏الذى ‏ذكرنا‏ ‏موقفه‏ ‏حالا‏)، ‏فعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏زواجها‏ ‏من‏ ‏عامر‏ ‏عمرو‏ (‏على ‏تدين‏ ‏والده‏ ‏كما‏ ‏أشرنا‏ ‏حالا‏‏)  “…فلم‏ ‏يجرؤ‏ ‏الشاب‏ ‏على ‏تذكيرها‏ ‏بأن‏ ‏الصوم‏ ‏واجب‏ ‏فى ‏رمضان‏، ‏وصام‏ ‏وحده‏ ‏معتمدا‏ ‏على ‏نفسه‏ ‏فى ‏إعدا‏د ‏سحوره….‏”، (ص142): ‏ومع‏ ‏هذا‏ ‏لم‏ ‏يُعلم‏ ‏عن‏ ‏عفت‏ ‏أنها‏ ‏أنكرت‏ ‏الدين‏، ‏ولم‏ ‏يجرؤ‏ ‏أحد‏ ‏من‏ ‏متدينى ‏أهل‏ ‏زوجها: “…‏ومع‏ ‏أنها‏ ‏لم‏ ‏تنطق‏ ‏بكلمة‏ ‏تخدش‏ ‏إيمانها‏ ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏عاشت‏ ‏حياتها‏ ‏وهى ‏تجهل‏ ‏دينها‏ ‏وتراثها‏ ‏جهلا‏ ‏تاما…‏”.‏ (ص 157)

‏(4) ‏يتأكد‏‏ ‏الموقف‏ ‏الذى ‏يفصل‏ ‏يقين‏ ‏الإيمان‏ ‏عن‏ ‏ضرورة‏ ‏الالتزام‏ ‏بتعاليم‏ ‏الدين‏ ‏من‏ ‏مسار‏ ‏تدين‏ ‏سرور‏ ‏عزيز‏، ‏وهو‏ ‏شقيق‏ ‏عمرو‏ ‏الذى ‏ذكرنا‏ نوع ‏تدينه‏ ‏فى ‏الفقرة‏ ‏السابقة‏: “…‏ونشأ‏ ‏طبعا‏ ‏مؤمنا‏، ‏ولكن‏ ‏بلا‏ ‏قيود‏ ‏بخلاف‏ ‏أسرته‏ ‏جميعا‏، ‏فلم‏ ‏يؤد‏ ‏الصلاة‏ ‏ولا‏ ‏الصيام‏ ‏حتى ‏بلغ‏ ‏الخمسين‏ ‏من‏ ‏عمره‏…”. (ص106) وكل‏ ‏ما‏ ‏أريد‏ ‏التأكيد‏ ‏عليه‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏تعبير: “نشأ‏ ‏طبعا‏ ‏مؤمنا”‏

‏(5) ‏ السماح بالشك فى حدود حتى ‏من‏ ‏سمح‏ ‏لنفسه‏ ‏بالشك‏، ‏فهو‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يتمادى ‏حتى ‏يقين‏ ‏الإلحاد، فى ‏أحد‏ ‏إيقاعاته‏ ‏المتدفقة‏ ‏يلخص‏ ‏الكاتب‏ ‏موقف‏ ‏عقل‏ ‏حمادة‏ ‏القناوى ‏(‏ابن‏ ‏صدرية‏ ‏عمرو‏ ‏عزيز‏) ‏وهو‏ ‏يصف‏ ‏التطور‏ ‏الروحى فى مقابل المأزق الشخصى ‏الذى ‏قد‏ ‏يستغرق‏ ‏عمر‏ ‏الإنسانية‏ ‏لا‏ ‏عمر‏ ‏فرد‏ ‏واحد‏ ‏يركزه‏ الكاتب ‏فى ‏سطر‏ ‏وبعض‏ ‏سطر‏ ‏هكذا‏  “… ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يؤمن‏، ‏ورفض‏ ‏أن‏ ‏يكفر‏، ‏ولاذ‏ ‏بالفرائض‏، ‏وتفشى ‏الشك‏ ‏فى ‏خلاياه‏ ‏فلم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏ينتمى…” ‏(ص163)

وفى ‏المقابل‏ ‏نرى ‏حيرة‏ ‏شاذلى ‏محمد‏ ‏إبراهيم‏ (‏ابن‏ ‏خالته‏ ‏مطرية‏ ‏عمرو‏ ‏عزيز‏) ‏فنجدها‏ ‏حيرة‏ ‏معقلنة‏ ‏جاءته‏ ‏من‏ ‏فرط‏ ‏القراءة‏ ‏والتقلب‏ ‏الثقافى (‏إن‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏)   “…كان‏ ‏ظمؤه‏ ‏إلى ‏تحديد‏ ‏علاقته‏ ‏بالكون‏ ‏جنونا‏ ‏مضنيا…‏” (ص117)، ‏وهو‏ ‏الذى ‏تجرأ‏ ‏على ‏مقابلة‏ ‏طه‏ ‏حسين‏ ‏والعقاد‏ ‏والمازنى ‏وهيكل‏ ‏وسلامة‏ ‏موسى ‏والشيخ‏ ‏مصطفى ‏عبد‏ ‏الرازق‏، وقد‏ ‏حدد‏ ‏الكاتب‏ ‏أن‏ ‏الدين‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏مصدر‏ ‏هذه‏ ‏الحيرة‏ ‏بوجه‏ ‏خاص“… ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏الدين‏ ‏موضع‏ ‏رفضه‏ ‏لكنه‏ ‏أراد‏ ‏أن‏ ‏يعتمد‏ ‏على ‏عقله‏ ‏حتى ‏آخر‏ ‏المدى…”. ‏‏ (ص150)

وحتى ‏هذه‏ ‏الحيرة‏ ‏التى ‏لمست‏ ‏الدين‏ ‏ضمنا‏ ‏فقسها‏ ‏سليم‏ ‏ابن‏ ‏خالته‏ ‏سميره‏ ‏وهو‏ ‏يصفها‏ ‏بدقة‏ ‏صادقة‏ ‏قائلا   “…حيرتك‏ ‏مستوردة…”. (ص 151)

ثانيا: عن المنظومة‏ ‏الأخلاقية‏ ‏

من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏يصعب‏ ‏عادة‏ ‏تحديد‏ ‏ماهية‏ ‏الأخلاق‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏فصلناها‏ ‏عن‏ ‏الدين‏ ‏أوالتدين‏، ‏أما‏ ‏بالنسبة‏ ‏لموقفنا‏ ‏هنا‏ ‏فالأمر‏ ‏يبدو‏- نسبيا- ‏أقل‏ ‏صعوبة‏‏، ‏ذلك‏ ‏أننا‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏يميز‏ ‏أخلاق‏ ‏طبقة‏ ‏بذاتها‏، ‏فى ‏وقت‏ ‏بذاته‏، ‏فى ‏موقع‏ ‏جغرافى ‏معين‏، ‏وإن تجمعت فى إبداع مكثف‏، ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏مبنى ‏على ‏فرض‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏إنما‏ ‏هى ‏تأريخ جغرافىّ‏، ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏لمعالم‏ ‏وحركية‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة عبر‏ ‏ذلك‏ ‏الزمن‏ ‏المحدد‏.‏

من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏نجد‏ ‏أن هذا‏ ‏النص‏ قد ‏تناول‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏بإحاطة‏ ‏ليست‏ ‏أقل‏ ‏من‏ ‏إحاطته‏ ‏بالجانب‏ ‏التدينى، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏لم‏ ‏يستعمل‏ ‏كلمة‏ “أخلاق‏” ‏فى ‏وصف‏ ‏المواقف‏ ‏المختلفة‏ ‏مثلما‏ ‏استعمل‏ ‏كلمة‏ ‏الدين‏ ‏والتدين‏‏، ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏نرصد‏ ‏صفات‏ ‏غالبة‏ ‏ننتقى ‏منها‏ ‏ما‏ ‏يصلح‏ ‏للعودة تفصيلا فيما بعد‏.‏ ‏

أولا‏: ‏بدا‏ ‏فى ‏طول‏ ‏الرواية‏ ‏وعرضها‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بأخلاق‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى، ‏وهو‏ من ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يصف‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏، (‏وأحيانا‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الأخلاق‏ ‏البرجوازية‏) ‏ليست‏ ‏نمطا‏ ‏واحدا‏ ‏متفقا‏ ‏عليه‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏يمكن‏ ‏العثور‏ ‏على ‏ريح‏ ‏عامة‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏الريح‏ ‏الشائعة‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏وزيفها‏، ‏وادعائها‏، ‏وكذبها‏، ‏ونفاقها‏، ‏على ‏كل‏ ‏حال‏.‏

ثانيا‏: ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏التناقضات‏ ‏المتواترة‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏تتعارض‏ ‏مباشرة‏ ‏فى ‏موضوع‏ ‏الأخلاق‏ ‏فإنها‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏تشقق‏ ‏العلاقات‏ ‏أو‏ ‏التنافر‏ ‏حتى ‏الفرقة‏ (‏إلا‏ ‏قليلا‏)، ‏وإنما‏ ‏بدت‏ ‏-‏ ‏فى ‏الأغلب‏ ‏-‏ ‏وكأنها‏ ‏تذوب‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏فى ‏بعد‏ ‏أخلاقى ‏أكبر‏، ‏ليس‏ ‏ظاهرا‏ ‏على ‏السطح‏ ‏على ‏أية‏ ‏حال‏، ‏حتى ‏أننى ‏تصورت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أسميه‏ “التماسك‏ ‏للبقاء”.‏

ثالثا‏: ‏ارتبطت‏ ‏تنويعات‏ ‏المنظومة‏ ‏الأخلاقية‏ – ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحوال- ‏بظروف‏ ‏التنشئة‏ ‏الأسرية‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏مدى ‏الوفرة‏ ‏المادية‏ ‏بما‏ ‏قد‏ ‏يصاحب‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏تدليل‏، ‏وأيضا‏ ‏نوع‏ ‏ومدى ‏التمسك‏ ‏بالدين‏.‏

رابعا‏: فى هذا العمل أيضا ‏مارس‏ ‏محفوظ‏، ‏فى ‏أماكن‏ ‏متفرقة،‏ ‏قدراته الإبداعية ‏لإعلان‏ ‏النقلات‏ ‏الكينونية‏ ‏النوعية‏ ‏المصاحبة‏ ‏-‏ ‏عادة‏ ‏-‏ ‏للنقلات‏ ‏الأخلاقية‏، ‏دون‏ ‏تفسير‏ ‏غالبا‏، ‏وكأنه‏ ‏يعود‏ ‏ليؤكد‏ ‏طفرات‏ ‏التطور‏ ‏الطبيعية‏ وما يصاحبها من نقلات – أو مضاعفات – سلوكية ‏سواء‏ ‏عرفنا‏ ‏لها‏ ‏سببا‏ ‏أم‏ ‏لا‏.

خامسا‏: ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ غلبة ‏التجانس‏ ‏تقريبا، بحيث لا يستبعد ‏التناقض‏، ‏كان‏ ‏هناك‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالفروق‏ ‏المرتبطة‏ ‏بالثقافة‏ ‏الفرعية والفروق الفردية‏ ‏بشكل‏ ‏واضح‏ ‏الدلالة‏.‏

وفيما يلى أمثلة لبعض هذه الفروق الفرعية والفردية الدالة على تولد ثقافات متنوعة مع حركة التطور الاجتماعى مع مراعاة التأكيد على صعوبة التعميم وأخطائه.

 (1) ‏حين‏ ‏فسرت‏ ‏فرجة‏ ‏الصياد‏ “شخرة” ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏القادم‏ ‏من‏ ‏الإسكندرية‏ ‏على ‏أنها‏ ‏خرجت‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏قلة‏ ‏الأدب‏، ‏لكن‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى ‏شرح‏ ‏الموقف‏  ‏بـ‏ “… إنه‏ ‏إسكندرى،..‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏عادات‏ ‏البلد‏، ‏والشخر‏ ‏عندهم‏ ‏كالتنفس‏ ‏عندنا…‏”. (ص176)

(2) كان‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏أخلاق‏ ‏عفت‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ ‏داود‏ ‏وأخلاق‏ ‏أهل‏ ‏زوجها‏ ‏صارخا‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏تحدث‏ ‏مضاعفات‏ ‏جسيمة‏، ‏ربما‏ ‏لاستسلام‏ ‏عامر‏، ‏فهل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعتبر‏ ‏أخلاق‏ ‏عفت‏ ‏من‏ ‏أخلاق‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى ‏المعنية‏ ‏بالإشارة‏ ‏هنا‏؟‏ ‏الجواب‏ ‏عندى ‏أن‏: ‏نعم‏، ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏هذه‏ ‏الصراحة‏ ‏فى ‏المواجهة‏ ‏من‏ ‏الفريقين‏ ‏تنفى ولو جزئيا ‏عن‏ ‏أخلاق‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى ‏غلبة‏ ‏النفاق‏ ‏والجبن‏ ‏والوصولية‏ ‏الخبيثة والتعصب‏ كما شاع.

(3) ظهر‏ ‏فى ‏البيت‏ ‏الواحد‏ ‏تناقضات‏ ‏بادية‏ ‏فى ‏الأخلاق‏ ‏والطباع‏، ‏وأظهر‏ ‏مثال‏ لذلك‏ ‏شاكر‏ ‏عامر‏، ‏وفايد‏ ‏عامر‏، ‏وأيضا‏ ‏سليم‏ ‏قابيل‏ ‏وحكيم‏ ‏قابيل.‏ ‏

(4) لم‏ ‏يدمغ‏ ‏النص‏ ‏الاختراقات‏ ‏التى ‏تسمى ‏عادة‏ ‏غير‏ ‏أخلاقية‏ ‏بما‏ ‏يحقرها‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏مصاحبة‏ ‏بقدر‏ ‏من‏ ‏المغامرة‏ ‏أو‏ ‏الحرية‏ ‏أو‏ ‏الثورة‏ فمنذ‏ ‏أول‏ ‏فقرة‏، ‏دافع‏ ‏عن‏ ‏زواج‏ ‏الدكتور‏ ‏عبد‏ ‏اللطيف‏ ‏الذى ‏اقترح‏ ‏طبيب‏ ‏العيون‏ ‏الجار‏ ‏استدعاءه‏ ‏لعيادة‏ ‏الطفل‏ ‏أحمد‏، ‏حين‏ ‏اعترض‏ ‏عليه‏ ‏عمرو‏ ‏أفندى ‏عزيز‏ ‏قائلا‏:‏ “‏ولكنه‏ ‏متزوج‏ ‏من‏ ‏بمبة‏ ‏كشر”، فيرد‏ ‏طبيب العيون‏ ‏الجار‏ ‏قائلا‏  ‏“…بمبة‏ ‏كشر‏ ‏لم‏ ‏تُنسه‏ ‏الطب‏ ‏يا‏ ‏عمرو‏ ‏افندى…”. (ص 8)

(5) ثم نرى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بليغ‏ ‏معاوية‏ ‏القليوبى: “…‏وقد‏ ‏راح‏ ‏يسكر‏ ‏ويقصف‏ ‏لكنه‏ ‏ينجح‏ ‏ويتاجر‏ ‏ويتزوج‏ ‏ويخرج‏ ‏ابنه‏ ‏ويربيه‏ ‏ويتعهده‏ ‏ويباركه‏ ‏حتى ‏يراه‏ ‏من‏ ‏كبار‏ ‏القضاة‏، ‏وهو‏ ‏لم‏ ‏يكف‏ ‏عن‏ ‏الشرب‏ ‏أبدا‏ ‏حتى ‏تليف‏ ‏كبده…”‏. (ص 34)

(6) أما‏ ‏سرور‏ ‏عزيز‏ ‏المصرى ‏فعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏بدايته‏ ‏اللذية‏، ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏خلافاته‏ ‏مع‏ ‏زوجته‏، ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏خيالاته‏ ‏وأحلامه‏ ‏وتهديده‏ ‏إياها‏ ‏بالزواج‏ ‏ثانية‏ ‏فهو‏ ‏لم‏ ‏يخن‏ ‏زوجته‏ ‏إلا‏ ‏مرتين:‏ ‏واحدة‏ ‏فى ‏بيت‏ ‏من‏ ‏بيوت‏ ‏البغاء‏، ‏والأخرى ‏علاقة‏ ‏عابرة‏ ‏لم‏ ‏تدم‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أسبوع‏.‏

(7) إلا‏ ‏أن‏ ‏ابنه‏ ‏لبيب‏ ‏سرور‏ قد ‏حقق‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يتطلع إليه‏ ‏أبوه‏، ‏فبعد‏ ‏نبوغه‏ ‏المبكر‏ ‏جدا‏، ‏وبعد‏ ‏توليه‏ ‏المراكز‏ ‏المرموقة‏ ‏فى ‏سلك‏ ‏القضاء‏، “…‏إذا‏ ‏به‏ ‏يولع‏ ‏بالخمر‏ ‏والنساء‏، ‏فيمارس‏ ‏العربدة‏ ‏والفسق…‏” (ص 189)، ‏لكنه‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏يتزوج‏ ‏من‏ ‏مطربة‏ ‏من‏ ‏الدرجة‏ ‏الرابعة‏، ‏معرفة‏ ‏قديمة‏، ‏ويحج‏ ‏معها‏.‏

(8) أما شاكر‏ ‏عامر‏ ‏عمرو‏ ‏فيتزوج‏ ‏الراقصة‏ ‏الهنجارية‏ ‏التى ‏تعرف‏ ‏عليها‏ ‏فى ‏ملاهى ‏الهرم‏، ‏وهاجر‏ ‏معها‏ ‏وعاد‏ ‏ثم‏ ‏رجع‏ ‏بها‏ . ‏

(9) ‏العلاقة‏ ‏المخترقة‏ ‏التى ‏انتهت‏ ‏بمأساة‏ ‏هى ‏علاقة‏ ‏حسنى ‏محمد‏ ‏سلامة‏ ‏فقد‏ ‏انتهى ‏حبه‏ ‏لعجيبة‏ ‏الراقصة‏ ‏بقتلها‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تزوجها‏ ‏ثم‏ ‏ضبطها‏ ‏مع‏ ‏رشاد‏ ‏الجميل‏ ‏ممثل‏ ‏الأدوار‏ ‏الثانوية.‏

وبعد

فقد‏ ‏أوردتُ‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الاختراقات‏ ‏لأظهر‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏اختراق‏ ‏الأخلاق فى‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ لم يكن جاهزا نشطا خطرا ‏إلا‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏واحدة‏، وهو عادة ‏ليس‏ ‏اختراقا‏ ‏دائما‏ ‏أونقيضيا‏ ‏على ‏طول‏ ‏الخط‏، ‏بل هو‏ ‏كما‏ ‏قدمت حالا‏ ‏اختراق مؤقت‏، ‏يحمل‏ ‏عوامل‏ ‏إنهائه‏ ‏أو‏ ‏الانتهاء‏ ‏منه‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.‏

على ‏أننا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نرصد‏ ‏عدة‏ ‏مستويات‏ وتنويعات ‏من‏ ‏الأخلاق‏، ‏وإن‏ ‏ارتبطت‏ ‏بالبعد‏ ‏السياسى ‏والبعد‏ ‏الثرائى (‏إن‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏) ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت، مما قد نعود إليه لاحقا حين نستكمل الدراسة، فأكتفى حاليا ببضع عناوين مثل:

‏1- ‏الأخلاق‏ ‏الشعبية‏ الوفدية‏، ‏وتمثلها‏ – أساسا – ‏أغلب‏ ‏عائلة‏ ‏عمرو.

‏2- ‏الأخلاق‏ ‏المصرية‏ ‏اللاوفدية‏، (‏الأرستقراطية‏) ‏وتمثلها – أساسا-‏ ‏عائلة‏ ‏داود‏ ‏فعبد‏ ‏العظيم‏ ‏باشا.

‏3- ‏الأخلاق‏ ‏اليوليوية‏ ‏ويمثلها‏ ‏بعض‏ ‏عائلة‏ ‏عطا‏، ‏ومعظم‏ ‏الضباط‏، ‏وخصوصا‏ ‏ضباط‏ ‏الثورة‏ ‏من‏ ‏عائلة‏ ‏عطا.

‏4- ‏الأخلاق‏ ‏الانفتاحية‏ ‏العملية‏ (معظم الشخوص).

‏5- ‏الأخلاق‏ ‏المنعزلة‏ الخصوصية -‏ ‏الأَنَامَاليّة‏ – ‏ويمثلها‏ ‏‏المتفرجون‏ ‏والمنسحبون.

‏6- ‏الأخلاق‏ ‏المثالية، ويمثلها‏ ‏اليساريون‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏وربما المثقف‏ ‏الواحد الذى ظهر من جهة أخرى.

‏7- ‏الأخلاق‏ ‏السهلة‏ (و‏الاستسهالية‏) ‏العملية‏، ‏والمغامرة‏ ‏ويمثلها‏ ‏المغامرون‏ ‏والعشاق.

‏8- ‏الأخلاق‏ ‏الدينية‏ ‏الشعبية‏ ‏وتمثلها‏ ‏راضية معاوية القليوبى‏، ‏وقاسم‏ عمرو عزيز.

‏9- ‏الأخلاق‏ ‏الدينية‏ ‏الرسمية‏ ‏ويمثلها‏ ‏الإخوان‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏وملامح‏ ‏من‏ ‏الأزهريين‏ ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أخرى.

وبعد

انتهى الجزء الأول وقد يليه ما ينبغى، حسب العمر وشطارة من ينقضّ على وقتى من أعمال لا تريد أن تكتمل.

“حديث الصباح والمساء”

 يكشف:

جدل الإنسان المصرى مع ثوراته عبر قرنين ([74])

بدون عنوان-4

 استهلال:

هذا هو الجزء الثانى فى دراساتى النقدية فى رواية حديث الصباح والمساء كما وعدت.

نجيب محفوظ هو الثائر دائما، يحضرنى بالأصالة عن نفسه، والنيابة عن ناسه فى إيقاع حيوى ثورى متجدد لم ينقطع حتى بعد زعم رحيله، وأنا لا أعنى بذلك ما قد يندرج تحت ما يسمى “أدب المقاومة”، وإنما أعنى أساسا معنى: الثورة الإبداع، والإبداع الثورة.

‏ مقدمة:

 “أدب المقاومة” هو ما يقصد به ذلك النوع من الأدب الذى يُشهر فى مواجهة القهر والظلم والسلطة الغاشمة، وقد أخد عدة أسماء على مدار التاريخ فكان يسمى مثلا أدب الجهاد أو أدب النضال…الخ، وقد تناول النقاد بعض ذلك أو أغلبه عند محفوظ بشكل مهم ومناسب بدءًا من كفاح طيبة وحتى قشتمر([75])، هذا النوع من الأدب إنما يقوم بدور إيجابى لا غنى عنه، وخاصة فى المراحل التى يحتاج فيها الناس، وعلى رأسهم المناضلون والمعارضون والمنفذون فى الخطوط الأمامية، أن يكشف لهم ما هو خافٍ عنهم، وأن يتعرفوا على من معهم ومن ضدهم، هذا النوع من الأدب يقوم بالحفاظ على طاقة الدفع وزخم الحماس اللازمين للاستمرار فالاقتحام: فهى الثورة.

قيل فى محفوظ وأدبه فى هذا المجال ما قيل سواء ممن اعتبروه إنسانا مسالما أكثر مما يتوقعون أو يرجون، أو ممن استخرجوا من أدبه بشكل مباشر أو غير مباشر ما يحث على العمل والأمل مما يخدم ويدعم مقاومة القهر، أو تفعيل حركة التثوير المعلن، أو حتى الانتماء إلى فكر بذاته أو طبقة بذاتها([76]) وكان الترحيب والتقريظ عادة يركزان على هذا الدور فى أدبه، وعلى  فضل إيجابياته فى القيام بالدور النضالى، وعلى القدرة على الاستشراف والتنبؤ بالثورة القادمة وكذلك التعاطف مع المقهورين وشد أزرهم وإحياء الأمل فيهم، وكل ذلك ومثله ليس موضوع هذه الدراسة، وإنما موضوعها هو ما أعنيه “بالأدب الثورة” الذى يمثله أغلب أدب محفوظ، فقد وصلنى دائما أن أدبه يتميز بحيوية دافقة ممتدة بأصالة عميقة، عبر ذراعَىْ “الإيقاع الحيوى” أصل الحياة، ومن ثَمَّ كنت – ومازلت- أرى كيف أن موقفه مما هو ثورة أعمق وأشمل كثيرا مما يسمى أدب المقاومة، وكذلك من الأدب “المواكب” لما يعرف بالثورة، ويسمى أحيانا “أدب الثورة”، أدب محفوظ كله أو أغلبه يستحق هذا المصطلح غير المألوف “الأدب الثورة”، وهذا لا يستبعد تصنيف كون بعض أدبه مع أدب المقاومة أو أدب الثورة، كأبدع ما يكون.

الإبداع الحقيقى ليس إلا ثورة كاملة، فهو عملية متكاملة تشمل ما هو إقدام فتفكيك يصل أحيانا إلى حد التحطيم الذى تلحقه اللملمة فإعادة التشكيل فالتخليق، وأهم مثال يوضح ذلك هو عملية إبداع الشعر الحقيقى فى تعامله مع اللغة، وهذا ينطبق على أى نوع من الإبداع الاختراق الخلاق، وفى حوار لم أعثر على مصدره حتى الآن أذكر أن أدونيس رد على توفيق الحكيم حين قارن دور “رجل القلم” بدور “رجل العمل”، وفضل الثانى على الأول فى فاعليته للتغيير، فرد أدونيس عليه أن الشعر الشعر – مثلا – هو “فعل فى ذاته”، وليس رسما لفعل آخر منفصل عنه، وأذكر أن أدونيس ميـّز بين “شعر الثورة”، وهو الشعر الذى يسبق ويحفز ويحضر ويواكب ِأية ثوره جماعية أو مقاومة شعبية، و”الشعر الثورة” الذى هو فى حد ذاته ثورة مغيّرة بالضرورة، ولعل هذا هو ما يضع شعر التحريض، مع الاعتراف بدوره “المفيد” فى الإثارة والتهييج والتجميع والدفع، فى موقع متواضع بمقياس زخم الإبداع وعمقه فى “الشعر الثورة”([77]).

على هذا الأساس استقبلت أغلب أعمال نجيب محفوظ بفاعليتها المغيّرة التى تعيد تشكيل الواقع وهى ترسم واقعا إبداعيا أكثر تعرية وأقدر اختراقا، وهو ما اسميته “الواقع الإبداعى” الأكثر واقعية من كل مستويات ما هو واقع آخر.

محفوظ فى ثورات ابداعه يتناول بتوازن دقيق طورى الثورة فى تلاحق فعال، وتناسب مبدع، وهو يحقق ذلك بأن يعتنى بذراع الإعداد والتلقيح والتراكم والحمْـل نفس عنايته بالاستعداد بذراع المخاض لولادة ناجحة حين تحين ساعة البعث فيخرج المولود جديدا إلى النور بعد حمْل ناجح: فهى الثورة المعلنة.

 تأكد لى هذا الفرض بالذات فى هذه الرواية العبقرية “حديث الصباح والمساء”، وهى تتناول طور التفاعل والامتلاء والإعداد من دورات الإيقاع الحيوى التى تمثل الثورة المتكاملة بعض تجلياته.

حديث الصباح والمساء: ثورة مكتملة

يمثل هذا العمل إحدى هذه الثورات الإبداعية التى لابد أن تفيقنا لتدفعنا إلى بداية جديدة بالغة التحدى، وقد وصلتنى الرواية قصيدة حديثة تكشف أغوار نفوس عينة ممثلة للشعب المصرى بطول أكثر من قرنين، احتواها وعى محفوظ الخلاق وهو يتقمص تاريخها كله تقريبا، دون التركيز على الذراع الظاهر لانتفاضات محددة مما يسمى عادة “الثورة”، بل لعل العكس كان صحيحا، فقد كان العمل كله معايشة لحركية وعى هؤلاء الناس الممتد بين هذه الثورات التى مرت بهم، وتفجرت منهم الواحدة تلو الأخرى، وجدلهم معها.

وبعـد

فى الجزء الأول الذى ظهر فى العدد الماضى من هذه المجلة الغراء([78]) أشرت إلى أنه دراسة نقدية متعددة الأجزاء، كما اعترفت بعجزى عن تحديد عدد الأجزاء التى سوف تحتاجها، وقد أوضحت فى هذا الجزء الأول كيف تعاملت مع هذا النص البديع باعتباره تفعيلا أمينا لتاريخ مصر كما سُجل فى وعى هذا المبدع الفذ، معتبرا أنه رصدٌ لتاريخ جماعة المصريين، بمصداقية أكثر من مزاعم التاريخ المكتوب بما فى ذلك “علم التاريخ”، كما تحدثت عن الجغرافيا البيولوجية التاريخية والإبداع، ثم عن تحديات الذاكرة التخليقية حين تضطر المتلقى أن يتلقى أمانة النص بنفس الاتساع الذى ترامى فيه فاحتواه أثناء حمل فولادة هذا العمل الذى وصلنى باعتباره “سيرة ذاتية جماعية” حالة كون المبدع منتميا لناسه وزمانه حتى أصبح هو نفسه ممثلا للوعى الجمعى فى فترة بذاتها، بحيث يمكن أن يقال أنه لم يكن إلا ماهو “نحن” وهو يكتب هذه الرواية التى يتناسب نجاحها فى تصويرنا مع قدرته على الإمساك بأطراف هذه السيرة الجماعية ما أمكن ذلك، ينسجها من جديد بإبر إبداعه الفائقة، وقد حقق ذلك بشكل بالغ الروعة.

وصلتنى رواية حديث الصباح والمساء أساسا على انها تاريخ حركية الطبقة المتوسطة المصرية عبر قرنين من الزمان، وقد حضرتْ مستعرضة فى “هنا والآن” حين فردها نجيب محفوظ بهذا الترتيب الأبجدى ليتجول إبداعه فى ملعب الزمن حاضرا ذهابا وجيئة كما شاء كيف شاء، حتى استطاع أن “يرسم” – أكثر منه “يحكى”- ناسه مستعرضين على مساحة لوحة زمنية مترامية الأبعاد، فظهرت هذه الرواية المعجزة وكأنها “مصر قد حضرت فى وعيه بكل هذا الاتساع والتحدى” لنشاهد “اللوحة ممتدة متداخلة بكل هذا الجمال”.

عرضت فى ذلك الجزء الأول بعض الفروض التى حضرتنى من العمل مثل: طبيعة الذاكرة الإنسانية، وروعة وزخم وعمق ما هو “عادى” بمعنى غير ما وصلنا حتى من الثلاثية أو من  “حضرة المحترم”، ثم أشرت إلى ملامح الخطوط العريضة المشيرة إلى تشكيلات التدين فى هذا الشعب فى هذه الحقبة، ثم إلى تراكيب تعقيدات وأفراح واختراقات المؤسسة الزواجية وكذلك تشكيلات التباديل والتوافيق فى القيم والأخلاق التى سادت عبر هذين القرنين، حتى أنهيت هذا الجزء بأنه: “انتهى الجزء الأول وقد يليه ما ينبغى حسب العمر والفرص” ثم جاء هذا العدد الخاص  فحدد لى الجزء الثانى من هذه الدراسة، ليكن عن “الثورة”.

الثورة فى حديث الصباح والمساء

قلت حالا إن أغلب إبداع محفوظ هو ثورة فى ذاته بذاته، وقد تجلت كل مواصفات الثورة فى نقلات محددة فى تاريخ إبداعه، وهذا غير تقسيم مراحل إبداعه إلى مراحل متعاقبة: تاريخية واجتماعية وواقعية ونفسية وفلسفية، وهو ما أتحفظ عليه([79]). محفوظ يفاجئنا بين الحين والحين بشكل جديد غير مألوف عن سابق إبداعه، وغير مألوف أيضا من غيره، وهو كذلك غير مألوف لنا ونحن نتلقاه، ولا أحسب أنه يفعل ذلك قاصدا بقدر ما يكون قد آن الآوان، وتراكم المحتوى، وتقلبت الحركة، واكتمل الحمْل، حتى حان وقت وضع المولود الجديد، حين تملى ظروف الواقع ما يتطلب ظهوره، ليساهم فى التغيير فتتجلى النقلة، فهى الثورة.

حدث هذا – مثلا – حين فاجأنا بأصداء السيرة الذاتية، كما حدث فى أحلام فترة النقاهة، فكانتا عينتان مميزتان لتغيير الشكل الذى ترتب عليه ما وصَلَنا من ثوريه المضمون القادر على الاقتحام المباغت المدهش المغيِّر، لكننى لم أكن منتبها إلى عمق ثورية هذا العمل الحالى – حديث الصباح والمساء- بشكل كاف.

هذا الحديث الجارى صباح مساء هو ثورة إبداعية بالمقاييس التى بيّناها حالا، وأرى أنه ثورة أكثف زخما وأبلغ تحديا من كل ثورات إبداعه، ربما فيما عدا أحلام فترة النقاهة التى وصلتنى: سلسلة من انتفاضات برق خاطف تجمعت بطبيعتها فى تشكيل بديع متكامل، هو الثورة أيضا بكل مواصفاتها السالفة الذكر.

لم تبلغنى من أولاد حارتنا حدة النقلة الثورية اللهم إلا فى شجاعة الإقدام وأمانة التمثيل، وفى الثلاثية جاء رصد الأحداث بالطول يمثل الضلع التراكمى المسلسل الظاهر المستوعب للأحداث فى تسلسل نابض لكنه لا يحمل معالم النقلة الثورة.

ثورات الجماهير إبداع جماعى:

ثورات الجماهير عبر التاريخ هى إبداع جماعى بالمعنى الذى بيّناه فى علاقة نبض الوجود بالإيقاع الحيوى، فهى تمر بكل مراحل الإبداع بدءًا بالاستيعاب النشط، ومن ثَمَّ تراكم رسائل “الحركة”، و”النقد”، و”الرفض”، و”الحفز”، و”التقليب”، و”التعتعة”، و”الإعداد” على كل مستويات الوعى، ثم تأتى مرحلة “الاقتحام” لتفكيك القديم الراسخ، ثم مراحل احتمالات التهديد بالتفكيك العشوائى، ثم مرحلة إحاطة التناثر بالتأليف والتوليف وإعادة التشكيل فالتغيير، ثم يُعلن التغيير النوعى الكلى عادة، فى عمل جديد متاح، ونحن عادة لا نسمى الإبداع إبداعا إلا بعد نجاحه فى الوصول إلى المرحلة الأخيرة وهى المرحلة التى يتم فيها تجميع كل هذا فى الناتج البديع فى متناول المتلقى والتاريخ، بمعنى أننا لا نتعرف على ناتج الإبداع، وقد لا نحسب للمبدع، إلا ما يظهر منه فى مرحلة البسط التشكيلى الختامية مع درجات مختلفة من التركيز على غير ذلك، كذلك نتعامل مع مشاريع ثورات الناس وناتجها المتكامل أو المجهض، بنفس اللغة ونفس المقاييس.

 نجيب محفوظ، فى هذا العمل جعلنا نعيش مراحل الإعداد والجدل ما بين ثورة وثورة وكيف يتشكل وعى الأفراد فالوعى الجمعى فى مراحل الاستيعاب والإدراك والتلقى والنقد والحوار طول الوقت، حتى يخرج علينا فى الثورة التالية، مهما طال الزمن.

الحمل بالثورة، والملء للبسط

الذى يحدث فى طور الإعداد والجدل للامتلاء هو تفاعل ممتد من أغلب الناس (أو كل الناس) لإنتائج ثورة تنموا فعلا فى رحم الشعب، وهذا التفاعل يشمل حوارا وتفعيلا وجدلا وقبولا ورفضا ومحاولات هدم وإعادة نظر بشكل لا يشترط ظهوره فى سلوك بعينه أو وعى ظاهر، يحدث ذلك دون استثناء فى الشعوب الحية التى تقوم بنقد ثوراتها أو مشاريع ثوراتها، فتصحيحها والإضافة إليها، فيتم الحفاظ على إنجازات الثورة التى قامت، وفى نفس الوقت يبدأ الحمل، بالثورة القادمة، وهكذا. المبدع المتابع لحركية التاريخ للتعرف على أبعاد تطور وعى قومه قادر على أن يرصد كل ذلك ليكشف عن ما تيسر له من حركية تميز طورىْ الثورة ما أمكن ذلك، فهو لا يكتفى بالتركيز حصريا على طور البسط الذى نسميه  عادة –  دون ما يسبقه – “ثورة”، ولكنه يساهم فى أن يقدم ناسه لناسه بما هم، وكيف تحرك وعيهم أثناء ما يجرى من إعداد لدفع النبضة التالية (الثورة القادمة، وهكذا)، تماما مثل القلب إن لم تدرس العوامل التى تؤدى إلى ملء القلب بالدم، لتوفر القدر اللازم من الدم العائد من كل الجسم إلى القلب بدرجة كافية فلا فائدة من انقباض عضلة القلب لأنها لن تدفع أمامها إلا الفراغ.

فى حديث الصباح والمساء نجيب محفوظ قدم لنا هذا الجانب الآخر من الثورة: جانب الإعداد والملء بما فيه من جدل ونقد ورفض وتأييد وإقدام وإحجام وتنويعات من التفاعلات المتداخلة المكثفة بلا حصر، وهو لم يتوقف عند ثورة بذاتها يصفها أو يمدحها أو يذم خائنيها أو يبكى على فشلها، كما أنه لم يركز على حركة مقاومة بذاتها لها دورها ودلالتها، وإنما هو قدم عينة ممثلة لتفاعلات شعب بأكمله، بأغلب التباديل والتوافيق المحتملة، تركيزا على الطبقة الوسطى، بما فى ذلك من انتقل فيها أمام أعيننا إلى أعلى بالصدفة أو بالشطارة، وإلى درجة أقل تواترا: إلى أدنى، وكأنه ينبهنا إلى أهمية ودلالة ما بين الثورات: لنحسن الإعداد والاستعداد.

سوف أحاول أن أعرض ما تيسر من هذه التفاعلات التى قدمها محفوظ فى هذا العمل بالطول والعرض عن الثورات المصرية التى حدثت عبر قرنين من الزمان، مع التذكرة بأن العمل لم يحتو بطلا واحدا تدور حوله الأحداث، ولا هو توقف عند ثورة بذاتها، بل إن ذكر الثورات جاء فى الخلفية دون واجهة الأحداث، مقارنة بحضور الأفراد الشديد الثراء، مهما ضاقت مساحة سِيـَرهـِمْ، وكأنى افترض أن هذا العمل يكشف لنا تفاعل الأفراد على اختلافاتهم الفردية مع الثورة التى يتصادف أن يعايشوها، ومدى تنوع ذلك وكذلك فائدة الوعى بحركيته الجدلية.

يعرض هذا العمل عينة ممثلة من أفراد هذه الطبقة الوسطى أساسا، بكل نبض وعيها للثورات المختلفة فى هذا الزمن الممتد، وذلك بأن يقدم الاختلافات الدالة من أقصى الفُرْجَة والتهمييش، إلى غاية الحماس والتقديس مرورا بالتحفظ، والحقد، والانتهازية، والانسحاب، والحسرة، وذلك بالنسبة لمعظم ما ورد من ثورات، مع تحيز متوقع لثورة 1919، ونقد موضوعى-غالبا- تجاه ثورة يوليو 1952، هذا علما بأن موقف محفوظ من هاتين الثورتين بوجه خاص قد نوقش باستفاضة بصفة عامة فى أعمال ([80]) وحوارات ([81]) سابقة.

ثورات وثورات:

أولاً: ثورتا القاهرة الأولى والثانية،

أول ما جاء التلميح إلى ما هو ثورة كان فى سيرة آخر شخصية أبجدية “يزيد المصرى” مع أنه هو هو رأس أضخم عائلات الرواية:

ابتداء ملأنى العجب من هذه المقابلة بين وصول يزيد المصرى إلى القاهرة ووصول الحملة الفرنسية، ثم تحديد التوقيت بأن “هذا” كان قبل “ذاك” بأيام، “وصل إلى القاهرة قبل وصول الحملة الفرنسية بأيام” (ص216). فوصلنى مباشرة ما رجحته من أن هذه الرواية، إنما تقدم لنا من هو إنسان مصرى فرد (عادى) أساسا، على قدم المساواة، وربما أهم، من الخلفية الماثلة فى مسرح الأحداث مهما بلغت ضخامتها وسمعتها، سواء كانت حملة أو غزو، أو ثورة مقاومة عامة وتحرير شامل، رحت أراجع هذه المقابلة بين وصول الحملة الفرنسية إلى القاهرة مع وصول يزيد المصرى “إلى القاهرة أيضا”، فتأكدت من الرسالة التى وصلتنى بما لا يحتاج إلى مراجعة، ثم تأكد لى هذا الفرض أكثر حين رحت أتأمل خلفية مشهد آخر وهو يصف ابنىْ يزيد: عزيز، وداود، وكيف أن الحملة الفرنسية كانت أيضا تمثل نفس الخلفية “‏وجاءت‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ ‏وذهبت‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يبلغ‏ ‏الشقيقان‏ ‏الوعي‏ ‏فمر‏ ‏بهما‏ ‏نابليون‏ ‏بونابرت‏ ‏كما‏ ‏يمر‏ ‏بياع‏ ‏الفجل‏ ‏أو‏ ‏بياع‏ ‏الدوم” (ص 152)، هذا ليس تهوينا لحضور أو تأثير الحملة الفرنسية، ولا هو مرتبط أساسا بحداثة سن الطفلين، ولكنها علامة أخرى تعطى ضمنا إشارة إلى أهمية مركزية لطفلين لم يبلغا الوعى وهما يلعبان على خلفية هذا الحدث الضخم (الحملة الفرنسية) ثم يتأكد لى هذا الفرض من جديد ونحن نرصد مجلس والديهما وصديقيه، فقد أحضرهم محفوظ جلوسا على “مقهى الشربينى بالدرب الأحمر” حيث يجتمع الأصدقاء الثلاثة، “الشيخ القليوبى، ويزيد المصرى، وعطا المراكيبى” ليرسم لنا فى الخلفية (الأرضية)، نابليون وهو يسير على رأس جنوده أمام المشهد الحسينى، ‏‏وشهد‏ ‏الرجال‏ ‏نابليون‏ ‏بونابرت‏ ‏على ‏جواده‏ ‏وهو‏ ‏يسير‏ ‏على ‏رأس‏ ‏جنوده‏ ‏أمام‏ ‏المشهد‏ ‏الحسينى‏” (ص 160) ليس معنى ذلك أنه يشير إلى موقف لامبالاة بالحدث العام، لأنه يقر أن الثلاثة عاصروا الحملة كلها بما فى ذلك ثورتى القاهرة، ثم يلحق ذلك مباشرة بأن يزيد شخصيا “كاد يهلك” فى الثورة الثانية، وهذا دليل على أنهم لم يكونوا بعيدين عن الأحداث، ولكن هذا لم يلزم الكاتب بتحديد دور أى منهم بالتفصيل ولا حتى دور يزيد الذى كاد يهلك، يا ترى مشاركا ثائرا، أم مواطنا مُجتاحاً.

يتأكد ترجيح التركيز على تفاعلات الفرد/الأفراد فى طول الرواية وعرضها كشكل أساسى، على خلفية الثورات الواحدة تلو الأخرى حين يأتى وصف مواز لموقف أحد الأحفاد يذكرنا بمرور الثورة الفرنسية أو مرور نابليون على الجالسين على مقهى الشربينى وذلك حين نقرأ: كيف مرت ثورة 1919 على حليم عبد العظيم داود “كأنها فيلم مثير يشاهده فى إحدى دور العرض” (ص 74) لأنه قرر أن يعيش حياته لاهيا متفرجا، والتاريخ – بما فى ذلك ثورة 1919- هو الخلفية، ويتأكد أيضا نفس الفرض حين يأتى ذكر علاقة راضية معاوية القليوبى بثورة 1919 وهى تشاهدها من مشربية بيتها العتيق، وكأنها تشاهد زفة مولد تمر بالشارع للفرجة، مع أنها هى التى اعتبرت سعد زغلول وليا من أولياء الله وقد‏ ‏شاهدت‏ ‏ثورة‏ 1919 ‏من‏ ‏مشربية‏ ‏بيتها‏ ‏العتيق‏، ‏وسجلت‏ ‏فى ‏قاموسها‏ ‏الخالد‏ ‏وليا‏ ‏جديدا‏ ‏اسمه‏ ‏سعد‏ ‏زغلول” (ص94)، وخافت على عمرو (زوجها) أن يسجنوه مثلما سجنوا الشيخ معاوية القليوبى “هل يسجنونه كما سجنوا الشيخ معاوية؟” (ص94).

لا مجال للحديث أكثر عن أى من ثورتى القاهرة على الرغم من أن يزيد المصرى كاد يهلك فى إحداهما كما ذكرنا، مع أنه لا يمكن أن نستبعد ما ترسَّخ فى أعماق من “عاصروهما” تمهيدا وإعدادا لثورة عرابى، فهما ثورتان لا تُذكران بالقدر الكافى فى تاريخنا المعاصر وربما أيضا ليس بالاحترام الكافى لتاريخ هذا الشعب، مع أن الناظر إلى بعض التفاصيل لابد أن يلمح شبها ما بين كل منهما وما حدث فى بدايات مشروع ثورة يناير 2011 مؤخرا، ولو أن محفوظ عاش ثورة يناير، وهو يستحضر ثورة القاهرة الأولى (20 أكتوبر 1798) والثانية (30 مارس – 20 إبريل 1800)، فربما أوصل لنا بطريقته البديعة وجه الشبه بشكل ما، ففى ثورة القاهرة الأولى 20 أكتوبر 1798: كان من أهم أسباب الثورة: فرض الفرنسيين للضرائب الباهظة خاصة على التجار على عكس وعود نابليون عند قدومه لمصر،  كما قاد الأزهر وشيوخه الثورة وقام التجار بتمويلها وأقيمت المتاريس في المدن، وحينما اشتعلت الثورة قتل الكثير من المصريين والفرنسيين، كذلك حكم على ستة من شيوخ الأزهر بالإعدام، واقتيدوا إلى القلعة، حيث ضربت أعناقهم ثم انتشلت أجسادهم إلى أماكن مجهولة، كذلك جاء فى بعض مشاهد ثورة القاهرة الثانية، 21 أبريل 1800 (= 16 ذى القعدة 1214 هـ) كيف احتشد جمع اخر وصاروا يطوقون الجنود الفرنسيين بالأزقه والحارات وهم يرددون الهتافات المعادية للفرنسين وعلى رأسهم “كليبر”، ثم اشتبك الثوار مع طوائف الأقليات في معارك راح ضحيتها عديدون من نصارى القبط والشوام وغيرهم، وتحصن الفرنسيون بمعسكرهم بالأزبكية، إذن: من قديم واللعبة سارية، بما فى ذلك الجمع بين شق عنصرى الأمة: الحكاية هى هى!!

ثانياً: ثورة محمد على:

ذكر محفوظ ولاية محمد على باعتبارها “ثورة إصلاحية” هذا ماجاء فى المتن  بالنص كالتالى: “وعاصروا‏ ‏ (الأصدقاء الثلاثة) بعد‏ ‏ذلك‏ ‏ولاية‏ ‏محمد‏ ‏على ‏ومذبحة‏ ‏المماليك‏. ‏و الثورة‏  التى أحدثها فى البلد وأهلها” (ص160) ([82])، فقد نبهنى هذا الوصف المقصود إلى استعمال جيد آخر لما هو “ثورة” حيث استطعت أن استنتج منه اعتراف محفوظ بنوع آخر من الثورات حين يقوم الحاكم نفسه بثورة لا يفرضها على ناسه بقدر مايستلهمها منهم لتكون ثورة موازية للثورة التى قد يبدأها الناس، ربما بما يقابل ما قام به عبد الناصر من تثوير “حركة يوليو” المرة تلو الأخرى، وفى رأيى أن مثل هذه الثورات هى ثورات بحق، حتى لو جاءت من أعلى إلى أسفل وليس العكس، وعلى الرغم من أن محفوظ لم يربط بين ثورة محمد على وثورة عبد الناصر، ولو فى وعى أحد المعمرين، إلا أن التوازى وصلنى بشكل إيجابى لصالح الاثنين معا.

ثالثاً: ثورة عرابى:

بدأت الإشارة إلى ثورة عرابى فى سيرة جليلة الطرابيشى التى “عمرت حتى جاوزت المائة”(ص 42) فهى تعتبر مرجعا تاريخيا فى ذاتها بذاتها، ليست بمعنى رصد الأحداث وإنما بمعنى استلهام التفاعلات وفهمها من حضورها، فقد عاصرت فترة من حكم محمد على وعهود إبراهيم عباس وسعيد وإسماعيل وتوفيق والثورة العرابية، ولم يرسب فى أعماقها سوى الثورة العرابية التى اعتبرت زوجها من أهم رجالها”، ثم يصف محفوظ اختلاط صورة عرابى فى رأسها بعنتره والهلالى وآل البيت إكراما لذكرى الشيخ معاوية، فأجد فى ذلك إشارة باكرة إلى تمازج الثورات المصرية وأبطالها بالدين الشعبى (باستثناء ثورة يوليو)([83]) بشكل أو بآخر، وامتد هذا البعد فى ابنتها راضية “سيدة الأسرار الغيبية” التى أضافت لها “… الفخر ببطولة أبيها الذى بفضله جعلت من عرابى وثورته أسطورة ذات كرامات وخوارق تداخلت فى كرامات البدوى وأبى العباس وأبى السعود والشعرانى وامتزجت بعنتره ودياب وإناث الجن وذكورهم والسحر والتمائم والأحجبة والبخور والرقا(ص 93، 94).

جاء ذكر ثورة عرابى أكثر فى سيرة معاوية القليوبى “ولما‏ ‏قامت‏ ‏الثورة‏ ‏العرابية‏ ‏تحمس‏  ‏لها‏ ‏الشيخ‏ ‏ومال‏ ‏إلي‏ ‏تيارها‏، ‏وأيدها‏ ‏بالقلب‏ ‏واللسان،‏ ‏ولما‏ ‏فشلت‏ ‏الثورة‏ ‏واحتل‏ ‏الإنجليز‏ ‏مصر‏ ‏قبض‏ ‏عليه‏ ‏فيمن‏ ‏قبض‏ ‏عليهم‏ ‏وقدم‏ ‏للمحاكمة‏ ‏فقضت‏ ‏عليه‏ ‏بالسجن‏ ‏خمسة‏ ‏أعوام‏. ‏وراحت‏ ‏جليلة‏ ‏تطوف‏ ‏بأضرحه‏ ‏الأولياء‏ ‏داعية‏ ‏على‏ ‏الخديوى‏ ‏والإنجليز”، ولا يفوت نجيب محفوظ أن يرصد انتكاسة أغلب الوعى الشعبى بالنسبة لهذه الثورة وتنكره لإيجابياتها كما جاء فى سيرة معاوية القليوبى وهو يحكى: “‏وغادر‏ ‏الشيخ‏ ‏معاوية‏ ‏السجن‏ ‏ليجد‏ ‏نفسه‏ ‏في‏ ‏دنيا‏ ‏غريبة‏، ‏فلا‏ ‏أحد‏ ‏يذكر‏ ‏الثورة‏ ‏أو‏ ‏أحدا‏ ‏من‏ ‏رجالها‏، ‏أو‏ ‏تذكر‏ ‏بعض‏ ‏الأسماء‏ ‏مصحوبة‏ ‏باللعنات‏، ‏ولم‏ ‏يجد‏ ‏عينا‏ ‏تنظر‏ ‏إليه‏ ‏بعطف‏ ‏سوى‏ ‏عين‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى‏ ‏صديقه‏ ‏القديم‏ ‏وناظر‏ ‏سبيل‏ ‏بين‏ ‏القصرين”‏. (ص 205).

وهكذا يرصد محفوظ احتفاء الناس بالثورة العرابية، والتعلم منها، والفرحة بها، ثم الأسى للخيانة التى كسرتها، والنكسة الشعبية الجزئية فى استيعاب آثارها بشكل لم نستوعب مغزاه بالدرجة الكافية حتى الآن.

رابعا: ثورة 1919

لم يخفِ محفوظ أبدا علاقته الحميمة بثورة 1919 بكل ما يحمل لها من عواطف حميمة لا مثيل لها، لا فى أحاديثه العادية، ولا فى حواراته للنشر ولا فى إبداعه، الأمر الذى كاد يصل إلى حد التقديس لزعيمها سعد زغلول، والحب الشديد لخليفته مصطفى النحاس، ولا يحتاج الأمر للإشارة لما سجل بقلمه شخصيا مثلا فى “أمام العرش”، أو فيما أدلى به، أو كتبه عنه، مثلا: فى كتاب رجاء النقاش “صفحات من مذكراته” أو مصطفى عبد الغنى “الثورة والتصوف”([84]).

لا عجب إذن إذا نحن رصدنا كيف حضرت هذه الثورة فى وعى عدد هائل من أفراد أجيال هذه الرواية وقد بدا واضحا تحيز الكاتب لها باعتبارها الثورة الحقيقية ضد قاهر أجنبى ومحتل ظالم وقاس، هو ومن يتحالف معه، وتراوح هذا الترحيب والقبول والإعجاب فيما وصفها به وخاصة تفاعل الناس نحوها بأوصاف عاطفية رقيقة وعميقة من أول “الدفء” حتى “التقديس” مرورا “بالحب” والودّ و”الطمأنينة” بل و”العشق” لزعيمها، وفى نفس الوقت لم يغب عن محفوظ أن يرصد عددا من مواقف “الفرجة”، و”الموافقة عن بعد” أو النقد الذى مهد للانشقاق عنها، ولو تحت رايتها، ثم تناول محفوظ مآل هذه الثورة داخل وخارج أغلب الناس، حيث ظلت بصمات هذه الثورة الحبيبة باقية راسخة فى عمق وعى أكثر الأحفاد بأسم “الوفد” أو “الوفدية” أو صفة “السعدى” أو “السعديين” حتى عند بعض أولئك الذين اضطروا لمجاراة ثورة يوليو ظاهريا.

المتابع لحضور ثورة 1919 فى هذه الرواية لابد أن يصله مدى حب محفوظ لهذه الثورة وانتمائه لها حتى آخر لحظة فى حياته، ولم يكن هذا الحب لشخص سعد زغلول فحسب، وإنما للثورة نفسها، ولمصطفى النحاس أيضا، ولا تخفى علاقة محفوظ الحميمة والحبيبة بهذه الثورة فى أعمال أخرى أيضا وخاصة بين القصرين، كما ستأتى الاشارة فى مقارنة استشهاد فهمى السيد عبد الجواد فى بين القصِّرين وأمير سرور عزيز هنا، وقد جاء نقد هذه الثورة رقيقا ناعما ملحوقا بالدفاع عنها ما أمكن ذلك (كما كان الحال فى أمام العرش).

الثورة الأسطورة والشهادة اللاحقة:

وقد قدم محفوظ شهيدا شابا لقى ربه فى مظاهرة لا تتعلق مباشرة بثورة 1919 وإنما بامتداها، وهو أمير سرور عزيز: “فقد عرف ثورة 1919 “كأسطورة” من المظاهرات والمعارك والقصص فترعرع سعديا وطنيا مؤمنا” (ص 25) وإن كان لم يشارك فيها إلا بعد رحيل سعد، “اشترك فى المظاهرات التى قامت احتجاجا على دكتاتورية محمد محمود وأصابته هراوة لبث بسببها فى المستشفى اسبوعين” (ص 26) ولم يستمع لنصح أقاربه ضباط الشرطة الذين يشغلون مراكز حساسة فى الداخلية، كما لم يهتم أن يعرف أن اسمه على رأس قائمة سوداء فى الداخلية، ولم يستمع لنصح شقيقة لبيب وهو يحاول أن يحد من اندفاعه فيرد قائلا: ” قد عرفت سبيلى ولن أتراجع عنه (ص 28)… إلى أن استشهد… “فى طوفان المظاهرات التى قامت احتجاجا على إلغاء دستور 1923 أردته رصاصة قتيلا فى شارع محمد على (ص 28).

لا يفوت القارئ المتابع لعلاقة محفوظ بثورة 1919 أن يتذكر استشهاد فهى أحمد عبد الجواد فى بين القصرين، فنتذكر فهمى وهو يتفاخر بنفسه وهو يتمنى أن يقف بين يدى سعد ثم تتوالى خواطره حتى يصور لنا محفوظ استشهاد فهمى بالسرعة البطيئة كما يلى: “ها هى ثكناتهم… أرهف أذنيه لما يدور حوله من دون أن يثوب إلى السكينة، وما هى إلا لحظات حتى دوت قذيفة ثانية …أه.. لم يعد ثمة شك، رصاصة كسابقتها أين استقرت، “ما أسرع ما تفلت منك الذكريات ماذا تريد؟ أن تهتف؟ أى هتاف؟ أو نداء فحسب.. من؟ ما؟ ما فى باطنك يتكلم، هل تسمع؟ …..، …..، لا شئ إلا السماء هادئه باسمة يقطر منها السلام”.

حضرتنى هذه الصورة مكتملة وأنا أتابع استشهاد أمير سرور عزيز ربما لترتبط أيضا باستشهاد شهدائنا على الجانبين فى فبراير 2011، وفى نفس الوقت تميز علاقة محفوظ بثورة 1919، وتقديس الاستشهاد من أجل الوطن وأنه لا ثورة بدون ثمن.                                                                                                                                                                                         

الثورة المعبد

ويكمل محفوظ تقديسة لهذه الثورة فى سياق الحكى عن عامر عمرو عزيز  كالتالى: “….قامت ثورة 1919 ودخل معبدها مع أسرته واشترك فى المظاهرات وهتف من قلبه الصافى يحيا سعد…(ص 141)، لكن يبدو أن عبادة عامر كانت مقتصرة على الابتهال من بعيد، والرصد المتابِع… فقد ابتعد عامر عن النشاط المباشر “وتابع الأحداث حتى قارب التسعين فاستعمله محفوظ لإيجاز سريع لكل الثورات هكذا: طرب لأمجاد يوليو وانكوى بجحيم يونيو، وأفاق فى 15 مايو، وطرب مرة أخرى فى 6 اكتوبر الجليل وانقبض فى 6 اكتوبر الدامية” (ص 144).

دفء الثورة والعواطف الوطنية

توصف الثورات عادة بالغليان والوهج واللهيب والاشتعال وما شابه، لكن أن توصف بالدفء، فهذا وضع خاص يؤكد نوع علاقة محفوظ بهذه الثورة بالذات، هيا نسمعه وهو يقول عن سرور عزيز يزيد المصرى “ولكن ثورة 1919 أودعت قلبه المتمرد قدرا من الدفء” (ص 108) إلى أن قال “وظلت ذكرياتها ومظاهرها عالقة بخياله كأفتن الطيبات” (ص 108)  وكأنه يحكى عن قصة حب وليس عن ثورة، يعود ذكر مثل نفس العواطف ثانية بشكل آخر فى سيرة حامد عمرو يزيد “ولما‏ ‏قامت‏ ‏ثورة‏ 1919 ‏كان‏ ‏حامد‏ ‏فى ‏السنة‏ ‏النهائية‏، ‏وقد‏ ‏مال‏ ‏قلبه‏ ‏إليها‏ ‏بمجامعه” (ص 54)

أيضا: نحن لم نعتد وصف الوطنية بالعواطف هكذا مباشرة، لكن هكذا جاء ذكر ثورة 1919 باعتبارها عواطف غازية غامرة عرضها محفوظ  هنا وكأنه يغازل حبيبته أو يجسد شرابه الخاص: حسناء غاوية يمدحها، ويغازلها فى ود خالص كما جاء فى سيرة حسن محمود المراكيبى “غمرته ثورة 1919 بعواطفها القوية” (ص 64) أو كما يقول فى سيرة عمرو عزيز المصرى نفذت‏ ‏ثورة‏ 1919 ‏إلى ‏عمق‏ ‏قلب‏ ‏سميرة‏ ‏لم‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏مثله‏ ‏فى ‏قلب‏ ‏أى ‏من‏ ‏أخواتها” (ص 114) (وذلك بفضل زوجها حسن قابيل الذى كان يجمع فى قلبه بين الوطنية الصادقة والتدين العميق وينشرهما فيمن حوله)، وكأننا فى عدوى عاطفية وطنية جميلة، (وهذا ما سوف نرجع إلى مقارنته بالموقف من ثورة 1952).

امتد هذا المدّ العاطفى من ثورة 1919 إلى كل ما أسماه وكرره محفوظ “العواطف الوطنية”، ففى سيرة عمرو عزيز المصرى يقول: “واتسع‏ ‏قلبه‏ ‏أيضا‏ ‏للعواطف‏ ‏الوطنية…”“…وأفعم وجدانه فيما بعد بكلمات مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم بلغ قمة انفعاله فى ثورة 1919” (ص 168).

ثم إن محفوظ لا يتوقف عند ذكر الميل والدفء والحب، لكنه يستعمل تعبير “العشق” أيضا حين يقول “… وعشق زعيمها، (سعد)، وتمتد العواطف إلى خليفته…، وتابع خليفته الزعيم مصطفى النحاس بكل وجدانه “وتنقلب المسألة إلى فرح يوزع فيه الشربات” يوم عقد المعاهدة،  “..وعشق‏ ‏زعيمها‏،واشترك فى إضراب الموظفين، ‏وحافظ‏ ‏على ‏ولائه‏ ‏للزعيم‏ – ‏مصطفى ‏النحاس‏ – ‏بكل‏ ‏وجدانه‏، ‏ووزع‏ ‏الشربات‏ ‏يوم‏ ‏عقد‏ ‏المعاهدة” (ص168).

مواقف التعاطف عن بعد والتراجع:

طبعا لم تكن المسألة هكذا حب وغرام وعشق وتقديس عند الجميع على طول الخط، بل ظل فريق متعاطف يترجـّح بين الفرجة والأمل فى التوفيق دون مشاركة حاسمة أو فعالة، أو بالدخول نصف نصف ثم التراجع مثل لطفى سرور عزيز الذى “لم يتأخر عن الاشتراك فى المظاهرات لما اندلعت ثورة 1919 وتوزيع المنشورات” (ص188، 189)، ثم إنه هو هو – فيما بعد – الذى: “لم يتردد فى اعلان ولائه للعرش كموظف كبير أمين” (ص192) أو مثل: حسن محمود المراكيبى، فبعد أن غمرته ثورة 1919 بعواطفها القوية، انشق مثل عائلته “وكان ذلك أوفق لعمله فى الداخلية فلم ينقسم كحامد بين باطن وفدى وظاهر حكومى” (ص64).

يتجلى هذا الموقف المتنقل من التأييد الطيب إلى التراجع المحسوب فى موقفى الأخوين أحمد ومحمود عطا المراكيبى برغم خلافهما واختلافها:

  نبدأ بأحمد عطا المراكيبى وكيف تلقاها وكأنها “قدر طيب” وانقضت‏ ‏عليه‏ ‏ثورة‏ 1919 ‏فهزته‏ ‏من‏ ‏الأعماق”،‏ “كان‏ ‏المد‏ ‏أقوى ‏من‏ ‏أن‏ ‏يفلت‏ ‏منه‏ ‏إنسان”(ص15)، وكان دوره إيجابيا فى حدود مجاله وقدراته “فتبرع لها بعشرة آلاف جنيه مستجيبا لاقتراح أخيه متناسيا وصية قديمة لأبيهما بالبعد عن السياسة”(ص 15)، إذن فلم يكن انتماؤه تلقائيا، ولا ثابتا، ذلك أنه عندما حدث الخلاف بين سعد وعدلى وتشاور الشقيقان (احمد ومحمود) انتهيا إلى أن يكونا “حيث تكون مصلحتهما” وذلك ما عبر عنه محمود بقوله: “انتهت فترة العواطف وجاءت فترة العقل” مما حدى بسرور عزيز أن يقول بسخرية “أقاربنا الأغنياء وهبهم الله مالاً لا يعد، وخسة لا تدانى”(ص15) فكان عدول أحمد المراكيبى إرضاء لأخيه فقال لعمرو آسفا “أصحاب المصالح لا يحبون الثورات يا ابن اختى” (ص 16).

محمود هذا نفسه بدأت علاقته بثورة 1919 عاطفية “ولما‏ ‏قامت‏ ‏ثورة‏ 1919 ‏تحرك‏ ‏قلبه‏ ‏بعاطفه‏ ‏جديدة‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏ومسه‏ ‏سحر‏ ‏الزعيم‏، ‏تبرع‏ ‏ببضعه‏ ‏آلاف‏ ‏من‏ ‏الجنيهات‏، ‏ولأول‏ ‏مرة‏ ‏أيضا‏ ‏يلمس‏ ‏في‏ ‏الفلاحين‏ ‏البسطاء‏ قوة مخيفة‏” (ص199)،  ولكن حين حل العقل محل العواطف وصل الأمر أن يقول لأخيه: “لا ‏ ‏تتصور‏ ‏أن‏ ‏الإنجليز‏ ‏سيغادرون‏ ‏مصر‏ ‏ولا‏ ‏تتصور‏ ‏أن‏ ‏مصر‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تعيش‏ ‏بغير‏ ‏الإنجليز‏” (ص200).

مواقف رافضة وسلبية:

لكن محفوظ اعتبر رفض البعض لهذه الثورة بمثابة رفضهم الانتماء لوطنهم أصلا، وليس رفضا خاصا بثورة 1919 بالذات، وهى ملاحظة أضافت لى أن علاقته بهذه الثورة هى متماهية مع الوطن تماما، فها هو يصف موقف غسان عبد العظيم داود باحتقاره للوطنية أولا، الأمر الذى يفسر فتور حماسه للثورة، ثم انضمامه لجناح الخارجين، نقرأ معاً: “ولعل‏ ‏من‏ ‏أسباب‏ ‏احتقاره‏ ‏للوطنية‏ ‏كان‏ ‏حماس‏ ‏أهله‏ ‏الفقراء‏ – ‏وآل‏ ‏عمرو‏ ‏وآل‏ ‏سرور‏ – ‏لها‏، ‏فلم‏ ‏يتحمس‏ ‏لثورة‏ 1919 ‏فى ‏إبانها‏ ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏لاذ‏ ‏بجناح‏ ‏الخارجين‏ ‏عليها‏ ‏مع‏ ‏أبيه‏ ‏وأسرته‏”‏(ص 171).

كذلك جاء وصف محفوظ لموقف عفت عبد العظيم داود  التى “‏عاشت‏ ‏حياتها‏ ‏وهى ‏تجهل‏ ‏دينها‏ ‏وتراثها‏ ‏جهلا‏ ‏تاما‏، ‏ولا‏ ‏تجد‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏أى ‏انتماء‏ ‏إلى ‏وطنها‏ ‏رغم‏ ‏معايشتها‏ ‏لثورة‏ 1919، ‏لولا‏ ‏تعصب‏ ‏سطحى ‏لموقف‏ ‏أبيها‏ ‏السياسى”(ص 157).

وبعد

لم أجد فى رصد كل هذه التفاعلات وزخم هذا الجدل إلا ما يؤكد ما ذهبنا إليه، مما هو معروف، من طبيعة علاقة محفوظ بثورة 1919، إلا أن الإضافة هنا لا تتعلق به شخصيا وإنما هى تشير إلى أنه فى هذه الرواية يمثل – كما ذكرنا – الوعى الجمعى لناسه بشكل أو بآخر.

خامسا: ثورة يوليو:

ظل محفوظ يعلن رأيه بصدق وتواضع حذر فى شخص عبد الناصر وزعامته، مؤيدا خطواته التثويرية اللاحقة لحركة الجيش، متحفظا على تجاوزاته وزملائه فيما يتعلق بالحريات والديمقراطية، وبرغم عاطفته الجياشه نحو سعد زغلول ثم مصطفى النحاس إلا أنه لم يدعها تساهم – بشكل مباشر-  فى رفض إيجابيات ما سمى ثورة يوليو.

وقد اختلف موقف النقاد والمحاورين فى حسم الرأى بالنسبة لموقفه من هذه الثورة، وفى لقاءاتى معه خلال حوالى عشر سنوات أكثر من مرة فى الأسبوع لم يختلف موقفه، وكنت أشعر دائما أنه يكن تقديرا خاصا لزعميها عبد الناصر، ثم لخليفته السادات، دون أن يتنازل أبدا عن نقد أو رفض سياسة أى منهما فيما لا يوافق عليه ولا يساير مبادئه الوطنية والإنسانية عامة، وهو لم يكن غير ذلك فى شهادته فى “أمام العرش”، ولا فى سائر كتاباته رمزا أو صراحة، وقد رجحت وأنا أكتب هذا العمل واكتشف مدى عمق رؤيته، وسلامة رفضه الموضوعى لنقائص وتجاوزات هذه الثورة، أن هذا العمل الحالى كان فرصة أعمق وأصدق من شهادته المباشرة فى أعمال أخرى أو أحاديث أخرى.

نعم، لعل الفرصة جاءته أثناء تخليقه هذا العمل فاستطاع من خلالها أن يعلن شهادته للتاريخ وهو يقوم بتعرية تفاعلات وجدل الناس مع هذه الحركة التى تثورت من أعلى بين الحين والحين، لكنها انتكست وتشوهت على المدى الطويل مما أدى غالبا للثورة التالية (الحالية 2011/ 2012) التى لم يشهدها محفوظ على أرض الواقع، والتى أعتقد أنه لو كان قد عاصرها، لكان له ولنا، وربما لها، شأن آخر وهى لم تتم فصولها بعد([85]).

حضرت ثورة يوليو فى وعى معظم من عاصر بدايتها باعتبارها “حركة” (“مباركة”، هكذا سماها أصحابها) قام بها الجيش ثم ثوّرها قائدها لاحقا على مراحل، فهى ثورة “من أعلى” كما ذكرنا، قام بها قائدها بما تصوره أنه يمثل الناس، فهى أقرب –كما قلنا- إلى ما أقرته هذه الرواية باسم “ثورة محمد على”، وباستثناء بعض المعمرين  – مثل راضية القليوبى، وعامر عمرو عزيز، أو عفت عبد العظيم داود – الذين عاصروا أغلب الثورات، فإن تفاعل أفراد الأجيال الأحدث قد مثَّل معظم التيارات والتوجهات والمواقف تجاه هذه الحركة المثوّرة لاحقا.

بعكس ثورة 1919 لم نلاحظ فى الرواية – إلا نادرا جدا- أى تقديس أو دفء أو حميمية ولا أى من العواطف الإيجابية بصفة عامة، مثل تلك التى رصدناها فى تتبعنا لحضور ثورة 1919 فى وعى من عاصروها، بل لعل العكس هو الذى غلب من حيث حضور الرفض والحذر والتوجس مع تنامى الوصولية والكبت والنفاق، ثم الحراك الطبقى المبنى غالبا فى هذه الطبقة بوجه خاص على الثللية والنفعية، وقد كانت أغلب المواقف والتفاعلات والنقلات تدور فى دائرة الذين استفادوا منها جنبا إلى جنب مع مشاعر حذر وحنق وحسد الذين رفضوها بعقلانية محسوبة، أو بأنانية غالبة، لكن لم يغب عن أمانة الكاتب رصد عينات من مواقف ظهرت هنا وهناك تعلن تقديرا أو حتى تقديسا لزعيمها أساسا، من بعض المخلصين والآملين الأصغر عادة.

وفيما يلى محاولة لتقديم ما “تيسر” من التفاعلات والمواقف والعواطف تجاه قيام هذه الثورة، أو استمرارها أو أدائها، مع احتمال تداخل بعض التقسيمات مع بعضها البعض أحيانا، وتغير بعض المواقف فى أحيان أخرى:

أولا: القبول والاقرار والنفاق والترقب:

 كان أغلب من أقروا ضرورة ثورة يوليو أو رحبوا بها هم من المستفيدين بشكل مباشر أو غير مباشر منها، أو من الآملين فيها، أو الخائفين مؤثرى السلامة، سواء وقفوا موقف المتفرج أو المنتظر أو المنافق، كما نلاحظ أن كثيرين ممن تحمسوا لها أو ساهموا فيها انتهى بهم المآل إلى عكس ما بدا منهم باكرا وخاصة بعد خفوت ثوريتها حتى التراجع بدءًا مما سمى ثورة 15 مايو حتى الانفتاح، كثيرون من هؤلاء تحولوا إلى منتفعين من الانفتاح بالذات ليثروا ثراء فاحشا بغض النظر عن تاريخهم مع الثورة.

نبدأ بقراءة موقف عبده محمود عطا المراكيبى: “ولما قامت ثورة يوليو وجدا نفسيهما (هو وأخاه ماهر) بين رجال الصف الثانى، وكان محمود بك قد توفى فنجيا من الاصلاح الزراعى …. ورغم تأثره لهزيمة 5 يونيو إلا أنه كان ضمن الذين اعتبروا أن خسارة الأرض كارثة تهون بالقياس إلى النصر المعنوى الذى حققه البلد بالاحتفاظ بزعامة عبد الناصر والنظام الاشتراكى” (ص 149)، وبرغم هذا الموقف الثورى الصلب إلا أن نهايته بعد الانفتاح أظهرت الوجه الآخر كما أشرنا: “ولما هل الانفتاح أثرى ثراء فاحشا…. رغم إيغاله فى الثراء ويقينه أنه يكنز المال للآخرين” (ص 150).

فإذا انتقلنا إلى “ماهر” أخوه  نجد أنه “وبحكم الصلات الشخصية وبتأثير شقيقه عبده انتظم فى سلك الضباط الأحرار مرتكزا إلى عواطف سطحيه وغير مؤمن إيمانا جديا بما يقال عن آلام الشعب وصراع الطبقات” (ص 194)، …. ولم يكن يؤمن بقانون الاصلاح الزراعى رغم أنه لم يطبق عليه….، واستأجر شقة فى الزمالك لغرامياته ولم يتزوج وظل فى مكانه بعد النكسه وحتى وفاة عبد الناصر ثم أيضا: “وجاء الانفتاح وأثرى ثراء فاحشا واجتمع هو وعبده ونادرة حول مالٍ و”كأنهم يعدونه للآخرين” (ص 195).

 أما ‏فايد عامر عمرو فقد اتصف موقفه بنوع من التماسك والثبات حتى النهاية:‏ “ولما‏ ‏قامت‏ ‏الثورة‏ ‏لم‏ ‏ينفر‏ ‏منها‏ ‏رغم‏ ‏إهدارها‏ ‏لرتب‏ ‏جده‏ ‏وخاله‏، ‏بل‏ ‏ربما‏ ‏مال‏ ‏إليها‏ ‏ولم‏ ‏يخف‏ ‏ذلك‏ ‏عن‏ ‏أمه‏ ‏وأبيه‏.. ‏قال‏:‏ ‏- ‏جاءت‏ ‏فى ‏وقتها‏ ‏تماما”‏..‏ وترقى ‏فايد‏ ‏درجاته‏ ‏المعهودة‏ ‏حتى ‏درجة‏ ‏المستشار‏. ‏ولم‏ ‏يتغير‏ ‏موقفه‏ ‏من‏ ‏الثورة‏ ‏وزعيمها‏، ‏حتى ‏محنة‏ 5 ‏يونية‏ ‏لم‏ ‏تغيره‏ ‏وإن‏ ‏مزقت‏ ‏قلبه‏ ‏تمزيقا‏” (‏ص‏ 175).

وذلك بعكس هنومة حسين قابيل “..التى‏ ‏تحمست‏  ‏لثورة‏ ‏يوليو‏ ‏باعتبارها‏ ‏ثورة‏ ‏إصلاح‏ ‏وأخلاق‏، ‏ولكنها‏ ‏انقلبت‏ ‏عليها‏ ‏منذ‏ ‏حكم‏ ‏علي‏ ‏سليم‏ ‏بالسجن‏، ‏ولم‏ ‏تتردد‏ ‏في‏ ‏اتهام‏ ‏حكيم‏ ‏بالخطأ‏ ‏في‏ ‏موالاته‏ ‏لها” ‏(ص 213)

أما حازم سرور عزيز فكان مثالا للحذر والحرص على إخفاء موقفه الحقيقى حتى لو بدا منافقا كما جاء فى هذا المقتطف من سيرته “…ولما‏ ‏قامت‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏ ‏خاف‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏وفديته‏ ‏المزعومة‏ ‏قد‏ ‏جاوزت‏ ‏جدران‏ ‏مسكنه‏ ‏ولكنه‏ ‏لم‏ ‏يتعرض‏ ‏لسوء، ‏ودأب‏ ‏على ‏مدح‏ ‏الثورة‏ ‏فى ‏شركته‏، ‏والحملة‏ ‏عليها‏ ‏فى ‏بيته‏ ‏مجاراة‏ ‏لسميحة‏، ‏وهو‏ ‏يقلب‏ ‏عينيه‏ ‏فيما‏ ‏حوله‏ ‏مستعيذا‏ ‏بالله‏” (ص 51).

ثانياً: الوصولية والاستفادة البادئة والممتدة

امتلأت الرواية بكل أنواع الوصولية التى ميزت معظم المنتمين لهذه الثورة، وكأنها لم تكن إلا إبدال سلطة محل سلطة، ونقل مكاسب طبقة إلى طبقة مع تغيير أشكال التميز الطبقى إلى ما يميز الوضع الجديد، وكذلك تغيير سبل التميز وحيل الوصول وآلياته، فنعدد فيما يلى بعض نماذج الوصولية، والوصول.

  وصول بالصدفة

ها هو ماهر محمود المراكيبى “يجد نفسه” من المقربين “..ولما ‏ ‏قامت‏ ‏الثورة‏ ‏”وجد‏ ‏نفسه”‏ ‏من‏ ‏المقربين‏ ‏ووثب‏ ‏دون‏ ‏عناء‏ ‏إلي‏ ‏منزلة ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يبلغها‏ ‏بخطواته‏ ‏الدراسية‏ ‏المتعثرة‏ “… حتى:‏ ‏… “علا‏ ‏نجمه‏ ‏فعين‏ ‏في‏ ‏الحرس‏ ‏الخاص‏ ‏للزعيم‏” (ص 195).

وصول بالمعرفة والقرابة:

حين نتابع سيرة نادر عارف المنياوى نتعرف على سبيل آخر للوصول، فبفضل حكيم (أخو هنومه) “… رقى نادر رئيسا للحسابات، وكبر مرتبه فوق ما يحلم أى من أقاربه”، “…ولما حصلت التأميمات عين رئيسا لمجلس إدارة الشركة دون شبع من ناحيته” (ص 208)، … “ومضى‏ ‏يوثق‏ ‏علاقاته‏ ‏ببعض‏ ‏الضباط‏ ‏وآخرين‏ ‏من‏ ‏رجال‏ ‏القطاع‏ ‏الخاص‏.‏ حتى‏ ‏كانت‏ ‏هزيمة‏ 5 ‏يونيه‏، ‏وانكشف‏ ‏امره‏ ‏فيما‏ ‏انكشف‏ ‏المستور‏ ‏من‏ ‏أمورهم‏” (ص 208)، ثم انتهى إلى نفس المآل: الثراء الفاحش بالانفتاح “…وهلت‏ ‏طلائع‏ ‏الانفتاح‏ ‏فتنفس‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏واستمد‏ ‏من‏ ‏الجو‏ ‏الطارئ‏ ‏حياة‏ ‏لم‏ ‏يحلم‏ ‏بها‏ ‏من‏ ‏قبل‏” (ص209) حتى قال: “إنها قسمة‏ ‏عادلة‏، ‏فالثراء‏ ‏للأقوياء‏ ‏والأخلاق‏ ‏للضعفاء” (ص209).

وصول بالجيرة والصداقة:

وحتى السلبى المحتج عموما حكيم حسين قايبل والذى اتخذ من حيث المبدأ موقف رفضٍ شامل بدءًا من تعداد سلبيات معاهده 36، إلى رفض الاخوان باعتبارهم تجار دين، ومصر الفتاة باعتبارهم فاشست حتى بدا فخورا وهو يعلن “أنه لا يؤمن بشئ”، فقد قفز إلى حضن الوصوليه عن طريق جار صديق قديم كان قد أصبح نجما من نجوم الثورة  “…ولكن قامت ثورة يوليو، وإذا بصديق عمره نجم من نجومها”،  “وبذلك‏ ‏تفتق‏ ‏المستقبل‏ ‏عن‏ ‏أبعاد‏ ‏جديدة…” (ص69). وعين فى وظيفة إشرافية فى إحدى الصحف الكبرى وقفز مرتبه من العشرات إلى المئات وعلق على ذلك الوفدية من آل المراكيبى بأنه: “ذهب‏ ‏فساد‏ ‏متواضع‏ ‏وجاء‏ ‏فساد‏ ‏شره‏..‏”(ص69)، “..وهابه الوزراء وداهنه الأعداء” (ص70) .. وأصبح من رجال العهد وكان الواسطة الناجحة لتعيين كثير من أصدقائه حراسا عقب فرض الحراسة عليهم، وظلت علاقته بصديقه الحميم كما كانت رغم استوائه بين القادة الجدد فلا يمر أسبوع دون لقاء عائلى فى قصر القائد يتبادلان فيه نجوى الحب والذكريات حتى قال ذات لقاء: ‏ “‏أما‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏لترشحنى ‏وزيرا؟ فقال‏ ‏الرجل:‏ ‏وما‏ ‏قيمة‏ ‏الوزير؟‏ ‏سينقص‏ ‏دخلك‏ ‏..‏.(ص70).

وصول عن طريق التلاميذ: (رغم الوفدية المكبوتة)

وقد تعددت مسالك الوصولية حتى شملت الانتفاع عن طريق التلاميذ مثلما كان الحال مع عامر عمرو عزيز “أما‏ ‏أعلى ‏درجة‏ ‏سجلها‏ ‏حظة‏ ‏فقد‏ ‏حدثت‏ ‏بعد‏ ‏قيام‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏ ‏ووجد أن‏ ‏اثنين‏ ‏من‏ ‏تلاميذه‏ ‏فى ‏مجلس‏ ‏قيادة‏ ‏ثورتها‏”(ص143).

وصول لمكسب متأخر مع اختلاف الأدوار

كما أن ثمة انتهازية تواصلت بالقصور الذاتى مثلما كان الحال مع اليوزباشى حسن محمود المراكيبى الذى اشتهر بالعنف فى تفريق المظاهرات حتى وصفه سرور أفندى بأنه خائن وابن مراكيبى بعد معايره عمرو ابنه حامد بتميز حسن إلى رتبة اليوزباشى دونه، “..وقد تعرض للموت فى عهد صدقى فأصابت طوبة رأسه” (ص64)، وأحيل إلى المعاش فخرج مع حامد فى قائمة واحدة، ومارس عواطفه كلها نحو الثورة الصاعدة  “..‏‏الثورة‏ ‏أحالته‏ ‏على ‏المعاش‏ ‏فى ‏حركة‏ ‏تطهير‏ ‏الشرطة‏ ‏فخرج‏ ‏مع‏ ‏حامد‏ ‏فى ‏قائمة‏ ‏واحدة”‏ (ص 65)، ولكن نهايته كانت نفس النهاية: الإثراء الخيالى: “… ولعل أخاه ‏كان‏ ‏وراء‏ ‏الأسباب‏ ‏الخفية‏ ‏التى ‏جنبت‏ ‏متجره‏ ‏التأميم،…. “، “..وأدركتهم‏ ‏النكسة‏ ‏التى ‏زلزلت‏ ‏الجيل‏ ‏الناصرى ‏فأذرته‏ ‏مع‏ ‏رياح‏ ‏الضياع‏ ‏واليأس”‏، “… ووجد‏ ‏حسن‏ ‏فى ‏السادات‏ ‏وسياسة‏ ‏الانفتاح‏ ‏بغيته‏ ‏وعزاءه‏ ‏عن‏ ‏كافة‏ ‏هزائمه‏ ‏الماضية‏ ‏فشمر‏ ‏للعمل‏ ‏والثراء‏ ‏الخيالي‏، و‏شيد‏ ‏له‏ ‏ولزوجته‏ ‏قصرا” (ص 65)، “..وعاش‏ ‏عيشة‏ ‏الملوك‏ ‏وهو‏ ‏يحلم‏ ‏بعودة‏ ‏أولاده” (ص 66)

  وصول بيروقراطى هادئ

ظهر هذا النوع من المكاسب “العادية” فى موقف صفاء حسن قابيل زوجة صبرى القاضى الذى كان‏ ‏قريبا‏ ‏لضابط‏ ‏مهم‏ ‏فترقى ‏فى ‏مدة‏ ‏قصيرة‏” وهكذا تألق هذا الفرع فى عقد البيروقراطية الماسى ونجا من شر العواطف.

ثالثاً: مواقف الرفض والحقد والسخرية

أما ما ظهر فى الرواية من عواطف سلبية تجاه هذه الحركة العسكرية مع إنكار تثويرها أصلا – بعكس ثورة 1919 – فقد ظهر بكثرة دالة فى هذا العمل، وقد تجلى ذلك فى صورة الرفض والحقد، والكره، والشماتة فى هزائمها، كما تجلى أقل فى صورة الانسحاب والهجرة والفرجة.

ونبدأ برصد ما جاء فى موقف  شاكر عامر عزيز: “..وقامت ثورة يوليو، وانقلب المجتمع رأسا على عقب وطارت الباشوية من آل داود، وهبطت قيمة الأطباء والقضاء فحقد شاكر على العهد الجديد” (ص121).

  أما‏ ‏عفت عبد العظيم يزيد فهى “التى لم تشعر بانتماء لا لثورة 1919 ولا لثورة يوليو،‏ ‏فقد‏ ‏مقتت‏ ‏الثورة‏ ‏لإلغائها‏ ‏باشوية‏ ‏شقيقها‏ ‏ولم‏ ‏تغفر‏ ‏لها‏ ‏استهانتها‏ ‏بالمهن‏ ‏الرفيعة‏ ‏كالطب‏ ‏والقضاء”  وعاشت حتى قاربت التسعين. (ص 143)، “ولدى كل مناسبة تقول تقول بحنق: ‏”هل‏ ‏سمعتم‏ ‏عن‏ ‏بلد‏ ‏تحكمه‏ ‏مجموعة‏ ‏من‏ ‏الكونستبلات؟‏!”‏ (ص 51)،

فيهمس‏ ‏فى ‏أذنها‏‏:‏ ‏”‏احذرى ‏الخدم‏.. ‏والجدران‏ .. ‏والهواء‏”(ص51). وشد‏ ‏ما‏ ‏فرحت‏ ‏بالعدوان‏ ‏الثلاثى ‏وشد‏ ‏ما‏ ‏خابت‏ ‏آمالها، ‏وفى 5 ‏يونية‏ ‏أغلقت‏ ‏على ‏نفسها‏ ‏حجراتها‏ ‏وراحت‏ ‏ترقص‏، ‏وساعة‏ ‏بلغها‏ ‏نبأ‏ ‏وفاة‏ ‏الزعيم‏ ‏زغردت‏ ‏حتى ‏هب‏ ‏حازم‏ ‏واقفا‏ ‏وهو‏ ‏يصرخ‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏:‏ ‏”‏أنا‏ ‏فى ‏عرضك‏!‏” (ص 51)، وتمضى الأحداث، وبرغم تأميم الشركة، إلا أن الانفتاح يحدد نفس المآل هكذا: “‏وفى ‏عهد‏ ‏السادات‏ ‏بلغ‏ ‏حازم‏ ‏ذروته‏ ‏الحقيقية‏، ‏وفتح‏ ‏مكتبا‏ ‏هندسيا‏ ‏وبات‏ ‏فى ‏عداد‏ ‏أصحاب‏ ‏الملايين‏. ‏وقالت‏ ‏سميحة‏ ‏عن‏ ‏الزعيم‏ ‏الجديد‏:‏ ‏”‏حقيقة‏ ‏أن‏ ‏وجهه‏ ‏أسود‏ ‏ولكن‏ ‏قلبه‏ ‏أبيض‏..”(‏ص 51).

وقد كره البعض الثورة من منطلق موقف طبقته مثل عقل حمادة القناوى: الذى “.. ‏نفر‏ ‏من هذه الثورة‏ ‏رغم‏ ‏عدم‏ ‏مساسها‏ ‏له‏، ‏لشعوره‏ ‏بعداوتها‏ ‏لطبقة‏ ‏الملاك، فالشك‏ ‏أخذ‏ ‏يساوره‏ ‏فى ‏مستقبل‏ ‏علاقته‏ ‏بزوجته‏، ‏كما‏ ‏مضى ‏يملك‏ ‏عليه‏ ‏تفكيره‏ ‏بالنسبة‏ ‏لمستقبل‏ ‏وطنه‏ ‏الذى ‏يتزحزح‏ ‏من‏ ‏مأزق‏ ‏إلى ‏مأزق‏، ‏ولم‏ ‏يعاوده‏ ‏تنفسه‏ ‏الطبيعى ‏إلا‏ ‏فى ‏عهد‏ ‏السادات” (ص164).

وأيضا مثل صالح حامد عمرو “الذى ‏عاداها ‏بقلبه ربما كرد فعل لموقفها من الأخوان الذين أحبهم برغم أنه لم ينخرط فى سلكهم”، لكنه أيضا فى عهد الانفتاح “اتسع رزقه وكثرت ذريته”(ص 129).

أما حامد عمرو عزيز، فقد بدأ أن ثم عاملا شخصيا كان مسئولا عن موقفه منها: وهو أنه “لما قامت الثورة أحالته إلى المعاش ضمن ضباط الشرطة الذين أعتبرتهم أعداء الشعب” (ص 59)، فكان تفاعله الطبيعى “نقد الثورة والسخرية‏ ‏برجالها” (ص 59) خاصة وهو يسامر حليم عبد العظيم، وابن عمه لبيب.

وكان عدنان احمد عطا المراكيبى “هو ‏الوحيد‏ ‏الذى ‏طبق‏ ‏عليه‏ ‏قانون‏ ‏الإصلاح‏ ‏الزراعي‏، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏يختلف‏ ‏عن‏ ‏أبيه‏ ‏وعمه‏ ‏ولاء‏ ‏للعرش‏ ‏وكراهية‏ ‏للثورة‏، ‏ولكن‏ ‏لم‏ ‏يند‏ ‏عنه‏ ‏قول‏ ‏أو‏ ‏فعل‏ ‏يعرضه‏ ‏للمؤاخذة‏. (‏ص‏ 151)، “وقد سعد بالاعتداء الثلاثى” و…”سعد أكثر فى 5 يونيو وتمت سعادته فى سبتمبر 1970″ (وفاة عبد الناصر)، … إلى أن انتهى نفس النهاية بعد تولى السادات: “أما الانفتاح فقد اعتبره بابا من أبواب الجنة”،…”وربح أرباحا خيالية” و..وانضم للحزب الوطنى، وانتخب عضوا فى مجلس الشعب”. (ص 152)

على أن هناك من قبل الحركة فالثورة فى البداية توهما أنها ستحقق أحلامه وأنها تنتمى إلى فصيله مثل سليم حسن قابيل، لكنه أنقلب إلى الضد حين تبينت الأمور على غير ما حسب وضد انتمائه الأساسى للإخوان ودفع الثمن غاليا حين حكم عليه بعشر سنوات فى قضية الإخوان الكبرى، “..وخرج من السجن قبل 5 يونيو.. ولما وقعت الهزيمة اعتبرها عقابا إلهيا على حكم كافر” (ص 111)، “..وحين وقع حادث المنصة قال عقابإالهى لحكم كافر” (ص112).

ثم كان هناك فريق لم يعلن حنقه وسخطه مباشرة، وربما أظهر ما يشبه الرضا، وتابع الجارى بحذر محتفظا بموقفه الرافض، وربما جاهزا للانقضاض مثل: لبيب سرور عزيز ‏الذى “راح‏ ‏يتابع‏ ‏أثر‏ ‏الثورة‏ ‏فيها‏ (أسرته) ‏مع‏ ‏الحرص‏ ‏التام‏ ‏في‏ ‏الإفصاح‏ ‏عن‏ ‏ذاته‏. ‏وربما‏ ‏كان‏ ‏حامد‏ ‏ابن‏ ‏عمه‏ ‏أقربهم‏ ‏لنفسه‏ ‏فهمس‏ ‏له‏ ‏مرة‏: ‏‏”‏ما‏ ‏الحيلة؟‏…‏أمامنا‏ ‏رجل‏ ‏يدعي‏ ‏الزعامة ‏وبيده‏ ‏مسدس‏!(ص190) وكانت له أسبابه المنطقية حيث أنه‏ “لما‏ ‏قامت‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏، ‏واهتز‏ ‏مركز‏ ‏القانون‏ ‏ورجاله‏، ‏غزته‏ ‏الكآبة‏ ‏كوفدى‏ ‏قديم‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏وكرجل‏ ‏من‏ ‏رجال‏ ‏القانون‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى”(ص190).

كذلك الحال عند صالح حامد عمرو (‏ص‏ 129) “برغم‏ ‏أنه‏ ‏وجد‏ ‏خاليْه‏ ‏عبده‏ ‏وماهر‏ ‏من‏ ‏رجالها‏، إلا أنه يبدو أنه ظل محتفظا بموقف الانتظار حتى خمدت شعلتها فانقض عليها مشاركا الانتهازيين ‏فى عهد‏ ‏الانفتاح‏ (أيضا!!).

وهكذا كان أيضا موقف غسان عبد العظيم، وهو يصرح بصريح العبارة قائلا: ‏”أيبلغ‏ ‏بنا‏ ‏التدهور‏ ‏أن‏ ‏تحكمنا‏ ‏مجموعة‏ ‏من‏ ‏العساكر‏ ‏الأميين؟‏!” (ص172).

وكان هذا هو غاية تفاعله بعد ‏ ‏ما‏ ‏صبته‏ ‏عليه‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏ ‏من‏ ‏أحزان‏ ‏جديدة‏ ‏لم‏ ‏تخطر‏ ‏له‏ ‏على ‏بال‏ ‏من‏ ‏قبل‏. ‏تساءل‏ ‏فى ‏جزع‏:‏ وراقب‏ ‏ما‏ ‏حاق‏ ‏برتب‏ ‏أسرته‏ ‏وقيمها‏ ‏القانونية‏ ‏والطبية‏ ‏بفزع‏، ‏وتساءل‏:‏ ‏”‏هل‏ ‏أبكى ‏اليوم‏ ‏رعاع‏ ‏الوفد؟‏!”‏ (ص 172)

  ويشارك فى ذلك حليم عبد العظيم داود، “الذى ‏ ‏أظهر‏ ‏للثورة‏ ‏حنقا‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏يوم‏، ‏وتساءل‏ ‏كيف‏ ‏يسرق‏ ‏الحكم‏ ‏أناس‏ ‏لا‏ ‏ميزه‏ ‏لهم‏ ‏إلا‏ ‏استحواذهم‏ ‏على ‏السلاح؟”‏ (ص74)،  “..‏وهل‏ ‏يحق‏ ‏قياسا‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏يتحول‏ ‏قطاع‏ ‏الطرق‏ ‏إلى ‏ملوك؟”‏(ص 74) “والأدهى ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏كله‏ ‏أنه‏ ‏يوجد‏ ‏من‏ ‏آل‏ ‏المراكبيى ‏ضابطان‏ ‏يعتبران‏ ‏من‏ ‏الصف‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏الحكام‏!” (ص 75)

تعقيب إجمالى:

هل يا ترى حقق نجيب محفوظ من خلال هذا العمل ما حاول أن يخفيه برقته وتقيّته والتزامه معا، فجاءت هذه التعرية للتفاعلات مع هذه الثورة تنزع عنها صفة الثورة خاصة وأنه لم يرد ذكر إيجابيات وطنية أو إنسانيه، أى ثورية محددة، تمتع بها واحد أو أكثر نتيجة لقيام هذه الثورة، ويمكن أن نتساءل إن كانت هذه الرسالة التى وصلت من الرواية هكذا كانت رأيه الذى لم يعلنه مباشرة، أم أنها طبيعة العينة من البشر التى اختارها لهذا العمل بالذات وهى الطبقة الوسطى ذات الصفات والطموحات البرجوازية المعروفة؟ وبالتالى فإن ما تحدث عنه واعترف به محفوظ من إيجابيات هذه الثورة، وقد فرح به فرحا حقيقيا، كان بعيدا عن هذه الرواية حيث جاءت أغلب إيجابياتها لصالح الطبقات الأدنى التى لم تجد لها فرصة للظهور أصلا فى هذا العمل.

هامش

 إخوانيان ويسارى واحد

وصلنى من هذا الشكل المتحدى الثائر الذى قدم به المؤلف هذه الرواية أن المنطلق هو تشكيلات مجموعات من الوعى الجمعى وهى تتجلى فى وعى الأفراد، فهو لم يتعرض لمواقف جماعات سياسية أو حزبية بشكل مباشر، لكن وربما بمناسبة ما يجرى الآن (2012) رأيت أن أشير فى النهاية إلى موقف إخوانين ويسارى واحد، لا يمثلون بالضرورة أحزابهم لكن قد يكملون معالم موقف المؤلف بشكل ما.

جاء ذكرالإخوان بشكل عابر فى سيرة صالح حامد عمرو الذى نشأ ملتزما، ارستقراطيا متدينا، وأحب الإخوان دون أن ينخرط فى سلكهم “وقرب ذلك بينه وبين سليم ابن عمته مع فارق وهو أن سليم كان يمارس انتماءه بالعمل، أما صالح فكان يقول لنفسه: “حسبى القلب وهو أضعف الإيمان” (ص 128).

أما سليم الإخوانى انتماءً عمليا فقد سبق أن أشرنا لموقفه مع المؤيديين فالساخطين فالمعتقلين فالمكفِّرين.

فى مقابل ذلك نجد أن قدرى عامر عمرو ربما هو الذى يمثل موقفا يساريا لا يمكن تعميمه أيضا، وهو الذى برغم ابتعاده عن العمل السياسى إلا أنه استيقظت فيه ميوله الماركسية حتى النخاع، نقرأ بعض سيرته:

“‏….‏ومنذ‏ ‏ارتبطت‏ ‏الثورة‏ ‏بالكتلة‏ ‏الشرقية‏ ‏مال‏ ‏إليها‏ ‏ومضي‏ ‏يرى‏ ‏في‏ ‏خطاها‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يراه‏ ‏من‏ ‏قبل‏. ‏ولعل‏ ‏ذلك‏ ‏مما‏ ‏هون‏ ‏عليه‏ ‏بعض‏ ‏الشئ‏ ‏مصاب‏ ‏الوطن‏ ‏في‏ 5 ‏يونيه‏ ‏باعتباره‏ ‏كان‏ ‏مدخلا‏ ‏حاسما‏ ‏لترسيخ‏ ‏النفوذ‏ ‏السوفييتي‏ ‏في‏ ‏مصر‏ ‏….، ‏ولعل‏ ‏ذلك‏ ‏ما‏ ‏جعله‏ ‏يستقبل‏ ‏نصر‏ 6 ‏أكتوبر‏ ‏بسخط‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يخفيه‏” ص 186)

وبرغم كل ذلك فقد انتهى فى عصر الانفتاح نفس النهاية حيث أقبل ” الثراء عليه بغير حساب” مع أنه ظل يناصب السادات العداء “وأضمر‏ ‏له‏ ‏الكرة‏ ‏حيا‏ ‏وقتيلا‏، ‏رغم‏ ‏إقبال‏ ‏الثراء‏ ‏عليه‏ ‏بغير‏ ‏حساب‏ ‏في‏ ‏عصر‏ ‏انفتاحه‏. ‏وقد‏ ‏اعتقل‏ ‏في‏ ‏طوفان‏ ‏سبتمبر‏ 1981” (ص187).

خاطرٌ  فى خاتمة

هل يا ترى استطاعت الرواية أن تكشف عن موقف نجيب محفوظ وهو يؤرخ بإبداعه الفذ، ومن خلال موقفه الشخصى الذى لم أعتبره موقفا شخصيا أصلا بقدر ما تعاملت معه ممثلا لقطاع كبير لما أسميته الوعى الجمعى، وهو يؤرخ للطبقة المتوسطة الممتدة، هل يا ترى استطاع أن يكشف من خلال هذا العمل ما لم يستطع تسجيله مباشرة عن رأيه فى كل هذه الثورات وبالذات ثوره يوليو؟؟

 

تشكيلات الخلود وأوهام اللانهائية

 بين “ملحمة الحرافيش”، و”حـضرة المحترم” ([86])

 بدون عنوان-5

استهلال:

فى دراستى السابقة لملحمة الحرافيش عن “دورات الحياة وضلال الخلود([87])، حاولت أن أحقق فرضا استلهمته من الملحمة يقول: “الحياة‏ ‏بماهى ‏حركة‏ ‏دوارة‏، ‏لا‏ ‏تبدأ‏ ‏بالولادة ‏- ‏كما ‏دأبنا‏ ‏على ‏تعريفها‏ – ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تتخلق‏ ‏بيقين‏ ‏الموت‏، ‏ويقين‏ ‏الموت‏ ‏ليس‏ ‏وعيا‏ ‏خاصا‏ ‏به‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏الحقيقة‏ ‏الموضوعية‏ ‏الأساسية‏ ‏فى ‏الوجود‏ ‏البشرى، ‏فوق‏ ‏قمة‏ ‏الوجود‏ ‏الحيوي‏. ‏وما‏ ‏بين‏ ‏طرفىْ “‏الموت‏: ‏المصير‏”، ‏و‏”التخلق‏: ‏إعادة‏ ‏الولادة‏”، ‏تتجدد‏ ‏الحركة‏، ‏وتبعث‏ ‏الحياة‏ …. ‏طولا وعرضا‏، ‏دورة‏ ‏وإعادة‏، ‏جدلا‏ ‏وتوليفا‏، ‏دون‏ ‏انقطاع”‏ وقد بدأت تحقيق الفرض بما أعلنه محفوظ باكرا فى الملحمة من أن “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه” (ص.م: 66)، كما حاولت أن ابين أن محفوظ علّمنا من خلال الملحمة وغيرها كيف أن الموت‏ (‏لا‏ ‏الولادة‏ ‏الجسدية‏) ‏هو‏ ‏البداية‏، ‏والحياة‏ ‏هى ‏إرادة‏ ‏التخلق‏ ‏من‏ ‏يقين‏ ‏الموت‏ ‏والوعى ‏به‏، ‏فمنذ‏ ‏السطر‏ ‏الأول‏ ‏يعلن‏ ‏محفوظ‏ ‏أن‏ ‏ملحمته‏  ‏تدور‏ “... ‏فى ‏الممر‏ ‏العابر‏ ‏بين‏ ‏الموت‏ ‏والحياة‏” (ص.م: 5)، ‏وليس‏ ‏بين‏ ‏الولادة‏ ‏والموت‏، ‏الموت‏ ‏هو‏ ‏الأصل‏، ‏والحياة‏ ‏احتمال‏ ‏قائم‏. ‏وصلتنى هذه‏  ‏الحقيقة‏ ‏باعتبارها ‏الفكرة المحورية‏، ثم إننى انتبهت  لاحقا كيف أن  الله سبحانه قد “خلق الموت والحياة”، ليبلونا أينا أحسن عملا، فقـدَّم خلْق الموت على خلْق الحياة، وانتهيت إلى أن تحدى الموت أو إنكاره قد يؤدى إلى الجنون فالعدم كما حدث لجلال صاحب الجلالة الحكاية السابعة.

بعد ذلك بسنوات بدأت نقد “حضرة المحترم”([88])، وقدمت الخطوط الأولى فى ندوة محدودة من ندوات جمعية الطب النفسى التطورى منذ أكثر من ربع قرن ثم نحيتها جانبا ولم أكملها، ثم حين عدت إليها الآن اكتشفت أننى فى دراستى الأولى لهذه الرواية كنت، مثلى مثل أغلب الدراسات التى قرأتها عنها، قد ركزت على علاقة بطل الرواية عثمان بيومى بتقديس الروتين، والنظام، والدولة، والواجب، والالتزام، خدمة لطموحه البالغ حد التقديس للوصول إلى الدرجة التى يرى أنه يستحقها، وأنها تبلغه المنى، وتحقق له معنى الحياة، بل وتؤكد علاقته بالمقدس الدنيوى السلطوى المتميز، فضلا عن نوع التدين السائد واستعمال لغة تشبه التصوف الذى ألح بهما على المتلقى من البداية للنهاية، ولا أنكر أن هيجل  – بتقديسه للدولة- قد حضرنى أكثر من داروين – بتجذيره للحياة-، وأننى تألمت لعثمان بيومى ومعه كثيرا، بل و”احترمته” كما كان يريد، وكما يقول عنوان الرواية.

حين عدت الآن إلى “حضرة المحترم”، وجدت موقفى قد اختلف، فقد تعرفت من خلال إعادة قراءتى للنص على بعد آخر له علاقة وثيقة بفرضى الأول عن ما أسميته “ضلال الخلود”، وبالذات الحكاية السابعة فى “ملحمة الحرافيش”، جلال صاحب الجلالة، وقد وجدت ابتداء أن أغلب ما وصلنى من نقاد قد توقفوا فى دراسة حضرة المحترم عند الجانب الأخلاقى النفعى، أو الجانب الوظيفى الطموحى، أو الجانب النفسى الانعزالى، أو الجانب العاطفى/الجنسى النكوصى أو النامى، أو حتى الجانب النفسى الدينامى كذلك بعض المداخلات عن الشكل والسرد مثل دراسة: “محمد اسيورتى”([89])، أو عن المرأة فى الرواية وعموما فى نظر محفوظ “إقبال بركة”([90]) كل ما وصلنى لم أجد فيه من أعطى هذا البعد حقه، وهو ما اكتشفته مؤخرا وأنا أقارن بين خلود جلال صاحب الجلالة وبين “لا نهائية”، “عثمان بيومى” الذى لم يكف عن أن يعطى للحياة قدسيتها “بالجهاد والعذاب بالأمل البعيد المتعال” (ص.ح: 207)، طيلة عمره، وهكذا تراجعت أغلب شخصيات محفوظ التى استُجلبت للمقارنة والتى أشار إليها النقاد من أول محجوب عبد الدايم فى القاهرة الجديدة([91]) إلى حسين الضاوى فى “كلمة فى الليل”، القصة القصيرة في مجموعة (دنيا الله)([92])، حيث لا يوجد شبه بين كل من أشير إليهم فى شخصيات محفوظ وبين عثمان بيومى إلا فى الحرص الشديد على إرضاء الرؤساء، والتحديد المطلق لأولوية الغاية بغض النظر عن “الوسيلة” خدمة للغاية، مع اختلاف الوسيلة على مدى طيف متسع يبدأ من النفاق والانتهازية وينتهى إلى عكس ذلك من الاجتهاد والإتقان، لكن الذى يجمع بين هذا وذاك هو الذاتوية المطلقة وهى تغلف مسارهم جميعا طول الوقت.

وجها لوجه

من خلال المقابلة بين “لا نهائية” عثمان بيومى فى “حضرة المحترم” و”خلود” جلال فى “ملحمة الحرافيش” صاحب الجلالة انتبهتُ إلى أن خلود جلال قد تجسد عيانيا فى وصفة الساحر الغامض “شاور” حتى اخترته ممثلا لوهم إلغاء الزمن حتى أننى تعجبت من موقف رشيد العنانى([93]) من عامل الزمن الذى هو محور دراستى، إنكار الزمن فى قراءتى بدا لى أنه الوسيلة الوحيدة لإنكار تحركنا نحو الموت، ومن الواضح أنه بلغ من شذوذ جلال وجنونه وعيانيته وقبحه، ثم فشله فى النهاية، أن من المحتمل أن يكون محفوظ  قد  رسمه هكذا لنرفض من خلاله وبشكل يكاد يكون مباشرا أن يكون هذا الخلود، حتى من مجنون، مجال اختيار، لقد انتهى هذا الضلال بصاحبه إلى عكس ما أراد تماما، إلى أقبح صور الموت مقتولا بالسم من عشيقته زينات الشقرا التى أحبته فعلا: “..جثة جلال المنطرحة على حافة حوض الدواب. جثة عملاقة بيضاء ملقاة بين العلف والروث، هيكلها العظيم يوحى بالخلود، سلبيتها المتهافتة تشهد بالفناء وفوقها يتشبع الجو على ضوء المشاعل بالسخرية المرعبة” (ص.م: 440)

تصورت أن محفوظ بهذه النهاية أبلغ الرسالة كما ينبغى، نهاية جلال صاحب الجلالة تبدو نهاية  قادرة على أن  تجهض أى خيال يتحرك نحو الخلود فى الدنيا مهما كانت درجة جنونه، لكن محفوظ عرض فى الملحمة أيضا صورا أخرى للخلود فى الدنيا لم تتعرض لها دراستى الباكرة بالقدر الكافى.

 وصلنى كل ذلك فيما يتعلق بالخلود فى هذه الحياة الدنيا نفيا للموت، أما الخلود فى الآخرة فلمحفوظ – شخصا- رأىٌ آخر، وقد وصلنى هذا الرأى فى سياق آخر، فهو إذ يعرى ضلال الخلود فى هذه الحياة هكذا إنما يترك الباب مفتوحا للخلود الأبقى والأضمن دينيا وشعبيا وإيمانا وإبداعا عند أغلب الناس، وكذلك للخلود المغلف بميكانزمات عادية تقع ما بين التكاثر والاغتراب كما فى حضرة المحترم، الخلود فى الحياة الآخرة هو وارد فى وعى عامة الناس من حيث المبدأ، أما من حيث التحقق الفعلى بالمعايشة وعيا ماثلا  أمام آلة الزمن، فيبدو أن الله سبحانه وتعالى قد رحم عامة الناس من الالتزام بمعايشة الوعى الكامل بمثل ذلك طول الوقت، على أن الفرصة قد سنحت لى – من خلال صحبتى للمؤلف – أن أعرف كيف أنه كان متصالحا مع هذا الخلود بالذات، مرحبا به، فقد وصلنى أنه كان على يقين طول الوقت من أنه سوف يكون فى صحبة حبيبه رب العالمين، وقد رأيت أن من حق المؤلف أن يتضح موقفه الشخصى وربما دفعا لسوء الفهم، سمحت لنفسى باقتطاف بعض ما ورد فى كتابى  “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”([94]) وهو كالتالى:

“….. ذكرت‏ ‏له ما‏ ‏قرأت‏ ‏مؤخرا‏ ‏من‏ ‏حديث‏ ‏أدلى ‏به‏ ‏فرانسوا ميتران‏ ‏للتليفزيون‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تأكد ‏ ‏مرضه‏ ‏بالسرطان، ‏مع‏ ‏اقتراب‏ ‏نهايته‏ ‏الحتمية، ‏وأبديت‏ ‏ملاحظة‏ ‏حول‏ ‏إعجابى ‏بشجاعته‏ ‏لإعلانه‏ ‏ذلك‏ ‏مع‏ ‏إعلان‏ ‏تمسكه‏ ‏ألا‏ ‏يترك‏ ‏منصبه‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏إنتهاء‏ ‏مدة‏ ‏رئاسته‏ ‏،….، ‏سأل‏ ‏المتحدث‏ ميتران: ‏هل‏ ‏تؤمن‏ ‏بالله، ‏فأجاب‏: ‏هذه‏ ‏مسألة‏ ‏فيها‏ ‏آراء‏ ‏كثيرة‏ ‏مختلفة، ‏فمضى ‏المتحدث‏ يسأل ‏بجرأة‏ ‏أكبر‏: ‏ماذا‏ ‏لو‏ ‏واجهتَ‏ ‏الله‏ ‏بعد‏ ‏الموت، (فى ‏الآخرة‏) ‏فأجاب ميتران‏ ‏بنفس‏ ‏الصدق‏ ‏الجريء‏: ‏سوف‏ ‏تكون‏ ‏مفاجأة، ‏وسأقول‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏مسألة‏ ‏الخلود‏ ‏هذه‏ ‏مسألة‏ ‏مملة‏ ‏جدا‏ ….” ‏ “…‏حسبت‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏سوف‏ ‏ينبهر‏ بهذه الرواية وهذه الحرية ‏مثل‏ ‏الآخرين، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏ظل‏ ‏مطرقا‏ ‏بعض‏ ‏الوقت، ‏ثم‏ رفع ‏رأسه‏ ‏قائلا‏: ‏لا‏ ‏أظن‏ ‏أنه‏ ‏محق‏ ‏تماما، ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏عند‏ه ‏حق‏ ‏فى ‏الجزء‏ ‏الأول‏ ‏من‏ ‏الإجابة‏ ‏فوجود‏ ‏الله‏ ‏مسألة‏ ‏فيها‏ ‏آراء، ‏وخاصة‏ ‏عندهم‏ ‏بلا‏ ‏أدنى‏ ‏شك، ‏أما‏ ‏الجزء‏ ‏الثانى ‏فإجابته‏ ‏تدل‏ ‏على ‏أنه‏ ‏رجل‏ ‏يفتقر‏ ‏إلى ‏الخيال، ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏تصورت‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏سوف‏ ‏ينبهر‏ ‏من‏ ‏مسألة‏ ‏وصف‏ ‏الخلود‏ بالملل، وخاصة‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏عرّى‏ ضلال‏ ‏الخلود‏ ‏فى ‏الدنيا فى الحرافيش،‏ ‏وكان‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏محور‏ ‏نقدى ‏لهذا‏ ‏العمل‏ ‏……”‏، ‏أكمل‏ ‏الاستاذ‏ وهو ‏يخاطبني‏: ‏”إن‏ ‏مسألة‏ ‏رفض‏ ‏الخلود‏ ‏مع‏ ‏الله‏ ‏باعتباره‏ ‏عملا‏ ‏مملا‏ ‏غير‏ ‏مقبولة‏، ‏وتدل‏ ‏على ‏افتقار‏ ‏ميتران‏ ‏للخيال، ‏لأنه‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏بقائى ‏مع‏ ‏واحد‏ ‏أحبه، مثلك مثلا، ‏ ‏يزيد‏نى‏ ‏بهجة‏ ‏ويملؤنى ‏فرحة، ‏أليس المنطقى هو أننى كلما ‏ ‏بقيت معك‏ ‏أكثر‏ ‏فرحتُ‏ ‏أكثر‏، ‏فما‏ ‏بالك‏ ‏ببقاء‏ ‏دائم‏ ‏مع‏ ‏الله‏ ‏سبحانه إلى‏ ‏غير‏ ‏مدى، أليس هذا أدعى لفرحة متجددة، فمن أين يأتى الملل؟‏.‏

(انتهى المقتطف)

من هنا، وجب التنويه إلى أن ما تم من تعرية الخلود فى الحرافيش، كان تعرية لأوهام وضلالات الخلود فى هذه الدنيا، الأمر الذى ظهرت ملامحه قبلاً فى حضرة المحترم، التى نشرت قبل الحرافيش بسنتين كما أشرنا.

الجذور النفسية للنزوع للخلود

كنت فى تنظيرى النفسى السابق من واقع خبرتى الإكلينيكية أساسا([95]) أفسر هذا النزوع، بما فى ذلك ضلالات “المهدى المنتظر”، إلى ما نحمله فى قاع وعينا بشرا من “الخوف من الموت جوعا”،  لكن هذا الرعب الكامن كان يفسر لى الرغبة الممتدة، اللامتناهية (بلغة عثمان)، فى الجمع للجمع، وهو ما فضلت أن أسميه بظاهرة “التكاثر”، وهو تفسير يمكن أن يمتد إلى بعض انحرافات السياسة وأنواع معينة من الاقتصاد الجشع، لكننى اكتشفت أيضا من الخبرة أن هذا الجمع المتمادى بلا توقف مرتبط ضمنا بالعجز عن الارتواء، واستحالة الشبع، وكذلك بإلغاء الزمن، وكل ذلك من دوافع النزوع إلى الخلود الخفى، الذى أهم وسائله فى الحياة العادية هو “المال” و”البنون”، بصراحة فى ملحمة الحرافيش لاحظت أن محفوظ لم يأل جهدا فى عرض بعض جوانب هذا “الجمع للجمع”، لكن ليس فقط فى مجال المال، وإنما، وربما أساسا، فى مجال السلطة والسيطرة (الفتونة).

لكن ثَمَّ نوعا آخر، أعنى خلودا آخر، لم يهمله محفوظ فى ملحمة الحرافيش، بل لعله كان الأصل برغم عدم انتباهى له بالقدر الكافى فى نقدى الباكر وهو ما يمكن أن اصفه بالخلود الإيجابى فى الوعى الجماعى، ولعل انتباهى إليه حاليا يواكب استغراقى فى التمادى فى ممارسة ما يسمى العلاج الجمعى، وفى نفس الوقت فى التنظير لما أمارس، وهو ما سوف أبدأ به الآن:

الخلود فى الوعى الجماعى ودورات الحياة

 فى دراستى الأولى كان التركيز على دورات الحياة من خلال تركيز محفوظ على دورات الفصول، وحركية الزمن، الموازية لدورات الإيقاع الحيوى عند الفرد أساسا، وقد انتهى فرضى الأول هكذا: “…. ‏‏الولادة‏ ‏تبدأ‏ ‏حين‏ ‏نعى ‏الموت‏، ‏فنتخلق‏ ‏بالحركة‏، ‏لنتصاعد‏ ‏بالإبداع‏، ‏والاستمرار‏ ‏فيمن‏ ‏يلى،  ‏وليس‏ ‏بأنفسنا‏…”

لم أنتبه آنذاك إلى هذه الجملة الأخيرة بالقدر الكافى، مقارنة بالتركيز عليها الذى سوف يأتى حالا فى النقد الحالى، ومع أننى كنت مهتما أكثر بدورات الحياة للفرد الواحد حتى لو أكدنا على ضرورة  تفاعله مع الآخرين، إلا أنه قد ورد فى نهاية الدراسة عن امتداد إبداع الذات إلى غايته فى الآخرين إشارة إلى الامتداد فى الناس طولا وعرضا، وصورت ذلك كما يلى:

ان‏ ‏‏ولادة‏ ‏الذات‏ ‏لا‏ ‏تتم‏ ‏إلا‏ ‏بوسائل‏ ‏وفرص‏، ‏ليست‏ ‏غاية‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏حق‏ ‏مواكب‏ ‏لمسئولية‏ ‏وعى ‏الإنسان‏ بمهمة حمل الأمانة، ‏ومن‏ ‏أهمها‏ ‏العدل‏ ‏الذى  ‏شغلت‏ ‏مساحته‏  ‏ما‏ ‏يحق‏ ‏لها‏ ‏أن‏ ‏تشغله‏ ‏طوال‏ ‏”الملحمة”، ممثلاً أساسا فى “عاشور” الأول “صاحب الحلم والنجاة والعدل الشامل” (ص.م: 206).

وقد وجدتها فرصة أثناء محاولتى الآن نقد “حضرة المحترم” أن أقارن اغترابا آخر فى خلود أبعد عن الشذوذ، لكنه أقرب إلى الشقاء، وجدتها فرصة أن أعود إلى الملحمة ربما أنجح أن أوضح ما أوجزتُ عن الجانب الإيجابى لهذا النوع الآخر من الخلود عرضته الملحمة من منطلق علاقة الوعى الفردى بالوعى الجماعى إلى وجه الله.

الدراسة الحالية تبدأ بتناول الامتداد “فى” الناس، كما ورد فى الملحمة إلى الوعى المطلق إلى وجه الله، ممثلا فى اختفاء عاشور الناجى الأول مع حضوره وانتظار عودته طول الوقت، وذلك قبل عودتى إلى المقارنة بين الخلود المجنون عند جلال صاحب الجلالة (ملحمة الحرافيش)، والخلود التقديس الدنيوى عند عثمان بيومى (حضرة المحترم)

خلود الوعى “فى” الناس (عاشور الناجى الأول)

منذ بداية ملحمة الحرافيش، أحضر لنا محفوظ الموت بشكل ماثل زاحف وصل إلى عاشور وهو يتابع سلسلة النعوش تتوالى إلى “القرافة” على أثر “الشوطة” التى ألمت بالحارة، وباعتراف بسيط  بالخوف البشرى وهو يواجه الموت وهو يلاحقه، قرر عاشور أن يقاومه حتى بالهرب، لكنه لم يكن هربا جبانا  من الموت بقدر ما كان مقاومة تستند إلى سندين: علاقته بالحى الذى لا يموت، وانتمائه إلى جـُماع وعى الناس،  بعد مرورنا بكل هذه الأجيال رجَح أن ثم وعيا غائرا عند عاشور كان يدرك ذلك، وأنه لم يقل لناسه، ولا لأسرته “وداعا”، ولكن ما وصلنى أنه قال وهو يغادرهم دون استئذان “إلى لقاء”، وقد وصلت التحية والوعد إلى الناس بيقين غائر، فصدقوا أن مقاومته (لا هروبه) انتصرت، وراحوا ينتظرون عودته وكأنها عودة المسيح أو المهدى المنتظر

بدأ  عاشور رحلة المقاومة مستظلاً بالتكية رمز “الغيب” و”الغموض” و”الوعود” و”الخلود”، وراح يعاتب  ساكنيها على موقفهم السلبى أو المتفرج على مواكب النعوش التى تحصدها الشرطة.

“…فى ظلمة داجية تهادت الأناشيد من التكية فى صرحها الأبدى. لا نغمة رثاء واحدة تنداح بينها. ألم تعلموا يا سادة بما حل بنا؟. أليس عندكم دواء لنا؟. ألم يترام إلى آذانكم نواح الثكالى؟. ألم تشاهدوا النعوش وهى تُحمل لصق سوركم؟” (ص.م: 56)

وربط عاشور وعى التكية بالوعى الكونى بشكل ما: “وشم رائحة غريبة لا تخلو من نفحة ترابية. إنها تتلقى من النجوم أوامر صارمة”.(ص.م: 57). خاف عاشور الموت فعلا بشرا ضعيفا آملا مؤمنا مجاهدا، واعترف بخوفه المشروع دون هلع مضلل: “جرب عاشور الخوف لأول مرة فى حياته. نهض مرتعدا، مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه إنه الموت.”(ص.م:57).

وحين قرر اللجوء إلى الخلاء بعد حلم رأى فيه الشيخ عفرة زيدان يلهمه أن يلجأ إلى القرافة نحو الخلاء والجبل دار هذا الحديث مع زوجته الثانية “فـُلـّه” أم شمس الدين:

“- ماذا حلمت يا رجل؟

– أبى عفرة أرانى الطريق..

– إلى أين؟

– إلى الخلاء والجبل!

– إنك ولا شك تهذى…

– بل رأيت الموت أمس، ورائحته شممت..

– وهل الموت يعاند يا عاشور؟

فقال وهو يحنى رأسه فى حياء:

– الموت حق والمقاومة حق..

– ولكنك تهرب!” (ص.م: 58)

“- من الهرب ما هو مقاومة!” (ص.م: 59)

وظهرت علاقته بالموت وربطه بالمولى مختارا وهو يجيب على سؤال ابنه هبة الله.

“-ألا يوجد الموت فى الخلاء يا أبى؟

فقال عاشور وهو يزداد غضبا:

– علينا أن نبذل ما فى وسعنا وأن نقدم الدليل للمولى على تعلقنا ببركته”(ص.م:60) 

وحين غادر لم يكن يتجه إلى فراغ، “وتراءى الجبل شاهقا، رزينا، صامدا، لا مباليا. هتف عاشور: “الله أكبر…” (ص.م: 62)

فتأكد الفرض أنه  كان هربا إلى رحاب الله وليس هربا من الموت، وبلغة الدراسة السابقة، كانت بداية دورة جديدة وليست انغلاق دورة منفردة، ومن المهم أن نلاحظ أن هذا هو ما جاء فى نص  حديث له مع فله فى سياق بداية مقاومته: 

“ونظر نحو فلة وقال مشجعا:

– انتهت الرحلة..

ثم وهو يضحك:

– بدأت الرحلة!” (ص.م: 63)

بهذا الوضوح تجلى خلود عاشور الناجى الأول، فنجا من كلٍّ من الموت الفناء، ومن الخلود الجنون الغباء، فهو حين قام برحلته الأخيرة المستمره، كان فى صلح واضح مع خالقه  برغم ظاهر ما ارتكبه، وهكذا دام خالدا فى وعى الناس، وليس فقط فى امتداده فردا فى دورة حياته التالية،  ظل عاشور الناجى الأول خالدا فى وعى كل من أحبه ومن أبغضه، وجاء هذا مكررا فى نص أقوالهم، وفيما يلى بعض ذلك: 

“وقالوا إن هذا يعنى أن عاشور حى لم يمت”. (ص.م: 104) “وآمن الناس بأن عاشور الناجى لم يمت”. (ص.م: 106) “وهرع إليه الرجل متلهفا: فتخطاه بنظرة باردة وقال بحزم: عاشور الناجى لم يمت”. (ص.م: 122). واعتبروا الاختفاء كرامة أولياء: “-ألم يكرم عاشور الناجى بالاختفاء وهو فى عز القوة والكرامة؟!” (ص.م: 133) كما ظهر فى حلم شمس الدين (أو خياله): “وأقبل نحوه عاشور الناجى حاملا على ذراعيه أمه الجميلة فى كفنها الكمونى، وفرح لظهور عاشور بعد اختفائه الطويل. وقال إنه كان على يقين من ظهوره ذات يوم“(ص.م:144). ووصل أمر خلوده فى وعى الناس إلى حد التقديس، كما فى الحديث بين بكر وأمه سنيه، “……. فجفلت سنية وقالت مخاطبة ابنها بحدة: جدك رجل مقدس يا بكر…”(ص.م: 158) ويتمادى الخيال والحلم والرؤية، فيردد الحرافيش، “… إن عاشور صاحب الحلم والنجاة والعدل الشامل ظاهرة خارقة لا تتكرر.”(ص.م: 206) وحتى حين جن جلال الأول أو كان على وشك الجنون بدأ تحديه للموت وإنكاره باستشهاده بخلود جدّه، واستهانته بالموت وأن الاستسلام له ضعف وخيانة: “وتاه عبد ربه عزة وكرامة، وراح يبشر فى البوظة بالعهد الجديد. إنه يستقبل الآن بالإجلال والإكبار، ويلتف حوله السكارى يتنسمون منه الأخبار فيقول: رجع عاشور الناجى. ويفرغ القرعة فى جوفه ويواصل” (ص.م: 405) وحين يريد عبد ربه أن يثنى جلال ابنه عن جنونه يشير إلى مقارنة بعاشور الناجى (دون تحديد نوع خلوده الرائع).

“فتساءل عبد ربه بأسى:

– ألا تريد أن تحتذى مثال عاشور الناجى؟

……..

“قال جلال بعد تردد:

إنى أعتقد أنه مازال حيا !” (ص.م: 418)

ويظل عاشور حاضراً فى وعى الناس مدعما بالدين الشعبى الذى يكاد يغلب الدين الرسمى.

“وراح الشيخ يخطب الناس محذرا إياهم من الخرافة والكفر، وقال الرجل “لو بعث عاشور حقا لجاءكم بالطعام” فسخر منه الحرافيش وازدادوا إيمانا”.(ص.م: 498)

وبعد

على مدى عشر حكايات (عدة أجيال) ظل عاشور الناجى الأول حاضراً طول الوقت فى وعى الناس، ليس كذكرى تحضر فى الذاكرة الظاهرة ثم تختفى وإنما كقوة (بيولوجية ممتدة) حقيقية ماثلة تقترب كلما ابتعدت، ينتظرها الناس كلما غابت عن متناول اللحظة، ثم إن حضوره لم يقتصر على أهل بيته، وإنما غاص فى كل وعى الناس، وكان تأثيره لصالحهم فى معظم الأحيان.

 من هنا يمكن القول أن عاشور الناجى لم يمت، ولا توجد حاجة أصلا إلى أن يعود فعلا، ذلك أن حضوره “المنتظر” أقدر على جمع الناس إلى بعضهم البعض من حضوره الفعلى الذى لابد أن يتحدد بالعمر الافتراضى لأى فرد بشرى، أما حضور الوعى الفردى للإسهام فى تشكيل وحركية الوعى الجماعى طولا وعرضا، فهو جدل دائم، وتوجه نمائىً طول الوقت.

إذا قارنا ذلك بخلود جلال صاحب الجلالة، ذلك الخلود الضلالى المتعين الكاذب فكأننا نقارن إيحاءات وابتهالات وتسبيح وأناشيد التكية النابضة فى الغيب بعقم وقبح المئذنة العقيم بلا مسجد أو مصلين، وإذا كان هذا الخلود المجنون العقيم قد انتهى بصاحبه جثه منطرحة على حافة حوض الدواب بين العلف والروث، فقد انتهت المئذنة بأن “اقتلعت اعضاءه من جذورها”(ص.م: 562). “ويهلل الحرافيش ليوم الخلاص، ويسبحون فى بحر النور، وتتقوض مئذنة الجنون فتتراكم أنقاضها فوق الغدر والخيانة والسفة”(ص.م: 488)

وهكذا حل الخلود الوعى الجماعى، وعبر الأجيال، محل الخلود الشذوذ المستحيل الغبى ممثلا فى رمز “مئذنة الجنون” ليعلنها عاشور الأخير “إنه يريد أن يتفوق على جده نفسه – لقد اعتمد جده على نفسه على حين خلق هو من الحرافيش قوة لا تقهر”(ص.م: 562).

قبل أن ننتقل إلى ضلال الخلود فى جنون جلال وقد استوفى حقه فى الدراسة السابقة – مقارنة بلانهائية عثمان بيومى تقديسا للحياة – دعونا نتوقف قليلا نلتقط أنفاسنا مع عناد شمس الدين (الأول) ضد زحف الشيخوخة والزمن:

هامش عن مقاومة شمس الدين للشيخوخة (ضد الموت)

ظهرت ملامح النزوع للخلود فى الوعى العام من بداية البداية، فبعد اختفاء عاشور الناجى، دعت فلّه أم شمش الدين لابنها وهو يغادرها. “فليمد الله فى عمرك حتى تلعن الحياة”(ص.م:97). ويبدو أن الدعوة استجابت بعد عدة أجيال فى جلال صاحب الجلالة، فيرد عليها شمس الدين “أستودعك الحى الذى لا يموت”، فيشير حدسه بالتالى إلى نفى وهم الخلود (ص.م: 97) وأنه لا خلود إلا لله بدءًا من هذه الحدوس الباكرة يسير الخلود فى مسارين متوازين حتى يرجح فى النهاية الخلود فى الناس فى الوعى العام.

ظهرت ملامح تحدى الزمن فى الجيل الثانى للحرافيش عند شمس الدين الناجى الذى يمثل الجيل الثانى مباشرة حين أبى أن يستسلم للزمن حتى صارع ابنه سليمان تحت دعوى أنه يدربه حتى غلبه برغم فارق السن، ومع ذلك فلم يستطع أن يخفى تفاعله الرافض لحوار عتريس مع أحدهم حول ما أصابه من إغماءة عابرة: “لعله العمر!” فكأنه طعنه: إذ اجتاحته شعلة غضب وغادر مكمنه فرجع إلى عتريس وهو يهتف أيها الجماد! ورفعه بين يديه عاليا ورمى به فى الحوض”(ص.م: 138).

ويلاحِظ شمس الدين ما يدور بنفسه وحوله ويحاول أن يضبط هذا الذى يتكون داخله عن الخلود والقوة التى لا تزول، ويحاول أن يحد منها وهو يتساءل: “لماذا تتمسك بالقوة ولست عابدها الأوحد، الشيب ينتشر، أيضا التجاعيد حول الفم وتحت العينين.”(ص.م: 139)

ويزحف الزمن ويؤكد له الواقع أن النهاية تقترب، كما يتجسد ذلك فى صيحة طفل يلهو: “وكان راجعا إلى البيت ظهرا عندما ارتطمت قدمه بنحلة يلعب بها طفل. وجاء صوت الطفل وهو يصيح مغيظا: يا عجوز يا أعمى!”(ص.م: 140)

ويربط شمس الدين هذا بالموت قائلا: “أليس من الأفضل أن نموت مرة واحدة”(ص.م:140)

بعدها مباشرة (نفس الصفحة) ماتت عجميه بعد إفاقه خادعة. جعلته يقول لها،”لقد شفيتِ يا عجمية”، ولكنها أسرعت الخطى إلى مصيرها وهو يسندها إلى صدره “رفيقة العمر تحتضر” (ص.م: 141). وانتظر الموت وهو يقر لابنه بالهزيمة “ماذا تعرفون عن لعنة العمر؟” (ص.م: 142) ولكنه يظل يصارع المجهول حتى النهاية حين يهزمه الموت إذْ: “يسدد إليه ضربة فى الصدر لم يعرف لعنفها مثيلا” (ص.م:  145)

وهكذا نرى كيف قاوم عاشور الموت بالانتماء إلى وعى الناس تحت مظلة “الله أكبر”، وكيف فشل شمس الدين فى الحيلولة دون تمادى الضعف حتى الموت هو وزوجته وكأنها مباراة معروف نتيجتها مسبقا طالما اعتمد على تمادى سطوته البشرية المحدودة مكتفيا بذاته مهما بلغت قوته، ثم كيف عاد عاشور الناجى خالدا فى “الوعى الجماعى” لناسة، كما تجسد فى عاشور الناجى الصغير يلخص لنا الخلود فى “لحظة من لحظات الحياة النادرة… لا شكوى من عضو أو خاطرة أو زمان أو مكان”(ص.م: 562).

ثم ننتقل إلى الدراسة المقارنة:

ضلال الخلود بين جلال “صاحب الجلالة” وعثمان بيومى:

من البداية نلاحظ أن الثقافة التى أفرزت ضلال جلال صاحب الجلالة تختلف عن الثقافة التى ترعرعت فيها “لا نهائية” عثمان بيومى، فمن الناحية التاريخية لا يمكن تحديد أحداث ملحمة الحرافيش إلا بالتقريب أيام أن كانت الفتونة عرفا سائدا ونظاما له قواعده وآدابه ومعاركه وأصوله، أما تاريخ أحداث “حضرة المحترم” فيمكن أن يكون فى الربع الأول من القرن الماضى أو ربما قرب منتصفه مثلا، ومن الناحية الجغرافية فإن أحداث الروايتين تقع فى أحياء شعبية جدا وفقيرة أيضا، وإن اختلفت نوعية الثقافات الفرعية حسب التاريخ وتفاصيل العادات والتقاليد،

ثقافة أجيال ملحمة (الحرافيش) تبدو ثقافة القوة والفتوة (والفتونة) والتجارة والأعيان، وربما تحددت قوانين البقاء فيها بأن: “البقاء للأذكى” و”الأقوى” و”الأسرع” بغض النظر عن محتوى أدائه، يجرى ذلك على خلفيهَ تبعية واعتمادية أغلب الحرافيش عادة، والكل يجرى فى ظل إيمان بالقدر وعشم فى الله، وتسليم للأقوى فى نفس الوقت.

أما ثقافة مجتمع عثمان بيومى فهى ثقافة، البؤس والخوف والظلم بما تتضمنه من حفز البعض إلى الكدح والصبر فالطموح واستسلام عموم الباقين، كل ذلك منضبط بنظام حكومى صارم، ليس عادلا بالضرورة، نظام مدعوم بأعراف دين شعبى طيب، مسكِّن غالبا.

فى ثقافة جلال تطورت فكرة الخلود من أول مقاومة عاشور الناجى الأول للموت دون إنكاره أو تحديه، أملا فى امتداد فى الناس تحت رحمة خالقهم كما بينا، إلى أن تمادت الفكرة وانحرفت وتعملقت حتى تجسدت بعد أن تشوهت وتفردت وتفعلنت عيانيا فى يقين راسخ فى فرد بذاته استطاع، أو اضطر، أن يعلنها صراحة، ثم راح يمارسها من خلال جنون فكره وسلوكه وما ترتب عليهما، ضد قوانين الواقع، وأيضا ضد الثقافة العامة المحيطة، وضد ناسه وقبل هذا وذاك ضد نفسه فهى الضلال([96]).

صاعقة الموت فى مقابل سرقة الحياة:

عثمان بيومى خرج من قاع المجتمع المصرى الفقير المكافح فعلا وجدا، والده عربجى سائق كارو، وأمه تعمل أى عمل تعين به الأسرة، “…عاملة‏ ‏كادحة‏، ‏تكد‏ ‏بصبر‏ ‏النمل‏ ‏ودأبه‏ ‏سعيا‏ ‏وراء‏ ‏القرش‏، ‏تسند‏ ‏به‏ ‏زوجها‏ ‏وترمم‏ ‏عشها‏، ‏دلاله‏ .. ‏ماشطة‏ .. ‏خاطبة‏، ‏وغير‏ ‏ذلك”‏(ص.ح:12).

وسط هذا المستوى من الفقر والعوز تبدأ رسائل النهاية تلاحقه بتتابع جاثم وإصرار مظلم، وإن لم تتجسد فى حادث واحد فاجع مدعم بقدر غادر كما حدث فى حالة جلال الطفل فى الملحمة، عثمان: “يتذكر أسرته فيشقى بالتذكر، ويرثى لوالديه ويقرن تلك الأحداث بدراما عليا يتطلع إليها باحترام ووجلَ” (ص.ح: 14)، أما جلال فهو يعايش الموت بوعى حى ثائر غاضب فى دراما ماثلة فى أعماقه، دراما حية متجددة ومنظر رأس أمه المهشمة يختلط بانسحاب الحياه من وجه قمر خطيبته الجميلة الراحلة.

الثقافة العامة التى نشأ فيها عثمان بيومى، لا تؤدى-عادة- إلى الضلال الصريح، “فالمصائر تتقرر فى الحارة بفضل الإرادات المتصارعة والقوى المجهولة ثم تتقدّس فى الأبدية”، (ص.ح:14)، وهكذا تتم “التسوية” الواقية من الجنون، ولو مؤقتا، حين يلحق تعبير “تتقدس فى الأبدية” شرح مباشر يقول: “لذلك فهو يؤمن بنفسه بلا حدود” (ص.ح:14).

وقبل أن تتعملق نفسه وتتألّه يلحقه دينه الشعبى الداعم فيردف وهو يستطرد، “ولكنه يعتمد فى النهاية على الله ذى الجلال” (ص.ح: 14). ويردف كذلك: “لذلك لا تفوته فريضة…الخ”(ص.ح:14).

هذه التسوية الصلبة المدعمة بالدين الشعبى أحيطت طول الوقت بذكر الله، أعنى بألفاظ ذكر الله، والدعاء له، والتبرك به، والاعتماد عليه، وقد تواتر ذلك بإلحاح حتى لحق بكل تصرف قام به عثمان سواء كان نحو لانهائية المجد أم اعترافا بضعف البشر واحتياجهم، وحتى إثر تجاوزاته السلوكية وقد حاولت أن أحصى كم مرة ذكر اسم الجلالة، ثم عدلت، فالتكرار أظهر من أن يحصى عددا، أقول إن تواتر ذكر كلمة الله بهذا الإلحاح لم يوصل لنا إيمان عثمان المتكامل، ولا حضور الله سبحانه فى حركية علاقته بالآخرين عباد الله العاديين، مقارنة بتوجه عاشور الناجى الاول من الناس إلى الخلاء  إلى الله عودة إلى الناس تأثيرا وانتظارا، هكذا أعلنها عاشور وهو يغادر خلق الله مؤقتا، و“علينا أن نبذل ما فى وسعنا وأن نقدم الدليل للمولى على تعلقنا ببركته” (ص.م: 60). ثم “الله أكبر” ويمضى ولا يعود شخصا بل وعيا ضمن الوعى الجمعى.

 ذِكْر كلمة الله عند عثمان كانت متضمنة فى عبارات وجمل حماسية دون شك فى نفاق أو رياء، لكنها كانت تظهر عادة لاحقة، أو مخففة، لجرعة التمركز اللانهائى حول الذات وأغراضها الدنيوية فى العادة، وقد بدأت هذه العادة منذ الطفولة إلى نهاية العمر، وفيما يلى أمثلة لذلك:

“ولكنه‏ ‏يعتمد‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏على ‏الله‏ ‏ذى ‏الجلال‏”. (ص.ح: 14) “قال‏ ‏لنفسه‏ ‏ان‏ ‏الله‏ ‏لم‏ ‏يخلقنا‏ ‏للراحة‏ ‏ولا‏ ‏للطريق‏ ‏القصيرة”. (ص.ح: 32) “ولكن‏ ‏المتطلعين‏ ‏إلى ‏المجد‏ ‏فى ‏طريق‏ ‏الله‏ ‏لا‏ ‏يحفلون‏ ‏بالسعادة”‏.‏(ص.ح: 61)  “‏إن‏ ‏جهادى ‏شريف‏ ‏أما‏ ‏العواطف‏ ‏والأفكار‏ ‏فهى ‏ملك‏ ‏لله‏ ‏وحده”(ص.ح: 78)‏.‏ إنه‏ ‏يؤمن‏ ‏بأن‏ ‏الله‏ ‏خلق‏ ‏الإنسان‏ ‏للقوة‏ ‏والمجد‏، ‏الحياة‏ ‏قوة‏، ‏المحافظة‏ ‏عليها‏ ‏قوة‏، ‏الاستمرار‏ ‏فيها‏ ‏قوة‏، ‏فردوس‏ ‏الله‏ ‏لا‏ ‏يُبلغ‏ ‏الا‏ ‏بالقوة‏ ‏والنضال”‏.‏(ص.ح:  78) “إنهم‏ ‏لا‏ ‏يحيون‏ ‏حياة‏ ‏حقيقية‏ ‏ويفرون‏ ‏من‏ ‏واجبهم‏ ‏المقدس‏. ‏يجفلون‏ ‏من‏ ‏الاشتراك‏ ‏فى ‏السباق‏ ‏الرهيب‏ ‏مع‏ ‏الزمن‏ ‏والمجد‏ ‏والموت‏ ‏وتحقيق‏ ‏كلمة‏ ‏الله‏ ‏المضنون‏ ‏بها‏ ‏على ‏غير‏ ‏أهلها‏”.‏(ص.ح: 104) “إن‏ ‏الدولة‏ ‏هى ‏معبد‏ ‏الله‏ ‏على ‏الأرض‏، ‏وبقدر‏ ‏اجتهادنا‏ ‏فيها‏ ‏تتقرر‏ ‏مكانتنا‏ ‏فى ‏الدنيا‏ ‏والآخرة‏.”(ص.ح: 167) “ولكنه‏ ‏اكتشف‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏المناسب‏ ‏السر‏ ‏المقدس‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏الضعيفة‏، ‏كما‏ ‏اكتشف‏ ‏حكمة‏ ‏الله‏.”(ص.ح: 170)  “ولكنهم‏ ‏يؤمنون‏ ‏بأن‏ ‏آمال‏ ‏الفرد‏ ‏رهن‏ ‏بأحلامهم‏ ‏الثورية‏!، ‏حسن‏… ‏أى ‏ثورة‏ ‏تضمن‏ ‏له‏ ‏الشفاء‏ ‏وإنجاب‏ ‏الذرية‏ ‏وتحقيق‏ ‏كلمة‏ ‏الله‏ ‏فى ‏الدولة‏ ‏المقدسة؟‏!.” (ص.ح:  202)

الدين الشعبى الطيب:

الدين الشعبى وكذلك الحس الشعبى يسمح أى منهما أو كلاهما أن يمتزج الفرد بثقافته بطريقتها، لكل ثقافة “رب خاص”، ليس بديلا عن رب العالمين، وإنما –غالبا- طريقا إليه فى الأحوال العادية والإيجابية، لكن التمادى فى هذه الخصوصية قد يبطئ أو يعيق مواصلة السعى إلى وجه الله، حتى لو لبست غطاء من ألفاظ الدين الرسمى المؤسسى، بل إن هذا التمادى قد يؤدى أحيانا إلى نتيجة عكسية، وأكتفى بهذه الملحوظة حتى لا أستدرج إلى مناقشات نظرية فقهية، لأكتفى بالإشارة إلى أن ذكر الله بهذا التواتر من عثمان بيومى لم يكن مصاحبا بما يتوقع منه من “رفض الشرك” والدخول فى عباد الله – كما ذكرت حالا- التحاما بالوعى العام والعلاقات الضامة إليه: تجتمع عليه وتفترق عليه، وإنما هو قد وصلنى على أنه دعم لتقديس مكاسب ورموز الحياة الدنيا بالصورة التى اعتنقها عثمان حتى كادت تصبح شركا خفيا، هذا الموقف قد أدى إلى معادلة ناجحة وصعبة وبائسة، فقد حقق لعثمان ضمان تقديس اللانهائية أقوالا ومواقف وهو يلبس ثوب الطموح بلا نهاية، كما سمح له بقدر من التواصل الاجتماعى المحدد فى حدود مجالات طموحه، وفى نفس الوقت حقق تصوُّرا لعلاقة خاصة بالله ألفاظا فحسب، لكن مع الاحتفاظ بحق التحوصل على الذات والانتماء إلى اللانهائية طول الوقت، وهكذا حقق نوعا من التسوية الناجحة التى أغنته عن إعلان ضلال الخلود برغم أنها – التسوية- انتهت به إلى أن جعلت نجاحه المتفرد هو الفشل بعينه، وكأنه الصورة “العادية” لضلال الخلود حين يعجز عن أن يظهر جنونا صريحاً مثلما حدث فى حالة جلال (الحرافيش).

لست متأكدا، لكن يبدو أن حدس محفوظ فى الملحمة استطاع أن يميز بين الخلود وبين اللانهائية، فهو لم يستعمل هذا اللفظ  “اللانهائية” إلا مرة واحدة وهو يصف سحر العادة وهو يدفع بالخطب الجليل (اختفاء الناجى الكبير) فى تيار الأحداث العادية “ومضى سحر العادة القاسى يفعل فعله بالخطب، يعاشره ويألفه ويهونه، ويدفعه فى تيار الأحداث اللانهائية فيذوب فى عبابها”(ص.م: 96)، فيصلنى أن ذوبان الحدث فى تيار الأحداث اللانهائية إنما يبعده عن الخلود لا يكافئه بالخلود ولا يقربه إليه.

 يبدو أن حدس عثمان بيومى قد بدا نشطا منذ طفولته حين:  “… رأى ‏بعينيه‏ ‏الحادتين‏ ‏أول‏ ‏شرارة‏ ‏مقدسة‏ ‏تنطلق‏ ‏من‏ ‏فؤاده‏ ‏النابض‏ ‏وأيقن‏ ‏أن‏ ‏الله‏ ‏يبارك‏ ‏خطاه‏ ‏ويفتح‏ ‏له‏ ‏أبواب‏ ‏اللا‏نهاية“(ص.ح: 13)‏. فحقق من النجاح (حتى فى المدرسة الثانوية) مالم يصدقه أحد فى حارة الحسينى”. ولكن كيف يمكن لطفل أن يرى بعينيه “شرارة مقدسة” “وأبواب اللانهائية” إلا أن يكون بأثر رجعى؟! الأرجح أنها خبرة حقيقية تعويضية باكرة، لكنها لم تلبس هذه الألفاظ بالذات إلا وهو “يتذكر”.

 ثم راح الموت يلاحق عثمان طفلا بتسارع دال، لكن بلصوصية خبيثة، وظلم فادح، نبدأ بموت أبيه كما أشرنا. “ومرض‏ ‏عم‏ ‏بيومى ‏مرض‏ ‏الوفاة‏ ‏وابنه‏ ‏فى ‏السنة‏ ‏الثانية‏، ‏فندم‏ ‏الرجل‏ ‏على ‏ما‏ ‘‏فعله‏’ ‏بابنه‏ ‏وقال‏ ‏له‏:‏‏ ‏ها‏ ‏أنا‏ ‏أتركك‏ ‏تلميذا‏ ‏لا‏ ‏حول‏ ‏له‏، ‏فمن‏ ‏يسوق‏ ‏الكارو‏، ‏ومن‏ ‏يحفظ‏ ‏البيت؟ وفاضت‏ ‏روح‏ ‏الرجل‏ ‏وهو‏ ‏حزين”‏. (ص.ح: 13)

ويتراءى فى الأفق موقف الأم المشارك فى طموح ابنها إلى المجد الدراسى الوظيفى المقدس، “وضاعفت‏ ‏الأم‏ ‏من‏ ‏نشاطها‏ ‏مؤملة‏ ‏أن‏ ‏يجعل‏ ‏الله‏ ‏من‏ ‏ابنها‏ ‏كبيرا‏ ‏من‏ ‏الأكابر‏”(ص.ح:13) لكن الموت يسارع بخطفها أيضا فيحرمه من هذا الدعم الواعد، “ولولا‏ ‏وفاة‏ ‏الأم‏ ‏بغير‏ ‏توقع‏ ‏لأكمل‏ ‏عثمان‏ ‏تعليمه‏” (ص.ح: 13). “ماتت وهى تعمل، كانت تغسل فانطوت على نفسها حتى تقوست وراحت تصرخ من شدة الألم وجاءت الإسعاف وحملتها إلى قصر العينى وتقرر إجراء جراحة فى الأعور قتلت أثناءها” (ص.ح: 22) (لاحظ كلمة قتلت وليس ماتت). هل خطر أيضا بوعى الطفل أنه ربما قتلها الأطباء-إهمالا- بالتحالف مع الموت، و“قتل أخوه الأكبر – كان شرطيا- فى مظاهرة، وماتت أخته بالتيفود فى مستشفى الحميات” (ص.ح: 14)، و”أخ أخر مات فى السجن“، وكان قد دخل السجن فى نفس المعركة التى قبض فيها على والد حبيبته “سيدة”.

هكذا تسحب الموت إلى وعيه سارقا، قادرا، غامضا، مُصِرّا، مغتصبا، بلا إنذار ولا تمهيد، ولم يميز هذا الموت اللص بين أخويه: أحدهما مع الحكومة والآخر مع من يتظاهر ضد الحكومة، لكن المهم هو خطف الحياة دون تفسير، فهل كان أمام عثمان لمقاومة هذه الإغارات المتلاحقة إلا أن يتمادى مع حدسه التعويضى الذى ملأ وعيه طفلا ليدفعه لكل هذا التفوق منذ ذلك الحين وحتى النهاية التى تحولت عنده إلى ” اللانهائية”، وربما كان فى هذا كله ما يفسر الدافع للإلحاح فى ترديده للفظ الجلاله حتى لو لم يكن بالعمق الكافى، أصبحت آلام عثمان وقودا لاندفاعه فى مسيرة الطموح اللانهائية، وكلما اشتدت الحسرة بعثمان زاد طموحه وترعرت أحلامه: “وقد‏ ‏اشتدت‏ ‏لذلك‏ ‏حسرته‏، ‏وضاعف‏ ‏من‏ ‏حدتها‏ ‏اكتمال وعيه‏ ‏بطموحه‏ ‏وبأحلامه‏ ‏المقدسة”‏‏‏ (‏ص.ح: ‏13)

الصورة التى قدمها محفوظ فى “حضرة المحترم” لزحف الموت بنذالة ووغدنة وإصرار كانت بالغة الدلالة وقد رسمها فى توالى الرحيل بدءًا بموت الأب المتواضع المكافح، “ووجد‏ ‏ذات‏ ‏مساء‏ ‏ميتا‏ ‏حيث‏ ‏يجلس‏ ‏على ‏الفروة‏ ‏فلم‏ ‏يدر‏ ‏أحد‏ ‏كيف‏ ‏حضره‏ ‏الموت‏ ‏ولا‏ ‏كيف‏ ‏تلقاه‏ ‏هو”(ص.ح:22)، أما موت أمه فى قصر العينى بعد عملية الزائدة وموت أخته بالتيفود فكانت أيضا أشبه بالخطف أو دس السم، لتكتمل الصورة بموت (أو مقتل) شقيقيه كل على جانب من جوانب الصراع.

كل هذا الموت والقتل/بالموت. لم يخلّ بتوازن عثمان، وإن دفعه إلى كل هذا التضخم فى الذات، لا بأوهام الألوهية بشكل مباشر، وإنما بالتعويض الملتزِم المقدس، وتمجيد الحياة للحياة بلا حدود ولا نهاية، فتنمو أحلام وطموحات اللانهائية، بديلا عن ضلالات الخلود أو الألوهية، وهو يحمى نفسه من جنون التألة بوسواس ترديد اسم الله المتكرر طول الوقت.

عودة إلى جلال (الحرافيش):

ننتقل الآن إلى جلال، فقد تعرّف أيضا على الموت طفلا، ولكن بصورة درامية قاسية مرعبة شديدة القسوة والإهانة معا، وإذا كانت أم عثمان قد سرقها الموت متسحبا فأخذ معها زاد عثمان من الدعم الوالدى البديل مما اضطره أن ينكص إلى “عدم الأمان الأولى)[97]) الذى رسم خطوط برنامجه الذى أدى إلى تضخم ذاته طول الوقت برغم اهتزاز صورتها بما فى ذلك اختباره لشكله فى المرآه، “وعلى غير عادة كان ينظر طويلا فى المرآة” ويقول: “مازلت مقبولا!”(ص.ح: 179) فإن المسألة لم تكن بهذا التسحب ولا هذا التدرج عند جلال الطفل الجميل المنعّم المحبوب، لقد كانت البداية أضخم درامياً، وأبشع تشويها، وأقسى إغارة. “لم يكتب على طفل ما كتب على جبين جلال بن زهيرة بن عبد ربه الفران من المعاناة والألم. منظر تهشيم رأس أمه الجميلة انغرز فى أعماقه، كابوس دائم يعذب يقظته ويكدر أحلامه، كيف تأتّى لهذه القسوة أن توجد، كيف أمكن أن يلقى جمال نبيل تلك النهاية البشعة؟. لماذا وقع ذلك، لماذا صمتت أمه، لماذا اختفت .. وماذا جنى حتى يحرم من جمالها وحنانها وأبهة الحياة النابعة منها………، “إن العظام المحطمة الغارقة فى بركة الدم لا تنسى إلى الأبد.”(ص.م:381)

لا توجد فى حضرة المحترم تفاصيل كافية عن علاقة عثمان بأمه، وتعلقه بها بمثل هذه الدرجة أو النوعية التى وصلتنا من وصف علاقة جلال بأمه، صحيح أن أم عثمان كانت أقرب إليه من أبيه، وكانت تشاركه ولو من بعيد الأمل فى طموحاته، لكنها لم تكن تمثل له الحياة كل الحياة هكذا، ثم إن موتها جاء ضمن طابور الموت الوغد السارق الزاحف الصامت بلا تفسير، وكأنه القدر العادى الذى يبرره الدين الشعبى عادة (الموت على رقاب العباد) حتى بدا لى أن مسلسل الموت كان أقرب – مع الفارق- إلى ما وصل إلى عاشور الناجى من مواكب النعوش بعد الشوطة.

أما ما وصل إلى جلال طفلا فكان إغارة ساحقة على كل وعيه فرسخت وما تزحزحت، فالمسألة هنا ليست ذاكرة يمكن أن يمحوها النسيان، وإنما هى اقتحام وعى بوغدنةٍ فعل شائه مشوِّه، لم يكن الذى اقتحم وعى الطفل “وانغرز فى أعماقه” مجرد منظر تهشيم رأس أمه الجميلة، وإنما كانت أمه نفسها تنطبع([98]) مسحوقة مشوهة متألمة وكأنها تحتمى بداخله من هذه النهاية، جنبا إلى جنب حالة كونها ملتحمة بكل  بشاعة القتل والفقد والغدر وهول المفاجأة.

أم عثمان سُرقت منه سرقة هى بمثابة القتل بالإهمال فانكب على ذاته، متحسرا متألما صابرا مثابرا متحديا بما زرعته ثقافة ناسه فيه: “النجاح” و”الدين الشعبى” و”الله” (الخاص) ولم تحضره أمه بعد ذلك أبدا، ولم تبارك نجاحه الذى لو عاشت كانت ستدعمه، ولم يذكرها فى أوقات توفيقه كلما صعد درجة على سلم المجد، ولا فى أوقات وحدته وجوعه إلى أنيس أو شريكة، ظلت أمه ذكرى طيبه، دافعة مباركة، لكن عن بعد، على مستوى الفكر والذاكرة.

أما جلال فقد حلت أمه بداخله، لم تكن ذكرى كما أشرت، فهى لم تمت وإن كانت قد اختفت من خارجه فحسب، فهو يفتقدها فى الواقع الخارجى فقط، وكلما زاد افتقاده لها خارجه غاصت أكثر بداخل داخله، فهى لا تعود طافية بغموض إلا فى الحلم أو فيما يشبه الحلم، “واستيقظ جلال ذات ليلة قبيل الفجر وهو يبكى فأيقظ أباه المخمور. انزعج عبد ربه ومسح على شعره الأسود الناعم متسائلا: حلمت يا جلال؟ فسأله وهو يجهش: متى ترجع أمى؟ وضاق به من ثقل رأسه فقال له: ستذهب إليها بعد عمر طويل فلا تتعجل..” ( ص.م: 382)

 وإذا كان عثمان قد استسلم منذ طفولته لنذالة الموت ولصوصيته وهو يسرق منه أفراد عائلته الواحد تلو الآخر فإن جلال لم يستسلم أبدا.“ويوم طولب جلال أن يحفظ “كل نفس ذائقة الموت” سأل سيدنا: لماذا الموت؟ فأجابه الشيخ: حكمة الله خالق كل شئ .. فتساءل جلال بعناد: ولكن لماذا” (ص.م: 384)

جلال، وهو يحمل أمه هكذا منزرعة منطبعة داخله، لم يسارع بإنكار الموت إلا بعد فترة مكتفيا بالحسرة والاحتجاج: مرة أخرى: “لماذا وقع ذلك؟ لماذا صمتت أمه؟ لماذا اختفت؟ ماذا جنى حتى يحرم من جمالها وحنانها” ( ص.م: 381)، ثم إذا بالإجابة تأتيه أكثر قسوة وإيلاما فى كلمتين “إنه هكذا“، حدث ذلك بعد أن اختطف الموت حبيبته (وخطيبته) “قمر” التى عوضته – أو كادت تعوضه- بدرجة رائعة فقد أمه، وإن اختلفت الرسائل والأدوار والآمال.

جاء ذهاب “قمر” يؤكد أن العدو القاتل ليس زوج أمه السابق محمد عثمان، وإنما هو الموت، وها هو يخطف منه قمر أيضا دون أى تمهيد أو تفسير أو مبرر، جاءه الجواب: “إنه هكذا“، فاندفع جلال إلى الإنكار ولاحت بوادر الكفر فالجنون. “واعترض مسيرته ذات يوم الشيخ خليل الدهشان شيخ الزاوية فابتسم إليه برقة وقال: لا بأس من كلمة تقال.. فنظر إليه ببرود فقال الشيخ: إن الله يمتحن من عباده الصديقين فقال بازدراء. لا جديد فهذا ما يقوله الديك عندما يصيح فى الفجر.  فقال الرجل: كلنا أموات أولاد أموات. فقال بيقين: لا أحد يموت”.(ص.م:399)

ومع ذلك كان يفيق من ضلاله أحيانا مثلما دار الحديث يوما مع أبيه عبد ربه الفران، فبدا وكأن أباه يعتذر له نيابة عن الموت، عن رحيل قمر قائلا: “كان الأجدر أن أذهب أنا لا هى.. (لماذا؟) هو العدل يا بنىّ. فقال (جلال) باستخفاف: يوجد شئ حقيقى واحد يا أبى: هو الموت”.(ص.م: 400)، وهكذا نلاحظ أنه بقدر ما وصل الموت إلى وعى جلال أنه الحقيقة الوحيدة، ثارت قوة الإنكار فى مواجهته بالجنون الذى يمحو الحقيقة والواقع فى آن.

إرهاصات الجنون:

وحين اعتلى جلال عرش الفتوة ظهرت له ملامح التعويض بالقوة المتزايدة “رفعته القوة وأخرست خصومه فثمل بها وعبدها” (ص.م: 385)،  لكنها لم تكفه واستدرجته إرهاصات الجنون فى الواقع والأحلام. “وصادق ملائكة ذوات أجنحة ذهبية، وطرق باب التكية ففتح له على مصراعية، وطارده قلق متلفع بظلمة الليل، وظلت قمر تومئ إليه من نافذة المشربية” (ص 387) ….. “تتوارى النجوم فوق سحب شتوية كثيفة. وكان البرد قارسا فحبك العباءة حوله وطوق وجهه باللاثة، وغمرته الأناشيد مثل أمواج دافئة”(ص.م: 390) ….. “عقد صداقة مع الظلمة، مع الصوت، مع البرد، مع الدنيا كلها، صمم على الطيران فوق العقبات مثل طائر خرافى” (ص.م: 390)

عواطف وعلاقات:

حتى مقتل زهيرة أم جلال، بل حتى موت قمر كان جلال جميلا نبيلا قويا محبا بحق، وكانت ذكرياته عن أمه كلها حب ورقة وحنين، لكن حدّة عواطفه تراجعت تدريجيا بموت أمه، حتى أحيتها قمر بكل رقتها وحبها، إلا أن “قمر” ذهبت أيضا، فراح ينكر حتى بأثر رجعى أىَّ حب، أى ضعف، “وقال إنه يعترف بأنه ليس عاشقا، لا حزن على حب ضائع، أنا لا أحب، أنا أكره، الكراهية والكراهية فقط” (ص.م:  401)

أما عثمان فقد تعامل مع عواطفه – برغم صدقها وسلاسة بعضها- على أنها نقطة ضعفه، فقد أحب “سيدة” ربما مثلما أحب جلال قمر، لكن عثمان هو الذى قتل هذا الحب بإرادة حاسمة، فقتل معه “سيدة” وكاد يختلط الخيال بالحقيقة واعتبرها النهاية يوم تخيل أنه دخل عليها يوم عرسها وأعلن رفض استسلامه للموت إلى قداسة اللانهاية، “‏اقتحم‏ ‏الفرح‏ ‏حتى ‏قالوا‏ ‏انه‏ ‏مجنون……….، ‏ومضى ‏بها‏ ‏مخترقا‏ ‏ثلاثة‏ ‏أزقة‏ ‏مارقا‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏النصر‏ ‏إلى ‏مدينة‏ ‏الأموات‏ ‏وهما‏ ‏يترنحان‏ ‏من‏ ‏السعادة”(ص.ح: 45)…. “وثقلت عليه المعاناة فى الطريق الشاق، فتذكر معارك الأمم، ومعارك الجراثيم، ومعارك الصحة والعافية فهتف: – سبحان الله العظيم (ص.ح:45)

وراح يقسو على نفسه بلا حدود، فكما هجر سيدة فى بدء حياته جعل يتمارض أمام “أنسية” ليهرب مِـن أحب الناس إليه، ‏”ولكن‏ ‏غلبنى ‏الاستسلام‏ ‏الوهمى ‏للسعادة‏ ‏فلم‏ ‏أحسم‏ ‏الأمر‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يستفحل‏، ‏وكم‏ ‏صممت‏ ‏على ‏مصارحتك‏ ‏بالحقيقة‏ ‏ثم‏ ‏أضعف‏ ‏وأستسلم!” (ص.ح: 132) كان عثمان يقتل عواطفه أولا بأول مع سبق الاصرار، كان يفعل ذلك والألم يسحقه سحقا، فيتمادى فى طريق التبلد العاطفى ظاهريا، عثمان كان يسمح لنفسه أن يحب لكن يبدو أنه كان واثقا من إرادته، ومنذ البداية، إنه يملك لحظة توقيت النهاية، وكما أنه ظل يستطيع أن يتلقى الحب، بنفس الشروط، ليدفع الثمن بكل ألم وصبر، ويبدو أن حرمانه الباكر من والديه وإخوته جعله متعطشا للمشاعر الإنسانية بشكل لحوح سمح له باستقبالها، لكن بشروطه، تلك الشروط التى كانت تتصاعد وتتكاثف حتى تصبح حاجز الصد الحاسم، وسبب الإجهاض المشروع، حدث ذلك بالذات مع “سيدة” و”أنسية”، وكلما زادت جرعة الحب منه ومن شريكته المحتملة تضاعف خطر العلاقة وسارع إلى قتلها، وهو لم يستسلم لراضية عبد الخالق فى النهاية إلا بعد أن بدأ الزمن يفرض قانون الضعف، ومن ثم سلسلة التنازل فالهزيمة بزواجه من قدرية صاحبته المومس ثم التعويض المحدود قصير العمر براضية.

عثمان برغم كل هذا التحوصل حول الذات وبرغم استعلائه على سائر البشر وثقته فى قدراته واستجابته لكل متطلبات ووسائل طموحه، ظل قادرا على الحب “مع وقف التنفيذ”، حتى علاقته بقدرية لم تخل من تعلق بدائى غريزى اكتسب استمراره بالتعود والتفريغ اللذّى شبه المنتظم، عثمان كان حين يقسو يبدأ بنفسه وعواطفه أولا ثم يثنى بمحبوبه وما يحدث يكون، وهو يتألم بصدق لكن ألمه لا يدفعه إلى العدول عن حرمان نفسه والآخر من حقه فى الحياة العاطفية الطيبة، علاقته الطيبة بأم حسنى كانت شيئا آخر حيث كانت أم حسنى تمثل له الملجأ والمرسى الذى يستشيره ويعود إليه قبل وبعد كل جولة، ولعلها كانت تمثل له الأم البديلة الحقيقية، وكانت دليلا أيضا على احتفاظه بنبض عواطفه برغم وقف التنفيذ.

أما جلال فقد عاش طفلا يرفل فى كل الحب الرائع الدافئ من أمه زهيرة “الملكة الجميلة المتوجة”، وقد تجلى ذلك بوضوح لحظة مصرعها، “إنها روحه ودمه، صورتها مطبوعة على وجهه، صوتها يشدو فى أذنه، وأمل استرجاعها ذات يوم لايخبو فى قلبه”… (ص.م: 381)

وحين تحرك قلبه نحو قمر صغرى بنات المعلم عزيز حضرته أمه وهو يقول لأخيه راضى “ألا ترى أن قمر جميلة مثلما كانت أمنا؟” (ص.م: 386) ثم إنه كاد يشخص نوع علاقته بأمه به حين كان يناجى نفسه “ما عيب أمى كانت تبحث عن رجل مثلى، فلم يسعدها به الحظ فى حياتها التعيسة القصيرة([99])، وحين تزوج قمر: ربط نجاحه ونجاحها فى تخطى الصعوبات بعظمة آل الناجى…. “لقد تجلت عظمة آل الناجى فى أشياء وأشياء، ها هى تتجلى اليوم فى الحب .. فابتسمت فى دلال فقال: “الحب يصنع المعجزات ..” فقالت بنعومة: لا تنسى دورى فى صنع المعجزة. (ص.م: 394)

وبفقد قمر وكأنه يفقد أمه للمرة الثانية فتنغرس بداخله أكثر، يبدأ الجنون ويعلنها رافضا أن “كلا”. (ص.م: 397) شعر جلال بأن كائنا يحل فى جسده، إنه يملك حواس جديدة ويرى عالما غريبا، عقله يفكر بقوانين غير مألوفة وها هى الحقيقة تكشف له عن وجهها، رنا إلى الجثة المسجاة طويلا، طوى الغطاء عن الوجه، أنه ذكرى لا حقيقة، موجود وغير موجود، ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن أن يقطع، غريب كل الغرابة، ينكر ببرود أية معرفة له، متعال متعلق بالغيب، غائص فى المجهول، مستحيل غامض مندفع فى السفر، خائن، ساخر، قاس، معذب، محير، مخيف، لا نهائى، وحيد، وغمغم بذهول وتحد:  “كلا”.

يد غطت الوجه فأغلقت باب الأبدية ، تهدمت الأركان تماما، لسان يلعب له هازئا، ثمة عدو يتحرك وسوف ينازله، لن يتأوه، لم يذرف دمعة واحدة، لم يقل شيئا تحرك لسانه مرة أخرى مغمغما:كلا” (ص.م: 397)

وهكذا تراجعت كل العواطف الإنسانية وهو يتحدى الموت، “لن يتراجع، لن يخشى الخلود، لن يعرف الموت، سيظل الكون خاضعا لتقلبات الفصول الأربعة أما هو فربيع دائم، سيكون طليعة كون جديد، أول مستكشف للحياة بلا موت، أول رافض للراحة الأبدية، القوة الظاهرة الخفية، إنما يخشى الحياة الضعفاء” (ص.م: 427)، وقد كان كل ذلك ليتجنب عذاب مواجهة زحف الزمن: “أما معاشرة الزمن وجها لوجه فعذاب لايعرفه الخيال..” (ص.م: 427)

الانفصال عن الناس إلى فوقهم:

اتفق جلال وعثمان فى رفض “العادية”، وبما أن الموت هو النهاية العادية لكل الناس وبما أنه لا عثمان ولا جلال مثلهم مثل كل الناس، فهم أعلى وأذكى وأقوى وأمهر، كلٌّ بطريقته، فجاء الحل أن يكافح عثمان ويواصل الصلاة فى معابد طموحاته وهو يردد بلسانه اسم الله يطمئن بذلك نفسه، فى نفس الوقت يسمح له بأن يضحى بكل الناس، بما فى ذلك شخصه وعواطفه وحبه لكنه يظل محافظا على مظهر “فرط عاديته” مع الاحتفاظ بخصوصيتها. يحتمى بها من جنون صريح، فهو “عادى” بمعنى أنه ليس مجنونا وهو “سوبر عادى” بمعنى أنه ليس كمثله أحد وهو يسير على طريقه المقدس اللانهائى بعون الله.

أما الحل الذى لجأ إليه جلال فى نفس الاتجاه مع الاختلاف فى المظهر والمسار فكان أيضا فى اتجاه أن يتحدى الضعف السارى بين عامة الناس والمتمثل بالذات فى التسليم للموت: “الهاتفون بأن الموت نهاية كل حى. وبأنه الحق. إنه من صنع ضعفهم وأوهامهم. نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف. عاشور حى. أشفق على الناس من مواجهة خلوده فاختفى. أنا خالد. وجدت ما أبحث عنه. وما يغلق الدراويش (فى التكية) الأبواب إلا لأنهم خالدون. من شهد جنازة لهم؟” (ص.م: 401).

ويهيم بالمستحيل، “وتطلع جلال إلى سحابة مظلمة فهام بالمستحيل” (ص.م: 400)، ويرفض كل مغريات الدنيا العادية. وأيضا: “تبدت له الدنيا عجوزا ماكرة قاسية لا حد لمكرها ولا لقسوتها، فأضمر نحو كافة وعودها الرفض والمقت.” (ص.م: 379)، وفى حواره مع عشيقته زينات، الشقراء (التى احتقرها أيضا فى النهاية، أعلن موقفه من تفاهة عامة الناس:(ص.م:  417/418)

  • أصارحك بأننى احتقر الناس

  • ولكنهم مساكين

  • لذلك أحتقرهم” ….” لا تشغلهم إلا لقمة العيش”

حتى موت جلال اعتبره الناس عقابا من الله له على تعاليه عنهم “… أما انطراحه بين العلف والروث عاريا فاعتبر جزاء إلهيا لصلفه وشموخه وتعاليه على البشر” (ص.م: 441)

حين وصل جلال الجواب عن تساؤلاته “لماذا” بهذه السخرية والتحدى “إنه.. هكذا” رفض الإجابة، بل ورفض كل من يستسلم لها، وانتقل خطوتين أو أكثر أعلى من سائر الناس من الحرافيش، وتمادى حتى احتقرهم، “لم يكترث لحال الحرافيش ولا عهد الناجى، لا عن أنانية أو ضعف أمام مغريات الحياة، ولكن ازدراء لهمومهم، واستهانة بمشكلاتهم” (ص.م:  408)

عثمان بيومى أظهر استسلاما مبدئيا بعد فقد أمه وكأنه رضى بالقدر، ثم استسلم أكثر وهو يعايش فقد أفراد أسرته الواحد تلو الآخر، فقبل الموت كما تعلـّمه من دينه الشعبى “الموت على رقاب العباد”، لكن استسلامه لم يكن مطلقا، إذ سرعان ما أعد عدته وكأنه تقمص بالمعتدى وراح يصعد فوق العامة أيضا وكأنه يسلم للواقع ليستعمله (ص.ح: 20) فاستعار من القدر لانهائيته وتعميمه وجعلهما زاده فى التعويض فالقوة والتفوق فالتفوق فالسيادة … بغير نهاية.

عثمان رفع نفسه فوق الناس العاديين، وفوق القيم السائدة، لكنه فعل ذلك بطريقة عادية، وأيضا بمناورة ذكية “… قل‏ ‏أن‏ ‏يرضى ‏عن‏ ‏طبيعته‏ ‏ولكنه‏ ‏يسلم‏ ‏بواقعها‏، ‏ويؤمن‏ ‏بأن‏ ‏طريقه‏ ‏المقدس‏ ‏تتلاطم‏ ‏على ‏جانبيه‏ ‏أمواج‏ ‏الخير‏ ‏والشر‏، ‏وأن‏ ‏شيئا‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينال‏ ‏من‏ ‏قدسيته‏ ‏سوى ‏الضعف‏ ‏والخور‏ ‏والقناعة‏ ‏والاستسلام‏ ‏للمسرات‏ ‏السهلة‏ ‏وأحلام‏ ‏اليقظة” (ص.ح: 77).‏ ثم: “إن رجلا متفوقا مثله خليق بإثارة عواطف الحسد فى النفوس” وهو يدفع لذلك ثمنا باهظا لكنه يقبله ويقدسه. “وطالما‏ ‏شعر‏ ‏بأنه‏ ‏بلا‏ ‏صديق‏ ‏حقيقى ‏فى ‏هذه‏ ‏الدنيا‏، ‏وبأنه‏ ‏وحيد‏ ‏متعال‏ ‏عن‏ ‏الضعف‏ ‏البشرى! (ص.ح: 154)،

ويتمادى استعلاءه فوق عموم العاديين وهو يزدريهم. ‏”‏قال عثمان‏ ‏لنفسه‏ ‏بازدراء‏ ‏غير‏ ‏قليل‏ ‏انهم‏ ‏أناس‏ ‏لا‏ ‏يعرفون‏ ‏لأنفسهم‏ ‏هدفا‏ ‏محددا‏، ‏وإيمانهم‏ ‏الدينى ‏ايمان‏ ‏سطحى‏، ‏ولم‏ ‏يفكروا‏ ‏بما‏ ‏فيه‏ ‏الكفاية‏ ‏فى ‏معنى ‏ الحياة‏، ‏ولا‏ ‏فيما‏ ‏خلقهم‏ ‏الله‏ ‏من‏ ‏أجله‏، ‏وهكذا‏ ‏تتبدد‏ ‏أفكارهم‏ ‏وأعمارهم‏ ‏فى ‏لهو‏ ‏وسفسطة‏، ‏وتهدر‏ ‏قواهم‏ ‏الحقيقية‏ ‏بلا‏ ‏عمل‏. ‏تستغفلهم‏ ‏الأوهام‏، ‏ويمضى ‏الزمن‏ ‏وهم‏ ‏لا‏ ‏يعلمون”‏(ص.ح:27).

جلال لم تنفعه قوته وسطوته وأمواله، فقط استعمل كل ذلك، “كأنما كان يتحصن ضد الموت، أو يوثق علاقته بالأرض حذرا من غدرها،  لقد غرق فى خضم الدنيا ولكنه لم يغفل قط عن خداعها”. (ص.م: 408) لا تعويض ولا امتداد فى أبناء مثلما أمتد عاشور الأول فى آلـِه حتى عاشور الأخير، ولا حب يعوضه بعد اختطاف قمر، وحاول أن يحيى ذكرى جده بالعدل والرعاية وكلما فعل ذلك ازداد قوة، وفى نفس الوقت ازداد وِحْده واقترب من التألة حتى لا يموت، “رفعته القوة وأخرست خصومه فثمل بها وعبدها”. (ص.م: 385)، فهى القوة والجمال الذاتى والعلو الخاص، ولكن ماذا بعد أن يمتلك كل هذه القوة والموت مازال يتربص به؟ وقد ينقض عليه مثلما انقض على أمه، أو يسرقه بلا مقدمات مثلما سرق منه قمر حبيبته؟ جلال يزداد قوة فيبتعد عن الناس ويقترب أكثر من نفسه إلها أقدر، لكنه يُهـَدَّدُ من داخله ومن الزمن بهزيمة زاحفة ساحقة من الشذوذ إلى الجنون إلى الموت مسموما مهانا.

أما عثمان فقد انتهى وقد تعرت حقيقة سعيه وانكشف عمق شركه بالله برغم كل ما يردده من ألفاظ عن الاتكال على الله وابتهالاته كى يوفقه، وهو يقترب فى هذه اللقطة أكثر ما يكون إلى جلال صاحب الجلالة فى ثوب من العادية وهو فوق العاديين.

وبعد:

  • آفاق واعده وملاحظات خاتمة

كنت قد انهيت دراستى الباكرة فى نقد ملحمة الحرافيش بما اسميته “آفاق واعده” عددت فيها العناصر التى شعرت أن الدراسة لا تكتمل إلا بتناولها، إلا أن الفرصة لم تتح للوفاء بهذا الوعد أو بتعبير أدق لتحقيق هذا الأمل، ولم يكن من بين هذه الآفاق التى بلغت سبعة عشر موضوعا تجليات الخلود وتشكيلاته كما ظهرت لى حالا فى هذه الدراسة المقارنة، وقد هدتنى هذه الدراسة إلى وضع تشكيلات الخلود فى الصحة والمرض، فى الإيمان والاغتراب، فى الإبداع والجنون، فى السر والعلن من أول الخلود فى الذرية المباشرة حتى الخلود فى النوع مرورا بالخلود فى المال وبالمال “يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ “، (مثلا كما تجلى فى سيرة بكر سليمان الناجى وغيره) فى السلطة وبالسلطة، ثم ارتباطا بتخليق الوعى الجماعى (وهو غير “غريزة القطيع” وغير “عقل الجماعة” بل يكاد يكون عسكهما)، وفضلت ألا أعدد هذه العناصر الجديدة التى تناولتها الملحمة والتى تحتاج منى إلى عودة حتى لا يتكرر الإخلاف والإحباط.

****

الله: التطور: الإنسان: الموت:

 الله عبر نجيب محفوظ

 (الجزء الأول: مقدمة) ([100])

 

اختلفتُ معه حول  قضيتين جوهريتين هما: الديمقراطية، والعلم، أما مصر، والإبداع، والنقد، والسلام، والحرب، والغرب، والعرب: فكنت فيها كلها طالبا مجتهدا أتعلم، وأنتهز فرصة سماحه لأضع بعض الهوامش والتعقيبات، أما عن “الدين” و”الله” وأحيانا “الأخرة”، فكان تفاهمنا حولها غير لفظى غالبا، اللهم إلا إذا قرأت عليه بحثا أعجبنى فى هذه المواقع الحساسة، أو كتبتُ نصَّا أردتُ أن أعرف رأيه فيه، ولو إجمالا قبل أن اصيغه نهائيا أو أنشره.

أنا لم أعرف هذا الرجل البسيط العملاق العبقرى الإنسان المصرى السهل الممتنع بشكل شخصى إلا بعد الحادث الغادر، تكلمت عن المرة الوحيدة التى التقيته فيها قبل ذلك فى الأهرام، وكان قد قرأ نقدى للشحاذ ([101])، وسألته فى تلك المقابلة عن خبرة عمر الحمزاوى فى الخلاء، وهل هى قابلة للتكرار، وهل تشير إلى أن ثم حلاًّ صوفيا  لمثل حالتنا هذه الأيام، فأجاب بالنفى، وأضاف أن الحل الفردى لا يصلح للجماعة، أقول إننى – فى عالم الواقع-  لم أكن من حوارييه الأقربين ولا الأبعدين، قبل الحادث، كما أننى لم أعدّ نفسى من الحرافيش أبدا، لأننى منذ أصر على التحاقى بمن تبقى فى هذه  الصفوة التاريخية المنتقاة المحدودة – جماعة الحرافيش – وأنا أعد نفسى عضوا احتياطيا يلعب فى الوقت بدل الضائع، برغم شهادته فى الأهرام وغيره.

 حين تفضل وأتاح لى هذه الفرصة النادرة اكتشفت أنها سمحت لى أن أعايشه كل خميس فى هذا اللقاء المغلق بالإضافة إلى اللقاءات المفتوحة الأخرى، كان عدد الحرافيش الدائمين قد تقلص إلى ثلاثة، فكنت ألقاه مع ثالثنا المرحوم توفيق صالح، بالإضافة إلى الأعضاء “بعض الوقت” من الحرافيش القدامى (أحمد مظهر، جميل شفيق) أو العائدين من الخارج فى إجازة (عادل كامل) كما أتيحت لى فرص متعددة أن نكون وحدنا حين يغيب ثالثنا المرحوم توفيق صالح.

ثم إنى بعد زعم رحيله، عدت ألقاه على الورق أيضا كل خميس بدءا من 27/9/2007 حتى 24/12/2009، وكان ذلك تسجيلا على موقعى الخاص، حتى تجمع لى كتاب إلكترونى فى صورة مسلسلة بعنوان: “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”([102]) بلغت صفحاته 479 صفحةA4، ولم أسجل فيه إلا ما كان يتيسر لى فى ذاكرتى دون تسجيل مما يبقى معى من أيام لقائه خلال أول تسعة أشهر من تسع سنوات، حتى اجتماع كل يوم جمعة فى منزلى لعشر سنوات تقريبا، لم أحضره بانتظام، كان منزله هو وليس منزلى، وكنت ضيفا مختارا بإذنه.

ثم إنى واصلت لقاءه –على الورق- بعد ذلك كل خميس أيضا بعد انتهاء كتابى المسلسل هذا حيث انتظمت فى نشر تداعياتى على ما كان يسطره يوميا فى كراسات تدريبه، وذلك ابتداء من الخميس 31/12/2009 حتى الآن (أخر نشرة 4/12/2014)، وقد أطلقت لتداعياتى العنان استلهاما مما ترك مما طفى على سطح وعيه إلى قلمه عفوا جميلا مشرقا، وقد وصلت إلى صفحة التدريب “181” من الكراسة الأولى، وما زال أمامى حوالى 1100 صفحة فى ست كراسات تقريبا. 

الكتاب الأول “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” أقرب إلى انطباعاتى أنا منه وعنه وبعض ما دار بيننا من أحاديث لم أرصدها حرفيا إلا بعد عودتى فى نفس الليلة أو اليوم التالى، فهى لا تكشف عنه بقدر ما تكشف عن انطباعاتى عن ما دار، وتعقيباتى وبعض تداخلات من تصادف حضوره من أصدقائه ومحبيه.

الكتاب الثانى الذى لم استقر على عنوانه بعد، لعله يكون: “تداعيات على تداعيات تدريبات: نجيب محفوظ”، ما زلت أكتب فيه وربما إلى أجل غير مسمى([103])، إلا أننى فوجئت من خلاله بمواجهة منهجية شديدة الإدهاش بالغة الدلالة، ذلك أنها فتحت لى قناة جديدة للتعرف عليه خاصة فى الأمور التى لم أجرؤ أن أفاتحه فيها مباشرة، ما وصلنى حتى الآن هو تأكيد لما تعرفت عليه: شخصا، ومبدعا، ومصريا، إنسانا، جميلا، رقيقا، بالإضافة إلى ما اكتشفته أولا بأول، صفحة بصفحة، عن عمق إيمانه، وروعة توحيده، واتساع موسوعيته، وجمال شاعريته، وحدة ذاكرته، وبعض فلسفته، ثم مدى وعمق حبه لله، ثم احتوائه بشراً فرداً لتاريخ كل ما كان!([104]) وصلت حجم تداعياتى على المائة وثمانين صفحة الأولى من تدريباته حتى اليوم إلى “960 صفحة “A4، ولابد أن أؤكد ابتداءً أن تداعياتى على تداعياته ليست تحليلا نفسيا، فأنا لم ولا أقوم بهذا الدور أصلاً، ولا بهذه الطريقة أبداً، ومعه هو بالذات.

ما أمارسه الآن فى ضوء ما يصلنى من إشراقات هذا النور الطافى من مستويات وعيه، يصلنى باعتباره نعمة ساقها الله إلينا، ربما لنتعرف عليه – وعلينا- أكثر فأكثر من خلال تلقائية حرة لم يكن صاحبها  يعلم أصلا أن أحدا يمكن أن يأخذها هذا المأخذ، لعل ما أتاح لنا ذلك، هو ما عرضته عليه، مداعبا مستأذنا، أن يسمح لى أن أتابع “شكل” ما يكتب، لعل لى فى تقـدُّمه فى إتقان الكتابة رأيا، وهكذا عايشته يوما بيوم وهو يقوم بتدريب يده اليمنى بعد أن أصاب العصب الذى يحركها ما أصابه من طعنة الرقبة إثر الحادث، كان حريصا على أن يرينى ما يكتب، وكنت بدورى حريصا على أن يواصل تدريباته يوميا حتى أننى كنت أتجرأ وأداعبه أحيانا إن كان “عمل الواجب أم لا”؟ فيضحك واسعا، وكان كلما ملأ كراسة أعطاها لى وهو يسألنى عن رأيى فى مدى تقدمه، وأفرح وأعلق، ولا أشجِّـع فما كان يحتاج إلى تشجيع مثلى، واستأذنته أن أحتفظ بكراسات التدريب هذه  الواحدة تلو الأخرى، حتى سلمتها بعد رحيله (المزعوم) إلى أ.د.جابر عصفور ليحتفظ بها فى أوراق لجنة الحفاظ على  تراثه، ثم طلبت منه ومن الهيئة المسئولة عن مواصلة تجديد ذكراه، أن يسمحوا لى بدراسة ما أستطيع من هذه الكراسات، فأذنوا لى وسلمونى نسخة مصورة منها، وما زال الأصل لديهم.

هذا بالنسبة لفرص حصولى على ما تيسر من معرفة عن هذا الإنسان الرائع لحما ودما، واقعا سهلا ممتنعا، وعيا حاضرا ماثلا، إنسانا رائدا طيبا فريدا، أما بالنسبة لنجيب محفوظ الروائى المبدع، فقد عرفته منذ كنت صبيا فى أوائل الأربعينات، وأنا أرجح أن أغلب جيلى، قد تشكل وعيه فى رحاب كتابات هذا المصرى القادر على أن ينقل لنا داخلنا بقدر ما يرصد لنا مجتمعنا وينمى فينا انتماءنا لهذه البقعة من الأرض التى يحبها واسمها مصر، يفعل ذلك وهو يأخذ بيدنا نحو الحق والخير وربنا والناس، ثم تعرفت عليه ناقدا لأعماله، من زوايا لم تكتمل، وقد نشر بعضها فيما نشر([105]).

كل هذه المقدمة لها أهمية خاصة بالنسبة للأطروحة الحالية التى تخص موضوعات من أهم ما تناوله محفوظ إبداعا، وأهم ما تناوله نقاده دراسة وتمحيصا، “الموت” و”الله”، بداية، أما إدخال التطور و”الإنسان” فى هذه المتتالية  التى تبدا منه إليه، فهذا هو البعد الذى سيأتى شرحه فى سلسلة الفروض التى سأقدمها فى هذه الأطروحة مع تعرفى على هذا المصدر الجديد  – صفحات التدريب – إضافة لاجتهاداتى النقدية، وفروضى الشخصية، هذا علما بأننا-هو وأنا- لم نتطرق فى حواراتنا إلى إشكالة التطور بقدر كاف مع أنها شغلى الشاغل، علما بأن انتمائى للتطور خاصة مع تشارلز داروين وإرنست هيكل([106]) قد سمح لى أن أرى فى بعض المبدعين تاريخ كل البشرية، بل والحياة، مثلما وصلنى مؤخرا عن تشارلز داروين وكتبت فى ذلك ([107]).

 الجدير بالذكر أن أول تعارفنا كتابة كان عبر مجلة “الإنسان والتطور” على الوجه التالى: 

بداية حول التطور:

صدر العدد الأول من المجلة الفصلية “الإنسان والتطور” فى أول يناير 1980، وكان المقال الافتتاحى فيه بعنوان “الله: الإنسان: التطور: الله”([108])، جاء فيه: “إن المناداة بالتطور إن لم تتضح أبعادها وعمقها وسماحها وموازاتها لكل ما هو حى ونشِطٌ ومتغير، فإنها قد تدخل فى دهاليز قد تستنفد جهدنا فى الاختلاف حول تفسير أية، أو تأويل حديث،…إلى أن قلت” إن التطور الحتمى لا يتعارض مع أى دين، وينبغى أن يعاد النظر فى التفسيرات السطحية المؤيِّدة، والتأويلات الخانقة المعارضة”

أرسلنا هذا العدد الأول إلى من نثق فى رأيهم، ونريد أن نسترشد بهديهم، طالبين الرأى والتشجيع، وكان هو على رأسهم، فارسل لنا فورا رأيا رقيقا، وتعليقا طيبا، سعدنا به، ونشرناه فى العدد الثانى مباشرة فى إبريل 1980، وهذا بعضه:

تحية طيبة وبعد

فقد اطلعت على مجلتكم، فكانت سبيلى – مشكورة– إلى تصور جديد لعلم النفس يماشى تطلع الإنسان المنهجي المعاصر إلى التوازن والقيم والإيمان، وثق أننى أتمنى لها الاستمرار والنجاح،…….، ولا أشك أنها تحوى جديدا، كما أعتبرها مجلة علمية ثقافية، كما أعتبرها نفحة حياة طييبة فى الركود الخانق، وفقكم الله، ودمتم للمخلص.

  نجيب محفوظ: 24/1/1980

ورددت عليه ردا كان أقل بكثير مما غمرنى من نبض رسالته الرقيقة قلت فيه:

“حفظك الله – سيدى–  من قبل ومن بعد، ونحن نعلم كم أنت مُجامل …إلا أننا نصدق كلماتك كما هى، ولو كانت من قبيل المجاملة، فنزهو أن نكون قد فتحنا لك تصورا جديدا لعلم النفس، وأنت الذى فتحت النفس لنا نتعرف عليها من خلال إبداعك أجمل وأكمل من أى تصور……..، فقد سافرتَ سيدى، داخل نفوس “عباد الله لخلق الله” أبعد من كل علمنا، ……….، يا سيدى يا نجيب محفوظ، أنت إنسان طيب، طيبة القادرين، طيبة مصر، وطيبة الإنسان المنهك المعاصر.

عن العنوان والغاية والمنهج

حين رحت أعد نفسى لكتابة مقال هذا العدد فى الدورية، خطر لى أن أكتبه عن الموت فى أصداء سيرة محفوظ وأحلام فترة النقاهة، حيث الموت مشروع فصلٍ فى الدراسة الشمولية التى وعدت بها بعد الدراسة التشريحية المفصلة([109])، استلزم ذلك منى أن أقرأ قبلا ما تيسر لى من دراسات نقد فى موضوع الموت عند محفوظ، فوجدت نفسى أُسْتـَدرج تلقائيا إلى العودة إلى موضوع “الله” عند نجيب محفوظ، ولم أستطع أن أتصور أنه يمكن البحث فى أى من الموضوعين منفصلين عن بعضهما البعض، وإذا بى وأنا مغمور هذه الأيام فى متابعة الإنجازات العملاقة فى العلم المعرفى الأحدث وبالذات فى العلم المعرفى العصبى والنيوروبيولوجيا، وعلوم التطور إذا بى عاجز عن استبعاد ما وصلنى مما استحدث عن التطور ومساره وغايته وارتباط كل ذلك بهاتين القضيتين الأساسيتين الموت والله، أعنى الله والموت مرورا بالإنسان إليه.

أى موت وأى إله؟

عدت إلى الدراسات النقدية التى اطلعت عليها أتساءل أى موت كان يدرسه هؤلاء النقاد الثقاة عند محفوظ؟ وهل تحدد مضمونه وأبعاده لأى منهم انطلاقا من إيقاع نبض إبداع محفوظ لمعنى للموت، أى من واقع عطاء المبدع أولا؟ أم أن أغلبهم راح يقيسه بفكرته ومرجعيته شخصيا، الظاهرة أو الخفية، عن الموت؟ ونفس التساؤلات وردت بشكلٍ أو بآخر عن الله سبحانه، وبالتالى عن التطور، الذى نادرا ما جاء فى أىّ مما قرأت، ما استُحْدِث فيه مؤخرا طبعا.

هذه قضايا مطلقة لم تحسم ابدا بشكل عام أو كامل، والجميع يتناولونها خاصة فى النقد بأبجدية تحتاج إلى مراجعة (أنظر بعد)، المبدع الكادح كدحا كثيرا ما يجد نفسه مدفوعا لإبداعه، وفى إبداعه، إلى محاولة الإسهام فى التعرف على بعض جوانب ما استعصى على الجميع حول هذه المسائل، فكيف نقيسه أو نقيس إبداعه بما هو يسعى ليبينه وهو يساهم فى كشفه بإبداعه؟ شرحت ذلك فى مقالى السالف الذكر([110]) قائلا:

“…. بعد أن امتلك ‏‏ ‏محفوظ ناصية‏ ‏الحكى أكثر فأكثر، راح يدور‏ ‏راقصا سابحا طائرا مع ‏دورات‏ ‏الحياة‏ ‏مباشرة‏ ‏دون‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏رمز‏ ‏يستعيد‏ ‏به‏ ‏أحداث‏ ‏التاريخ‏……. ‏راح‏ ‏يتناغم‏ ‏مع‏ ‏المطلق ‏وهو ‏يعرى “‏ضلال‏ ‏الخلود‏” ‏فى هذه الدنيا ويساويه‏ ‏بالموت‏ ‏الآسن‏، وفى نفس الوقت هو يضع‏ “‏الوعى ‏بالموت” ‏فى ‏بؤرة‏ ‏الحفز‏ ‏إلى ‏الحياة‏، وذلك ‏حين ‏نجح‏ ‏أن‏ ‏يرسم‏ ‏دوراتها‏ ‏وكأنه‏ ‏يدور‏ ‏معها‏ ‏مواكبا‏ ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏الممتد‏، ‏ظهر‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏درة‏ ‏أعماله‏ “‏ملحمة‏ ‏الحرافيش‏” وأثبته فى نقدي لها 1977([111]):

“يمكن أن ننتبه إلى أن محفوظ لم يفصل تحديدا ‏بين‏ ‏تاريخنا ‏(تاريخه‏) ‏وتاريخ‏ ‏البشرية‏ (‏بل‏ ‏تاريخ‏ ‏الحياة‏‏ أحيانا) إلا نادرا، لعله اعتبر – وهو على حق مثلما وصلنى أخيرا – أن كل ‏ ‏فرد‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الأرض‏ ‏أو‏ ‏تلك‏ ‏فى ‏زمن‏ ‏محدد‏، ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏تجسيدا‏ ‏لمسيرة‏ ‏الحياة‏ ‏برمتها‏ ‏حيث ‏يستحيل‏ ‏فصل‏ ‏الوجود‏‏ ‏الفردى ‏عن‏ ‏ملحمة‏ ‏الوجود‏ ‏الحيوى ‏(‏التطور‏)، ثم تجسيداً لبعض ناسه بشكل أو بآخر، ‏من‏ ‏هنا‏ ‏راح‏ ‏محفوظ‏ ‏يبحث‏ ‏بإلحاح‏ ‏لم‏ ‏يهمد‏ ‏عن‏ “‏الطريق‏” ‏إلى المطلق فالله، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏راح‏ ‏يحفر‏ ‏حول‏ ‏جذور‏ ‏الحياة”([112])‏.

كل ذلك وهو يسعى إليه بإصرار لا مثيل له، يتحرك بكل أداة كلما لاح له أى سبيل ليعرفنا الكدح إليه، وقد وصلنى أن هذه الحركية الإبداعية المعرفية هى الأصل فى كل توجهاته، وأنه لا يجوز اختزالها إلى لفظ “صوفية” بالمعنى الشائع، وهى تحمل مخاطرة معرفية جسيمة، حتى قدرت أن كثيرا من النقاد خافوا منها فلم تصل إليهم فراحوا يصنفونها بأبجديتهم الجاهزة بما فيها “الصوفية”، و”الميتافيزيقية”، و”الاجتماعية”، فجعلت طول الوقت أتساءل كيف نقيس المتحرك بالساكن؟.

 أحاط بى هذا التساؤل وأنا أتجول فى معظم ما تيسر لى من أعمال نقدية حول هاتين القضيتين الأساسيتين، واحترمت المرحلة واختلاف اللغة وحمدت الله وواصلت السير:

 تقوم معظم هذه الدراسات النقدية بتصنيف نجيب محفوظ (وليس فقط إبداعه) باعتباره إما منحازا إلى الوضع الاجتماعى الاقتصادى، وإما منجذبا إلى البعد الميتافيزيقى، وإما مترجِّحاً بين هذا وذاك، ويختلف استسهال استعمال هذه المصطلحات من ناقد لناقد، لكنك تلمح درجة من الاستقطاب تستأهل التوقف خاصة وأن الفريقين ينتهى بهم الأمر عادة إلى الخلط بين محفوظ وبين شخوص إبداعه وكل هذا يسمح بالتعرف على إسقاطات الناقد (ومخاوفه) أكثر مما يسمح بالتعرف على إبداع محفوظ ناهيك عن التعرف على شخصه وإيمانه وكل ما يتعلق بذلك.

 الفرص التى اتيحت لى فى شرف صحبته سمحت لى أن أتعرف على بعض ملامح جهاده فى هذه المجالات وغيرها من خلال أربع قنوات متضفرة متكاملة متكافلة: اللقاءات الشخصية عبر حوالى عشر سنوات، وأعمالى النقدية لبعض أعماله، ومعايشتى لتداعياته الحرة فى كراسات التدريب، وأخيرا الأعمال النقدية المتعلقة، وكنت أنتقل من مستوى إلى مستوى فتتبلور الرؤية وتتضح الإحاطة بجوانب موقف كل ناقد أكثر من موقف نجيب محفوظ مبدعا أو شخصا أو كليهما، ولا مانع أن تقفز الأسئلة وتتفتح المسارات الجانبية لما لم أحط به علما، وهذا أدعى لمواصلة البحث الجاد بلا توقف.

لكن دعونا أولاً نلقى نظرة على المناهج والمصادر التى استَمدَّ منها النقاد الأفاضل المجتهدون آراءهم ودعموا دراساتهم حتى نحسن تلقى رسائلهم.

تنوع ومصداقية المصادر:

من الأهمية بمكان أن نتعرف قبل فحص أى محتوى نقدى أو بحثى خصوصا فيما يتعلق بتقييم موقف هذا المبدع أو حتى هذا الشخص، أن نتعرف على تفاصيل منهج البحث، ومن أهمها تحديد  مصادره، وتقييمها، خصوصا إذا كانت موضوعات البحث من المناطق الإشكالية مثل الموت أو الله.

حاولت ابتداء أن أجمع المتاح من المصادر المحتملة، خاصة ونحن بصدد قضايا إشكالية بطبعها، فما بالك وهى متعلقة بمثل هذا المبدع الفذ الذى لا مثيل له، نجيب محفوظ.

أولاً: السيرة الذاتية:

 محفوظ لم يكتب سيرة ذاتية بالمعنى التقليدى، وإن كان لم يتردد فى الإجابة الأمينة والصادقة فى ذكر ما يتذكر منها (غالبا للسائلين فى حوار معه) من أول طفولته وحتى آخر لحظاته على هذه الأرض الدنيا، ويبدو أنه كان واعيا تمام الوعى بأن أحدا لا يمكنه أن يكتب سيرته الذاتية: غالبا لأنه لا يعرفها، وأحيانا لأنه لا يريد أن يعرفها، وأحيانا أقل لأنه لا يريد أن يعرفها أحد، لهذا أعجبت بالحل الذى ارتآه حين تحايل للخروج من هذا المأزق، إذ راح يردد صدى ما خطر له أنه سيرته تاركا ترجمة تردد الصدى إلى تلال الحب، وجبال الوعى، ومسام المتلقى، وصخور الرفض، فكانت “أصداء السيرة الذاتية”.

لا أحد يمكن أن يكتب من هو، أو كيف كان هو، من مخزن ذكرياته، خاصة بعد أن تطورت علوم الذاكرة فتجاوزت فكرة أنها مخزن أو شريط تسجيل إلى أنها محيط وعقل ووعى ومرتجع رنين ممتد([113]).

ثانياً: الحوارات المباشرة مكتوبة أو حتى مسجلة:

لا شك أن هذه الحوارات هى ثروة وتاريخ، إلأ أن بحث مصداقيتها (وليس مجرد صدق رصدها) يعتبر إشكالة منهجية تاريخية لم تحل أبدا، ولا يقتصر الحرج أو احتمال الخلط  أو الاختزال أو التحوير بالنسبة لهذه الحوارات على مدى أمانة أو دقة الذى أجرى الحوار، ولا حتى على مقدار مهارة إعادة تحريره نصا أو انتقاءً، وإنما يمتد إلى النقاد والدارسين الذين ينتقون من هذه الحوارات جملا بذاتها، أو حتى فقرات بأكملها ويستشهدون بها بعيدا عن سياقها.

وقد قمت بنقد شديد لكتاب رجاء النقاش المعنون باسم “نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته” فى مقال نشر بالأهرام بعنوان: “السهل والصعب فى السياسة والحب”([114])، وكنت فيه أعجب بتحمل نجيب محفوظ، وأتعجب من سماحه، ومن صبره على ما يذكر على لسانه برغم ألمه لأى تحريف ولو بحسن نية، وبرغم ذلك استشهد ببعض هذا المقال ناقد فاضل لغير ما أردت.([115])

ثالثاً: ما تبقى فى ذاكرة الجليس أو الصديق أو المرافق:

وهذا يسرى عليه ما جاء فى ثانيا بالإضافة إلى حدود ذاكرة وأمانة الرَّاوى، ولأضرب بنفسى – أيضا – مثلا بالعمل الذى اشرت إليه حالا “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” فقد انتبهت ابتداء أننى لم أسجل حرفا لا كتابة ولا تسجيلا إلكترونيا وأنا معه، وأننى كنت أدوّن ما بقى معى  بعد يوم أو يومين من لقائه، كما أننى اكتشفت أننى كتبت الغالبية العظمى من حوارنا باللغة الفصحى، وهذا طبعا لم يكن نقلا حرفيا، وقد انتبهت إلى ذلك متأخرا، على أن ثم استثناء كنت أثبته بالعامية مضطرا حين يتعلق الأمر بطرفة أو رواية يرويها عن آخر بنص كلامه.

رابعاً: مقتطفات من كتابات المبدع و/أو إبداعاته:

يعتبر هذا المصدر أهم وأخطر وأعجب المصادر جميعا، ذلك لأنه يمكن لمن شاء أن يأخذ منه ما يشاء لما يشاء بأية كيفية وأى مقدار  بعيدا عن سياقه، ليس فقط سياق الفقرة أو الجزء أو حتى الفصل، بل قد يكون بعيدا عن الفكرة المحورية للعمل برمته، ويمكن تصنيف تنويعات هذا الاقتطاف على الوجه التالى:

أ- بعض ما جاء على لسان أحد شخوص الرواية أو القصة فى حوارها.

ب – بعض ما جاء كجزء من تيار وعى يدور فى خلد أحد شخوص الرواية أو القصة

حـ – بعض ما جاء ضمن تعقيب الراوى فى مرحلة معينة من الرواية.

د – بعض ما جاء فى سياق الحكى الذى يسرده المؤلف ليفسر أو يكشف عن ما يراه خطر فى خلد بعض شخوص العمل.

وكل هذا يتعرض إلى تحيز وميل من اقتطف شعوريا أو لا شعوريا.

خامساً: الاستشهاد بما ورد فى نقد أعماله، وليس فى متن كتاباته

ويشمل هذا احتمالين على الأقل:

أ) الاستشهاد بمقتطف اقتطفه الناقد الاصلى من متون محفوظ وفيه كل الاحتمالات السابقة

ب) الاستشهاد برأى الناقد فى هذا المقتطف أو غيره (أحيانا دون تمييز صارم بين رأى المؤلف ورأى الناقد)

سادساً: الاستشهاد برأى المبدع نفسه (نجيب محفوظ شخصيا)

كثيرا ما يُسأل المبدع عن مغزى أو موضوع أو هدف أو طبيعة ما كتب، وقد حدث هذا مؤخرا بإلحاح فيما يتعلق بأحلام فترة النقاهة وهل هى أحلام فعلا أم إبداع نابع من أحلام؟ أم ماذا؟ وقد ناقشته حول هذه الأسئلة وكان متواضعا كالعادة فى محاولة شرح ما وصله عن طبيعة إبداعه تلك، وكتبت رأيى الذى لم يختلف كثيرا عن ردوده([116])، وأحيانا ما كان محفوظ يتبرع لسبب أو لآخر بالتعليق على ما كتب إبداعاً برأى اضطر إليه شرحا أو دفاعا، وبرغم أن هذا المصدر يبدو من أدق مصادر الحكم على المبدع (شخصا أو إبداعا) إلا أنه مصدر يحتاج إلى تقييم موضوعى أيضا، فالمبدع الحقيقى عادة  لا يعرف الرد الأقرب إلى الصحة على كثير مما يطرح عليه من تساؤلات، وكثيرا ما يفضل أن يترك الأمر للنقاد، ويعتبر نسيان المبدع لما يُسأل عنه فى هذا الصدد من أهم ما يميز الإبداع الحقيقى، خصوصا فى الشعر، وكثير مما كتب محفوظ هو شعر خالص، كذلك ينبغى أن يؤخذ رأى المبدع الأول بتحفظ حتى بالنسبة للأشخاص الذين بدوا كأنهم أشخاص حقيقيون فى حياته([117]) أو للأشخاص المتخلقين إبداعا، وحتى لو أدلى المبدع برأيه فى معنى أو نقد أو وظيفة هذه الفقرة أو ذلك العمل فينبغى ألا نأخذ رأيه قضية مسلمة، وأن يترك ذلك للناقد حسب نوع إبداعه النقدى وقدرته على إعادة تشكيل النص، وليس حسب مهارته البوليسية والتحقيقية، بل إن المبدع إذا أقر أن واحدا  أو أكثر من معارفه أو من الشخصيات العامة هو الأقرب إلى هذا أو ذاك من شخوص قصصه  ورواياته ، فإن ذلك لا يؤخذ بتسليم نهائى، فرأيه مثله مثل رأى أى ناقد، علما بأن المبدع الحقيقى موجود – ولو مؤقتا- فى كل شخوص رواياته ….

سابعا:(ثم لاح مصدر لا يتكرر): التداعى الحر:

شعرت بحرج مناسب وأنا أضيف هذا المصدر إلى هذه المجموعة، لأنه مصدر لم ولن يتكرر عبر التاريخ فى حدود تصورى لطبيعته، ذلك أنه قد  مـَثـُلَ أمامي  بالصدفة البحتة، فهو مصدر نادر لا يقاس عليه، مع أنه قد يثبت أنه الأهم والأكثر مصداقية وقد ثبت لى أنه شديد الأهمية برغم بساطته وسلاسته وعفويته، بل لقد تصورت أنه يمكن أن يثبت أنه المصدر الأول السهل الممتنع مثل صاحبه، فهو يمكن أن يعرفنا، أو أن يكمل معرفتنا، أو يصحح موقفنا من هذا المبدع النادر بالطول تاريخا، وبالعرض حضورا وإبداعا، كما يمكن أن نتعلم منه – كما تبينت مؤخرا ولم أتيقن بعد مما تبينت – بعض ملامح “التسخين([118]) للإبداع ثم مراحل الحمْل فى عملية الإبداع دون إلزام باستكمال شهور الحمل”، وقد تواصلت هذه التجربة طوال ثلاث سنوات حتى الآن، وقد أسميت هذا المصدر “التداعي الحر”  بعد أن وصلت فى دراسته إلى الصفحة المائة والثمانين من ألف ومائة صفحة تقريبا (كما ذكرت).

حين بدأت فى محاولة دراسة هذه الثروة النادرة تبينت تدريجيا أنها خرجت من شيخنا بحفز داخلى طبيعى غير مقصود، وكأنه أراد  بكرم وجوده التلقائى – دون قرار واعٍ – أن يواصل إنارتنا وتحريكنا، وأيضا تعريفنا بنفسه واهتماماته ومزاجه، وتفضيلاته، ومعلوماته، وبعض معتقداته، وجميل إيمانه، وأحيانا شطحاته البديعة، فضلا عن حركية عملية الإبداع قبل الولادة، وقد حمدت الله أننى اقترحت عليه أن أحتفظ بهذه الكراسات أولا بأول أملا فى شئ ما لم يكن محددا لا من ناحيتى ولا من ناحيته آنذاك.

وحين بدأت فى نشر محاولة قراءة هذه الكراسات بتاريخ 31/12/2009، احترت فى المنهج الذي ينبغى علي أن أتبعه، ولم يكن فى ذهنى أى تصور لموقف نقدى، فهو لم يكتب ما كتب بأية نية أن يصل ما يكتبه لأى متلق، وعلى ذلك: فكل المتاح هو أن يكون مصدر بحث لا مجال نقد، فجاءت فكرة تداعيات على تداعيات: إنقاذ الموقف!

فكرة عامة إلى عودة تفصيلية لاحقة:

بالنسبة للقضايا المطروحة فى الأطروحة الحالية عن الله: التطور: الإنسان: الموت: الله، وجدت أن عموم ما وصلنى حتى الآن من هذه التدريبات يمكن أن أحدد الخطوط العريضة له فى حدود المائة والثمانين صفحة الأولى فيما يلى:

  الوعى الإيمانى، القرآن الكريم، العلاقة بالله مباشرة، القضاء والقدر، الشعر العربى (القديم خاصة)، الأغانى القديمة وبعض الحديثة، الجمال والطبيعة، القضاء والقدر، أعلام الفكر فى الداخل والخارج، رواد الحضارة عموما، الأرض والناس، الحركة والسكون، الموت، والمصير، الصبر والتأجيل، الحب والجمال،([119]) (مرة أخرى: هذا فيما تمت قراءته: 180 صفحة فقط لا غير وما تبقى حوالى 920 صفحة)([120]).

الإبداع هو الأصل:

قلت فى مقدمة هذه المقدمة أننى لم أتطرق فى الحديث مع نجيب محفوظ طوال عشر سنوات عن الله أو الموت أو الآخرة، لم أتطرق بالألفاظ لكن كان يصلنى ما أريد بطريقة لم أعرف لها اسما إلا مؤخرا وأنا أفتح ملف الإدراك على مصراعيه([121])، ثم ملف الوجدان (العواطف والانفعالات)([122])، وحين وصلتنى طبيعة الإدراك أكثر وأوضح وتيقنت من تفوقه على التفكير، كما وصلنى أصل الوجدان كبرنامج بقائى أقدم فأحدث، وكذلك وصلنى دوره فى التطور والمعرفة الأعمق شعرت أننى وجدت ضالتى نسبيا من خلال هذه المداخل: علوم الإدراك والوجدان والتطور أكثر بكثير مما وجدتها فى مصادر التفكير والتراث والعقل المنطقى الظاهر، وخاصة فيما يتعلق بالمسائل الواردة فى العنوان.

نقد النقد وروعة أطروحة جابر عصفور:

حتى أتمكن من إتقان ربط مصادرى بالنسبة لهذه الموضوعات بالذات، رجعت إلى ما تيسر لى من نقد ودراسات تناولتْ أو حتى لمستْ من بعيد هذه الموضوعات وإذا بى أمام تحدِّ أكبر من وقتى وقدراتى، وطبعا من المساحة المتاحة لى هنا،([123]) ثم أننى وجدت أمامى بعض ما صدرت له هذه الدورية بالذات، وهو أننى وجدت فيما اطلعت عليه ما أملت فيه من مواصلة “نقد النقد”، وبكل فرحة وعرفان تذكرت تلك الأطروحه النادرة الشديده العمق والإحاطة التى كتبها أ.د.جابر عصفور فى مجلة فصول 1981عن نقاد نجيب محفوظ([124]) فرجعت إليها وأنا أتذكر كيف هزتنى وعلمتنى وأفاقتنى حينذاك، ثم إذا بها تعود إلىّ لتغنينى عن كل ما كنت أود تقديمه فى هذه الأطروحة تمهيدا لما  سوف أتناوله عن هذه الدراسات والإبداعات مما يمكن أن يسمى “نقد النقد”.

من أين نبدأ؟

حين تُختزل قضية معرفة الله إلى علاقة المبدع (محفوظ) بالميتافيزيقيا فى مقابل علاقته بالبعد الاجتماعى، أو بالعلم (دون تحديد إجرائى لأى من ذلك) أو حتى علاقته بالتصوف كما شاع عنه، تصبح المسألة فى حاجة إلى وقفة ومراجعة، وحتى نحترم جهد الباحث واجتهاد الناقد لابد من الرجوع إلى تاريخ قيام الناقد بهذا الجهد ثم تاريخ نشره، فقد حدثت طفرة معرفية فى الربع قرن الأخير هزت كثيرا من المسلمات المعرفية والعلمية السابقة، وعلى سبيل المثال لم يعد مناسبا الفصل بين الفيزيقا والميتافيزيقيا([125])، (أنظر بعد) أما البعد الاجتماعى وحتى بعض القضايا السياسية والاقتصادية، فقد أصبحت تحتاج إلى نظرات جديدة من منطلقات معرفية تطورية فيما يتعلق – مثلا – بالوعى الجمعى وبرامج البقاء التى نتعلم منها كيف حافظت سائر الأحياء التى نجحت فى الحفاظ على بقائها([126]) وهى لم تمارس السياسة ولم ترسٍّ دعائم ديمقراطية حديثة، ولم تكتب روايات أو تقرض شعرا، هذا لا يعنى التهوين من النظر فى أى من ذلك: لكنه يدعو إلى ضرورة امتداد النقد والتفسير مستنيرين بما استجد من معارف عن التطور والوعى الجماعى وبرامج البقاء([127]) ومن ضمنها العواطف والوجدانات الأساسية، التى تعتبر جذور العقل الوجدانى الاعتمالى والعقل البيولوجى([128]).

المطروح الآن، مهما بدا متواضعا لكنه واعد وقوى، أن يساهم الإبداع على مستوى النص الأول وعلى مستوى الإبداع النقدى المتوالى فى دعم مزيد من الكشف المعرفى أكثر فأكثر لهذه المسائل المشكلة والشائكة، حيث لم يعد العلم المؤسسى ولا النقد التقليدى قادرا على تغطيتها، إذ لا يخفى أن ورطة الإنسان المعاصر تحتاج أكثر فأكثر إلى مواجهة عوامل الاغتراب فالإنقراض المتزايدة، الإبداع هو الأقدر على حفز وتنمية الوعى الجمعى الذى يتوجه به النوع البشرى – مثل سائر الأنواع التى بقيت – ليحافظ على بقائه، ومن بعض مظاهره البعد الاجتماعى ولكن من أسس تشكيله وإعادة تشكيله ما يسمى العقل البيولوجى([129]) وهو الذى يتجلى فى الإبداع أساسا وهو القادر على الحيلولة دون تحول هذه المعارف الأصلية إلى أيديولوجيات دينية أو أيديولوجيات علمية معوقة، المبدع الحقيقى ينتمى أساسا ومباشرة إلى هذا الوعى الجمعى الإيجابى، وإلى العقل البيولوجى معا، وهو يحاول أن ينشطه ويدعمه فيظهر فى المحيط الاجتماعى فى سعيه نحو العدل والحرية و(التوت والنبوت) كما يظهر فى المحيط الإيمانى على أنه الوعى الفردى فالجمعى فى السعى على مسار التطور المفتوح النهاية متضمنا دعم برامج البقاء تماشيا مع أصول حركية الإيمان البيولوجية.

وبعد

بعد هذه المقدمة الطويلة التى لا أود أن أعتذر عن طولها، إذ مازلت أحسب أنها لازمة، أعرض بعض نقاط  انطلاقى فى هذه الأطروحة، وما بعدها، كأساس جوهرى قد يبين موقفى على الوجه التالى:

كما ذكرت: الناقد الذى يقوم على فحص ونقد وإعادة تخليق نصٍّ بذاته، أو تقييم مبدع بذاته، إنما ينطلق من موقفه الشخصى ظاهرا أو باطنا بل من كليهما، وأنا لا أطلب ولا أتوقع أن يلتزم الجميع بموقف علمى أو عقائدى أو منهجى واحد، وإلا ففيم الاختلاف، وفيم نقد النقد، الاختلاف وارد فى هذه القضايا المطروحة هنا أكثر من أية قضايا أخرى، الوعى والله، والموت، والتطور!!، فكل هذه المسائل تتعلق بأمور لم تحسم نهائيا أبدا، برغم كل الجهود المطروحة لفحصها وبرغم الإنجازات المعرفية وغير المعرفية (بما فى ذلك  إنجازات الحدس والإدراك الأشمل والوجدان الاعتمالى المعلوماتى)([130]) أقول إذا كان الأمر يتعلق بأمور مازالت بهذه الصعوبة فهو يحتاج إلى مواصلة الكشف طول الوقت وهذا ما يساهم فيه الإبداع بكل أشكاله وتجلياته وبالتالى ينبغى أن تكون البداية منه لا من خارجه.

لتوضيح ذلك: فكل إنسان عنده تصور شخصى – مهما خفى عليه – بالإضافة إلى معتقد ظاهر عن هذه القضايا، وفى رأيى أن التصور الباطن أرسخ وأقوى تأثيرا على هذه المسائل بالذات، فالذى ينطلق للبحث فى قضية الموت (بعد التفرقة الأساسية بين “الفقد” و”الموت”) إنما يبدأ من معتقده هو، بما فى ذلك معلوماته الجاهزة عن الموت، ثم هو يروح يقيس الإبداع أو المبدع أو كليهما بهذا المقياس الذاتى مهما تصور غير ذلك، وهو ينتقى من الأدلة والمراجع والمقتطفات ما يدعم معتقده الظاهر أو الخفى.

من هنا يمكن القول أن البداية الأوْلى بالجهد، والأقرب إلى الموضوعية والإبداع النقدى خاصة بالنسبة لهذه المسائل ينبغى أن تكون من النص الإبداعى حتى نتعرف على مستوى عمق المبدع وطرائق سعيه المعرفى الإبداعى بكل مستويات وعيه ليكشف ويضيف إلى أغلب المتاح ليكون إبداعا!! فإن لاح للناقد أن مبدعا بحجم محفوظ أو طاغور أو النفرى أو ديستويفسكى أو تشارلز داروين أو أينشتاين أو إرنست هيكل:  يسعى من خلال إبداعه إلى محاولة كشف لأية زاوية أو جزئية تقترب من هذه الإشكالات،  فعليه أن يتحسس ماذا أضاف هذا المبدع أولا، وأن يأخذ منه إليه، لا أن يقيسه بمقياس من خارجه ابتداءً (أو حتى نهايةً) سواء كان مقياسه مقولة علمية ثابتة، أو تفسير نص راسخ تفسيرا معجميا أو جامدا أو نافيا، أو بمقياس مدى التزام المبدع بقضايا ناسه واحتياجاتهم الجوهرية، ضمن حساب جهاده المعرفى.

موقع العلوم الأحدث:

المتابع لنقاد نجيب محفوظ، وخاصة فيما يخص هذه المسائل المشكلة لابد أن يلاحظ استعمالهم أبجدية تقليدية آن الأوان للنظر فى مراجعتها بعد الإنجازت العلمية والمعرفية الأحدث التى تتعلق بطبيعة المعرفة، ومناهلها، ومن ذلك:

1- يؤكد معظم النقاد على انتماء محفوظ لما هو “علم”، وأنه يعتبره المنقذ لمحنة الإنسان المعاصر، وأنه يأمل أن يقوم بكل العمل بما فى ذلك إعادة المصالحة مع الدين.

  • أفلا يحتاج ذلك مواكبة أزمة “العلم” الراهنة (2014)، ومتابعة أحدث إنجازات الثورة عليه، وبه، واختراقاتها المنهجية والوجدانية([131]).

2- يقيس أغلب النقاد موقف محفوظ بما يصرح به أو يورده من أن “العقل” هو الوسيلة الأسلم لقيادة البشر إلى صالحهم، دون إغفال العاطفة طبعا، لكن تظل للعقل القيادة والسيادة.

  • لكن أى عقل يقصد أو نقصد بعد أن تأكد أن للإنسان عدة عقول معا([132]) “هنا والآن”.

3- يعتبر أغلبهم أيضا أن ما ورد فى إبداع محفوظ، وأحيانا فى أقواله هو دعم محدود لمفهومهم عن التصوف، وقد يربطون ذلك بتفهمه لما أسموه “ميتافيزيقا” دون اعلانه ذلك مباشرة.

  • وفى رأيى – حسب ما وصلنى منه ومن إبداعه- أنه إن لم يكن التصوف طريق معرفة كما أوضحت العلوم الكموية الأحدث([133]) فلا يمكن أن ينتمى إليه محفوظ بما شاع عنه، وقد ناقشته فى رأيه فى مصطلح “العارف بالله” لأربطه بالتصوف قناة أساسية للمعرفة، ووافقنى فى كثير مما ذهبت إليه.

4- يهتم بعض النقاد بتغليب اهتمام محفوظ بالبعد الاجتماعى، وصراع الطبقات، وتحيزه لإرساء العدل، وتوفير العيش الكريم (التوت والنبوت) كهدف أسمى فى معظم إبداعه.

  • هذا صحيح، وهو لا يتعارض مع أى مما سبق.

5- يركز أغلب النقاد أيضا على المبالغة فى ترجمة تناول محفوظ للقضايا التى تتعلق بالله إلى منظومات رمزية محددة، ثم يجرى استنتاج موقفه ليس فقط فى إبداعاته، بل وموقفه الشخصى أيضا بشكل اختزالى أو إسقاطى غالبا.

  • وهذه هى القضية التى تحتاج لتغطيتها إلى التعمق فى معطيات العلوم الأحدث فالأحدث.([134])

6- معظم النقاد الذين تناولوا قضية الموت عند محفوظ، أغفلوا التعامل مع الموت باعتباره إعادة ولادة([135]) يمثل أزمة نمائية وجودية تطورية.

صدمة إفاقة من الخيال:

هاجمنى خيالى فجأة فجسَّد لى ناقدا بارعا غامر بكل أدواته وشجاعته ليتعاطى نقد قصائد، أعنى مواقف ومخاطبات النفرى، وكان عنوان بحثه “الله فى قصائد مواقف النفرى ومخاطباته!!!([136])“، فيا ترى ما هى منطلقاته وكيف تكون النتيجة؟، وهل  يسمح أحد مرّ على قصائد نثر النفرى أن يقترب من نقدها تحت هذا العنوان؟ يصلنى أحيانا إبداع محفوظ وجهاده وكدحه فى هذه المنطقة من نفس المنطلق، وعلينا أن نحترم مدى الجهد المطلوب لتغطية بعض ذلك.

علاقة منظومات المعرفة ببعضها البعض:

حذرت باكرا من وصاية علم النفس وخاصة التحليل النفسى على النقد الأدبى حتى لو رفع لافتة التفسير النفسى للأدب وقلت تحديدا منذ ثلاثة عقود: إن الأصل فى التعرف على النفس وأغوارها والوعى ومستوياته هو الإبداع والإبداع الأدبى خاصة بل والإبداع الشعرى بوجه أكثر تخصيصا، الإبداع على مستوياته المختلفة إنشاءً ونقداً، واستشهدت بمن سبقونى كما يلى:([137])

“…يكاد‏ ‏يجمع‏ ‏النقاد‏ ‏والدارسون‏ ‏على ‏أن‏ ‏أحدا‏ ‏لم‏ ‏يدّع‏ ‏وصاية‏ ‏لعلم‏ ‏النفس‏ ‏بخاصة‏، ‏والعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏عامة‏، ‏على ‏الإبداع‏ ‏الأدبى، إن ‏ما‏ ‏اتفقت‏ ‏الغالبية‏ ‏عليه هو‏: ..‏أن‏ ‏الأدب‏ ‏وعلم‏ ‏النفس‏ ‏منهجان‏ ‏متوازيان‏ ‏فى ‏إرتياد‏ ‏الحقائق‏ (‏التى ‏تمثل‏ ‏هذه‏ ‏الحياة‏، ‏والتى ‏تشكل‏ ‏علاقة‏ ‏الإنسان‏ ‏بها‏).. ‏وليسا‏ ‏متداخلين‏”، “.. ‏وأن‏ ‏الميدان‏ ‏الصحيح‏ ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تستغل‏ ‏فيه‏ ‏نتائج‏ ‏الدراسات‏ ‏النفسية‏، ‏هو‏ ‏ميدان‏ ‏النقد‏ ‏الأدبى‏”([138]) ‏و‏”‏أن‏ ‏الكاتب‏ ‏المبدع‏ ‏يعبر‏، والعلم‏ ‏يفسر‏… و‏إن‏ ‏الإبداع‏ ‏يسبق‏ ‏الكشف‏ ‏العلمى ‏بزمان‏”([139])، حتى بشهادة أهلهما، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏توصية‏ ‏مناسبة‏ ‏بنسيان‏ ‏حقائق‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ (‏علم‏ ‏النفس‏) ‏تبدو‏ ‏لازمة‏… ‏لتحقيق‏ ‏الشرط‏ ‏الأول‏ ‏للخلق‏ ‏الأدبى”([140]‏) وهكذا‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏الأدب‏ ‏فى ‏مستواه ‏الإبداعى ‏الأول‏ ‏قد‏ ‏تخلص‏ ‏بوضوح‏ ‏من‏ ‏أية ‏وصاية‏ ‏علمنفسية‏. ‏لكن‏ ‏الإشكالية‏ ‏إنتقلت ‏إلى ‏مستوى الإبداع النقدى‏، ‏على ‏أساس‏ ‏أن‏ ‏العملية‏ ‏النقدية‏ ‏أقل‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏تلقائية‏ ‏الإبداع‏، ‏وأنها‏ ‏أكثر‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏تعدد‏ ‏مصادر‏ ‏المعرفة‏، ‏ومن‏ ‏بينها‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏.‏……، ‏وما‏ ‏زال‏ ‏الخوف‏ ‏واجبا‏ ‏من‏ ‏تدخل‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏ ‏تدخلا‏ ‏معطلا‏ ‏أو‏ ‏مشوِّها‏، ‏خصوصا‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏بجرعة‏ ‏غير‏ ‏محسوبة‏، ‏أو‏ ‏غير‏ ‏مناسبة”‏.

هذا ما كان منى سابقا بالنسبة للعلوم النفسية، فكيف الحال بعد مضى ثلث قرن حدثت فيه نقلة معرفية هائلة، هل مازال الإبداع إنشاء ونقدا يحتفظ بحق السبق، ليس فقط سبق العلوم النفسية جميعا لكن أيضا أو أساسا فى العلوم المعرفية الجديدة؟

الإجابة: نعم، وبالذات فى هذه المسائل التى عجز العلم المؤسسى، والتراث المعجمى أن يغطيها بكفاءة مناسبة، لذلك مازلت مصرا على عدم مشروعية تفسير الإبداع بالعلم عامة، وبطريقة أكثر حسما تفسير النص الإلهى بالعلم التقليدى([141])، لما فى ذلك من اختزال وتشويه لكلا المنظومتين، لكن العلوم المعرفية الأحدث كسرت حواجز كثيرة، ولا بد من وضع ذلك  فى الاعتبار مواكبة للإنجازات على الناحيتين، فمثلا كـُسر الحاجز بين الفيزيقا والميتافيزيقا، كما كسر الحاجز بين المعرفة الصوفية وبين العلوم الكموية.([142]) كذلك كسر الحاجز بين الفاحص والمفحوص فى منهج البحث الفينومينولوجى([143]).

حين عدت أتابع وأراجع بعض إبداع نجيب محفوظ وجدت أن ما وصلنى من انجازات علمية معرفية فى الربع قرن الأخير قد ظهرت ملامحه فى إبداعاته باكرا قبل كل هذه العلوم المعرفية الأحدث بشكل مخترق ومكثف، ولكن بلغة الإبداع وليس بلغة هذه العلوم طبعا، لكننى ظللت رافضا أن أقيس سبقه هذا على روعته بمقاييس تلك العلوم، بل ضبطت نفسى أقوم بالعكس وأنا أقيس مصداقية بعض هذه العلوم بصفاء حدسه الإبداعى واختراقه.

وحين رجعت إلى أغلب نقاد محفوظ وخاصة الذين تناولوا هذه القضايا الشائكة وجدتهم مازالوا يقيسون إبداعه بل يقيسون موقفه هو شخصيا بتلك المقاييس التقليدية الأقدم!! صحيح أنه لا ينبغى – كما أكدت سابقا وأعيد ما جاء فى أطروحتى الأولى سنة 1983(أنظر هامش 131) أن تصبح أية منظومة معرفية أو إبداعية وصية على الأخرى، لكن الواجب أن نواكب التقدم فتلزم المراجعة ونقد الذات ونحن نقوم بالنقد الجديد برؤية جديدة، وتضفرٍ أحدث بين قنوات المعرفة المتكاملة.

حين ظهر العلم المعرفى ثم العلم المعرفى الأحدث اتهمه العلم السلطوى  التقليدى([144]) بأنه أرتكب هرطقتين وهو يحطم طقوسا ومسلمات مقدسة لديهم، الهرطقة الأولى: “أن التفكير ليس فقط بالرموز” والهرطقة الثانية: “أن المعرفة ليست فقط فى الدماغ”، هذا العلم المعرفى الجديد اتهم بالهرطقة تماما كما اتهم كوبرنيكس وكفّر بأمر كنيسة القرون الوسطى، وكما ألحَدُوا تشارلز داروين رغما عنه، من هنا جاءت وقفتى أمام نقاد محفوظ فى هذه المنطقة لا لأقيس النقاد بدورى بمدى إلمامهم بهذه العلوم الأحدث، ولكن لأنبه إلى حدود استعمال اللغة الأقدم والمعارف تتوالى بكل هذه السرعة والإحاطة! والإبداع الحقيقى يسبق باستمرار:

تنوية مبدئى (1):

قبل الدخول إلى المراجعة تفصيلا أود أن أحدد أبجديتى الخاصة، وهى ليست خاصة جدا، لكن ذلك قد يوضح ما سوف أناقشه لاحقا بشكل أرجو أن يكون مفيدا.

اولا: حين استعمل لفظ الجلالة “الله” فأنا أعنى – غالبا- الطريق المعرفى إلى الله، ذلك أقرب وأكثر اتساقا مع ما وصلنى من إبداع محفوظ وحدوسه، ومن هذه العلوم الأحدث أيضا، ومع كدح الساعين إليه.

ثانيا: فضلت عدم استعمال كلمة “التصوف” إلا نادرا مهما كانت شائعة ومهمة، لأننى لاحظت سطحية استعمالها غالبا حتى فى الدراسات النقدية، وأفضل أن استعمل تعبير “المعرفة الكدحيه” وهو مصطلح يحتاج إلى تعريف قد أعود إليه لاحقا.

ثالثا: لا ألتزم بالتعريف المعجمى لمعظم المصطلحات الأساسية واستعمل كل لفظ فى سياقه للغرض من استعماله وخصوصا ألفاظ “الوعى” و”التطور” وحتى “الموت” و”الولادة”.

رابعا: أحاول تجنب الاستشهاد بنصوص مقدسة إلا اضطرارا وفى الهامش إذا لم أجد بديلا حتى أتجنب ما يسمى التفسير العلمى للنص الالهى أو حتى التفسير القرآنى (أو التراثى) للنص المحفوظى.

تنوية مبدئى (2):

 أنا لم، ولا، أطلب من أى ناقد أن يلم بالعلوم الأحدث أو الأقدم، لأننى كما بينت منذ ثلاثة عقود، أعتبر الإبداع (الأدبى خاصة بما فى ذلك الإبداع النقدى) أسبق لسبر غور النفس الإنسانية من كل العلوم التى تتناولها، بل إن العلوم الحديثة التى أشرت إليها حالا قد انطلقت من استلهام الإبداع الأدبى الأصيل أكثر من أنها نتائج معلومات من العلم التقليدى، وقد تأججت نار خصومة بين هذه العلوم المعرفية الأحدث، وبين العلوم المؤسسية باهظة التكاليف، لهذا فكل ما سوف أعرضه فى سلسلة هذه الأطروحة من معالم وتوصيف علوم حديثة هو تمهيد محدود حتى يمكن بعد ذلك بيان كيف سبقت  إبداعات محفوظ – كمثال– فى الكشف والإضافة والإنارة لهذه المناطق الحساسة، مما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن  الإبداع هو الأوْلى بالبدء منه.

وبعد (أخيرة): أتوقف هنا عند نهاية هذا الجزء الأول من هذه الأطروحة آملا أن أكمله فى أجزاء تالية (لم استطع أن أحدد عددها) ولا استطيع الوعد بالوفاء بها وعدًا موقوتا، لهذا فضلت أن أثبت بعض عناصرها فى نهاية هذا الجزء آملا أن تشمل الأجزاء التالية بعض ما يلى:

  • مواكبة محفوظ الدائمة للتطور، ودورات الحياة، والنمو، والحركة والتغير الكيفى([145])

  • الموت يسبق الحياة، ويصنعها، وهو إعادة ولادة للفرد أو الجماعة (عند محفوظ) خاصة.

  • الولاف المتجدد بين مستويات الوعى (تعدد العقول) على طريق الجدل طريقا إلى الله. (فى إبداعات محفوظ)

  • أزمة العلم التقليدى المعاصر، وحدس إبداع محفوظ بالعلوم الجديدة.

  • الله والتطور والموت والإنسان فى صفحات تدريبات نجيب محفوظ.

أما الأعمال التى اخترتها بصفة مبدئية لأعود إليها بالتفصيل نقدا للنقد فمنها حتى الآن:

  • “الموت: فى قصص نجيب محفوظ”، رسالة أستاذ فى الآداب قدمتها د. ناهد فضلى الدجانى، الدائرة العربية – الجامعة الأمريكية، بيروت، 1970.

  • “الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ”، محمد حسن عبد الله، دار قباء للنشر 2005.

  • “الله فى رحلة محفوظ الرمزية”، جورج طرابيشى، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى مارس 1973، الطبعة الثانية ابريل 1978، الطبعة الثالثة نوفمبر 1988.

  • “نجيب محفوظ الثورة والتصوف”، د. مصطفى عبد الغنى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2002.

  • “الشحاذ”، يحيى الرخاوى فى “قراءات فى نجيب محفوظ”، الهيئة العامة للكتاب سنة 1992 مواصلة النقد الذاتى، وأعمال أخرى لمحفوظ وغيره([146]).

وأخيراً:

دعونا نتحمل مسئولية ما ترك ولنا وما ترك فينا أطال الله عمره، ودعونى أوصى أن يقوم غيرى بهذه الدراسات كما كنت أحب أن أقوم بها، إذا عَجلْتُ إليه “ربى لترضى”.

خاتمة (2017)

برغم كل هذه العناصر وتلك الوعود، فإننى لم أوفِ بأى منها حتى الآن، فوجب الاعتذار، وإن أراد ربى وكان فى العمر بقية، علىّ أن أحاول أن أواصل، والله المعين

29/7/2017

حركية الوعى بين الحلم والإبداع (الشعر) والجنون

دروس من “أحلام فترة النقاهة” ([147])

 بدون عنوان-6

الموجز:

هذه المداخلة هى جماع من أغلب فروضى عن علاقة الحلم بالشعر وبالجنون والإبداع، وهى الفروض التى سجلت  أصولها منذ ثلاثين عاما([148])، وقد وجدت فى هذا العمل البالغ الأصالة “أحلام فترة النقاهة” ما يدعم بعضها ويضيف إليه ما نحن فى أشد الحاجة للكشف عنه فيما يتعلق بطبيعة عملية الإبداع، وذلك بالاستعانة باستشهادات مما أسميته “أجنـَّة” هذه الأحلام كما ظهرتْ فى تدريبات محفوظ للعودة للكتابة، وأيضا عرض جانب من ماهية “وعى الحلم” من واقع تجربة عملية فى العلاج الجمعى تحت مظلة الوعى الجماعى، وأخيرا هى تقدم عينة من مستويات النقد المختلفة لإحدى هذه القصائد (الأحلام) دعما أيضا لفرض آخر يقول: إن الشعر لا يُنقد إلا شعرا.       

استهلال:

لم يرحل عنا شيخنا إلا بعد أن ترك لنا – بعد كل فيض إبداعه طول عمره – هذه الثروة النادرة التى يمكن أن تمكننا أعمق وأرحب من الكشف عن الطبيعة البشرية، وبالذات عن حركية الإبداع وما يقابلها من خطى النمو البشرى النوعى والشخصى، ترك لنا محفوظ بعد المجموعة الأولى من أحلام فترة النقاهة، وهى المجموعة التى نشرت فى حياته: هذه المفاجأة الطيبة التى ظهرت مؤخرا ككنز ثمين.. أحسن حاملو أمانته حمله إلى من تعهد بنشره، ثم نَشَره فعلا فظهر باسم “الأحلام الأخيرة”([149])، وقد تواكب ذلك مع ما عثرتُ عليه مما استطعت أن أحفظه من “كراسات تدريباته” التى أودعتُها مع آثاره للجنة المختصة برعاية تراثه، ثم حصلتُ من اللجنة على نسخة منها للدراسة والبحث بما أستطيع، (كما ذكرت سالفا، مكررا) وقد اكتشفت فيها مؤخرا تداعيات طليقة، أراد الله أن تكون فى متناول من يريد أن يتعرف عليه، وعلى معنى التداعى الحر كتابةً من مبدعٍ نادر مثله، وعلى كيفية بدايات حركية الإبداع، علما بأن هذه قد تواصلت بفضل مثابرته وإرادته سنين عددا، وقد تابعتُهَا فى هذه التجربة التلقائية الأخيرة يوما بيوم وهو يدرب يده على الإمساك بالقلم كمجرد وسيلة للعودة للكتابة بأى درجة من الوضوح، فإذا بالوسيلة تصبح كنزا فى ذاته يكمل كل ما تركه لنا وحمَّلَنَا أمانته.

تمهيد:

بعد محاولاتى نقد المجموعة الأولى من أحلام فترة النقاهة بأسلوبين مختلفين، وهو ما ظهر فى كتابى الأول “عن طبيعة الحلم والإبداع”([150]) فوجئت أثناء كتابة تداعياتى([151]) على تداعيات تدريبات الكتابة التى أشرت إليها حالا، فوجئت بدءًا من صفحة رقم (176) ([152]) بما يشبه الحلم، صحيح أنه عمل ناقص، وصحيح أنه لا يصح تناوله بالنقد ما دام صاحبه لم يُتِمُّه، وهذا ما أكدته مرارا فى تداعياتى عليها، لكننى اكتشفت من خلال ذلك بعض ملامح عملية الإبداع وكيف كانت تجرى فى وعيه كأعظم ممثِّلٍ للمبدعين كافة!

مستويات الإبداع من جذور التطور إلى أحلام فترة النقاهة

يتواجد ‏التركيب‏ ‏البشرى ‏فى ‏حالة‏ ‏نبض متناوب طول الوقت، وهى حالة ‏تشمل‏ ‏فى ‏أحد‏ ‏أطوارها‏ ‏تفكيكا مرحليا‏، ‏يهدف‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏التنيسق‏ ‏والولاف‏ ‏على ‏مستوى ‏أعلى، ‏على أن الإبداع ليس مقتصرا على نشاط من يسمون المبدعون، ولا على نتاجهم، ذلك أن له تاريخا أقدم قدم الحياة ذاتها: وتجلياته عبر التاريخ هى إعلان عن تطور تشكيلات مستويات الوعى التى هى اصل الإبداع: فهو يبدأ من إبداع النوع: يقول فى ذلك سيلفانو أريتى([153]) رائد الغوص فى الإبداعية كولاف سحرى: “إن الإدراك عملية نابضة وهو يحوّل الأحداث الفيزيقية إلى خبرات ذاتية، وبالتعرف على المتشابهات والاختلافات والمتعلقات يبدأ تكوين الفئات، ومع نمو نماذج  تشكيل الوقت والمكان التى يتعلمها الكائن الحى من بيئته الخارجية تتكون برامج تتنقل من جيل إلى جيل، وتُستبعد كل التركيبات غير الملائمة للبيئة والمحيط جيلا بعد جيل”، ثم يضيف أريتى: “…يظل الشخص المبدع حارسا لسر ما يجعله مبدعا، هذا السر الذى لا يمكن الإفصاح عنه حتى للمبدع نفسه ناهيك عن الآخرين، أما ما ليس سرا فهو ما ينبسط فى صورة تصل إلى الناتج المتاح مع احتمال معرفة الظروف التى تسهل ذلك”.

ثم إن الإبداع إنما يشمل أيضا‏ ‏مفهوم‏ “‏النمو‏” ‏المتصل‏ ‏فى ‏دوراته‏ ‏الإيجابية‏‏ ‏على ‏المستوى ‏الفردى، ‏حيث‏ ‏يعاد‏ ‏تخليق‏ ‏الإنسان‏ ‏على ‏مسار‏ ‏النمو‏ ‏فى ‏كل‏ ‏أزمة‏ ‏نمو بلا انقطاع‏ ولعل “أعمار الإنسان السبعة”، كما قدمها إريك إريكسون هى أوضح ما يمثل ذلك‏([154]).

‏ثم‏ ‏يمثل‏ ‏الحلم‏ ‏إبداعا‏ ‏بيولوجيا‏ ‏آخر‏على ‏مستوى ‏الدورة‏ ‏الليلنهارية‏ (‏اليوماوية‏)‏.‏([155]) وهذا غير ما نعرفه عن الحلم العادى المَحْكى، ناهيك عن تفسيره المُفِّسِدِ عادة لجوهره، وأخيرا تتوج هذه السلسلة الشاملة لطيف العملية الإبداعية منذ بدء الحياة بالإبداع المعروف ناتجا مُعْلنا بأى شكل من تشكيلاته، لنصل إلى أرقى وأصعب مستويات الإبداع، وهو الشعر الشعر، ومنه: إبداع أحلام فترة النقاهة!

الأحلام (العادية) إبداع الشخص العادى!

موجز الفرض المحورى الذى بدأت به باكرا يقول: نحن لا نحلم بالمعنى الذى شاع من حكْى الحلم أو من تفسيره، نحن نؤلف أحلامنا التى نحكيها وكأننا نتذكرها، نؤلفها تأليفا فى الثوانى (أو البضع ثانية) التى تسبق اليقظة مباشرة، نؤلفها ونحن فى حالة من يقظة غير كاملة قبيل الاستيقاظ، أما ما يحدث قبل ذلك فهو ما أسميتُهُ “الحلم بالقوة” وهو النشاط الإيقاعى التحريكى التنظيمى الذى يسجَّل برسام المخ الكهربائى أثناء ما يسمى النوم النقيضى أو النوم الحالم والذى يعرف أيضا باسم نوم “حركية العين السريعة” REM أو نوم الريم([156]) وهو إيقاع نوبى منتظم: 20 دقيقة كل 90 دقيقة، طوال ساعات النوم، أما الذى نتصور أنه الحلم، كل الحلم، (الحلم الذى نحكيه) فما هو إلا نتاج ما التقطنا من مفردات ما تحرّك فى هذا الوعى الحالم النشط، لتصبح هذه المعلومات (بالمعنى الأشمل) التى التقطناها قبيل الاستيقاظ هى الأبجدية التى ننسج منها – تلقائيا فيما تحت الوعى الظاهر – ما تيسر من تشكيلات وتربيطات نعيد صياغتها، على أنها الحلم الذى نحكيه، أو لا نحكيه، نفسره، أو لا نفسره.

مغزى الفرض الذى وضعتـُه من قديم لماهية الأحلام وطبيعتها ووظيفتها هو أن ما يحدث أثناء الليل، سواء حكيناه أم لم نحكه، هو نوع من الإبداع الطبيعى لا نعرف إلا آثاره وبعض ملامحه، يحدث ذلك تلقائيا للشخص العادى على مسار إيقاعه الحيوى الدائم، فنحن نولد به من جديد كل ليلة ([157]).

الحلم الإبداع، والإبداع الحلم

ترددتْ أسئلةُ كثيرة حول أحلام النقاهة، مثل علاقتها بالحلم الأصل وأيضا علاقتها بما يسمى “أحلام اليقظة”، وقد طُرِحَت هذه الأسئلة على المختصيين فى العلوم النفسية وغيرهم كما طرحت على صاحب الأحلام شخصيا، وكذلك حاولتُ الإجابة بدورى على بعضها لبعض الإعلاميين([158])، وحين ظهر الجزء الثانى من الأحلام عادت الأسئلة تلح، فوجدت لزاما أن أبدأ أطروحتى الحالية بعرض موجز لهذه الفروض عن الحلم والشعر والإبداع، كمدخل إلى النظر فى هذا الكشف الفريد عن طبيعة عملية الإبداع التى تتيحه لنا أحلام النقاهة وتجارب التدريبات معا.

المنطلق: الإيقاع الحيوى المشتمل:

هذه المداخلة بما تُقَدِّمُ من فروض تنطلق من منطلق‏ ‏بيولوجى‏([159]) ‏شديد الارتباط بظاهرة ‏تناغم‏ ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏امتدادا‏ ‏على ‏متدرج‏ ‏يبدأ‏ ‏مما هو قبل ‏ ‏الجزىء  ‏إلى ‏الكون‏ ‏الأعظم‏،‏ ‏‏يستتبع‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏يظل‏ ‏التركيب‏ ‏البشرى ‏فى ‏حالة‏ ‏حركية‏ ‏متناوبة نابضة‏، ‏تشمل‏ ‏فى ‏أحد‏ ‏أطوارها‏ ‏تفكيكا‏: ‏يهدف‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏التنيسق‏ ‏والولاف‏ ‏على ‏مستوى ‏أعلى، ‏مستعملا‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏المتاح‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏الموروثة‏ ‏والمكتسبة معا، ‏فى ‏تصعيد‏ ‏تدريجى ‏متناوب‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏دورات‏ ‏الاستيعاب‏ ‏والبسط، وقد يتجلى ‏بعض‏ ‏نتاج‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏نوع‏ ‏الإبداع‏ ‏الذى ‏يظهر‏ ‏فى ‏صوره‏ ‏المختلفة‏، ‏والذى ‏يصنف‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏بحسب‏ ‏اللغة‏ ‏المستعملة‏ (‏الأدوات‏ – ‏والأبجدية‏)، ‏أو‏ ‏النتاج‏ ‏الظاهر‏، ‏أو‏ ‏كليهما‏، ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يصنف‏ ‏أصلا‏.‏

ويتناول‏ ‏المخ‏ ‏معلوماته‏ (‏محتواه‏/‏تركيبه‏/‏ذواته‏…‏إلخ‏) ‏بطرق‏ ‏متعددة‏ ‏لامجال‏ ‏لتفصيلها‏ ‏هنا‏، ‏وسأكتفى ‏بالإشارة‏ ‏إلى ‏تنظيم‏ ‏نشاط‏ ‏ الحلم ‏ ‏من‏ ‏جانب‏، ‏ونشاط‏ ‏الإبداع‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏آخر‏، ‏وهما‏ ‏محور ‏هذا‏ ‏التناول‏ الحالى:‏

مع مراحل التنشيط الإيقاعحيوى حتى حـَكـْى الحلم

يمكن‏ ‏تقديم‏ ‏المراحل‏ (‏المستويات‏) ‏التى ‏يمر‏ ‏بها‏ ‏الحلم‏ ‏المحكى، ‏من‏ ‏أول‏ ‏التنشيط‏ ‏الفسيولوجى، ‏وحتى ‏حكايته‏ (‏فى ‏قصٍّ‏ ‏مسلسل‏ ‏أو‏ ‏صورة‏ ‏مُشَكَّلَة‏) ‏كما‏ ‏يلى:‏

‏‏تبدأ‏ ‏العملية‏ ‏ بالظاهرة ‏الأساسية‏ ‏التى ‏تتمثل‏ ‏فى ‏التنشيط‏ ‏الإيقاعى ‏بالتناوب‏، ‏الذى ‏يسجل‏ أكثر ‏تحت‏ ‏مايسمى نوم الريم ‏‏REM ([160]) وهو‏ ‏الحلم‏ ‏فى حضوره‏ ‏الفسيولوجى، ‏وفيها‏ ‏يتم‏ ‏التحريك‏، ‏والقلقلة‏، ‏والتناثر‏، ‏للمعلومات‏، وذلك بالخطوات التالية:

  • تتحرك الكيانات‏ ‏المكونة‏ ‏للدماغ‏/‏المخ‏ ([161]) (حالات ‏الذات‏: حالات العقل)، ‏تأهبا‏ ‏للتأليف‏، ‏والتمثل‏، ‏والتعزيز‏، و‏هذا‏ ‏المستوى ‏المبدئى ‏إنما‏ ‏يمثل‏ ‏حدة‏ ‏التنشيط‏ ‏الدورى ‏فى ‏طور‏ ‏البسط.

  • ‏‏إن‏ ‏المحتوى ‏الفج‏ ‏الذى ‏يتحرك‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المستوى ‏لايظهر‏ ‏أصلا‏ ‏فى ‏وعى ‏اليقظة‏، ‏فهو‏ ‏بالتالى ‏أبعـد‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏تتناوله‏ ‏قدرة‏ ‏الحكى ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏‏أما‏ ‏محاولة‏ ‏تسجيل‏ ‏المراحل‏ ‏الأسبق فتبدو مستحيلة بالأدوات، الحالية.

  • قد‏ ‏يظهر‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏الفج‏ ‏بأقل‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏التأليف‏ ‏الضام‏ ‏أو‏ ‏المسلسل‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏نستنتج‏ ‏بعض‏ ‏ملامحه‏ ‏فيما‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏ما‏ ‏يسمى “‏الأحلام‏ ‏الذهانية‏” ‏أو‏ ‏شبه‏ ‏الذهانية‏، ‏‏ولكن ما يسمى بالأحلام‏ ‏ ‏الذهانية‏ ‏ليس‏ ‏دليلا أن الحالم ذهانى (مجنون)، ‏لكنها‏ قد ‏تعتبر‏ ‏فى ‏بعض‏‏ ‏الأحيان ‏إرهاصات‏ ‏بالنكسة‏ ‏أو‏ ‏إنذارات‏ ‏ تـَفسًّخ ‏قادم‏، وفى نفس الوقت هى التى ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏المادة‏ ‏الأكثر‏ ‏أصالة‏ ‏لما‏ ‏سوف‏ ‏يسمى ‏فيما‏ ‏بعد‏ “‏الإبداع‏ ‏الفائق‏” ‏أو‏ “‏الإبداع الخالقى‏”، إذا ما تحمل الشخص مسئوليتها توليفا وجدلا وتصعيدا (إبداعاً).

يمكننا‏، ‏إذن‏، ‏صياغة‏ ‏عملية‏ ‏الحلم‏ ‏فى ‏مراحل‏ ‏ثلاث‏ ‏أساسية‏، ‏هى‏:‏

‏‏المرحلة‏ ‏الأولى: ‏يتم‏ ‏فيها‏ ‏الحلم‏، ‏دون‏ ‏إمكان‏ ‏حكايته‏، ‏وهو ‏ما‏ ‏سوف‏ ‏نسميه‏ ‏هنا‏: “‏الحلم‏ ‏بالقوة‏”، ‏أو‏ ‏الحلم‏ ‏الخام‏ (‏حركية‏ ‏الحلم‏ ‏الأولية‏).‏

‏‏المرحلة‏ ‏الثانية‏: يغلب‏ ‏فيها‏ “‏الرصد‏” ‏على “‏التأليف‏” ‏مع‏ ‏احتمال‏ ‏حكاية‏ ‏الحلم‏. “‏هكذا‏”، ‏بقدر‏ٍ ‏مَا‏ ‏من‏ ‏تناثره‏ ‏وتكثيفه‏، ‏ونسميها‏: “‏الحلم‏ ‏بالفعل‏”، ‏أو‏ “‏الحلم‏ ‏الحركى”‏.‏

المرحلة‏ ‏الثالثة‏: هى ‏المرحلة‏ ‏التى ‏تسمى ‏عند‏ ‏العامة‏ ‏(وعند‏ ‏الخاصة‏ ‏أيضا) ‏”‏حلما‏” ‏من‏ ‏حيث‏ ‏إنها‏ ‏الحلم‏ ‏كما‏ ‏يحكيه‏ ‏الحالم‏ ‏تأليفا‏‏ ‏عادة‏، ‏ونسميها‏: “‏الحلم‏ ‏بالتأليف‏”، على ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏الأخيرة‏ ‏ليست‏ ‏واحدة‏، ‏عند‏ ‏كل‏ ‏الناس‏، ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏التأليف‏ ‏يختلف‏ ‏أصالة‏ ‏وتزييفا‏، ‏بحسب‏ ‏درجة‏ ‏وصاية‏ ‏نوع‏ ‏التفكير‏ ‏االذى ‏يقوم‏ ‏بعملية‏ ‏الإبداع‏ ‏قبيل الاستيقاظ‏، ‏أى الذى يتولى مهمة ‏إعادة‏ ‏التشكيل‏ ‏من‏ ‏المادة‏ (المعلومات)  ‏المتاحة‏ ‏عند‏ ‏الاستيقاظ‏ ‏مباشرة‏.‏

‏ ‏وتقل‏ ‏جرعة‏ ‏الإبداع فى‏ ‏الحلم‏ ‏كلما‏ ‏اقتربت‏ ‏حكاية‏ ‏الحلم‏ ‏من‏ ‏اللغة‏ ‏العادية‏ ‏والتسلسل‏ التتابعى ‏العادى، ‏حتى ‏تصل‏ ‏بعض‏ ‏الأحلام‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏تكاد‏ ‏عنده‏ ‏ألا‏ ‏تكون‏ ‏لها‏ ‏علاقة‏ ‏أصلا‏ ‏بالنشاط‏ ‏الحالم‏ ‏الذى ‏أثارها‏، مثل هذه الأحلام هى التى  ‏تستحق  ‏أن‏ ‏يقال‏ ‏عنها‏ “‏الحلم‏ ‏بالتزييف‏”، وبقدر اختلاف‏ ‏جرعة‏ ‏القدرة على الإحاطة، جدلا بالمعلومات والكيانات المنشطة، ‏وبقدر نشاط‏ ‏التأليف‏ ‏الضام‏ ‏للمادة‏ ‏المستثارة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى، ‏فى ‏مقابل‏ ‏التسجيل‏ ‏المَلفَّق‏، دون‏ ‏وعى كامل: ‏يبدو‏ ‏الحلم‏ ‏إبداعا‏ ‏أصيلا‏، ‏أو‏ ‏تفسخا‏ ‏غامضا‏ ‏أو‏ ‏تسطيحا‏ ‏بديلا‏. ‏

خلاصة القول:

أن ما أسميناه “الحلم‏ ‏بالقوة” هو الحلم الأبعد عن التناول، وعن الحكى أصلا، وهو ‏شديد‏ ‏التكثيف‏، ‏سريع‏ ‏النقلات‏، ‏متعدد‏ ‏الطبقات‏، ‏واهـى ‏العلاقات‏، ‏أما‏ ‏‏ما‏ ‏أسميناه‏ “‏الحلم‏ ‏بالفعل‏” (= الحلم الحركى) فهو حلم أقرب إلى الحلم المحكى لكنه ليس هو هو، ‏وعادة ما يصعب أو يستحيل ترجمته حرفيا‏ ‏إلى ‏لغة‏ ‏اليقظة‏، ‏فهو‏ لا ‏يُحكى ‏عادة‏ ‏بما هو، فإذا حُكى فإنه يحكى بشكل‏ ‏غامض‏ ‏ومتداخل‏ ‏واحتمالىّ، وليس بشكل‏ ‏حكى ‏واضح‏ ‏مسلسل‏، كما اعتدنا أن نسمع حكاوى الحالمين، ثم ننتقل إلى مستوى الحلم المحكى الذى نحكيه وكأننا نتذكره، مع أن الواقع غير ذلك، فحـَكْى الحلم بمعنى التذكّر يكاد لا يكون من عمل الذاكرة أصلا.

 إن فهم مستويات النشاط الحلمى بهذا التصعيد هو المنطلق لمعرفة طبيعة “الحلم الإبداع”، وهو ما تمثلهُ أحلام النقاهة.

الحلم الإبداع:

إن المبدع الأصيل هو الأكثر قدرة على احتواء كل مراحل الحلم السالف ذكرها بطريقة تلقائية جدلية هى أساس عملية الإبداع وهذا ما أسماه “س.‏أريتىArieti. S “:‏ ‏العمليات‏ ” ‏الثالثوية‏”([162]) ‏،  ‏وهى ‏العمليات‏ ‏التى تجمع‏ ‏بين‏ العمليات ‏الأولية (البدائية – الانفعالية – الفجة)‏ ‏والعمليات الثانوية (التجريبة الحسابية المنطقية) ‏فى ‏وُلاَفٍ‏ ‏ضام‏([163]).

فأين تقع أحلام النقاهة من كل ذلك؟

إنها([164]) هذا الإبداع القادر المسئول الذى احتوى أغلب ما تحرك أثناء النشاط الحلمى، واستطاع أن يجمع نبضه وتناقضاته الظاهرة فى تشكيل أصيل بادئا بما يتصور أنه تذكـُّر لما جرى فى الحلم، مشتملا لكل ما يتناسق معه ويضاف إليه ويصقله: ليصبح إبداعاً فائقا فى ذاته، ولصاحبه أن يطلق اسم الحلم عليه، فى حين أنه إبداع فائق أصيل، استطاع استعمال آليات الحلم بوعى مشتمل ليقدم لنا هذه المأدبة البالغة الثراء، أو ذلك “الوُلاف السحرى” كما يقول أريتى، هكذا تخلقت أحلام النقاهة.

‏علاقة‏ ‏الإبداع‏ ‏الأدبى (الشعر كمثال) ‏بظاهرة‏ ‏الحلم:

إن حركية الحلم هى القادرة على أن تفسر عملية إبداع الشعر ثم إن عملية تشكيل الشعر يمكن أن تشرح الكامن من حركية إبداع الحلم!‏ هذا الموقف الدائرى صعب التناول، لكنه ضرورة معرفية لازمة، وهكذا، يمكن إعادة النظر فى مستويات الشعر – بمعناه الأشمل- قياسا على مستويات الحلم ‏بدءًا‏ ‏بافتراض‏ ‏أن‏ ‏‏عملياته‏ ‏الأساسية‏ إنما تبدأ باستيعاب ‏‏العملية‏ ‏الإبداعية‏ ‏للطاقة‏ ‏الخلاقة‏ ‏فى ‏فعل‏ ‏تنشيط‏، ‏وتحريك‏ ‏فتفكيك‏ ‏فتنظيم‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى ‏ومفردات‏ ‏المعلومات‏، ‏فى ‏نمط‏ ‏يتميز‏ ‏بالإيقاع‏، ‏و‏‏التصوير‏، ‏و‏إعادة‏ ‏تخليق‏ ‏البنية‏ ‏الأساسية‏ (‏‏بها‏ ‏جميعا‏). ‏حيث‏ ‏الأداة‏ ‏الغالبة‏ فى الشعر ‏هى ‏التشكيل‏ ‏بالأبجدية التصويرية‏ ‏اللفظية‏ ‏الحاضرة‏ ‏أساسا‏ (‏وليس‏ ‏تماما‏)، ‏وهو‏ ‏يتم‏ ‏بدرجة‏ ‏من‏ ‏الإرادة‏ ‏والتوجه‏ ‏فى ‏وعى ‏فائق‏، وقياسا على مستويات الحلم يمكن النظر فى مستويات الشعر على الوجه التالى:

ثمْ‏ ‏شعر‏ ‏لم‏ ‏يُقَلْ‏ ‏أصلا‏، ‏وهذا‏ ‏مايقابل‏ ‏التنشيط‏ ‏المبدئى ‏للداخل‏ ‏فالخارج‏، هو لم يُقَلْ، لكنه تخلّق وهو يمر‏ ‏سريعا‏ ‏بمراحله‏ ‏الإبداعية‏ ‏الطبيعية‏، ‏من‏ ‏تفكيك‏، ‏وتحريك‏، ‏فولاف‏ ‏داخلى، ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يتمكن‏ ‏الشاعر‏ ‏من‏ ‏اللحاق‏ ‏به‏، ‏للإمساك‏ ‏بمادته‏، ‏وتسجيلها‏، ‏وتطويرها‏ ‏فى ‏صياغة‏ ‏معلنة‏، ‏هذا‏ ‏المستوى ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى: “‏القصيدة  ‏بالقوة‏”، ‏ولعل‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏ماعبر‏ ‏عنه‏ ‏ت‏. ‏س‏. ‏إليوت‏، ‏بقوله‏: “‏لم‏ ‏يتعلم‏ ‏المرء‏ ‏إلا‏ ‏انتقاء‏ ‏خير‏ ‏الكلام‏ ‏للشئ ‏الذى ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏ثمة‏ ‏ضرورة‏ ‏لقوله‏، ‏وبالطريقة‏ ‏التى ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏ميالا‏ ‏لقوله‏ ‏بها‏”([165]).

يلى ‏هذا‏ ‏المستوى ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أطلق‏ ‏عليه‏ ‏مرحليا‏ “‏الشعر‏-‏الشعر‏”، ‏أو‏ “‏أقصى ‏الشعر‏”، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يبدو‏ -‏لأول‏ ‏وهلة‏- ‏فجا‏ ‏متناثرا‏، لكنه حاضر مخترق، وهو ‏إذ‏ ‏يمثل‏ ‏أول‏ ‏خطوة‏ ‏ممكنة‏ ‏تعلن‏ ‏نجاح‏ ‏محاولات‏ ‏عبور‏ ‏الموت‏/‏التحلل‏/‏الجنون؛ ‏فهو‏ ‏الشعر‏ ‏الذى ‏ينجح‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يلتقط‏ ‏عمق‏ ‏التفكك‏ ‏وبدايات‏ ‏الـَّلم‏ فى آن. ثم هو الذى يستطيع أن ‏يعلنها‏ ‏فى ‏مسئولية‏ ‏غائية‏ ‏هائلة‏، ‏حيث‏ ‏القصيدة‏ ‏لم‏ ‏تزل‏ ‏فى ‏عنفوان‏ ‏المفاجأة‏ ‏والتكثيف‏، ‏فى ‏محاولة‏ ‏احتواء‏ ‏الهجوم‏ ‏على ‏حواجز‏ ‏اللغة‏ ‏والزمن‏، ‏وحيث‏ ‏يطل‏ ‏الموت‏ ‏كتنظيم‏ ‏بديل‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏معالم‏، ‏فيواجهه‏ ‏الشعر‏ ‏ليبعث‏ ‏فيه،‏ ‏ومِـنه،‏ ‏حياة‏ ‏مجهولة‏ ‏ومستكشِفة‏، فى حالة تشكيل‏([166])، ‏لا‏ ‏يكتمل‏‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏وعى ‏القارئ (‏‏المتلقى: شاعرا‏). ‏

هذا‏ ‏المستوى ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏قدر‏ ‏هائل‏ ‏من‏ ‏الإرادة‏ ‏والمغامرة‏ ‏معا‏، ‏لأنه‏ ‏يتناول‏ ‏عمقا‏ ‏غائرا‏ ‏من‏ ‏عملية‏ ‏التفكيك‏ ‏فالتركيب‏، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يستسلم‏ ‏للتسجيل‏ ‏والرصد‏ ‏بأقل‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏الإرادة‏ ‏الواعية‏ ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏استمرار‏ ‏فعل‏ ‏الإبداع‏، فهو يتحمل ‏هذا‏ ‏التنشيط‏ ‏التفكيكى ‏ويتجاوزه‏ ‏به‏… ‏ويغامر‏ ‏فـ‏ “‏يقول‏”، فيكون شعرا، وبألفاظ‏ ‏أخرى: إن‏ ‏الشاعر‏ ‏لا‏ ‏يكتفى ‏بتسجيل‏ ‏ما تنشَّطَ‏ (‏ونَشِطَ‏) ‏من‏ ‏صور‏ ‏وكيانات‏ ‏الداخل‏، ‏إذ‏ ‏هو‏ ‏مازال‏ ‏محتفظا‏ ‏بوعى ‏اليقظة‏ ‏الراصد‏ ‏المتحمِّل‏، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏يتواجد‏ ‏فيه‏ ‏اقتحاما‏، ‏ثم‏ ‏يستسلم‏ ‏له‏ ‏ليسيطر‏ ‏عليه‏، ‏ويخاف‏ ‏منه‏ ‏متقدما‏ ‏إليه‏، ‏غير‏ ‏مضطر‏ ‏إلى ‏الإسراع‏ ‏بترجمته‏ ‏أو‏ ‏بتقريبه‏ ‏إلى ‏أقرب‏ “‏واحد‏ ‏صحيح‏” ‏كما‏ ‏تعودنا‏ ‏نحن‏ ‏الحالمين‏ ‏دون‏ ‏شعر‏ ‏يقال‏، وهذا غالبا هو ما فعله محفوظ فصار حلما من أحلام النقاهة.

‏الشاعر‏ ‏يقتحم‏ ‏ويهاجم‏ ‏ابتداءً‏،‏ محطّما‏ ‏البنية‏ ‏القديمة‏ ‏ليولد‏ ‏بنية‏ ‏جديدة‏ ‏جميلة‏ ‏ومتفجرة‏ ‏معا،‏ ‏على الشاعر – ليكون شاعرا- أن ‏ينجح  ‏بعد‏ ‏جولات‏ ‏من‏ ‏الصد‏، ‏والمناورة‏، ‏والمخاطرة‏، ‏والإحباط‏، ‏والتصالح‏، ‏فالتوحد‏، ‏أن تعود علاقته‏ ‏ ‏ ‏بالكلمة‏ ‏ ‏إلى ‏التوازن‏ ‏فالتربيط‏ ‏الجديد‏، ‏لتخليق‏ ‏البنية‏ ‏التى ‏تعطى ‏الطعم‏ ‏الجديد‏؛ ‏والشكل‏ ‏الجديد‏، ‏والمعنى ‏الجديد‏، ‏والنبض‏ ‏الجديد‏، ‏والصورة‏ ‏الجديدة‏، هذه‏ ‏هى ‏القصيدة‏، ‏قيلت‏ ‏أو‏ ‏لم‏ ‏تـُقـَلْ‏.‏

هذا، وقد خطر لى، خاصة بعد قراءة الجزء الثانى من أحلام النقاهة أن محفوظ قد سمح لعدد من الأحلام أن تظهر فى مستويات مختلفة، وهذا ما جعل بعض المتحفظين على مجموعة الأحلام الأخيرة يتشككون فى نسبتها إليه، وهذا تفسير متعجل، وتعميم سطحى، لأن المطلوب هو السماح بكل المستويات حسب متغيرات مختلفة لا يمكن  معرفتها تفصيلا، كما لا يمكن تثبيتها طول الوقت.

شعر محفوظ ليس قاصرا على أحلام النقاهة:

‏دعونا‏ ‏نطرق‏ ‏باب‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ (حتى قبل أحلام فترة النقاهة) ‏لنراه‏ ‏وقد‏ ‏تجول‏ ‏فى ‏طول‏ ‏إبداعه‏ ‏وعرضه‏، ‏بما‏ ‏هو‏ ‏حلم‏، وبما هو شعر ‏وفيما‏ ‏هو‏ ‏حلم‏، ‏وهو يحيط بأغلب مستويات وعيه معا، ‏من‏: ‏القصة‏ ‏الحلم‏، ‏إلى ‏اللقطة‏ ‏الحلم‏، ‏إلى ‏الحلم‏ ‏فى ‏القصة‏، ‏إلى ‏الحلم‏ ‏التنبؤى، ‏إلى ‏الحلم‏ ‏الأضغاث‏، ‏مما‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏دراسة‏ ‏مستقلة‏. ‏وقد‏ ‏يكون مناسبا‏ أن ‏أكتفى بالإشارة إلى مقتطف  من‏ ‏قراءاتى الباكرة ‏فى ‏مجموعته‏: “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏”([167] مما يشير إلى بعض ذلك حيث قلت: ‏إن‏ “‏الحلم‏ ‏ليس‏ ‏وجودا‏ ‏سلبيا‏، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏نفيا‏ ‏للوجود‏، ‏لكنه‏ ‏وجود‏ ‏آخر‏، ‏وجود‏ ‏مُنَاوِب‏، ‏فالإنسان‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏مايعى ظاهرا، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يتكامل‏ ‏بتوليفة‏ ‏من‏ ‏مستويات وعيه:‏ ‏بعضها‏ ‏فى “‏مركز‏ ‏وعى ‏اليقظة‏”، ‏وبعضها‏ ‏على “‏هوامش‏ ‏اليقظة‏”، ‏والبعض‏ ‏منها‏ ‏فى “‏وعى ‏الحلم‏”، ‏والبعض‏ ‏الآخر‏ ‏داخل “‏وعى ‏النوم‏”

 (‏بلا‏ ‏حلم‏ ظاهر)، ثم أضفت:

“ونجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حدسه‏ ‏الفنى ‏وقدرته‏ ‏الروائية‏ ‏يعلمنا‏ ‏أن‏ ‏الحلم‏ ‏هو‏ ‏وجود‏ ‏كامل‏ ‏فى ‏ذاته‏، ‏قائم‏ ‏بذاته‏، ‏غير‏ ‏رمزى ‏بالضرورة‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏رؤية‏ ‏ورؤى ‏عيانية‏ ‏مباشرة‏.. ([168])” ‏”‏إن‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏قد‏ ‏اقتحم‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى ‏الأخرى ‏حتى ‏تبينت‏ ‏له‏ ‏معالمها‏ “‏كما‏ ‏هى‏”، ‏لا‏ ‏كما‏ ‏تشير‏ ‏إليه‏ ‏أو‏ ‏تدل‏ ‏عليه‏ ‏فقط،‏ فنسج منها إبداعه المتجاوز لكل ذلك لكنه احتفظ باسم أو صفة الحلم….” ([169]).‏” وحين‏ ‏نواجه‏ ‏العمل‏ ‏الذى ‏أعلن‏ ‏أنه‏ رؤى “‏…‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏” ‏فإننا‏ ‏نجده‏ ‏قد‏ ‏أخذ‏ ‏شكل‏ ‏الحلم‏، ‏ولكن‏ ‏التسلسل‏ ‏دار‏ ‏حول‏ ‏محور‏ ‏غائى ‏مركزى ‏قام‏ ‏بتوظيف‏ ‏شكل‏ ‏الحلم‏ ‏لغاية‏ ‏محددة‏: ‏هى رحلة‏ ‏الحياة‏”([170]).‏

ثم إننا نجده فى هذين العملين الأخيرين قد تجاوز حتى هذه المرحلة التى حددت انطلاقه نسبيا فى عمله الباكر هذا.

‏ ‏تفسير ‏الحلم ونقد‏ ‏النص‏ ‏الأدبى‏:‏

‏‏يحق‏ ‏لنا‏ ‏- الآن‏‏-‏ ‏أن‏ ‏نأمل‏ ‏فى عقد‏ ‏مقارنة‏ ‏بين‏ ‏تفسير‏ ‏الحلم‏ ‏والنقد‏ ‏الأدبى فى محاولة التعرف على طبيعة ووظيفة وأهداف هذا العمل: أحلام فترة النقاهة، وبصفة‏ ‏مبدئية‏، علينا أن نعلم ابتداءً أن ‏شكوكا متزايدة‏ ‏بدأ‏ت ‏تظهر‏ ‏بوضوح‏ ‏فى ‏إمكان‏ ‏تفسير‏ ‏الأحلام‏ ‏تفسيرا‏ ‏يقربنا‏ ‏من‏ ‏حضور‏ “‏الوعى ‏الآخر‏ ‏بما‏ ‏هو‏”، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏شاع‏  ‏من‏ ‏محاولات‏ ‏تفسير‏ ‏الحلم – سواء التفسير الشعبى أو التحليل النفسى -‏ ‏سواء‏ ‏بفك‏ ‏الرموز‏ ‏أو‏ ‏بوصل‏ ‏الأحداث‏ ‏أو‏ ‏بترجمة‏ ‏الإشارات‏ ‏إنما‏ ‏يبعدنا‏ ‏عن‏ ‏الحلم‏ الأصل: الذى‏ ‏يحضرنا أو نحضر‏ ‏فيه، وما يقابل ذلك فى النقد يلاحظ أن أغلب‏ ‏النقد‏ الأدبى ‏المنهجى ‏الأكاديمى ‏الحديث‏ ‏قد‏ ‏يبعدنا‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏ ‏عن‏ ‏حضور‏ ‏النص‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏لازم‏ ‏للوفاء‏ ‏بالإحاطة‏ ‏بأبعاده‏ ‏كما‏ ‏تحاول‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ أن تبينها، ‏إن‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏فرويد‏ ‏ويونج‏ ‏قد‏ ‏اجتهدا‏، ‏كل‏ ‏بطريقته‏ فى محاولة وضع نهج لتفسير الأحلام، ‏لكن‏ ‏فرويد ‏حاول‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏عالما‏ ‏أكثر‏ (‏وبنائيا‏ ‏كما‏ ‏قيل‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏) ‏فأعلن‏ ‏التزاما‏، ‏وحدد‏ ‏منهجا‏، ‏وزعم‏ ‏تعميما‏. ‏والواقع‏ ‏أنه‏ ‏أفاد‏ ‏كثيرا‏ ‏بهذا‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يخرج‏ ‏كثيرا‏ ‏عن‏ ‏دائرة‏ ‏نظريته‏ ‏ولا‏ ‏عن‏ ‏دائرة‏ ‏ذاته‏ ‏الشخصانية‏ (‏لا‏ ‏ذاته‏ ‏الموضوعية، أداة البحث الفينومنيولوجى‏)، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏أيضا‏ ‏بالنسبة‏ ‏لمحاولات‏ ‏فرويد‏ ‏فى ‏النقد، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏يونج‏ ‏قد‏ ‏أكد‏ ‏العامل‏ ‏الشخصى الموضوعى ‏فى ‏التفسير‏ ‏بالمعنى ‏الإبداعى ‏الأصيل‏ مما لا مجال لتفصيله هنا.

 من منطلق تطور النقد إلى مستوى “الإبداع على الإبداع”: علينا أن‏‏‏ ‏نتذكر‏ ‏أن‏ ‏الإبداع‏ ‏فى ‏القراءة النقدية‏ ‏مثله‏ ‏مثل‏ ‏الإبداع‏ ‏الأول‏: ‏إنما‏ ‏يمثل‏ ‏موقفا‏ ‏دقيقا‏ ‏بين‏ ‏الحرية‏ ‏والالتزام‏، ‏فالحرية‏ ‏غير المحدودة‏ ‏تجعل‏ ‏جرعة‏ ‏الشخصنة‏ (‏الذاتية‏ ‏الإسقاطية‏، ‏اللاموضوعية‏) ‏كبيرة‏ ‏وخطيرة‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏فرط‏ ‏الالتزام‏ ‏المنهجى ‏قد‏ ‏يسجن‏ ‏ناقد‏ النص (‏أو‏ ‏مفسر الحلم‏) ‏فى ‏جدول‏ ‏ضرب‏ ‏خانق‏، ‏محاط بسياج من الرموز الجاهزة.

قصيدة القوس العذراء: الشعر ينقد شعرا!

إذا كان‏ ‏الحلم‏ ‏ليس‏ ‏حلما‏ ‏بل‏ ‏إبداعا‏ ‏مكثفا (أو مسطحا)‏، ‏وإذا كان تفسيره ‏ ‏ليس‏ ‏قادراً أن يكشف أبعاده، ‏فالنقد‏ ‏الأدبى التقليدى قد لا يتجاوز أن يكون وصفا للنص لا يصل إلى مستوى الإبداع مهما بلغته دقته، النقد الأصيل هو إبداعٌ تالٍ من وحى حركية الوعى الأصلى استلهاما مما يصله من الوعى المنبعث من النص الأول، فهو إبداع على إبداع، يكاد يوازى حركية الوعى البينشخصى بين المريض والمعالج فيما أسميته “نقد النص البشرى”.([171])

وصلنى ذلك من قديم إلا أنه لم تتضح لى معالمه إلا مؤخرا، كان ذلك من خلال فرصة باكرة لمعايشة القصيدة الرائعة للشاعر الأديب المحقق “‏محمود‏ ‏محمد‏ ‏شاكر‏”: وهى قصيدة “‏القوس‏ ‏العذراء‏” ([172]) ‏على ‏قصيدة‏ ‏الشماخ‏ ‏بن‏ ‏ضرار‏ ‏الغطفانى ‏فى ‏قوس‏ ‏عامر‏ ‏أخى ‏الخضر‏([173])، هذه القصيدة الفريدة، التى وصف فيها قصّة قوّاس صنع قوسا فأتقنها حتى كانت رميتها لا تخيب، ثّم اضطره فقره إلى بيعها، فأخذ شاكر هذه القصة ونسج عليها رائعة من روائع الشعر المعاصر.. جعلها واسطة بينه وبين صديق له لم تبلُ مودته وصداقته([174]).

‏ ‏ ‏النقد‏ ‏بوصفه‏ ‏إبداعا‏ ‏هو ‏مواكبة‏ ‏النص‏ ‏الأدبى: ‏إبداعا‏ ‏مواكبا مشاركا من خلال حركية الوعى البينشخصى‏،  ‏إن نتيجة‏ ‏مواكبة‏ ‏النص الأصلى تلقيا مبدعا هى خليقة بأن تنشط إمكانية الإبداع النقدى، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏نقده‏ ‏إبداعا‏ ‏منشئا‏ ‏فى ‏ذاته‏‏([175]).‏

خلاصة‏ ‏القول حتى الآن‏: ‏إن‏ ‏النقد‏ “‏الإبداع‏ ‏على ‏إبداع‏” ‏ليس‏ ‏غوصا‏ ‏إلى ‏بنية‏ ‏تحتية‏ ‏مسئولة‏ ‏عن‏ ‏المفردات‏ ‏الفوقية‏ ‏الظاهرة‏ ‏فى ‏العمل‏ ‏الأدبى، ‏وإنما‏ ‏هو ‏-‏ بعد‏ ‏الغوص‏ ‏أو‏ ‏بدونه ‏- ‏صعودا‏ ‏بالنص‏ ‏الأول‏ ‏إلى ‏ما قد يتجاوزه‏ ‏بالنص‏ ‏الناقد‏ ‏إبداعا‏، وقد تتاح الفرصة أكثر فأكثر كلما كان النص شعرا أو اقترب من كونه كذلك.

التطبيق على أحلام النقاهة (وغيرها وقبلها):

مرة أخرى: هى قصائد بكل ما تعنى القصيدة، وهى أحلام بكل ما يتجاوز الأحلام، وقد سبق لى أن تناولت بالنقد أعمالا بدت كأنها روايات أو حتى حكايات، لأكتشف أنها شعر خالص، ومثال ذلك حين تعاملت مع حكايات هانز كريستيان أندرسون بعنوان “قصص وحكايات خرافية”([176]فهو شاعر أساسا، لكن شهرة أندرسن ارتبطت بكتاباته للأطفال أكثر من كونه شاعر، كتاباته للأطفال سميت خطأ (ربما مقصودا) “خرافية”، وقد اعتبرتُ ذلك بمثابة الخدعة الذكية، حتى لو كان هو الذى أطلق عليها هذه الصفة، كما أننى رجحت أنه سماها كذلك ليستدرجنا إلى عمق الحقيقة، فيفوّت علينا أن نسارع فندمغها نحن بالخرافة، إن مبادأته بتسميتها “خرافية” هى نفى ضمنى لاحتمال اتهامنا إياها أنها كذلك، (فهل يا ترى فعل محفوظ مثله حين بادر بتسميه هذه الأعمال الأخيرة “أحلام فترة النقاهة” كما  سمى عملا سابقا “رأيت فيما يرى النائم”؟).

‏ثم‏ ‏نأتى إلى‏ ‏حدس‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ كما تجلى أخيرا‏ فاستطاع‏، ‏بجهد‏ ‏فائق‏، ‏اقتحام‏ ‏التركيب‏ ‏البشرى ‏بنشاطه‏ ‏المتناوب‏، ‏وإسقاطاته‏ ‏المجسمة‏، وهو يتنقل بين وعى الحلم ووعى الإبداع: مرورا بوعى اليقظة فنجد أنه بذلك قد صالح كل مستويات وعيه حين استطاع أن ‏ينسج‏ ‏من‏ ‏حركية‏ ‏الحلم‏ ‏رؤية‏ ‏قصصية‏ شعرية ‏بوظيفتها‏ ‏التحريكية‏ ‏الكشفية‏، ‏قبل‏ ‏مستواها‏ ‏الرمزى ‏وبعده‏، وقد بدأ هذا الغوص فالإحاطة فالجدل باكرا منذ “رأيت فيما يرى النائم”([177]) وأيضا – كما ذكرت – فى أعمال لم يسمها أحلاما صراحة مثل “ليالى ألف ليلة”‏([178]). ثم‏ ‏يأتى ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ بعد ‏أكثر من ‏عشرين‏ ‏عاما‏، ‏وبيده‏ ‏التى ‏عادت‏ ‏إليها‏ ملامح من ‏الحياة‏ ‏بفضل‏ ‏تدريب‏ ‏ست‏ ‏سنوات‏ ‏متصلة‏، ‏بعد‏ ‏فضل‏ ‏الله‏، ‏يأتى ‏ليبدع‏ ‏لنا‏ ‏فى ‏سطور‏ ‏معدودة‏، ‏هذه‏ ‏الصور‏ ‏-وأغلبها شعرا – ذات‏‏ ‏النهاية المفتوحة ‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏التكثيف‏ ‏المحرك‏ ‏للوعى. ‏هذا‏ ‏إنجاز‏ ‏بشرى ‏فريد‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏علاقة‏ ‏بنوبل‏، ‏بل‏ ‏بمحفوظ‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏تشرُفُ‏ ‏به‏ ‏نوبل‏.

أجنَّة أحلام فترة النقاهة، والمعرفة الهشة:

لما وصلتنى من أحلام فترة النقاهة كل هذه الاحتمالات، وكنت – ومازلت- مثابرا على كتابة تداعياتى على تداعياته فى كراسات التدريب، رحت أتامل هذا الكنز الآخر من لآلىء وعيه المتناثرة، وأنا أتحسس طريقى إلى حركية تلقائيته فى إبداعه العفوى هذا: ورويدا رويدا اكتشفت أننى عثرت على مفتاح كنز الإبداع بفضله، ذلك أننى عثرت فى تدريباته للكتابة بدءا من صفحة التدريب رقم (176) على عدد من الجمل الأكثر تماسكا، وقد وصلنى من نبضها ما هو أقرب إلى ما أسماه أريتى: “المعرفة الهشة”، ولأن المعرفة الهشة – كما سنرى- لا تعلن عن نفسها بما هى أبدا، فقد وجدت فى ما عثرت عليه هكذا فى تدريباته أننا فى مرحلة تتخطى قليلا مرحلة المعرفة الهشة (أصل الإبداع والحلم والجنون)، ولم أجد لما وجدته مسمى جاهزا فسميتها “أجنّة أحلام النقاهة”، وهكذا رحت أحاول أن أتابع كيف تعهدها مبدعها بحمْل سليم، حتى وضعها أحلاما بديعة كاملة النمو، وعلى ذكر المعرفة الهشة لابد من الإشارة إلى معنى وأهمية هذا المصطلح الذى صكه سيلفانوا أريتى فى كتابه “الإبداعية: الولاف السحرى”،([179]) لأنه الأصل فى هذه الظواهر الثلاث التى نحن بصدد النظر فيها.

عرّف سيلفانو أريتى (1976) المعرفة الهشة بأنها نوع من المعرفة التى تتم دون تمثيلات، أى دون أن تظهر فى صور أو ألفاظ أو أفكار أو أفعال من أى نوع، واعتبر أن تنشيط هذه المعرفة هو أصل الظواهر التى أشرت إليها حالا: الحلم والإبداع والجنون، وهذا ما سبق أن استشهدت به فى حالة الإبداع من شهادات المبدعين، وقد انتقيت منها ما سوف أورده دون تعقيبى عليها، وكان سبب انتقائى لها هو ما بها من إشارات إلى “ما لا يقال” (إبراهيم أصلان) وإلى “ما يفتقر إلى التجسيد” (أبو المعاطى أبو النجا)، “وإلى “سديم الاحساس الداخلى” (يوسف أدريس) وإلى “البرق الذى يظهر ويختفى” (نزار قبانى) وإلى “سديم آخر يفلت منك حين تحاول أن تحضن موجاته. (أدونيس).

 (1) ‏إبراهيم‏ ‏أصلان‏:([180])

‏”… ‏لكن‏ ‏بقية‏ ‏التفاصيل‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تـكتب‏ (‏مثلها‏ ‏مثل‏ ‏كل‏ ‏الكلمات‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تكتب‏) ‏تظل‏ ‏موجودة‏ ‏وحاضرة‏ ‏فى ‏قلب‏ ‏ذلك‏ ‏القليل‏ ‏الذى ‏يكتب‏. ‏أقول‏ ‏لنفسى ‏أحيانا‏: ‏إن‏ ‏مايقال‏ ‏يكتسب‏ ‏قيمته‏ ‏الباقية‏ ‏من‏ ‏تلك‏ ‏الأشياء‏ ‏المجهولة‏ ‏والتى ‏لا‏ ‏تقال‏ ‏أبدا‏”.

‏ (2‏) ‏أبو‏ ‏المعاطى ‏أبو‏ ‏النجا:([181])

‏ “.. ‏فأكتب‏ ‏القصة‏ ‏لأعبر‏ ‏عن‏ ‏شىء‏، ‏أو‏ ‏لأمسك‏ ‏بشيء‏ ‏يتململ‏ ‏فى ‏داخلى، ‏ويعجزنى ‏أن‏ ‏أتعرف‏ ‏عليه‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أضعه‏ ‏فى ‏شراك‏ ‏الصيغة‏ ‏القصصية‏ ‏الملائمة‏، ‏لأجسد‏ ‏شيئا‏ ‏هلاميا‏، يفتقر‏ ‏إلى ‏التجسيد‏، ‏ليكتسب‏ ‏معنى “.‏

 (3) يوسف‏ ‏إدريس‏:([182])

‏”.. ‏الإبداع‏ ‏عندى ‏أشبه‏ ‏مايكون‏ ‏بخلق‏ ‏الكون‏..، ‏سديم‏ ‏من‏ ‏الإحساس‏ ‏يتكون‏ ‏داخلى، ‏ثم‏ ‏يبدأ‏ ‏حركة‏ ‏هائلة‏ ‏الضخامة‏، ‏بطيئة‏ ‏الوقع‏. ‏وتتخلق‏ ‏الأفكار‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏السديمية‏ ‏للأحداث‏ ‏والشخصيات‏.. ‏وبتوقف‏ ‏الحركة‏ ‏تكون‏ ‏القصة‏ ‏قد‏ ‏تخلقت‏ ‏فيما‏ ‏أسميه‏ ‏القصة‏ -‏الكون‏ – ‏الحياة‏ ‏التى ‏هى ‏أعلى ‏مراحل‏ ‏السديم‏”.‏

أما شهادات الشعراء وهم الأقرب إلى إبداع الحلم فأقتطف منها ما يلى:

(1) ‏نزار‏ ‏قبانى: ([183])

‏”‏تأتينى ‏القصيدة‏ -‏أول‏ ‏ماتأتي‏- ‏بشكل‏ ‏جمل‏ ‏غير‏ ‏مكتملة‏، ‏وغير‏ ‏مفسرة‏، ‏تضرب‏ ‏كالبرق‏ ‏وتختفى ‏كالبرق‏. ‏لا‏ ‏أحاول‏ ‏الإمساك‏ ‏بالبرق‏، ‏بل‏ ‏أتركه‏ ‏يذهب‏، ‏مكتفيا‏ ‏بالإضاءة‏ ‏الأولى ‏التى ‏يحدثها‏… ‏أرجع‏ ‏للظلام‏ ‏وأنتظر‏ ‏التماع‏ ‏البرق‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏ومِـن‏ ‏تجمع‏ ‏البروق‏ ‏وتلاحقها‏، ‏تحدث‏ ‏الإنارة‏ ‏النفسية‏ ‏الشاملة‏… ‏وفى هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏فقط‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أتدخل‏ ‏إراديا‏ ‏فى ‏مراقبة‏ ‏القصيدة‏ ‏ورؤيتها‏ ‏بعقلى ‏وبصيرتي‏”. ‏

‏(2) – ‏أدونيس‏:([184])

‏ “…‏إنها‏ (‏القصيدة‏)، ‏عالم‏ ‏ذو‏ ‏أبعاد‏، ‏عالم‏ ‏متموج‏ ‏متداخل‏ ‏كثيف‏ ‏بشفافية‏، ‏عميق‏ ‏بتلألؤ‏،… ‏تقودك‏ ‏فى ‏سديم‏ ‏من‏ ‏المشاعر‏ ‏والأحاسيس‏، ‏سديم‏ ‏يستقل‏ ‏بنظامه‏ ‏الخاص‏ ، ‏تغمرك‏، ‏وحين‏ ‏تهم‏ ‏أن‏ ‏تحضنها‏ ‏تفلت‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏ذراعيك‏ ‏كالموج‏”‏

ثم نصل إلى شهادة نجيب محفوظ ونصها يقول([185]):

‏”… ‏تدب‏ ‏حركة‏ ‏من‏ ‏نوع‏ “‏ما‏” (‏التنصيص‏ ‏من‏ ‏عندي‏) ‏فينشط‏ ‏الكاتب‏ ‏لتوصيلها‏ ‏إلى ‏القاريء‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تتجسد‏ ‏له‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏معين‏، ‏ما‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏؟‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ “‏أى ‏شيء‏”، ‏أو‏ “‏لا‏ ‏شيء‏ “‏بالذات‏… “. ‏

فنلاحظ هنا أن محفوظ كان أبسطهم وفى نفس الوقت أقل قدرة على وصف تفاصيل عملية إبداعه، مع أنه من أقدرهم بل لعله أقدرهم على احتواء هذه المعرفة الهشة لتخليقها إبداعا، وخاصة فى مثل هذا العمل: أحلام النقاهة، ومع ذلك جاءت شهادته هنا بهذا التواضع والبساطة، وهذا يدل على عمق وأصالة المبدع، إلى كل مَدَى.

 وقد ظهر بعض هذا القصور الإيجابى فى العجز عن وصف ما لا يوصف، وهو يشرح مضطرا بعض خطوات هذا الإبداع الأخير الذى تجلى فى أحلام فترة النقاهة، فالمبدع الأصيل جدا هو الذى يعجز عادة عن وصف طبيعة وخطوات عملية إبداعه، وربما هذا هو بعض ما لاحظته فيما ورد فى العمل الأمين الذى صدر مؤخرا باسم “حوارات نجيب محفوظ” التى أجراها وجمعها الأستاذ محمد سلماوى([186])، وإن كان قد جاءنى تفسير أخر لإجاباته المتواضعة فى هذا العمل، فهو حين تكلم مع الأستاذ سلماوى لابد أنه كان يضع فى اعتباره أنه يتكلم بما يمكن أن ينشر فى صحيفة يومية (الأهرام) فاضطر أن يبسِّط ما لا يتبسط، أو هذا ما وصلنى، وهذا يعود بنا إلى ما بدأنا به وإلى ما قدمناه فى المقدمة وكيف أن المبدع ليس ملزما، وعادة ليس قادرا على الإلمام بتفاصيل خطوات إبداعه، (كما أشار أريتى هامش رقم (5) وبالتالى تكون إجابات محفوظ عن أحلامه فى هذه الحوارات ليست هى فصل الخطاب ولا هى الأهم أو الأدق وصفا، وهذه بعض الملاحظات حول ذلك:

صفحة (307) من كتاب حوارات نجيب محفوظ:([187]) يقول محفوظ: “لاحظت أن الأحلام الجديدة أصبحت أكثر ارتباطا بالواقع، وهى تبدو متأثّرة جدّا بالأحداث الجارية”…. “الأحلام التى أكتبها الآن تبدو لى انعكاسّا مباشرّا للأحداث التى نعيشها”.

وقد وصلنى أنه بهذا التصريح قد ابتعد قليلا أو كثيرا عن طبيعة الأحلام وعمق إبداعها، وخاصة حين أردف “يبدو أن ما ننكوى به نحلم به.”، وهذا وارد ومقبول، ولكنه يظل بعيدا عن زخم الشعر الذى يتميز به مجمل هذا العمل، إنه استنتاج من حقه، لكنه قد يكون أبعد ما يكون عن أصل العملية الإبداعية، وعن وعى الحلم بالقوة، أو الحلم الأصلى، أو الحلم الشعر، وبالتالى عن معظم أحلام فترة النقاهة (وإن كانت بعض الأحلام، وخاصة فى المجموعة الجديدة فيها بعض ذلك مما قلل عندى من شاعريتها ومن حُلميتها).

وأيضا فى صفحة (309) قال: “إن الأساس المحرك فى هذه القصص هو حلم حقيقى، لكنه حلمٌ ليس مساويّا للقصة كما تنشر، فالحلم قد يمنحنى الفكرة لكنى أعمل على هذه الفكرة طويلا….الخ”

وهذا طيب أيضا لكنه من ناحية أخرى يجعلنا نتساءل عن ما هو الحلم الحقيقى وما هو الحلم غير الحقيقى، ونتوقف هنا عند تعبيره “المحرّك” وهذا رائع كذلك، ولكن بمراجعة ما سبق عرضه فى التنظير يمكن أن نرجح أن ما يتذكره المبدع مما اسماه حلما له أصول وأعماق أبعد وأشمل من تصريحاته الطيبة المتواضعة هذه:

وأخيرا: وفى صفحة (311 نفس الكتاب) ردا على سؤال سلماوى “ما الذى لا يرضيك فى القصص التى لم نقرأها، يرد محفوظ: “يقلقنى أن القصة لا تصب تماما فى القالب الذى أردته لها، فالمهم عندى فى هذه القصص التى سميتها أحلاماً أن ينتهى هذا الحلم بفكرة عامة، لا أن يظل حلما خاصا، والفكرة التى يقوم عليها فكرة خاصة”

وهذا أيضا التزام طيب، لكنه لا ينبغى أن يلزم المبدع نفسه به، والأرجح عندى أنه ربما كان يريد أن يرسل رسالة طيبة للمحاور أو للقارئ وهو يعلم تماما – ويمارس دائما- أنه لا يوجد حد فاصل بين ما أسماه الفكرة العامة والفكرة الخاصة فى الإبداع.

تداعيات من صفحات التدريب تغوص أعمق:حين أتيحت لى فرصة التجريب بالتداعى على ما تركه لنا من تداعى فى صورة سطور تلقائية بخط يده على صفحات التدريب، فوجئت – كما ذكرت – بالعثور على إرهاصات الإبداع الدالة على حركية هذه المعرفة، واعتبرت أننى عثرت على “أجنّة” جميلة لم تكتمل، فى أعمار مختلفة، ولم أثبت هذا الاحتمال إلا بعد أن تأكدتْ لى بدءًا من صفحة التدريب رقم “176”  معالم أوضح لهذه الأجنة، وقد رأيت أن أورد فيما يلى عينة مما اعتبرته “أجنّة لم تكتمل”، وقد وصلتنى باعتبارها محاولات تجريبية سمحت لنا التدريبات/التداعيات بالإطلاع عليها وهى بعدُ بهذه البكارة، ربما نتعرف من خلالها على بعض معالم حمل الجنين، وهذه المقتطفات لا ينبغى أن تتعرض لأى نوع من النقد ما دام صاحبها لم يسمح بنشرها على أنها انتهت، اللهم إذا درست باعتبارها مسودة لا نعرف ترتيبها: هل هى الأولى أم الخاتمة أم قبل الأخيرة، علما بأن دراسة مسودات المبدعين عامة بالغة الأهمية والإفادة. وهاكُم بعض هذه الأجنة:

         (1)    النص الأصل:

بدون عنوان-7…”لم يكن فى الغرفة بصيص نور،

 وجاء هو من آخر البيت يسعى،

 فاعترض سبيله شيطان رجيم،

 وتواصلا، يتقدم  فى المسير،

 فعلم ان المسير ينتهى إلى خير

صمم على المسير،

 وفقد الآخر نذيره،

 وزادت المآسى واحدة جديدة”

          نجيب محفوظ 5/8

صفحة التدريب رقم (176) بتاريخ (5/8/1995) ([188])

مقتطف من تداعياتي على هذا النص نفس النشرة:

“…تصورت أن كل هذه العبارات التى طفت على سطح وعى شيخنا طوال فترة تدريبه كانت تمثل هذه النبضات الإبداعية المتفرقة، وأنه حين بدأت تتبلور فكرة احتمال العودة إلى السماح لها بالتآلف فى إبداع قد يصلح للنشر تماسكت هذه الإرهاصات أكثر لتمثل: مشروع قصة قصيرة” (لعلها بعض أحلام فترة النقاهة).

         (2)     النص الأصل:

بدون عنوان-8“اجتمعوا على سبيل ليناقشوا

المسألة من كافة وجوهها، وانبرى

رجل من الجماعة قاذفا بأقبح التهم

وجوه الأبرياء، فوقع التلاحم المقصود

وسيقوا جميعا إلى القسم، وحرر محضر

بالحادث، ولكن انتهى الأمر بالقبض

على الابرياء لحين تقديمهم إلى النيابة

وتجمهر ناس فقذفوا القسم بالطوب

وخطب رجل بينهم  بحاجة الناس

إلى الثورة”

نجيب محفوظ

6/8/1995

صفحة التدريب رقم (177) بتاريخ (6/8/1995) ([189])

مقتطف من تداعياتي على هذا النص نفس النشرة:

“…هذا جنين آخر يتميز بما تميز به جنين الخميس الماضى، بلا فقرات، اللهم إلا نثرات سيقان وأذرع، الجنين فى بطن أمه بدءًا من الشهر الخامس، وحروف العطف جاهزة والتسلسل وارد، لكنه ليس تسلسلا خطيا، ولكن عموما هو قد تجاوز مرحلة المعرفة الهشة([190]).

      (3)  النص الأصل:

بدون عنوان-9..ذهبت إلى السوق فلم أجد

 موضع لقدم وجاءنى العون من

 صاحب خبرة بالزحام فشق بى

 سبيلا إلى غايته، واقنعنى بأنها غايتى

 لم أجد فى ذلك بأسا وكانت

سبب الكثير من افراحى وحزنى

 ولكن صاحب الخبرة اختفى فى

 زمن يسير وتركنى أبحث عن

 شىء كنت أبحث عنه “..”(؟)([191])

نجيب محفوظ

صفحة التدريب رقم (181) بتاريخ (10/8/1995) ([192])

وجاء فى تداعياتى عليها ما يلى:([193])

“…..المفاجأة  ليكون إبداعا: هى أن صاحبنا اقتنع بتغيير غايته إلى غاية من سهّل له سبيله، ولا نعرف ما هى غاية هذا المرشد الماهر، ولا يمكن استبعاد الخير كما لا يمكن استبعاد الشر، لكن صاحبنا كان من الطيبة والوعى وربما الرغبة فى الاستكشاف ألا يجد فى ذلك بأسا، ومثل أى طريق مجهول نسبيا لابد من أحزان وأفراح لتكون حياة، وتبدو الصحبة معقولة وبغض النظر عن الموقف الحُكمى: خيراً أو شراً، لتصبح الصحبة فى ذاتها مأربا جيدا. لكنها لا تدوم….الخ

ها هو ذا إبداع “آخر يتخلق” أمام ناظرينا

وهو بعدُ جنيناً.

“نقد الشعر شعرا”: ليس معارضة شعرية ولا هو نوع من التناص:

حين تذكرت ما تعلمته باكراً من قصيدة “القوس العذراء” ([194]) من أن “الشعر لا ينقد إلا شعرا”([195])، رحت أحاول تطبيق ذلك وخاصة بعد أن رحت أتعامل مع نصوص لا تحمل اسم “الشعر” على أنها شعر خالص مثل هذه الأحلام القصائد، وربما هذا هو الذى شجعنى فى الفصل الثالث من كتابى لنقد هذه الأحلام أن استلهمها فأضيف لها ما أسميته “تقاسيم على اللحن الأساسى” من الحلم (52) إلى الحلم (208)([196]) فرحت أترك النص يفعل بى ما يشاء، ثم أواصل ما تبينت فيما بعد أنه “حوار بينشخصى” على هذا المستوى من الوعى، وهذا بعيد تماما عن ما يسمى المعارضة حيث المعارضة الشعرية: عارضَ شاعرًا: باراه، جاراه في شِعره وأتى بمثله أو أحسَن منه عارَض بمثل صنيعه: فعل مثلَ فعله، أتى إليه بمثل ما أتى،  كما أنه بعيد بدرجة أقل عن ما يسمى “التناص“، إن كانت هناك نقطة عميقة مشتركة، لأن الشاعر المبدع اللاحق فى التناص يظهر فى أعماله ما يقال عنه “التناص نتيجة لتفاعله مع النص الأصلى، وهذا يكاد يتداخل مع ما يحدث فيما اسميته نقد الشعر شعرا (أو نقد الحلم حلما) إلا أنه فى التناص يحدث أكثر ذلك لا شعوريا، وقد تذكرت حوارا دار مع شيخنا محفوظ ومع صديقه القديم مصطفى أبو النصر([197]) فهمت من خلاله موقفه من فكرة التناص، والفرق بينه وبين الإقتباس والسرقة والمعارضة الشعرية وكل ذلك بعيد عن مفهوم أن الشعر لا ينقد إلا شعرا.

قبل الخاتمة:

قدرت أنه قد يكون مفيدا بعد كل هذا التنظير والتداعى أن أختم بنموذج قمت به نقدا لنص واحد من أحلام فترة النقاهة قمت بنقده على ثلاث مستويات مختلفة ([198]) لعلها تشرح بعض ما سبق: المستوى الأول: بالإحالة إلى رمز سياسى، والثانى: وهو يدخل فيما يسمى التفسير النفسى للأدب، أما المستوى الثالث: فهو ما تحرك فى وعيى وأسميته “تقاسيم على اللحن الأساسى”.

نص الحلم رقم (11) من أحلام فترة النقاهة الأولى:

“نص: حلم 11” ([199])

“فى ظل نخلة على الشاطئ استلقت على ظهرها أمرأة فارعة الطول ريانة الجسد وكشفت عن صدرها ونادت. يزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العد. وتزاحموا على ثدييها ورضعوا بشراهة غير معهودة، وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى وبدا أن الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم. وخيل إلىّ أن الحال تقتضى التنبيه أو الاستغاثة ولكن الناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء ولكن الصوت لم يخرج من فمى وأطبق على صدرى ضيق شديد. أما الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم ولما يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم إلى هيكل عظمى. وشعرت بأنه كان يجب علىّ أن أفعل شيئا أكثر من النداء الذى لم يخرج من فمى، وأذهلنى أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم، التحموا فى معركة وحشية فسالت دماؤهم وتخرقت لحومهم. ولمحنى بعض منهم فأقبلوا نحوى أنا لعمل المستحيل فى رحاب الرعب الشامل.

المستوى الأول: بالإحالة إلى الرمز (السياسى) المباشر:

هذه المرأة هى مصر هى “البقرة السودا النطّاحة” التى ناح عليها الشيخ إمام منذ 1968 وهو يدندن كلمات أحمد فؤاد نجم: “ناح النواح والنواحة، عالبقرة السودا النطاحة، والبقرة حلوب….حاحا، تحلب قنطار….حاحا، لكن مسلوب….حاحا، من أهل الدار….حاحا؟؟”…الخ. والرمز فى هذا الحلم أكثر وضوحا ومباشرة، فالنيل أكثر حضورا بنخيله  وطوله الفارع، وجسده الفيضان، (= الريّان!!) والناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل، ماذا يتبقى بعد ذلك لتكون هذه المرأة هى مصر “هبة النيل”؟ والعظةُ واضحة من أن الجشع سوف يعود على من يمارسه التهاما بالجوع والخراب والتقاتل فيما بين الطماعين، التقاتل حتى الهلاك.

نقد النقد:

هل هذا يكفى؟ هل يكون الإبداع إبداعا إذا اكتفى بوصف الحاضر رمزا، مهما بلغ إتقان التشكيل، وجمال التوليف؟ ما الجديد فى أن نقول إن هذه المرأة هى “مصر”([200])، ثم نقرأ الحلم وكأنه رمز صريح مباشر لمصر وما يفعله بها بعض أبنائها، كل أبنائها، فوجا بعد فوج هل هذا يكفى؟  إن نجيب محفوظ أبدع وأعمق من ذلك بكثير، إن مثل هذه القراءة تبدو الأقرب لتفسير الأحلام بالرموز، فى رأيى أن هذا المستوى من النقد لا يضيف إلى الإبداع كثيرا، بل ربما يقزّمه.

المستوى الثانى: التفسير النفسى للنص!!

المرأة هنا هى التى تنادى، وهى لم تنادِ أطفالها بالذات، هى الأم أصل الحياة ومصدر الحب، وهى التى تكشف عن صدرها وتنادى فقط، ربما هى إشارة إلى وفرة العطاء الذى فاض عنها فيضانا لا تريد بحكمتها أن ينتهى إلى البحر، فناسها أولى بعطائها، بل الأرجح أن النداء موجه لكل الناس. ينفتح العطاء ويغمر حين لا يتحدّدُ المُنَادَى (بفتح الدال) المرأة “كشفت عن صدرها ونادت” وهذا هو تجسيد “لما يسمى” صورة الأم الحسنة”([201]) الأطفال – وليس الناس – هم الذين زحفوا نحوها وتزاحموا على ثدييها، بينما الناس كانوا “يغطون فى النوم على شاطئ النيل”، أطفال بلا حصر، مختلفوا الهوية، ليسوا أطفالها بالضرورة، أما ناسها فهم نيام نيام، إنها الأم الحياة، أما الأطفال فهم يمثلون الجوع البدائى الذى يلتهم الأم مع علمه بأنها مصدر الحب والحياة، ثم يشعر بالذنب لقتل الأم وهو أساس ما يسمى بالموقع الاكتئابى Depressive Position فى هذه المدرسة التحليلية، وقد عبرت عن هذا الموقع شعراً فى كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”([202]) قائلا:

‏أضغط‏ ‏تحلب‏، ‏أترك‏: ‏تنضب‏، ‏أضغط‏ ‏تحلب‏، ‏أترك‏ ‏تنضب‏،

 ‏لكن‏ ‏هل‏ ‏تنضب‏ ‏يوما‏ ‏دوما؟؟‏ ‏أفلا‏ ‏يعنى ‏ذاك‏ ‏الموت؟‏  ‏ملكنى ‏الرعب‏ .. ‏واللبن‏ ‏العلقم‏ ..، ‏يزداد‏ ‏مرارة

‏ ‏فكرهت‏ ‏الحب‏، ‏وقتلت‏ ‏البقرة‏

يبدو أن هذا الحلم قد جاء ليكشف عن هذا الموضع الاكتئابى([203]) فى مراحل النمو ويصوره أدق تصوير هكذا، وتكملة لهذا الكشف فإن هذا الموقف نفسه قد يرتد إلى موقف أسبق فى النمو وهو موقف أكثر بدائية وتسميه نفس المدرسة  “الموقف البارنوى”، بل الموضع البارانوى ([204]) وهو الذى يمثل عدم الأمان البدائى المطلق، وقد أظهره الحلم أوضح حين راحت الطفولة المسعورة تنطلق من جوعها الذى لا يُشبع لتطلق عدوانيتها وقسوتها مادامت قد انفصلت عن الفطرة المتكاملة، فانقلبت إلى بدائية جائعة مسعورة، هذا ما يعبر عنه السعار المتتالى  جيلا بعد جيل، وهو أقرب إلى سعار التكالب على السلطة، والاستغلال، والاستعمار جميعا، وفى حالتنا هذه: هى سلطة بدائية بلا قانونٍ يردعها، وبلا عدلٍ يزن تصرفها: (الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم)، إن الأطفال هنا إذن يمثلون سعار “عدم الأمان البدائى” الذى وصفتُه شعرا أيضا فى نفس العمل([205]) وأنا أرسم هذا الموقف البارنوى قائلا:

من فرط الجوع التهم الطفلُ الطفلْ،……،

 فإذا أطلقتُ سُعارى بعد فواتِ الوقتْ، مَلَكِنَى الخوف عليكم:

 إذْ قد ألتهم الواحد منكم تلو الآخر، دون شبع”([206])

وحين يمتد الالتهام من الرضاعة إلى امتصاص وجود الأم مصدر الحب والحياة، ثم نهش لحمها، حتى تصير هيكلاً عظمياً، ثم يرتد النمو إلى مرحلة أدنى تتصف أساسا بالتقاتل بين القتلة المسعورين، فهو منظر ذو دلالتين: أولا: أنهم بدلا من أن يرعو الأم احتراما لكرم ندائها دون تمييز، وحفاظا عليها لتظل تفيض عليهم من جسدها الريان، غلبهم الجشع والجوع الذى لا يُشبع، فذبحوا الدجاجة التى تبيض ذهبا، وهذه هى معالم الموقف الاكتئابى ثم إن ذلك لم يحقق لهم شيئا، خاصة بعد أن أهلكوا المصدر الأصل عدما، فانقلبوا يتقاتلون مع بعضهم البعض، وهذا هو طبيعة الموقف البارنوى الذى ارتدوا إليه، وهو موقف الكر والفر والعدوان والخوف والتوجس معا، وقد صوره الحلم بشاعرية بالغة:  صوّر تحولهم من أطفال إلى مسعورين من أكلة لحوم البشر.

هل كانوا كلهم كذلك؟ الإجابة بالنفى، لأن الذى استغاث بالراوى (الحالم) كان “بعض منهم ” أقبلوا نحوه يطلبون منه عمل المستحيل، دور الراوى هنا هكذا كشف لى عن دلالة مستقلة، فهو منذ البداية يشعر أنه ما هكذا تكون الرضاعة، وما هكذا تكون الاستجابة لكرم نداء الأم (الحياة) المِعْطاء، وهو لايكتفى بهذا الحدس المتخوِّف، بل إنه يشعر بالحاجة إلى التكاتف لإجهاض هذه الجريمة المتمادية، وذلك حين خيل إليه – ومن البداية – “أن الحال تستدعى التنبيه أو الاستغاثة”،

 وحين استغاث به الأطفال بعد ما جرى جاءت استغاثتهم بعد فوات الأوان: انتهت البقرة، ولم يشبع الأطفال بل ازدادوا سعاراً وتقتيلا فى بعضهم البعض. وحين يصل الأمر إلى مثل ذلك، لا يكون أمامنا إلا المستحيل المجهول.

نقد النقد:

 هذا النص برغم غوصه إلى أغوار التركيب البشرى، ورصده للتوقف عند مراحل بدائية فى النمو مطابقا بذلك مدرسة أحدث من مدارس التحليل النفسى، إلا أننى مازلت أرجح أنه قد يبعدنا – مهما أضاف – عن القصيدة الأصل، وهو يظل أقل من حركية الوعى التى يمكن أن تثيرها القصيدة، وبالرغم مما أظهر هذا النقد من عاقبة التقاتل الأعمى والردة إلى الطمع البدائى، إلا أنه كاد يفرغ القصيدة من نبضها المفيق ليحل محله معلومات علمية هامة ومواعظ ليست هى وظيفة الإبداع الأولى.

أما المستوى الثالث: النقد الإبداعى باستثاره الوعى البينشخصى (شعر على شعر)، فقد  نسجته على منوال ما فعلت فى كتابى فى نقد الإصدار الأول من أحلام النقاهة ([207]): الفصل الثالث من الحلم “62” إلى الحلم “208” وخطر لى أن أكمل التجربة الآن، حيث كان هذا الحلم رقم 11 ضمن الأحلام الأولى التى لم أسمح لنفسى فيها بما اسميته “تقاسيم على اللحن الاساسى”، لكننى عدت أجرب الآن من جديد ربما يمكن إجراء مقارنة مفيدة بين المستويات الثلاثة لقراءة نفس الحلم.

وحيث أن هذا المستوى الثالث لا يقرأ إلا متصلا بالنص الأصلى مباشرة (اللحن الأساسى)، فلا مفر من إعادة كتابة نص الحلم (القصيدة) مرة أخرى، تأكيدا لفكرة ضرورة التتابع والتلاحم لضرورة تنشيط الوعى البينشخصى الذى يمكن أن يعين على عزف: “التقاسيم على اللحن الأساسى”، فحين تتم قراءة النصين متصلين “فى نَفَسٍ واحد”، ربما تصل فكرة الوعى الممتد أوضح.

حلم (11)

فى ظل نخلة على الشاطئ استلقت على ظهرها أمرأة فارعة الطول ريانة الجسد وكشفت عن صدرها ونادت. يزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العد. وتزاحموا على ثدييها ورضعوا بشراهة غير معهودة، وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى وبدا أن الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم. وخيل إلىّ أن الحال تقتضى التنبيه أو الاستغاثة ولكن الناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء ولكن الصوت لم يخرج من فمى وأطبق على صدرى ضيق شديد. أما الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم ولما يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم إلى هيكل عظمى. وشعرت بأنه كان يجب على أن أفعل شيئا أكثر من النداء الذى لم يخرج من فمى وأذهلنى أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم التحموا فى معركة وحشية فسالت دماؤهم وتخرقت لحومهم. ولمحنى بعض منهم فأقبلوا نحوى أنا لعمل المستحيل فى رحاب الرعب الشامل.

تقاسيم على اللحن الاساسى (شعر على شعر)

…. ولم أعرف ما هو المطلوب منى بالضبط بعد أن أفرغوا المرأة من لبنها ثم من لحمها وشحمها، أى مستحيل يطلبه هؤلاء الأطفال المفترسون الأوغاد بعد ما صنعوه بأمهم، حتى لم تعد إلا هيكلا عظميا مخيفا لا يصلح لشىء، ومع يقينى بعجزى واستحالة المستحيل، تقدمت نحو الهيكل العظمى وأوسع لى الأطفال وهم يتلمظون جوعا، ويتزاحمون، وتخيلت أن المستحيل الذى طلبوه هو أن أحيى هذه العظام وأكسوها لحما لتدر لبنا من جديد، فتصبح جاهزه للامتصاص ثم الالتهام من جديد، وطلبت منهم مهلة فلم يسمعوا، وتملـَّيت فى وجوهم فوصلنى جوعهم المتجدد ونهمهم المسعور، وملكنى خوف على نفسى واستدرت، وبداخلى صوت يردد “نفسى” “نفسى”، وحاولت اختراقهم عدْوا فى الاتجاه الآخر فحالوا دون ذلك، فعدت أنظر إلى الهيكل العظمى وأنا ممتلئ رعبا، فإذا بصوت واضح يأتينى من ناحيتها، فأسمعه وحدى وهو يقول:

الجوع كافر،

فقلت لها: وأنا مالى،

 قالت: وأيضا!  أنت مَالَك ؟؟!! هل هذا كلام؟!!

****

خاتمة: بتجريب عملى:

مرة أخرى: ليس معنى أننى أفترض أن الشخص العادى يبدع أحلامه أننى أحاول أن أقارنه بهذا الإبداع الفائق الذى تمثله أحلام النقاهة هنا، محفوظ هو الذى علمنا عظمة الشخص العادى وكيف أنه الأصل حتى فى الإبداع: يقول محفوظ فى فقرة “78” فى أصداء السيرة الذاتية: .. ‏تذكرت‏ ‏كلمات‏ ‏بسيطة‏ ‏لا‏ ‏وزن‏ ‏لها‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏مثل: ‏ ‏”أنت“‏، ‏”فيم‏ ‏تفكر“‏‏؟‏ “‏طيب“‏،. ‏”يا‏ ‏لك‏ ‏من‏ ‏ماكر‏”… ولكن‏ ‏لسحرها‏ ‏الغريب‏ ‏الغامض‏ ‏جن‏ ‏أناس‏،.. ‏وثمُل‏ ‏آخرون‏ ‏بسعادة‏ ‏لا‏ ‏توصف‏…‏”  فهو يفتح لنا الباب على مصراعيه لأىِّ من خلق الله، أن يكون مبدعا حين يعنى ما يقول “هنا والآن”، فيكون له سحره الغريب الغامض الذى يُجن له ناس، ويثمل آخرون بسعادة لا توصف ….!!

 أنا على يقين أننى لو حكيت لشيخى ما قمت به من تجريب فى العلاج الجمعى لاستحضار “وعى الحلم” على هامش “وعى اليقظة” خلافا لما يسمى أحلام اليقظة: لاستقبله بنفس الدهشة المبدعة الفرحة التى عوّدنى عليها حين كنت أحكى له بعض خبرتى التى تصلنى من ممارسة مهنتى.

نصوص من التجربة:

 انطلاقا من هذه الفروض، وأننا جميعا نؤلف (نبدع) أحلامنا، لا مجرد أننا نستحضرها من الذاكرة، حضرنى تساؤل يقول: هل ما اسميته “وعى الحلم هو منفصل تماما عن وعى اليقظة”؟ و”هل لابد أن ننام حتى يحضر وعى الحلم بالتبادل مع وعى اليقظة”؟ وهل يمكن أن نستحضر وعى الحلم، أو هذه المرحلة الانتقالية بين وعى النوم ووعى اليقظة، أن نستحضرها ونحن فى حالة اليقظة بعيدا تماما عن ما يسمى أحلام اليقظة؟

التجربه وعينات محدودة:

للإجابة على هذه الأسئلة وبعد استبعاد ما يسمى “أحلام اليقظة” كما ذكرنا لأنها أقرب إلى التفكير التسلسلى والخطى والتفكير الآمِلِ، ولأن زمنها هو المستقبل عادة وليس “هنا والآن”، وبرغم أنها توصف أنها نتيجة نشاط الخيال، وبعد أن نتذكر أن الخيال ليس مرادفا للإبداع، وبعد استبعاد ما يسمى التنويم (المغناطيسى)([208]) لأنه انشقاق فى الوعى السائد واستبداله بوعى آخر غامض مخدَّر، بعد كل ذلك جرت التجربه فى محاولة استحضار وعى الحلم على حافة وعى اليقظة النشط، تحت مظلة تخليق الوعى الجماعى فى علاج يسمى العلاج الجمعى: كل ذلك سمح بإمكانية التجريب فى إحدى جلسات العلاج الجمعى الذى أمارسه مع مجموعات من عامة عامة الناس([209]) وكان مفتاح التجربة ونحن نمارسها بما يشبه المونودراما مع سماح محدود بالمشاركة، كان المتاح هو أن تكون البداية تحديداً وإلزاماً بـ: “أنا” و”هنا والآن”، وكنت أصرّ على بداية محددة  أنبه إليها كل مشارك قبل أن يبدأ مباشرة، وهى أن يقول: “أنا دلوقتى…” ثم يكمل، وهذه هى القاعدة الأساسية فى هذا العلاج عامة، وقد تسمح بالمشاركة المحدودة فى هذه المونودراما الحلمية بشكل تلقائى من قائد المجموعة (أنا) أو ممن يشاء دون استئذان.

المقتطف من نص التجربة:

…………….

…………….

د.يحيى: (مخاطبا د. دينا: متدربة) شكراً يابنتى، انتى اللى اقترحت تعبير “نعمل حلم” ياللا ورينا شطارتك، بس لازم نفتكر إن اللى حانعمله مالوش دعوه باللى بيسموه “حلم يقظة” ده لعبة وتمثيل “هنا ودلوقتى”،

بدأت د.دينا (قائلة): انا دلوقتى فى محطة قطر عماله اجرى، بدّور على أختى الصغيره، عماله ادخل من قطر لقطر، قطر يقف، اروح داخله القطر اللى بعده، ….. قلقانه وخايفه على اختى الصغيره تنداس او تتوه منى، وباقابل ناس كتير فى النص، بس ما بابقاش مركِّزه معاهم، ولا شايفاهم (تسكت، ويطول الصمت)

د. يحيى: ما شوفتيش القطر اللى كان جاى غلط على نفس القضيب….؟ د.دينا: آه شفته،

 د.يحيى: طيب حاتعملى ايه لما يتصادموا بقى؟

  د.دينا: مش عارفة

****

ثم تلاها المريض صبرى (وهو عامل فى العشرينات، يقرأ ويكتب)، قال:

صبري: انا دلوقتى فيه حد بيطاردني، شبح، وبعدين طبعا جريت منه وانا باجرى كده لاقيت نفسى وقعت وما وصلتش لأى حاجه وفجأه لاقيت نفسى باطير فى الفضا، كده خلاص.

 د.يحيى: كمِّل كمِّل …..كملّ يا راجل.

 صبرى: خلاص ما انا باقول لحضرتك لاقيت نفسى وقعت، ولاقيت نفسى باطير …

 د.يحيى: بِجْنِحَه، ولا من غير جِنِحْه؟

 صبرى: مش عارف

****

ثم تلته المريضة سارة (وهى فى منتصف العمر، ربة منزل، أم لبنتين، حاصلة على دبلوم متوسط، وهذا الحلم شارك فى إبداعه تلقائيا أكثر من فرد فى المجموعة، فأظهر معنى حضور الوعى الجمعى معا!)

ساره: انا دلوقتى ماشيه فى الشارع وحاسه ان الناس كلها بتتكلم عليا وحاسه ان اخواتى حايقتلونى(تسكت)

 د.يحيى: قوم حصل ايه؟

 سحر: حد قتلك فيهم؟

 سارة: حاسه وانا نايمه حايقتلونى بالسكينة، بأى حاجه علشان …(تسكت)

 رضا: مين فى إخواتك اللى كان بيفكر يقتلك فى الحلم. ساره: كلهم. رضا: كله كله؟ ماحدش حاول يدافع عنك؟

 سارة: لأه.

 رضا: ولا ماما ولا أى حد؟

 د.دينا: صرخـْتـِى أو جـِرِيتىِ؟

 سارة: صرخت وجريت، وحد لحقنى وأنقذنى منهم، بس بس خلاص، أنا باحس إن الناس كلها بتحبنى.

د.دينا: ده حلم ده؟

 ساره: آه.

****

ثم جاء الدور على شخصى، وعادة أنا ألعب فى الآخر كما اعتدنا لتجنب أى إيحاء أو تقليد:

د. يحيى: أنا دلوقتى راكب فوق صبرى فى السما قاللى إبعد إنت تقيل، قلت له أبعـِد دا إيه أنا جاى أركّب لك أجنحة يا مغفل، قالى ما أنا طاير من غير أجنحه، قلت له ما هو إنت لما تنزل حاتدشدش، فراح نازل من قبل ما أركّب له الأجنحه وأنا لسه فوق عرفت إن احنا حاندشدش إحنا الإثنين، راح أبويا طالع لى وقال لى إنت ندل ولا معاك أجنحه ولا نيله، قلت له إمشى ياَ لـَهْ، فراح صبرى مختفى فرحت نازل لقيتنى فى مدرسة رياض أطفال ولاقيت الأبله حلوه، جيت أبصبص لها، العيال زفـونى وهما بيغنوا “يا راجل ياعجوز مناخيرك أد الكوز….”

‏‏أين تقع أحلام إبداع محفوظ من هذه التجربة؟

ربما كان هو الأقدر على الإجابة على هذا السؤال، تمنيت لو أننى كنت أجريت هذه التجربة – ومثلها- وهو معنا وحكيت له عنها، كما كنت أفعل فى أحيان كثيره حين تصلنى خِبْرة أو معلومة من مريض أو قراءة، وأود أن يشاركنى فى معايشتها، أتساءل الآن: يا ترى ماذا كان سيعلق على ما فعلنا، وعلى أحلامنا التى عشناها فى وعى الحلم الذى تصورت أن التجربة استجلبته حاضرا على حافة وعى اليقظه دون نوم أو تنويم؟

 الأرجح عندى أولا: أنه كان سوف يصدقنى من حيث المبدأ كما اعتدت، ثم قد يسألنى سؤالا أو اثنين عن كيف استبعدنا حلم اليقظة بمجرد التركيز على “هنا والآن”، وأيضا قد يستوضح رأيى معترضا بطيبته وحب استطلاعه، على أننى أستبعد الخيال من فعل الابداع، وحين أقول له أننى اكتشفت أن الإبداع أقرب إلى حركية الإدراك ونشاط العقل الوجدانى الاعتمالى ([210]) وجماع حركية مستويات الوعى معا، أما الخيال فهو نوع من التفكير المتسلسل المنطقى برغم بعده عن الواقع، فيهز رأسه ولا يوافق ولا يعترض، فأنتقل بدورى لأكرر سؤالى له عن ما وصله من هذه التجربة وعلاقة ذلك بابداعه لأحلام النقاهه وابداع الشخص العادى، فيعتدل فى جلسته ثم يميل إلى الخلف قليلا، ويصمت مليا، ثم يربت على كتفى ويدعولى قائلا: أكمِلْ فتح الله عليك، ولا تُضِعْ وقتك فى غير كتابة خبرتك هكذا.

 

الملاحق

رأيت أن أُلـْحـِق بهذا العمل، برغم طوله فى ذاته  ملحقين:

 الملحق الأول:

 هو مزيج من النقد والشعر والرثاء، وقد جعلته ملحقا لأنه لم ينشر فى الدورية.

أما الملحق الثانى:

فهو شكر وعرفان، وتسجيل تاريخى لما نشر عن مطالباتى اللحوح بظهور هذه الدورية، فلهذه الدورية الفضل الأول فى إخراج هذا العمل، فهى التى أتاحت لى مواصلة هذا النقد، كما ظهر “هنا”، هذه المطالبة التى تُوِّجت بالتنفيذ والانجاز والاستمرار بفضل الرائد الناقد أ.د. جابر عصفور، ثم الابن الرائع د. حسين حمودة.

الملحق الأول:

“همسةٌ عند الفجر”:

“الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”([211])

نجيب محفوظ: من ملحمة الحرافيش: (ص 66)

همسة‏ ‏عند‏ ‏الفجر

تسير‏ ‏وأنا‏ ‏فى ‏مقدمتها‏ ‏أسير‏ ‏حاملا‏ ‏كأسا‏ ‏كبيرة‏ ‏مترعة‏ ‏برحيق‏ ‏الحياة‏.‏ فى ‏مرحلة‏ ‏حاسمة‏ ‏من‏ ‏العمر.‏ ‏عندما‏ ‏تنسم‏ ‏بى ‏الحب‏ ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق،‏ ‏همس‏ ‏فى ‏أذنى ‏صوت‏ ‏عند‏ ‏الفجر‏.‏

‏”هنيئا‏ ‏لك‏ ‏فقد‏ ‏حم‏ ‏الوداع”‏ وأغمضت‏ ‏عينى ‏من‏ ‏التأثر‏ ‏فرأيت‏ ‏جنازتى

نجيب محفوظ أصداء السيرة الذاتية (فقرة 58)

****

“قالت لى الغمامة: سأمّحى

وقال الليل: سأغيب فى الفجر المضطرم

وقال الألم: سألوذ بصمت عميق كآثار خطاه

وأجابت حياتى: سأموت وأنا فى منتهى الكمال

وقالت الأرض: إن أنوارى تلثم أفكارك فى كل لحظة

وقال الحب: وتمضى الأيام ولكننى أنتظرك

وقال الموت: سأقود زورق حياتك عبر البحر”

طاغور

لا أشك فى أن شيخنا محفوظ قد اختار الموت راضيا حين شاء الله تعالى أن يختاره إلى جواره بعد أن هيأ ربنا الظروف لذلك، كما أننى لم  أشك أنه اختار الحياة طول الوقت، حتى لحظة اختياره الموت، اختار الحياة ليس بمعنى الاستمرار على ظهر هذه الأرض كائنا بشريا جسديا متحركا حاضرا..فحسب، ولكنه اختارها أكثر: كيانا فاعلا مبدعا جميلا مضيفا بما تيسر مهما نضبت الموارد وضعفت الأدوات. وحين تيقن أن الله تعالى قد أراد أن يجعل الأدوات أضعف حتى العجز، والمجال أضيق حتى الاختناق، اختار شيخنا أن يقولها بملء وعيه أنْ “كفى”. لم يكن اختيار الحياة بديلا عن اختيار الموت، كان اختياراً متداخلا، متكاملا مكمِّلاً. حين آن الأوان: قالها شيخنا بملء وعيه أنْ: “كفى”، ومضى إليه راضيا مرضيا، ومع يقينى أن هذا حقه بلا منازع، فقد رحت أعاتبه: “لم قُلْتَها شيخى : “كفى” ؟ لِمَ قُلْتَها الآن ونحن فى أشد الحاجة إليك؟ لم قلتها أصلا؟ لم وافقتَ؟ لم تركتنا؟ ولم أكن أعرف أنه ترك لى الرد مسبقا واضحا جليا فى أغلب أعماله حتى آخرها، “أحلام فترة النقاهة”، ومن قبلها “أصداء السيرة الذاتية”.

فرانسوا ميتران:

لكن ثمة حكاية تستـأهل الحكى عن تصريحـات لفرانسوا ميتران منذ

….. تعليقه على تصريح “ميتران”، بتوقع الله فى الجنة لو اكتشف الله فى الآخر، انتهى إلى ما اسمح لنفسى بتكراره هنا، قال شيخنا “أنا لا أوافقه. إسمع يا سيدى([212]): أنت حين تحب شخصا أَلاَ تكون حريصا على البقاء معه أطول مدة ممكنة؟ قلت نعم. قال: هل يمكن أن يخطر ببالك ما هو ملل وأنت تحبه فعلا؟ قلت: لا، قال، فإذا كنت تحب الله سبحانه، فهل تشبع من قربه مهما امتد الزمن بلا نهاية، أم أنك تزداد فرحة وتَجدُّدًا طول الوقت؟”

 صمتُّ شاكرا، فاهما، متعجبا، متأملا داعيا.

نعاهدك ألا تموت بما تركت فينا:

…. رحت أتأمل يقين شيخنا من حبه لله ورغبته فى البقاء إلى جواره، يدور فى فلكه إلى أبد الآبدين، لم يخالجنى أدنى شك فى موقفه هذا طوال معرفتى له بهذا القرب، وحتى قبل معرفتى الوثيقة تلك، قبل أن ألقاه، كان قد وصلنى هذا الموقف، تماما وقد سجلته منشوراً([213]) بمجرد أن بلغنى حادث الاغتيال كتبت آنذاك ‏أخاطبه  قائلا”…تصورتُ‏ ‏أننى ‏شاب‏ ‏من‏ ‏هؤلاء‏ ‏المخدوعين‏ ‏أتابع‏ ‏ما‏ ‏جرى ‏لك‏، ‏وأعايش‏ ‏موقفك، ‏وأفهم‏ ‏أقوالك، ‏فأفاجأ‏ ‏بك‏ ‏تدعو‏ ‏لى ‏أنا‏ ‏القاتل‏ ‏أو‏ ‏المتربص‏ ‏للقتل، ‏تدعو‏ ‏لى ‏بالهداية، ‏هل‏ ‏أستطيع‏ ‏بالله‏ ‏عليك‏ ‏إلا ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏”آمين”، ‏وحين‏ ‏أهتدى ‏بك‏ ‏شيخنا‏ ‏سوف‏ ‏أعرف‏ ‏الله‏ ‏الذى ‏أردت‏ ‏أن‏ ‏تُعَرّفنى ‏به‏ ‏طول‏ ‏عمرك‏ ‏على ‏مسار‏ ‏إبداعك …، إلى أن قلت:

“يا‏ ‏شيخنا‏: ‏مازلنا‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏بقائك‏ ‏بيننا‏ ‏….، ‏ربنا‏ ‏يخليك‏ ‏لنا‏ ‏ولهم، وإن‏ ‏تَمُتْ‏- ‏بإذن‏ ‏ربنا،‏ لا‏ ‏بمديتهم‏- ‏فنعاهدك‏ ‏ألا‏ ‏تموت‏ ‏بما‏ ‏تركت‏ ‏فينا‏ ‏ولنا”

مضى على استجابة هذا الدعاء إثنى عشر عاما، ثم اختاره ربنا، وبالتالى آن الأوان أن نفى بما تعهدنا به، … “الا يموت بما ترك فينا ولنا”.

علّمنى الدهر

قبل ذلك بعام إلا قليلا نشر محفوظ فى الأهرام قصة قصيرة بعد أن غير الأهرام عنوانها دون استئذانه – كما أخبرنى!!- حتى أصبح عنوانا ضحلا هو”علّمنى الدهر”([214])، وصلنى منها أن شيخى يعد نفسه “بهدوء” للرحيل، وإن استغرق ذلك أكثر من اثنتى عشر عاماً.

تبدأ القصة القصيرة هكذا:

” آن‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نرحل”

“…. نصح‏ ‏الطبيب‏ ‏بذلك‏ ‏وإذا‏ ‏نصح‏ ‏الطبيب‏ ‏وجبت‏ ‏الطاعة، ‏كانت‏ ‏إقامة‏ ‏طيبة، ‏وشقة‏ ‏أنيقة”.

ثم تمضى القصة فى اتجاه أن الساكن الجديد الذى سيحل محل الراحل هو أولى بالمسكن، إلى آخر ما يشير إلى أن البقاء هو للأكثر فتوة، وأوفر شبابا وأصغر سنا.

 لكن يشوب بقية القصة تخوف الراحل من النسيان، وفتور العواطف، الأمر الذى أتعجب كيف خطر لشيخنا أصلا، وعلى قدر رضا هذا الساكن القديم بالرحيل، كان الساكن الجديد موهوما بالدوام حين قال لصاحبة المنزل:

‏- ‏…..، لتكن‏ ‏إقامة‏ ‏دائمة‏ ‏بإذن‏ ‏الله

فقالت‏ ‏له‏ ‏بثقة‏: ‏ما‏ ‏أقام‏ ‏عندى ‏ساكن‏ ‏وفكر‏ ‏فى ‏هجر‏ ‏بيتي

ويعترف الراوى (الراحل) أنه فعلاً لم يفكر فى هجر البيت، إنما الذى قرر الرحيل هو الطبيب، فهو يقول:

‏ ‏”هذا‏ ‏حق”، ثم يضيف‏:

 “‏ولكن‏ ‏مالعمل‏ ‏إذا‏ ‏نصح‏ ‏الطبيب‏ !..”‏

“وثمة‏ ‏عتاب‏ ‏يا‏ ‏ست‏ ‏الستات‏: ‏كنت‏ ‏عندك‏ ‏فرخة‏ ‏بكشك‏ ‏حتى ‏حل‏ ‏بى ‏المرض‏”

 ‏وحين صعد إلى القطار، أعلن رضاه بقوله (فى باطنه):

‏- ‏من‏ ‏الإنصاف‏ ‏أن‏ ‏أذكر‏ ‏أنها‏ ‏إقامة‏ ‏جميلة‏ ‏وأنها‏ ‏تستحق‏ ‏الشكر”

انتهت القصة القصيرة .

قال محفوظ كل ذلك حتى قبل الحادث، (سنة 1993)

الاستلهام قبل التأبين، والنقد قبل التمجيد

فهل حدث بعد ثلاثة عشر سنة شىء آخر؟ وهل ننتبه إلى احتمال تخوفه من أن ننسى ما ترك فينا بعد رحيله؟ لا أظن، فكل ما بلغنى مما يجرى حولى حالا يقول إن التكريم، والتأبين، والتمجيد، كل ذلك يجرى على قدم وساق، بكل معانى ومظاهر الوفاء الجاد، وضد كل التخوفات التى جاءت بالقصة. لكن لثقتى فى حدس شيخى كتبت للجنة المكلفة بكل هذه المهام، والتى تقوم بها خير قيام، كتبت تحفظاتى على الاكتفاء بالتخليد دون الامتداد، وبالتأبين دون الاستلهام، وبالتمجيد دون مواصلة النقد والابداع.

كيف أحب محفوظ الموت وهو يحمل كل هذا الحب للحياة؟

لم يتمنّ محفوظ الموت الاختفاء/العدم لحظة واحدة، لكنه رحب بالموت الرحيل الجسدى حين يحل آوانه: طول الوقت.

من أكثر الأعمال النقدية التى لا أتردد فى الفخر بكتابتها هو ما جاء بالجزء الأول من نقدى لملحمة الحرافيش الذى صدر فى أكثر من موقع منذ سنة 1990، وقد كان بعنوان “دورات الحياة، وضلال الخلود: ملحمة الموت، والتخلق فى الحرافيش([215])

يقول محفوظ فى الملحمة (ص 64): “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”.

 حاولت فى نقدى هذا أن أبين كيف كان الوعى بالموت، الموت الامتداد، الموت الهارمونى الأكبر، هو المحور الأساسى للملحمة، التى تجلى فيها كل من الإيقاع الحيوى، وإعادة الولادة، المرة تلو المرة، كأروع ما يكون التجلى، كما تعرى وهم الخلود على هذه الأرض، حتى ظهر أنه العدم الخامد، أى الموت الذى نخافه جميعا.

 وصلنى من الملحمة – ومن غيرها – كيف أن التوليف الجدلى بين الموت والحياة هو أصعب مراحل جدل الوجود.

الطفل يعرف الموت أفضل:

 منذ ذلك الحين رحت أحاول التعرف على الموت من خلال إبداعات متعددة، حتى تحددت معالمه لى أثناء نقدى بعض حكايات هانز كريستيان أندرسون الخرافية للأطفال. اكتشفت: فى قصة “بائعة أعواد الكبريت الصغيرة” كيف يرسم أندرسون موت الصغيرة على الوجه التالى:

صاحت الصغيرة: جدتى خذينى معك، أعلم بأنك ستختفين عندما ينطفئ عود الكبريت. ستختفين مثل الموقد الدافئ، مثل البطة الشهية وشجرة عيد الميلاد المباركة، ثم أسرعت بشحط عيدان الكبريت الباقية فى الحزمة تلو الآخر، كانت تود بشدة أن تبقى جدتها، أضاءت عيدان الكبريت ببريق أصفى من ضوء النهار، لم تكن جدتها فى يوم أحلى وأكبر منها الآن، حملت الجدة الفتاة الصغيرة بين ذراعيها وطارا بألق وفرح عاليا، عاليا جدا، حيث لا برد ولا جوع ولا خوف، كانا عند الله”

علمنى أندرسون من خلال هذه القصة حتى النهاية كيف يمكن أن تكون النقلة هادئة بين الحياة والموت، إلى الله سبحانه..، كل ذلك ووعينا يضىء المرة تلو المرة فى نعومة حانية، وألم جميل، بما يجعلنا أقرب إلى أنفسنا، وإلى خالقنا ورحمته، وبما يجعل الموت هو القريب البعيد، هو الذى نخشاه بقدر ما ننتظره، هو الطريق إليه ونحن  نعيش واقعنا نجمع بين قسوة الفقر، وقرص الحرمان، ونداء الطبيعة، وفرحة الأمل، وقوة الخيال، فى نفس الوقت.

فى قصة أخرى لأندرسون للأطفال أيضا بعنوان “قصة أم”  يتجسد الموت الذى خطف الصغير من أمه الثكلى  فى شكل شيخ غريب، فتهيم الأم على وجهها نائحة باحثة لتسترد ابنها المخطوف، وفى سبيل ذلك تضحى بكل شىء تعطيه لمن تقابله، وما تقابله، فى مقابل أن يدلها على أين ذهب الشيخ (الموت) بابنها: تضحى بعينيها  فلا تعود تبصر، وبلسانها و..و…الخ. حتى تصل إلى “مشتل الموت” فإذا بالموت  ليس عدما بل مشتلا انقلب فيه الراحلون إلى زهور  واعدة بما لا نعرف، وتنتهى القصة بأن ترضى الأم أن تتنازل عن إصرارها على استرجاع ابنها حيا، وتسلم ابنها زهرة بين الزهور فى مشتل الموت، زهرة تنتظر قدرها وتقبله، إنها  تتنازل عن محاولتها استرداد طفلها قائلة للموت: “….إحمله، إحمله بعيدا إلى ملكوت الله، إنس دموعى ، إنس دعواتى”

يتعجب الموت (الشيخ) قائلا: “لا أفهمك، ألا تريدين طفلك، أتريدننى أن آخذه إلى هناك، حيث لا تعلمين” ؟

ترد الأم: لا تسمعنى حين أسألك بخلاف مشيئتك، التى هى المُثلى، لاتسمعنى لا تسمعنى”، وحنت رأسها إلى الأسفل إلى حضنها، ومشى الموت بابنها إلى البلاد المجهولة.

رثاء عاِتبْ

لم استطع أن أقف موقف هذه الأم الجميلة من رحيل شيخنا الجميل، الأم تعرفت على مشتل الموت بهذه الشجاعة والسهولة ورفضت استرجاع ابنها بعد أن اطمأنت عليه، لكننى  رحت أعاتب شيخى أنه رحل دون استئذاننا. بل إننى رحت أطالبه أن يوقف الزمن، مع أنه القائل على لسان شمس الدين الناجى  فى ملحمة الحرافيش (ص 127)  “إن هدم زفة مسلحة أيسر ألف مرة من صد ثانية بما لا يقاس….”   

إبداع متواصل:

لم يَحُلْ أى حدث أو إعاقة أو صعوبة أو عجز دون أن يواصل شيخنا إبداعه حتى آخر لحظة، وأحسب أنه لن يطمئن إلى اننا لن ننساه إلا إذا واصلنا بدورنا مسئولية الإبداع عامة طول الوقت، طول الدهر، هذا هو ما يجنبنا تحقيق مخاوفه التى بدت متشائمة فى “علمنى الدهر”.

 عرفت نجيب محفوظ شخصيا قريبا حبيبا وشيخا رائدا منذ اثنى عشر عاما (بعد حادث الاعتداء عليه)، عرفته وقد نجا من موت محقق، لأن الله كتب له النجاة بشكل معجز، انتبهت من أول لحظة إلى كيف أن إرادة الحياة كانت ومازالت لديه متدفقة غامرة، حدث ذلك من أول زيارة له فى مستشفى الشرطة بعد الحادث، فهدتنى إرادته تلك إلى أن أكون بجواره وهو يواصل الحياة كما أرادها له ربنا، فوفقنا الله أن يخرج بانتظام إليها – الحياة – برغم كل الصعوبات، والإعاقات، والمقاومة المُحِبّة ممن حوله خوفا عليه وحرصا على سلامته. راح شيخنا يمارس حب الحياة كما كان دائما، ولو لم يتبق له من أدواتها إلا بعض هسيس سمع، وبعض بصيص بصر، وما تيسر من “شخبطة يد”، ثم جسد كالطيف يتنقل به بكل ثقة وإصرار كل يوم، كل يوم، كل يوم، بلا استثناء أو توقف، إلا للشديد القوى!. صنع محفوظ من أصدقائه ومن ترتيب أيامه  واقعا جديدا من الناس، فقد كانوا دائما غذاء وجوده، فراح يمارس، بتلقائية رائعة ما أسميته الإبداع الحيوى المباشرً، أو “إبداع حى= حى”([216]). (قياساً على صورايخ: أرض = أرض) اكتشفت أنه بحضوره بيننا، مع تواضع وسائل تواصله، يعيد تشكيل وعينا بشكل مباشر دون حاجة إلى أن يسجله فى رمز مكتوب أو نص مقروء.

فى ‏أصداء‏ ‏السيرة‏ ‏الذاتية‏ ‏يقول‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏:

 “…‏تذكرت‏ ‏كلمات‏ ‏بسيطة‏، ‏لا‏ ‏وزن‏ ‏لها‏ ‏فى ‏ذاتها‏، ‏مثل‏ “أنت‏”، “فيم‏ ‏تفكر‏”، “طيب‏”، “يالك‏ ‏من‏ ‏ماكر‏”..، ‏ولكن‏ ‏لسحرها‏ ‏الغريب‏ ‏الغامض‏ ‏جن‏ ‏أناس‏، ‏وثمل‏ ‏آخرون‏ ‏بسعادة‏ ‏لا‏ ‏توصف‏”.‏

تحقق لى من خلال هذا التشكيل البشرى اليومى لوعينا من حوله: ذلك الفرض الذى طالما شغلنى، ‏وهو‏: ‏إن‏ ‏الحياة‏ ‏الحقيقية‏ ‏هى ‏الإبداع‏ ‏الحقيقى: ‏قبل‏ ‏وبدون‏ ‏أى ‏ناتج‏ ‏إبداعى ‏آخر‏ ‏خارج‏ ‏عن‏ ‏ذات‏ ‏صاحبه‏.

الإبداع بالمشاركة الحية:

رحت‏ ‏أتأمل‏ ‏اختراقه‏ ‏لكل‏ ‏ما‏ ‏أصابنا‏ ‏إذ‏ ‏أصابه‏، ‏رحت‏ ‏أتابعه‏ ‏وهو‏ ‏يروض‏ ‏الـقدر‏ ‏بفعل‏ ‏هادئ‏ ‏طيب‏ ‏صبور‏، ‏ساعة‏ ‏بعد‏ ‏ساعة‏، ‏يوما‏ ‏بعد‏ ‏يوم‏، ‏جلسة‏ ‏بعد‏ ‏صحبة‏، ‏حديثا‏ ‏بعد‏ ‏نكتة‏، ‏فعاينته‏ ‏وعايشته‏ ‏وهو‏ ‏يبنى ‏معمارا‏ ‏جديدا‏ ‏من وعى المحيطين بحركية وعيه الناقدة لنتجدّدَ من  خلال هذه اللقاءات المنتظمة.

ما وصلنى من معايشتى تلك ما بين لقاءاتنا به فى جلسات مفتوحة، أو حرفشة خاصة، هو أن ثمة مقاييس ‏للإبداع‏، ‏مثل‏ ‏أن‏ ‏يخرج‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ -‏ من‏ ‏جلسته‏- ‏غير‏ ‏ما‏ ‏دخل‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏يكتشف‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏- ‏وهو‏ ‏يتحدث‏ ‏إليه‏- ‏غير‏ ‏ما‏ ‏قصد‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏يتذوق‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ ‏طعم‏ ‏الهواء‏ ‏الداخل‏ ‏إلى ‏صدره‏ ‏غير‏ ‏ما‏ ‏ألـِف‏، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏هذه‏ ‏المعايشة‏ ‏البسيطة‏ ‏الصادقة‏ ‏العميقة‏، ‏إذ‏ ‏راح‏ ‏شيخنا‏ ‏يقرؤنا‏ ‏ويكتبنا‏ ‏ثم‏ ‏يعيد‏ ‏كتابتنا دون أن يخط حرفا واحدا على الورق‏، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يكتفى ‏بهذا‏، ‏بل‏ ‏يسمح‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نعيد‏ ‏قراءته‏ ‏واستقبالنا‏ ‏له‏. ‏أى ‏خبرة‏ ‏وأى ‏تجربة‏!!! ‏

حل آخر: إبداع الأحلام:

بعد أن انتصر شيخنا بالتدريب اليومى المعجزة على عجزه عن الكتابة، لم يكتف بإبداع وعينا بهذا الحضور المباشر، فراح يعايش عالم أحلامه كواقع بديل، ثم استطاع أن يرغم مفردات واقع الحلم أن تبقى معه بعد استيقاظه، لتمثل له الأبجدية التى يصيغ منها إبداعه الجديد. كنا نسأله بين الحين والحين عن احتمال عودته إلى الكتابة، فيصمت، ثم إذا به ذات يوم يخبرنا بفرحة طفلية بديعة أن ثمة “نغبشة” بدأت تراود دماغه: ثم تصدر الإرهاصات الأولى، موجزة “مشخبطة”، ثم هات يا إبداع غير مسبوق لما أسماه أحلام فترة النقاهة وخذ عندك: معجزة جديدة بعد الأصداء.

تشكيلات الموت فى الأحلام

عاودت قراءة أحلام النقاهة مجتمعة بعد رحيله، ووصلنى بعض الردّ على عتابى له راثيا، وأيضا على التساؤلات التى سألها الناس عن “كيف أحب محفوظ الموت” لكن فى نفس الوقت– بالمصادفة – كان قد أصدر المجلس الأعلى للثقافة كتابى فى نقد الأصداء “أصداء الأصداء”([217])

فمررت فيه فإذا بتجليات الموت تمثل محوراً أساسيا قدرت أن يكون الفصل الأول فى الجزء الثانى من الدارسة الطولية النقدية للأصداء، لكننى أكتفى هنا ببعض تناوله لهذا الحدث الأول والآخر: الموت، أساسا فى الأحلام دون إغفال بعض ما ورد فى الأصداء.

…….

هكذا أجابنى محفوظ عن تساؤلاتى عنه بعد رحليه وكأنه كان يعلم جزعى واحتجاجى.

رفع الحواجز بين مستويات الوعى

أن نتعرف على الموت، وما بعده واقعاً ملموساً متحققاً، هو المستحيل بعينه، المبدع الحقيقى يستطيع أن يستشرف بعض ذلك، دون يقين مطلق، ومثلما أراد أفلاطون فى جمهوريته أن يعلمنا ماهية النفس الإنسانية، فكبّرها بمجهر إبداعه حتى صارت جمهورية كاملة، فإن محفوظ اخترق الحواجز بين وعى الحلم  ووعى اليقظة ليعرف ويتعرف، ولعله يعرفنا، ماذا هناك على الجانب الآخر (بما فى ذلك الموت)، النوم موت أصغر، والحلم حركية مرنة زاخرة تتشكل بداخل هذا الموت الأصغر، واليقظة إحياء بعد الموت (الحمد لله الذى أحيانى بعدما أماتنى وإليه النشور) – حين لجأ محفوظ إلى إبداع الأحلام (وليس مجرد تسجيلها كما حسب البعض) وجد نفسه داخل هذا الموت الأصغر، فاستطاع أن يلمح بعض معالم الموت الأكبر من النافذة التى فتحها بين مستويات الوعى هكذا:

تعالوا نتأمله وهو يرفع هذه الحواجز:

“رأيتنى أعد المائدة والمدعون فى الحجرة المجاورة تأتينى أصواتهم أصوات أمى وإخواتى وأخواتى، وفى الانتظار سرقنى النوم ثم صحوت فاقدا الصبر فهرعت إلى الحجرة المجاورة لأدعوهم فوجدتها خالية تماماً وغارقة فى الصمت وأصابنى الفزع دقيقة ثم استيقظت ذاكرتى فتذكرت أنهم جميعاً رحلوا إلى جوار ربهم وأننى شيعت جنازتهم واحداً بعد الآخر.

(حلم 206)

هكذا تختفى الحواجز بين الحياة والموت، بين النوم والصحو، بين الذاكرة والواقع؟

كيف كان شيخى يتلقى الموت:

عاصرت شيخى مع بعض الحرافيش الأصليين، وقد شاء الله أن يرحل عنا بعضهم، الحرفوش تلو الآخر فلا نستطيع أن ننسى الموت أو نتغافله، بل إن الموت سبق رحيل هؤلاء الحرافيش حين اختطف باكرا صديقا – ليس حرفوشا –  هو مصطفى أبو النصر ثم اختطف صديقا لاحقاً فى عز وهجه هو أ.د. محمد راضى، ثم رحل من الحرافيش كل من بهجت عثمان، وأحمد مظهر ثم عادل كامل (بلغنا رحيله من أمريكا بعد أن زارنا فى القاهرة وشاركنا فى جلسات الحرافيش بضعة أسابيع) كان تفاعل شخينا لكل ذلك هادئا صادقا متألما لعله يتمثل دائما فى القول الرائع: الموت حق، ولكن الفراق صعب.

التذبذب فى قبول قرار الموت

حين يقترب الموت واقعاً، حتى بقرار طبيب، تقفز منا، فينا، مواقف متذبذبة، هى أكثر من موقف فى آن، بعضها فى بؤرة الوعى وبعضها على هامشه، تتراوح هذه المواقف ما بين الجزع والتحدى والتسليم والتمنى والمراجعة، إلى غير ذلك، وقد تبدو متداخلة أو متناقضة لكنها كلها تعلن – فى النهاية – التمسك بالحياة، بشكل أو بآخر. ثم أن الوعى بتوقيت الموت القادم قد يدفعنا – بدلا من التسليم – إلى الإقدام على ما يبدو تمسكا بالحياة، أو اللحاق بآخر مركبة فيها، أو اختيار هو أقرب إلى التوريط. هذا بعض ما وصلنى من الحلم التالى:

لم يبق فى الحياة إلا أسابيع فهذا ما قرره الفحص الطبى، فحزنت حزناً شديداً ثم تملكتنى موجة استهتار فأقبلت أتناول الأطعمة التى حرمها علىّ الأطباء من سنين ولازمت صديقتى “س” وعرضت عليها الزواج فدهشت وقالت لى: إنك تفقد صداقة بريئة عظيمة ولا تكسب شيئاً فألححت عليها حتى رضخت وبعد يومين جاءنى صديق طبيب يخبرنى بأن هناك أخصائيا عالميا سيزور مصر وأننا حجزنا لك مكاناً عنده فهنيئاً لك بفرحة الحياة، وغمرنى سرور من رأسى لقدمى غير أننى تذكرت الأطعمة الضارة التى التهمتها، والزواج الذى قيدت به نفسى على غير رغبة، فشاب فرحتى كدر وقلق.

(حلم‏ 157)

الموت: تمزيق الصفحة فى انتظار الوعد

ثَمَّ موت هو بمثابة تمزيق صفحة الزمن البليد، وذلك متى تبين صاحبها أنها خالية إلا من الاغتراب وتزجيه الوقت باللاشئ، أو بتكرار مُسَلٍّ، ربما بعزف أنغام النعابة، دون إضافة أو تجديد، حياة أشبه بالتسول، قد يقفز الوعى بهذه اللاجدوى فى أزمة منتصف العمر أو بعده أو ربما بمناسبة فقد عزيز أو بتذكر رفاقٍ، رحلوا بلا معنى ولا أثر، هنا قد يقفز الحل التقليدى بالدعوة للإنسحاب، أو حتى قبول الكف عن الشخبطة والثرثرة فى صفحة الزمن الخاوية إلا مما لا لزوم له، شئ  أشبه باستجداء الأيام لمزيد من اللامعنى، وتظهر الوعود بالانتقال إلى المكان الجميل والرزق الوفير، وهى دعوة عيانية تصدر عادة من سُلْطة وصية مفسِّرة، أو حلم واعد بلا ضمان أكيد، ذلك أن تحقيق هذا الوعد يرجع إلى رأى أصحاب النفوذ القادرين الواثقين، فتبدو المسألة كأنها النقلة من خواءٍ فاتر، إلى راحة مؤمَّنة، ليكن، فهى الخلاص من الضياع على أية حال، أملا فى القبول بالموعود، ولو من حيث المبدأ، لكن الأمر يحتاج “همة عالية وصبر طويل”،  فلم العجلة، فليقْصُرْ وقت الانتظار أو يطول، فالأمر محسوم يوماً عند الجامع على طلوع الفجر

عند‏ ‏منعطف‏ ‏من‏ ‏منعطفات‏ ‏الحارة‏، ‏رأيت‏ ‏أمامى ‏الصديقين‏ ‏الشقيقين‏ ‏اللذين‏ ‏طال‏ ‏غيابهما‏ ‏وأحزننى ‏غاية‏ ‏الحزن‏، ‏وبهتنا‏ لحظات ‏ثم‏ ‏فتحت‏ ‏الأذرع‏ ‏وكان‏ ‏العناق‏ ‏الحار‏، ‏وتذاكرنا‏ ‏الأحزان و‏الأفراح‏ ‏والليالى ‏الملاح‏، ‏وطلبا‏ ‏منى ‏زيارة‏ ‏سكنى ‏فمضيت‏ ‏بهم‏ ‏إليه‏ ‏على ‏بعد‏ ‏أمتار‏، ‏وتفحصاه‏ ‏حجرة‏ ‏بعد‏ ‏حجرة‏ ‏وضحكا‏ ‏طويلا‏ ‏كعادتهما‏ ‏ثم‏ ‏أعربا‏ ‏عن‏ ‏أسفهما‏ ‏لبساطة‏ ‏المأوى، ‏ثم‏ ‏سخرا‏ ‏منى ‏بلسانيهما‏ ‏اللاذعين‏ ‏الجذابين‏. ‏وسألانى ‏عن‏ ‏عملى ‏الذى ‏أعيش‏ ‏منه‏، ‏فأجبت‏ ‏بأننى ‏عازف‏ ‏رباب‏ ‏وأتغنى ‏بعذابات‏ ‏الحياة‏ ‏وغدر‏ ‏الدهر‏، ‏وعزفت‏ ‏لهما‏ ‏وغنيت‏ ‏فقالا‏ ‏إنها‏ ‏حياة‏ ‏أشبه‏ ‏بالتسول،‏ ‏ولذلك‏ ‏فهما‏ ‏لا‏ ‏يدهشان‏ ‏لما‏ ‏يبدو‏ ‏فى ‏وجهى ‏من‏ ‏آثار‏ ‏الضعف‏ ‏والبؤس،‏ ‏وقالا‏ ‏لى ‏إنهما‏ ‏بحثا‏ ‏عنى ‏طويلا‏ ‏حتى ‏عثرا‏ ‏علىّ، ‏وتبين‏ ‏لهما‏ ‏أن‏ ‏قلقهما‏ ‏على ‏كان‏ ‏فى ‏محله‏ ‏ ‏وأنهما‏ ‏يبشرانى بالفرج‏.. ‏حمدت‏ ‏الله‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏ولكن‏ ‏ما‏ ‏الذى ‏يبشراننى ‏به؟‏ ‏قالا‏ ‏ستهاجر‏ ‏معنا‏ ‏إلى ‏المكان‏ ‏الجميل‏ ‏والرزق‏ ‏الوفير‏، ‏فسألت‏ ‏كيف‏ ‏يتيسر‏ ‏لى ‏ذلك‏؟ ‏فقالا‏ ‏إنهما‏ – ‏كما‏ ‏أعلم‏ – ‏يمتان‏ ‏بصلة‏ ‏لأصحاب‏ ‏النفوذ‏ ‏ولا‏ ‏خير‏ ‏يجئ‏ ‏إلا‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏أصحاب‏ ‏النفوذ‏.‏

وتأبطا‏ ‏ذراعى ‏وسارا‏ ‏بى ‏إلى ‏الخارج‏، ‏حتى ‏بلغتنا‏ ‏أحد‏ ‏الرجال‏ ‏العظام‏ ‏شكلا‏ ‏وموضوعا‏، ‏واستمع‏ ‏للحكاية‏ ‏بوجه‏ ‏محايد‏، ‏وقال‏ ‏لى ‏إن‏ ‏الهجرة‏ ‏تحتاج‏ ‏لهمّة‏ ‏عالية‏ ‏وصبر ‏طويل، ‏فوعدنى ‏خيرا‏، ‏وقال‏ ‏الصديقان‏، ‏إنهما‏ ‏يطمئنانى .. ‏فقال‏:‏

‏- ‏انتظرونى ‏عند‏ ‏الجامع‏ ‏على ‏طلوع‏ ‏الفجر‏.‏

(حلم‏ 34)

الخوف من الموت:

مهما أعلنّا حب الموت، أو زعمنا قبوله، أو سلَّمنا بانتظاره، ومهما صدقت الوعود بما بعده، حتى رأيناها رأى العين فى حلم أو بيقين راسخ، إلا أن المسألة – من عمق أعمق – ليست بهذه السهولة المعلنة. حتى بعد التأكد من اللقاء هناك بأمثالنا، وبعد الارتياح إلى صدق الوعد بما لذ وطاب، يظل الحرص على الحياة غالباً ربما من باب “اللى تعرفه أحسن من اللى ماتعرفوش”، الحرص على الحياة غالب إلى آخر لحظة حتى لو حَرَمنا هذا الحرص من المشاركة فى ما تُقدمه الحياة، وما بعد الحياة، فالأصدقاء فى هذا الحلم هم أصدقاء العمر الراحلين، والامتناع عن مشاركتهم، وهم قد رحلوا، هو حرص على الحياة  يمتد حتى بعد الاطمئنان إلى أن الذين رحلوا مازالوا يسمرون ليلاً تسبقهم ضحكاتهم المجلجلة، والمفارقة الموقظة هنا هى التنبية إلى أن الخوف من الموت يمتد حتى بعد الموت.

وجدت‏ ‏نفسى ‏فى ‏بهو‏ ‏جميل‏، ‏وبين‏ ‏يدى ‏وعاء‏ ‏ذهبى ‏ملئ‏ ‏بما‏ ‏لذ‏ ‏وطاب‏.‏

فذكرنى ‏هذا‏ ‏بسمار‏ ‏الليالى ‏من‏ ‏أصدقاء‏ ‏العمر‏ ‏الراحلين‏، ‏وإذا‏ ‏بى ‏أراهم‏ ‏مقبلين‏ ‏تسبقهم‏ ‏ضحكاتهم‏ ‏المجلجلة‏. ‏فتبادلنا‏ ‏السلام‏ ‏وأثنوا‏ ‏على ‏الوعاء‏ ‏وما‏ ‏فيه‏. ‏غير‏ ‏أن‏ ‏سعادتى ‏انطفأت‏ ‏فجأة‏ ‏وصارحتهم‏ ‏بأننى ‏لن‏ ‏أستطيع‏ ‏مشاركتهم‏ ‏حيث‏ ‏منعنى ‏الأطباء‏ ‏من‏ ‏التدخين‏ ‏منعا‏ ‏باتا‏، ‏وبدت‏ ‏الدهشة‏ ‏على ‏وجوههم‏ ‏ثم‏ ‏ركزوا‏ ‏أبصارهم‏ ‏فى ‏وجهى ‏وتساءلوا‏ ‏ساخرين‏:‏

‏- ‏أمازلت‏ ‏تخاف‏ ‏من‏ ‏الموت؟‏!‏

                                                                         حلم‏ 92

الموت لايفرق بين الأحبة:

حضور وعى من يرحل عنا “فى” وعى من يبقى منا، هو فرض يزداد اقترابا واحتمال تحُّقٍق يوما بعد يوم، سواء من منطلق علمى بيولوجى، أو من منطلق نفسى باراسيكولوجى، أو حتى من منطلق ميتافيزيقى، وبالتالى: إنه من المحتمل أن يبقى – فينا –من نتصور أنه رحل عنا بجسده، خاصة إذا ما كان قد تم بيننا وبينه حوار حياتى جدلى عميق، يسمح بهذا التشكيل المتداخل لوعينا معاً، ليس فقط ما يسمى الحب هو الذى يسمح بمثل هذا الجدل، ولكنه يسمى عادة بهذا الأسم.

  سمعت شيخى ينبهنى إلى ما يشككنى فى نوع حبى له بعد رحيله، من فرط افتقادى إياه وذلك حين أمعنت النظر فى رد  المعلم القديم على المرحومة عين وهى تعتذر له بالموت عن الغياب.

رأيتنى فى حى العباسية أتجول فى رحاب الذكريات وذكرت بصفة خاصة المرحومة عين فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتى عند السبيل وهناك رحبت بها بقلب مشوق واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الأول وعندما بلغنا المقهى خف إلينا المرحوم المعلم القديم ورحب بنا غير أنه عتب على المرحومة عين طول غيابها فقالت إن الذى منعها عن الحضور هو الموت فلم يقبل هذا الاعتذار وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبّة.

من حلم 104

الموت العدم والجسد الهش:

حضور وعى الراحل فى تشكيل وعى من تبقى من أحياء لا يتم إلا إذا كانت العلاقة حقيقية نابضة: أحيانا نتوهم باندفاع عاطفى مغترب أننا نحب شخصاً ما حباً هائلا، ونحن لانحب إلا ماتصورناه عنه، وحين يختفى جسد هذا المحبوب بالموت، تتراجع أو لا تتراجع معه صورته التى كوّناها له، لكنها – الصورة لا الوعى – يمكن أن تُستدعى فى الحلم أو فى العلم، فى ذكرى أو تخيل، لكنها مجرد صورة لا تمثل وعى الراحل، فإذا ما حدثت الصحوة المفاجئة، فقد نصدم ونحن نتبين من خلالها الحقيقة، وأن “طلعتها البهية، ومشيتها السنية وملامحها الأنيقة” لم تكن إلا من صنعنا نحن، فتتعرى الصورة ولا يبقى إلا كيان هش، يعلن عدَماً منذ البداية..

تريضت‏ ‏على ‏الشاطئ‏ ‏الأخضر‏ ‏للنيل‏. ‏الليلة‏ ‏ندية‏ ‏والمناجاة‏ ‏بين‏ ‏القمر‏ ‏ومياه‏ ‏النهر‏ ‏مستمرة‏ ‏تشع‏ ‏منها‏ ‏الأضواء‏. ‏هامت‏ ‏روحى ‏حول‏ ‏أركان‏ ‏العباسية‏ ‏المفعمة‏ ‏بالياسمين‏ ‏والحب‏. ‏ووجدت‏ ‏نفسى ‏تردد‏ ‏السؤال‏ ‏الذى ‏يراودها‏ ‏بين‏ ‏حين‏ ‏وآخر‏. ‏لماذا‏ ‏لم‏ ‏تزرنى ‏فى ‏المنام‏ ‏ولو‏ ‏مرة‏ ‏واحدة‏ ‏منذ‏ ‏رحلت؟‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏لأتأكد‏ ‏من‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏حقيقة‏ ‏وليست‏ ‏وهما‏ ‏من‏ ‏أوهام‏ ‏المراهقة‏. ‏وهل‏ ‏الصورة‏ ‏التى ‏طبعت‏ ‏فى ‏خيالى ‏هى ‏الصورة‏ ‏الحقيقية‏ ‏للأصل؟

وإذا‏ ‏بصوت‏ ‏موسيقى ‏يترامى ‏إلى ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏الشارع‏ ‏المظلم‏. ‏صارت‏ ‏أشباحا‏ ‏ثم‏ ‏تجلت‏ ‏مع‏ ‏ضوء‏ ‏أول‏ ‏مصباح‏ ‏صادفها‏ ‏فى ‏طريقها‏ ‏أدهشنى ‏أنها‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏غريبة‏ ‏على ‏فى ‏الموسيقى ‏النحاسية‏ ‏التى ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏استعمت‏ ‏إليها‏ ‏فى ‏صباى ‏ورأيتها‏ ‏تتقدم‏ ‏بعض‏ ‏الجنازات‏، ‏وهذا‏ ‏اللحن‏ ‏أكاد‏ ‏أحفظه‏ ‏حفظا‏، ‏أما‏ ‏المصادفة‏ ‏السعيدة‏ ‏غير‏ ‏المتوقعة‏ ‏فهى ‏أن‏ ‏حبيبتى ‏الراحلة‏ ‏تسير‏ ‏وراء‏ ‏الفرقة‏، ‏هى ‏هى ‏بطلعتها‏ ‏البهية‏ ‏ومشيتها‏ ‏السنية‏ ‏وملامحها‏ ‏الأنيقة‏، ‏أخيرا‏ ‏تكرمت‏ ‏بزيارتى ‏وتركتْ‏ ‏الفرقة‏ ‏الجنائزية‏ ‏تسير‏ ‏ووقفت‏ ‏قبالتى ‏لتؤكد‏ ‏لى ‏أن‏ ‏العمر‏ ‏لم‏ ‏يضع‏ ‏هدرا‏، ‏وقمت‏ ‏واقفا‏ ‏منبهرا‏ ‏وتطلعت‏ ‏إليها‏ ‏بكل‏ ‏قوة‏ ‏روحى. ‏وقلت‏ ‏لنفسى‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏فرصة‏ ‏لا‏ ‏تتكرر‏ – ‏لألمس‏ ‏حبيبة‏ ‏القلب‏. ‏

وتقدمت‏ ‏خطوة‏ ‏وأحطتها‏ ‏بذراعى ‏ولكنى ‏سمعت‏ ‏طقطقة‏ ‏شئ‏ ‏يتكسر‏ ‏وأيقنت‏ ‏أن‏ ‏الفستان‏ ‏ينسدل‏ ‏على ‏فراغ‏. ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏هوى ‏الرأس‏ ‏البديع‏ ‏إلى ‏الأرض‏ ‏وتدحرج‏ ‏إلى ‏النهر‏ ‏وحملته‏ ‏الأمواج‏ ‏مثل‏ ‏ورد‏ ‏النيل‏ ‏تاركة‏ ‏إياى ‏فى ‏حسرة‏ ‏أبدية‏. ‏

حلم 14

الموت التغيير والمراجعة

حين ينظر الميت (حيا) إلى من خلفه، فلا يجدهم غير سلبيات ما رحل عنه، يتحسر بلا جدوى.  ما دام الأمر كذلك فلماذا تركها لهم آملا أن يخطوا هم الخطوة التالية، فتضطرد مسيرة الحياة، هذا عن التوقف والجمود، فإذا أضيف إليهما جحود وبلادة هذا الجيل التالى للسابقين، فقد يصدق حدس محفوظ فى تخوفه من النسيان والإهمال كما جاء فى قصة “علمنى الدهر”.

… هذه “‏حجرة‏ ‏السكرتارية” ‏حيث‏ ‏أمضيت‏ ‏عمرا‏ ‏قبل‏ ‏إحالتى ‏إلى ‏المعاش‏ ‏وحيث‏ ‏زاملت‏ ‏نخبة‏ ‏من‏ ‏الموظفين‏ ‏شاء‏ ‏القدر‏ ‏أن‏ ‏أشيع‏ ‏جنازاتهم‏ ‏جميعا‏ ‏واسترقت‏ ‏نظرة‏ ‏من‏ ‏داخل‏ ‏الحجرة‏ ‏لأرى ‏من‏ ‏خلفونا‏ ‏من‏ ‏الشباب‏ ‏فكدت‏ ‏أن‏ ‏أصعق‏ ‏لأنى ‏لم‏ ‏أر‏ ‏سوى ‏زملائى ‏القدامى، ‏واندفعت‏ ‏إلى ‏الداخل‏ ‏هاتفا‏ ‏سلام‏ ‏الله‏ ‏على ‏الأحباب‏ ‏متوقعا‏ ‏ذهولا‏ ‏واضطرابا‏ ‏ولكن‏ ‏أحدا‏ ‏لم‏ ‏يرفع‏ ‏رأسه‏ ‏عن‏ ‏أوراقه‏ ‏فارتددت‏ ‏إلى ‏نفسى ‏محبطا‏ ‏تعسا‏ ‏ولما‏ ‏حان‏ ‏وقت‏ ‏الانصراف‏ ‏غادروا‏ ‏مكاتبهم‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يلتفت‏ ‏أحد‏ ‏نحوى ‏بما‏ ‏فيهم‏ ‏المترجمة‏ ‏الحسناء‏ ‏ووجدت‏ ‏نفسى ‏وحيدا‏ ‏فى ‏حجرة‏ ‏خالية‏.

حلم‏ 97

يتبين إصرار محفوظ على أن الموت هو خطوة فى حركة متصلة نحو التغيير حين نتأمل ما جاء فى حلم باكر من دعوة إلى مراجعة لما يسمى مسلمات الماضى، حتى بعد رحيله، فقد أعاد محفوظ أستاذه الشيخ محرم من الآخرة بعد أن شيع جنازته قبل ستين عاما، أعاده ليخبره دون مقدمات بضرورة إعادة النظر فى المسلمات التى هو مسئول عن إبلاغها له.

رن جرس التليفون وقال المتكلم:

الشيخ محرم استاذك يتكلم

فقلت بأدب واجلال:

أهلا استاذى وسهلا…

أنى قادم لزيارتك.

على الرحب والسعة

لم تمسنى أية دهشة على الرغم من أننى شاركت فى تشيع جنازته منذ حوالى ستين عاما وتتابعت علىّ ذكريات لاتنسى عن استاذى القديم فى اللغة فى معاملة التلاميذ وجاء الشيخ بجبته وقفطانه الزاهيين وعمته المقلوظة وقال دون مقدمات: هناك عايشت العديد من الرواة والعلماء ومن حوارى معهم عرفت أن بعض الدروس التى كنت ألقيها عليكم تحتاج الى تصحيحات فدونت التصحيحات فى الورقة وجئتك بها.

 قال ذلك ثم وضع لفافة من الورق على الخوان وذهب.

 (حلم 6)

وصية محفوظ ودورية النقد:

وهأنذا أعثر على حلم ينتهى بهذه الوصية “إن المقال أحب إلى نفسى من الانفعال والخداع” وأقرأ “المقال” بمعنى النقد ونقد النقد، فهى الدورية، وأن يكون حوار حول أعماله ونقدا لا يتوقف. فهذا وحده هو الذى يحول بين الأجيال الحديثة وأن تفقد ذاكرتها …… الخ.

قرأت فى المجلة مقال نقد قاس لشخصى وأعمالى بقلم الأستاذ ع وإذا به يمثل أمامى معتذرا ويقول إنه يقصد بالمقال أن يكون أساس حوار بينى وبينه يحدث ضجة تعيد الغائب إلى الوجود فقلت له: من يصدق هذا الحوار وأنت ميت منذ 15 سنة فقال إنه يعتمد على أن الأجيال الحديثة فاقدة الذاكرة

فقلت له: إن المقال أحب إلى نفسى من الانفعال والخداع!

(حلم‏ 165)

الموت فى أصداء السيرة

أما تناول محفوظ للموت كما ظهر فى الأصداء، فهذا يحتاج إلى عودة مطولة مستقلة، مكتفيا بالعينة التى صدّرت بها هذه المداخلة وهى فقرة من أصداء السيرة الذاتية بعنوان “همسة عند الفجر”،

 ثم أكتفى بأن أنهى هذا المقال بهذا العتاب الرثاء الدعاء (شعراً)

لِمَ قُـلتَها شيخِى: “كَفى” !!

قد كنتَ فينا رائحاً أو غادياً تخطو بنا نحو الذى قد صاغَنَا،

وجعلتَ إيقاع الحياة له صليلٌ مثل نبض الكون سعيا للجليل،

حتى حسبنا أنها لا تنتهى،

وظللتَ تخطرُ هامساً كالطيفِ، كالروحِ الشفيفِ، كظلِّ رب الكون فيما بيننا،

وجعلت تنحت جاهدا لتعيد تشكيل البشرْ:

 حُـلماً فحلماً: واقعاً منّا، لنَاَ،

نسعى إلى عمق الوجود ليلتقى فينا بنا،

لتَعارَفُوا

 هذا “طريق الزعبلاوى”، نحو وجه الحق، نحو النور، نحو العدل، نحو الله فينا حولنا.

ومضيتَ تقهرُ كلَّ عجزٍ، كلَّ ضعف، كلَّ هَم،

حتى دعْونا ربنا أن تقهر الساعات تسحَـبُنا إلى المجهولِ إذْ تـُخـْفـِى العدمْ,

حتى نسينا أننا بشرٌ لنا أعمارُنا

***

لم قلتََها شيخى : “كفى”؟

الآن؟ كيف الآن ؟ شيخى !؟ ربنا !؟ بالله ليس الآن،

إرجعْ عقارب ساعتكْ،

 لا،

 نحن  لسنا قدْرها،

ليستْ “كفى”

لا ،

 ليس هذا وقتُـها ،

أفلستَ تعلم أننا فى “عِـز” حاجتنا إليك؟

أفلستَ تعرف ما جرى؟

أفلستَ تعرف كيف تنهشنا السباعُ الجائعة؟

أفلستَ تعرفُ أن ما  يأتى بدونك لهْوَ أقسى ألف مرة ؟

لو كنتَ أقسمتَ عليِه،

من أجل خاِطِرنا،

لأبرّك الله العزيز بقدر ما وعد الذين هـُمُـوا كمثلك.

لمَ قلتََها شيخى: “كفىً؟

كنا نريدك دائما تخطو جميلا بينناَ،

 كنا نريدك خالدا فى قرة العين هنا،

 كنا نريدك مثل أطفالٍ أبوْا أن يُفطـَموا من حلو ما نهلوا عطاءك، مثلنا،

 كنا نريدك نحتمى فى دفء بُرْدِكَ من برودةِ عصرنا.

لكنَّ خاتمة الكتاب تقررت، فسمعتّهَا،

وكتمتََهَا حرصا علينا، وانسحبتَ برقةٍ وعذوبةٍ،

 وتركتَنَـا.

لمّ هكذا؟

علـّمتنا ‏شيخى ‏بأنا‏ ‏قد‏ ‏خُـلقنا‏ ‏للحلاوةِ ‏والمرارة‏ِ ‏نحملُ‏ ‏الوعى ‏الثقيل‏ ‏نكونُـه‏ ‏سعيا‏ ‏إليه‏.‏

فاجـَـأْتَنَا،

 ورحلتَ دون سَؤاِلنَا

وبكى الخميسُ لقاءَنا،

وتركتَ بيتىَ خاويا فى كل جُمعةْ.

***

ماذا جرى؟

كيف جرى؟

هل يا تُرى : قد كان همسا  من وراء ظهورنا  يدعوك سرًّا:

ورجوتَ أن تلقاه شيخى بعد ما طال العناءْ؟

فاستاذن الجسدُ العليل بشجّةٍ فى الرأس كانت عابرة؟

لا لم تكن أبدا مصادفة ً، ولم يشأِ القدرْ،

كانت نذيراً بالوداعْ،

قطعتْ حباَلَ وِصَـالنا

فتهتك العهدُ القديمُ وحرَّرَ الجسدَ العنيدْ،

والشيخ درويشُ “الزقاقِ” يقولها:

 “لا شىء دون نهايةٍ”

وهِجاؤها:

“قد حان وقتٌ للرحيل”.

***

عَّلمتنا شيخى الجليل:

 أن الخلودَ بهذه الدنيا عدمْ،

 والموتُ لا يُنهى الحياةََ  لكلِِّ من أعطاها مثلَك نفسَهُ،

الموتُ ينقلها إلى صُـنّاعها من بعض فيضك،

قد كنتَ رائدَ حملها

يا للأمانة!! 

يا ثقلها!!!

هل جاء من أنباكَ أنّا أهلُها؟

حتى الجبال أبيْنَ أن يحِمْلنَها.

كيف السبيل,  وكل هذا حولها ؟

***

لكنَّ ما قدّمتَ علَّمنا “الطريق” إليه عبر شعابها:

لمّا عرفتَ سبيل دربك نحوه،

كدْحاً إليه :

ودخلتَ فى عمق العباد تعيد تشكيل الذى غمرتْه أمواجُ الضلالْ، حتى  تشوّه بالعمى والجوع  والجشع الجبانْ،

***

شيخى الجليل:

ما دمتَ أنتَ فَعَلتْهاَ

فانعم بها

واشفعْ لنا

أن نُحمل العهدَ الذى أوْدَعْتنَاَ

شيخى الجليل:

نمْ مطمئنا،

وارجع إليه مُبْدعاً،

عبر البشر،

وادخل إليها راضيا،

أهلا ً لهاَ.

الملحق الثانى:

عن دورية نقد نجيب محفوظ: للشكر والتذكرة

أكرر شكرى للاستاذ الدكتور  جابر عصفور، والابن د. حسين حمودة على حماسهم ثم جهودهم لتنفيذ وتعهد  إصدار هذه الدورية السنوية بانتظام، والتى لها الفضل فى نشر ما جاء بهذا العمل الحالى، وقد رأيت أن أثبت فى هذا الملحق متقطفات عن تنوعات  التسلسل التاريخى للمطالبة بإصدارها حتى أصبحت واقعاً، ثقافياً متميزاً.

ومن البديهى أن فضل المطالبة مهما ألح لا يعنى شيئا ذا بال، إلا إذا وجد أذنا صاغية، وقرارا ناجزا، ومسئولية مناسبة، ومثابرة قادرة ، وكل هذا لا يرجع إلى شخصى طبعا، وإنما يرجع إلى لجنة الحفاظ على التراث، وبالذات من تعهد وتولى البدء أ.د. جابر عصفور، ثم من واصل الجهد والفضل: الابن/ أ.د. حسين حمودة.

وفيما يلى ما احتفظت به من تاريخ “المطالبة”، فليس عندى علم كاف بخطوات التفعيل والتنفيذ، فالشكر فى ذلك لأصحاب الفضل سالفى الذكر.

(1) مجلة فصول: عدد نوفمبر- 1988

…..

السيد الأستاذ  الدكتور عز الدين إسماعيل

فإنى إذ أعتذر عن التأخر فى الرد …. أسارع.. (بتقديم اقتراحين) بمناسبة تشريف أستاذنا نجيب محفوظ لجائزة نوبل بالحصول عليها:

…..

الاقتراح الثانى: أن تناقش الهيئة العامة للكتاب فكرة إصدار دورية خاصة اسمها “نجييب محفوظ” لا ينشر فيها إلا نقد،وحوار حول نقد، وإعادة نقد، أعمال هذ المحيط المترامى…

 (2) الاهرام: 14/12/2001  “محفوظ‏ 90‏”

بتلك‏ ‏المناسبة‏ (‏نوبل‏ ‏محفوظ‏) ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏أرسلت‏ ‏اقتراحا‏ ‏في‏1/11/1988 ‏لرئيس‏ ‏تحرير‏ ‏مجلة‏ ‏فصول‏ (‏أ‏.‏د‏. ‏عز‏ ‏الدين‏ ‏إسماعيل‏ ‏حينذاك‏) ‏أقترح‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏تناقش‏ ‏المجلة‏ ‏أو‏ ‏الهيئة‏ ‏العامة‏ ‏للكتاب‏ ‏فكرة‏ ‏إصدار‏ ‏دورية‏ ‏نقدية‏ ‏خاصة‏ ‏بأعمال‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏، ‏باعتبارها‏ ‏أعمالا‏ ‏ولاّدة‏ ‏ملهمة‏ ‏متجددة‏ ‏أبدا‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏شيئا‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏يتم‏، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏ثمه ‏عملا‏ ‏واحدا‏ (‏مثل‏ ‏عوليس‏ ، ‏جيمس‏ ‏جويس‏) ‏قد‏ ‏صدرت‏ ‏عنه‏ ‏دورية‏ ‏خاصة‏ ‏لعدد‏ ‏من‏ ‏السنين‏. ‏الهدية‏ ‏الحقيقية‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نقدمها‏ ‏لأنفسنا‏ ‏وليس‏ ‏لنجيب‏ ‏محفوظ‏، ‏هو‏ ‏أن‏ ‏نعجل‏ ‏بصدور‏ ‏هذه‏ ‏الدورية‏ ‏التى ‏لن‏ ‏تثرى ‏نقد‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏وحده‏، ‏بل‏ ‏لعلها‏ ‏تكون‏ ‏عونا‏ ‏للكتابّ‏ ‏والنقاد‏، ‏والقراء‏، ‏وكل‏ ‏من‏ ‏يهمه‏ ‏أمر‏ ‏‏هذا‏ ‏البلد‏، ‏ومشاركته‏ ‏فى ‏مسيرة‏ ‏الإبداع‏ ‏الضرورية‏ ‏لمواجهة‏ ‏ما‏ ‏يحيق‏ ‏بالبشر‏ ‏كافة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مكان‏ ‏فى ‏العالم‏.‏

 (3) مجلة وجهات نظر: عدد يناير 2003 “أعظم‏ ‏ما‏ ‏نقدمه‏ ‏لشيخنا‏ ‏الجليل‏”

………

وقد سبق أن جاءت فقرة فى الملحق الثانى من هذه الملاحق فضلت أن أحذفها من هناك لأثبتها هنا هكذا.

“فإذا‏ ‏كانت‏ ‏الدولة‏ ‏لم‏ ‏تستجب‏ ‏لهذا‏ ‏الاقتراح‏ ‏طوال‏ ‏أربع‏ ‏عشرة‏ ‏سنة‏، ‏فهل‏ ‏تستجيب‏ ‏له‏ ‏دار‏ ‏الشروق؟‏ ‏أو‏ ‏الشركة‏ ‏المصرية‏ ‏للنشر‏ ‏العربى ‏والدولى؟‏ ‏أو‏ ‏أى ‏ممن‏ ‏يهمه‏ ‏الأمر‏، ‏ويحبك‏‏؟‏ ‏يا‏ ‏ليت‏، أدعو‏ ‏الله‏ ‏أن‏ ‏ترى ‏هذا‏ ‏الأمل‏ ‏يتحقق‏ ‏وأنت‏ ‏بيننا‏،‏ ‏وكل‏ ‏عام‏ ‏وأنت‏ ‏بخير”‏.‏

 (4) مجلة الهلال: عدد مارس 2005  “إبداع‏ ‏الحلم ‏وأحلام‏ ‏المبدع”

………

لا‏ ‏يوجد‏ ‏لمثل‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏، ‏ولا‏ ‏لأعمال‏ ‏محفوظ‏ ‏كافة‏ ‏قراءة‏ ‏واحدة‏، ‏ولا‏ ‏يصح‏ ‏فيها‏ ‏رأى ‏واحد‏، ‏ولا‏ ‏يجوز‏ ‏عليها‏ ‏تفسير‏ ‏واحد‏، ‏وقد‏ ‏وجدتنى ‏وأنا‏ ‏أعاود‏ ‏قراءة‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏كتبته‏ ‏شخصيا‏ ‏أعيد‏ ‏النظر‏، ‏ثم‏ ‏أعيد‏ ‏النظر‏ ‏لكننى ‏لم‏ ‏أواصل ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏كثيرا‏.‏

ألا‏ ‏يستأهل‏ ‏ذلك‏ ‏ومثله‏ ‏وغيره‏ ‏إحياء‏ ‏الاقتراح‏ ‏الذى ‏تقدمت‏ ‏به‏ ‏مرارا‏ ‏لهيئة‏ ‏الكتاب‏ ‏بأن‏ ‏تصدر‏ “‏دورية‏ ‏منتظمة‏ ‏لنقد‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏”، ‏لعلها‏ ‏تحيى ‏الحركة‏ ‏النقدية‏ ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏فى ‏نقد‏ ‏محفوظ‏، ‏وإنما‏ ‏فى ‏النقد‏ ‏عامة‏، ‏كما‏ ‏ينبغى ‏بما‏ ‏ينبغى؟

(5) روز اليوسف: 16- 12 – 2005 “دورية نقدية لأعماله، بدلا من:.. صخب أعياد الميلاد”

………

… أكرر الاقتراح نفسه كلما أتيحت الفرصة، ولا يعتنى به أحد، ……، وفيما يلى مزيد من الخطوط العريضة للاقتراح كالتالى:

1-  تصدر دورية فصلية اسمها: “نجيب محفوظ”، تقتصر على نقد أعماله طولا وعرضا.

2- تشمل الدورية بصفة مبئية ما يلى:

1) مراجعة ما نشر عن أعماله، وإعادة نشر ما يستحق منه.

2) فتح الباب لنقد جديد فيما هو متاح وما يستجد

3) دعوة عامة إلى كل النقاد (والقراء) العرب (و المتكلمين بالعربية، والمترجمين منها وإليها) لنقد النقد

4) مراجعة ترجمات نجيب محفوظ إلى مختلف اللغات، ونقدها نقدا موثقا، قد يصل إلى درجة  التوصية بإعادة ترجمة بعضها إذا لزم الأمر

5) متابعة الأفلام والمسلسلات التى صدرت عن كتاباته وبيان الفرق الجوهرى بين النص الأصلى والفكرة الأساسية التى يمكن أن تكون قد تشوهت بتحويلها، أو حتى أوصلت عكسها !!!!

6) مواصلة حوار كل ذلك طول الوقت طول الزمن

(6) مجلة “وجهات نظر” عدد أكتوبر 2006 “همسةٌ عند الفجر”

(انظر أيضا فى ما جاء فى الملحق الثانى) مستشهدا بما جاء  فى حلم (من أحلام فترة النقاهة) ينتهى بهذه الوصية إذ يقول فيه شيخنا “إن المقال أحب إلى نفسى من الانفعال والخداع” وأقرأ “المقال” بمعنى النقد ونقد النقد، فهى الدورية، وأن يكون حوار لا يتوقف. فهذا وحده هو الذى يحول بين الأجيال الحديثة وأن تفقد ذاكرتها …… الخ.

 (7) جريدة الدستور: 10-12-2008 “نجيب محفوظ: بداية ونهاية”

….أدمنتُ قرع كل باب منذ أرسلت الاقتراح بإصدار دورية فصلية متخصصة فى نقد أعمال نجيب محفوظ، أرسلتها للمرحوم أ.د. عز الدين إسماعيل بتاريخ أول نوفمبر سنة 1988، بعد تشريف جائزة نوبل بحصول شيخنا محفوظ عليها. أخيرا، وبفضل لجنة الحفاظ على تراثه وفضل الله، تقرر إصدارها حولية تمهيدا لأن تكون فصلية، على أن يتولى رئاسة تحريرها ذلك المثابر الشامخ المبدع الطيب القوى: جابر عصفور، كما يتولى سكرتارية تحريرها الإبن الناقد الملتزم د. حسين حمودة.

****

كما لم أتردد فى عرض الفكرة بإلحاح على الرأى العام  عبر الاعلام المرئى لعله يمثل دعما مناسبا لهذا المطلب لحق هذا الرجل الذى يحبه كما لم يحب أحدا مثله، وسوف أسمح لنفسى أن أقتطف بعض ما يمثل ذلك

(8) من برنامج “البيت بيتك”   بتاريخ 3-9-2006

د.يحيى: أولاً أنا شايف إن مش حاقول إحتفالية إحترام قضاء الله بالصورة دى ينبغى أن يكون له شكل تانى احنا لما حنتكلم عن أعمال الأستاذ أو لقاءاته أو توصياته فيه حاجتين أنا أحب أكدهم: الأول إذا كنا عايزين نوفيه حقه أنا أقترحت الأسبوع ده ومن يوم ما أخذ نوبل إن إحنا نعمل دورية إسمها “فى نقد نجيب محفوظ” اقترحت ده وبعته لأستاذ الدكتور: عز الدين أسماعيل وللدكتور جابر عصفور وللمرحوم سمير سرحان ولو سمحت ننتهز هذه الفرصة وأوصيك وأوصى أهل البرنامج بهذه الدورية برضه.

(9) برنامج مباشر “النيل للأخبار” بتاريخ 16-8-2007 “دورية لنقد أعمال نجيب محفوظ”

د.يحيى: … نتكلم بصراحة: يعنى كان موضوع النقد دايما كنت انكشه فيه أن النقد عندنا متخلف عن الإبداع الانشائى وأنه لا يمكن ابدأ أن يتقدم الإبداع الإنشائى إلا بحركية نقدية تحاوره وتعيد ابداع النقد أنا من بعد جائزة نوبل اقترحت على المرحوم الدكتور سمير سرحان وبعت لدكتور جابر عصفور وبعت لكل من يهمه الامر وبعد ما توفى الله يرحمه ولو أن كلمة توفى دى صعبة عليا شوية

……..

 النقد هو ابداع تالى يعنى فى ابداع اول وفى ابداع تالى انا مش عارف ليه ما صدرتش لحد دلوقتى … مسئوليتنا نحوه هى ما ترك لنا لنعيد قراءته مئات السنين هو هو نفس النص فالنص بيتجدد بالإبداع.

المذيع: برؤى نقدية مختلفة

د.يحيى: بالظبط بيفرز إلهامات جديدة للنقاد الحقيقيين.

وبعد

(10) أختم هذه النبذة بما يمثل جماع ما نشر فى جريدة القاهرة بتاريخ 28/8/2007 عدد 385  “اقتراح لا يكف د.يحيى الرخاوى: عن تقديمه منذ عشرين عاما: تأسيس دورية نقدية فى أعمال نجيب محفوظ “

 اقتراح لا يكف د. يحيى الرخاوى عن تقديمه منذ عشرين عاما تأسيس دورية نقدية فى أعمال نجيب محفوظ .. فقط..!! الدورية المقترحة تفتح الباب للقارئ للمشاركة من منطلق أن التلقى المسئول نوع من النقد..تبنى نفى وجود حد الردة فى الإسلام «رسميا» إلا فى حالة الخيانة العظمى تحقيق لما كان يرجوه محفوظ، الدورية تحفز النقاد لإبداع نقدى متجدد حول أعمال محفوظ من خلال النقد المقارن بين الأفلام والمسلسلات المأخوذة عن رواياته يمكن التنبيه على بعض التجاوزات التى تصل إلى حد توصيل عكس ما أراد الكاتب

وفيما يلى نص اقتراحه إلى لجنة الحفاظ على تراثه كما أرسله لنا:

اقتراح لإنشاء دورية نقدية فصلية فى “نقد نجيب محفوظ”

  • مع كل الشكر لكل الجهود والاقتراحات للإسهام فيما يسمى “تخليد محفوظ، أو تخليد ذكراه” ، فإنى أرى أن هذا قد لا يكون أهم ما نحتاج إليه لحمل أمانة ما ترك لنا.

  • محفوظ يشكل جزءا حقيقيا حاضرا فى نسيج وعى الإنسان المصرى المعاصر (والإنسان عامة) حالا (هنا والآن)

  • المطلوب تعهد هذا الوعى لتنميته وإطلاقه لما يعد، بديلا عن، أو جنبا إلى جنب مع، بناء هرم حول اسمه أو مقبرته.

يمكن أن يتم ذلك من خلال مداخل متعددة أورد بعضها على سبيل المثال:

(1)  حفز لإبداع متجدد حول أعماله، أساسا:  بمواصلة النقد المستمر لعطائه، مع تذكر أن النقد ما هو إلا إبداع على إبداع (أنظر اقتراح الدورية)

(2) تنمية وتوسيع ورفع سقف الإبداع بصفة عامة، الأمر الذىكان محفوظ حريصا عليه، وهو أيضا ما سوف يسمح للإبداع النقدى أن يأخذ مداه الطبيعى .

(ملحوظة: إن مجرد تبنى نفى وجود حد الردة فى الإسلام (رسميا) إلا فى حالة الخيانة العظمى هو تحقيق لما كان يرجوه محفوظ، وهو الرد الرسمى الضرورى على ما أثير حول بعض أعماله ، وما ترتب عليه ، وهو ما يمكن أن يطلق الإبداع النقدى وغير النقدى، لأعمال محفوظ وغيره، مما يشرف به الإسلام حتما)

(3)  إن أى جهد حقيقى، تربوى أو سياسى، يدعم الإسهام فى استرداد الإنسان (المصرى فالعربى فعُـموما) أى قدر متزايد من الكرامة الإنسانية، والحرية الحقيقية، وبالذات حرية الإبداع بسائر مستوياته، هى تخليد متجدد لجوهر حضور وعى محفوظ فى وعى الناس.

بعض الخطوط العامة لاقتراح الدورية النقدية

1- إصدار دورية نصف سنوية (على الأقل) فى “نقد نجيب محفوظ”

2- تختص هذه الدورة بالنقد، ونقد النقد، لأعمال نجيب محفوظ دون غيرها

تشمل هذه الدورية:

أولا: نقد العطاء القصصى الروائى:  وبعض ذلك على سبيل المثال:

1) جمع النقد الذى كتب عن أعماله

2) جمع نقد النقد

3)  استكتاب النقاد – ومن يهمه الأمر – للإسهام فى مراجعة ما تم، ثم متابعة الحركة النقدية المتجددة ، إما بطلب التعليق أو بعقد ندوات (أنظر بعد)

4)  يفتح الباب للقارئ العادى – باعتبار التلقى المسئول نوعا من النقد-  للمشاركة

5) يراعى أن “معمار التشكيل” عند محفوظ لم يأخذ حقه بمقارنة تناول”المحتوى” من زوايا سياسية أو اجتماعية

أو تحليلية نفسية أو غير ذلك، الأمر الذى قد يمكن لهذه الدورية تداركه فى هذه الدورية.

6)  بما أن الترجمة هى فى ذاتها من أرقى وأصعب  أنواع ما يمكن أن يسمى نقدا (إعادة إبداع النص، لعرضه على وعى آخرين ينتمون إلى ثقافة أخرى، لها لغتها المختلفة) إذن:  يدخل نقد الترجمة ضمن النقد، فنقد النقد

7)  يمكن أن تجرى مقارنات مسئولة بين النص  المحفوظى  بالعربية وبعض التراجم، خاصة تلك التى يثار حولها تعليقات أو تساؤلات تستدعى ذلك

8) يمكن أن تجرى مقارنات بين تراجم من لغات مختلفة، مع النص الأصلى (العربية مع الإنجليزية مع الألمانية مثلا)

9)  يمكن أن ترتب مسابقات فى نقد أعماله على مستويات مختلفة، دون إغفال القارئ العادى والشباب

10) يفتح الباب للنقد على مصراعيه للنقد المقارن (مثلا):

  • السيميائى ó رحلة ابن فطومة

  • مائة عام من العزلة ó الحرافيش أو الثلاثية

  • بعض الأحلام الأخيرة أو الأصداء ومواقف النفرى

ثانيا: السينما والمسلسلات

11)  نقد مقارن بين الأفلام المأخوذة عن رواياته، وبين النص الأصلى المكتوب، ، حتى لو كان محفوظ قد حذر من ذلك، أورفضه، إلا أنها تبدو مهمة تاريخية لمن يريد أن ينبه إلى بعض التجاوزات التى تصل إلى حد توصيل عكس ما أراد الكاتب.

12) نفس المسألة بالنسبة للمسلسلات (مثلا قارن تجاوزات: مسلسل حكاية بلا بداية ولا نهاية، بحبكة: مسلسل حديث الصباح والمساء

ثالثا: دراسات حول إبداع محفوظ وعلاقته بالمنظومات المعرفية الأخرى،(بدءا بمحفوظ واستلهاما من إبداعه،  أكثر منها وصاية أوتفسيرا أو تأويلا بلغة من منظومة أخرى وصيّة على إبداعه)

(مثلا: أبحاث مقارنة مع منظومات:  الفلسفة ، والعلوم النفسية، والتاريخية والأسطورية..، بل وقد يمتد التناول بحوث مقارنة فى علاقة إبداعه  بالفن التشكيلى  والموسيقى (مثل استلهام  سيف وانلى لشخوص  المرايا).

رابعا: يمكن عمل ندوات للحوار حول  نص بذاته ، أو عدة نصوص معا،  أو حول محتوى ما نشر من نقد ، وقد تتجدد الندوات إلخ

ولا يكتفى بنشر محتوى الندوة، وإنما تعرض للتعليق على الثقاة.

خامسا: متابعة النقد الذى ينشر فى الخارج، وترجمته ، والتعليق عليه أو نقده ما أمكن ذلك (ويشمل هذا متابعة التراجم، وغيرها كما ذكرنا

(آسف: هذه المسودة كتبت فى عجالة شديدة قبيل الاجتماع مباشرة)

بدون عنوان-10

 

[1] – كنت أزمع أن أثبت فى هذه المقدمة كيف مثلت لى هذه الدورية حلما، لم أكف عن المطالبة بتحقيقه في كل مناسبة عند كل مسئول، حتى رحت  أوصله  للرأى العام، وليس فقط للمسئولين لكننى فضلت أن أثبت هذا التاريخ فى ملحق لهذا الكتاب بالذات، كشاهد تاريخى على فضل المثابرة فى محاولة سد دينى – ديننا –  لهذا المصرى العظيم .

[2] – يحيى الرخاوى: “الأسطورة الذاتية: بين سعى كويلهو، وكدْح محفوظ”، دورية نجيب محفوظ، العدد الثانى ديسمبر 2009 (من ص 25 إلى ص 44) مركز نجيب محفوظ والمجلس الأعلى للثقافة.

هذا علما بأن اسهامى فى العدد الأول كان عن بدايات كتابته لأحلام فترة النقاهة حيث كان العدد عن “بداياته”، وقد نشر موجز هذا المقال كمقدمة فى كتابى الذى صدر عن دار الشروق، بعنوان: “عن طبيعة الحلم والإبداع دراسة نقدية فى “أحلام فترة النقاهة” لنجيب محفوظ، الطبعة الأولى 2011، الطبعة الثانية 2015، ففضلت أن أكتفى بنشره هناك.

 

[3]– الأسطورة – بشكل عام– هى جزء جوهرى من تاريخ تطور الوعى البشرى، وقد قامت بدور رائع فى تشكيل هذا الوعى حتى وصل إلى ما هو عليه، ثم كادت تنال جزاء سنمار بإلغائها أو إنكارها أو تشويهها. لن أعرج إلى تجلياتها طوليا. فلن أناقش – بشكل مباشر– علاقتها التاريخية بما نحن فيه الآن عامة، وما آل إليه الدين خاصة، أما الأسطورة الذاتية فهذا موضوع آخر كامن وجوهرى فى كل واحد فينا يختلف عن الآخر اختلاف بصمات الأصابع وعلى قدر ما هى: ذاتية هى ممثله لثقافة صاحبها، ومن عمق أكثر: لتاريخ نوعه.

[4] – Self actualization

[5] – Self assertion

[6] – حسب توصيات العلمانية المستبعـِدة Exclusive Sercualism

[7] – Intellectualization

[8] – التنصيص من عند المترجم، والخط التحتى من عندى

[9] – الخط الأسفل من عندى

[10] – Silvano Arieti (in) Intrapsychic self:  Self expansion

[11]  – رائد علم النفس: الانسانى أبراهام ماسلو: Abraham Maslow،  ابراهام ماسلو، عالم نفس أمريكي، ولد في بروكلين، نيويورك، ولد فى ١ أبريل، ١٩٠٨، وتوفى فى ٨ يونيو، ١٩٧٠، وقد  قدم ماسلو نظريته في الدافعية الإنسانية Human motivationn حاول فيها أن يصيغ نسقاً مترابطاً يفسر من خلاله طبيعة الدوافع أو الحاجات التي تحرك السلوك الإنساني وتشكّله.

[12] – وليس أن يثبته العلم ممثلا فى “عرفة”

[13] – خشيت منذ البداية أن أتعسف فأسارع بأن أربط بين اسم شيخه واستاذه الثائر الحر اليقظ” الجبيلى” (مغاغة “الجبيلى”) وبين “الجبلاوى”، ثم بينهما وبين دار “الجبل”، (فمن يقبل ذلك الربط فله ذلك).

[14]– هذا كان تحفظى ومازال على “أولاد حارتنا” برغم روعة التشكيل وحبكة إعادة الصياغة.

[15] – رواية العطر: للكاتب الألماني باتريك زوسكيند صدرت سنة 1985، عن دار النشر السويسرية “Diogenes Verlag AG”

[16] – حتى كاد يحدد رمزا غزو العراق واحتلال فلسطين واستغلال موارد كل الدول التابعة

[17] – يحيى الرخاوى: “مقدمة عن: حركية الزمن، “وإحياء اللحظة”، فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ” دورية نجيب محفوظ، العدد الثالث: ديسمبر 2010 (ص 121 إلى ص 141)  مركز نجيب محفوظ والمجلس الأعلى للثقافة. العنوان الفرعى الذى ظهرت به فى الدورية كان “فى إبداع (أحلام فترة النقاهة) نجيب محفوظ”، وعند مراجعتى النص للنشر فى كتاب تعجبت من القوسين حول أحلام فترة النقاهة، فحذفت ما بين القوسين، وإذا بالعنوان يصبح أكثر إيجازاً وتناسبا.

[18] – من الشعر العربى:  تحالف الناس والزمان ..  فحيث كان الزمان كانوا.

[19] – على سبيل المثال لا الحصر: “بداية ونهاية” ثم: “حكاية بلا بداية ولا نهاية”، وكأنه خاف ان ننسى أنه تجاوز بنا ما اعتدناه من أن لكل بداية نهاية، وأن كل نهاية كان لها بداية، ثم خذ عندك: “الباقى من الزمن ساعة”، وأيضا “حديث الصباح والمساء”، ثم إن تواتر عناوين رواياته المسماة بأسماء الاماكن: خان الخليلى – القاهرة 30 (أو الجديدة) – “زقاق المدق” بين القصرين – قصر الشوق- السكرية – ميرامار – قشتمر.. إلخ، كلها لا تشير إلى الأماكن منفصلة عن زمنها.

[20] – حسين حمودة:  “في غياب الحديقة (روايات نجيب محفوظ) سنة النشر 2007

[21] – يحيى الرخاوى: “دورات الحياة وضلال الخلود: ملحمة الموت والتخلق فى الحرافيش” مجلة فصول المجلد التاسع، العدد الأول والثانى سنة 1990، ثم تم تحديثها فى الكتاب “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة العامة للكتاب 1992.

[22] – يحيى الرخاوى، مجلة فصول- المجلد الخامس – العدد (2) سنة 1985 ص (67 – 91) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها  فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”، الفصل الأول، المجلس الأعلى للثقافة، 2007

[23] – قسم الطب النفسى كلية الطب قصر العينى، المرضى من عامة الشعب، والعلاج علانية، وبالمجان فى حلقات مفتوحة مع متدربين ومشاهدين مشاركين فى النقاش تحت مسئوليتى وبموافقة الجميع وإذنهم، كل مجموعة من 8 إلى 12 مشاركا غير المتدربين (ثلاثة)، ولمدة عام كامل، وهكذا.

[24] – مع استبعاد الأمراض النفسية والعقلية المسماة “العضوية” مثل الأمراض الناتجة عن نقص خلقى أو ضمور أو أورام …مثل (العته، والحمى والتسمم).. الخ.

[25] – أنظر هامش رقم (22)

[26] – وقد تكاملت مع أساسيات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى المرتبط بالنيوروبيولوجيا الأحدث

[27] – “الريم” الريم هو اللفظ الذى نحته المرحوم أ.د. احمد مستجير من الحروف الانجليزية REM اختصاراً لـ Raped Eye Movement.وقد فضلت استعماله عن لفظ آخر سبق أن اقترحته وهو  “نعس” نحتاً من: ” نوم حركة العين السريعة” حيث أننى وجدت لفظ د.مستجير أسهل وأوضح برغم عدم إقرارى المبدأ الذى استند إليه، وهو أن نـأخذ الحروف العربية المقابلة لاصوات الحروف الأولى من الأصل الإنجليزى  REM، ومع ذلك فهى فكرة رائعة اضطررت لقبولها لسهولة النطق، ولفرحتى بإثراء العربية، فقد آن الأوان.

[28] – أمكن تحقيق هذا الفرض للشخص العادى فى محاولة تجريبية فى إحدى جلسات العلاج الجمعى، انظر أيضا  الفصل السابع، ص 228 فى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”

[29] – يحيى الرخاوى “رأيت فيما يرى النائم” ص (103 – 136)  مجلة الإنسان والتطور، عدد أكتوبر، 1983، ثم فى كتاب “قراءات فى نجيب محفوظ”الهيئة العامة للكتاب، الطبعة الثالثة، 2017.

[30] – يحيى الرخاوى، “قراءات فى نجيب محفوظ”، الهيئة المصرية للكتاب، 1992، الطبعة الثالثة، 2017

[31]‏يحيى ‏الرخاوى “‏قراءة‏ ‏فى ‏أصداء‏ ‏السيرة‏ ‏الذاتية‏”  ‏الإنسان‏ ‏والتطور‏ ‏أعداد‏ (‏عدد‏ 61 – ‏إبريل‏ 1998 ‏وعدد‏65-66 ‏إبريل‏ 1999 ‏وعدد‏ ‏إبريل‏ 1994 ‏وعدد‏ 60 ‏يناير‏ 1998 ‏وعدد‏ 59 ‏آكتوبر‏ 1997 ‏وعدد‏ 62 ‏يوليو‏ 1998)، وهى التى صدر الجزء الأول منها فى كتاب “اصداء الأصداء” المجلس الأعلى للثقافة 2006.

[32] – يحيى الرخاوى، “عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية: أحلام فترة النقاهة، دار الشروق 2011.

[33] – يحيى الرخاوى، مجلة إبداع عدد يناير – مارس، 2002 

[34] – يحيى الرخاوى، مجلة وجهات نظر، عدد يناير، 2003

[35] – انظر الهامش رقم (29)

[36] – يحيى الرخاوى، مجلة الهلال، عدد مارس 2005.

[37] – يحيى الرخاوى، “أصداء الأصداء”، تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ)، المجلس الأعلى للثقافة، 2006، ص87

[38] – يحيى الرخاوى، استحالة‏ ‏الممكن‏، ‏وإمكانية‏ ‏المستحيل، الحنين‏ ‏إلى ‏الرحم‏: ‏وجدل‏ ‏الآخر‏ (‏الموضوع‏)!!‏ فى: “‏يقين‏ ‏العطش” ‏إدوار‏ ‏الخراط،  دراسة لم تنشر، وإن ألقى موجزها فى جمعية النقد الأدبى منذ سنوات، وسوف تنشر قريبا فهى تحت الطبع.

[39] – أنظر هامش رقم (22)

[40] – تم إضافة (العادية، دون إبداع) فى إعادة نشر هذه الأطروحة فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”، وذلك حين اكتشفت الفرق بين اليقظة العادية واليقظة أثناء الإبداع.

[41] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”  سنة 1979

[42] – وصل الأمر مؤخرا، ومن خلال خبرات العلاج الجمعى خاصة أن أصبح اهتمامى واقتراحى يرتبط بالثوانى وأجزائها، الأمر الذى تدعم من أبحاث نيوروبيولوجية أحدث.

[43] – انظر هامش رقم (22)

[44]– يحيى الرخاوى، يمكن مراجعة الموضوع بشكل أشمل فى مقال: مفهوم الزمن استلهاما من الممارسة الإكلينيكية والنقد الأدبى لـ يحيى الرخاوى “إشكالية الزمن: فى الحياة والمرض النفسى، والعلاج الجمعى” ص (12 – 22). عدد ابريل – سبتمبر 1998 – مجلة الإنسان والتطور.

[45] – يحيى ‏الرخاوى، “قراءة‏ ‏فى ‏أفيال‏ ‏فتحى ‏غانم “‏الموت‏، ‏الحلم‏، ‏الرؤيا‏ (‏القبر‏/‏الرحم)” ‏(‏ص‏108-136)- عدد‏ ‏يوليو‏ 1983 – مجلة الإنسان‏ ‏والتطور.‏

[46] – يحيى الرخاوى: “جدلية الجنون والإبداع” مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30 – 58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، ونشرت فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” المجلس الأعلى للثقافة، 2007.

[47] – اقتطعت من المتن كما نشر فى الدورية ما فضلت أن أجعله ملحقا لهذه الدراسة حتى لا أقطع السياق، واكتفيت بخلاصة ما وصلت إليه من حوار باشلار لروربنال، وبرجسوت حول حدْس اللحظة فى مقابل انكار الحاضر عند برجسون (انظر المحلق)

[48] – Imprinting

[49] – Association

[50] – Peak Experience

[51] – Unfolding  

[52] – Concretized

[53] – Concretization

[54] – هذا ما جاء بالدراسة الأولى حين كنت أتحدث عن “الوعى بالموت”، وليس عن “وعى الموت”. (حَبَك الوليد دثاره كفنا، وبلا رثاء وسّدوه لحده.. مهدَا، كتبوا عليه بلا دموع: “ما عاش من لم يولد”: يحيى الرخاوى، أبو سمبل :  اسوان 23-1-1981)

[55] – Axon Self

[56] – Sandor Rado (1891-1982) Adaptation Psychodynamic

[57] – جاستون بشلار “حدسُ اللَّحظة ” ترجمة: رضا عزوز، عبدالعزيز زمزم، الدار التونسية 1986.

[58] – ندوة “إشكالة الزمن فى الحياة والمرض النفسى والعلاج الجمعى” قدمت فى شهر مارس  1988، الندوة الشهرية جمعية الطب النفسى التطورى.

[59] – يحيى الرخاوى، مجلة الإنسان والتطور، عدد إبريل 1994، ص 120-124

[60] يحيى الرخاوى “مصر فى “وعى محفوظ” عبر قرنين، تتجلى فى: “حديث الصباح والمساء” دورية نجيب محفوظ، العدد الرابع – ديسمبر 2011(ص 268 إلى ص 286) مركز نجيب محفوظ والمجلس الأعلى للثقافة.

[61] – وهو أحد محبى الأستاذ وأصدقائه القدامى: وقد نشر دراسته التى قدمها فى الندوة بعنوان : “قراءة فى حديث الصباح والمساء” مجلة الإنسان والتطور، عدد 69 – 74 (ابريل/يوليو 2000- 2001).

[62] – العنوان كان فى النشر الأول فى الدورية هو “الجغرافية التاريخة والإبداع” وقد أضفت كلمة البيولوجية لأنها الأقرب إلى ما أريد

[63] – يحيى الرخاوى “قراءات فى نجيب محفوظ”  الهيئة المصرية العامة للكتاب،1992، صدرت الطبعة الثالثة مواكبة لصدور هذا العمل 2017 من منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.

[64] –  حين كتبت عن تعريف مصطلح “الجغرافيا التاريخية”، وجدت أن أغلب التعريفات لا تحتوى ما أريد، وحين أضفت إليه كلمة البيولوجية أرتحت لهذه الحضور الآنى المسجل فى الدنا DNA كما ذكرت.

[65] – يحيى الرخاوى “القتل بين مقامى العبادة والدم فى ليالى ألف ليلة”  نشرت‏ ‏فى “الإنسان‏ ‏والتطور”‏عدد يوليو”1984، ثم نشرت فى كتاب “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة العامة للكتاب 1992، والذى صدرت منه الطبعة الثالثة هذا العام 2017

[66] – يحيى ‏الرخاوى: “‏إشكالية‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏والنقد‏ ‏الأدبى” ص‏41 ‏المجلد‏ ‏الرابع‏، ‏العدد‏ ‏الأول مجلة فصول (1983).

[67] – كما بلغنى من كل مشاهديه، فأنا لم أشاهده، ربما قصدا حتى لا يتداخل مع تشكيلى الناقد له.

[68] – مما ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏بعض‏ ‏الاتجاهات‏ ‏الأحدث‏ ‏لطبيعة‏ ‏الذاكرة‏ ‏وتصنيفاتها فيما يمكن أن نتعرف عليه من نموذج الهولوجرام للتصوير والتسجيل.

[69] – مع تواصل عملى فى العلاج الجمعى، وبالذات ألفتى مع تخليق الوعى الجمعى Collective Consciousness، توازيا مع قراءاتى المتواضعة فى العلم المعرفى العصبى، وبالذات فى الوعى البينشخصى، والوعى الجمعى، ظهرت لى إضافات جوهرية عن وجود  الذاكرة فى الجسد أيضا، ثم فى المحيط حولنا كذلك، ثم فيما لا ندرى، وقد طوّر روبرت شيلدريك Rupert Sheldrake هذه الفروض – دون أن يعزوها إلى العلاج الجمعى – تطويرا بدا لى مفزعا لغرابته، لكنه أفادنى وأكد لى ما لاحظته فى هذا العمل وصاحبه.

[70] – انظر هامش (21)

[71] –  انظر هامش رقم (63)

[72] – انظر هامش رقم (63)

[73] – وكم‏ ‏آسف‏ ‏حين‏ ‏أشاهد‏ ‏أحيانا‏ ‏من‏ ‏يستغل‏ ‏سماحه‏ ‏المطلق‏ ‏فى ‏تحويل‏ ‏نصوصه‏ ‏إلى ‏مسلسلات‏ ‏أو‏ ‏أفلام‏، ‏فيأخذ‏ ‏اسمه‏ ‏ثم‏ ‏يضيف‏ ‏وينقص‏ ‏وينقل‏ ‏ويحذف‏ ‏حتى ‏يدخل‏ ‏به‏ ‏إلى ‏غير‏ ‏موقعه‏، ‏جغرافيا‏ ‏وطبقيا‏، ‏بشكل‏ ‏مشوه‏ ‏ومخل‏ ‏بلا‏ ‏مبرر. كما حدث فى مسلسل “حكاية بلا بداية ولا نهاية” كما بلغنى (لم أشاهده)، ثم أعود أحترم سماحة وعزوفه عن التدخل وأحاول أن أتعلم منه ولا أستطيع إلا قليلا!،  ومع ذلك فعلىّ أن أعترف أن تحويل هذه الرواية إلى مسلسل بجهد  وإبداع المرحوم محسن زايد ، كان جيدا ومناسبا، وقد بلغ ذلك محفوظ وأثلج صدره.

[74] –  يحيى الرخاوى: “حديث الصباح والمساء”‏ يكشف: جدل الإنسان المصرى مع ثوراته عبر قرنين”  دورية نجيب محفوظ – العدد الخامس  ديسمبر 2012 (ص 26 إلى ص 42) مركز نجيب مفحوظ والمجلس الأعلى للثقافة.

[75] – د. السيد نجم “المقاومة والحرب في الرواية العربية” سلسلة كتاب الجمهورية، 2005.

[76] – غالى شكرى  “المنتمى دراسة فى ادب نجيب محفوظ” مكتبه الدراسات الادبية، دار المعارف، 1969.

[77] – يصلنى أحيانا “الشعر الثورة” على أنه “الشعر الفعل”، فالشعر حين يكون شعرا يصبح كيانا حركيا فى ذاته وليس فقط كيانا محرّكا.

[78] – الفصل السابق، ص 75

[79] – مثلا:  محمود أمين العالم فى “تأملات فى عالم نجيب محفوظ” الهيئة العامة المصرية للتأليف والنشر 1970.

[80] – مثلا: مصطفى عبد الغنى ” نجيب محفوظ الثورة والتصوف” الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2002،

[81] – مثلا: رجاء النقاش ” نجيب محفوظ صفحات من مذكراته واضواء جديده على ادبه وحياته” مركز الاهرام للترجمة، 1998.

[82] – التنصيص من عندى.

[83] – إلا بُعَيْد هزيمة 5 يونيو 67 ونصر أكتوبر 73

[84] – سبقت الإشارة إليهما (انظر هامش رقم (80).

[85] – ومن كتابة هذا المقال نوفمبر 2012

[86] – يحيى الرخاوى: “تشكيلات الخلود بين “ملحمة الحرافيش”، و”حـضرة المحترم” دورية نجيب محفوظ، العدد السادس:  ديسمبر 2013 (ص 143 إلى ص 161) مركز نجيب محفوظ والمجلس الأعلى للثقافة.

أضفت إلى العنوان الذى ظهر بالدورية “وأوهام اللانهائية” التى تميز بها حضرة المحترم، لأميز بينها وبين تشكيلات الايجابية والسلبية فى ملحمة الحرافيش.

[87] – انظر هامش (21)

2- سوف أرمز للصفحات كالتالى: (ص.م.) أعنى بها صفحة كذا من “ملحمة الحرافيش، أما (ص. ح:) فأعنى بها الصفحة من حضرة المحترم.

[88] – ظهرت أول طبعة لرواية حضرة المحترم سنه 1975 وبعدها مباشرة ظهرت أول طبعة لملحمة الحرافيش سنة 1977 فهل لهذا التتابع معنى خاص؟

[89] – محمد اسيورتى، مجلة فصول –  المجلد السادس – العدد الثالث 1986 (ص 135 – 161): “أنسنة السرد الإيديولوجى”، شدتنى دراسته فى البداية أثناء كتابة نقدى الأول إلا أنه أزعجنى أكثر مما أضاف إلىّ، وكان من أغرب ما ورد فيه وصايته على النص حين يأخذ – مثلا – على الكاتب تركيزه: “‏على ‏شخصية‏ ‏واحدة‏”، ويضيف: “وكان‏ ‏ينبغى ‏الاهتمام‏ ‏بجميع‏ ‏الشخصيات‏ ‏وأن‏ ‏تظهر‏ ‏بالتساوى ‏مع‏ ‏الشخصية‏ ‏…. ‏فحضور‏ ‏شخصية‏ ‏على ‏الدوام‏ ‏وغياب‏ ‏أخرى ‏على ‏الدوام‏ ‏يضعف‏ ‏الصراع‏ ‏والتموقف‏ ‏من‏ ‏الأحداث”!!!الخ.

[90] – إقبال بركة فى نقد “المرأة فى روايات نجيب محفوظ”

وصلنى نقد “إقبال بركة” إنتقائيا ومحدد المعالم فقد حاولتْ أن تكشف بجلاء وجهة نظر نجيب محفوظ فى المرأة فى الحياة عموما ومن خلال الرواية، وكان رصد الناقدة لدور أم حسنى رائعا، وأيضا أعجبنى إلتقاط الناقدة تقديس عثمان للمرأة ضمن ما يقدس فإذا  كانت المرأة هى الحياة، فإن الذى يتخلى عنها ويسىء إليها إنما يتخلى عن الحياة ذاتها، لكننى لا أتفق معها فى أن استعمال القاموس الصوفى كان لخلق المفارقة بين ما يقال، وما يحدث لأننى لا أعتبر مجرد ذكر اسم الله هو من القاموس الصوفى أصلاً.

[91] – نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، 1945،  دار مصر للطباعة

[92] – نجيب محفوظ “دنيا الله: كلمة فى الليل” 1963، مكتبة مصر.

[93] – رشيد العنانى، عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته، 1988، دار الهلال للطباعة.

[94] – لم تصدر فى كتاب ورقى بعد، الرابط (فى شرف صحبة نجيب محفوظ  “الحلقة السادسة” نشرة 14-1-2010www.rakhawy.net

[95] – التى أصبحت اعتبرها نوعا من النقد أطلقت عليه اسم “نقد النص البشرى”

[96] – كلمة ضلال هى الترجمة الأفضل لكلمة Delusion وقد أصبحت الأكثر استعمالا، والضلال عرض مهم فى معظم الذهانات، وإن كانت الكلمة تستعمل أحيانا فى مجالات أخرى فى وصف بعض أنواع التعصب الأعمى والاغتراب فى أيديولوجيا عنصرية وغير ذلك.

[97] – Basic Mistrust

[98] – ظاهرة الطبع Imprinting تطلق على نوع من التعلم بالتقمص البيولوجى الغائر، وهى قد تكون ضمن برامج البقاء تحافظ على بقاء الأحياء باكتساب أساليب الحفاظ على الحياة منذ البداية، كما أنها قد تتم فى أزمات الإغارة الساحقة على الكيان المستهدف أو مع صدمات الفقد، كما تظهر آثارها فى صورة حيلة نفسية معينة(ميكانزم)  هى “التقمص بالمعتدى” أو فى “طبع أثر المفقود قسرا بيولوجيا” وهذا ما قدرته فى حالة جلال الطفل فى موقف “فقد / طبع” أمه بداخله.

[99] – فى إحدى مراجعاتى لما يسمى عقدة أوديب وضعت فرضا يقول أن النداء يبدأ من الأم والابن يستجيب له، فهو أساسا ليس من الطفل الذكر منافسا أبيه.

[100] – يحيى الرخاوى “الله: التطور: الإنسان: الموت: الله عبر نجيب محفوظ” دورية نجيب محفوظ، العدد السابع:  ديسمبر 2014 (ص209 إلى ص 224) مركز نجيب محفوظ والمجلس الأعلى للثقافة.

[101] –  يحيى الرخاوى: “الشحاذ” نشرت القراءة الأولى فى مجلة الصحة النفسية 1970، ثم فى كتاب حياتنا والطب النفسى، القاهرة، دار الغد 1972. ثم فى “قراءات فى نجيب محفوظ ” الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992، وفى هذا النشر الأخير قام الناقد بنقد دراسته الأولى  بنفسه نقدا قاسيا، عاد فحدّثه وأوجزه فى “قراءات فى نجيب محفوظ”  منشورات جميعة الطب النفسى التطورى 2017، ثم أعاد نقد هذا العمل من جديد فى كتابه تحت الطبع “نقد النقد وأعمال محفوظ”.

[102] – “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” www.rakhawy.net  فى ثلاثة كتب للنشر الورقى، وهى تراجع حاليا حتى وصلت إلى مرحلة “تحت الطبع”

[103] – وقد توقفت بتاريخ 18/8/2016، عند صفحة (250) لأسباب بينتها.

[104] – هذا موجز لمقال كتبته بعد رحيله بعنوان  نجيب محفوظ: حكاية بلا بداية ولا نهاية، ونشر في مجلة العربى الكويتية، عدد ديسمبر 2006 وجاء فيه: “لعل‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏كان‏ ‏يصف‏ ‏نفسه‏ ‏حين‏ ‏أعلنها‏ ‏على ‏لسان‏ ‏أب‏ ‏يخاطب‏ ‏ابنه‏ ‏فى ‏مستهل‏ ‏روايته‏ “‏العائش‏ ‏فى ‏الحقيقة‏” ‏وهو‏ ‏يقول‏”… ‏كن‏ ‏كالتاريخ‏، ‏يفتح‏ ‏أذنيه‏ ‏لكل‏ ‏قائـل‏، ‏ولا‏ ‏ينحاز‏ ‏لأحد‏ ‏ثم‏ ‏يسلم‏ ‏الحقيقة‏ ‏ناصعة‏ ‏هبة‏ ‏للمتأملين‏”. ‏التاريخ‏ ‏الذى ‏يعـنيه‏ ‏محفوظ‏ ‏هنا‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏التاريخ‏ ‏المكتوب‏ ‏فى ‏كتب‏ ‏التاريخ‏ ‏أو‏ ‏وثائقه‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏التاريخ‏ ‏الحى ‏الماثل‏ ‏فى ‏وعى ‏الإنسان‏،. ‏إن‏ ‏تعبير‏ ‏محفوظ‏ “‏كن‏ ‏كالتاريخ‏..” ‏لا‏ ‏يفيد ‏التشبيه‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ وصلنى وهو ‏يحدد‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏التاريخ‏، ‏وكأنه‏ ‏يقول‏ “..‏أنت‏ (‏أنا‏) ‏التاريخ”.

[105] – كل ما ورد فى كتاب “قراءات فى نجيب محفوظ” وقد صدر مواكبا لهذا الكتاب، وأيضا بعض ما جاء فى هذا العمل.

[106] – إرنست هيكل  1919 – 1834 (Ernst Haeckel)  فيلسوف  وعالم أحياء ألماني· قام بتقديم نظريات تشارلز داروين  وطور نظرية حول أصل الإنسان.كان هيكل طبيبا ثم أستاذا لعلم التشريح المقارن و كان من أوائل العلماء الذين اعتبروا ان علم النفس هو فرع من علم الفيزيولوجيا، وهو صاحب نظرية الاستعادة Recapitulation Theory وأن التطور الفردى Ontogeny يكرر التطور الحيوى Phylogeny وهى من أصول  نظريتى التطورية الإيقاعحيوية Evolutionary Rhythmic Theory ، نشرات “الإنسان والتطور” بتاريخ9/2/2016،14/2/2016

[107] – نشرة “الإنسان والتطور”:3-8-2014، “تشارلز داروين “جاب الديب: من بؤرة وعى إيمانه المعرفى” (وليس من “ديله”) www.rakhawy.net، وفى مقالى فى مجلة العربى الكويتى عن محفوظ 2006 وضعت فرضاً يقول: إن محفوظ:‏ ‏إبداعاً وشخصاَ هو‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏المصادر‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تساعدنا‏ ‏للتعرف‏ ‏على ‏أنفسنا‏ ‏تاريخا، وربما حاضرا، ثم أملا فى مستقبل واعد ‏.‏

[108] – قارن العنوان بعنوان الأطروحة الحالية

[109] – “انطلاقا من أننى قمت بنقد العملين نقدا تشريحيا فقرة فقرة، ولم أبدأ بعد فى الدراسة الشمولية لأى منها” إلا فصلا واحدا عن “الطفل فى أصداء  الأصداء” (هامش 4)  نشر كملحق للدراسة التشريحية وكتبته لأبين ما أعنيه بالدراسة الشمولية.

[110] – يحيى الرخاوى: ” نجيب محفوظ: حكاية بلا بداية ولا نهاية” مجلة العربى الكويتى – عدد ديسمبر 2006

[111] – أنظر هامش رقم (21)

[112] – أنظر هامش رقم (110).

[113]– Rupert Sheldrake: The extended mind &  morphic resonance (first published 2009) 

ورابط المحاضرة:

  http://www.youtube.com/watch?v=R2jvhhGS7HQ#t=27

مع العلم بأنى قمت بتفريغ المحاضرة بالعربية فى موقعى الخاص www.rakhawy.net أنظر أيضا  نشرة الإنسان والتطور  19-3-2014، “تحرير العلم من الأموال القذرة”: فى نفس الموقع.

[114] –  يحيى الرخاوى: (السهل والصعب فى السياسه والحب) مقالة الأهرام 30/8/1998 عن كتاب رجاء النقاش “نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته”

[115] – أخذ د.مصطفى عبد الغنى فى كتابه “نجيب محفوظ الثورة والتصوف” مكتبة الأسرة– الهيئة المصرية العامة للكتاب2002، بعض كلامى على أنه دليل على أن نجيب محفوظ كان يعانى من ضعف ذاكرته بدليل أنه لا يتذكر ما كتب (ص 218)، وبما أننى أنا الدكتور الرخاوى فإنى أقر وأعترف أننى كتبت هذا الكلام إعجابا بشجاعة هذا الرجل وأن تساؤله “أنا قلت هذا”!!؟ كان تعجُّبا لا عجزا عن التذكر، وأن ذاكرته كانت أقوى وأكثر شحذا من ذاكرة كل مجالسيه وأما منهم.

[116] – فى حديث نشر لى فى مجلة إبداع العدد الأول، يناير – مارس 2002، “أحلام نجيب محفوظ تعد من قبيل المنامات … أم هى أحلام يقظة؟”، كان السؤال : هل‏ ‏معنى ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏أحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏ ‏ليست‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏أحلام‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏؟

الإجابة: علاقة‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏بطبقات‏ ‏وعيه‏ ‏علاقة‏ ‏وثيقة‏ ‏رائعة‏، ‏لدرجة‏ ‏أن‏ ‏الفصل‏ ‏بين‏ ‏مستويات‏ ‏وعيه‏ ‏وبعضها‏ ‏يصبح‏ ‏تعسفا‏ ‏يحرمنا‏ ‏من‏ ‏سيمفونية‏ ‏إبداعه‏ ‏المتداخلة‏، ‏محفوظ‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏الروائيين‏ ‏الذين‏ ‏أفرطوا‏ ‏فى ‏كتابة‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏تيار‏ ‏الوعى، ‏أو‏ ‏أدب‏ ‏الحلم‏،…… ‏‏ولعل‏ ‏تجربة‏ ‏محفوظ‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏‏ ‏هى ‏محاولة‏ ‏للتزاوج‏ ‏بين‏ ‏أدب‏ ‏الأسطورة‏ ‏وأدب‏ ‏الوعى ‏الآخر‏، ‏أو‏ ‏دعنا‏ ‏نتقدم‏ ‏لنسميه‏ ‏أدب‏ ‏تعدد‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى‏”. ‏

[117] – مثلما قيل عن شخوص فى:  المرايا & حكايات حارتنا & أصداء السيرة: وغير ذلك.

[118] – هذا ما تبينته فى الصفحات الأربع (177، 178، 179، 180) من نشرات كراسات تدريب نجيب محفوظ. www.rakhawy.net.

[119] – هذا – طبعا- فضلا عن أبوته الحانية طول الوقت، فى كل صفحة تقريبا، علما بأننى كتبت هذه العناوين من الذاكرة، دون الرجوع إلى أية صفحة من المائة وثمانين صفحة التى أتممت قراءتها.

[120] – توقفت عن كتابة تداعيات أكثر بتاريخ 18/8/2016، وبينت أسباب ذلك فى نشرة الإنسان والتطور رقم (3275) ، وقد بلغت صفحات ما كتبته حتى توقفت (250) صفحة من الحجم الكبير A4

[121] – نشرة “الإنسان والتطور اليومية” “ملف الإدراك” (من 10/1/2012 حتى 10/3/2013)   www.rakhawy.net

[122] – نشرة “الإنسان والتطور اليومية” “ملف الوجدان” (ومازال ممتدا) www.rakhawy.net

[123] – “هنا” أقصد فى دورية محفوظ.

[124] – جابر عصفور “نقاد نجيب محفوظ”، مجلة فصول – المجلد الأول – العدد الثالث – أبريل 1981.

[125] – ريتشارد موريس “حافة العلم: من الفيزياء “الفيزيقا” إلى “الميتافيزيقا” The Edge of Science، Richard Morris ترجمة مصطفى ابراهيم فهمى،  Crossing the Boundary from Physics to Metaphysics,  الطبعة الأولى 1994

[126] – “الانقراض: ﺠﻴﻨﺎﺕ ﺴﻴﺌﺔ. ﺃﻡ. ﺤﻅ ﺴﻴﺊ” ﺍﻟﻤﺅﻟﻑ: ﺩﺍﻓﻴﺩ ﻡ . ﺭﻭﺏ  ﺘﻘﺩﻴﻡ: ﺴﺘﻴﻔﻥ ﺠﺎ. ى. ﺠﻭﻟﺩ .ﺘﺭﺠمة:  ﻤﺼﻁﻔﻰ ﺇﺒﺭﺍﻫﻴﻡ .المشروع القومى للترجمة – المركز الأعلى للثقافة – 1997 “الذى تبقى من كل الأحياء عبر تاريخ الحياة هو واحد فى الألف وانقرض 999”

[127]–  سوف أعود لحدس محفوظ بكل هذا فى بقية أجزاء هذه الأطروحة، وهنا أكتفى بالتذكرة بأن “عرفه” (العلم) فى نهاية أولاد حارتنا قد أرجع زوجته “عواطف” إلى دارهما (لاحظ الاسم) وهو يبحث عن طريقة علمية لإحياء الجبلاوى.

[128] – نشرة الإنسان والتطور بتاريخ: 8/9/2014، 12/1/2015  Emotionally Processing Mind   فى موقعى www.rakhawy.net

[129] – أنظر نشرة “الإنسان والتطور” 24-8-2014 “التطور والعواطف والعقل البيولوجى”

www.rakhawy.net

[130] –  Robert Langs: “The Evolution of the Emotion-Processing Mind With an Introduction to Mental Darwinism”. Karnac  Books 1996.

[131] – نشرة “الإنسان والتطور” 19-3-2014: “تحرير العلم من الأموال القذرة” www.rakhawy.org

[132]– Daniel C. Dennett: “Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness Daniel C. Dennet”. Published by Basic Books A Member of the Perseus Books Group, 1996.

الكتاب مترجم بعنوان “تطور العقول” وصادر عن “المكتبة الأكاديمية” وترجمة د. مصطفى فهمى إبراهيم، القاهرة –  2003. انظر أيضا نشرة “الإنسان والتطور” 2-1-2008: “أنواع العقول (وإلغاء عقول الآخرين)، الطريق إلى فهم الوعى”.www.rakhawy.org

[133] – مثلا: فريتجوف كابرا: “التصوف الشرقي والفيزياء الحديثة” ترجمة وتحقيق: عدنان حسن، الناشر: دار الحوار – دمشق2006.

[134] – مثلا: بول ديفيز “الاقتراب من الله، بحث فى أصل الكون” ترجمة: منير شريف، مراجعة: عبد الرحمن الشيخ، المركز القومى للترجمة، 2010.

[135] – تناول حسين عيد بعض هذا البعد فى كتابه: “نجيب محفوظ: رحلة الموت فى أدبه” الدار المصرية اللبنانية، 2006، فيما يتعلق بأحلام فترة النقاهة.

[136] – وصدمة أخرى من خيال أرفق فضلت أن أضعها فى الهامش رفقا بنفسى وبالنقاد حيث تصورت ناقدا موسوعيا أمينا يعتقد بصحة كل أو أغلب ما جاء فى “علم الكلام” أو حتى فى “علم الكلام الحديث” وقد خطر له أن يقوم بنقد موقف محفوظ من الله بنفس عنوان جورج طرابيشى “الله فى رحلة محفوظ الرمزية” فماذا يمكن أن تكون النتيجة؟!!

 – [137]أنظر هامش رقم (66).

[138] – ‏عز‏ ‏الدين‏ ‏إسماعيل:‏ “‏التفسير‏ ‏النفسى ‏للأدب‏” ‏دار‏ ‏المعارف (1963)‏. القاهرة‏.

[139] – ‏فرج‏ ‏أحمد‏ ‏فرج‏ “‏التحليل‏ ‏النفسى ‏والقصة‏ ‏القصيرة‏”(1982)  ‏فصول‏ ‏مجلد‏ 2 ‏عدد‏ 4 ‏ص‏175.‏

[140] – ‏سامى ‏الدروبى (1971) ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏والأدب‏: ‏القاهرة‏. ‏دار‏ ‏المعارف‏ ‏ص‏ 120.‏

[141] – مثلا: بدعة التفسير العلمى للقرآن!!

[142] –  أنظر هامش رقم (26)

[143] – يحيى الرخاوى: “الباحث:‏ ‏أداة‏ ‏البحث،‏ ‏وحقله… فى دراسة الطفولة، والجنون” عدد أكتوبر 1980 – مجلة الإنسان والتطور. وأيضا نشرة “الإنسان والتطور” بتاريخ: 20/7/2014، “الباحث والمواجدة والنكوص الإبداعى (فى مجال دراسة الجنون والوجدان).

[144] – سلطة الكنيسة الحاسوبية العليا authority    high-church computationally.

[145] – أنظر هامش  رقم (29).

[146] – مثلا: يحيى الرخاوى: مثلا: عالم الطفولة من ديستويفسكى- حركية العلاقات البشرية جدلا وامتدادا فى الإخوة كارامازوف” فى تبادل الأقنعة “دراسة فى سيكولوجية النقد” هيئة قصور الثقافة – 2006.

– يحيى الرخاوى: “الموت.. ‏الحلم.. ‏الرؤيا ‏(‏القبر‏/ ‏الرحم‏)‏ “أفيال” فتحى غانم” عدد يوليو 1983 مجلة الإنسان والتطور.

 – يحيى الرخاوى “ليل آخر” د. نعيم عطية”  عدد‏ يناير 1984 ‏- مجلة الإنسان والتطور.

   – يحيى الرخاوى “الجنس: قراءة نقدية فى “بيع نفس بشرية” تأليف: محمد المنسى قنديل – مجلة الإنسان والتطور- عدد‏ أكتوبر‏1987/مارس 1988.

[147] – يحيى الرخاوى “حركية الوعى بين الحلم والإبداع (الشعر) والجنون دروس من “أحلام فترة النقاهة”، دورية نجيب محفوظ، العدد الثامن:  ديسمبر 2015 (ص 213 إلى ص 236) مركز نجيب محفوظ والمجلس الأعلى للثقافة

[148] – انظر هامش رقم (31)

[149] – انظر هامش رقم (37)

[150] – أنظر هامش رقم (32)

[151] – يحيى الرخاوى: من نشرة “الإنسان والتطور”: بتاريخ 31/12/2009، صفحة (1) إلى  نشرة “الإنسان والتطور”بتاريخ  3/12/2015 صفحة (215)   www.rakhawy.net

[152] – عدد صفحات التدريب المتاحة بلغ 1050 (ألفا وخمسين) صفحة وصلتُ فى تداعياتى عليها واستلهامى لها حتى الصفحة 215 خلال أكثر من أربع سنوات!!

[153] – Silvano Arieti: (1976) Creativity The Magic Synthesis. Basic Books, Inc. Publishers، New York, p12.-13

[154] – Erik Erickson:  Eight Ages of Man Childhood and Society, London, Paladin, 1977, pp. 75 – 90.

[155]– أنظر هامش رقم (32)

[156] – هذه الكلمة الجديدة “ريم” نحتها المرحوم أ.د. أحمد مستجير لتصف هذا النوم النقيضى Paradoxical وهو نوم حركة العين السريعة Rapid Eye Movement Sleep REM ، الدال على نشاط حـُلمى دورى خاص، وقد قبلتها مرحبا برغم أنها تعريب للاختصار الانجليزى.

[157] – “الحمد لِله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور”

[158] – يحيى الرخاوى “إبداع‏ ‏الحلم ‏وأحلام‏ ‏المبدع” مجلة الهلال – عد مارس 2005،

       – وأنظر هامش رقم (116).

[159]– أعنى ‏بكلمة‏ “‏بيولوجي‏” ‏طوال‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏، ‏المعنى ‏الأشمل‏ ‏للكلمة‏، ‏وهو‏ “‏علم الحياة ‏”، ‏بادئا‏ ‏بما هو دون الجزيئى، شاملا التفاعل البيوكيميائى، ‏حتى ‏الوجود‏ ‏الواعى ‏فى ‏حالة‏ ‏الظاهرة‏ ‏البشرية، وكل هذا شديد الارتباط بما يسمى “النيوروبيولوجيا الأحدث”

[160]– أنظر هامش (27).

[161]– تستعمل‏ ‏كلمتى: ‏المخ‏ ‏ـ‏ ‏الدماغ‏ ‏بالتبادل‏ ‏كمؤشر‏ ‏دال‏ ‏على ‏التركيبة‏ ‏البشرية‏ ‏الرائدة‏، ‏بيولوجيا‏، ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏مترادفة تماما لكلمات‏:‏ ‏الذات‏ ‏ـ‏ ‏الوجود‏ ‏ـ‏ ‏التركيب‏، ‏ذلك لأن لغة‏ ‏هذا‏ ‏المقال‏ ‏تركز‏ ‏على ‏كلية‏ ‏الكيان‏ ‏البشرى، ‏وإن‏ ‏ظلَّ‏ ‏المنطلق‏ ‏المبدئى ‏هو النيوروبيولوجيا والعلم المعرفى الأحدث‏.‏

[162] – أنظر هامش رقم (10) Tertiary Processes

[163]– Converging Synthesis

[164] – أو “أغلبها” إن شئت الدقة.

[165]-.‏ ت‏.‏س‏. ‏إليوت‏ ‏فى ‏م‏.‏ل‏. ‏روزنتال‏: “‏شعراء‏ ‏المدرسة‏ ‏الحديثة” ص 20‏، ‏ترجمة‏ ‏جميل‏ ‏الحسنيى، ‏بيروت‏ (‏مقتطف‏ ‏من‏ ‏محمد‏ ‏فتوح‏) هامش49، هذا وقد سبق مناقشة هذه المقارنات تفصيلا فى أطروحتى الباكرة “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”  أنظر هامش رقم (38).

[166]– يقول‏ ‏البياتى “..‏إن‏ ‏الثورة‏ ‏والإبداع‏ ‏كلاهما‏ ‏عبور‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الموت‏.. ‏حيث‏ ‏الإنسان‏ ‏يموت‏ ‏بقدر‏ ‏مايولد‏، ‏ويولد‏ ‏بقدر‏ ‏مايموت‏”. ‏مفهوم‏ ‏الشعر‏، ‏عبد‏ ‏الوهاب‏ ‏البياتى، ‏تجربتى ‏الشعرية‏، ‏منشورات‏ ‏نزار‏ ‏قبانى، ‏بيروت‏، ‏ص‏30، 31 ‏اقتطفه‏: ‏عز‏ ‏الدين‏ ‏اسماعيل‏: ‏مفهوم‏ ‏الشعر‏ ‏فى ‏كتابات‏ ‏الشعراء‏ ‏المعاصرين‏، ‏فصول‏، ‏المجلد‏ ‏الأول‏، ‏العدد‏ ‏الرابع‏، ‏يوليو‏ 1981

[167]– يحيى ‏الرخاوى. ‏قراءة‏ ‏فى: “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم”‏، ‏الإنسان‏ ‏والتطور‏، ‏المجلد‏ ‏الرابع‏، ‏العدد‏ ‏الرابع‏، ‏ص‏103-136 وأيضا فى (قراءات فى نجيب محفوظ) الهيئة العامة للكتاب عام1992.

[168]– نفسه‏ ‏ص‏119

[169]– نفسه‏ ‏ص‏122،121.‏

[170]– كثيرا‏ ‏ما فعل‏ ‏ذلك‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏فى ‏تحايله‏ ‏على ‏تقديم‏ ‏تاريخ‏ ‏البشرية‏ ‏كما‏ ‏يظنه‏، ‏ولكنه‏ ‏هنا‏ ‏استعمل‏ ‏لغة‏ ‏الحلم‏ ‏بنجاح‏ ‏فائق‏، ‏ولكن‏ ‏لخدمة‏ ‏نفس‏ ‏الفكرة‏ ‏المحورية‏ “‏حكاية‏ ‏مسيرة‏ ‏الحياة‏”.‏

[171]– يحيى الرخاوى “نقد النص البشرى”، أخبار الأدب، 17 فبراير 2013، وأيضا نشرة الإنسان والتطور: بتاريخ 5/7/2015، نشرة 20/9/2015 www.rakhawy.net

[172]– محمود‏ ‏محمد‏ ‏شاكر‏: “‏القوس‏ ‏العذراء”‏. ‏مكتبة‏ ‏الخانجى. ‏القاهرة‏. ‏الطبعة‏ ‏الثانية‏.‏

[173]– وقد وقف جمهرة من النقاد وقفة احترام وتقدير لهذه القصيدة، وكثرت الدراسات حولها، ومن هؤلاء النقاد: الدكتور إحسان عباس، والدكتور مصطفي هدّارة، وزكي نجيب محفوظ، ومحمد محمد أبي موسى..

[174] – على قدر ما أذكر أنه ذكر لى اسم هذا الصديق وهو فرح انطوان صاحب المقتطف.

[175]– مثلا‏: ‏إعتدال‏ ‏عثمان‏ (1984): ‏نحو‏ ‏قراءة‏ ‏نقدية‏ إبداعية ‏لأرض‏ ‏محمود‏ ‏درويش‏، ‏المجلد‏ ‏الخامس‏، ‏العدد‏ ‏الأول‏ ‏ص‏191-211. (‏حاولت‏ ‏القراءة‏ ‏أن‏ ‏تؤكد‏ ‏مقولة‏ ‏أوسكار‏ ‏وايلد‏ ‏أن‏ “‏النقد‏ ‏يتعامل‏ ‏مع‏ ‏الأدب‏ ‏بوصفه‏ ‏نقطة‏ ‏البداية‏ ‏لإبداع‏ ‏تال)

[176] – يحيى الرخاوى: “أطفالنا: بين روح الشعر ونظم الحكمة” عدد مارس – مجلة وجهات نظر – 2005.

[177] – أنظر هامش “29” :  ‏ص‏103-136

[178] – ذكرت ذلك فى نقدى لهذا العمل بعنوان “القتل بين مقامَىْ العبادة والدم فى ليالى ألف ليلة” نشرت‏ ‏فى مجلة “الإنسان‏ ‏والتطور”‏يوليو”1984‏ وأيضا فى كتابى “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة العامة للكتاب سنة 1991‏

[179] – انظر هامش رقم (10)  

[180] – القصة القصيرة من خلال تجاربهم، ص 260، المجلد الثانى – العدد الرابع 1982، مجلة فصول.

– يحيى الرخاوى، حركية الوجود وتجليات الإبداع، جدلية الحلم والشعر والجنون، المجلس الأعلى للثقافة، ص 168،  2007

[181] – نفسه .

[182] – أنظر هامش رقم (38) ، ص 307

[183] – عز الدين اسماعيل، 1981، مفهوم الشعر فى كتابات الشعراء المعاصرين، فصول، المجلد الأول، العدد الرابع، ص50 وأصل المقتطف ورد فى نزار قبانى، قصتى مع الشعر، ص 186 – 187، 1974، بيروت

[184] – نفسه، أدونيس، زمن الشعر، ص 235، 1972، دار العودة، بيروت

[185] – انظر الهامش رقم (37)، ص 303

[186]– محمد سلماوى ، حوارات نجيب محفوظ ، مركز الأهرام للنشر، 2015

[187]– نفسه.

[188] – نشرة “الإنسان والتطور” بتاريخ 13/11/2014 صفحة التدريب رقم (176) الكراسة الأولى.  www.rakhawy.net

[189] – نشرة “الإنسان والتطور” بتاريخ 20/11/2014 صفحة التدريب رقم (177) الكراسة الأولى.  www.rakhawy.net

[190] – وقد تحقق ذلك لاحقا بعد صدور كتاب “حوارات نجيب محفوظ”

[191] – الكلمة ما بين تنصيص هى تقريبية غير مقروءة

[192] – انظر هامش: بتاريخ 18/12/2014 صفحة التدريب رقم (181) الكراسة الأولى..

[193] – انظر هامش: بتاريخ 18/12/2014 صفحة التدريب رقم (181) الكراسة الأولى..

[194]– أنظر هامش (22)

[195] – مرة أخرى إذا صح أن الشعر لا ينقد إلا شعراً، فقد صعبنا المهمة على الناقد بشكل غير جائز، إذ ليس مطلوبا من أى ناقد أن يكون شاعرا بالضرورة، لكن الشاعر ليس بالضرورة هو من يقرض الشعر، وإنما الشاعر هو من يستطيع أن يتلقى أى نص بإبداعه النقدى فيجده شعرا حتى لم يسِّمِه مبدعه كذلك، وفيما يلى عينة من شعر الأستاذ الشاعر محمود شاكر على زائية الشماخ فى قوس ابن عمر:

يقول الشماخ

ـ تَخَّيرَهَا القَوَّاسُ مِنْ فَرْعِ ضَاَلِة *** لَهَا شَذَبٌ مِنْ دُونِها وَحَوَاجزُ

ـ نَمَتْ فيِ مَكَانٍ كنهَا، فَاسْتَوتْ بِهِ، *** فَمَا دُونَها مِنْ غِيلِهَا مُتَلاَحِزُ

ـ فَمازَالَ يَنْجُو كُلَّ رَطبٍ وَيَابِس *** وَيَنْغَلُّ..، حَتَّى نَالـَهَا وَهْوَ بَارِزُ

ـ فأَنْحَى عَلَيْها ذَاتَ حَدّ، غُرَابُهَا *** عَدُوٌّ لأِوْسَاط العِضَاهِ مُشَارِزُ

ـ فَلما اطْمَأَنَّتْ في يَديْهِ..، رَأَى غِنًى *** أحَاطَ بِهِ، وَأَزْوَرَّ عَمَّنْ يحُاَوِزُ

فيقول الشاعر الرائع محمود شاكر نقدا شعرا على شعر ما يلى:

ـ تَخَّيرهَا بَائِسٌ، لَمْ يزل يُمَارِسُ أَمْثَالهَا مُذْ عَقَلْ

ـ تَبَيَّنَهَا وَهْيَ مَحْجُوَبةٌ، وَمِنْ دُونِها سِتْرُهَا المُنْسَدِلْ

ـ حَمَاهَا العُيُونَ فأَخْطَأنَهَا، إلىَ أنْ أَتَاهَا خَبِيٌر عَضِلْ

ـ رَأَى غَادَةَ نُشَّئَتْ في الـظِّلاَل، ظِلالِ النعيِم، فَصَلَّى وهَلّ

ـ فَنَادَتْه مِنْ كِنِّهَا ([195]) فَاسْتَجَابَ: لَبَّيْكِ! [يَاقَدَّها المُعتَدلْ]

ـ سُتُورٌ مُهَدَّلَةٌ ([195]) دُونَهَا، وَحُرَّاسُها كَرِمَاِح الأَسَلْ

[196] – انظر هامش رقم (32)

[197] – مقتطف من كتاب: “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” كتاب إلكترونى، www.rakhawy.net ، لم يصدر بعد فى طبعة ورقة، النص من نشرة “الإنسان والتطور”: بتاريخ 16/12/2010، “فجأة‏ ‏وجدنا‏ ‏أنفسنا‏ ‏فى ‏حديث‏ ‏عن‏ ‏الإبداع‏ ‏وحتم‏ ‏وجود‏ ‏جرعة‏ ‏من‏ ‏الحرية‏ ‏تسمح‏ ‏بالجديد‏ ‏والصريح، ‏ويُبدى ‏مصطفى ‏أبو‏ ‏النصر‏ ‏عدة‏ ‏ملاحظات‏ ‏أهمها‏ ‏أن‏ ‏روسيا‏ ‏لم‏ ‏تنتج‏ ‏أدبا‏ ذا بال ‏منذ‏ ‏قيام‏ ‏الثورة‏ 1917 ‏حتى ‏انهيار‏ ‏الاتحاد‏ ‏السوفيتى، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏هناك‏ ‏غير‏ ‏شولوخوف‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يفعل‏ ‏شيئا‏ ‏إلا‏ ‏تقليد‏ ‏تولستوى، ‏……‏ ‏وكان الأستاذ‏ ‏قد‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏قال‏ ‏لى ‏فى ‏إحدى ‏جلسات‏ ‏الحرافيش‏ ‏ونحن‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏الاقتباس‏ ‏وما‏ ‏إلى ‏ذلك،‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏فى ‏الفكرة، ‏وإنما‏ ‏فى ‏تناول‏ ‏الفكرة، ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏الأفكار‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تدور‏ ‏حولها‏ ‏الأعمال‏ ‏الروائية‏ ‏مثلا‏ ‏هى ‏بضعة‏ ‏أفكار‏ ‏محدودة، ثم‏ ‏يدور‏‏ها‏ ‏ويشكلها‏ ‏الإبداع‏ ‏بأدواته‏ ‏وتنويعاة‏ ‏بما‏ ‏يجعله‏ ‏إبداعا، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏النقاد‏ ‏يسيئون‏ ‏للعمل‏ ‏وللكاتب‏ ‏حين‏ ‏يركزون‏ ‏على ‏المغزى، ‏إن‏ ‏المسألة‏ ‏كلها‏ ‏فى ‏كيفية‏ ‏التناول، ‏كيف‏ ‏يقول‏ ‏الكاتب‏ ‏ما‏ ‏يقول‏ ‏وهو‏ ‏يتناول‏ ‏نفس‏ ‏الفكرة، ‏فمثلا‏ ‏خذ‏ ‏عندك‏ ‏شكسبير‏: ‏فى “‏عطيل”، ‏ماذا‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يقول، ‏أو‏ ‏ماذا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقول، ‏إنه‏ ‏يقول‏ ‏إن‏ “‏الغيرة‏ ‏مهلكة”، ‏وهل‏ ‏هذا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الشعر‏ ‏وهذه‏ ‏المسرحة‏ ‏حتى ‏يقولها، ‏إن‏ ‏أى ‏بائع‏ ‏بطاطا‏ ‏او‏ ‏منادى ‏سيارات‏ ‏إذا‏ ‏سئل‏ ‏عن‏ ‏الغيرة‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يسأل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقولها‏ ‏ببساطة‏ ‏هكذا‏: ‏إن‏ ‏الغيرة‏ ‏مهلكة، ‏أما‏ ‏كيف‏ ‏قالها‏ ‏شكسبير، ‏وكيف‏ ‏يقولها‏ ‏غيره‏: ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الإبداع”‏.‏

[198] – انظر هامش رقم (32)

[199] – يمكن الرجوع إلى الفصل الثانى ثم ما ألحقت به من ملحق للمقارنة بين النقد التقليدى، والنقد الإبداعى.

[200] – حتى حميدة فى زقاق المدق قالوا عنها – تعسفا- إنها مصر!! فما بالك بهذه المباشرة هنا؟

[201] –  “Good Mother Figure Melanie” Object Ration Theory British Analytic School.

[202] – يحيى الرخاوى “دراسة فى  علم السيكوباثولوجى” شرح ديوان “سر اللعبة”، 1979، دار عطوة للنشر، القاهرة.

[203] – نفسه  466

[204] – الفرق بين الموقف البارانوى والموضع البارانوى ليس كبيرا لكن مدرسة العلاقة بالموضوع التى حكت المصطلح تستعمل كلمة الموقع Positions وليس الموقف  Attiude إلا أننى فى استلهامى فكر  لهذه المدرسة لتساير الفكر الايقاعحيوى التطورى فضلت استعمال تعبير الطور البارانوى phase باعتباره طورا، وليس موقفا ولا موقعا نرجع إليه

[205] – نفسه  468

[206]–  نفسه، الفصل السابع

[207] – أنظر هامش رقم “2”

[208] – إضافة كلمة المغناطيسى خطأ شائع فى العربية الحديثه، وقد اضطررت لإثباته مرحليا وما يقابل التنويم المغناطيسى بالانجليزية هو  Hypnosis فقط بلا مغناطيس!!

[209] – وصف أفراد المجموعة بـ “عامه عامة الناس” قصدت لاستعماله لأن المجموعة كانت تمثل: عامة الناس فعلا الذين يعالجون بالمجان فى مسشتفى عام “قصر العينى”، وهم غير متعلمين أو تعليم أغلبهم متوسط لم يتم وبعضهم لا يقرأ، وحتى الذين يقرأون منهم لا يعودون حتى إلى كتبهم المدرسية… فلا شبهة فى تدخل أى خلفية نفسية أو “تحليلية” فى التجربة.

[210] – Emotionally  Processing Mind

[211] – نشر فى مجلة وجهات نظر، عدد أكتوبر 2006، بعنوان أساسى هو “همسة عند الفجر” وكان العنوان الفرعى هو العنوان الذى فضلت أن أعيد به نشر هذا البحث من جديد هنا، كعنوان مستقل كافٍ

[212] – تكرر الاستشهاد بهذا الحوار (ص 141)، لكننى أثبته هنا لأنه ظهر فى هذا المقال فى سياق آخر، ورأيت أن حذفه قد يخل بالتتابع، عذرا.

[213] – الأهرام  18 أكتوبر 1994

[214] – 10 ديسمبر 1993

[215] – يحيى الرخاوى: “دورات الحياة، وضلال الخلود: ملحمة الموت، والتخلق فى الحرافيش” مجلة فصول المجلد التاسع – العددان الأول والثانى – أكتوبر 1990 (ص 155 –  ص 175).

  – يحيى الرخاوى: كتاب “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992.

[216] – يحيى الرخاوى: مقال “إبداع حى <=> حى” الأهرام 30/1/2002

[217] – يحيى الرخاوى: “أصداء الأصداء: تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية “نجيب محفوظ”. المجلس الأعلى للثقافة عام 2006

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *