الرئيسية / الأعمال العلمية / كتب علمية / مستويات الصحة النفسية من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة

مستويات الصحة النفسية من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة

 

مستويات الصحة النفسية

من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة

 

أ.د. يحيى الرخاوى

 

الاهـــداء

‏ ‏

هو هو  إهداء كتابى “حيرة طبيب نفسى”،  أصل هذا العمل؛ وهو:

“إلى ‏زوجتى.. ‏رفيقة‏ ‏الطريق، وأولادى..‏/ على ‏الطريق”‏

‏ يحيى الرخاوى

(12/1972)

 

هل تغيـّر شىء، ولو “بالفراق إلى لقاء”، حتى أغيـِّر الإهـداء؟!

(11/9/1972)

 

استهلال:

إرهاصات الفكرة:

ومعالم النهاية البداية!

يبدو أن حيرتى فى مواجهة المفاهيم التى فوجئت بها منذ بدء ممارسة مهنتى قد بدأت مبكرة تماماً، وحين تجسدتْ حتى كدتُ أتراجع، تقدمت فكتبت فيها ما عنّ لى فى حينه وهو ما تبلور فى كتاب باكر بعنوان “حيرة طبيب نفسى” (نهاية وبداية)([1])، وربما استعرت العنوان من كتاب برنارد شوان “حيرة طبيب”، وهو كتاب شديد القسوة على مهنة الطب عامة، لكنه مفيد.

 بدأت كتابة هذا الكتاب مواكبا لكتابى الثانى “عندما يتعرى الإنسان”([2])، وكان ذلك حول سنة 1970، وظهر كتاب حيرتى سنة 1972، ونفذت الطبعة وقررت ألا أعيد طبعه كاملا، بعد ما اقتنعت أننى تجاوزتُ هذه المرحلة مع احتفاظى بكل ما جاء فيه من حيث المبدأ، ولكننى عدت إليه الآن فرحًا بهذه الذكرى، ورحت أقتطفت منه فصولا بأكملها تذكرنى ببداياتى من واقع الخبرة وعبر التدريس والإشراف والعلاج والمتابعة على مدى نصف قرن تقريبا، وكان العنوان الفرعى للكتاب الأول (1972) هو: نهاية وبداية ([3]) (وليس بداية ونهاية).

منذ ذلك الحين وحيرتى تزداد ولا تنقص، لكنها أصبحت حيرة خلاَّقة تـُـفـَجـِّرُ لى الفرض تلو الآخر، فتتضح بعض الجوانب، وكلما زادت الحيرة أكثر: تولـّدت فروض أرحب من واقع التطبيق فى الممارسة، وتفرعت برغم  استحالة تحقيقها بالمنهج التقليدى للعلم المؤسسى.

حين قررت بعد نصف قرن من بداية هذه الحيرة أن أركــّز على نشر خبرتى فى طبعات ورقية، احتراما للسن، وخشية التقصير فى توصيل أمانة ما وصلنى، أتيحت لى فرصة إعلان أغلب فروضى للكافة، أملا أن يتعهدها معى، أو بعدى، من يرى فيها ما تستحق.

 بعد ما يقرب من نصف قرن، وجدت أن إعادة طبع هذا الكتاب ولو فى طبعة مزيدة ومنقحة، لا يكفى لإضافة ما تجدد، فحرصت على اقتطاف بعض ما جاء فى هذا الكتاب البداية، ليكون علامة على انطلاقاتى إلى ما بعده، لعل فى ذلك ما يفيد فى ترتيب التسلسل التاريخى لفكرى، ومعالم تطوره، واحتمالات تطويره، ثم إنى وجدتها فرصة للنقد أو التصحيح أو إعادة النظر أو العدول، ثم لتوضيح بعض ما جاء فى المتن بأشكال قليلة شارحة أحيانا.

قد‏ ‏لا يهم‏ ‏القارئ ‏غير المختص كيف‏ ‏بدأ‏ ‏الموضوع‏ ‏وكيف‏ ‏تطور‏، ‏ولكن‏ ‏ألا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العرض‏ ‏التاريخى ‏جانب‏ ‏آخر:‏ ‏كأن‏ ‏يعايش هذا القارئ ‏معاناة‏ ‏طبيب‏ ‏نفسى ‏فى ‏ممارسته‏ ‏لمهنته‏ التى بدأت ولم تنته، وكانت من أهم دوافعه لمواصلة محاولات فى كل اتجاه بكل لغة يحاول أن يحذقها؟ نعم قد يهم هذا القارئ أن يتابع مأزق طبيب نفسى، فيصحح بعض فكرته عن هذه المهنة، وهو ‏يحسب‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏خالى ‏البال‏ ‏بالغ‏ ‏الاستقرار‏ ‏والهدوء‏، ‏فيراه من خلال إعلان حيرته من البداية دون أن تنتهى، يراه ‏وهو‏ ‏يمارس‏ ‏إنسانيته‏ ‏فى ‏حيرة‏ ‏إنسان‏ ‏العصر‏‏، ‏وهو‏ ‏يأمل أن يجد حلا أرحم، وأكثر نفعا حتى يكون الغد أحسن‏، ‏والعلم‏ ‏أجدى‏، ‏والخداع‏ ‏أقل‏؟

سوف أبدأ بالعودة إلى فصلين من هذا الكتاب القديم لأسباب سوف أذكرها فى الخاتمة، وذلك بعد إثبات “مقدمته” باعتبارها الفصل الأول للكتاب الحالى.

الفصل الأول:

بدايات الحيرة، وتطورها

 

“كل‏ ‏مذهبين‏ ‏مختلفين‏ ‏إما‏ ‏أن ‏يكون‏ ‏أحدهما‏ ‏صادقا‏ ‏والآخر‏ ‏كاذبا‏، ‏وإما‏ ‏أن‏ ‏يكونا‏ ‏جميعا‏ ‏كاذبين‏، ‏وإما‏ ‏أن‏ ‏يكونا‏ ‏جميعا‏ ‏يؤديان‏ ‏إلى ‏معنى ‏واحد‏ ‏هو‏ ‏الحقيقة‏، ‏فإذا‏ ‏تـُحقق‏ ‏فى ‏البحث‏ ‏وأنعم‏ ‏النظر‏، ‏ظهر‏ ‏الاتفاق‏ ‏وانتهى ‏الخلاف”‏.

ابن‏  ‏الهيثم

 

أنا‏ ‏أعيش‏ ‏فى ‏حيرة‏ ‏منذ‏ ‏زمن‏ ‏طويل‏، ‏شأن‏ ‏أى ‏إنسان‏ ‏يسمح‏ ‏لعقله‏([4]) ‏بالعمل‏ ‏دون‏ ‏خوف معجـِّز‏، ‏إذ‏ْْ ‏لم‏ ‏تنجح‏ ‏كل‏ ‏القيم‏ ‏الموروثة‏، ‏والعلم‏ ‏المطبوع‏، ‏والإجماع‏ ‏أحيانا‏، ‏أن‏ ‏يحولوا‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يظل‏ ‏التساؤل‏ ‏يلح‏ ‏علىّ، ‏فأقبل‏ ‏الشئ ‏وضده‏ ‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمان‏، ‏وبعد‏ ‏ذلك‏ ‏إما‏ ‏أن‏ ‏أرفضهما‏ ‏معا‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏يتفقا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏جديد‏ ‏مثلما‏ ‏حدث‏.‏

وأنا‏ ‏كطبيب‏ – ‏وطبيب‏ ‏نفسى – ‏أعرض‏ ‏حيرتى ‏بأمانة‏ ‏وحذر‏، ‏مدركا‏ ‏صعوبة‏ ‏الطريق‏: ‏لأن‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏ ‏مستحيل، أعرضها بأمانة، ‏وحذر‏ ‏حتى ‏لا أفتح‏ ‏الباب‏ ‏أمام‏ ‏تقويض‏ ‏ماهو‏ ‏قائم‏ ‏قبل‏ ‏أن أحاول أن ‏أقدم‏ ‏البديل‏، ‏حيث لاح لى أن البديل‏ ‏هو‏ “الثورة‏” ‏بكل‏ ‏ما تحمله‏ ‏هذه‏ ‏الكلمة‏ ‏من‏ ‏معان‏، ‏فبالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏لها‏ ‏سمعة‏ ‏طيبة‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏لها‏ ‏كذلك‏ ‏وقعا‏ ‏خاصا‏، ومضاعفات كارثية أحيانا.

أول‏ ‏سؤال‏ ‏يتبادر‏ ‏إلى ‏الذهن‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏السبيل‏ ‏هو‏:‏

لماذا‏ ‏أطرح‏ ‏قضية‏ ‏خاصة‏ ‏بالطب‏ ‏النفسى ‏على ‏القارئ ‏غير‏ ‏المتخصص‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏القضية‏ ‏تبدو‏ ‏شديدة‏ ‏التخصص‏، ‏كما‏ ‏أنى ‏لابد‏ ‏سأتعرض‏ ‏لمناقشة‏ ‏مفاهيم‏ ‏ومصطلحات‏ ‏قد‏ ‏تحوى ‏تفاصيل‏ ‏كثيرة‏ ‏ومحيــِّرة؟

الإجابة‏ ‏صعبة‏.. ‏وربما‏ ‏هى ‏شخصية‏ ‏نوعا‏ ‏ما‏… ‏وقد‏ ‏طرحت‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏وناقشته‏ ‏فى ‏مقدمة‏ ‏كتابى ‏الأول‏ ‏عن‏ “حياتنا‏ ‏والطب‏ ‏النفسي‏”[5]، ‏حيث‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أعقد‏ ‏صداقة‏ ‏بينى ‏وبين‏ ‏القارئ، ‏وحين‏ ‏زادت‏ ‏حيرتى ‏أخيرا‏، ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏خير‏ ‏من‏ ‏يسمع‏ ‏لى ‏ويشاركنى ‏هو‏ ‏القارئ العادى غير المختص،  ‏الذى ‏سعيت‏ ‏إلى ‏صداقته‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏ولقد‏ ‏وجدت‏ ‏أنى ‏بذلك‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أكسر‏ ‏الحاجز‏ ‏الذى ‏يحيط‏ ‏بالطبيب‏ ‏عامة‏، وبالطبيب‏ ‏النفسى ‏على ‏وجه‏ ‏الخصوص‏.. ‏ووجدتنى ‏أقتطع‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏نفسى ‏لأعرضه‏ ‏على ‏القارئ ‏بأمانة‏، ‏وأحمّل‏ ‏كلماتى ‏ما تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تحمل‏ ‏من‏ ‏حب‏ ‏وصدق‏ ‏وأمل‏، ‏راجيا‏ ‏أن‏ ‏يصل‏ ‏بعض‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏عقل‏ ‏القارئ ‏ووجدانه‏، ‏فيصاحبنى ‏على ‏الطريق‏ ‏أو‏ ‏يسمح‏ ‏لى ‏بمصاحبته‏، ‏ووجدتنى ‏قد‏ ‏عقدت‏ ‏صداقة‏ ‏مع‏ ‏القارئ ‏يحق‏ ‏لى ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏أن‏ ‏أعرض‏ ‏عليه‏ ‏ما يعتمل‏ ‏بداخلى ‏هذه‏ ‏الأيام‏، ‏وقبل‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏، ‏حتى ‏ولو‏ ‏كانت‏ ‏هناك‏ ‏تفاصيل‏ ‏تبدو‏ ‏لأول‏ ‏وهلة‏… ‏إلا‏ ‏أنى ‏أراها‏ ‏أقرب‏ ‏إليه‏ ‏مما‏ ‏يتصور‏ ‏المختصون‏.‏

فى ‏تصورى ‏أن‏ ‏القارئ ‏غير‏ ‏المتخصص‏ ‏قد‏ ‏يقبل‏ “ثورة‏” ‏فى ‏الطب‏ ‏النفسى ‏لحاجته‏ ‏إليها‏، ‏فهو‏ ‏صاحب‏ ‏المصلحة‏ ‏الأول‏، ‏والأمر‏ ‏يهمه‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يهم‏ ‏المختصين‏. إن ‏المقاومة‏ ‏العنيفة‏ ‏التى ‏تلقاها‏ ‏أية‏ ‏دعوة‏ ‏جديدة‏ ‏تأتى ‏بادئ ‏ذى ‏بدء‏ ‏من‏ ‏أقرب‏ ‏الناس‏ ‏إليها‏، ‏لأنهم‏ ‏ارتبطوا‏ ‏بمفاهيم‏ ‏ثابتة‏ ‏نظمت‏ ‏طريقة‏ ‏تفكيرهم‏، ‏ووضعت‏ ‏أجوبة‏ ‏لتساؤلاتهم‏.. ‏ارتضوها‏ ‏على ‏ما بها‏ ‏من‏ ‏نقص‏، ‏واحتموا‏ ‏وراءها‏ ‏من‏ ‏مسئولية‏ ‏التفكير‏ ‏والمراجعة‏.. ‏وربما‏ ‏لهم‏ ‏حق‏- ‏أو‏ ‏لهم‏ ‏العذر‏- ‏فما‏ ‏أضنى ‏التفكير‏ ‏الحر والمراجعة‏، ‏وماأسهل‏ ‏التطبيق‏ ‏والمتابعة‏.‏

فإذا‏ ‏نجحتُ‏ – ‏بعرضى ‏هذا‏ ‏الجزء‏ ‏من‏ ‏نفسي‏- ‏أن‏ ‏أوكد‏ ‏أواصر‏ ‏الصداقة‏ ‏التى ‏سعيت‏ ‏إليها‏ ‏جاهدا‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏كتاب‏ ‏ظهر‏ ‏لى‏.. ‏فقد‏ ‏قاربت‏ ‏هدفى، ‏وإذا‏ ‏لم‏ ‏أوفق‏ ‏فقد‏ ‏عرضت‏ ‏مشكلة‏ ‏أحياها‏ ‏منذ‏ ‏زمن‏ ‏طويل‏.. ‏بكل‏ ‏عنفها‏ ‏وقسوتها‏.. ‏ثم‏ ‏إذا‏ ‏بها – ‏فجأة‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ([6]) – ‏تلوح لى وكأن ‏حلها‏ ‏أقرب‏ ‏مما‏ ‏تصورت‏.. ‏مما‏ ‏قد‏ ‏يفتح‏ ‏آفاقا‏ ‏جديدة‏ ‏فى ‏التفكير والبحث‏.

 ‏على ‏أن علىّ أن ‏أعترف‏ ‏أنه‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏شعورى ‏بهذا‏ القديم ‏الجديد‏ ‏واختلافه‏ ‏عما‏ ‏قبله‏، وعن ما بعده ‏ورغم‏ ‏إحساسى ‏ببعض‏ ‏التناقض‏ ‏مع‏ ‏بعض كتاباتى اللاحقة  ‏إلا‏ ‏أنى ‏كلما‏ ‏راجعت‏ ‏ما‏ ‏كتبت‏ ‏خلال‏ ‏سنوات‏ ‏وجدت‏ ‏فيه‏ ‏شيئا‏ ‏من‏ ‏هذا القديم‏ ‏الجديد‏ ‏الذى ‏أعيشه‏ ‏الآن‏، ‏وعموما‏ ‏لم‏ ‏يخلُ ‏مقال أو كتاب أو أطروحة ‏ ‏لى ‏من‏ ‏بعض‏ ‏ملامحه‏، ‏وأتعجب‏، ‏وكأن‏ ‏قلمى ‏يرصد‏ ‏إرهاصات‏ ‏فكرى ‏قبل‏ ‏ولادتها‏( [7]) ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏أدرى ‏بها‏ ‏وأعايشها‏ ‏بهذا‏ ‏الوضوح‏.‏

السؤال‏ ‏التالى ‏مباشرة‏ ‏هو‏:‏

هل‏ ‏سأعلن‏ ‏قيام‏ ‏الثورة‏ ‏وخطتها‏ ‏مرة‏ ‏واحدة‏.. ‏فى ‏هذا‏ ‏المقام‏.. ‏وداخل‏ ‏هذا‏ ‏الحيز؟

الإجابة‏ ‏بالنفى ‏طبعا‏، ‏فهذا‏ ‏مستحيل‏ ‏لأكثر‏ ‏من‏ ‏سبب‏، ‏فالأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تقييم‏ ‏شامل‏ ‏للقديم‏ ‏ومقارنات‏ ‏ومعارضات‏ ‏وعرض‏ ‏حالات‏ ‏وتتبعها‏ ‏إلى ‏آخر‏ ‏هذه‏ ‏القصة‏ ‏المطولة‏ ‏التى قد ‏تستغرق‏ ‏عمرا‏ ‏بأكمله‏، ‏ولكنى ‏هنا‏ ‏أحاول‏- ‏بصراحة‏- ‏أن‏ ‏استغل‏ ‏حسن‏ ‏نية‏ ‏القارئ، ‏وثقته،‏ ‏لأعرض‏ ‏تسلسل‏ ‏أفكارى ‏التى ‏اكتملت‏ ‏منذ‏ ‏وقت‏ ‏قصير‏، ‏والتى ‏حسبت‏ ‏حينذاك‏ ‏أنها‏ ‏ينبغى ‏أن‏ تقال‏‏ ‏ولو‏ ‏بفجاجتها‏ ‏غير‏ ‏المنقحة‏، ‏لذلك‏ ‏فإنى ‏سأكتفى ‏بعرض‏ ‏المشاكل‏ ‏التى ‏نعيشها‏ ‏نحن‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏ونعانى ‏منها‏ ‏الأمرين‏، ‏واعتذر‏ ‏لصيغة‏ ‏الجمع‏، ‏ولكنى ‏أؤكد‏ ‏ابتداء‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏جهل‏ ‏أو‏ ‏قصور‏ ‏أو‏ ‏حيرة‏ ‏هى ‏صفاتى ‏الشخصية‏ ‏التى ‏أدركها‏ ‏بقدر ما أستطيع‏، ‏والتى ‏لا أشرك‏ ‏فيها‏ ‏أحدا‏ ‏سواى ‏من‏ ‏زملاء‏ ‏المهنة‏، ‏فليتفق‏ ‏معى ‏منهم‏ ‏من‏ ‏يشاء‏ ‏فيما‏ ‏يحس‏ ‏بصادق‏ ‏شعوره‏.. ‏أو‏ ‏ليتركوا‏ ‏لى ‏النقص‏ ‏وحدى.

دعونا نقر بالحقيقة القائلة أن أغلب‏ ‏الناس‏ ‏تحسب‏ ‏أن‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏قد‏ ‏وجدوا‏ ‏لكل مشكلة‏ ‏حلا‏ ‏جاهزا‏ ‏مغلفا‏ ‏بورق‏ ‏لامع‏ ‏يضئ ‏الطريق‏ ‏ولايخطئ، ‏فى ‏حين‏ ‏أنهم‏ ‏يحتارون‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏الأمور‏ ‏حيرة‏ ‏صادقة‏ ‏وعميقة‏ إذا ارادوا مواجهة البحث عن الحقيقة دون الاكتفاء بالتسميع والتنفيذ، ‏وكثير منهم -فى حدود ما أعرف- ‏ ‏يحاولون‏ ‏فى ‏كل‏ ‏لحظة‏.. ‏رغم‏ ‏أنهم‏ ‏لاينجحون‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مرة:

 ‏كنت‏ ‏مع‏ ‏استاذى ‏الدكتور‏ ‏عبد‏ ‏العزيز‏ ‏عسكر‏ ‏منذ‏ ‏بضعة‏ ‏أشهر‏ ‏أساهم‏ ‏فى ‏استشارة‏ ‏بشأن‏ ‏شاب‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المجموعة‏ ‏التى ‏نقابلها كثيرا هذه الأيام (وكل الأيام)‏، ‏وهى ‏فئة‏ ‏الشباب‏ ‏المتفوق‏ ‏أشد‏ ‏التفوق‏، ‏المهذب‏ ‏أعظم‏ ‏الأدب‏، ‏المثالى ‏الهادئ ‏المطيع‏، ‏الذى ‏يصل‏ ‏إلى ‏سَنـَةً‏ ‏معينة‏ ‏من‏ ‏مراحل‏ ‏دراسته‏، ‏وبدون‏ ‏أى ‏سبب‏ ‏ظاهر‏ ‏يبدأ‏ ‏فى ‏التعثر‏ ‏فالتدهور‏، ‏قال‏ ‏أستاذى ‏ونحن‏ ‏ننزل‏ ‏الدرج‏ ‏من‏ ‏عند‏ ‏زميلنا‏ ‏الداعى ‏إلى ‏الاستشارة‏ “… ‏ماأسخف‏ ‏كل‏ ‏هذا‏… ‏ولد‏ ‏ممتاز‏ ‏بهذا‏ ‏المستوى‏.. ‏ينهار‏ ‏أمامنا‏ ‏هكذا‏.. ‏ونحن‏ ‏نجتمع‏ ‏وننفض‏.. ‏لانستطيع‏ ‏أن‏ ‏نساعده‏ ‏كما‏ ‏ينبغي‏.. ‏إنه‏ ‏لعار‏ ‏على ‏فرعنا‏ ‏أن‏ ‏يقف‏ ‏مكتوف‏ ‏اليدين‏ ‏أمام مثل‏ ‏هذه‏ ‏المشكلة‏”- ‏واحترمت‏ ‏هذه‏ ‏البذور‏ ‏الثورية‏ ‏التى ‏مازال‏ ‏استاذى – وكان قد تجاوز الستين حينذاك – ‏ينثرها‏ ‏فى ‏شباب‏ ‏على ‏الأجيال‏ ‏التالية‏، ‏يثيرهم‏ ‏حتى ‏يرعوها‏ ‏لعلها‏ ‏تنبت‏ ‏الحل‏، ‏وكان أستاذى هذا‏ ‏هو‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏علمنى ‏الثورة فى مجال المهنة‏، ‏أو‏ ‏قل‏ ‏كان‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏حافظ‏ ‏على ‏الثورة‏ ‏فىّ، ‏فلم‏ ‏يحاول‏ ‏قمعها‏، ‏وقلت‏ ‏له‏ “للأسف‏ ‏نعم‏… ‏فإنى ‏أكاد‏ ‏أقارن‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏بعينها‏.. ‏وأول‏ ‏حالة‏ ‏وُصف‏ ‏فيها‏ ‏مرض‏ ‏الفصام‏ ‏سنة‏ 1860 ‏حين‏ ‏وصفه‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏البلجيكى ‏موريل‏ Morel ‏فى ‏طالب‏ ‏يبلغ‏ ‏من‏ ‏العمر‏ ‏أربعة‏ ‏عشر‏ ‏عاما‏- ‏كان‏ ‏الأول‏ ‏فى ‏امتحاناته‏ ‏دون‏ ‏بذل‏ ‏مجهود‏ ‏كاف‏.. ‏أو‏ ‏بدقة‏ ‏أكثر‏ ‏دون‏ ‏استذكار‏ بالغ.. ‏وبدون‏ ‏أن‏ ‏يشعر:‏ ‏بدأ‏ ‏يفقد‏ ‏بهجته‏ ‏وأصبح‏ ‏حالما‏ ‏ساهما‏.. ‏يميل‏ ‏إلى ‏الانطواء‏، ‏وقد‏ ‏أظهر‏ ‏هذا‏ ‏الشاب‏ ‏حالة‏ ‏من‏ ‏الرفض‏ ‏والكراهية‏ ‏نحو‏ ‏والده‏.. ‏وصلت‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏التفكير‏ ‏فى ‏قتله‏، ‏وابتدأ‏ ‏الصغير يفقد‏ ‏كل‏ ‏ما تعلم‏ ‏بالتدريج‏، ‏وبدت‏ ‏على ‏قدراته‏ ‏العقلية‏ ‏حالة‏ ‏توقف‏ ‏مزعج‏ ‏فبدا‏ ‏كسولا‏ ‏يعلوه‏ ‏الغباء ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏التوقد‏ ‏الذكى ‏الحاد‏ ‏والنشاط‏ ‏السابقين‏، ‏وحين‏ ‏قمت‏ ‏بفحصه‏ ‏خيل‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏فى ‏طريقه‏ ‏إلى ‏حالة‏ ‏من‏ ‏التدهور‏ ‏العقلى ‏لارجعة‏ ‏فيها‏”([8]).

ما أشبه‏ ‏الليلة‏ ‏بالبارحة‏ ‏كما‏ ‏يقولون‏، ‏منذ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مائة‏ ‏سنة‏ ‏وعشر‏ ‏يصف‏ ‏موريل‏ ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏بهذه‏ ‏الدقة‏، ‏ومازلنا‏ ‏نراها‏ ‏هى ‏هى، ‏ونجتمع‏ ‏فى “كونسلتو‏” ‏لصعوبتها‏، ‏ونتبادل‏ ‏الآراء‏، ‏ونكتب‏ ‏دواء‏ ‏يفيد‏ ‏أحيانا‏ ‏فى ‏أول‏ ‏المرض‏.. ‏ولايفيد‏ ‏كثيرا‏ ‏إذا‏ ‏تأخرت‏ ‏الحالة‏.. ‏وهى ‏عادة‏ ‏ما تصل‏ ‏متأخرة‏ لبدايتها‏ ‏التدريجية‏ ‏الخفية‏، ‏ثم‏ ‏ننصرف‏ ‏غير‏ ‏آملين.

هكذا ‏يُلقى ‏أستاذى ‏بعد‏ ‏خبرة‏ ‏تقارب‏ ‏الأربعين‏ ‏عاما‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏هذا‏ ‏التساؤل‏ ‏الثورى، ‏ويعلق‏ ‏بأنه‏ “عار‏ ‏علينا‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏..” ‏نعم‏.. ‏إنه‏ ‏لكذلك‏.‏

أى ‏حيرة‏ ‏نعيشها‏ ‏جميعا‏:‏

وبرغم‏ ‏تقدم‏ ‏الطب‏ ‏الدوائى ‏والعلاج‏ ‏النفسى ‏وغيرهما‏، ‏فمازلنا‏ ‏نقف‏ ‏أمام‏ ‏علامات‏ ‏استفهام‏ ‏تجعلنا‏ ‏نتألم‏ ‏ربما – أحيانا – ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏المريض‏ ‏وأهله‏.. ‏وقد‏ ‏سمعت‏ ‏زملاء‏ ‏صغارا‏ ‏لم‏ ‏يسيروا‏ ‏شوطا‏ ‏طويلا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الطريق‏ ‏بعد‏، ‏يتململون‏ ‏قائلين‏ “إنه‏ ‏لا يمكن‏ ‏أن‏ ‏تستمر‏ ‏الحال‏ ‏هكذا‏، ‏لابد‏ ‏من‏ ‏سبيلٍ آخر‏…. ‏وإلا‏..”، ‏وكنت‏ ‏أفهم‏ ‏أنهم‏ ‏يشيرون‏ ‏إلى ‏التحول‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الفرع‏ ‏من‏ ‏الطب‏ ‏إلى ‏فرع‏ ‏أكثر‏ ‏تحديدا‏ ‏وأقل‏ ‏إلغازا‏.‏

ولكن‏..‏

إذا‏ ‏عـُرِضَ‏ ‏الأمر‏ ‏هكذا‏ ‏على ‏القارئ ‏العادى، ‏ألا‏ ‏يهز‏ ‏ذلك‏ ‏معتقداته‏ ‏فى ‏الطب‏ ‏النفسى ‏والعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏التى ‏نالت‏ ‏من‏ ‏الدعاية‏ ‏والترويج‏ ‏أكبر‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏درجة‏ ‏نضجها؟‏ ‏ألا‏ ‏يعرِّى ‏ذلك‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏أمام‏ ‏المرضى ‏والناس‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏، ‏وهم‏ ‏فى ‏أشد‏ ‏الحاجة‏ ‏إليهم‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏شئ؟‏ ‏ألا‏ ‏يـُضعف‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏الثقة‏ ‏بهم‏ ‏وبما‏ ‏يلقونه‏ ‏من‏ ‏تعليمات‏ ‏أو‏ ‏عقاقير‏ ‏أو‏ ‏نصائح‏ ‏؟‏ ‏أليس‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏الضرر‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏النفع‏‏؟

ولكن‏ ‏لا‏… ‏

الأمانة‏ ‏والصدق‏- ‏مع‏ ‏الناس‏ ‏عامة‏ ‏ومع‏ ‏الأصدقاء‏- ‏المرضى ‏وغير‏ ‏المرضى‏- ‏خاصة‏، ‏هى ‏أقرب‏ ‏الطرق‏ ‏للوصول‏ ‏إلى ‏الحقيقة‏، ‏برغم‏ ‏ما قد يصاحبها‏ ‏من‏ ‏مرارة‏ ‏وألم‏.‏

على ‏أنه‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يؤخذ‏ ‏الأمر‏ ‏بحذر‏ ‏كما‏ ‏فهمت‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏فإذا‏ ‏أنا‏ ‏قلت‏ ‏أن‏ ‏تشخيص‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏ليس‏ ‏حاسما‏، ‏فهذا‏ ‏لا يعنى ‏أن‏ ‏هناك‏‏ ‏ ‏بديل ‏جاهز عن‏ ‏التشخيص‏، ‏وإنما‏ ‏يعنى ‏أننا‏ ‏نسعى ‏إلى ‏وضع‏ ‏أفضل‏ ‏نستطيع‏ ‏فيه‏ ‏أن‏ ‏نسمى ‏الأشياء‏ ‏بأسماء‏ ‏أفضل‏ ‏وأدق‏، أو نصفها بدقة مفيدة أكثر.‏

وإذا‏ ‏أنا‏ ‏قلت‏ ‏أن‏ ‏علاج‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ – كما يجرى غالبا- ‏ليس‏ ‏نوعيا‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحوال‏، ‏وأن‏ ‏معظم‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسين‏ ‏وغير‏ ‏النفسيين‏ ‏يعطون‏ ‏الدواء النفسى‏ ‏دون‏ ‏معرفة‏ ‏مكان‏ ‏وطريقة‏ ‏عمله‏ ‏بالتفصيل أو بشكل نهائى‏، ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏لايعنى ‏أنه‏ ‏لاداعى ‏لتعاطى ‏هذه‏ ‏الأدوية‏ ‏حتى ‏نعرف‏ ‏طبيعة‏ ‏عملها‏، ‏إذ‏ ‏يكفى ‏أن‏ ‏نعرف‏ ‏تأثيرها‏ ‏وفاعليتها‏، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يتيح‏ ‏الفرصة‏ ‏لما‏ ‏لا يقل‏ ‏عن‏ ‏سبعين‏ ‏أو‏ ‏ثمانين‏ ‏فى ‏المائة‏ ‏من‏ ‏المرضى ‏النفسيين‏ ‏لدرجة‏ ‏من‏ ‏التحسن‏ ‏تخفى ‏أعراضهم‏ ‏وتعيدهم‏ ‏للحياة‏ ‏يكملون‏ ‏الطريق‏، ‏أما‏ ‏تفسير‏ ‏لماذا‏ ‏تحسنوا‏ ‏فليأت‏ ‏وقتما‏ ‏يأتى، ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الطب‏ ‏منذ‏ ‏بدأ‏ ‏التاريخ‏، ‏ولايمكن‏ ‏أن‏ ‏نسمح‏ ‏لأنفسنا‏ ‏أن‏ ‏نترك‏ ‏المريض‏ ‏يعانى ‏لمجرد‏ ‏جهلنا‏ ‏بالتفاصيل‏، ‏ولا يمكن‏ ‏أن‏ ‏نشجـِّع‏ ‏المريض‏ ‏على ‏أن‏ ‏يقاوم‏ ‏العلاج الدوائى‏ ‏لأن‏ ‏العلم‏ ‏قاصر‏ عن معرفة آلية فاعليته، ‏بل علينا أن نقر أن‏ ‏إمكانيات‏ ‏اليوم‏ ‏أفضل‏ ‏حتما‏ ‏من‏ ‏إمكانيات‏ ‏الأمس‏، ‏وسوف‏ ‏يتقدم‏ ‏العلم‏ ‏باستمرار‏، ‏وسوف‏ ‏يظل‏ ‏قاصرا‏ ‏باستمرار‏، ‏هذه‏ ‏هى ‏طبيعة‏ ‏الأشياء‏.‏

إن‏ ‏عرض‏ ‏موقف‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏والصعوبات‏ ‏التى ‏يعيشها‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العصر‏ ‏إنما‏ ‏يجعلنا‏ ‏أكثر‏ ‏صدقا‏ ‏مع‏ ‏أنفسنا‏، ‏وقد يحول‏ ‏بيننا‏ ‏وبين‏ ‏التراخى ‏أمام‏ ‏المشكلات‏ ‏الحادة‏ ‏المتراكمة‏، ‏وكل من هذا وذاك يبرر‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏ثورة‏ ‏شاملة‏ ‏نحو‏ ‏علم‏ ‏أكثر‏ ‏تناسقا‏ ‏وثباتا‏، ‏وهو‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏يخفف‏- ‏مرحليا‏- ‏من‏ ‏غلواء‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏التعلق‏ ‏بألفاظ‏ ‏شائعة‏، ‏ولافتات‏ ‏ثابتة‏، ‏يهربون‏ ‏تحتها‏ ‏إلى ‏مخبأ‏ ‏المرض‏، ‏وينتظرون‏ ‏الطب‏ ‏الحديث‏ ‏وكأنه‏ ‏السحر‏ ‏العلمى ‏الذى ‏يخفف‏ ‏الآلام‏ ‏ويحل‏ ‏الصراع‏ ‏بملعقة‏ ‏قبل‏ ‏الأكل‏ ‏أو‏ ‏قرص‏ ‏قبل‏ ‏النوم‏، ‏وهو‏ ‏أخيرا‏ ‏يحَمـِّسُ‏ ‏فريقا‏ ‏من‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏ألا‏ ‏يستكينوا‏ ‏وراء‏ ‏ماهو‏ ‏قائم‏ ‏من‏ ‏تقاسيم‏ ‏ومفاهيم‏، ‏ظانين‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏الإمكان‏ ‏أبدع‏ ‏مما‏ ‏كان‏ ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏ماعليهم هو ‏أن‏ ‏يتبعوا‏ ‏الصف‏ ‏فى ‏نظام‏، ‏بل‏ ‏عليهم‏ ‏أن‏ ‏يحاولوا‏ ‏أن‏ ‏يذيبوا‏ ‏الجليد‏ ‏ويحطموا‏ ‏الأصنام‏ ‏ليصلوا‏ ‏إلى ‏الحقيقة‏.‏

****

ملحق الفصل الأول

وبعد:

ظلت هذه الحيرة معى حتى كتبت ديوانى “أغوار النفس” فتجسدت حيرتى شعرا بالعامية المصرية التى أرى أنها احتوتها وهى تمثل نبض ثقافتنا الشعبية وتـُعرِّى نفس الموقف الذى بدأتُ به ممارستى لمهنتى، بل إننى وجدت أن كل مقدمة هذا الديوان بالعامية هى أكثر ثورية وأشد حيرة مما جاء فى مقدمة هذا الكتاب المعنون بما هو “حيرة”.

القصيدة هى جزء من مقدمة الديوان شعرا بالعامية أيضا، وقد بدأتْ وهى تعلن كيف استقل قلمى (شعرى) عنى ليواجهنى بحيرتى أعمق وأجمل، متماديا فى النقد بشكل لم يقدر عليه كل نثرى بالفصحى، فكان هذا الشعر.

القصيدة: من مقدمة ديوانى “أغوار النفس” ([9])

-1-

كل القلم ما اتقصفكل‏ ‏القلم‏ ‏ما‏ ‏اتقصف‏ ‏يطلعْ‏ لُـه‏ ‏سن‏ ‏جديدْ‏،‏

‏”‏ويـشْ ‏ ‏تعمل‏ ‏الكـلْمـَةْ‏ ‏يَابَـا‏، ‏والقدَرْ‏ ‏مواعيدْ‏”‏؟

خلق‏ ‏القلم‏ ‏مِالعَدَمْ‏ ‏أو راقْ‏، ‏وِ‏.. ‏مَــلاَهَا‏،‏

وانْ‏ ‏كان‏ ‏عاجـِبْنٍى ‏وَجَبْ‏، ‏

‏                ولاّ‏ ‏أتنّـى ‏بعيدْ‏.‏

-2-

بصرَاحَـةْ‏ ‏انا‏ ‏خفْتْ.‏

‏ ‏خـُفتْ‏ ‏منهمْ‏، ‏خفتْ ‏”‏منى‏”، ….‏ خفت‏ ‏منّــا‏.‏

خفتِ ‏مالطوبِ‏، ‏والطماطم‏، ‏والملاَم‏ْْ ‏والتريقهْ‏،‏

خفت‏ ‏مالبيض‏ ‏الممشِّــش‏ْْ، ‏والنكتْ‏، ‏والبحلقهْ‏.

-3-

قلت‏ ‏انـَا‏ ‏مِشْ‏ ‏قدّ‏ ‏قـَلـَـمِى‏.‏

قلت‏ ‏انا‏ ‏يكفينىِ ‏أَلـَمـِى‏.‏

قلت‏ ‏أنا‏ ‏ما‏ ‏لى، ‏أنا‏ ‏اسـْترزَقْ‏ ‏واعيشْ‏،‏

والهرب‏ْْ ‏فى ‏الأسْـَتـذَةْ‏ ‏زيّـُــهْ‏ ‏مافــيش‏ْْ،‏

والمراكزْ‏، ‏والجوايزْ‏، ‏والـَّذى ‏ما‏ ‏بـْيـنِـْتـهيشْ

قلت‏ ‏اخبِّى ‏نفسى ‏جُـوَّا‏ ‏كامْ‏ ‏كتابْ‏.‏

قلت‏ ‏أشـْغـِـلْ‏ ‏روحى ‏بالقولْ‏ ‏والحسابْ‏ْْ.‏

                  والمقابـْلاتْ‏، ‏والمجالسْ

والجماعةْ‏ ‏مخلَّصـِينـْلـَكْ‏ ‏كل‏ ‏حاجـَة‏ْْ،  ‏أَيْـوَهْ‏ ‏خـَالـِص‏ْْ. ‏

‏ ‏بس‏ ‏بـَرْضـَك‏ ‏وانت‏ “‏جالسْ‏”.‏

-4- ‏

قلت‏ ‏أرسمْ‏ ‏نفسـِى ‏واتْـدَكْـتَـرْ‏ ‏وارُصّ‏.‏

قلت‏ ‏أتـفـرَّجْ‏ ‏وِ‏ ‏أَتـْفلسـِـفْ‏ ‏وابــُص‏ْْ.‏

بس‏ ‏يا‏ ‏عالم‏ْْ ‏دا‏ ‏دمْ‏ ‏ولحم‏ ‏حىْ‏.‏أستخبَّى ‏مــنــُّـه‏ ‏فينْ‏ ‏

‏-5-‏

المريض‏ ‏ورّانى ‏نفسي

المريض‏ ‏خلاّنى ‏أتـْلـَمـْلمْ‏ ‏وافَـكـَّـرْ‏.‏

المريض‏ ‏عـَدِّلـِّى ‏مـُخـِّى،‏

نضَّفُهْ‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏واغشْ‏، ‏كانوا‏ ‏فارضينُهْ‏ ‏عليهْ‏.‏

من‏ ‏ملاعيب‏ ‏اللى ‏بايعْ ‏ذمته‏ ‏بـْمعَـَرفـِشى ‏إيـِهْ‏.‏

من‏ ‏شوية‏ ‏آلاتـِـيـَّة‏، ‏والعَـشـَا‏ ‏الـْ‏ “‏أوبـنْ‏ ‏بـُوِفـِيهْ‏”.‏

-6-‏

ييجى ‏صاحْبَك‏ “‏مَـلْط‏” ‏إلا‏ ‏مالْـحـقيقهْ‏،‏ّ

ييجى ‏يزْقُـلـْها‏ ‏فى ‏وشِّى ‏وتـَنُّـه‏ ‏ماشي‏.‏

الأصول‏ ‏إنى ‏أعالجـه‏، ‏واكفى ‏ماجور‏ عالخــبـر‏.‏

‏”‏بكره‏ ‏يعقل‏! ‏بالدواءِ ‏الـمـُعتبرْ‏”.‏

بس‏ ‏والله‏ ‏يا‏ ‏عالَــمْ‏ ‏لمْ‏ ‏قِــدِرْتْ‏.‏

لَـمْ‏ ‏قِدِرت‏ ‏اعمَى ‏بْـنَوَاضْرى،‏

حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏العمى ‏دا‏”‏رَأْسـمـَاَلكْ‏”، ‏

أو‏ ‏كما‏ ‏سـَمـُّـوهْ‏ ‏حديثا‏ “‏مَـشـِّـى ‏حـَاَلكْ‏”،‏

يعنى “‏طـَنّشْ‏، ‏إنتَ‏ ‏مالـَك‏”.ْ‏

‏-7-‏

قلت‏: ‏إعْقَل‏ ‏يا‏ ‏ابْن‏ ‏نـَفـْسِي‏.‏

قلت‏: ‏حاسِبْ‏ ‏ما‏ ‏الـْفـَضـَايحْ‏ ‏والجُرَسْ‏.‏

قلت‏ ‏إدّيها‏ ‏عمَى ‏حيسِى، ‏وزوّد‏ ‏فى ‏الحَرَسْ‏.

نط‏ّّ ‏غَـصـْبـِن‏ ‏عنـِّى ‏ورّانى ‏إنّـى ‏هـُوّه‏.‏

‏ ‏بس‏ ‏جـــُوّهْ‏ !!!‏

قلت‏ ‏أَخطف‏ ‏نظره‏ ‏عالماشى ‏واغَمَّضْ‏ ‏مِن‏ ‏جديد‏،‏

هيـَّا‏ ‏نـَظـْره‏ – ‏واللىّ ‏خَلَقَكْ‏- ‏لم‏ ‏تَنِيـتْها:

-8-‏

بصيت‏ ‏لقيت‏ ‏الزفّه‏ ‏بتلف‏ ‏الضريح‏ ‏لمْ ‏بطّلت‏، ‏

وتقول‏ ‏مـَدَدْ‏!!‏

بـَس‏ّّ ‏الـَعـِـماَمةْ‏ ‏اتـْغـَيـَّرتْ‏:‏

والحاجات‏، ‏هى ‏الحاجات‏ ‏الـمِشْ‏ ‏حاجَاتْ‏.‏

‏-9-‏

الطبيب‏ ‏أصبح‏ ‏مهندسْ‏ ‏للعـُقـَولِ‏ الـَبايْـظَهْ ‏

‏ (‏يعنى .. !!)،‏

واللى ‏برضه‏ ‏اتْصلـَّـحـِتْ‏.‏

‏(‏الطبيب‏ ‏دا‏ ‏هوّ‏ ‏انا‏، ‏مش‏ ‏حد‏ ‏غيرى‏) ‏

اللَّه‏ْْْ ‏عليهْ‏، ‏والسِّتْ‏ ‏بـِتـْمسِّى ‏عليهْ‏!‏

والشاشةْ‏، ‏والواقع‏ْ، ‏خـُلاصـْةِ‏ ‏القـَوْل‏ِِ، ‏مخْـتَـصَرِ ‏الـَكـَلام‏ْْ:‏

آخـِرْ‏ ‏تمام‏ْْ، ‏فـِى ‏حَـلّ ‏مُعـضـِلـَةِ‏ ‏الأنَــــامْ‏:‏

‏”‏لّما‏ ‏كنا‏ ‏نـَحـْنُ‏ ‏فى ‏عصر‏ ‏الـَقـَلق‏ْْ،‏

‏”‏نستعيذ‏ُُ ‏بربّنا‏ ‏مما‏ ‏خلقْ”،‏

يبقى ‏لازْمَـنْ‏ ‏كلنا‏ ‏نعمل حسابنا،

                              و”نـَـدَعِ القلقْ،”!

يعنى نِخـْمـَدْ من سكات، وانْ كان عاجبنا !

‏‏إمّالِ‏ ‏ايـِــهْ‏…‏؟‏!‏      

ثـُمَّ‏ ‏إن‏ّّ ‏اُلأُم‏ ‏لازِم‏ْْ  ‏إِنـّها‏ تراعى‏ ‏عـِيـَالـْهـَا

تبتدي ‏بفك‏ ‏العقد‏ ‏إلـلى ‏فى ‏بالها‏.‏

فلقد‏ ‏ثبت‏ْْ: ‏إن‏ ‏الـعُـَقد‏ْْ “‏وِحـْشـَةْ‏ ‏قوى”!!. ‏

هـَذَا‏ ‏الذى ‏قد‏ ‏أَظـْهـُرُه‏ ‏الـْبـَحـِثِ‏ ‏الـفُلاَنـِى،‏

‏”‏لمّا‏ ‏عدّ‏ ‏التانى ‏ساب‏ ‏الأوَّلانى”.‏

ثم‏ ‏أوْصَى: “أ‏ن‏ْْ ‏يكون‏ ‏الكــل‏ْْ ‏عالْ‏.‏

إذْ‏ ‏لا‏‏بـُدْ‏ ‏انّ ‏الـُكوَيـِّسْ‏:‏

‏ ‏هـُوَّا ‏أحـْسـَنْ مـِالَّذِى مـُا هـُوشْ كُوَيـِّسْ.

                                    إمـَّاِل‏ ‏ايـِهْ؟‏”‏

‏[هذا‏ ‏برنامج‏ “‏عفاف‏ ‏هانم‏”،‏

‏ ‏بـتسأل‏ ‏حضرة‏ ‏الدكتور‏ ‏فلان‏ ]‏

-10-‏

2وساعات‏ ‏أشوفني‏ ‏مـِطـيّباتى ‏مُـعْـتَبـر‏ْْ،‏

آه‏ ‏يا‏ ‏حلاوتـُهْ‏ ‏وهـُوَّا‏ ‏بِيـْلبِّـسْ‏ ‏خـُدُوُده‏ْْ ‏الإبْـتسَامةْ‏،‏

أو‏ ‏لمّا‏ ‏بِيْـشَـَخـْبـَط‏ْْ ‏ويكتبْلَكْ‏ ‏حـُبـُوب‏ْ “‏منع‏ْْ ‏السآمـة‏”، ‏

أو‏ ‏لما‏ ‏يِوْصف‏ ‏حقنة‏ ‏المُـحـَاياة‏ ‏تقوم‏ ‏تمسح‏ ‏مشاعرك

“‏بالسلامة‏”.‏

-11-‏

وساعات‏ ‏أشوفنِى ‏كمَا‏ “‏الأغا‏”‏

بيضحّـك‏ ‏المِـلـَكهْ، ‏ويُستعمَـلْ ‏من‏ ‏الظاهر‏ْْ، و‏بَــسْ‏. ‏

-12-‏

وساعات‏ ‏جنابهْ ‏يلف‏ ‏أحكامو‏ ‏فْ‏ ‏زواق‏،

‏مش‏ ‏أى “‏حاجةْ‏”.‏

يِـفـْـتى ‏كما‏ ‏قاضى ‏الزمان‏ ‏وكأنه‏ ‏جاب‏ ‏المستخبى،

‏ يِـفـْـتى وينصـَح إنّ لازم: هوَّا إنـَّك:

‏”‏لا‏ ‏تخَفْ‏”!ْ! “‏بـطـّلْ‏ ‏سماجة‏”،‏

‏”‏كُـنْ‏ ‏منافقْ‏”، ‏يعنى “‏جامِلْ‏”، “‏مَشِّى ‏حالَك‏”.‏

تبقى ‏ماشى ‏فى ‏السليم‏، ‏مهما‏ ‏جرالكْ‏.‏

والعواطف‏ ‏تـِتـْشـَحـَنْ‏ ‏جوّا‏ ‏العيون‏ْْ ‏زى ‏البضاعـَهْ‏.‏

‏(‏كل‏ ‏ساعةْ‏ ‏نُصّ‏ ‏ساعةْ‏).‏

‏”‏يعنى ‏إيه‏ ‏؟‏!‏؟‏” ‏

‏”.. ‏مشْ‏ ‏مُـهِـمْ‏”.‏

‏-13-‏

والجنازه‏ ‏زفّهْ ‏تـُرقـُصْ‏ ‏عالسـَّرَايـِرْ‏ – ‏

فى ‏البيوت‏ ‏اللى ‏حوالِـيـهـَـا‏ ‏الستاير‏.‏

‏ ‏واللى ‏خايفْ‏ ‏من‏ ‏خيالُهْ‏،‏

اللى ‏خايفْ‏ ‏مـاِلـْعـَسـَاكـِرْ‏.. ‏والرقيب‏،‏

واللى ‏بيوزَّعْ‏ ‏تذاكر‏ ‏يا‏ ‏نصيب‏ْْ، ‏

واللى ‏بيفَرَّق‏ ‏دوا‏ “‏ضـِدَّ‏ ‏الذنوبْ‏”،‏

واللى ‏ماشـى ‏يـشـقّ‏ ‏فى ‏بطانةِ‏ ‏الجيوبْ‏.‏

‏ ‏والعرايضْ‏، ‏والجرايدْ‏،‏

واللىَّ ‏بيرصُّوا‏ ‏الكلامْ‏؛ ‏

‏”‏قفْ‏ ‏مـَكـَاَنكْ‏، ‏أو‏ ‏تــأخـَّر‏ْْ ‏لـْلأِمـَامْ‏”!‏

بخَّرُوا‏ ‏سـِيـْدنـَا‏ ‏الإِمـَامْ‏”‏

‏”‏سرْ‏، ‏بضـَهـْرَكْ‏…”‏

والـَعـَرقْ‏؟‏:……… ‏إلكُـوزْ‏ ‏بـِكـَامْ؟‏.!!!.”

-14-‏

أَمَّا‏ ‏صوره‏ْْ ‏مـُرْعـِبـَهْ‏ ‏يا‏ ‏خـَلـْق‏ ‏هـُوهْ‏.. ‏إلحـَقـُونـِى‏.‏

قـُلـْت‏ ‏غـَلـْطـَانْ‏ ‏والـنـَّبـِى ‏يا‏ ‏نـَاسْ‏ ‏سـِيـُبونـِى‏. ‏

قلت‏ ‏اغـَمَّض‏ ‏تـَانـِى ‏حـَبـَّهْ‏ ‏صـْغـَيـَّرِينْ‏،.. ‏لمْ‏ ‏قِدِرت‏.‏

طب‏ْْ ‏حا‏ ‏فتـَّحْ‏ ‏ليه‏ ‏يا‏ ‏عـَالـَمْ؟‏ ‏هـِيَّا  ‏فُرْجـَةْ‏؟‏! ‏

بصّ‏ ‏لىِ “‏صاحـْبـَك‏” ‏ولعـِّبْـلىِ ‏حواجـْبـُهْ‏، ‏

قال‏: ‏وقِعْت‏،‏

والقلم‏ ‏كـَمّل‏ ‏كإِنى ‏لمْ‏ْ ‏وِقفت‏: ‏

‏-15 – ‏

بقى ‏دى ‏حياتنا‏ ‏يا‏ ‏ناسْ‏، ‏وِآخْرِةْ‏ ‏صبرنا؟

الحياهْ‏ْْ؟‏ ‏نـُقـْعد‏ ‏نـِـحَـكِّـى ‏لبعضـِنـَا‏‏؟‏ ‏

الحياه‏ْْ‏؟‏ ‏نُقْعد‏ ‏نـِحـِسْ‏، ‏نـِبـُصْ‏، ‏يـِتـْهـَيـَّأ‏ ‏لـِنـَا؟‏ ‏

‏ ‏طب‏ ‏واحنا‏ ‏فين ‏”‏دلوقتى‏” ‏حالاً‏ “‏أو‏ ‏هنا‏”؟

دى ‏المركب‏ ‏الماشـْيـَهْ‏ ‏بِلاَ‏ ‏دَفّهْ‏ ‏ولا‏ ‏مـِقـْلاعْ‏ ‏حَاتُشْرُدْ‏ ‏مِنـّنَا‏،‏

واوْعَى ‏الشـُّقـُوقُ‏ ‏تـِوْسـَعْ‏ ‏يا‏ ‏نايم‏ ‏فى ‏الـَعـَسلْ‏، ‏

      لا‏ ‏المَّيهْ‏ ‏تِعْــلَى، ‏تزيد‏ْْ، ‏تزيدْ‏، ‏

‏.. ‏مّيةْ‏ ‏عطَنْ‏، ‏تـِكْسِى ‏الجلودْ‏ ‏بالدَّهْنَنَه‏، ‏

وتفوح‏ ‏ريحتـْها‏ ‏تِعْمِى ‏كلِّ‏ ‏اللـى ‏يحاول‏ْْ ‏يـِتلـِفـِتْ‏ ‏ناحيةْ‏

 “‏لمـِاَذاَ‏”، ‏

أو‏ “‏لمعنى‏” ‏يكون‏ ‏ما‏ ‏جـَاشِى ‏فى‏”‏الكـِتـَابْ‏”،‏

    أو‏ ‏لـِلـِّى “‏جـُوَّه‏”،‏

‏ ‏أو‏ ‏نـَواحـِى “‏ربنا‏”!‏

‏ (‏الرحمهْ‏ ‏يارب‏ ‏العباد‏: ‏إغفرْ‏ ‏لنِا‏).‏

‏-16-‏

واللعب‏ ‏داير‏ْْ ‏ليل‏ْْ ‏نهارْ‏ ‏لم‏ْ ‏يـِنـْقطعْ‏،‏

‏ ‏والسيركْ‏ ‏صـَاحْــبُو ‏واقفْلِى ‏بْيِلفّ‏ ‏العـَصـَا

ويقول‏ ‏بعزّ‏ ‏مـَا‏ ‏فـِيه‏ْْ: ‏أهو‏ ‏دا‏ ‏اللى ‏ممكن‏، ‏واللِّى ‏عاجبهْ‏!‏

‏-17-‏

أنا‏ ‏مش‏ ‏عاجبْـنى ‏هِـهْ، ‏ولازْمَـنْ‏ ‏يِتْحَكَى،‏

كل‏ ‏اللى ‏جارى‏.. ‏لاجْل‏ ‏ما‏ ‏الناس‏ ‏تنتبه‏ ‏قبل‏ ‏الطوفان‏، ‏

للناسْ‏..، ‏لكل‏ ‏الناسْ ‏حا‏ ‏قول:         ‏

رد‏ ‏الجميل‏ ‏للطير‏ ‏بـِيـْنزِف‏ْْ ‏م‏ِِ ‏الأَلـَمْ‏ ‏قـُدَّام‏ ‏عـُيـُونى‏. ‏

قالوا‏ “‏مريض‏” ‏لكنه‏ ‏أستاذ‏ ‏الأساتذة‏ ‏كلهم‏.‏

علّمنى ‏أشـُوفْ، ‏علّمنى ‏أَصـْحـَى‏.‏

علـّمنى ‏ضـَرب ‏النار‏، ‏بكلمة‏ْْ ‏صدق‏ ‏طالعه‏ْْ ‏مولـَّعـَةْ‏.‏

تحرق‏ ‏عبيد‏ ‏الضَّلمة‏ ‏والتفويت‏ ‏وشـُغـْل‏ ‏الهـَمـْبـَكـَةْ‏،‏

وتْنوَّر‏ ‏السكة‏ ‏لإخوانِ‏ ‏الشـَّقـَا‏،‏

للى ‏يـقايسْ‏، ‏ ‏للى ‏يـِحـسْ‏، ‏يـِبـُصْ‏، ‏يـِتـْجـَرَّأْ‏، ‏يـُشـُوفْ‏،‏

للناسْ‏ .. ‏لكلِّ‏ ‏الناسْ‏ ‏حاقـُول‏ْْ؛‏ 

‏-18-‏

دا‏ ‏حق‏ ‏كلِّ‏ ‏النَّاس‏ْْ ‏يا‏ ‏نَاسْ‏.‏

حق‏ ‏اللِّى ‏ورَّانى ‏حقيقتى،‏

‏ ‏حتى ‏لوكاتْ‏ ‏مش‏ ‏حقيقتى،‏

‏[‏الحقيقة‏ ‏انك‏ ‏تدوَّر‏ ‏عالحقيقة‏]‏

دا‏ ‏دِينْ‏ ‏ولازم‏ ‏يندفع‏،‏       

دا‏ ‏دين‏ ‏عليَّا  ‏للى ‏قالـْهالى ‏وما‏ ‏اقدرشِى ‏يـكمـِّل‏،‏

لكنه‏ ‏علـِّمنى، ‏ووصَّانى ‏أوفـِّى ‏الدين‏ ‏لأصحابو‏ ‏الغلابهْ‏،‏

وازاى ‏أنا‏ ‏يا‏ ‏خلق‏ ‏هوه‏ ‏حاحكى ‏وانا‏ ‏غارق‏ ‏لشوشتي؟

حتى ‏ولو‏ ‏ما‏ ‏كاشفشـى ‏منى ‏إلا‏ ‏خيبتي‏. ‏

ما‏ ‏قدرتش‏ ‏اسكت‏، ‏دا‏ ‏السكات‏ ‏يبقى ‏خيانة‏ ‏للى ‏كان‏. ‏

‏ ‏هو‏ ‏انا‏ ‏ناقص‏ ‏رجل‏، ‏ولا‏ ‏ماليش‏ ‏لسان‏ ‏؟‏ ‏

‏-19-‏

أنا‏ ‏رايح‏ ‏اقول‏ ‏كلِّ‏ ‏اللى ‏عارفُهْ‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏جانِى ‏الفِقِى مــدِّدْنِى

‏فى ‏الفَلَكَهْ‏ ‏وقطَّعْ‏ ‏جِتــِّــتِى:‏

إنْ‏ ‏كنت‏ ‏عايْز‏ ‏تلِعَبِ‏ “‏العَشَرة‏” ‏وتْبقَى ‏الطَّيبَةْ‏؛‏

نكشف‏ ‏وَرَقنَا‏ ‏قبل‏ِِ ‏مَا‏ ‏الوَادْ‏ ‏يِتْحَرَقْ‏،‏

واللَّى ‏يِبَصَّر‏ “‏بالبِنَيَّة‏” ‏يِبْقَى ‏ذَنبِ‏ ‏التَّانىِ ‏عَلَى ‏جَنْبُهْ‏،‏

                                  مَالوشْ‏ ‏يزْعلْ‏ ‏بَقَى‏، ‏مَا‏ ‏كَانْ‏ ‏يشْوفْ‏!‏

ما‏ ‏الِّلعْبِ‏ ‏عالمْكشْوُفْ‏…، ‏أَهُهْ‏ 

-20-

لأَّهْ، مانيِش ساكتْ ودِيِنى وْمذهبى،

حتَّى ولو كان اللِّى “مَاتْ” هواّ اللِّى “عاش”، فى عـُرْفـُكم

لأَّهْ، مانيِشْ مَيِّت حَاعيش:

وســــــَّـــع‏ ‏بقى..!!‏

‏-21-‏

القلم‏ ‏صحصح‏ ‏وِنَطّ ‏الحْرف‏ ‏منُّه‏ ‏لْوَحدُه‏ ‏بِيخزّق‏ ‏عِينَىَّ،‏

وابْتْدا‏ ‏قَلمِى ‏يِجَرّحنى ‏أنا‏.‏

قالِّى ‏بالذمَّة‏ْْ: ‏

‏ ‏لو‏ ‏كنت‏ ‏صحيح‏ ‏بنى ‏آدم‏ْْ،.. ‏بـِـتـْحِسْ‏،‏

والناس‏ ‏قدّامك‏ ‏فى ‏ألـَمُهمْ‏، ‏وفْ‏ ‏فَرَحْتِهُمْ‏،‏

وفْ‏ ‏كسْرتهم‏، ‏وفْ‏ ‏ميلة‏ ‏البخْتٌ‏، ‏

مشْ‏ ‏ترسـِمـْهُم‏ ‏للناسْ‏‏؟‏ ‏الناس‏ ‏التانيه‏ْْ‏؟

إٍللى ‏مِشْ‏ ‏قادْرَهْ‏ ‏تقولْ‏: “‏آه‏”، ‏عَنْدِ‏ ‏الدَّكْتورْ.‏

أصل‏ “‏الآه‏” ‏المودَهْ‏ ‏غاليهْ‏، ‏

‏ ‏لازمْ‏ ‏بالحَجْزْ‏،‏

‏ ‏لازمْ ‏بالدورْ‏.‏

مش‏ ‏يمكن‏ ‏ناسْنا‏ ‏الَغْلبَانَهْ‏ ‏إِللى ‏لِسَّه‏ “‏ما‏ ‏صَابْـهَاشِ‏” ‏الدورْ‏؛‏

‏ ‏ينتبهوا‏ ‏قبل‏ ‏الدُّحْدِيرَةْ‏ – ‏قبل‏ ‏ما‏ ‏يغرقُوا‏ ‏فى ‏الطينْ‏.‏

‏ ‏ولاّ ‏السَّبُّوبه‏ ‏حَاتتعْطَّلْ‏ ‏لَو‏ ‏ذِعْت‏ ‏السِّر‏؟

‏ ‏ولاّ‏ ‏انْتَ‏ ‏جَبَان‏‏؟

‏-22- ‏

بصراحة‏ ‏انا‏ ‏خـُفـْت‏.‏

خفت‏ ‏من‏ ‏القلم‏ ‏الطايح‏ ‏فى ‏الكلّ‏ ‏كـِلـِيلـَهْ

حيقولُوا‏ ‏إٍيه‏ ‏الزُّمَلاَ‏ ‏المِسْتَنِّيَهْ‏ ‏الغلْطَهْ‏‏؟

حيقولوا‏ ‏إيه‏ ‏العُلَماَ‏ ‏المُكْـــنْ

‏(‏بِسْكون‏ ‏عَالْكَافْ‏ .. ‏إِوعَكْ‏ ‏تغْلَطْ‏)‏

على ‏عالِم‏، ‏أو‏ ‏مُتَعَالم‏: ‏بيقولْ‏ ‏كَماَ‏ ‏راجِل‏ ‏الشَّارع

‏-23-‏

القلم‏ ‏اتهز‏ ‏فْ‏ ‏إيدى، ‏

طــلــَّـعْ‏ ‏لى ‏لسانُهْ‏،‏

‏ ‏ما‏ ‏يقولوا‏!!‏:

حد‏ ‏يقدر‏ ‏يحرم‏ ‏الطير‏ ‏من‏ ‏غُـنَـاه‏؟‏!‏

من‏ ‏وليف‏ ‏العش‏، ‏من‏ ‏حضن‏ ‏الحياة‏ْْ‏؟‏!‏

تطلع‏ ‏الكلمهْ‏ ‏كما‏ ‏ربِّى ‏خلقْها‏،‏

تطلع‏ ‏الكلمة‏ْْ ‏بْعَـبلْها‏،‏

تِبْقَى ‏هيـّا ‏الِكْلمة‏ ‏أَصْل‏ ‏الكُونْ‏ ‏تِصَحِّى ‏المِيِّتِيْن‏.‏

والخايفْ‏ ‏يبقى ‏يوسَّع‏ْْ،‏

‏ ‏أَحْسَنْ‏ ‏يطـَّرْطـَش‏، ‏

أو‏ ‏تيجى ‏فْ‏ ‏عينه‏ ‏شرارة‏، ‏

‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏سـَمـَح‏ََ ‏الـلّه

يِكْتِشِفِ‏ ‏انُّه‏ ‏بِيْحِسْ‏.‏

وبعـد:

انتهت القصيدة، ولعلها تعبير أكثر تركيزا يوضح مدى حيرتى وأبعاد موقفى وأيضا استمرار ثورتى، وهذه القصيدة لم تظهر فى الكتاب الأصل طبعا، كتاب “الحيرة”، لأنها كتبت بعد نشره بسنوات عديدة  ، وقد وجدتـُها تحمل ما أردت التعبير عنه فى حيرتى، ربما أكثر من كل ما جاء فى الكتاب، برغم حبى لهذا الكتاب، وعودتى إليه كما ترون.

الفصل‏ ‏الثانى:

تصحيح الأخطاء، وولادة الفكرة

(عن الصحة النفسية)

“إن‏ ‏الشخص‏ ‏السوى ‏الكامل‏ ‏لم‏ ‏يخلق‏ ‏بعد‏… ‏ولكن‏ ‏يقاس‏ ‏الرجل‏ ‏العاقل‏ ‏بالقدر‏ ‏الأكثر‏ ‏والقدر‏ ‏الأقل‏، ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏القدر‏ ‏الأكثر‏ ‏فيه‏ ‏هو‏ ‏قدر‏ ‏العقل‏ ‏وقدر‏ ‏الجنون‏ ‏هو‏ ‏الأقل‏ ‏فيعتبر‏ ‏هذا‏ ‏الرجل‏ ‏عاقلا‏ ‏والعكس‏ ‏صحيح‏” ‏

أبو‏ ‏الحيان‏ ‏البصرى

‏(‏رواها لى‏.. ‏ “نزيل‏” ‏بمستشفى ‏عقلى‏)‏

 

أولاً: تصحيح بعض الأخطاء

“إنما يأتى النجاح من جمّاع: الفضــول، وحب الاستطلاع ، والتركيز، والمثابرة ونقد الذات”

ألبرت أينشتاين

عزفت عن طرح الأمثلة التى جاءت فى مقالى الباكر سنة 1964 فى مجلة الصحة النفسية بعنوان “الفصام فى الحياة العامة” وهو المقال الذى شطحتُ فيه ورحت أعدد أنواعا من الشخصيات، والسلوك لا تحضر العيادة النفسية أصلاً، وتعتبر عادية مائة فى المائة، إلا أنى رصدت فيها ما جعلنى – للأسف – أصفها بالفصام (عنوان المقال!!)، وبرغم نشر هذا المقال فى مجلة شائعة “مجلة الصحة النفسية” إلا أن احدًا لم ينبهنى إلى هذا الخطأ الجسيم فقد رحت أحشر عددا كبيرا من الأسوياء حشرا تحت لافتة “الفصام” بغير وجه حق ومن ذلك: (1) الأب القاسى (2) الأم أو الزوجة السلبية (3) الرجل (أوالشاب) المعتمِد كالرضيع (4) الزوج الغيور حتى من خياله (5) المستغرق فى عمله المغترب (العادى) على حساب كل ما عدا ذلك (6)أحيانا: المبدع (ما بين فترات إبداعه) (7) الحاكم الطاغى وتاجر الحروب (8) ….الخ، كان ذلك كما ذكرت عام 1964، ولم يكن قد مضى على عملى طبيبا نفسيا سوى بضعة أعوام، توقفت خلالها عامين عن ممارسة الطب النفسى انتظارا لتعيينى معيداً، مارست فيهما  مهنة الممارس العام فى إحدى شركات البترول أعالج العمال صباحا وأسرهم مساء، وكان ذلك  فى الفترة ما بين نهاية عملى كطبيب مقيم أمراض نفسية فى قسم الطب النفسى كلية الطب قصر العينى، وبين تعيينى معيدا فى الكلية فى نفس القسم بعد سنتين، وقد شعرت آنذاك أننى أمارس – كطبيب عام – ما تعلمته فى الطب النفسى مع العمال وأسرهم وخاصة الأطفال وأمهاتهم بطريقة وثـَّقت العلاقة بينى وبينهم، وقد استفدت من عملى ممارسا عاما حين اكتشفت أننى إنما أمارس الطب النفسى تحت لافته غير لافته الطب النفسى، ثم إنى حين عدت الآن إلى ذلك المقال الباكر، تعجبت كيف سمحوا بنشره فى مجلة للصحة النفسية، إذ أن أغلب ما جاء فيه من تصنيفات لما اسميته “الفصام فىٍ الحياة العامة” تبينت فيما بعد أنه يندرج تحت ما هو “اضطرابات شخصية” من نوع الاضطراب النمطى للشخصية Personality Pattern Disorder، لكننى استشعرت من خلال ذلك أن رفضى لتصنيف مرضاى امتد لمحاولة توصيف من يسمون أسوياء بنفس ما يتصف به مرضاى وربما أكثر.

رحت فى ذلك المقال أشخـِّص بعض الحكام الطغاة العرب وغير العرب بأنهم فصاميون مهما حاربوا أو انتصروا أو أيدتهم صنايق الانتخابات، وطبعا تراجعت بعد ذلك  تماما عن توصيف أى زعيم أو قائد أو حتى مجرم باسم مرض نفسى بشكل مباشر هكذا، ثم تراجعت عن وصف أى شخص ليس فى محيط مهنتى بمثل ذلك وهذا لأسباب علمية، وأدبية أيضا، وقد أثبت هذا المقتطف هنا رغما عنى، لأننى شعرت كم أخطأت، لكننى اعتبرته دليلا على مدى حماسى لتصنيف العاديين بما نصنـِّف به مرضانا، وبذلك أزيل الحواجز لنحترم مرضانا ونبحث عن حل أخر.

كل هذا الحماس آنذاك برغم أنه يعلن حيرتى لدرجة مبالغتى رفض تصنيف مرضاى بما ألاحظه فى الحياة العامة، أوقعنى فى هذه المغالاة، لكن يبدو أننى لحقت نفسى لأضع مقياس الضرر والإضرار كحد فاصل بين وضع لا فتة المرض أو الامتناع عن ذلك حيث ختمت ذلك المقال قائلا:

‏”وما‏ ‏قصدتُ‏ ‏أن‏ ‏أوضحه‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏كل‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏والعقلية‏ ‏هى ‏التى ‏نقابلها‏ ‏فى ‏المجتمع‏ ‏الصغير المسمى ‏العيادة ‏النفسية‏ ‏والمستشفى ‏العقلى ‏فقط‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏كثيرا‏ ‏منها‏ ‏يعيش‏ ‏فى ‏المجتمع‏ ‏الأوسع‏، ‏وما‏ ‏دامت‏ ‏هذه‏ ‏الأكثرية‏ ‏تعيش‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏تعويض‏ ‏كامل‏ ‏وتـُحقق‏ ‏لنفسها‏ ‏ولمن‏ ‏حولها‏ ‏نجاحا‏ ‏وانتاجا‏ (‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏نوعيته‏) ‏فإن‏ ‏البحث‏ ‏فيها‏ ‏وتقليب‏ ‏أعراضها‏ ‏المرضية‏ ‏يصبح‏ ‏عبثا‏ ‏أو تجاوزا‏، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏أضر‏ ‏مثل هذا الشخص ‏مَن‏ ‏حوله‏، ‏وجعل‏ ‏التبرير‏ ‏ديدنه‏، ‏وتسلطت‏ ‏ذاتيته‏ ‏على ‏المجتمع‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يلجأ‏ ‏إلى ‏استشارة‏ ‏طبيب‏، ‏فإن‏ ‏تبصرة‏ ‏الناس‏ ‏بطبيعة‏ ‏هذا‏ ‏الشذوذ‏ ‏تجعلهم‏ ‏يعملون‏ ‏على ‏اتقائه‏، ‏وذلك‏ ‏باستشارة‏ ‏طبيب‏ ‏وتهيئة‏ ‏الظروف‏ ‏للعلاج‏ إن أمكن، ‏وبهذا‏ ‏تزداد‏ ‏فرصته‏ ‏فى ‏الشفاء‏ ‏نظرا‏ ‏للتبكير‏ ‏فى ‏التشخيص‏ ‏والعلاج‏”.، أو على الأقل يخف ضروره.

تصحيح جديد واجب:

هذه وقد كانت‏ ‏هذه المسألة من أوائل ما واجهتنى ‏فى ‏ممارستى ‏للطب‏ ‏النفسى، ‏وقد‏ ‏حسبت‏ ‏أول‏ ‏الأمر‏ ‏أنها‏ ‏مشكلة‏ ‏خاصة‏، ‏لأنى ‏لم‏ ‏أقتنع‏ ‏بكل‏ ‏ما قيل‏ ‏من‏ ‏مقاييس أحفظهما وأسمِّعها لأنجح فى امتحان ما، لكنها لا تغوص إلى عمق وعيى‏، ‏يبدو أن‏ ‏هذه‏ ‏المشكلة‏ ظلت ‏تؤرقنى ‏طوال‏ ‏هذه‏ ‏السنين‏ ‏حتى ‏اهتديت‏ ‏إلى ‏حلها‏ ‏بتنويع‏ ‏الصحة‏ ‏وتصنيفها‏ ‏وعدم‏ ‏قبول‏ ‏مستوى ‏واحد‏ ‏أو‏ ‏مفهوم‏ ‏واحد‏ ‏لها‏، ‏وقد‏ ‏مرت‏ ‏علىّ ‏قبل‏ ‏ظهور‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏مراحل‏ ‏متعددة‏ ‏سوف‏ ‏أذكر‏ ‏بعضها‏ ‏موجزا‏ ‏كما يلى:

‏‏إن‏ ‏حيرتى ‏إزاء‏ ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏عن‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏الصحة‏ ‏والمرض‏ ‏قديمة‏ ‏جدا‏ ‏بدأت‏ ‏معى ‏منذ‏ ‏بدء‏ ‏اشتغالى ‏بهذا‏ ‏الفرع‏، ‏ولكنى ‏كنت‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أصبح‏ ‏طبيبا‏ – ‏اعتبر ‏ ‏الحرب‏ ‏جنونا‏ ‏صريحا‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أصاحب‏ ‏بعض‏ ‏الذين‏ ‏يقولون‏ ‏عنهم‏ “مجانين‏” ‏وأفهمهم‏ ‏وأحترمهم‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏العقلاء‏ “المرسومين‏” ‏على ‏مكاتبهم‏ ‏أو‏ ‏وراء‏ ‏نياشينهم، ‏وكان‏ ‏انتقال‏ ‏رؤيتى ‏بين‏ ‏هؤلاء‏، ‏وأولئك‏ ‏يزعجنى ‏جدا‏، ‏فأكاد‏ ‏أقلب‏ ‏الوضع‏ ‏وأسمى ‏العاقل‏ ‏مجنونا‏ ‏والمجنون‏ ‏عاقلا‏، ‏غير‏ ‏أن‏ ‏عقلى ‏الطبى ‏المحترم‏ – بعد أن أصبحت طبيبا – ‏أخذ‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يهدينى ‏ويثبت‏ ‏قدمى، ‏لأعود‏ ‏إلى ‏المقاييس‏ ‏التى ‏لم‏ ‏تقنعنى ‏أبدا‏.‏

وفى ‏حماس‏ ‏الشباب‏:  ‏تلفتّ‏ ‏حولى ‏لأرى ‏البنات‏ ‏اللاتى ‏يغمى ‏عليهن‏ ‏فى ‏كل‏ ‏البيوت ‏وكل‏ ‏الأفلام‏ وكثير من الامتحانات، ‏يمارسْن‏ ‏هستريا‏ “مشروعة‏”، ‏تماما مثلما رأيت‏ ‏‏أشد‏ ‏الأمراض‏، ‏وهو‏ ‏الفصام‏ – كما ذكرت-، ‏منتشرا‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العامة‏ ‏انتشارا‏ ‏مذهلا‏ كما ذكرت فى المقال السالف الذكر، ‏‏ ‏وكنت‏ ‏أنوى ‏أن‏ ‏استمر‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السلسلة‏ ‏أكشف‏ ‏اللثام‏ ‏عن‏ ‏سائر‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية ‏المنتشرة‏ ‏بيننا‏ “فى ‏السر‏”، ‏فأكتب‏ ‏عن‏ “الهستريا‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العامة‏”، و”الاكتئاب فى الحياة العامة” إلى ‏آخر‏ ‏تصانيف‏ ‏الأمراض‏، ‏ولكنى ‏لم‏ ‏أتماد‏ ‏فى ‏ذلك‏ والحمد لله، ‏حيث‏ ‏أدركت‏ ‏أنى ‏وقعت‏ ‏فى ‏المحظور‏ ‏الذى ‏يقع‏ ‏فيه‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏بالرغم‏ ‏منهم‏، ‏حين‏ ‏يرون‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏منتشرة‏ ‏انتشارا‏ ‏هائلا‏ ‏بين‏ ‏الناس‏، ‏ولكنها‏ ‏تأخذ‏ ‏مشروعية‏ ‏غريبة‏ ‏لمجرد‏ ‏تماسك‏ ‏صاحبها‏ ‏و‏”تكيـّفه‏”، ‏لكننى ظللت أشعر برفض داخلى لفكرة‏ ‏أن‏ ‏نطلق‏ ‏الأسماء‏ ‏على ‏المرضى‏ ‏دون‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأشد‏ ‏خطرا‏ ‏الذين‏ ‏يمارسون‏ ‏مرضهم‏ ‏خارج‏ ‏الأسوار‏ ‏بصورة‏ ‏سرية‏ ‏ومشروعة‏ ‏فى ‏ذات‏ ‏الوقت‏.

 ‏نعم: ‏انتبهت‏ ‏مبكرا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏انزلقتُ‏ ‏إليه‏، ‏وتوقفت‏، ‏وعدلت‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏تماما‏ ‏حين‏ ‏وجدت‏ ‏أننى ‏قد‏ ‏أهزّّ‏  ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏القيم‏ ‏السائدة‏ ‏والتصرفات‏ ‏المألوفة‏ ‏دون‏ ‏بديل جاهز‏، ‏وحين‏ ‏تطور‏ ‏فكرى ‏أصبحت‏ ‏أرفض‏ ‏تسمية‏ ‏الصديق‏ ‏المريض‏ ‏اسما‏ ‏تشخيصيا‏ ‏معينا‏، ‏فما‏ ‏بالك‏ ‏بالناس‏ ‏فى ‏بيوتهم‏، ‏وهكذا‏ ‏حاولت أن أحقق‏ ‏العدل‏ ‏مع‏ ‏نفسى  ‏ومع أصدقائى المرضى، فإما أن نسمى كل الناس هذه الأسماء بما فيهم المرضى أو نكف عن لصق لافتات تصنيفية تحل محل مرضانا، لكن ظلّ هذا الموقف بينى وبين نفسى، هو هو، لا أجرؤ على إعلانه بهذه الصورة، مع أنه يبين مدى حيرتى أنذاك.

وقد انتبهت إلى أن هذا الموقف الباكر قد ظل معى يتطور طوال نصف قرن (تقريبا) وأنا أقلل بانتظام من أولوية الاهتمام بالتشخيص وأفضل عليه رسم وتخطيط “التركيب النفسى”= النفسـِمـْرَاضيـَّة (السيكوباثولوجى) التى يتميز بها كل مريض عن غيره مهما حمل نفس اللافتة.

ثم أنى انتبهت الآن إلى جذور  الحيرة القاطنة فى فكرى الباكر، حيث أننى انتبهت إلى أن ما دعانى أن أدرج كل هذه الشخصيات والسمات هو أنه قد تحرك بداخلى – دون أن أحدده بعد – معنى غائية الفصام بصفة عامة، فقد اعتبرت كل ما يعيق النمو إعاقة بالغة دائمة هو فصامى، وهذا مفهوم أقرب إلى النفسمراضية منه إلى الأعراض الإكلينيكية المحددة للفصام، حيث قلت حرفيا فى نفس المقال الذى أنقده الآن بقسوة:

‏”… ‏وهناك‏ ‏عرض‏ ‏عام‏ ‏يشمل‏ ‏كل‏ ‏نواحى ‏الشخصية‏ ‏عند‏ ‏المريض‏ ‏الفصامى، ‏ذلك‏ ‏العرض‏ ‏الذى ‏يمكن‏ ‏ان‏ ‏نطلق‏ ‏عليه‏ ‏اسم‏ “الذاتية‏ ‏المطلقة‏” (‏أو‏ ‏إذا‏ ‏شئنا‏ ‏الترجمة‏ ‏الحرفية‏ “التـَّشَخـْصـُنْ” Personalization) ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏يـُعنـَى هذا ‏المريض‏ ‏بحال‏ ‏من‏ ‏الأحوال‏ ‏إلا‏ ‏بما‏ ‏يهم‏ ‏ذاته،‏ ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏ليصبغ‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏حوله‏ ‏بهذه‏ (‏الصفة‏) ‏الشخصية‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يصبح‏ ‏للأشياء‏.. ‏والناس‏.. ‏قيم‏ ‏موضوعية‏ ‏أصلا‏، ‏وإنما‏ ‏تصبح‏ ‏المعانى ‏والقيم‏ ‏مرتبطة تماما ونهائيا  بمدى ‏علاقتها‏ ‏بالشخص‏ ‏نفعا‏ ‏أو‏ ‏ضرا‏ ‏أو‏ ‏إهمالا‏، ‏ومن‏ ‏هنا‏ ‏يمكن‏ ‏تفسير‏ ‏الانطواء‏ ‏وأحلام‏ ‏اليقظة‏ ‏وتبلد‏ ‏الشعور‏: ‏فالانطواء‏ ‏عجزاً‏ ‏عن‏ ‏التكيف‏ ‏الموضوعى،‏ ‏هو‏ ‏انعدام‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏منح‏ ‏عواطفه‏ ‏لأى ‏أحد‏ ‏سوى ‏نفسه‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الظاهرة‏ ‏التى ‏سميت‏ “فقدان أبعاد‏ ‏النفس‏” ‏والتى ‏تعنى ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏لا‏ ‏يدرك‏ ‏الحد‏ ‏الفاصل‏ ‏بين‏ ‏شخصه‏ ‏وبين‏ ‏ما‏ ‏حوله‏، ‏فلا‏ ‏يتعرف‏ ‏على ‏نفسه‏ ‏ككيان‏ ‏قائم‏ ‏بذاته‏ ‏وسط‏ ‏عالم‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏والأشياء‏ – ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏التى ‏حاولوا‏ ‏تفسيرها ‏بفقد‏ ‏الإرادة‏ ‏وعدم القدرة‏ ‏على ‏التحديد‏، ‏أعتقد‏ ‏أنها‏ ‏تعنى أيضا: ‏احتواء‏ ‏العالم‏ ‏وليس‏ ‏فقط فقدان‏ ‏الذات‏، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏العالم‏ ‏أصبح‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏نفسه‏ ‏فلا‏ ‏حدود‏ ‏بينهما‏، ‏وليس‏ فقط  ‏أن‏ ‏نفسه‏ ‏أصبحت‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏العالم‏ ‏فانعدمت‏ ‏الفواصل‏”.

وهكذا تماديت فى تفسير سمات بعض العاديين بنفس مواصفات غائية المرض، وبمراجعة ما كتبته باكرا يتأكد اكتشافى الآن – مرة أخرى – أننى كنت أصف اضطرابات فى الشخصية وليس الفصام، وبالذات الشخصية المعروفة بالشخصية النرجسية، وأن ما وصفته هناك لم يكن له علاقة بالفصام  إلا من حيث غائيته والتي حددتها آنذاك (وحتى الآن) أنها كما ذكرت:  توقف النضج وإلغاء الآخر تماما، فأنتبه إلى خطئى الذى هدانى بعد ذلك إلى التركيز على معنى وغائية كل مرض([10]) ،بما فى ذلك الفصام،  حتى نستطيع أن نعالجه بدلا من الرضا برصّ الأعراض بجوار بعضها لنصل إلى تعليق لافتة تشخيصية بذاتها فوق ذلك الشخص.

ويبدو أننى قد تداركت ما جاء فى المقال من مبالغة فاستدركت فى أول كتاب لاحق لى وهو هذا الكتاب: “حيرة طبيب نفسى” تحت عنوان:

 “بين‏ ‏ثورة‏ ‏الشباب‏.. ‏وتعقل‏ ‏الأطباء‏” ‏ما أشرت إليه فى الفصل الأول وهو أننى قد انتبهت بعد ذلك إلى احتمال تصنيفى من المنتمين إلى ما يسمى تيار “ضد الطبنفسى Antipsychiatry، وهو تيار أرفضه تماما، وقمت بنقده وشجبه (كما سياتى فى كتابى التالى فى هذه السلسلة) ([11]).

 ‏أما‏ ‏ما‏ ‏يعنينى الآن فهو كشف رفضي الباكر للتفرقة‏ ‏بين‏ ‏الصحة‏ ‏والمرض بتلك المقاييس السائدة،‏ ‏الأمر الذى ظل يلح علىّ حتى وصلتُ إلى فروضى المتتالية التى رسمت فى النهاية أول معالم: الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى الذى أواصل تحديد معالمه حتى هذه الأيام(2017).

إسهام من مبدع: “حين‏ ‏تصبح‏ ‏الاهتزازة‏ ‏نبضة”‏:‏

كانت‏ ‏هذه التفرقة‏ ‏تشتد صعوبة ‏حين‏ ‏أقابل‏ ‏فنانا‏ ‏خالقا‏ ‏فى ‏أزمة‏ ‏عميقة‏ رائعة، ‏وأروح أبحث‏ ‏عن‏ ‏الحد‏ ‏الفاصل‏ لأحدد نوع مرضه فلا أستطيع، وبما أننى لست فى موقف امتحان لشهادة مزركشة، كنت أفضل ان أواصل مساعدته وعلاجه دون تشخيص‏، ‏وكان‏ ‏فضل‏ ‏الفنان التشكيلى‏ ‏المرحوم‏ ‏كمال‏ ‏خليفة‏ ‏علىّ ‏فضلا‏ ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يهزنى ‏من‏ ‏الأعماق‏، ‏فقد‏ ‏صاحبته‏ ‏فى ‏أزمته‏ ‏عدة‏ ‏سنوات‏ ‏وتعلمتُ‏ ‏منه‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏أتعلمه‏ ‏فى ‏كتاب‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏استاذ‏، ‏وتساءلت‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏شفى – ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏يشفى – ‏أين‏ ‏أضعه‏ ‏بين‏ ‏السواء ‏والمرض‏، ‏ولكنه‏ ‏هدانى ‏أثناء‏ ‏بعض‏ ‏مناقشاتنا‏ ‏إلى تعبير رائع الدلالة‏ ‏عن‏ ‏الشفاء‏ ‏حين قال‏ “إطمئن : فقد‏ ‏أصبحت‏ ‏الاهتزازة‏ ‏نبضة‏” ‏فعرفت‏ ‏أن‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏السواء‏ ‏والمرض‏ ‏ليس‏ ‏فرق‏ ‏درجة‏ ‏أو‏ ‏تماثل‏ ‏مع‏ ‏الآخرين‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏فرق‏ ‏فاعلية‏ ‏وقوة‏ ‏حياة‏، ‏فالنبضة‏ ‏مثل‏ ‏ضربة‏ ‏القلب‏ ‏تدفع‏ ‏الدم‏ ‏إلى ‏الشرايين‏ ‏وتحافظ‏ ‏على ‏الحياة‏، ‏أما الاهتزازة‏ ‏أو‏ ‏الرعشة فهى‏ ‏مثل‏ ‏تذبذب‏ ‏شعيرات‏ ‏عضلات‏ ‏القلب‏ Fibrillation  ‏فلا‏ ‏انقباض‏ ‏ولا‏ ‏دفع‏.

المقاييس التقليدية الثلاثة:

‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ألفاظا‏ ‏مثل‏ “الحياة”‏، ‏و”الاطمئنان”‏، ‏و”العمل”‏، ‏و”السعادة”‏، ‏و”الرضا”‏، و”التكيف” وهى الألفاظ التى تتواتر لوصف ما هو صحة نفسية، ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏توضيح‏ ‏وتحديد‏ ‏حتى ‏نستطيع‏ ‏فهم‏ ‏هذه‏ ‏المشكلة‏، فالشائع والمتفق عليه – مثلا- هو أنه ينبغى توافر ثلاث أبعاد بدرجة مناسبة حنى نحكم على شخص ما بأنه يتمتع بصحة نفسية طبيعية، وهذه الأبعاد الثلاث هى العمل، والرضا والتكيف، وهذا صحيح، ولكن ‏ ‏الناس‏ ‏تختلف‏ ‏كأفراد‏ ‏وكجماعات‏ ‏على ‏معنى العمل – مثلا –  بل ومعنى ‏الحياة‏، ‏وإذا‏ ‏قلنا‏ ‏أن‏ ‏العمل‏ ‏وحده‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏وإنما‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏وجود‏ ‏الرضا‏ ‏والتكيف‏ ‏ ‏فان‏ ‏مجرما‏ ‏مثل‏ ‏الخط‏ “يرحمه الله”! ‏يتكيف‏ ‏مع‏ مَنْ ‏حوله‏ ‏من أتباع‏ ‏ومجرمين‏ ‏وحتى ‏مواطنين‏ ‏يدفعون‏ ‏الإتاوة‏، ‏وبذلك‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏خلل‏ ‏فى ‏علاقته‏ ‏مع‏ ‏بيئته‏ ‏المباشرة‏، ‏وهو‏ ‏منتج‏ ‏فى ‏عمله‏ ‏يجنى ‏المال‏ ‏ويقتل‏ ‏الناس‏ ‏بفاعلية‏ ‏ناجحة‏، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏راض‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏فخور‏ ‏بها‏، ‏فهل‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏بالمقاييس‏ ‏السالفة‏ ‏الذكر؟‏ ‏وهل‏ ‏الأمثلة‏ ‏التى ‏أوردتها‏ ‏عن‏ “الفصام‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العامة‏” مع ما فيها من أخطاء ومبالغة: ‏هى ‏من‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية؟

إذن‏ ‏فالأمر‏‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تحديد‏ ‏أكثر‏:‏

وتزيد‏ ‏حيرتى ‏وتلاحقنى، ‏فمن‏ ‏المسرحيات‏ ‏القليلة‏ ‏التى ‏شاهدتها‏ ‏فى ‏باريس‏ 1969(‏وهى ‏عدد‏ ‏قليل‏ ‏لصعوبة‏ ‏اللغة‏ ‏أولا،‏ ‏ثم‏ ‏لضيق‏ ‏ذات‏ ‏اليد‏ ‏دائما‏) ‏كانت‏ ‏مسرحية‏ “لكلٍّ ‏حقيقته‏” Chacum Sa Verite، ‏وهى ‏مسرحية‏ ‏‏تأليف‏ ‏لويجى ‏بيراندللو‏ Luigi Pirandello ‏يختلط‏ ‏فيها‏ ‏الأمر‏ ‏على ‏المشاهد‏ ‏حين‏ ‏يتهم‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏فى ‏المسرحية‏ ‏الآخر‏ ‏بالجنون‏، ‏فيخرج‏ ‏الزوج‏ ‏مثلا‏ وهو يبدو ‏فى ‏تمام‏ ‏الصحة‏ ‏يتكلم‏ ‏عن‏ ‏حماته‏ ‏وعما‏ ‏تفعله‏ ‏من‏ ‏تصرفات‏ ‏شاذة‏ ‏حتى ‏نقتنع‏ ‏بجنونها‏ ‏المطبق‏، ‏ثم‏ ‏يخرج‏ ‏لتدخل‏ ‏الحماة‏ ‏فى ‏كامل‏ ‏عقلها‏ ‏تتكلم‏ ‏عنه‏ ‏بدورها‏ ‏مشفقة‏ عليه وهى تخاطب ‏المشاهدين‏ ‏أنها‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تسايره ‏اعتقاده‏ ‏فى ‏أنها‏ ‏هى ‏المجنونة‏، ‏وهكذا‏ ‏تتبدل‏ ‏الأحداث‏ ‏ونحن‏ ‏نحتار‏ ‏ولا‏ ‏نصل‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏إلى ‏الحقيقة‏، ‏أو‏ ‏يصل‏ ‏كل‏ ‏منا‏  ‏إلى ‏حقيقته (إذْ: لكلٍّ حقيقته، كما يقول عنوان المسرحية)، ‏ونخرج من كل ذلك بأن‏ ‏الحقيقة‏ ‏ليست‏ ‏مطلقة‏ ‏وأن حكم‏ ‏الناس عليها بأنها كذلك‏ ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏.‏

وأجد‏ ‏فى ‏ممارستى ‏الخاصة‏ ‏أن‏ ‏الدافع‏ ‏للحضور‏ ‏إلى ‏استشارتى – ‏كطبيب‏ ‏نفسى – ‏ليس‏ بالضرورة ‏درجة‏ ‏المرض‏ ‏أو‏ ‏شدته‏ ‏وإنما‏ ‏عوامل‏ ‏أخرى ‏لا‏ ‏ترتبط‏ ‏ارتباطا‏ ‏مباشرا‏ ‏بدرجة‏ ‏المرض‏ ‏أو‏ ‏نوعه‏، ‏فكثيرا‏ ‏ما‏ ‏جاءتنى ‏إحدى ‏المستشيرات‏ ‏من‏ ‏بقايا‏ “الذوات‏” ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تتكلم‏ ‏بعض‏ ‏الوقت – وتتفرج علىّ بالمرة – لتتأكد من رأى‏ ‏صديقتها‏ “فلانة‏” ‏التى ‏أعالجها والتى أوصتها بالحضور إلىّ‏، ‏أو ربما تأتى‏ ‏طالبة‏ ‏تكف‏ ‏عن‏ ‏الاستذكار‏ ‏فيُحضرها‏ ‏أهلها‏ ‏اسوة ‏ببنت‏ ‏خالتها‏ التى حضرت إلىّ وحكت عنى، ‏وبذلك‏ ‏تتفرج‏ ‏على ‏الطبيب‏ ‏الذى ‏يعالج‏ ‏قريبتها‏، ‏وهكذا‏، ‏وكنت‏ ‏أتساءل‏: ‏هل‏ ‏أعتبر‏ ‏هؤلاء‏ ‏مرضى ‏فى ‏حين‏ ‏أن ‏نيكسون ([12])‏ – ‏بسلامته‏ – ‏سليم‏ ‏معافى؟

المريض‏ ‏مقياس‏ ‏نفسه‏: ‏ولكن‏:‏

ومنذ‏ ‏تعلمت‏ ‏فحص‏ ‏المريض‏، ‏أرشدنى أساتذنى أن‏ ‏القياس‏ ‏الأساسى ‏هو‏ ‏المريض‏ ‏نفسه‏، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏تـُجرى ‏دراسة‏ ‏مفصلة‏ ‏عن‏ ‏حالة‏ ‏المريض‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏ ‏وعن‏ ‏شخصيته‏ ‏ونوازعه‏ ‏وسماته‏ ‏ثم‏ ‏تجرى ‏دراسة‏ ‏مقابلة‏ ‏عن‏ ‏حالته‏ ‏بعد‏ ‏المرض‏ (‏الآن: وقت الفحص‏) ‏وبالمقارنة‏ ‏تتبين‏ ‏الصحة‏ ‏من‏ ‏المرض‏.‏

‏ولكن‏ ‏دراسة‏ ‏حالة‏ ‏المريض‏ ‏السابقة‏ ‏قد‏ ‏تثبت‏ ‏أنه‏ ” ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يشكو‏…” ‏ليس لانتفاء وجود المرض وإنما لضعف أو غياب البصيرة،‏ ‏وكل‏ ‏ماجدّ ‏عليه‏ ‏أنه‏ ‏أصبح‏ ‏أكثر‏ ‏إدراكا‏ ‏لواقعه‏ ‏المرضى، ‏ولذلك‏ ‏فقد‏ ‏جاء‏ ‏للاستشارة‏.‏

كما‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المفهوم‏ ‏يشير‏ ‏ضمنا‏ ‏إلى ‏ان‏ ‏واجب‏ ‏الطبيب‏ ‏الأول‏ – ‏أو‏ ‏ربما‏ ‏الأسهل‏ – ‏ان‏ ‏يعيد‏ ‏المريض‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏كان‏ ‏عليه‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏، ‏وكنت‏ ‏أتساءل‏: ‏هل‏ ‏يعنى ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏نقلل‏ ‏من‏ ‏إدراكه‏ ‏لحالته؟‏ ‏وهل‏ ‏هذا‏ ‏ممكن؟‏ ‏ألا‏ ‏يشير‏ ‏ذلك‏ ‏ضمنا‏ ‏إلى ‏أننا‏ ‏قد نحرمه من فرصة قد تكون لصالحه؟ ….وتزداد الحيرة!

وتشغلنى حيرتى ليل نهار، وتكاد تلوِّح لى بالعدول عن الاستمرار فى هذه المهنة، ولا أنكر أنها كانت تراودنى حتى فى أحلامى حتى جاء الفرج حين أضاءت فى وجدانى وعقلى هذه الفكرة الجديدة التى تشكلت لتحدد ضرورة تحديد أنواع أو مستويات لما هو صحة نفسية، لعلنا بذلك نوسع دائرة السواء وهو يتدرج بين الناس، فيتراجع حماسنا للفصل التعسفى بين من هو مريض ومن هو عادى بأقل قدر من التفرقة والأحكام الفوقية، وبأكبر قدر من التعمق والتأمل والسماح.

وهكذا ولدت الفكرة الباكرة.

ثانياً: ولادة فكرة

“يخيل‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏قيض‏ ‏لى ‏أن‏ أكتشف‏ ‏أكثر‏ ‏الأمور‏ بداهة”

سيجموند‏ ‏فرويد

‏فى ‏قراءاتى ‏فى ‏الطب‏ ‏النفسى ‏ومايتعلق‏ ‏به‏ ‏كنت‏- ‏ومازلت‏- ‏أعانى ‏من‏ ‏ظاهرة‏ ‏غريبة‏ ‏تماثل‏ ‏ظاهرة‏ ‏الألفة‏ ‏أو‏ “‏الرؤية‏ ‏السابقة‏” Deja vu، ‏وهى ‏تعنى ‏أن‏ ‏الأشخاص‏ ‏أو‏ ‏الأشياء‏ ‏التى ‏نراها‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏نشعر‏ ‏وكأننا‏ ‏رأيناها‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏، ‏وقد‏ ‏لاحظت‏ ‏ذلك‏ ‏على ‏نفسى ‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏ولعل‏ ‏السبب‏ ‏الأول‏ ‏فيه‏ ‏هو‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏فى ‏أول‏ ‏تدريبى ‏فى ‏مهنة‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏كطبيب‏ ‏مقيم‏ ‏أجلس‏ ‏مع‏ ‏المرضى ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏أقرأ‏ ‏فى ‏الكتب‏، ‏وربما‏ ‏لأن‏ ‏مسار دراستى العليا‏ ‏حينذاك‏ ‏كان‏ ‏يُلزمنى ‏بالحصول‏ ‏على ‏دبلوم‏ ‏الأمراض‏ ‏الباطنية‏ ‏أولا‏ ‏قبل‏ ‏دبلوم‏ ‏التخصص فى الأمراض النفسية والعصبية، فأجـَّل ذلك الاستغراق فى قراءة مراجع الطب النفسى حتى أُتـِمّ دراسة الأمراض الباطنة أولا، وحين بدأت التحضير لدبلوم الأمراض النفسية والعصبية  ‏ ‏كان‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏أقرأ‏ ‏المراجع‏ ‏الكاملة‏ ‏بشكل‏ ‏تحصيلى ‏منظم‏، ‏والقراءة‏ ‏للتحضير‏ ‏للامتحان‏ ‏غير‏ ‏القراءة‏ ‏للعلم‏ ‏أو‏ ‏للممارسة‏ ‏طبعا‏، ‏وحين‏ ‏أخذت‏ ‏أقرأ‏ ‏كتابا‏ ‏جامعا‏ ‏مثل‏ ‏كتاب‏ Mayer Gross ‏أحسست‏ وكأنى قرأته قبل ذلك، ولم يؤكد لى العكس إلا أن صفحاته كانت خالية من التخطيط والتعليقات (والشخبطة) التى أشوه بها – أو أزين بها- ما أقرأ، وأحسست ‏حينذاك‏ ‏أن‏ ‏معايشتى ‏لأصدقائي ‏ ‏المرضى ‏كانت‏ ‏معايشة‏ ‏جادة وعميقة‏ ‏حتى ‏إذا‏ ‏ما قرأت‏ ‏عنهم‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏أعراضهم‏ ‏وتصنيف‏ ‏أمراضهم‏ ‏أشعر بما أقررت به حالا، أى كأننى  قرأتهم قبل أن اقرأ المكتوب، ولا‏ ‏أجد‏ ‏فى ذلك غرابة  ‏مهما‏ ‏اختلفت‏ ‏المدارس‏.‏

وكان‏ ‏موقفى ‏تجاه‏ ‏المدارس‏ ‏المتعارضة‏ ‏موقف‏ ‏المتقبـِّل‏ ‏للتناقضات‏، ‏لا قهرا‏ ‏بل‏ ‏فهما‏، ‏وكنت‏ ‏أتعجب‏ ‏من‏ ‏ظاهر‏ ‏التناقضات‏ ‏بين المدارس، وأبحث كيف أنها يمكن أن ‏تتفق‏ ‏فى ‏العمق‏ ‏إذا‏ ‏ما انتصرنا‏ ‏على ‏نظرة‏ ‏التعصب‏ ‏لكل‏ ‏مدرسة‏، ‏فكنت‏ ‏أقبل‏ ‏من‏ ‏كلٍّ‏ ‏ما يوافق‏ ‏إحساسى ‏وفهمى، ‏ولعل هذ‏ا ‏هو‏ ‏الموقف‏ ‏الذى ‏يسمى ‏الموقف‏ ‏الانتقائى Eclectic، ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏ينتقى ‏الممارس‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏طريقة‏ ‏جانبا‏ ‏ثم‏ ‏يؤلف‏ ‏بينها‏ ‏مع ما يتفق‏ ‏مع‏ ‏هدفه‏ ‏وتطبييقاته‏، ‏وهو‏ ‏موقف‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏الحرية‏ ‏بقدر‏ ‏ما فيه‏ ‏من‏ ‏التساهل‏ ‏والهرب‏، ‏يلجأ‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏يعلم‏ ‏الكثير‏ ‏ويمارس‏ ‏الصدق‏ ‏مع‏ ‏نفسه‏ ‏فلا‏ ‏يقبل‏ ‏إلا‏ ‏ما يوافق‏ ‏غرضه‏- ‏وهو‏ ‏هنا‏ ‏خدمة‏ ‏المريض‏- ‏ويكون‏ ‏حين‏ ‏ذلك‏ “‏اختلاف‏ ‏المدارس‏ ‏رحمة‏”، ‏كما قد‏ ‏يلجأ‏ ‏إليه‏ ‏الذى ‏لا يعلم‏ ‏شيئا‏.. ‏فيروح‏ ‏يفعل‏ ‏مابداله‏ ‏تحت‏ ‏ستار‏ ‏اختلاف‏ ‏المدارس‏ ‏مطمئنا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏التبرير‏ ‏على ‏مايفعل‏ ‏ممكن‏، ‏وبذلك‏ ‏لايتقيد‏ ‏باتجاه‏ ‏معين‏ ‏ولن‏ ‏يعدم‏ ‏أن‏ ‏يجد‏ ‏تفسيرا‏ ‏للشئ‏ ‏وضده‏، ‏وهنا‏ ‏يكون‏ ‏اختلاف‏ ‏المدارس‏ ‏خطرا‏ ‏ونقمة‏.. ‏لأنه‏ ‏باب‏ ‏للهرب‏ ‏وليس‏ ‏دعوة‏ ‏للصدق وكأنه يستلهم حكمة صلاح جاهين فيقول قياسا: “إفعل أى شئ تقرره، وسوف تجد نظرية تبرره”!!‏([13])  لذلك‏ ‏فقد‏ ‏كنت‏ ‏ألجأ‏ ‏لهذا‏ ‏الموقف‏ ‏الانتقائى ‏ولكنى ‏أسعى ‏إلى ‏تخطـٍّيه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏وكلما‏ ‏حاولت‏ ‏الارتباط‏ ‏بمدرسة‏ ‏من‏ ‏المدارس‏ ‏لم‏ ‏أنجح‏، ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏عطشى ‏للعلم‏ ‏كان‏ ‏عظيما‏، ‏وتفتحى ‏للحرية‏ ‏كان‏ ‏ملحا‏، ‏ولم‏ ‏تنجح‏ ‏أى ‏مدرسة‏ ‏فى ‏أن‏ ‏تروى ‏ظمئى ‏أو‏ ‏تطلق‏ ‏حريتى ‏أو‏ ‏تتفق‏ ‏مع‏ ‏نظام‏ ‏عقلى، ‏وكانت‏ ‏حجتى ‏دائما‏ ‏أنى ‏طبيب‏، ‏ومهمتى ‏الأولى هى ‏أن‏ ‏أخدم‏ ‏المرضى، ‏والمريض‏ ‏لايهمه‏ ‏إن‏ ‏كنت‏ ‏”فرويديا”‏ ‏أو‏ “‏يونجيا‏” ‏أو‏ “‏سلوكيا‏ ‏محدثا‏” ‏أو‏ “‏بافلوفيا”،‏ ‏ولكن‏ ‏يهمه‏ ‏أنه‏ ‏إنسان‏ ‏يعانى، ‏ووظيفة‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏أن‏ ‏يساعده‏ ‏فى ‏أن‏ ‏ينتصر‏ ‏على ‏ضعفه‏ ‏ومعاناته‏ ‏ليستقيم‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏على ‏الطريق‏، ‏فإذا‏ ‏مافعل‏ ‏فإنه‏ ‏ينطلق‏ ‏إلى ‏السلامة‏ ‏والتطور‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يلتفت‏ ‏إلى ‏مافى ‏عقل‏ ‏الطبيب‏ ‏من‏ ‏معلومات‏ ‏أو‏ ‏معتقدات‏ ‏أو‏ ‏مدارس‏.‏

صراع‏ ‏لا هوادة‏ ‏فيه‏:‏

والصراع‏ ‏بين‏ ‏مدارس‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏صراع‏ ‏لا هوادة‏ ‏فيه ([14])‏، ‏وهناك‏ ‏محاولات‏ ‏حديثة‏ ‏للتوفيق‏ ‏لصالح‏ ‏الإنسان‏، ‏ولكن‏ ‏التعصب‏ ‏مازال‏ ‏على ‏أشده‏ ‏والمعارك‏ ‏مستمرة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مكان‏، ‏وهى ‏تصل‏ ‏إلى ‏من‏ ‏ينكر‏ ‏وجود‏ ‏اللاشعور‏ ‏أصلا‏، ‏كما‏ ‏تصل‏ ‏فى ‏الناحية‏ ‏الأخرى ‏إلى ‏من‏ ‏ينكر‏ ‏الأساس‏ ‏البيولوجى ‏للأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏تماما‏، ‏وكان‏ ‏موقفى ‏إزاء‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏أن‏ ‏أقبل‏ ‏إيجابيات‏ ‏كل‏ ‏منها‏ ‏ولا أجد‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏تعارضا‏‏، ‏ولايجد‏ ‏المريض‏ ‏معى ‏تذبذبا‏ ‏أيضا‏، ‏وكنت‏ دائما ‏أشعر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الطريق‏ ‏الذى ‏سيوصلنى ‏إلى ‏الأصوب‏… ‏يوما‏ ‏ما‏، ‏لأنك‏ ‏إذا‏ ‏رفضت‏ ‏الفكرة‏ ‏ابتداء‏ ‏قلـَّت‏ ‏معرفتك‏ ‏بالأصول‏ ‏المشتركة‏، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏قبلت‏ ‏كل‏ ‏وصف‏ ‏صادق‏ ‏ومشاهدة‏ ‏علمية‏، ‏ثم‏ ‏بحثت‏‏ ‏عن‏ ‏مكان‏ ‏ملائم‏ لأى من ذلك ‏فى ‏إطار‏ ‏كامل‏ ‏فأنت‏ ‏تهيئ‏ ‏للحمل‏ ‏السليم‏… ‏الذى ‏قد‏ ‏ينتهى ‏بولادة‏ ‏مخلوق‏ ‏جديد‏. ‏

وحين‏ ‏حضرتُ‏ “‏هنرى ‏إي‏” ([15]) Henry Ey فى لقاءاته الأسبوعية فى مستشفى سانت آن فى باريس ‏وتتبعت‏ ‏فكرته‏ ‏عن‏ ‏التزاوج‏ ‏الديناميكى‏- ‏وليس‏ ‏الميكانيكى‏- ‏بين‏ ‏الجهاز‏ ‏العصبى ‏وتطور‏ ‏الإنسان‏- ‏كفرد‏ ‏وكنوع‏- ‏أحسست‏ ‏أنى ‏قريب‏ ‏مما‏ ‏أريد‏، ‏ولكنه‏ ‏ليس‏ ‏كل‏ ‏ما أريد‏.‏

وحين‏ ‏توصلت‏ ‏إلى ‏تصنيف‏ ‏الصحة‏ ‏النفسسية‏ ‏تصنيفا‏ ‏تطوريا‏ (‏راجع‏ ‏الفصل الثالث‏) ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أربطه ‏بتقسيم‏ ‏جديد‏ ‏للأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏لم‏ ‏يشف‏ ‏غليلى، ‏وأحسست‏ ‏أن‏ ‏الفكرة‏ ‏تنير‏ ‏جانبا‏ ‏من‏ ‏الطريق‏ ‏وليس‏ ‏كل‏ ‏الطريق‏، ‏وقد‏ ‏كتبت‏ ‏أول‏ ‏نسخة‏ ‏من‏ ‏المقال‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏فرنسا‏ ‏وحين‏ ‏عرضته‏ ‏على ‏صديقى “بيير ‏برينيتى  “Pierre Brunetti  المهتم والمتخصص فى الطب النفسى الاجتماعى([16])‏ ‏فى ‏شكله‏ ‏الأول‏ ‏قال‏ “‏ماذا‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تقول؟‏” ‏قلت‏ “ما ‏قرأتَ‏” ‏قال‏ ” ‏لا‏،.. ‏يخيل‏ ‏إلى ‏أنك‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تقول‏ ‏شيئا‏ ‏أكبر‏.. ‏وعليك‏ ‏أن‏ ‏تهب‏ ‏حياتك‏ ‏لهذا‏ ‏الشئ‏ ‏حتى ‏تقوله‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏” ‏وحين‏ ‏سألته‏ ‏عن‏ تصوره لهذا ‏الشئ‏، ‏قال‏: “‏ستعرفه‏ ‏يوما‏ ‏ما‏”!!!  ‏ ‏

وظننت‏ ‏أنه‏ ‏يستعمل‏ ‏طريقة‏ ‏أوروبية‏ ‏مهذبة‏ ‏ليقول‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المقال‏ ‏ناقص‏، ‏أو‏ ‏غير‏ ‏واضح‏، ‏وأخذت‏ ‏الأمر‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الاعتبار‏، ‏ولكن‏ ‏كلماته‏ ‏ظلت‏ ‏ترن‏ ‏فى ‏أذنى “‏شيئا‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏أهب‏ ‏حياتى ‏له‏”!!، وقد بلغنى صدق حدسه بعد ذلك.

عشت‏ ‏أحمل‏ ‏المتناقضات‏ ‏فى ‏عقلى، ‏وأقبل‏ ‏منها‏ ‏بعض‏ ‏التلفيقات‏ ‏التى ‏تعيننى ‏على ‏المسيرة‏ ‏مع‏ ‏المرضى، ‏ولكنى ظللت قلقا ‏‏لا‏ ‏أهدأ‏، ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏هذا الشئ‏ ‏بغير‏ ‏وعى ظاهر غالبا، ‏ولا‏ ‏أرضى ‏عن‏ ‏فرعى ‏ولا‏ ‏عن‏ ‏وظيفتى ‏كطبيب‏ ‏يمارس‏ ‏عمله‏ “‏كالمطيباتى‏” ‏تعينه‏ ‏الكيمياء‏ ‏والتصنيفات المتجمدة‏، ‏ولكنه‏ ‏مغمض‏ ‏العينين‏ ‏فى ‏كل‏ ‏حال‏، ‏فاذا‏ ‏فتحهما‏ ‏سلك‏ ‏سبيل‏ ‏التحليل‏ ‏والتبرير‏ ‏والتفسير‏، ‏وحين‏ ‏قرأت‏ ‏آخر‏ ‏تطورات‏ ‏التفسير‏ ‏الأحدث ‏للتحليلين النفسيين (المدرسة الانجليزية خاصة)‏ ‏ووجدتهم‏ ‏ينتصرون‏ ‏على ‏فرويد‏ ‏ويتخطونه‏، ‏أحسست‏  ‏أنى ‏أقترب‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الفكر‏ ‏التحليلى ‏رغم‏ ‏أنى ‏أرفض‏ ‏تماما‏ ‏بُعدهم‏ ‏عن‏ ‏الأسس‏ ‏البيولوجية‏ ‏كعامل‏ ‏جوهرى‏ ‏فى أحداث ‏المرض‏ ‏النفسى.‏

وعشت‏ ‏حيرتى ‏أياما‏ ‏وشهورا‏ ‏وسنين‏.

المخاض بالسلامة‏:‏

وفى ‏يوم‏ ‏الاثنين‏ ‏الثانى ‏عشر‏ ‏من‏ ‏أبريل‏ ‏الماضى (1971)، ‏وكنت‏ ‏جالسا‏ ‏مع‏ ‏مريض‏ ‏صديق‏ ‏بعيادتى ‏الخاصة‏، ‏أستمع‏ ‏إليه‏ ‏ولا‏ ‏أستمع‏ ‏إليه‏، ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏الأمور‏ ‏المتناقضة‏ ‏جميعا‏ ‏قد‏ ‏ارتبطت‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏ ‏فجأة‏، ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏الأضداد‏ (‏أو‏ ‏معظمها‏) ‏استدارت‏ ‏من‏ ‏موقف‏ ‏المواجهة‏ ‏إلى ‏موقف‏ ‏التماسك‏ ‏والتآلف‏، ‏وارتبط‏ ‏الانسان‏ ‏الفرد‏ ‏بالإنسان‏ ‏النوع‏، ‏واستقر‏ ‏الأنا‏ ‏الهارب‏ ‏والأنا‏ ‏الناكص‏ ‏والأنا‏ ‏المنقسم([17])‏‏ ‏فى ‏قاع‏ ‏خلايا‏ ‏المخ‏، ‏وصعد‏ ‏فرويد – عندى -‏ ‏إلى ‏أعلى ‏طبقات‏ ‏النفس‏ ‏وأكثرها‏ ‏سطحية‏، ‏وكأن‏ ‏كل‏ ‏شئ‏ ‏أشرق‏ ‏فجأة‏… ‏وتفاهمَتِ‏ ‏الكيمياء‏ ‏مع‏ ‏الكهرباء‏ ‏مع‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏مع‏ ‏التطور‏.‏

وتعجبت‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هذا‏.. ‏فرحت‏ ‏به‏، ‏وخفت‏ ‏منه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏.‏

واتصلت‏ ‏تليفونيا‏ ‏بزميل‏ ‏صديق‏، ‏فلم‏ ‏أجده‏..‏

وانطلقت‏ ‏أشرح‏ ‏أفكارى ‏للصديق‏ ‏المريض‏ ‏أمامى‏- ‏بلغة‏ ‏قريبة‏ ‏منه‏ ‏ومن‏ ‏مشكلته‏- ‏وكان‏ ‏للجديد‏ ‏وقعٌ‏ ‏عنيفٌ‏ ‏علىّ… ‏وقال‏ ‏لى هذا ‏الصديق‏ (‏المريض)‏ بعد شرحى له الخطوط العريضة لما عَرَض لى: “‏ما‏ ‏انا‏ ‏عارف‏”!، ‏وتعجبت‏، ‏وتذكرت‏ ‏حقيقة‏ ‏قديمة‏ ‏وهى ‏أن‏ ‏الأصدقاء‏ ‏المرضى ‏يعرفون‏ ‏النفس‏ ‏أدق‏ ‏وأصدق‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏النظريات‏، ‏وذهبت‏ ‏آخر‏ ‏النهار‏ ‏لزميلى ‏الصديق‏ ‏ومعى ‏زوجتى… ‏ولم‏ ‏أجده‏، ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏الصمت‏، ‏وأخرجت‏ ‏ورقا‏ ‏من‏ ‏مكتـِبـِه‏ ‏وانطلقت‏ ‏لأكثر من ساعة أشرح ‏ ‏لزوجتى ‏الفكرة‏ ‏وأرسمها‏ ‏على ‏الورق‏ ‏وأربط‏ ‏الآشياء‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏.. ‏ولا‏ ‏أعرف‏ ‏إن‏ ‏كانت‏ ‏قد‏ ‏أدركت‏ ‏التفاصيل‏ ‏أم‏ ‏لا‏.. ‏ولكنها‏ ‏كانت‏ ‏تتابع‏ ‏أفكارى في ‏الأغلب‏ ‏بقدر‏ ‏من‏ ‏الحب‏ ‏يشجعنى ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏مالا‏ ‏يعنيها‏، بشكل خاص، ‏دون‏ ‏حرج‏.

وحين‏ ‏حضر‏ ‏زميلى ‏وزوجته لم أستطع أن أعيد ما قلت، وألمحت له بالعناوين ثم‏ ‏تواعدنا‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏له‏ ‏الفكرة‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏..‏

وخلال‏ ‏أيام‏ ‏كنت‏ ‏أعيد‏ ‏القصة‏ ‏عليهما‏ ‏مع‏ ‏زوجتى ‏من‏ ‏أولها‏ ‏لآخرها‏… ‏وسألتهم‏ ‏هل‏ ‏هناك‏ ‏جديد؟‏ ‏فقالوا‏: ‏يبدو‏ ‏ذلك‏…‏

وفى ‏ليلة‏ ‏تالية‏ ‏حلمت‏ ‏أنى ‏أكتب‏ ‏خطابا‏ ‏لصديقى ‏ بيير ‏برنيتى ‏ ‏فى ‏باريس‏ ‏الذى ‏قال‏ ‏تعليقه‏ ‏عن‏ ‏الشئ‏ ‏الـ‏ “‏ما‏” ‏الذى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏أهب‏ ‏حياتى ‏له”‏، ‏واستيقظت‏ ‏فى ‏جوف‏ ‏الليل‏ ‏وأخذت‏ ‏أكتب‏ ‏له‏ ‏وأكتب‏ ‏حتى ‏أكملت‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏عشر‏ ‏صفحات‏، ‏وأرسلتها‏ ‏فورا‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أحتفظ‏ ‏بنسخة‏، ‏ولم‏ ‏يرد‏ّّ (‏ولا‏ ‏أدرى ‏حتى ‏الآن‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏خطابى ‏قد‏ ‏وصله‏، ‏وخجل‏ ‏أن‏ ‏يُسَفـِّه‏ ‏آرائى ‏فى ‏الرد‏، ‏أم‏ ‏أن‏ ‏رجال‏ ‏البريد‏ ‏أحسوا‏ ‏بثقل‏ ‏وزنه‏ ‏فتخففوا‏ ‏من‏ ‏جهد‏ ‏توصيله‏).‏

واستمررت‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أمارس‏ ‏المهنة‏، ‏ولكنى ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏الأسماء‏ ‏القديمة‏ ‏تعوق‏ ‏فهمى ‏أكثر‏ ‏وأكثر‏، ‏وأن‏ ‏الفكرة‏ ‏الجديدة‏ ‏تلح‏ ‏علىّ ‏فى ‏أن‏ ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏أسماء‏ ‏جديدة‏، ‏وفعلت‏…‏

‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏أكثر‏ ‏تقبـّلا‏ ‏وفهما‏ ‏من‏ ‏التعقيدات‏ ‏الشديدة‏ ‏والألغاز‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نفهم‏ ‏بها‏ ‏الانسان‏ ‏المريض‏ ووجدت‏ ‏أنه‏ ‏حتى ‏العلاج‏ ‏يمكن أن يأخذ‏ ‏طابعا‏ ‏آخر‏ ‏ومراحل‏ ‏أخرى، ‏ليصبح‏ ‏أوضح‏ ‏وأبسط‏ ‏وأسرع‏ ‏وأكثر‏ ‏ترابطا‏.‏

وطبعا‏ ‏شككت‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ذلك‏، ‏ولم‏ ‏يشك‏ ‏فيه‏ ‏مرضاى ‏ولا زملائى (‏الصغارمنهم‏‏ أساسا) ‏وقلت‏ ‏أبداً،  ‏هذه‏ ‏صحوة‏ ‏من‏ ‏صحوات‏ ‏الحيرة‏ ‏أردت‏ ‏بها‏ ‏أن‏ ‏أهـِّدئ‏ ‏من‏ ‏حيرتى ‏فترة‏ ‏ما‏، ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏موجودة‏ ‏من‏ ‏قديم‏ ‏وقد‏ ‏انجلت‏ ‏فجأة‏… ‏هذه‏ ‏هى ‏كل‏ ‏الحكاية‏… ‏لابد‏ ‏أنى ‏قرأتها‏ ‏يوما‏.. ‏أو‏ ‏أنى ‏سأقرؤها‏ ‏يوما‏…‏

وذهبت‏ ‏أبحث‏ ‏عنها‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ما أستطيع أن أصل ‏ ‏إليه‏ ‏ ‏مما‏ ‏قرأت‏، ‏وذهبت‏ ‏أناقشها‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏أثق‏ ‏فى ‏سعة‏ ‏اطلاعهم‏، ‏ووجدت‏ ‏جزئياتها‏ ‏موجودة‏ ‏فعلا‏، ‏ولكنها‏ ‏ليست‏ ‏موجودة‏ ‏إطلاقا‏ ‏ككل‏ ‏متكامل‏…، ‏قال‏ ‏بها‏ “‏فرويد‏” ‏عندما‏ ‏تحدث‏ ‏عن‏ ‏غريزة‏ ‏الموت‏ ‏والحياة‏، ‏وقال‏ ‏بها‏ ‏يونج‏ ‏وهو‏ ‏يغوص‏ ‏فى ‏اللاشعور‏ ‏الجمعى، ‏وفى ‏حديثه‏ ‏عن‏ ‏تاريخ‏ ‏الانسان‏ ‏النوع‏ ‏وضرورة‏ ‏تحقيق‏ ‏ذاته‏، ‏وقال‏ ‏بها‏ “‏إريك‏ ‏اريكسون‏” ‏وهو‏ ‏يضع‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏تطوره‏ ‏الاجتماعى ‏وكأنه‏ ‏عدة‏ ‏أناس‏ ‏يواصلون التتابع الواحد إثر الآخر‏، ‏وقال‏ ‏بها‏ ‏ساندور ‏ ‏رادو‏، ‏وإريك‏ ‏فروم‏، ‏وكارن‏ ‏هورنى ‏وفيربرن،‏ ‏وجنترب،‏ ‏وهنرى ‏إى، ‏وزرادشت،‏ ‏ونيتشه‏، ‏وبرجسون،‏ ‏وبرناردشو‏، ‏وغالبا غيرهم ممن لا أعرف!.

ولم‏ ‏يقلها‏ ‏أحد‏.‏

وكنت‏ ‏حين‏ ‏أقرأ‏ ‏بالانجليزية‏ ‏(والفرنسية نادرا)‏ ‏ولا‏ ‏أجد‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏، ‏أقول‏ ‏لنفسى ‏لابد‏ ‏أنها‏ ‏كتبت‏ ‏بالألمانية، . ‏فهناك‏ ‏الأصالة‏ ‏والتطور‏ ‏وأنا‏ ‏لاأعرف‏ ‏الألمانية‏، ‏إذن ‏فلا‏ ‏جديد،  ‏ولكنه‏ ‏بالرغم‏ ‏منى، ‏بدا‏ ‏لى ‏كل‏ ‏شئ‏ ‏جديدا‏.‏

وبعد‏ ‏شهور‏ ‏طويلة‏ ‏حين‏ ‏استقرت‏ ‏الأشياء‏ ‏وأخذت‏ ‏الأسماء‏ ‏الجديدة‏ ‏مواضعها‏ ‏التقريبية‏، ‏كتبت‏ ‏إلى ‏زميلى ‏وصديقى ‏الدكتور‏ ‏محمد‏ ‏شعلان‏، وكان فى والولايات المتحدة الأمريكية، كتبت ‏خطابا‏ ‏سيئا‏ ‏للغاية، غالبا لغموضه،  ‏حاولت فيه‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏له‏ ‏الفكرة‏ ‏ببعض‏ ‏التفاصيل‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏شرحت‏ ‏فيه‏ ‏وجهة‏ ‏نظرى ‏فى ‏أن‏ ‏انتشار‏ ‏فرويد‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏لأصالته‏ فحسب، ‏وإنما‏ ‏لحاجة‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏تبرير‏ ‏توقفهم‏ ‏التطوري‏- ‏أو‏ ‏تدهورهم‏- فى العصر الفكتورى ‏خلال‏ ‏القرن‏ ‏التاسع‏ ‏عشر‏، ‏قلت‏ ‏له‏:‏

‏”‏يا محمد‏: ‏إما‏ ‏أن‏ ‏نساهم‏ ‏إراديا‏ ‏فى ‏التطور‏ ‏أو‏ ‏نموت‏، ‏والمسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏حوار‏ ‏متصل‏، ‏ولكنها‏ ‏لاتحتاج ‏- ‏فى ‏نظرى‏- ‏إلى ‏تحليل‏ ‏منظم‏، ‏المسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏حب‏ ‏جارف‏، ‏وصدق‏، ‏وتقشف‏ ‏نفسى، ‏وتصوف‏، ‏وإيمان‏ ‏بالأصل‏، ‏وبالاستمرار‏، ‏ويقين‏ ‏بالغد‏، ‏وبكل‏ ‏ماهو‏ ‏أصيل‏… ‏وأين‏ ‏هذا‏ ‏كله؟

يا محمد: هو‏ ‏موجود‏ ‏عبر‏ ‏التاريخ‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يجعلنا‏ ‏نفخر‏ ‏بأن‏ ‏ننتمى ‏إلى ‏هذا‏ ‏الجنس‏ ‏من‏ ‏المخلوقات‏…. ‏ليس‏ ‏هناك‏ ‏جديد‏ ‏بمعنى ‏الجديد‏، ‏وإنما‏ ‏الجديد‏ ‏هو‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏القديم‏، ‏أنا‏ ‏لاأشك‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏حوالى ‏ألف‏ ‏أو‏ أكثر أو أقل‏- ‏فى ‏مجال‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏فقط‏- ‏يفكرون‏ ‏فيما‏ ‏أفكر‏ ‏فيه‏ ‏الآن‏، ‏أنا‏ ‏لاأشك‏ ‏أنى ‏إن‏ ‏لم‏ ‏أكتب‏ ‏مايدور‏ ‏فى ‏وجداني‏- ‏الشئ‏ ‏الذى ‏يلح‏ ‏على ‏فيه‏ ‏البعض‏ ‏الآن‏- ‏لاأشك‏ ‏أن‏ ‏غيرى ‏سوف يكتبه‏، ‏وربما‏ ‏أفضل‏، ‏وأنا ‏ ‏أقترح‏ ‏أن‏ ‏تعتبرها‏ -إن شئت- ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الضلال‏ ‏المنظم‏ Systematized delusion، ‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏رأيتَ‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الضلال‏ ‏هو فى ‏خدمة‏ ‏الذات‏ ‏والتطور‏.. ‏إذن ‏فهو‏ ‏الخـَلـْق‏..‏

هل‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏أن‏ ‏أحدثك‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏كان؟‏. ‏فليكن‏..‏

الآن‏: ‏ماهو‏ ‏موقفنا‏ ‏من‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏وتقسيماته‏ ‏وعلاجه؟

‏يا محمد: راجع‏ ‏التقسيم‏ ‏الدولى ‏والأمريكى ‏وغيرهما‏ ‏وتعجب‏ ‏للمرحلة‏ ‏المتواضعة‏ ‏التى ‏تجمـَّدْنا‏ ‏عندها‏…‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏محاولة‏ ‏فهم‏ ‏المخ‏ ‏بالتفاعلات‏ ‏الكيميائية‏ ‏وفقط‏، ‏وستجد‏ ‏تقلصات‏ ‏العلماء‏ ‏فى ‏المعامل‏ ‏تشبه‏ ‏تشنجات‏ ‏الفئران‏، ‏إذ‏ ‏يحاولون‏ ‏تعميم‏ ‏ما‏ ‏على ‏الفأر‏ ‏على ‏الإنسان‏…‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏الموقف‏ ‏الأبله‏ ‏فى ‏تفسير‏ ‏الصدمات‏ ‏الكهربائية‏،….‏بما يصاحبه من رفض وتشويه، دون التعمق فى أثرها ومحاولة قراءتها مادام لها هذا‏ ‏المفعول‏ ‏الأكيد إذا أحسن توقيت استعمالها. ([18])‏‏‏.‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏النظريات‏ ‏السيكوباثولوجية‏ ‏وعدم‏ ‏ارتباطها‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏وبالوضع‏ ‏النيوروبيولوجى ‏للمخ‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى، ثم‏ ‏راجع‏ ‏أقصى ‏اليمين‏ ‏من‏ ‏المدعين‏ – ‏مثلا‏- ‏أن‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏ما هى ‏إلا‏ ‏نوع خاص‏ ‏من‏ ‏الصرع‏…. ‏وهم‏ ‏لا يعرفون عمق حركية‏ ‏الصرْع‏ ‏أصلاً‏.‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏الصراع‏  ‏بين‏ ‏التحليليين‏ ‏والسلوكيين‏.‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏علاقة‏ ‏الأمراض‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏: ‏الصرْع بالفصام‏  ‏ ‏والأخير‏ ‏بجنون‏ ‏والهوس‏ ‏والاكتئاب‏.‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏التاريخ‏…. ‏أعنى ‏تاريخ‏ ‏الحياة‏ وتطورها ‏وتناسبها‏ وتوازيها: ‏لا‏ ‏مع‏ ‏المرحلة‏ ‏الفمية‏ ‏والمرحلة‏ ‏الشرجية‏…. ‏ولكن‏ ‏مع‏ ‏الموقف‏ ‏البارنوى ‏والموقف‏ ‏الاكتئابى تطوريا ونمائيا …. ‏الخ‏”

ومضيت‏ ‏فى ‏خطابى ‏ألح‏ ‏على ‏حاجتنا‏ ‏إلى ‏جديد‏ ‏يربط‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏ببعضه‏ ‏البعض‏ ‏وأن فهما جديد لفاعلية‏ ‏الفارماكولوجيا‏ (‏علم‏ ‏العقاقير‏ ‏الطبية‏) ‏النفسية‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وتداخل‏ ‏الأمراض‏ ‏الذهانية‏ ‏فى ‏بعضها‏ ‏البعض‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعمق‏ ‏الفهم‏ ‏ويحل‏ ‏الإشكال‏..([19])‏‏‏. ‏

‏ثم‏ ‏عرضت‏ ‏فكرتى ‏عن‏ ‏أن‏ ‏مخ‏ ‏الإنسان‏ ‏ليس‏ ‏مخا‏ ‏واحدا‏ ‏بل‏ ‏عدة‏ ‏أمخاخ‏، ‏وأنى ‏أعنى ‏بالمخ‏ ‏تركيبا‏ ‏متكاملا‏ ‏وليس‏ ‏منطقة‏ ‏بذاتها‏، وأيضا مستوى من الوعى يمثل مرحلة من التطور، ‏وأ‏ن‏ ‏كل‏ ‏تركيب‏ ‏متكامل‏ ‏له‏ ‏نقطة‏ ‏انبعاث Pace Maker  ‏ ‏تنظم‏ ‏عمله‏، ‏وأنه‏ ‏فى ‏الأحوال‏ ‏العادية‏ ‏لا يقود‏ ‏إلا‏ ‏مخ‏ ‏واحد‏ ‏وتكون‏ ‏بقية‏ ‏الامخاخ‏ ‏كامنة متكافلة،‏ ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏المخ‏ ‏الواحد‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يسيطر‏ ‏على ‏كل‏ ‏أجزاء‏ ‏الجهاز‏ ‏العصبى فى وقت بذاته، ‏وفى ‏الأحوال‏ ‏المرضية‏ الأخطر ‏يعمل‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مخ‏ فى تنافس أو تصادم، ‏وأحيانا‏ ‏يعمل‏ ‏المخ‏ ‏القديم‏ ‏متفوقا‏، ‏وينتصر‏ ‏على ‏المخ الحديث فى الصراع بينهما، فيُشـَلّ الأخير وقد يتفسخ، وأن العقاقير تعمل بشكل تطورى انتقائى على بعض الأمخاخ دون الأخرى، وبذلك يمكن تهدئة المخ‏ ‏القديم الناشز‏ ‏اختياريا‏ ‏دون‏ ‏المساس‏ ‏بدرجة‏ ‏كبيرة‏ ‏بالمخ‏ ‏الحديث‏، ‏وأن‏ ‏الصدمة‏ ‏الكهربائية‏ ‏إنما‏ ‏تمسح‏ ‏النشاط‏ ‏الكهربائى ‏لكل‏ ‏الأمخاخ‏ ‏ثم‏ ‏تعطى ‏الفرصة‏ ‏للمخ‏ الأجهز ‏الأقوى ‏أن‏ ‏يلتقط‏ ‏عصا‏ ‏المايسترو‏ ‏ليوجه‏ ‏فرقة الأمخاخ‏ ‏كلها‏، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏يفسر‏ ‏اختلاف‏ ‏الاستجابة‏ ‏للعلاج‏ ‏الكهربائى ‏حسب الإعداد الكيميائى الانتقائى والتهيئة التأهيلية المناسبة‏، ‏وأن‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏عبر التواصل‏ ‏الإنسانى ‏يجذب‏ ‏طاقة‏ ‏المريض‏ ‏إلى ‏الخارج،‏ ‏إلى ‏الناس، إلى الموضوع، إلى الآخر،‏ ‏وهو يغرى ‏المخ‏ ‏الحديث‏ ‏بأن‏ ‏يعاود التقاط‏ ‏”عصا‏ ‏المايسترو”،‏ ‏وألا يخاف‏ ‏من‏ العلاقة بالآخر ولا من ‏الوحدة‏ ‏أو‏ ‏القهر‏، ‏وأنه‏ ‏بذلك يمكن أن ‏ ‏يتوافق‏ ‏العلاج‏ ‏الكيميائى ‏مع‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏مع‏ ‏العلاج‏ ‏الكهربائى، ‏وقسَّمت‏ ‏له‏ ‏الأمخاخ‏ ‏وسمَّيتها‏، ‏وكان‏ ‏بديهيا‏ ‏وأنا‏ ‏أعرض‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏فى ‏خطاب‏ ‏من‏ ‏بضع ‏صفحات‏ ‏أن‏ ‏أزيد‏ ‏الأمر‏ ‏تعقيدا‏ ‏وليس‏ ‏توضيحا‏، ‏كما‏ ‏قد‏ ‏يجد‏ ‏القارئ‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏متاهة‏ ‏وهو‏ ‏يتابع‏ ‏الفقرة‏ ‏السابقة‏ ‏مما‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏اعتذار‏ ‏جديد‏- ‏وكان‏ ‏بديهيا‏ ‏ألا‏ ‏أتوقع‏ ‏ردا‏ ‏إيجابيا‏… ‏وهذا‏ ‏ماحدث‏- ‏ولكنى ‏على ‏كل‏ ‏حال‏ ‏ختمت‏ ‏الخطاب‏ ‏قائلا‏:‏

‏”‏والآن‏: ‏هل‏ ‏نعلن‏ ‏الثورة؟‏ ‏هل‏ ‏نرفض‏ ‏الأسماء البالية؟‏ ‏هل‏ ‏آن‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نصمم‏ ‏على ‏التطور‏ ‏بإرادتنا‏ ‏وعلى ‏رفض‏ ‏المقدسات‏ ‏الخادعة‏، ‏هل‏ ‏نأخذ‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مخ‏ ‏أصالته‏ ‏وجوهره‏ ‏ونحاول‏ ‏أن‏ ‏نوافق‏ ‏بينها‏ ‏لنحوّل‏ ‏الناس‏ ‏المنشقين‏ ‏على ‏أنفسهم‏ ‏إلى ‏إنسان‏ ‏واحد‏ ‏متوافق‏ ‏مع‏ ‏تاريخه‏ ‏المجيد‏ ‏فى ‏الصراع‏ ‏للبقاء‏ ‏والتطور‏.‏

هل‏ ‏تحضر؟‏ ‏هل‏ ‏تكتب؟‏ ‏هل‏ ‏نتفاهم؟

هل‏ ‏نستطيع‏ ‏الصمود‏ ‏حتى ‏نموت‏ ‏لا‏ ‏تسرقنا‏ ‏أيامنا‏ ‏ولا‏ ‏أطماعنا‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يفتت‏ ‏عقولنا‏ ‏الكولسترول‏ ‏المترسب‏ ‏داخل‏ ‏شراييننا؟

هل‏ ‏نستمر؟

هل‏ ‏نيأس‏ ‏مثل‏ ‏الأنواع‏ ‏المنقرضة‏ ‏من‏ ‏الأحياء؟

هل‏ ‏أنت‏ ‏معى؟

ولك‏ ‏منى ‏الحب‏ ‏والسلام‏…‏”

وكما‏ ‏قلت‏، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏الرد‏ ‏إيجابيا‏ ‏حيث‏ ‏أرسل‏ ‏لى ‏شعلان خطابا‏ ‏قال‏ ‏فيه‏:‏

‏”‏هل‏ ‏تغضب‏ ‏من‏ ‏حرارة‏ ‏الشمس‏ ‏إذا‏ ‏حرقت‏ ‏جلدك‏…. ‏أو‏ ‏من‏ ‏بلاهة‏ ‏الحمار‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يفهم‏ ‏قولك؟‏ ‏فلا‏ ‏غضب‏ ‏منى ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏استجابتى ‏لكتابك‏ ‏الأخير‏ ‏قد‏ ‏تجمَّدت‏ ‏طيلة‏ ‏هذا‏ ‏الوقت‏، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏كتابك‏ (‏أو‏ ‏خطابك‏) ‏محاولة‏ ‏لترجمة‏ ‏إحساس‏ ‏أثق‏ ‏فى ‏صدقه‏…. ‏أما‏ ‏ترجمة‏ ‏الإحساس‏ ‏إلى ‏لغة‏ ‏العقل‏ ‏والتصنيف‏ ‏والتنظيم‏ ‏فقد‏ ‏نزلت ‏على ‏عينى ‏غشاوة‏ ‏فلم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أفهم‏ ‏ماذا‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تقول‏ … ‏ربما‏ ‏لمجرد‏ ‏أننى ‏فى ‏حالة‏ ‏ثورة‏ ‏على ‏العقل‏ ‏والمنطق‏….”‏

ثم‏ ‏قال بصدق طيب:

‏ “…. ‏ولأنى ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المحاولات‏ ‏ضرورية‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏نقل‏ ‏الخبرة‏ ‏من‏ ‏مجال‏ ‏الاحساس‏ ‏المبهم‏ ‏الغامض‏ ‏إلى ‏مجال‏ ‏المفاهيم‏ ‏الموضوعية‏، ‏ولتمكين‏  ‏نقل‏ ‏العلم‏ ‏من‏ ‏جيل‏ ‏إلى ‏جيل‏ ‏ومن‏ ‏مكان‏ ‏إلى ‏مكان‏، ‏ومحاولتك‏ ‏هى ‏إحدى ‏هذه‏ ‏المحاولات‏، ‏ولكن‏ ‏مثلها‏ ‏مثل‏ ‏غيرها‏ ‏من‏ ‏المحاولات‏ ‏تجد‏ ‏نفسك‏ ‏تقول‏ ‏ماقاله‏ ‏الغير‏ ‏ولكن‏ ‏تصر‏ ‏على ‏تغيير‏ ‏لفظ‏ ‏أو‏ ‏مفهوم‏، ‏بينما‏ ‏الأساس‏ ‏واحد‏ ‏وينشأ‏ ‏حوار‏ ‏ومناقشة‏ ‏وخلاف‏ ‏وبيزنطية‏.‏

ثم‏ ‏يقول‏:

 “‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أصل‏ ‏إلى ‏أنى ‏شبعت‏ ‏نظريات‏ ‏وتنظيرا‏ ‏وتنظيما‏ ‏وتصنيفا‏، ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏لى ‏أن‏ ‏أتعلم‏  فلأتعلم ‏بالخبرة‏” “‏إن‏ ‏مجال‏ ‏العلم‏ ‏ملئ‏ ‏بالمقالات‏، ‏إنها‏ ‏أصبحت‏ ‏تمثل‏ ‏أزمة‏ ‏مثل‏ ‏أزمة‏ ‏المواصلات‏ ‏وأزمة‏ ‏تلوث‏ ‏الهواء‏ ‏وأزمة‏ ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏الفضلات‏، ‏والمقالات‏ ‏العلمية‏ ‏أصبحت‏ ‏قيمتها‏ ‏مقاربة‏ ‏لقيمة‏ ‏الورق‏ ‏والحبر‏ ‏الذى ‏ينفق‏ ‏عليها‏… ‏أنت‏ ‏تتفق‏ ‏معى ‏فى ‏هذا‏، ‏وسوف‏ ‏تقول‏ ‏أن‏ ‏ماحاولت‏ ‏أن‏ ‏تعبر‏ ‏عنه‏ ‏ليس‏ ‏مقالة‏ ‏أخرى ‏وليس‏ ‏نظرية‏، ‏ولكنه‏ ‏توضيح‏ ‏وتنسيق‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏معلوم‏، ‏وربط‏ ‏أجزاء‏ ‏العلم‏ ‏المتفرقة‏ ‏وتوحيدها‏ ‏حتى ‏فى ‏اللفظ، أنت تـُصرُّ‏ ‏وتصر‏ ‏على ‏استخدام‏ ‏كلمة‏ “‏مخ‏” ‏وكلما‏ ‏تستخدمها‏ ‏يثار‏ ‏لعابى ‏لأنه‏ ‏كان‏ ‏فيما‏ ‏مضى ‏سندوتشى ‏المفضل‏ ‏عند‏ “‏على ‏كيفك‏” ‏فى ‏الإسكندرية‏ “‏ولابّاس‏” ‏فى ‏القاهرة‏.‏

ثم‏ ‏يقول:

‏ “‏أعود‏ ‏وأقول‏ ‏معك‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏تنظير‏ ‏وتنسيق‏ ‏وتوفيق‏… ‏ولكن‏ ‏أليس‏ ‏العلم‏ ‏مليئا‏ ‏بالنظريات‏… ‏وكلها‏ ‏نظريات‏ ‏لاتفعل‏ ‏شيئا‏ ‏ولا‏ ‏تنجد‏ ‏الطبيب‏ ‏فى ‏لقائه‏ ‏مع‏ ‏مريضه‏ ‏فلماذا‏ ‏نضيف‏ ‏واحدة‏ ‏أخرى؟‏”‏

‏”‏لقد‏ ‏كنت‏ ‏فيما‏ ‏مضى ‏متحمسا‏ ‏لساندور ‏ ‏رادو ([20])‏ Sandor Rado  ‏ثم‏ ‏وجدت‏ ‏نفسى ‏أتحدث‏ ‏بلغة‏ ‏لايفهمها‏ ‏إلا‏ ‏تلاميذ‏ ‏ساندور ‏رادو‏ ‏وعددهم‏ ‏محدود‏…. – ‏ولكنى ‏فضلت‏ ‏أن‏ ‏أعود‏ ‏إلى ‏لغة‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏لأنها‏ ‏لغة‏ ‏منتشرة‏ ‏ويفهمها‏ ‏الكثيرون‏ ‏ممن‏ ‏أحترمهم‏ ‏وأستطيع‏ ‏التفاهم‏ ‏معهم‏”‏

ثم‏  ‏ينهى ‏خطابه‏ ‏بعد‏ ‏اعتراضات‏ ‏أخرى ‏كثيرة‏ ‏قائلا‏:‏

“قبل‏ ‏أن‏ ‏أنام‏ ‏أقول‏: ‏نعم‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏أكتب‏ ‏وأن‏ ‏تكتب‏ ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏نتحدث‏  ‏بل‏ ‏نتعارك‏ ‏أحيانا‏ ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏نتفاعل‏ ‏وجها‏ ‏لوجه‏، ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏نجابه‏ ‏مشكلة‏ ‏حية‏ ‏نتحدث‏ ‏عنها‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نغرق‏ ‏فى ‏النظريات‏ ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏بوجدانك‏ ‏فى ‏كتاباتك‏ ‏وألا‏ ‏تعتذر‏….. ‏وأقول‏ ‏أنى ‏معك‏ ‏ولست‏ ‏معك‏… ‏وليكن‏ ‏هذا‏ “‏علم‏ ‏وصول‏” ‏لحديث‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يستمر‏…”‏محمد‏”‏.

وسكتّ، ورضيتُ، واحترمتُ، وواصلتُ‏.‏

أرسلت‏ ‏إلى ‏بييبر‏ ‏فى ‏باريس‏… ‏ولم‏ ‏يرد

وأرسلت‏ ‏إلى ‏شعلان‏ ‏فى ‏أمريكا‏… ‏ورد‏ ‏على بهذا‏ ‏الدش‏ ‏البارد‏، ‏الذى وصلتنى منه بعض كرات الثلج بما فيها من حب وصدق..فأفاقتنى قليلا وحاولت‏ التوقف عن التمادى فى التنظير… ‏ولم‏ ‏أستطع‏.. ‏واستمررت:‏

‏كل‏ ‏شئ‏ ‏جديد‏ ‏ومتغير‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏شئ‏… ‏القديم‏ ‏موجود‏ ‏منذ‏ ‏الأزل‏‏، ‏والحقيقة‏ ‏باقية‏ ‏لاتتغير‏، ‏ولكن‏ ‏ضوءا‏ ‏بسيطا‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏خافتا‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يغير‏ ‏المنظر‏ ‏العام‏…‏

وسكت‏ ‏طويلا‏ ‏حتى ‏جاء‏ ‏العيد‏ ‏فأرسلت‏ لشعلان من جديد ‏ ‏خطابا‏ ‏حارا‏ ‏كان‏ ‏فيه‏:‏

‏”‏عزيزى ‏محمد‏: ‏كل‏ ‏سنة‏ ‏وأنت‏ ‏طيب‏، ‏وأنت‏ ‏حر‏، ‏وأنت‏ ‏خالق‏، ‏وأنت‏ ‏نفسك‏، ‏وأنت‏ ‏مستيقظ‏، ‏وأنت‏ ‏محبوب‏، ‏وأنت‏ ‏تحب‏، ‏وأنت‏ ‏تغنى ‏وتنطلق‏، ‏وأنت‏ ‏قوى، ‏وأنت‏ ‏مسئول‏، ‏وأنت‏ ‏شريف‏، ‏وأنت‏ ‏إنسان‏، ‏وأنت‏ ‏تتطور‏، ‏وأنت‏ ‏حى….‏

وصلنى ‏خطابك‏ “‏ضد‏ ‏الأمخاخ‏” ‏ورفضت‏ ‏أغلب‏ ‏ماجاء‏ ‏فيه‏ و‏لكنك جمعت‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏التناقضات‏ ‏ما‏ ‏أغرانى ‏بالرد‏ ‏عليه‏، ‏ثم‏ ‏أغرانى ‏بالرد‏ ‏عليك‏، ‏ثم‏ ‏أغرانى ‏بالحديث‏ ‏عنك‏.‏

وفى هذا الخطاب‏ ‏قلت‏:‏

‏”‏لقد‏ ‏رفضتَ‏ ‏اللغة‏ ‏ثم‏ ‏تمسكت‏ ‏بلغة‏ ‏الأغلب‏: ‏لغة التحليل النفسى

وهاجمتَ‏ ‏الأبحاث‏… ‏ثم‏ ‏استشهدت‏ ‏بنتائجها‏!

ورفضتَ‏ ‏التشخيص‏… ‏ثم‏ ‏تمسكت‏ ‏برموز‏ ‏النظريات‏ ‏السائدة‏ !‏

ورفضتَ ‏المخ‏… ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تسجن‏ ‏فى ‏خلاياه‏ !‏

وحاولتَ أن‏ ‏تتحرر‏، ‏وخيل‏ ‏إليك‏ ‏أنك‏ ‏نجحت‏… ‏ولكن‏ ‏الحرية‏ ‏صعبة‏ ‏صعبة‏، ‏فأنت‏ ‏تتردد‏ ‏وتحاول‏ ‏أن‏ ‏تلجأ بعد كل ذلك إلى‏ ‏مظلة‏ ‏تحتمى ‏بها‏، ‏والمظلة‏ ‏ليست‏ ‏قفصا‏ ‏مثل‏ ‏قفصك‏ ‏القديم‏، ‏ولكنها‏ ‏وقاية‏ ‏مما‏ ‏يأتى ‏من‏ ‏السماء‏، ‏من‏ ‏المجهول‏.. ‏ولكن‏ ‏إلى ‏متى ‏تظل‏ ‏رافعها‏ ‏فوق‏ ‏رأسك يا محمد؟‏ ‏ثم‏ ‏كيف‏ ‏تستعمل‏ ‏يديك؟‏ ‏وكيف‏ ‏تنطلق؟‏ ‏لتنطلق‏!‏

نعم‏…‏

لابد‏ ‏من‏ ‏آخرين‏، ‏ولكن‏ ‏ليس‏ ‏دائما‏ ‏أصحاب‏ ‏لغة‏ ‏لفظية‏ ‏وإنما‏ ‏أصحاب‏ ‏مشاعر‏ ‏وقلوب‏ (‏قلوب‏ ‏مخية‏ ‏أيضا‏)([21])‏‏‏، ‏وفيما‏ ‏أعلم‏ ‏فلم‏ ‏ينجح‏ ‏إنسان‏ ‏وحده‏”‏

ثم‏ ‏قلت‏ ‏له‏:‏

‏”‏قيود‏ ‏الأرض‏ ‏غائرة‏ ‏فى ‏جوفها‏ ‏وهى ‏تجذبك‏ ‏إليها‏، ‏وأنت‏ ‏تحن‏، ‏وتخاف‏، ‏وقيود‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏تأمن‏ ‏فى ‏رحابها‏… ‏ولكنها‏ ‏تتسلل‏ ‏إلى ‏فكرك‏ ‏فى ‏براءة‏ ‏ظاهرية‏، ‏وتوهمك‏ ‏أنها‏ ‏مفاتيح‏ ‏تفتح‏ ‏الأقفال‏، ‏وأنت‏ ‏فى ‏سكرة‏ ‏الأمان‏، ‏وأنت‏ ‏تحمل‏ ‏كومة‏ ‏المفاتيح‏، ‏تنسى ‏أن‏ ‏المفاتيح‏ ‏تقفل‏ ‏الأقفال‏ ‏أيضا‏ ‏ولا‏ ‏تفتحها‏ ‏فقط‏، ‏وأنت‏ ‏تعلم‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏حريصا‏ ‏على ‏رجوعك إلى مصر‏، ‏ومازلت‏، ‏ولكن‏ ‏حرصى ‏اليوم‏ هو ‏لسبب‏ ‏آخر‏ ‏غير‏ ‏زمان‏، ‏لأنى ‏زمان‏ ‏كنت‏ ‏حريصا‏ ‏على ‏قسم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية ‏وعلى ‏مصر‏، ‏وعلى ‏صديق‏ ‏شريف‏، ‏أما‏ ‏الآن‏ ‏فأنا‏ ‏حريص‏، ‏على ‏الإنسان، ربما بدءًا بما يمثله‏، ‏فلربما‏ ‏كان‏ ‏وجودك‏ ‏معنا‏ ‏خطوة‏ ‏على ‏الطريق‏ ‏التطورى([22])‏‏‏ ‏لنا‏ ‏جميعا‏.‏

وأنت‏ ‏تسأل يا محمد‏: ‏هل‏ ‏الجلسات‏ ‏الصباحية‏ ‏التى ‏أشرت‏ُُ ‏إليها‏ ‏من‏ ‏معلـِّم‏ ‏لتلاميذ‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏نـِدّ‏ ‏لند؟‏ ‏وأنا‏ ‏أجد‏ ‏عندى ‏الشجاعة‏ ‏الآن‏ ‏لأقول‏ ‏إن‏ ‏رؤيتى ‏ ‏الآن‏ ‏تجعل‏ ‏الصدق‏ ‏أساس‏ ‏التفاهم‏ ‏وليس‏ ‏كمِّ‏ ‏المعلومات‏، ‏وتجعل‏ ‏التلقائية‏ ‏الذاتية‏ ‏هى ‏الوسيلة‏ ‏الأولى ‏لتقييم‏ ‏الرأى ‏وليست‏ ‏الحجج‏ ‏والبراهين‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏فإنى ‏لا‏ ‏أجد‏ ‏الصدق‏ ‏والحرية‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏الشباب‏ (‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏أعمار‏ ‏شهادة‏ ‏الميلاد‏) ‏وإنى ‏بعد‏ ‏تجربتى ‏الأخيرة‏ ‏لست‏ ‏مستعدا‏ ‏بحال‏ ‏أن‏ ‏أضيع‏ ‏عمرى ‏فى ‏مناقشات‏ ‏بيزنطية‏ ‏تـُستعرض‏ ‏فيها‏ ‏العضلات شبه العلمية‏، ‏أو‏ ‏يحـْـمـِى ‏بها‏ ‏المناقـِشُ‏ ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏أصالته‏، ‏أو‏ ‏يحصل‏ ‏بها‏ ‏المناقش‏ ‏على ‏شبق‏ ‏فكرى ‏زائف‏، ‏وإنما‏ ‏أنا‏ ‏مستعد أن‏ ‏أبذل‏ ‏عمرى ‏مع‏ ‏إنسان‏ ‏حر‏ ‏صادق‏ ‏تثيرنى ‏اعتراضاته‏ ‏فأجد‏ ‏بها‏ ‏ذاتى ‏وأنير‏ ‏بها‏ ‏فكرى، ‏ويثيره‏ ‏هجومى ‏فيستيقظ‏ ‏ويرفض‏، ‏ويتعرى ‏بلا‏ ‏خجل‏… ‏والإنسان‏ ‏الذى ‏حل‏ ‏مشكلته‏ ‏بين‏ ‏الكتب‏ ‏والأبحاث‏، ‏الذى ‏يعشق‏ ‏حروف‏ ‏المطبعة‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏نبض‏ ‏الإنسان‏ ‏يصعب‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏أثير‏ ‏فيه‏ ‏تساؤلات‏ ‏الوجود‏ ‏والكون‏ ‏والخلق‏، ‏وربما‏ ‏كانت‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الفروق‏ ‏هى ‏التى ‏تميز‏ ‏الانجليز‏ ‏عن‏ ‏الفرنسيين‏، ‏والعلم‏ ‏الهندسى ‏عن‏ ‏الفلسفة‏ ‏الصوفية‏، ‏والأرقام‏ ‏عن‏ ‏الموسيقى… ‏الخ‏، ‏وأنا أحترم الزميل‏ ‏العالم‏ ‏الحافظ‏ ‏المنظم‏، ‏أحترمه‏ ‏كما‏ ‏أحترم‏ ‏الأسمنت‏ ‏المصنوع‏ ‏منه‏ ‏برج‏ ‏الجزيرة‏، ‏وأحبه‏ ‏كما‏ ‏أحب‏ ‏عمارة‏ ‏بلمونت‏، ‏وأقدر‏ ‏كفاحه‏ ‏كما‏ ‏أقدر‏ ‏مهندس‏ ‏السد‏ ‏العالى… ‏ لكننى أحتاج‏ أكثر ‏أن‏ ‏أنطلق‏، ‏وقد‏ وجدتُ ‏مثل ذلك بين الكثيرين من‏ ‏‏‏الشباب‏ ‏خاصة‏، ‏لأنه‏ ‏كما‏ ‏يقول‏ ‏العرب‏ “‏من‏ ‏طلب‏ ‏شيئا‏ ‏وجده‏”‏

ثم‏ ‏قلت‏ ‏أخيرا‏:‏

لست‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏بدأت‏ ‏الخطاب‏ ‏وكيف‏ ‏أنهيه‏، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏أدريه‏ هو ‏أنى ‏أحمل‏  ‏فى ‏نفسى ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏ومنذ‏ ‏إبريل‏ ‏الماضى ‏طاقة‏ ‏هائلة‏ ‏من‏ ‏الحب‏ ‏تكاد‏ ‏تغمر‏ ‏العالم‏ ‏كله‏، ‏طاقة‏ ‏تكاد‏ ‏تصنع‏ ‏الحياة‏، ‏طاقة‏ ‏تتحدى ‏الجنون‏، ‏وتشرق‏ ‏كالشمس‏ ‏بين‏ ‏جنبىّ ‏وتضئ‏ ‏وتدفئ‏ ما حولى، ‏وأحس‏ ‏أننا‏ ‏لو‏ ‏كنا‏ ‏جماعة‏ ‏لعملنا‏ ‏شيئا‏.. ‏ربما‏.. ‏بل‏ ‏حتما‏..‏

وأخيرا‏ ‏لك‏ ‏ماتشعر‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الكلمات‏”‏

‏***‏

وبعد‏ ….‏

فهل‏ ‏انتهت‏ ‏حيرتى؟

أم‏ ‏هى ‏بدأت؟

‏***‏

ملحوظة: (هذا الفصل لم أغير فيه إلا تصحيحات  لغوية عابرة).

الفصل الثالث:

مستويات الصحة النفسية

على طريق التطور الفردى([23])

 

“‏سقراط‏: ‏لقد‏ ‏كنت‏ ‏أدرك‏ ‏أيها‏ ‏الصديق‏ ‏أنك‏ ‏لن‏ ‏تقنع‏ ‏برأى ‏الآخرين‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المسألة‏.‏

جلوكون‏: ‏ذلك‏ ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يليق‏ ‏بمن‏ ‏قضى ‏حياته‏ ‏مثلك‏ ‏وهو‏ ‏يفكر‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المسائل‏، ‏أن‏ ‏يكتفى ‏بعرض‏ ‏آراء‏ ‏الآخرين‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يعرض‏ ‏آراءه‏ ‏هو‏.‏

سقراط‏: ‏ولكن‏ ‏أتظن‏ ‏أنه‏ ‏يليق‏ ‏بالمرء‏ ‏أن‏ ‏يتحدث‏ ‏عما‏ ‏لا‏ ‏يعلمه‏ ‏وكأنه‏ ‏يعلمه؟

جلوكون‏: ‏كلا‏، ‏لا يصح‏ ‏أن‏ ‏يتحدث‏ ‏وكأنه‏ ‏يعلمه‏، ‏ولكنه‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يقول‏ ‏ما يعرفه‏ ‏على ‏سبيل‏ ‏عرض‏ ‏رأيه‏ ‏الخاص‏”‏ 

‏ ‏أفلاطون‏- ‏محاورة‏ ‏الجمهورية

الكتاب‏ ‏السادس

 

استهلال قبل المقدمة([24])‏:‏

مقدمة‏:‏

الإنسان‏ ‏كائن‏ ‏متطور‏، ‏وتطوره‏ ‏لا‏ ‏يقتصر‏ ‏على ‏مفهوم‏ ‏النشوء‏ ‏والارتقاء‏ ‏فحسب‏ ‏وإنما‏ ‏يعنى ‏الواقع‏ ‏الذاتى ‏للفرد‏ ‏للوصول‏ ‏إلى ‏مستوى ‏أرقى، ‏والانسان‏ ‏لذلك‏ ‏لا يقتصر‏ ‏هدفه‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏على ‏متعة‏ ‏ذاته‏ ‏أو‏ ‏حفظ‏ ‏نوعه‏، ‏ولكنه‏ ‏يمتد‏ ‏إلى ‏تطوير‏ ‏وجوده‏ ‏والرقى بنفسه ‏على ‏نفسه([25]).‏

هذه‏ ‏حقيقة‏ ‏قديمة‏ ‏قدم‏ ‏إدراك‏ ‏الإنسان‏ ‏لذاته‏، ‏وقد‏ ‏ظهرت‏ ‏فى ‏حياة‏ ‏وإنتاج‏ ‏الفلاسفة‏ ‏والفنانين‏ ‏ورواد‏ ‏الفكر‏ ‏على ‏مر‏ ‏العصور‏، ‏وحين‏ ‏نادى ‏زرادشت‏ ‏أو‏  نيتشه‏ ‏أو‏ ‏برناردشو‏ ‏بالإنسان‏ ‏الأعلى، ‏كانوا‏ ‏يُجـَسـِّدون‏ ‏شعورهم‏ ‏الصادق‏ ‏لفكرة‏ ‏تطور‏ ‏الفرد‏ ‏عبر‏ ‏تاريخه‏ ‏الشخصى، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏تطور‏ ‏نوعه‏، ‏ومعظم‏ ‏هؤلاء الارتقائيون‏ ‏يعزون‏ ‏هذه‏ ‏النزعة‏ ‏إلى ‏دافع‏ ‏أصيل‏ ‏فى ‏الانسان‏ ‏يتخذ‏ ‏أسماء‏ ‏وصفات‏ ‏تختلف‏ ‏باختلاف‏ ‏نوع‏ ‏الفسفة‏ ‏أو‏ ‏زاوية‏ ‏الرؤية‏ ‏أو‏ ‏لغة‏ ‏الفن‏.‏

إلا‏ ‏أن‏ ‏آخرين‏ ‏أنكروا‏ ‏ذلك‏ ‏بطريق‏ ‏مباشر‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏مباشر‏، ‏ومنهم‏ ‏فرويد‏ ‏بتأثيره‏ ‏غير‏ ‏المحدود‏ ‏على ‏الرأى ‏العام‏- ‏رجل‏ ‏الشارع‏- ‏وتأثيره‏ ‏المتغلغل‏ ‏فى ‏علوم‏ ‏النفس([26]).

وقد‏ ‏استـُدرج‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏تحت‏ ‏تأثير‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏مرة‏، ‏وتأثير‏ ‏ نظريات الكيمياء‏ والميكنة‏ ‏مرة‏ ‏أخرى، ‏إلى ‏إغفال‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏ التطورية الارتقائية ‏وأصبح‏ ‏هدفه – غالبا – ‏إما‏ ‏أن‏ ‏يحقق‏ ‏للمريض‏ ‏اللذة‏ ‏والحياة‏ ‏السهلة‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏يسكــِّن‏ ‏ثائرته‏ ‏ويخفى ‏أعراضه‏، ‏وفى ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏ذاك‏ ‏هو‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يرجع‏ ‏بالإنسان‏ ‏إلى ‏حظيرة‏ ‏الصحة‏، ‏أو‏ ‏ما يتصوره‏ ‏كذلك.

ولكن‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏ظل يواصل محاولة البحث فى أبعاد وطبيعة الصحة النفسية‏، ‏وما هو‏ ‏الحد‏ ‏الفاصل‏ ‏بينها‏ ‏وبين‏ ‏المرض؟‏ ‏وهل‏ ‏السواء‏ ‏هو‏ ‏المتوسط‏ ‏الاحصائى؟‏ ‏أم‏ ‏هو‏ ‏الحالة‏ ‏التى ‏كان‏ ‏عليها‏ ‏المريض‏ ‏قبل‏ ‏عارض‏ ‏المرض؟([27])..الخ

على ‏أنه‏ ‏لو‏ ‏استطردنا‏ ‏فى ‏عرض‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏القديمة‏ ‏الجديدة‏، ‏ومحاولة‏ ‏إجابتها‏ ‏لكان‏ ‏ذلك‏ ‏إعادة‏ ‏لما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏حير‏ ‏الناس‏ ‏والأطباء‏ ‏وعلماء‏ ‏النفس‏ ‏معا‏، ‏ومازال‏ ‏يحيرهم‏ ‏دون‏ ‏جديد‏ ‏محدد‏، ولكن‏ ‏المشاكل‏ ‏العملية‏ ‏التى ‏تترتب‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الغموض‏ ‏فى ‏ممارسة‏ ‏الطب‏ ‏النفسى، ‏مشاكل‏ ‏لا‏ ‏تقع‏ ‏فى ‏دائرة‏ ‏الخلافات‏ ‏النظرية فحسب،‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏تمس‏ ‏الطبيب‏ ‏وتحيره‏ ‏أمام‏ ‏المريض‏ ‏فى ‏كل‏ ‏يوم‏.‏

لكل‏ ‏هذا‏ ‏فإنى – بعد استعراض محدود للتراث- ‏أتقدم‏ ‏بعرض‏ ‏مفهوم‏ ‏تطورى ‏للصحة‏ ‏النفسية‏ ‏أحاول‏ ‏به‏ ‏الرد‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏والمساهمة‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏وظيفة‏ ‏بعض‏ ‏أنواع‏ ‏ومراحل‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏على ‏سلم‏ ‏التطور‏ ‏والتدهور‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى، ‏وهذا‏ ‏المفهوم‏ ‏يهدف‏ ‏أيضا‏ ‏إلى ‏وضع‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏موضعا‏ ‏إيجابيا‏ ‏يساهم‏ ‏به‏ ‏‏ ‏فى دعم مستقبل‏ ‏الإنسان‏ ‏إلى ما يعدُ به.‏.‏

****

أولاً: مراجعة تاريخية

لجأ‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏إلى ‏التهرب‏ ‏من‏ ‏مواجهة‏ ‏هذه‏ ‏المشكلة‏ ‏بعدة‏ ‏طرق‏ ‏أورد‏ ‏أهمها‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المقدمة‏:‏

أولاً: ‏أعتبر‏ ‏بعض‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏أن‏ ‏الصحيح‏ ‏نفسيا‏ ‏هو‏ ‏الخالى ‏من‏ ‏الأمراض‏، ‏أو‏ ‏بشكل‏ ‏أدق‏ ‏من‏ ‏الأعراض‏.‏

ولكنه‏ ‏تبين‏ ‏من‏ ‏ناحية‏: ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏الأعراض‏ ‏توجد‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأسوياء‏! ‏إلا أن‏ ‏مجرد‏ ‏وجود‏ ‏العرض‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏المرض‏، ‏وقد‏ ‏حاولت‏ ‏بنديكت‏ ‏روث‏ Benedict Ruth ([28])‏‏‏‏ أن‏ ‏تثبت‏ ‏أن‏ ‏قيمة‏ ‏العرض‏ ‏المرضية‏ ‏تتوقف‏ ‏ليس‏ ‏على ‏وجوده‏ ‏فحسب‏، ‏بل‏ ‏على ‏انتشاره‏ ‏وقبوله‏ ‏من‏ ‏البيئة‏ ‏أو‏ ‏رفضه‏، ‏ولكن‏ ‏فجروكى Wegrocki ‏([29])‏‏‏‏ أوضح‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏تتوقف‏ ‏على ‏وظيفة‏ ‏العرض‏ ‏المرضية‏، ‏وليس‏ ‏على ‏مجرد‏ ‏وجوده‏ ‏أو‏ ‏انتشاره‏، ‏فإن‏ ‏العرض‏ ‏قد‏ ‏يخدم‏ ‏التوازن‏ ‏النفسى ‏وأحيانا‏ ‏التكيف‏، ‏أو‏ ‏هو‏ ‏قد‏ ‏يخل‏ ‏بهما‏ ‏تبعا‏ ‏لدوره‏ ‏الديناميكى ‏ووظيفته‏ النفسمراضية (‏السيكوباثولوجية)‏، ‏ومن‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى: ‏ففى ‏حالة‏ ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏توجد‏ ‏أعراض‏ ‏أو‏ ‏أمراض‏ ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏لايعنى ‏الصحة‏ ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏تعريف‏ ‏الصحة‏ ‏تعريفا‏ ‏سلبيا‏ ‏رُفـِضَ‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏المجالات‏ ‏حتى ‏أن‏ ‏الهيئة‏ ‏الصحية‏ ‏العالمية‏ ‏أوردت‏ ‏تعريفا‏ ‏للصحة‏ ‏بوجه‏ ‏عام‏ ‏ينص‏ ‏على ‏أنها‏ “‏ليست‏ ‏مجرد‏ ‏الخلو‏ ‏من‏ ‏المرض‏” ‏كما‏ ‏سيأتى.

ثانياً: ‏حاول‏ ‏فريق‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏الأطباء‏ ‏أن‏ ‏يَحُدُّوا‏ ‏أنفسهم‏ ‏بالذين‏ ‏يحضرون‏ ‏إليهم‏ ‏للعلاج‏ ‏طائعين‏ ‏أو‏ ‏مكرهين‏، ‏فلجأوا‏ ‏إلى ‏التفرقة‏ ‏بين‏ “‏المريض‏” ‏والذى ‏به‏ ‏مرض‏”، “‏فالمريض‏” ‏عندهم‏ ‏من‏ ‏يحضر‏ ‏لاستشارتهم‏، ‏يحضر‏ ‏هو‏ ‏أو‏ ‏يحضره‏ ‏آخر‏، ‏أما‏ “‏الذى ‏به‏ ‏مرض‏” ‏فقد‏ ‏يحضر‏ ‏أو‏ ‏لايحضر‏ ‏وقد‏ ‏لايحضره‏ ‏آخر‏، ‏وحين‏ ‏لا‏ ‏يحضر‏ ‏يتصور‏ ‏هذا‏ ‏الفريق‏ ‏من‏ ‏الأطباء‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نحكم‏ ‏له‏ ‏أو‏ ‏عليه‏، ‏ويفسر‏ ‏أصل‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏وجود‏ ‏لفظين‏ ‏فى ‏اللغات‏ ‏ذات‏ ‏الأصل‏ ‏اللاتينى ‏يختلفان‏ ‏فى ‏المعنى ‏نفس‏ ‏هذا‏ ‏الاختلاف‏ ‏، فهما‏ ‏فى ‏اللغة‏ ‏الانجليزية‏ ‏ ‏لفظا‏ “Ill & patient” (‏ولم‏ ‏أجد‏ ‏لهما‏ ‏مقابلا‏ ‏مباشرا‏ ‏فى ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏فترجمتهما‏ ‏إلى ‏ماسبق‏ ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏هو‏ ‏الـ‏ Patient “‏والذى ‏به‏ ‏مرض‏” ‏هو‏ (Ill ‏أما‏ ‏المريض‏ “Patient” ‏فمعناه‏ ‏الحرفى ‏فى ‏اللغة‏ ‏الانجليزية‏: ‏الشخص‏ ‏المريض‏ (‏حالة‏ ‏كونه‏) ‏يعالـَجُ‏ ‏بواسطة‏ ‏طبيب‏، ‏وأما‏ ‏الذى ‏به‏ ‏مرض‏” ‏فترجمته‏ ‏الحرفية‏ ” ‏فى ‏صحة‏ ‏سيئة‏” (‏ولكن‏ ‏لهذا‏ ‏اللفظ‏ ‏الأخير‏ Ill ‏معان‏ ‏أخرى ‏مثل‏ “‏ذو‏ ‏خلق‏ ‏سئ‏” ‏أو‏ ‏مؤذ‏.. ‏وهى ‏معان‏ ‏ليست‏ ‏بعيدة‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏مظاهر وأعراض‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏على ‏كل‏ ‏حال‏).‏

وقد‏ ‏ذكر‏ ‏جيليس‏ Gillis ([30])‏‏‏‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏مبرر‏ ‏لمحاولة‏ ‏أن‏ ‏نفصل‏ “‏الخراف”‏ ‏عن‏ ‏”الماعز”‏ ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏يحضر‏ ‏للعلاج‏ ‏فقط‏ ‏هو‏ ‏المريض‏.‏

على ‏أن‏ ‏خروج‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏من‏ ‏وراء‏ ‏مكتبه‏ ‏فى ‏العيادة‏ ‏النفسية‏ ‏أو‏ ‏المستشفى ‏العقلى، ‏ودخوله‏ ‏بالبحث‏ ‏والدراسة‏ ‏إلى ‏المجتمع‏ ‏الأوسع‏، ‏وازدهار‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏الاجتماعى ‏والطب‏ ‏النفسي ‏الاجتماعى ‏جعلوا‏ ‏هذه‏ ‏التفرقة‏ ‏لا‏ ‏معنى ‏لها‏، ‏بل‏ ‏أصبحت‏ ‏قاصرة‏ ‏ومعوِّقة‏، ‏لأن‏ ‏حضور‏ “‏ذى ‏الصحة‏ ‏السيئة‏” ‏إلى ‏الطبيب‏ ‏ليصبح‏ “‏مريضا‏” ‏لن‏ ‏يغير‏ ‏من‏ ‏صفاته‏، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ثبت‏ ‏أن‏ ‏أسباب‏ ‏الذهاب‏ ‏إلى ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏لا‏ ‏تتوقف‏ ‏على ‏شدة‏ ‏المرض‏ ‏أو‏ ‏نوعه‏، ‏بل‏ ‏تتداخل‏ ‏فيها‏ ‏عوامل‏ ‏متعددة‏ ‏مثل‏ ‏درجة‏ ‏ثقافة‏ ‏الفرد‏ ‏والمجتمع‏، ‏ومدى ‏الرعاية‏ ‏النفسية‏، ‏والقدرة‏ ‏المالية‏، ‏والمكاسب‏ ‏الثانوية‏ ‏من‏ ‏الموقف‏ ‏عامة‏، ‏وقد‏ ‏قام‏ ‏روانسلى ‏ولاودن‏ Rawnsley & Lawden‏([31])‏‏‏‏ بدراسة‏ ‏بعض‏ ‏هذه‏ ‏العوامل‏ ‏التى ‏تتحكم‏ ‏فى ‏تحويل‏ ‏المريض‏ ‏إلى ‏عيادة‏ ‏نفسية‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الممارس‏ ‏العام‏، ‏ولم‏ ‏يجدا‏ ‏أى ‏ارتباط‏ ‏ذى ‏دلالة‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏التحويل‏ ‏وبين‏ “‏شدة‏ ‏المرض‏” ‏أو‏ ‏أى “‏تشخيص‏ ‏خطير‏”، ‏أو‏ ‏أى عامل ‏آخر‏ ‏مثل‏ ‏السن‏ ‏أو‏ ‏الحالة‏ ‏المدنية‏.‏

ويلاحظ‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏وخاصة‏ ‏الذى ‏يمارس‏ ‏المهنة‏ ‏فى ‏عيادة‏ ‏خاصة‏ ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏المرضى ‏يجيئون‏ “‏للعلم‏ ‏بالشئ‏” ‏أو زيادة‏ ‏المعرفة‏، ‏أو‏ ‏ليزيد‏ ‏طالب‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏الاستذكار‏، ‏أو‏ ‏لتنظم‏ ‏أسرة‏ ‏مصروف‏ ‏الشهر‏… ‏إلى ‏آخر‏ ‏هذه‏ ‏الأسباب‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تتصل‏ ‏مباشرة‏ ‏بالمرض‏ ‏النفسى ‏المحدد‏ ‏المعالم‏.‏

ثالثاً: ‏لجأ‏ ‏جمهور‏ ‏الأطباء‏ ‏إلى ‏اعتبار‏ ‏المريض‏ ‏مقياس‏ ‏نفسه‏، ‏وبالتالى ‏فالصحة‏ ‏هى ‏ماكان‏ ‏عليه‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏ ‏أو‏ ‏قبل‏ ‏الاستشارة‏ ‏الطبية‏، ‏وعلى الطبيب أن يقوم‏ ‏‏بدراسة‏ ‏مستعرضة‏ ‏لشخصية‏ ‏المريض‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏ ‏يدرس‏ ‏فيها‏ ‏نوازعه‏ ‏وسماته‏ ‏وعلاقاته‏ ‏الاجتماعية‏ ‏وعاداته‏ ‏وغير‏ ‏ذلك‏، ‏ثم‏ ‏يجرى ‏دراسة‏ ‏مقابلة‏ ‏عن‏ ‏حالة‏ ‏المريض‏ ‏أثناء‏ ‏المرض‏ (‏الآن‏)، ‏ثم‏ ‏يحكم‏ ‏على ‏مدى ‏صحته‏ ‏ومرضه‏ ‏وربما‏ ‏على ‏الهدف‏ ‏من‏ ‏علاجه‏.‏

ولكن‏ ‏حالة‏ ‏المريض‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏ ‏ربما‏ ‏لاتعنى ‏الصحة‏، ‏فربما‏ ‏أنه‏ “‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يشكو‏” ‏أو‏ ‏أنه‏ “‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يعرف‏”، ‏ولو‏ ‏أن‏ ‏الهدف‏ ‏من‏ ‏العلاج‏ ‏كان‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ ‏هو‏ ‏الصحة‏، ‏وكانت‏ ‏الصحة‏ ‏هى ‏حالته‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏، ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏قد‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏نقلل‏ ‏من‏ ‏إدراك‏ ‏المريض‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يشكو‏ !!! ‏ورغم‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏طريق‏ ‏يصلح‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الأحوال‏ للتسكين بتدعيم الدفاعات ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏القاعدة‏ ‏على ‏كل‏ ‏حال‏، ‏إذ‏ ‏أنه‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏المريض‏ ‏أن‏ ‏يعيد‏ ‏ترتيب‏ ‏ذاته‏ ‏كما‏ ‏كانت‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏ ‏بعد‏ ‏ماتبين‏ ‏له‏ – ‏بالمرض‏- ‏فشل‏ ‏الترتيب‏ ‏السابق‏‏، ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏مقاومته‏ ‏واحتماله‏ ‏قد‏ ‏أصبحا‏ ‏أضعف‏ ‏من‏ ‏الاستمرار‏ ‏فى ‏الحالة‏ ‏السابقة‏ ‏مما‏ ‏يتطلب‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏المقاومة‏ ‏أكبر‏، ‏أو‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الحياة‏ ‏أدنى.‏

اتجاه‏ ‏التعريفات‏:‏

لا‏ ‏أريد‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏أسترسل‏ ‏فى ‏مراجعة‏ ‏تعريفات‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نجدها‏ ‏فى ‏بحوث‏ ‏نظرية‏ ‏أخرى ‏بشكل‏ ‏شامل‏ ‏ومفصل‏ ‏مثل جيليس‏ ‏ Gillis([32])‏‏‏‏ ‏أو‏ ‏تيوكر‏ Tucker([33])‏‏‏‏، ‏وقد‏ ‏انتهت‏ ‏أغلب‏ ‏البحوث‏ ‏المماثلة‏ ‏بالحيرة‏ ‏التى ‏بدأت‏ ‏بها‏، ‏فيقول‏ ‏جيليس‏ ‏مثلا‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏مقاله‏ ‏أنه‏ ‏يبدو‏ “‏أن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏تعريفها‏ ‏كشئ‏ ‏محدد‏، ‏وأنها‏ ‏موضوع‏ ‏نظرى ‏وليست‏ ‏قيمة‏ ‏قائمة‏ ‏بذاتها‏“، ‏ويضع‏ ‏تيوكر‏ ‏تعريفا‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏شخصيا‏ ‏غير‏ ‏مقتنع‏ ‏به‏، ‏إذ‏ ‏ينتهى ‏إلى ‏تشبيه‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏- ‏مشيرا‏ ‏إلى ‏حوار‏ ‏فلسفى ‏بدأ‏ ‏به‏ ‏المقال‏- ‏ببقرة‏ ‏موجودة‏ “‏هناك‏” ‏ولكنها‏ ‏تقف‏ ‏وسط‏ ‏الضباب‏.‏

ونلاحظ‏ ‏أن‏ ‏التعريفات‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏ ‏تتجه‏ ‏ثلاثة‏ ‏اتجاهات‏ ‏رئيسية‏:‏

الاتجاه‏ ‏الأول‏:‏

وهو‏ ‏الاتجاه‏ ‏الذى ‏يرى ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏حركة‏، ‏أو‏ ‏عملية‏، ‏تتجه‏ ‏نحو‏ ‏هدف‏ ‏ما‏ ‏وأنها‏ ‏ليست‏ ‏حالة‏ ‏ساكنة‏، ‏ومن‏ ‏الأمثلة‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏ماقاله‏ ‏ليمكو‏ Lemkau ([34])‏‏‏‏ “‏هى ‏هدف‏ ‏فى ‏المستقبل‏ ‏تتجه‏ ‏إليه‏ ‏الشخصية‏ ‏باستمرار‏… ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏الهدف‏ ‏هو‏ ‏الشخصية‏ ‏الصحية‏” ‏وهو يؤكد ذلك بما أورده‏ ‏عن‏ ‏آخرين‏ ‏هو:‏ “‏أن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏غاية‏ ‏سعى ‏الفرد‏ ‏أن‏ ‏ينمى ‏قدراته‏ ‏الكامنة‏” ‏أو‏ “‏أن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏السعى ‏إلى ‏المثل‏ ‏ومحاولة‏ ‏اختيار‏ ‏أى ‏القيم‏ ‏نعتقد‏ ‏وأى ‏الأعلام‏ ‏نتبع‏“.‏

ويستمر‏ ‏هذا‏ ‏الاتجاه‏ ‏واضعا‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ كحلم‏ ‏مستقبلى، ولابد أن أعترف أنه هذا التوجه كان من أكثر التوجهات التى اتفقتْ مع ما بزغ لى وألمحت إليه فى الفصل السابق فى “ولادة فكرة” وقد فرحت به جدا برغم أننى لم أطلع عليه إلا بعد تسجيل أفكارى.

الاتجاه‏ ‏الثانى:‏

وهو‏ ‏الاتجاه‏ ‏الذى ‏يبسـِّط‏ ‏الأمر‏ ‏تبسيطا‏ ‏ظاهريا‏ ‏باستعمال‏ ‏ألفاظ‏ ‏سهلة‏ ‏ولكنها‏ ‏تعنى ‏معان‏ ‏ضخمة‏ ‏وغامضة‏ ‏ومتنوعة‏، ‏فمن‏ ‏أبسط‏ ‏التعاريف‏ ‏وربما‏ ‏أشملها‏ ‏قول‏ ‏فرويد – قرب نهاية حياته – ‏ ‏أن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏”أن‏ ‏تعمل‏وأن‏ ‏تحب‏”، ‏ولكن‏ ‏بالغوص‏ ‏إلى ‏فكر‏ ‏فرويد‏ ‏وطريقته‏ ‏فى ‏التفسير‏ ‏والعلاج‏ ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏نوع‏ ‏العمل‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏توضيح‏ ‏فض، وخاصة ‏عن‏ ‏نوع‏ ‏الحب‏ ‏وقد‏ ‏أرجعه‏ ‏صاحب‏ ‏التعريف عبر تاريخه السابق‏ ‏إلى ‏أصول‏ ‏شبقية منغرسة من الطفولة الأولى، ‏وقد غمرنى نوع ‏من‏ ‏الفرحة بهذا الختام المركـَّز الذى ختم به حياته بهذا الإيجاز المفيد والمهم. ‏ ‏

 ‏ومن‏ ‏هذه‏ ‏التعريفات‏ ‏أيضا‏ ‏ما يؤكد‏ ‏على ‏أن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏هى “‏التكيف‏” ‏ويشير‏ ‏بعضهم‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المقصود عادة‏ ‏بالتكيف‏ ‏هو‏ ‏التشكل‏ ‏مع‏ ‏المجتمع‏ ‏القائم‏ ‏ومعاييره‏، ‏فى ‏حين‏ ‏يتسع‏ ‏معنى ‏التكيف‏ ‏عند‏ ‏آخرين‏ ‏ليصبح‏ ‏مرادفا‏ ‏للتوازن‏ ‏الداخلى ‏والخارجى، ‏أى ‏مرادفا‏ ‏للصحة‏، ‏وبين‏ ‏هذا‏ ‏المعنى ‏الضيق‏ ‏وذلك‏ ‏المعنى ‏الشامل‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏تحديد‏ ‏أو‏ ‏تصنيف‏.

 ‏لكل ذلك‏ ‏فإن‏ ‏الرضا‏ ‏بالتعاريف‏ ‏البسيطة‏ ‏دون‏ ‏عمق‏ ‏لا‏ ‏يتقدم‏ ‏بفهمنا‏ ‏لهذه‏ ‏المشكلة‏ ‏كثيرا‏.‏                       

الاتجاه‏ ‏الثالث‏:‏

أما‏ ‏الاتجاه‏ ‏الأخير‏ ‏فهو‏ ‏يتحدث‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏بصفات‏ ‏مرصوصة‏، ‏تحدد‏ ‏معالم‏ ‏الصحة‏ ‏الإيجابية بالذات‏ ‏وتؤكد‏ ‏أن‏ ‏الفرد‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يتصف‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الصفات‏ ‏مجتمعه‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يستأهل‏ ‏صفة‏ ‏الصحة‏، ‏ومثال‏ ‏ذلك‏ ‏ما أوردته‏ ‏جاهودا‏ Jahoda ‏([35])‏‏‏‏ متضمنة‏ ‏فى ‏تعريفها‏ ‏مفاهيم‏ ‏عظيمة‏، ‏ولكن‏ ‏يبدو‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏أعظم‏ ‏مما‏ ‏يمكن‏ ‏تحقيقه‏، ‏مثل‏ “‏شعور‏ ‏الفرد‏ ‏بأبعاد‏ ‏نفسه‏، ‏ودقة‏ ‏الذات‏، ‏والتوافق‏ ‏الذى ‏يتضمن‏ ‏توازن‏ ‏القوى ‏النفسية‏، ‏والتلقائية‏، ‏وإدراك‏ ‏الواقع‏، ‏والرضا‏ ‏عن‏ ‏النفس‏، ‏والسيطرة‏ ‏على ‏النوازع‏” ‏إلى ‏آخر‏ ‏هذه‏ ‏الصفات‏ ‏التى ‏تقترب‏ ‏من‏ ‏المثالية‏ ‏أكثر من أنها تصف‏ ‏الصحة‏ ‏بمفهومها‏ ‏العام‏.‏

‏****    ‏

وحتى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن وصف‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏يبدأ من التأكيد على “‏‏التكيف‏ ‏مع‏ ‏المجتمع‏ ‏بقيمه‏ ‏السائدة‏، ‏وينتهى ‏بمثالية‏ ‏صعبة‏ ‏أو‏ ‏نادرة‏ ‏التحقيق‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏غامض‏ ‏غير‏ ‏محدد‏”‏

صعوبات‏ ‏عملية‏:‏

على ‏أن هذه‏ ‏الحيرة‏، ‏والتفاوت‏ ‏بين‏ ‏التعريفات‏، ‏ليست‏ ‏مشكلة‏ ‏نظرية‏ ‏بحتة‏ ‏فإن‏ ‏ما يترتب‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏تشويش‏ ‏وخلط‏ ‏فى ‏الحكم‏ ‏على ‏الأسوياء‏ ‏والمرضى ‏فى ‏مجالات  ‏البحث‏ ‏والعلاج‏ ‏يؤكد‏ ‏حاجتنا‏ ‏الشديدة‏ ‏إلى ‏تحديد‏ ‏واضح‏ ‏وخاصة‏ ‏فى ‏مجتمعنا‏ ‏النامى ‏وما يماثله‏ ‏من‏ ‏مجتمعات، ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الأبحاث‏ ‏التى ‏تدرس‏ ‏أثر‏ ‏التصنيع‏ ‏على ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏نتائج‏ ‏مخيفة‏ ‏ومتشائمة‏ ‏دون‏ ‏مبرر‏ ‏علمى ‏دقيق‏، ‏فقد‏ ‏راجع‏ ‏أراسته‏ Arasteh ‏([36])‏‏‏‏ ستة‏ ‏وسبعين‏ ‏بحثا‏ ‏أجريت‏ ‏فى ‏أفريقيا‏ ‏وأمريكا‏ ‏الجنوبية‏ ‏عن‏ ‏تأثير‏ ‏التصنيع‏ ‏على ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏وخرج‏ بنتائج‏ ‏متناثرة‏، ‏وغير‏ ‏محددة‏، ‏وليس‏ ‏لها‏ ‏علاقة‏ ‏بعضها‏ ‏ببعض‏، ‏وعزا‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏إختلاف‏ ‏المقاييس‏ ‏التى ‏يقيسون‏ ‏بها‏.‏

ومثال‏ ‏آخر‏ ‏فى ‏المجتمع‏ ‏الصناعى ‏فى ‏الولايات‏ ‏المتحدة‏ ‏الأمريكية‏ ‏حاول‏ ‏بلات([37]‏) Blatt ‏أن‏ ‏يطبق‏ ‏مفهوما‏ ‏للصحة‏ ‏النفسية‏- ‏كما‏ ‏تصوره‏ ‏طلبة‏ ‏الدراسات‏ ‏العليا‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏الاكلينيكيى- ‏على ‏مجتمع‏ ‏صناعى، ‏وخرج‏ ‏من‏ ‏نتائجه‏ ‏بالاستنتاج‏ ‏التالى: “‏كلما‏ ‏زادت‏ ‏رتبة‏ ‏الوظيفة‏.. ‏ ‏ ‏كانت‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏أحسن‏”، ‏ولكننا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نضع‏ ‏النتيجة‏ ‏بصورة‏ ‏أخرى ‏قائلين‏ “‏كلما‏ ‏زادت‏ ‏رتبة‏ ‏الوظيفة‏ ‏ ‏ ‏تشابه‏ ‏شاغلها‏ ‏مع‏ ‏طلبة‏ ‏الدراسات‏ ‏العليا‏ ‏لعلم‏ ‏النفس‏“. ‏أو‏ ‏حتى: “…‏ ‏تشارك‏ ‏الفريقان‏ ‏فى نفس ‏التفكير‏ ‏الآمِل‏“: ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏نوع‏ ‏الصحة‏ ‏إنما‏ ‏يتناسب‏ ‏مع‏ ‏المستوى ‏الاجتماعى ‏والفكرى بشكل أو بآخر.‏

وفى ‏محاولتنا‏ ‏هنا‏ ‏للدخول‏ ‏إلى ‏فهم‏ ‏المجتمع‏ ‏الصناعى ‏ومشاكله‏ ‏النفسية‏ ‏والطبية‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الفترة‏ ‏من‏ ‏تطورنا‏ ‏أجرينا‏ ‏بحثا‏ ‏عن‏ ‏الغياب‏ ‏المرضى (‏الرخاوى ‏وآخرون‏)([38])‏‏‏‏ ‏حاولنا‏ ‏أن‏ ‏نربط‏ ‏فيه‏ ‏بين‏ ‏تواتر‏ ‏الأعراض‏ ‏والمظاهر‏ ‏النفسية‏، ‏وبين‏ ‏الغياب‏ ‏المرضى ‏الطويل‏ ‏لأى ‏سبب‏، ‏ووجدنا‏ ‏علاقة‏ ‏إيجابية‏، ‏مما‏ ‏دعانا‏ ‏إلى ‏استنتاج‏ ‏أن‏ ‏الغياب‏ ‏المرضى ‏بالنسبة‏ ‏لمجتمعٍ ما‏ يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مؤشرا‏ ‏لحالة نقص فى الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏للمجتمع‏ ‏ككل‏، ‏أما‏ ‏بالنسبة‏ ‏للأفراد‏ ‏فقد‏ ‏عجزنا‏ ‏عن‏ ‏تعميم‏ ‏هذه‏ ‏القاعدة‏، ‏وقد‏ ‏تجنبنا‏ ‏التعرض‏ ‏لتقييم‏ ‏ومقارنة‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏للصعوبات‏ ‏التى ‏تحيط‏ ‏بهذا‏ المفهوم، وكان هذا نوعا من التهرب من مواجهة المشكلة فى مجال ‏البحث‏ ‏العلمى، ‏مما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏تحديد‏ ‏وتوضيح‏ ‏مفهوم‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏أصبح‏ ‏ضرورة‏ ‏ملحة‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏التطبيب‏ ‏فحسب‏ ‏بل‏ ‏فى ‏كل‏ ‏المجالات‏.‏

المقاييس‏  ‏التقليدية‏ ‏للصحة‏ ‏النفسية‏:‏

بالرغم‏ ‏من‏ ‏اختلاف‏ ‏التعريفات‏ ‏لهذا‏ ‏الاختلاف‏ ‏الظاهر‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏المقايس‏ ‏التى ‏نقيس‏ ‏بها‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏مازالت‏ ‏محدودة‏ ‏ومقبولة‏ ‏من‏ ‏الجميع‏ ‏وهى ‏ثلاثة‏ ‏مقاييس‏ ‏على ‏وجه‏ ‏التحديد‏، ‏التكيف‏، ‏والعمل‏، ‏والرضا‏ ‏وهى ‏معايير‏ ‏صالحة‏ ‏فعلا‏، ‏ولكن‏ ‏معانيها‏ ‏كما‏ ‏سبقت‏ ‏الإشارة‏ ‏قد‏ ‏تختلف‏ ‏أشد‏ ‏الاختلاف‏ ‏من‏ ‏فرد‏ ‏لآخر‏ ‏ومن‏ ‏مجتمع‏ ‏لآخر‏.‏

وقد‏ ‏أشرنا‏ ‏إلى “‏أن‏ ‏التكيف‏” ‏مثلا‏ ‏قد‏ ‏يعنى ‏التلاءم‏ ‏مع‏ ‏البيئة‏ ‏الخارجية‏ ‏أو‏ ‏الداخلية‏، ‏ولكن‏ ‏أسئلة‏ ‏كثيرة‏ ‏قد‏ ‏تشكك‏ ‏فى ‏قيمته‏ ‏كمؤشر‏ ‏للصحة‏ ‏مثل‏:‏

التكيف‏ ‏لمصلحة‏ ‏من‏ ‏وعلى ‏حساب‏ ‏من؟‏

‏التكيف‏ ‏إلى ‏أى ‏مدى ‏وفى ‏أى ‏مجال؟‏ ‏

وما هو‏ ‏حكم‏ ‏تكيف‏ ‏مجرم‏ ‏مع‏ ‏أفراد‏ ‏عصابته‏ ‏أو‏ ‏عدم‏ ‏تكيف‏ ‏فنان‏ ‏مع‏ ‏بييئته‏ ‏القريبة؟

أما‏ “‏العمل‏” ‏فإذا‏ ‏قصدنا‏ ‏به‏ ‏مجرد‏ ‏الإنتاج‏ ‏المادى ‏فى ‏المجال‏ ‏الأساسى ‏لعمل‏ ‏الفرد‏ ‏فهو‏ ‏كثيرا‏ ‏ما يضع‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏عداد‏ ‏الآلة‏ ‏التى ‏تقاس‏ ‏جودتها‏ ‏وصلاحيتها‏ ‏بمدى ‏إنتاجها‏، ‏لذلك‏ ‏فإن‏ ‏للعمل‏ ‏أنواعا‏ ‏تختلف‏ ‏حسب‏ ‏هدفه‏ ‏ومجاله‏ ‏ووظيفته‏ ‏للفرد‏ ‏والمجتمع‏.‏

وأخيرا‏ ‏فإن‏ “‏الرضا‏” ‏يمثل‏ ‏قمة‏ ‏الإلغاز‏، ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏تتحدد‏ ‏معالمه‏ ‏تفصيلا‏، ‏فما‏ ‏هو‏ ‏الرضا‏ ‏فى ‏جوهره؟‏ ‏أهو‏ ‏الإقرار‏ ‏بالرضا؟‏ ‏أم‏ ‏التسليم‏ ‏عن‏ ‏رضا؟‏ ‏أم‏ ‏هو‏ ‏تصور‏ ‏الرضا؟‏ ‏أهو‏ ‏حكم‏ ‏الشخص‏ ‏على ‏نفسه‏ ‏أم‏ ‏حكم‏ ‏الناس‏ ‏عليه؟

كل‏ ‏هذه‏ ‏تساؤلات‏ ‏تثير‏ ‏نفس‏ ‏القضية‏ ‏حول‏ ‏نوعية‏ ‏الصحة‏، وقد‏ ‏تثير‏ ‏مشاكل‏ ‏مصاحبة‏ ‏للقضية‏ ‏مثل‏ “‏مدى ‏اعتبار‏ ‏المجرمين‏ ‏مرضي‏” ‏أو‏ ‏مشاكل‏ “‏العبقرية‏ ‏والإبداع‏ ‏الفني‏” ‏وغيرها‏ ‏من‏ ‏المسائل‏ ‏التى ‏ترتبط‏ ‏كلها‏ ‏بأصل‏ ‏واحد‏ ‏وهو‏ ‏مدى ‏الصحة‏ ‏ونوعيتها‏.‏

ثانياً: هل للصحة النفسية أنواع ومستويات

من‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏يتضح‏ ‏أن‏ ‏التفرقة‏ ‏بين‏ ‏مستويات‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏أصبحت‏ ‏حاجة‏ ‏ضرورية‏ ‏وعملية‏ ‏للتطبيقات‏ ‏اليومية‏، ‏سواء‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏البحث‏ ‏العلمى ‏أم‏ ‏العلاج‏، ‏لذلك‏ ‏ينبغى أن نتوجه‏ ‏ ‏إلى ‏وضع‏ ‏التساؤل‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏بشكل‏ ‏آخر‏، ‏فبدل‏ ‏أن‏ ‏نتساءل‏ ‏عن‏ ‏الشخص‏ ‏المَعْنِى: ‏هل‏ ‏هو‏ ‏صحيح‏ ‏أم‏ ‏مريض بكذا أو كيت؟‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نسأل‏ “‏كيف‏ ‏هو‏ ‏صحيح‏”؟‏ ‏أى ‏على ‏أى ‏مستوى ‏وبأى ‏صورة؟‏ ‏باعتبار أن‏ ‏للصحة‏ ‏مستويات‏ ‏تصاعدية‏ ‏مختلفة‏، ‏وبذلك‏ ‏نتجنب‏ ‏الوقوع‏ ‏فى ‏خطأ‏ ‏اتهام‏ ‏أغلب‏ ‏الناس‏ ‏بالمرض‏ ‏إذا‏ ‏هم‏ ‏لم‏ ‏يتصفوا‏ ‏بصفات‏ ‏معينة‏، ‏ربما‏ ‏تكون‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏صفاتنا‏ ‏نحن‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏إلى ‏الصفات‏ ‏التى ‏نتمناها‏ ‏لأنفسنا‏، ‏وقد‏ ‏نبالغ‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏حتى ‏نصل‏ ‏إلى ‏مثالية‏ ‏بعيدة‏ ‏التحقيق‏، ‏فكم‏ ‏لاحظنا‏ ‏صيغة‏ “‏أفعل‏ ‏التفضيل‏” ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأوصاف‏ ‏التى ‏تـُخلع‏ ‏على ‏الصحة‏ ‏مثل‏ “‏أحسن‏ ‏مايمكن‏ ‏من‏ ‏تكيف‏” “‏أفضل‏ ‏طريقة‏ ‏للحياة‏” ‏أو‏ ‏ألفاظ‏ ‏أخرى ‏تصلح‏ ‏للشعر ‏ ‏ ‏ الحالم  ‏ “‏قمة‏ ‏السعادة‏” “‏غاية‏ ‏النضج‏” “‏الفاعلية‏ ‏الكاملة‏”، ‏ولم‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الخطأ‏ ‏فرد‏ ‏أو‏ ‏عدة‏ ‏أفراد‏، ‏ولكن‏ ‏التعريف‏ ‏الذى ‏أوردته‏ ‏الهيئة‏ ‏الصحية‏ ‏العالمية‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏عامة‏ ‏كان‏ ‏يحمل‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الصفات‏ ‏مثل‏‏: “‏الصحة‏ ‏هى ‏حالة‏ ‏من‏ ‏تمام‏ Complete ([39])‏‏‏‏ ‏الشعور‏ ‏بالسعادة‏ (‏أو‏ ‏الراحة‏) ‏فى ‏كل‏ ‏المجالات‏: ‏العقلية‏ ‏والجسمية‏ ‏والاجتماعية‏، ‏وليست‏ ‏مجرد‏ ‏انتفاء‏ ‏المرض‏”، كل‏ ‏ذلك‏ ‏جعل‏ ‏لزاما‏ ‏أن‏ ‏يتضمن‏ ‏السؤال‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏، ‏تفاصيل‏ ‏عن‏ ‏الكيف‏ ‏وليس‏ ‏مجرد‏ ‏الكم‏.‏

وقد‏ ‏دفع‏ ‏هذا‏  “‏أراسته‏” Arasteh ([40])‏‏‏‏ ‏إلى ‏وضع‏ ‏مفهوم‏ ‏عملى ‏للصحة‏ ‏النفسية‏، ‏يربط‏ ‏فيه‏ ‏مدى ‏تطور‏ ‏الفرد‏ ‏بمدى ‏إدراكه‏ ‏لهذا‏ ‏التطور‏ ‏وتناسب‏ ‏احتياجات‏ ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏مع‏ ‏مايهيئه‏ ‏المجتمع‏ ‏من‏ ‏فرص‏ ‏لتحقيق‏ ‏أغراضها‏، ‏وبذلك‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏ربط‏ ‏الإدراك‏، ‏بالتطور‏، ‏بتحقيق‏ ‏الاحتياجات‏، ‏بالفرص‏ ‏المتاحة‏ ‏فى ‏المجتمع‏، ‏وعليه‏ ‏يكون‏ ‏الفرد‏ ‏فى ‏صحة‏ ‏جيدة‏ “‏إذا‏ ‏حققت‏ ‏دوافعه‏ ‏مدى ‏إدراكه‏ ‏لاحتياجاته‏، ‏وأمكنه‏ ‏مجتمعة‏ ‏من‏ ‏ذلك‏”، وقد‏ ‏وضع‏ ‏تبعا‏ ‏لذلك‏ ‏فرضا‏ ‏لنظرية‏ ‏متكاملة‏ ‏عن‏ ‏الإنسان‏ ‏تجعل‏ ‏دافع‏ ‏النشاط‏ Activity Motive ‏فى ‏مستوى ‏أساسى، ‏على ‏قدم‏ ‏المساواة‏ ‏مع‏ ‏دافع‏ ‏الجنس‏، ‏وحِفـْظِ‏ ‏الذات‏، ‏وقد‏ ‏حدد‏ ‏مستويات‏ ‏ثلاثة‏ ‏للصحة‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏المستوى ‏الطبيعى Natural Level‏ حيث‏ ‏ينصرف‏ ‏الإنسان‏ ‏آليا‏ ‏ليحقق‏ ‏حاجاته‏ ‏البيولوجية‏ ‏أساسا‏، ‏والمستوى ‏التالى ‏هو‏ ‏المستوى ‏البيئى Cultural Level حيث يدرك الانسان بيئته ويستجيب لاهتماماته فى حدود البيئة المباشرة، وأخيرا المستوى الخالقى – وسماه أيضا البعد الخالقى والمتجاوز للبيئة – Creative & Transcultural، ‏حيث‏ ‏يتخطى ‏الانسان‏ ‏حدود‏ ‏بيئته‏ ‏المباشرة‏ ‏ويصبح‏ ‏تكيفه‏ ‏مع‏ ‏الحياة‏ ‏ذاتها‏.‏

ويبدو‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الاتجاه‏ ‏كان‏ ‏ينبض‏ ‏فى ‏عقل‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مفكر‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏فقد‏ ‏حاول‏ ‏برينيتى Brunetti ‏([41])‏‏‏‏ مستقلا‏ ‏أن‏ ‏يضع‏ ‏مستويات‏ ‏للصحة‏ ‏جاءت‏ ‏موازية‏ ‏تقريبا‏ ‏لمستويات‏ ‏أراسته‏، ‏واعتمد‏ ‏فى ‏ترتيبه‏ ‏على ‏مجالات‏ ‏التكيف‏ ‏وأبعاده‏، ‏وفرّق‏ ‏بذلك‏ ‏بين‏ “‏صحة‏ ‏الجسم‏” ‏أو‏ ‏الصحة‏ ‏البيولوجية‏ La Sante Biologique حيث‏ ‏يكون‏ ‏التكيف‏ ‏بين‏ ‏أعضاء‏ ‏الجسم‏، ‏وتكون‏ ‏الصحة‏ ‏مرتبطة‏ ‏بمدى ‏تلاؤم‏ ‏الآعضاء‏ ‏مع‏ ‏البيئة‏ ‏العضوية‏ ‏الداخلية‏، ‏ثم‏ “‏صحة‏ ‏النفس‏” La Sante Psychologique ‏التى ‏ترتبط‏ ‏بمدى ‏تكيف‏ ‏الفرد‏ ‏مع‏ ‏مجتمعه‏ ‏البشرى ‏المباشر‏ ‏مثل‏ ‏أسرته‏ ‏وزملاء‏ ‏عمله‏، ‏ثم‏ ‏أخيرا‏ “‏صحة‏ ‏الروح‏ La Sante de L’esprit ‏التى ‏تشير‏ ‏إلى ‏التكيف‏ ‏والتلاؤم‏ ‏مع‏ ‏عالم‏ ‏الانسان‏ ‏بصفة‏ ‏مطلقة‏، ‏وعالم‏ ‏ما بعد‏ ‏الانسان‏ ‏زمانيا‏ ‏ومكانيا‏.‏

وبرغم‏ ‏وضوح‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏ومسايرتها‏ ‏لحاجتنا‏ ‏الشديدة‏ ‏لتقسيم‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏إلى ‏مستويات‏ ‏نوعية‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تطبيقاتها‏ ‏العملية‏ ‏لم‏ ‏تأخذ‏ ‏حقها‏ ‏المناسب‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏النظريتين (نظريتـَىْ “أراسته” و”برينيتى”)‏ ‏لم‏ ‏تشيرا‏ ‏على ‏وجه‏ ‏التحديد‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏التطبيقات‏ ‏وكيفية‏ ‏الاستفادة‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏فيما‏ ‏عدا‏ ‏ما أشار‏ ‏به‏ ‏”أراسته”‏ ‏من‏ ‏الحذر‏ ‏فى ‏الدراسات‏ ‏المقارنة‏، ‏وعلاقة‏ ‏نظريته‏ ‏هذه‏ ‏بنظريته‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏النفسى.‏

ويمكن‏ ‏أن‏ ‏نوجز‏ ‏المنطلقات‏ ‏التى ‏أوصلتنا‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏‏‏فيما‏ ‏يلى:

‏1- ‏إن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏ليست‏ ‏قيمة‏ ‏واحدة‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏عدة‏ ‏قيم‏، ‏أو‏ ‏هى ‏عدة‏ ‏مجموعات‏ ‏من‏ ‏القيم‏، ‏التى ‏يمكن‏ ‏ترتيبها‏ ‏على ‏مستويات‏ ‏تصاعدية‏.‏

‏2- ‏إن‏ ‏الفروق‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏المستويات‏ ‏هى ‏بالضرورة‏ ‏نوعية‏ ‏وليست‏ ‏فقط‏ ‏كمية‏.‏

‏3- ‏إن‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏تطور‏ ‏دائم‏، ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏فى ‏تاريخه‏ ‏كنوع‏ ‏ولكن‏ ‏أيضا‏ ‏أثناء‏ ‏حياته‏ ‏كفرد‏ ‏مستقل‏.‏

‏4- ‏إنه‏ ‏ينبغى ‏فحص‏ ‏الفرد‏ ‏وبيئته‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏لتحديد‏ ‏نوع‏ ‏ومدى ‏صحته‏ ‏النفسية‏.‏

وقد‏ ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏المستويات‏ ‏المختلفة‏ ‏للصحة‏ ‏النفسية‏ ‏صالحة‏ ‏لغرض‏ ‏محدود‏، ‏ووجدت‏ ‏أنه‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نضع‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏الوسائل‏ ‏والأساليب المختلفة‏ ‏للحصول‏ ‏على ‏التوازن‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مستوى، ‏ومواجهة المشاكل‏ ‏العملية‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نحلها‏ ‏بهذا‏ ‏الفهم‏ ‏الجديد‏.‏

ومن‏ ‏بعض‏ ‏هذه‏ ‏المسائل‏ ‏التى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تشغلنا‏ ‏ونحن‏ ‏نقسِّم‏ ‏الصحة‏ ‏إلى ‏مستويات‏، ‏تساؤلات‏ ‏حول‏ ‏أسباب‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏وأنواعه‏ ‏وعلاجه‏ ‏مثل‏:‏

‏1- ‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تـُرَتـَّب‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏مستويات‏ ‏مقابلة‏ ‏لمستويات‏ ‏الصحة‏ ‏المقترحة‏، ‏وبالتالى ‏نعيد‏ ‏ترتيب‏ ‏التشخيصات‏ ‏ترتيبا‏ تنازليا ‏من منظور التطور – أى ‏ ‏تدهوريا‏- ‏على ‏وجه‏ ‏الدقة؟

‏2- ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏ربط‏ ‏أسباب‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏الوراثية‏ ‏والبيئية‏ ‏بهذه‏ ‏الحركة‏ ‏التطورية‏ ‏ومضاداتها‏ ‏سواء‏ ‏للوصول‏ ‏إلى ‏مستوى ‏أرقى ‏للصحة‏ ‏النفسية‏، ‏أو‏ ‏مستوى ‏أخطر‏ ‏من‏ ‏المرض؟

‏3- ‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏للعلاجات‏ ‏المختلفة‏- ‏نفسية‏ ‏أو‏ ‏كيميائية‏ ‏أو فيزيائية‏ ‏أو اجتماعية‏- ‏أن‏ ‏تجد‏ ‏دورا‏ ‏جديدا‏ ‏يتناسب‏ ‏مع‏ ‏إعادة‏ ‏ترتيب‏ ‏مستويات‏ ‏الصحة‏ ‏والمرض؟

ثالثاً: الأطروحة والفروض

فى ‏محاولة‏ ‏للاجابة‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ وغيرها ‏جاءنى الفرض الأساسى فى هذه المداخلة‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الممارسة‏ ‏العملية‏، ‏ولايخفى ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏لا‏ ‏يتقدم‏ ‏بمجرد‏ ‏وضع‏ ‏الفروض‏، ‏ولكنه‏ ‏أيضا‏- ‏كما‏ ‏قال‏ ‏ويتهود‏ Whitehead ([42])‏‏‏‏ “… ‏إن‏ ‏بعض‏ ‏المصائب‏ ‏العظمى ‏التى ‏لحقت‏ ‏بالانسان‏، ‏كانت‏ ‏نتيجة‏ ‏لضيق‏ ‏الأفق‏ ‏مع‏ ‏أسلوب‏ ‏منهجى ‏ممتاز‏”‏

وقد‏ ‏بدأ‏‏ت‏ ‏بوضع‏ ‏تعريف‏ ‏للصحة‏ ‏النفسية‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أجعله‏ ‏شاملا‏، ‏ولكنى ‏موقن‏ ‏ابتداء‏ ‏أن‏ ‏أصعب‏ ‏الأمور‏، ‏وربما‏ ‏أسخفها‏، ‏هو‏ ‏التعريف‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏بداية‏:‏

‏” ‏إن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏توازن‏ ‏القوى ‏التى ‏توجـِّه‏ ‏إمكانيات‏ ‏فرد‏ ‏معين‏ ‏فى ‏مجتمع‏ ‏ما‏ ‏فى ‏وقت‏ ‏بذاته‏ ‏لتحقق‏ ‏لهذا‏ ‏الفرد‏ ‏احتياجاته‏ ‏المرتبطة‏ ‏بدرجة‏ ‏تطوره‏، ‏والتى ‏يتم‏ ‏بها‏ ‏التوافق‏ ‏الداخلى، ‏والتلاؤم‏ ‏مع‏ ‏ماحوله‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏”‏

وأهم‏ ‏ما أحب‏ ‏التركيز‏ ‏عليه‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏التعريف‏- ‏وهو‏ ‏ماأكده‏ ‏الكثيرون‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏متفرقين‏- ‏هو‏ ‏توازن‏ ‏القوى ‏وارتباطه‏ ‏بعامل‏ ‏الزمن‏، ‏لأن‏ ‏الفرد‏ ‏يتغير‏، ‏والمجتمع‏ ‏يتغير ، ‏والرؤية‏ ‏تتغير‏ ، ‏والاحتياجات‏ ‏تتغير  ‏طول الوقت‏، ‏ومن‏ ‏ثـَمَّ‏ ‏فإن‏ ‏التوازن‏ ‏وقياسه‏ ‏يتغير‏ ‏من‏ ‏وقت‏ ‏لآخر‏، ‏فهى ‏عملية‏ ‏تناسب‏ ‏مستمرة‏ ‏تتوقف‏ ‏على ‏الوقت‏ ‏مثلما‏ ‏تتوقف‏ ‏على ‏العوامل‏ ‏الأخرى ‏مجتمعة‏ ‏أو‏ ‏على ‏انفراد‏.‏

التطور‏ ‏الفردى ‏ومحطات‏ ‏التوازن‏ ‏المرحلية‏:‏

أحب‏ ‏أولا‏ ‏أن‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية من هذا المنطلق هو‏ ‏مرادف‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحوال‏ ‏للحديث‏ ‏عن‏ ‏”النضج” وهذا يشير أكثر إلى‏ ‏تلك‏ ‏الحالة‏ ‏التى ‏يتمتع‏ ‏بها‏ ‏الفرد‏ ‏بعد‏ ‏إتمام‏ ‏مراحل‏ ‏نموه‏، ‏وهذا‏ ‏مقبول‏ ‏من حيث المبدأ‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏توضيح‏ ‏شكل‏ ‏التوازن‏ ‏ومعناه‏ ‏فى ‏مراحل‏ ‏النمو‏ ‏المختلفة‏، ‏وعلى ‏ذلك‏ ‏فاننى ‏سأبدأ‏ ‏بتصنيف‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏عند‏ ‏الراشد‏ ‏ثم‏ ‏أشير بعد‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏المراحل‏ ‏السابقة‏ من العمر.‏

وانطلاقا‏ من التعريف السالف الذكر ‏أن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏توازن‏ ‏القوى ‏الفعالة‏ ‏التى ‏تهدف‏ ‏إلى ‏تحقيق‏ ‏التناغم ‏ ‏الداخلى ‏والخارجى ‏بكل‏ ‏وسيلة‏ ‏ممكنة‏، ‏وأن‏ ‏الانسان‏ ‏كائن‏ ‏متطور‏ ‏فى ‏حياته‏ ‏الفردية‏ ‏مثل‏ ‏تطوره‏ ‏فى ‏تاريخه‏، ‏فإنى ‏أعرض‏ ‏الفروض متتابعة على الوجه التالى:‏

الفرض‏ ‏الأول‏:‏

يولد‏ ‏الطفل‏ ‏حاملا‏ ‏إمكانيات‏ ‏ودوافع‏ ‏متعددة‏ ‏يختلف‏ ‏تصنيفها‏ ‏حسب‏ ‏المدارس‏ ‏النفسية‏ ‏المختلفة‏، ‏كما‏ ‏يولد‏ ‏حاملا‏ ‏برامج ‏للسلوك‏ ‏يستعمل‏ ‏بها‏ ‏هذه‏ ‏الامكانيات‏ ‏والدوافع‏، ‏ولنـُسـَمِّ‏ ‏هذه‏ ‏الأخيرة‏ ” ‏الوسائل‏” (أو الآليات) ‏تمييزا‏ ‏لها‏ ‏عن‏ ‏القدرات‏ ‏الأساسية‏ ‏العامة‏ ‏والخاصة‏، ‏وتمتد‏ ‏جذور‏ ‏هذه‏ ‏الطرق‏ ‏السلوكية‏ ‏الموروثة إلى ‏تاريخ‏ ‏الفرد‏ ‏وتاريخ‏ ‏النوع‏ ‏معا‏، ‏وتاريخ‏ ‏الفرد‏ ‏هو تكرار لتاريخ النوع على كل حال([43])، وتستعمل هذه الوسائل المتنوعة‏ ‏سائر‏ ‏القدرات‏ ‏لخدمة‏ ‏أغراضها‏ ‏حسب‏ ‏مرحلة‏ ‏تطور‏ ‏الفرد‏، وهدفها‏ ‏دائما هو‏ ‏تحقيق‏ ‏التوازن (الهارمونى)‏، ‏فالذكاء‏ ‏العام‏ ‏أو‏ ‏المهارة‏ ‏الخاصة‏ ‏قد‏ ‏تساهم‏ ‏فى ‏تحقيق‏ ‏التوازن‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مرحلة‏ ‏تطور‏ ‏ولكن‏ ‏بنوعية‏ ‏مختلفة‏ ‏عن‏ ‏المرحلة‏ ‏الأخرى ‏لاختلاف‏ ‏الهدف‏ ‏ونوع‏ ‏الحياة‏ ‏فى ‏كلِّ‏، ‏فالتقسيم‏ ‏هنا‏ ‏ليس‏ ‏تقسيم‏ ‏قدرات‏ ‏أو‏ ‏دوافع‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏تقسيم‏ ‏وسائل‏ ‏وأهداف‏ ‏استعمال‏ ‏هذه‏ ‏القدرات‏.‏

ويمكن‏ ‏تقسيم‏ ‏هذه‏ ‏الوسائل‏ ‏إلى ‏ثلاث‏ ‏نوعيات‏:‏

أولاً: ‏الوسائل (الآليات)‏ ‏الدفاعية‏: ‏وهى فى مبدأ توظيفها تعتبر ‏الوسائل التلقائية المنغرسة فى التركيب البشرى وهى‏ ‏التى ‏يدافع‏ ‏بها‏ ‏الانسان‏ ‏عن‏ ‏وجوده‏ ‏ككائن‏ ‏حى، ‏وعن‏ ‏بقائه‏ ‏واستمرار‏ ‏نوعه‏ ‏الحالى، ‏وبها‏ ‏يتجنب‏ تمادى ‏الألم‏ ‏وتفاقم القلق‏ ‏وفرط حدّة الرؤية‏ ‏المثيرة‏ ‏لهما‏ فى وقت غير مناسب، ‏وهى ‏وسائل‏ ‏تمتد‏ ‏جذورها‏ ‏إلى ‏تاريخ‏ ‏الانسان‏ ‏الحيوانى ‏وإن‏ ‏اتخذت‏ ‏فى ‏أجداده‏ ‏صورة‏ ‏بيولوجية‏ (‏بمعنى ‏جسمية‏ ‏عضوية‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المقام‏) ‏فى ‏حين‏ ‏تحورت‏ ‏بالنمو‏ ‏النفسى ‏المعقد‏ ‏للانسان‏ ‏إلى ‏وسائل‏ ‏دفاعية‏ ‏نفسية‏ ‏معقدة‏ ‏تسمى أغلبها‏ ‏الميكانزمات‏ ‏الدفاعية([44])‏‏‏‏‏ ‏فالحرباء‏ ‏والفراشة‏ ‏تغيران‏ ‏لونهما‏ ‏لتماثلا‏ ‏البيئة‏ ‏من‏ ‏أحجار‏ ‏وأزهار‏ ‏وتتجنبان‏ ‏بذلك‏ ‏الخطر‏، ‏والانسان‏ ‏يتشكل‏ ‏مع‏ ‏المجتمع‏ ‏ليحمى ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏الاختلاف‏ ‏الخطير‏، ‏والنعامة‏ ‏تدفن‏ ‏رأسها‏ ‏فى ‏الرمال‏، ‏وفى مقابل ذلك يستعمل الإنسان‏ “ميكانزم الإنكار”، والحيوان يمارس العدوان بشكل مباشر، والإنسان ‏يمارس‏ ‏الإسقاط‏ أحيانا ‏والعدوان المباشر كثيرا‏ ‏لتأكيد التفوق والحفاظ على السيطرة‏، ‏وفى ‏جميع الأحوال‏ ‏فإن‏ ‏الهدف‏ ‏واحد‏ ‏وهو‏: ‏حماية‏ ‏الذات‏، ‏والحفاظ‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏اعتداء‏ ‏الآخرين‏، ‏وتجنب‏ ‏الألم‏ ‏والقلق‏ بدرجة تسمح باستمرار الحياة، ‏ومن‏ ‏ثم‏ محاولة ‏المحافظة‏ ‏على ‏بقاء‏ ‏الفرد أولا، فالنوع‏ إذا أمكن، ‏والتراث‏ ‏كما‏ ‏هو‏، حتى لو أخطأ الطريق إلى ذلك.

ثانياً:الوسائل (الآليات)‏ الذهنية ‏المعرفية: ‏وهى ‏الوسائل‏ ‏التى ‏يدرك‏ ‏بها‏ ‏الانسان‏ ‏بيئته‏ ‏وذاته‏، ‏وهى ‏تتشابه‏ ‏بين‏ ‏الانسان‏ ‏والحيوان‏ ‏ولكن‏ ‏رقى ‏نمو‏ ‏المخ‏ ‏والتفكير‏ والإدراك([45]) ‏فى ‏الانسان‏، ‏جعلاها‏ ‏تفوق‏ ‏مثيلتها‏ ‏فى ‏الحيوان‏‏، بما سمح له أن يتعرف على ‏ كثير من ‏دفاعاته‏ ‏أو‏ “‏ميكانزماته‏”‏ ‏ويتفهمها‏، ‏وأن يعرف‏ ‏قدراته‏ ‏ويطلقها‏ ‏حسب‏ ‏ظروفه‏ ‏المحيطة‏، ‏وهو يتعرف‏ ‏على ‏بيئته‏ ‏ويستغلها‏ ‏ويتكيف‏ ‏معها‏، ‏‏ويتوقف‏ ‏نمو‏ ‏هذه‏ ‏الوسائل الذهنية‏ ‏المعرفية‏ ‏على ‏ظروف‏ ‏تكوين‏ ‏الفرد‏، ‏ومجال‏ ‏نموه‏، ‏ومصادر‏ ‏الإعلام‏ ‏من‏ ‏حوله‏، ‏واتساع‏ ‏دائرة‏ ‏ثقافته‏ ‏وإمكانيات‏ ‏مجتمعه‏، ‏على ‏أن‏ ‏كل‏ ‏إنسان‏ ‏يولد‏ ‏وعنده‏ ‏استعداد‏ ‏لكل ذلك‏ ‏على ‏قدر‏ ‏الفرص‏ ‏المتاحة‏، ‏فإذا‏ ‏ما انطلقتْ‏ ‏للعمل‏ ‏فإنها‏ ‏تساهم‏ ‏فى ‏الحفاظ‏ ‏على ‏التوازن‏… ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏الصحة‏ نتيجة لاستيعاب متطلباتها، والعمل على التوفيق بين ما بلغه عنها من خلال هذه المعرفة.

ثالثاً: ‏الوسائل‏ (الآليات) ‏الخلاَّقة‏ (‏والعمل‏ ‏المغيـِّر‏): ‏وهذه‏ ‏الوسائل‏ ‏تشمل‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏التغيير‏ ‏وعلى ‏الخلق‏ ‏وعلى ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏الذات‏ والواقع ‏والمجتمع‏ ‏والحياة‏ ‏بصورة‏ ‏عامة‏، ‏وهى ‏قدرة‏ ‏إنسانية‏ ‏أساسا‏ ‏رغم‏ ‏وجودها‏ ‏عند‏ ‏أجدادنا‏ ‏عبر‏ ‏التطور‏، ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏لم‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏الوعى ‏الإرادى ‏كما‏ ‏وصلت‏ ‏عند‏ ‏الانسان‏، ‏والذى ‏لم‏ ‏ينجح فى استعمالها بكفاءة‏ ‏من‏ ‏أولاد‏ ‏عمومتنا‏ ‏لم‏ ‏يتطور‏، ‏فالواقع‏ ” ‏أن‏ ‏الحيوان‏ ‏لا‏ ‏يعمل‏ ‏بمعنى ‏الكلمة‏، ‏وإنما‏ ‏تتحكم‏ ‏فى ‏نشاطه‏ ‏مجموعة‏ ‏من‏ ‏التنظيمات‏ ‏البيولوجية‏، ‏فنراه‏ ‏يسعى ‏إلى ‏إشباع‏ ‏حاجاته‏ ‏العضوية‏ ‏كلما‏ ‏دعت‏ ‏الضرورة‏ ‏إلى ‏ذلك‏” (‏زكريا‏ ‏ابراهيم‏)([46])، ‏ولذلك‏ ‏استمر‏ ‏حيوانا‏، ‏وإنما‏ ‏الذى ‏أعنيه‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏العمل‏ ‏الانسانى ‏الذى ‏لا‏ ‏يتصف‏ ‏به‏- ‏عموما‏- ‏إلا‏ ‏الإنسان‏، ‏والذى ‏هو‏ ‏نتاج‏ ‏الانسان‏ ‏أيضا، وهو كذلك:‏ ‏صانع‏ ‏الانسان‏ “‏إن‏ ‏التاريخ‏ ‏العالمى المزعوم‏ ‏إن‏ ‏هو‏ ‏إلا‏ ‏عملية‏ ‏إنتاج‏ ‏للانسان‏ ‏نفسه‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏العمل‏ ‏البشرى‏”، وهذه‏ ‏الوسائل‏ ‏الخلاقة‏ ‏بالعمل‏ ‏المغيـِّر‏ ‏تخدم‏ ‏التوازن‏ ‏أيضا‏ ‏فى ‏أعلى ‏صوره‏، ‏وهى ‏موجودة‏ ‏فى ‏الانسان‏ ‏منذ‏ ‏الولادة‏.‏

خلاصة القول:

 “‏إن‏ ‏الطفل‏ ‏الإنسان‏ ‏يحمل‏ ‏هذه‏ ‏الوسائل‏ ‏الثلاث‏ ‏بنسب‏ ‏متقاربة‏- ‏تختلف‏ ‏حسب‏ ‏الوراثة‏ ‏طبعا‏، ‏فهى ‏ليست‏ ‏متساوية‏ ‏عند كل الناس تماما‏-، ‏وهى ‏بهذا‏ ‏الترتيب‏ ‏السابق‏ ‏ذكره‏ ‏تمثل‏ ‏تاريخ‏ ‏تطور‏ ‏الإنسان‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏، ‏أما‏ ‏بالنسبة‏ ‏لنمو‏ ‏الفرد‏ ‏فإن‏ ‏الطفل‏ ‏فى ‏طريقه‏ ‏نحو‏ ‏النضج‏ ‏يحاول‏ ‏تنمية‏ ‏كل‏ ‏منها‏ ‏حسب‏ ‏الظروف‏ ‏المتاحة‏ ‏من‏ ‏المجتمع‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏طرق‏ ‏التربية‏ ‏والنظم‏ ‏السياسية‏ ‏والثقافية‏ ‏والاقتصادية‏، ‏التى ‏ترجـِّح‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏إحداها‏ ‏على ‏الأخرى” فى مرحلة بذاتها حسب مقتضى الحال، ثم يتغير الترتيب حسب مرحلة النضج، والإمكانات المتاحة، وهكذا.

3

شكل (1)

الفرض‏ ‏الثانى:‏

يبدأ تحقيق‏ ‏التوازن‏ ‏فى ‏الإنسان‏ ‏الراشد‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحوال‏- ‏وحسب‏ ‏درجة‏ ‏تطور‏ ‏المجتمع‏ ‏إنسانيا‏ ‏وحضاريا‏- ‏بتنمية‏ ‏الوسائل‏ ‏الدفاعية‏ ‏على ‏حساب‏ ‏القدرات‏ ‏الأخرى، ‏فتطغى ‏عليها‏ ‏ولكن‏ ‏لا‏ ‏تلغيها‏، ‏فيحصل‏ ‏أغلب‏ ‏الناس‏ ‏على ‏التوازن – ابتداءً -‏ ‏بالوسائل‏ ‏الدفاعية‏ ‏أساسا.‏

ثم يتدرج ليتحقق التوازن بتنمية الوسائل الذهنية المعرفية أكثر فأكثر على حساب الوسائل الأخرى.

وأخيرا‏ ‏يتم‏ ‏التوازن‏ ‏بالعمل‏ ‏الخلاّق‏ ‏أساسا‏ ‏الذى يبدأ من البداية لكنه ينمو ويأخذ مساحة أكبر فأكبر بالتنشيط والتدريب والفرص. ‏

 وبديهي‏- ‏ولكنه‏ ‏تكرار‏ ‏لازم‏- ‏أن‏ ‏الوسائل‏ ‏الدفاعية‏ ‏أقل‏ ‏تطوريا‏ ‏من‏ ‏الوسائل‏ ‏المعرفية‏، ‏التى ‏هى ‏أدنى ‏بالتالى ‏من‏ ‏الوسائل‏ ‏الخلاّقة‏.‏

الفرض الثالث:

إن الإنسان يتطور أثناء حياته كفرد، وأن وصوله إلى مرحلة من التوازن باللجوء إلى وسيلة بذاتها لا يعنى توقفه النهائى عند هذه المرحلة، إذ أن قدراته الأخرى التى لم يتح لها فرصة التدريب والنمو قد تهدأ مؤقتا فى هذا المستوى الأدنى، ولكنها قد تثار فى أى وقت فى تاريخ حياة الفرد نتيجة لواحد أو أكثر من العوامل التالية (عادة نتيجة لها مجتمعة بدرجات متفاوتة):

1- أن تفشل المرحلة الأدنى فى حفظ التوازن لأنها استنفدت أغراضها، وأصبحت غير كافية وحدها ، وربما غير ضرورية أيضا ، لحفظ التوازن، وهكذا تتراجع  الحاجة إلى استعمال الوسائل الدفاعية وهذا ما نقصده بتعبير “استنفدت أعراضها”

2- أن تـُـثار القوى المعرفية الذهنية أو الخلاقة أو هما معا نتيجة لمثيرات خارجية مثل مزيد من الثقافة فالرفض، أو الاحتكاك الإنسانى الأوسع فالفهم فالاحتجاج، أو فترات التحول الحضارى القلقة، أو رؤية الأمل فى الأحسن وأنه ممكن التحقيق دون الحاجة للإفراط فى استعمال الحيل الدفاعية العامية أو المعطلة، أو غير ذلك من المثيرات لهذه القوى الكامنة.

3- أن تثار هذه القوى نتيجة لفقد التوازن البيولوجى (بالمعنى العضوى أساسا) فى فترات التحول الهرمونى مثل فترة المراهقة أو سن اليأس، أو نتيجة لأى خـَللٍ عضوى آخر مثل المؤثرات العضوية الخارجية أو الداخلية (التى أتجنب الإشارة إليها تفصيلا فى هذه المرحلة).

 4- أن تثار هذه القوى التشكيلية تلقائيا نتيجة لدورات تحريك زخم من الطاقة التى  تختلف من فرد إلى فرد، ومن أسرة لأسرة، ويرتبط توقيت إطلاقها على  كل من العوامل الوراثية والمثيرات المحيطة والفرص المتاحة.

وعادة ما يتم فشل المستوى الأدنى نتيجة لأكثر من عامل فى نفس الوقت، فإذا اختل التوازن، ظهرت آثاره فى تغير نوعى فى السلوك ، ومن ذلك احتمال ظهور أعراض نفسية بذاتها، وفى نفس الوقت تثار  وسائل جديدة لإعادة التوازن، ذلك لأن الوسائل الأدنى لا تعود كافية لتحقيق التوازن بعد هذه الإثارة أيا كان مصدرها. (وهذه المرحلة هى ما تسمى عادة أزمة تطور، ثم إنى أطلقت عليها لاحقا بعد صدور هذا النشر الأول “الأزمة المفترقية” Cross-Roads Crisis ، حيث أنها تعلن حركية فى مفترق طرقً إلى ما بعدها فى أكثر من اتجاه).

الفرض‏ ‏الرابع‏:‏

إن‏ ‏للصحة‏ ‏النفسية‏ ‏مستويات‏ ‏متتالية‏ ‏تقابل‏ ‏الوسائل‏ ‏الغالبة‏ ‏للحصول‏ ‏على ‏التوازن‏، ‏وأنه‏ ‏يمكن‏ ‏تمييز‏ ‏ثلاثة‏ ‏مستويات‏ ‏محددة‏ ‏دون‏ ‏إغفال‏ ‏المراحل‏ ‏المتوسطة‏ ‏بينها‏، ‏وسوف نقدم  ‏كل‏ ‏مستوى ‏بصفاته‏ ‏الكاملة‏ ‏نظريا‏ ‏حتى ‏تتحدد‏ ‏الصورة‏ ‏بوضوح‏ ‏أولا‏، ‏أما‏ ‏التوفيقات‏ ‏البينية‏ ‏فيمكن‏ ‏استنتاجها‏، ‏ هذا علما بأن كل مستوى مهما غلبت معالمه يحمل فى نفس الوقت قدرا ما من المستويات الأخرى.

وعلى ‏ذلك‏ ‏فإنه‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقال‏ ‏على ‏أى ‏فرد‏ ‏متوازن‏ ‏أنه‏ ‏صحيح‏ ‏نفسيا‏ ‏مع‏ ‏تحديد‏ ‏نوع‏ ‏الصحة‏ ‏التى ‏يتميز‏ ‏بها‏ ‏حسب‏ ‏الوسيلة‏ ‏الغالبة‏ ‏للحصول‏ ‏على ‏التوازن‏.‏

وحتى ‏نعرف‏ ‏نوع‏ ‏الصحة‏ ‏التى ‏يتميز‏ ‏بها‏ كل مستوى ‏فإنى ‏سوف‏ ‏أستعمل‏ ‏نفس‏ ‏المقاييس‏ ‏التقليدية‏ ‏لقياس‏ ‏الصحة‏ ‏وتمييزها‏، ‏وهى (1)  ‏التكيف‏ ‏و(2) الرضا‏  ‏و(3) العمل‏ ، ولكن‏ ‏معانيها‏ ‏وترتيبها‏ ‏سوف‏ ‏تختلف‏ ‏اختلافا‏ ‏بـَيـْنـًا‏ ‏من‏ ‏مستوى ‏لآخر:‏ ‏ جدول‏ (1)، ‏كما‏ ‏يلى:‏

أولا‏- ‏المستوى ‏الدفاعى:‏

وفيه‏ ‏يمارس‏ ‏الانسان‏ ‏حياته بطريقة روتينية عادية ناجحة فى حدود قيم المرحلة‏، ‏وهو يستمر‏ ‏يدافع‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏وبقائه‏ ‏وقيمه‏ ‏الاجتماعية‏ ‏الثابتة‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يسعى ‏إلى ‏معرفة‏ ‏طبيعتها‏ ‏وإطلاق‏ ‏قدراته‏ ‏لتغييرها‏، ‏وهذا‏ ‏المستوى ‏يتصف‏ ‏به‏ ‏أغلب‏ ‏الناس‏ ‏وخاصة‏ ‏فى ‏المجتمعات‏ التقليدية‏ ‏والمغتربة ‏، ‏ويتم‏ ‏التوازن‏ ‏بالدفاع‏ ‏والهجوم‏ ‏معا‏ حسب الموقف، ‏وتقاس‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏بمدى ‏نجاح‏ ‏العمى ‏النفسى الإيجابى([47]) ‏الذى ‏يتمتع‏ ‏به‏ ‏الفرد‏، ‏ويكون‏ ‏ترتيب‏ ‏المقاييس‏ ‏ومعناها‏ ‏فى هذا المستوى، كالتالى:‏

التكيف‏: ‏ويعنى ‏هنا‏ ‏التشكـُّل‏ ‏حسب‏ ‏قوالب‏ ‏المجتمع‏ ‏ومجاراة‏ ‏القيم‏ ‏السائدة‏ ‏على ‏حساب‏ ‏أى ‏شئ‏ ‏آخر‏، ‏فالإجابات‏ ‏التقليدية‏ ‏جاهزة‏ ‏لكل‏ ‏سؤال‏، ‏وتثبيت‏ ‏الواقع‏ ‏أمان‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏اهتزاز‏.‏

العمل: ويتجه أساسا لإرضاء الحاجات الأساسية  وحفظ الفرد فالنوع، فالإنسان هنا يعمل للحصول على لقمة العيش والمركز أساساً، ثم لاقتناء ممتلكات رمزية تميز وجوده وتبرره وتساعده فى نفس الوقت فى نجاح العمى النفسى المفيد لتحقيق التوازن.

الرضا‏: ‏ويتم‏ ‏أساسا‏ ‏بتجنب‏ ‏الألم‏ ‏والقلق‏ ‏والارتواء‏ أساسا ‏من‏ ‏اللذة‏ ‏الحسية‏.

 ‏وأود‏ ‏أن‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏معنى ‏الترتيب‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏من‏ ‏الطرح‏، ‏إذ‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏فصل‏ ‏مقياس‏ ‏عن‏ ‏الآخر‏، ‏وإنما‏ ‏وضعتُ‏ ‏الترتيب‏ ‏على ‏أساس‏ ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏تعارض‏ ‏اثنان‏ ‏فرضا‏ ‏فأيهما‏ ‏يَرْجَح؟‏ ‏ووضعت‏ُُ ‏الراجح‏ ‏فى ‏ترتيب‏ ‏أوّل‏، ‏فمثلا‏ ‏إذا‏ ‏تعارض‏ ‏التكيف‏ ‏مع‏ ‏الرضا‏ (‏وهما‏ ‏لا‏ ‏يتعارضان‏ ‏عادة‏ ‏لأنهما‏ ‏يخدمان‏ ‏نفس‏ ‏الهدف‏ ‏النفسى ‏لهذه المرحلة الدفاعية‏ ‏ولكن‏ ‏الذبذبات‏ ‏محتملة‏) ‏فإن‏ ‏الفرد‏ ‏عادة‏ ‏يتنازل‏ ‏عن‏ ‏الرضا‏ ‏مؤقتا‏ ‏ليتشكل‏ ‏مع‏ ‏النظام‏ ‏السائد‏ ‏الذى ‏سيحقق‏ ‏له‏ ‏الرضا‏ ‏بعد ذلك ولو ‏ ‏بشكل‏ ‏أدنى ‏ما دام‏ ‏قد‏ ‏قبل‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏من‏ ‏الصحة‏، ‏فالترتيب هنا ليس ترتيبا استبعاديا ولكنه يشير إلى تفضيل مرحلى،  ‏كما‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الترتيب‏ ‏يشير‏ ‏إلى “‏المقياس‏” ‏أكثر من إشارته ‏ ‏إلى “‏القيمة‏ ‏المطلقة‏” ‏فالصحة‏ ‏هنا‏تقاس‏ ‏بالتكيف‏ ‏أولا‏:

“‏‏فالإنسان‏ ‏فى ‏هـذا‏ ‏المستوى ‏من‏ ‏الصحة مثله‏ ‏مثل‏ ‏الجميع‏ ‏يكسب‏ ‏لقمة‏ ‏العيش‏، ‏ويقتنى ‏من‏ ‏الأشياء‏ ‏أكثر‏ ‏ما‏ ‏يمكنه‏، ‏ويملأ‏ ‏بطنه‏ ‏وتتلذذ‏ ‏حواسه‏، ‏وينام‏، ‏وتنتهى ‏آماله‏ ‏فى ‏الأغلب‏ ‏عند‏ ‏الستر‏ ‏أو‏ ‏الممتلكات‏ ‏الرمزية‏”‏.

وأحب‏ ‏أن‏ ‏أؤكد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المستوى هو مستوى ‏مشروع‏ ‏من‏ ‏الصحة‏، ولا ينبغى النظر إليه على أنه مرتبة دونية على طول الخط، فهو المستوى الذى ‏يتمتع‏ ‏به‏ ‏الأغلبية‏، ‏لذلك‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏ينتقص‏ ‏توازن‏ ‏الفرد‏ ‏عند‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏من‏ ‏حقه‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏الآمنة‏ ‏مادامت‏ ‏قدراته‏ ‏وإمكانيات‏ ‏مجتمعه‏ ‏لم‏ ‏تسمح‏ ‏له‏ ‏بغير‏ ‏هذا‏ ‏المستوى، ‏ولعل‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏هو‏ ‏ماأشار‏ ‏إليه‏ ‏لامبو‏ Lambo ‏([48]) فى ‏مناقشته‏ ‏للصحة‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏المجتمعات‏ ‏النامية‏ ‏قائلا‏ “‏إن‏ ‏مفهوم‏ ‏التقبل‏ ‏والتلاؤم‏ ‏الاجتماعى ‏هو‏ ‏أكبر‏ ‏علامة‏ ‏لتقويم‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏المجتمعات‏ ‏التقليدية‏”.‏

ثم‏ ‏إن‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏تطوره‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏الكم‏ ‏الذى ‏منه‏ ‏يخرج‏ ‏الكيف‏، ‏واحترام‏ ‏الكم‏ ‏الذى ‏يمثله‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏إنما‏ ‏يعنى ‏أمرين‏،‏ ‏الأول:‏ ‏أن‏ ‏هدف‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏هو‏ ‏تحقيق‏ ‏التوازن‏ ‏على ‏قدر‏ ‏ماتسمح‏ ‏الظروف‏، ‏وليس‏ ‏تصنيف‏ ‏الناس‏ ‏فى طبقات، أو العمل على ‏ ‏إثارتهم‏ وتحريكهم ‏دون‏ ‏إمكانيات‏ ‏مناسبة‏، ‏والثانى: ‏أن‏ ‏الانسان‏ ‏على ‏هذا‏ ‏المستوى ‏قد‏ ‏يتطور‏ ‏فى ‏أى ‏وقت‏ ‏أو‏ ‏قد‏ ‏ينجب‏ ‏من‏ ‏الأطفال‏ ‏من‏ ‏يحمل طبيعة الحياة البشرية التى تحوى‏ ‏بذور‏ ‏التطور‏ ‏وقوانين الإيقاع، فهو قد يوجد فى‏ ‏ظروف تسمح بإ‏طلاقها‏ ‏فى ‏أمان‏ ‏أكبر‏، ‏وبهذا‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏أدى ‏وظيفته‏ ‏التطورية‏ ‏بطريق‏ ‏غير‏ ‏مباشر‏

ثانيا‏: ‏المستوى ‏المعرفى الذهنى([49]):‏

وهنا‏ ‏يعرِفُ‏ ‏الشخص‏ ‏أكثر‏، ‏فيدرك‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏دوافعه‏ ‏وغرائزه‏ ‏كما‏ ‏يدرك‏ ‏القيم‏ ‏الاجتماعية‏ ‏من‏ ‏حوله‏، ‏وهو يتقبل‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏بدرجات مناسبة، فيحصل‏ ‏بذلك‏ ‏على ‏التوازن‏، ‏وبهذه‏ ‏الرؤية‏ ‏ ‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏هذا الكم الهائل من‏ ‏الحيل‏ ‏الدفاعية التى كان يستعملها‏، و‏إذا‏ ‏اعتبرنا‏ ‏أن‏ هذا النوع من  ‏المعرفة المعقلنة‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏صورها‏ هو ‏دفاع‏ ‏ضد‏ ‏البصيرة‏ ‏الأعمق‏، ‏وهو‏ ‏يوصل‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الراحة‏ ‏والتلاؤم‏ ‏لا‏ تهدف أساسا لأن ‏تثير‏ ‏قدراته‏ ‏الخلاّقة‏ ‏لعمل‏ ‏الجديد‏ ‏والتغيير‏ ‏فيكون‏ ‏هدفه‏ ‏أساسا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏هو‏ ‏الراحة‏ ‏واللاقلق‏ ‏والهدوء‏، ‏وربما‏ ‏القراءة‏ ‏أو‏ ‏المناقشة‏ ‏العقلية‏، ‏ويصل‏ ‏الفرد‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏المستوى ‏من‏ ‏التوازن‏ ‏بالتعقل‏ ‏وربما‏ ‏بالاستبطان‏ ‏الذاتى ‏Introspection عن‏ ‏طريق‏ ‏معلـِّم‏ ‏أو‏ ‏كتاب‏ ‏أوصديق‏ ‏أو‏ ‏محلل‏ ‏أوطبيب‏، ‏وكما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏ذكرنا‏ ‏فإن ‏ ‏التوازن‏ ‏عند‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏لا يخلو‏ ‏من‏ ‏وسائل‏ ‏دفاعية بل أنه أحيانا قد يصير نوعا من دفاع العقلنة Intellectulization إذا زادت جرعة التفكير التفسيرى والتدريجى، وهو قد يشتمل أيضا على  قدر من‏‏ ‏ممارسة‏ ‏بعض‏ ‏النشاطات‏ ‏الخلاقة‏، (‏ولكنه‏ ‏ليس‏ ‏نشاطا‏ ‏بالضرورة‏ ‏للتغيير، بل هو أكثر – غالبا –  للتفريغ أو التعبير‏، ‏رغم‏ ‏أصالته‏، ‏وتكون‏ ‏المقاييس‏ ‏حسب‏ ‏أهميتها‏ ‏القياسية‏ ‏مرتبة‏ ‏بشكل‏ ‏مميز‏ ‏كما‏ ‏تختلف‏ ‏معانيها‏ ‏عن‏ ‏بقية‏ ‏المستويات‏ ‏كالتالى:‏

الرضا‏: ‏وهو‏ ‏هنا‏ ‏المقياس‏ ‏الأساسى لتمييز نوع هذه البصيرة المتاحة، ويغلب فيه ‏‏ما يعرف بقبول‏ ‏الذات‏ ‏واحترام‏ ‏الصراع‏، كما أنه يتعامل مع ‏ ‏الألم‏ ‏بتجاهله‏ ‏ ‏مثل‏ ‏المستوى ‏الدفاعى أو بتحمله دون استيعاب طاقته للتغيير، ‏وينفس‏ ‏الفرد‏ ‏عن‏ ‏القلق‏ ‏بالتفريج‏ ‏والترويح‏ ‏والفهم‏، ‏ويحصل‏ ‏على ‏اللذة‏ ‏العقلية‏ ‏بالمعرفة‏ المعقلنة، ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏الرضا باللذة ‏ ‏الحسية‏ ‏والتمتع‏ ‏بها، وعادة التوقف عندها.

التكيف‏: ‏ويشمل‏ ‏هنا‏ ‏التكيف‏ ‏مع‏ ‏داخل‏ ‏النفس‏ ‏والواقع‏ ‏الخارجى ‏معا‏: ‏نتيجة‏ ‏لتعرفه النسبى على‏ طبيعة‏ ‏ما يجرى ‏فى ‏الداخل‏ ‏والخارج‏ ‏على ‏المستوى ‏العقلى، ‏ولا‏ ‏يتعدى ‏مجال‏ ‏التكيف – عادة – مجال‏ ‏المجتمع‏ ‏القريب‏ ‏فى ‏الأسرة‏ ‏والأصدقاء‏ ‏والعمل امتداد إلى الوطن (خاصة فى المناسبات)‏، ‏وقد‏ ‏يتحدث‏ ‏عن‏ ‏المجالات‏ ‏الأوسع‏ ‏للانسان‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏سعيا إليها‏ ‏معها‏ ‏بقدر‏ ‏ما هو‏ ‏فـَهـْمُ‏ ‏لها‏ ‏أو‏ ‏مناقشة‏ ‏لظروفها‏، ‏ومهما‏ ‏ظهرت‏ ‏كلمات‏ ‏التغيير‏ ‏فى ‏الحوار أو النقاش ‏ ‏فإنها‏ عادة ‏تفتقر‏ ‏إلى ‏العمق‏ ‏الخالقى، ‏وتكون‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏التفسير‏ ‏وأحيانا التبرير‏.‏

العمل‏: ‏وهنا‏ ‏يتعدى ‏مفهوم‏ ‏العمل ‏مستوى ‏كسب‏ ‏العيش‏ ‏واقتناء‏ ‏الأشياء‏ ‏وإرضاء‏ ‏الدوافع‏ ‏الغريزية‏ ‏إلى ‏ممارسة‏ ‏بعض‏ ‏النشاطات‏ ‏التى ‏تجلب‏ ‏المتعة‏ ‏ وأحيانا التسلية‏ ‏كذلك‏، ‏وتصبح‏ ‏وظيفة‏ ‏العمل‏ ‏هنا‏ ‏بعد‏ ‏تحقيق‏ ‏الدوافع‏ ‏الأولية‏، ‏إطلاق‏ ‏الطاقة‏ ‏للمتعة‏ ‏ وتأكيد‏ ‏الذات‏، ‏ومن‏ ‏ثـَمَّ‏ ‏الرضا‏ ‏والراحة‏ ‏الطمأئنية‏.‏

هذا‏ ‏المستوى ‏ربما‏ ‏قد يصفُ بعض‏ ‏من‏ ‏يـُطلق‏ ‏عليهم‏ “‏المثقفون”‏، ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏يعتبر‏ ‏أرقى ‏من‏ ‏سابقه‏ ‏وأقرب‏ ‏إلى ‏الصفات‏ ‏الإنسانية‏ ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏الصعب‏ ‏اعتبار‏ ‏أو‏ ‏تصور‏ ‏أن‏ ‏غاية‏ ‏تطور‏ ‏الانسان‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فاهما‏ ‏مرتاحا‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏هدف‏ ‏عظيم‏ ‏فى ‏حد‏ ‏ذاته‏ ‏حتى ‏يغرى ‏بأن‏ ‏يكون‏ ‏غاية‏ ‏أمل‏ ‏الفرد‏ ‏فعلا‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يحفز إلى دفع مسيرة‏ ‏التطور‏ ‏والتغيير‏ الفردى على الأقل، ‏ولكنه‏ ‏يخدم‏ ‏اتساع‏ ‏دائرة‏ ‏المعرفة‏ ‏الانسانية‏ ‏التى ‏تخدم‏ ‏بدورها‏، ‏ولو‏ ‏بطريق‏ ‏غير‏ ‏مباشر‏، ‏شحذ‏ ‏البصيرة‏ ‏الانسانية‏ عامةً، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏الانطلاق‏ ‏إلى ‏المرحلة‏ ‏التالية‏، ‏ويمكن‏ ‏وصف‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المستوى ‏من‏ ‏الصحة‏ ‏بأنه:

‏ “‏إنسان‏ ‏يتمتع‏ ‏بالراحة‏، ‏يعرف‏ ‏كيف‏ ‏يـُرضى ‏نفسه‏ ‏ويساير‏ ‏من‏ ‏حوله‏، ‏ويقبل‏ ‏الموجود‏ ‏ويتمتع‏ ‏بالممكن‏، ‏يمارس‏ ‏عمله‏ ‏ويشغل وقته بنشاطات جيدة!!‏” (و.. ويمضى!).‏

ثم إن ‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏مثل‏ ‏سابقه‏، ‏إذا‏ ‏استنفد‏ ‏أغراضه‏، ‏أو‏ ‏ثارت‏ ‏قوى ‏التطور‏ ‏عليه‏ (‏تلقائيا‏ ‏أو‏ ‏نتيجة‏ ‏مؤثرات‏ ‏كما‏ ‏سبق‏) ‏فإنه‏ ‏لا‏ ‏يعود‏ ‏كافيا‏ ‏لحفظ‏ ‏التوازن‏. فنقترب من أزمة النمو التالية، فمرحلة لاحقة.

ثالثا‏: ‏المستوى ‏الخالقى (‏الإبداعى‏):‏

‏ ‏لا‏ ‏ينطبق هذا المستوى ‏ ‏إلا‏ ‏على ‏ندرة‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏المرحلة‏ ‏الحالية‏ ‏لتطور‏ ‏الإنسان‏، (وقد تغير رأيى نسبيا فى ذلك بعد ذلك)([50]) ‏ونظرا‏ ‏لأن‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏يعالج‏ ‏كل‏ ‏البشر‏ ‏فعليه‏ ‏أن‏ ‏يحترم‏ ‏مراحل‏ ‏تطور‏ ‏كل‏ ‏البشر‏، ‏وبذلك‏ ‏نتجنب‏ ‏ما‏ ‏أخذناه‏ ‏على ‏بعض‏ ‏التعريفات‏ ‏حين‏ ‏قصَـرتْ‏ْ ‏معنى ‏الصحة‏ ‏على مثل ‏هذا‏ ‏المستوى ‏فحسب‏ على ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏هو‏ ‏غاية‏ ‏تطور‏ ‏الانسان‏ “‏كنوع‏” ‏والانسان‏ “‏كفرد‏” ‏لأنه‏ ‏إذا‏ ‏امتد‏ ‏معنى ‏التكيف‏ ‏إلى ‏اهتمام‏ ‏الانسان‏ ‏بوجوده‏ ‏زمانيا‏ ‏كمرحلة‏ ‏من‏ ‏النوع‏ ‏البشرى ‏تصل‏ ‏الماضى ‏بالمستقبل‏، ‏ومكانيا‏ ‏كفرد‏ ‏من‏ ‏البشر‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مكان‏، ‏وأصبحت‏ ‏راحته‏ ‏وصحته‏ ‏لا‏ ‏تتحققان‏ ‏إلا‏ ‏بأن‏ ‏يساهم‏ ‏طوليا‏ ‏فى ‏التطور‏ ‏وعرضيا‏ ‏فى ‏مشاركة‏ ‏الناس‏ ‏آلامهم‏ ‏ومحاولة‏ ‏حلها‏ ‏بالتغيير‏ ‏والعمل‏ ‏الخلاق‏، ‏ولم‏ ‏يُخــِلّ‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏بحياته‏ ‏اليومية‏، ‏ولم‏ ‏ينتقص‏ ‏من‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏كسب‏ ‏عيشه مثلا‏ ‏أو‏ ‏تكوين‏ ‏أسرة‏ ورعايتها‏، ‏فإنه‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏حقق‏ ‏إنسانيته‏ ‏وتوازنه‏ ‏على ‏أرقى مستوى ‏معروف‏ ‏للصحة‏ ‏النفسية‏، ‏وهو ما يشير إليه هذا المستوى‏.‏

ويكون‏ ‏ترتيب‏ ‏المقاييس‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المستوى ‏حسب‏ ‏أهميتها‏ ‏كالتالى:‏

العمل‏: ‏وهنا‏ ‏يصبح‏ ‏العمل المتجِّدد ‏ ‏أساسيا‏ ‏ولا‏ ‏غنى ‏عنه‏ ‏لتحقيق‏ ‏التوازن‏ ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏، ‏والعمل‏ ‏الذى ‏يؤدى ‏هذا‏ ‏الغرض‏ ‏هو‏ “‏العمل‏ ‏المغيـِّر‏” ‏أو‏ ‏الخلاق‏ ‏ولا‏ ‏أعنى ‏به‏ ‏هنا‏ ‏نوعا‏ ‏خاصا‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏ ‏الفنى (‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏يدخل‏ ‏طبعا‏ ‏ضمن‏ ‏هذا‏ ‏المستوى‏) ‏وإنما‏ ‏أعنى ‏به‏ ‏أى ‏عمل‏ ‏له معنى، يملأ الوقت، ويسهم ضمنا فى‏ ‏تغيير‏ ‏الواقع‏ ‏لصالح‏ ‏الإنسان الفرد أو الجماعة أو النوع، ‏ ‏وخلق‏ ‏الجديد‏، ‏وهذا‏ ‏الجديد‏ ‏ابتداء‏ ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الحياة‏ ‏التى ‏تعطى الفرصة لكل ما هو فى الإنسان أن ينطلق لتحقيق حركية النمو والتطور لو بأقل قدر غير مرصود أنه كذلك، ‏وهو‏ ‏بذلك‏ ‏يتعدى ‏مجرد‏ ‏كسب‏ ‏العيش‏ ‏أو‏ ‏ممارسة‏ ‏هواية‏، ‏ولكنه‏ ‏لا‏ ‏يتم‏ ‏من خلال‏ ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏ذاك‏.‏

من‏ ‏هذا‏ ‏يتضح‏ ‏أنى ‏لم‏ ‏أعــْنِ‏ ‏أنه‏ ‏لابد‏ ‏للإنسان‏ ‏من‏ ‏إبداع‏ ‏عمل‏ ‏فنى ‏فريد حتى ‏يتصف‏ ‏بالتوازن‏ ‏على ‏هذا‏ ‏المستوى، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏ليس‏ ‏ضروريا‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏يخلق‏ ‏عملا‏ ‏فنيا‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏حقق‏ ‏صحته‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المستوى، ‏إلا‏ ‏أثناء‏ ‏عملية‏ ‏الابداع‏ ‏فقط، ‏فالمقصود‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏الوجود‏ ‏الانسانى ‏الإيجابى ‏والمساهمة‏ ‏فى ‏الاستمرار‏ ‏كحلقة‏ ‏متغيرة‏ ‏فى ‏سلسلة‏ ‏التطور‏، ‏هو‏ ‏خلق‏ ‏جديد‏ ‏فى ‏ذاته‏، ‏فتكون‏ ‏الحياة‏ ‏ذاتها‏ ‏فنا‏ ‏أصيلا‏، ‏ولا‏ ‏يكون‏ ‏الفن‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏الحياة‏، ‏لأن‏ ‏مجرد‏ ‏تغير‏ ‏نوع‏ ‏الفرد‏ ‏يحمل‏ ‏الأصالة‏ ‏اللازمة‏ ‏لاستمرار‏ ‏سلسلة‏ ‏التطور‏.  ‏

الرضا‏: ‏ويعنى ‏هنا‏ ‏الامتلاء الإيجابي الذى يصاحب “‏العمل‏ ‏المغيـِّر‏” ‏أو‏ ‏الخـَلـْق‏، ‏ويشمل‏ ‏الشعور‏ ‏بالحرية‏ ‏والمسئولية‏ ‏معا‏، ‏وممارسة‏ ‏القلق‏ ‏البنـَّاء‏ ‏لصالح‏ ‏التغيير‏، ‏لأن‏ ‏الرضا‏ ‏هنا يأتى ‏مما‏ ‏يثيره‏ ‏القلق‏ ‏من‏ ‏عمل‏ ‏يتفوق‏ ‏به‏ ‏الانسان‏ ‏على ‏نفسه‏، ‏فلا‏ ‏يقتصر‏ ‏بذلك‏ ‏معناه‏ ‏على ‏المتعة‏ ‏أو‏ ‏اللذة‏ ‏الحسية‏، ‏وإنما‏ ‏يعنى ‏الشعور‏ ‏بالتناسق‏ ‏والانسجام‏ ‏مع‏ ‏الحياة‏ ‏والناس‏ ‏والوجود‏، ‏ولا‏ ‏يشترط ‏ ‏لذلك‏ ‏درجة‏ ‏النشوة‏ ‏التى ‏يصل‏ ‏إليها‏ ‏الصوفى ‏أو‏ ‏الفنان‏ ‏أثناء‏ ‏تجربة‏ ‏الخـَلـْق‏، ‏فهذه‏ ‏حالة‏ ‏مؤقتة‏، ‏ولكنها‏ ‏على ‏كل‏ ‏حال‏ ‏تحمل‏ ‏نوع‏ ‏هذه‏ ‏التجربة‏ ‏حيث‏ ‏تتعدى ‏السعادة‏ ‏الإنسانية‏ ‏اللذة‏ ‏والراحة‏ ‏إلى ‏النشوة‏ ‏والإحساس‏ ‏الإيجابى ‏بالحياة‏ ‏والناس‏، ‏وبقيمة‏ ‏الانسان‏، ‏وبأهمية‏ ‏المشاركة‏ ‏الانسانية‏ ‏لتحقيق‏ ‏هذه‏ ‏النشوة‏.‏

4

شكل (2) يبين اختلاف ترتيب (وحضور) المقاييس التقليدية لمستويات الصحة النفسية

التكيف‏: ‏ويصبح‏ ‏معناه‏ ‏التلاؤم‏ ‏مع‏ ‏الجنس‏ ‏البشرى ‏كله‏ ‏فى ‏المكان‏ ‏والزمان‏، ‏فلا‏ ‏يقتصر‏ ‏على ‏المجال‏ ‏القريب‏ ‏للمتصلين‏ ‏بالفرد‏، ‏ولكنه‏ ‏يتم‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المجال‏ ‏كخطوة‏ ‏أولى ‏نحو‏ ‏مجال‏ ‏أشمل‏، ‏وكثيرا‏ ‏مايضطرب‏ ‏هذا‏ ‏المقياس‏ ‏مع‏ ‏سابقيه‏:

“والإنسان ‏ ‏ ‏الصحيح‏ ‏المتوازن‏ ‏نفسيا‏ ‏فى هذا المستوى فعلا‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يملك‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏نفسه‏ ‏وبيئته‏ ‏القريبة‏ ‏بحيث‏ ‏تتفق‏ ‏مع‏ ‏قدرات‏ ‏ما خـُلق به‏، ‏وتحقق‏ ‏غايته‏ ‏التى ‏ينشدها‏ ‏فى ‏وسط‏ ‏الناس‏ ‏وبهم‏، ولهم بشكل مباشر أو غير مباشر‏.

 ‏ويبدو‏ ‏أنه‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يملك‏ ‏الفرد‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏قبول‏ ‏تنازلات‏ ‏مرحلية‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏تمس‏ ‏توازنه‏ ‏الأصلى ‏أو‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏العمل‏ ‏الخلاق‏، ‏بل‏ ‏تساعد‏ ‏على ‏استمراره‏ ‏وتوازنه‏ ‏على ‏المدى ‏الطويل‏.‏

جدول (1)

 يبين اختلاف ترتيب أولوية مقاييس الصحة النفسية فى كل مستوى، وأيضا اختلاف ما يعنيه كل مقياس فى كل مستوى عن معناه فى مستوى آخر.

6

الفرض‏ ‏الخامس‏:‏

إن‏ ‏الانسان‏ ‏إذ‏ ‏ينتقل‏ ‏من‏ ‏مستوى ‏أدنى ‏للصحة‏ ‏النفسية‏ ‏إلى ‏مستوى ‏أعلى ‏تظهر‏ ‏عليه‏ ‏مظاهر سلوكية جديدة، كما قد يشعر بمشاعر‏ ‏غير‏ ‏عادية وذلك‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يستعيد‏ ‏توازنه‏ ‏على ‏المستوى ‏الأعلى، ‏وينبغى ‏ألا‏ ‏نساوى ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الأعراض‏ ‏وأعراض‏ ‏المرض الصريح المعيق، ‏بل‏ ‏يستحسن‏ ‏ألا‏ ‏نطلق‏ ‏عليها‏ ‏اسم‏ ‏المرض‏ ‏أصلا‏، ‏وأقترح‏ ‏اسما‏ ‏جديدا‏ ‏لهذه‏ ‏المرحلة‏ ‏من‏ ‏فقد‏ ‏التوازن‏ ‏هو‏ “‏أزمة‏ ‏تطور‏”([51]) Evolutionary Crisis  ‏فيقتصر‏ ‏اسم‏ ‏المرض‏ ‏على ‏فشل‏ مرحلى فى ‏هذه‏ ‏الأزمة‏ ‏فى ‏أن‏ ‏تحقق‏ ‏أغراضها‏ ‏التطورية‏، ‏أما حين‏ ‏تستمر‏ ‏الأزمة‏ ‏بدرجة‏ ‏معجـِّزة،‏ ‏أو‏ ‏تنهار‏ ‏القوى ‏المتطورة التى بدأتها والتى تِعدُ بها:‏ ‏فيظهر‏ ‏المرض‏ ‏فى ‏صورته‏ ‏شبه‏ ‏المستقرة‏ فإنه ‏يحقق‏ نوعا من ‏التوازن‏ ‏ولكن‏ ‏على ‏مستوى ‏أدنى لأنه يصبح توازنا مشوهاً عاجزا متعجّزاً‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏الصحة، بل عسكها‏، ‏وكأنه‏ ‏يحقق‏ ‏نفس‏ ‏الهدف‏ ‏ولكن‏ ‏بطريقة‏ ‏محطـِّمة‏ ‏تخدم‏ ‏التدهور‏.

على أن هناك احتمالا آخر وهو أن ترتد هذه الأزمة إلى المستوى السابق للصحة النفسية، أو أدنى منه، وإن بدا مشابها له من الظاهر، لأن هذه الفروق البسيطة لا تظهر إلا بالمقاييس النوعية الدقيقة وليس بمجرد اختفاء الأزمة بما يصاحبها من أعراض نوعية.

الفرض السادس:

يمكن تقسيم الأمراض النفسية (شكل 3) – فيما هو ليس أزمة تطور – إلى مستويات مقابلة لمستويات الصحة، هى مستويات اللاتوازن والمعاناة إلى التدهور، حين يفشل التطور.

فتوضع الأمراض التى تزداد فيها جرعة استعمال الميكانزمات الدفاعية لدرجة تعوق النمو أى قد تحول دون الدخول فى أزمة التطور اللاحقة، توضع هذه الأمراض فى مجموعة العصاب عامة وأغلب أنواع اضطرابات الشخصية وسوء التكيف وهو ما يقابل المستوى الدفاعى.

 وتوضع‏ ‏الأمراض‏ ‏التى ‏تحتد‏ ‏فيها المعرفة الذهنية المعقلنة ‏ ‏بلا‏ ‏فاعلية‏ ‏ولا‏ ‏بناء‏، ‏فى ‏المستوى ‏المقابل‏ ‏للمستوى ‏ المعرفى‏ الذهنى، ‏وهنا‏ ‏تزيد‏ ‏الرؤية‏ ‏أيضا‏ ‏ولكنها‏ ‏لا‏ ‏تخدم‏ ‏التوازن‏، ‏ويزيد‏ ‏الألم‏ ‏ولكنه‏ ‏يقتصر‏ ‏على ‏التعجيز‏ ‏والتعويق‏، ‏ويقضى ‏على ‏الهدوء‏ ‏والرضا‏، ‏وتختل‏ ‏العلاقة‏ ‏بالآخرين‏ ‏وتفقد‏ ‏الحياة‏ ‏معناها‏ ‏الحالى ‏بلا‏ ‏بديل‏ ‏أرقى، ‏والأمثلة‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المستوى ‏هى: ‏أغلب أنواع ‏ ‏الاكتئاب‏ ‏وخاصة النوع العصابى والمجسدن والنوع الاعتمادى النعـّاب بما يصاحبه أيانا من درجات ومظاهر متنوعة من تجليات‏ ‏القلق‏.‏

7

شكل (3) يشير إلى مسارات فشل النقلة ومن ثم المآل المرضى المقابل

(الخط المنقط يشير إلى المسار المرضى البديل أما الخط الأسود المتصل فهو المسار)

وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏الأمراض ‏ ‏التى ‏تقابل‏ ‏المستوى ‏الخالقى ‏للصحة‏ ‏هى ‏أمراض‏ ‏تبدو كأنها كانت فى سبيلها للخلق‏ ‏ولكنها أُجـّهـِضـَت فى مراحلها الأولى فتتحول عملية الخلق إلى تدهور‏ ‏‏مرضى ‏لا‏ ‏يخدم‏ ‏التطور‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏نهاية‏ ‏التدهور‏، ‏صحيح‏ ‏أنه‏ ‏جديد‏ ‏مبتكر‏ ‏ليس‏ ‏كمثله‏ ‏شئ‏، ‏ولكنه‏ ‏انطلق ‏‏بلا‏ ‏هدف‏ ‏بناء‏ ‏ولا‏ ‏تناسق‏ ‏متكامل‏ ‏ولاقدرة‏ ‏على ‏التغيير‏، ‏فهو‏ ‏محاولة مُجـْهضة‏ ‏لتحقيق‏ ‏‏الأهداف‏ الواعدة ولكن ‏بأقسى ‏الوسائل‏ ‏تحطيما‏، ‏والتوازن‏ ‏الذى ‏يتم‏ ‏به، قد‏ ‏يبدو‏ ‏على ‏ظاهره‏ ‏الاستقرار‏ ‏السلبى فهو‏ ‏استقرار‏ ‏فى ‏قاع‏ ‏الانسحاب‏ ‏والانفرادية‏ ‏والنكوص وهذا ما يمثله المآل السلبى‏ مرض‏ ‏الفصام‏ ‏ وهو ‏الخـَلقْ‏ ‏المرضى ‏المتدهور المستقر على ذلك‏.‏

الفرض‏ ‏السابع‏:‏

إن‏ ‏العلاج‏ ‏إذن‏ ‏يتطلب‏ ‏أن‏ ‏يتحدد‏ ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏الأعراض‏ ‏الموجودة‏ ‏تدل‏ ‏على “‏أزمة‏ ‏تطور‏” ‏أم‏ ‏هى ‏علامات‏ ‏تدهور‏، ‏وهذه‏ ‏خطوة‏ ‏مبدئية‏ ‏وأساسية‏ ‏حتى ‏لا يحدث‏ ‏الخلط‏ ‏بين‏ ‏المرض‏ ‏والثورة‏ ‏أو‏ ‏بين‏ ‏الخلق‏ ‏والجنون‏:

‏فإذا‏ ‏كانت‏ ‏الحالة فى مرحلة ما هو‏ ‏أزمة‏ ‏تطور‏ ‏فإن‏ ‏علاجها‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏تحديد‏ ‏أين‏ ‏تقع‏ ‏هذه‏ ‏الأزمة‏ ‏بين‏ ‏مستويات‏ ‏الصحة‏ ‏المتتالية‏، ‏وعلى ‏قدر‏ ‏فهمنا‏ ‏لمستوى ‏المرحلة‏ ‏السابقة‏ ‏من‏ ‏الصحة‏ ‏وأسباب‏ ‏فشلها‏ ‏أو‏ ‏رفضها‏، ‏وعلى ‏قدر‏ ‏تقييمنا‏ ‏لقوة‏ ‏الفرد‏ ‏التطورية‏ (‏وراثيا‏ ‏وشخصيا‏) ‏وعلى ‏قدر‏ ‏حساباتنا‏ ‏للإمكانيات‏ ‏المتاحة‏ ‏فى ‏بيئة‏ ‏الفرد‏ ‏لإطلاق‏ ‏قدراته‏  ‏فى ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ ‏من‏ ‏حياته‏…. ‏يتحدد مدى ‏ ‏نجاحنا‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏نوع‏ ‏الأزمة‏، ‏وبالتالى ‏مسيرة‏ ‏التطور‏ ‏والمستوى ‏الأنسب‏ ‏لمساعدة‏ ‏الفرد‏ ‏للوصول‏ ‏اليه‏ ‏حتى ‏ولو‏ ‏كان‏ ‏المستوى ‏الأدنى، ‏ولو‏ ‏مرحليا‏([52]).‏

أضيف الآن: وعلى قدر ذكاء وفن وحرفية تعاملنا مع العقاقير انتقائيا وتناوبا باعتبار أنها تختلف باختلاف تأثيرها على “أحد الأمخاخ (مستويات الوعى) دون – أو أكثر – من الآخر، وعلى قدر تنشيطنا تدريجيا للمستوى (المخ: ومستوى الوعى: حالة الفعل) الذى يُرَادُ له الإمساك بالدفـّة (عصا المايسترو) أغلب الوقت: يكون العلاج.

أما‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏الأعراض‏ ‏قد‏ ‏استقرت‏ ‏على ‏مستوى ‏راسخ‏ ‏من‏ ‏التدهور‏ ‏فإن‏ ‏وظيفة‏ ‏العلاج‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏إثارة‏ ‏أزمة‏ ‏التطور‏ ‏تحت‏ ‏ظروف‏ ‏أفضل‏ ([53]).

أما‏ ‏فى ‏المستوى ‏المعرفى الذهنى ‏فإنه‏ ‏من‏ ‏الصعب‏ ‏احتمال‏ ‏الاكتئاب‏ ‏أو‏ ‏القلق‏ ‏بلا نهاية، فيكون‏ ‏هناك‏ ‏‏احتمال دائم للانتقال‏ ‏‏ ‏إلى مستوى أعلى أو أدنى، اللهم إلا إذا أصبح اجترار الألم والشكوى سمة دفاعية طفيلة نعـّابة، فإنه يصير أقرب للمستوى الدفاعى المتمادى([54])، ومن ثـَمَّ اضطرابات الشخصية، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏فإن‏ ‏العلاج‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المستوى يتوقف على المرحلة التى رصدت فيها حركية المعرفة الذهنية وفشل توظيفها فى ‏‏توجيه طاقة الألم إلى ‏مواصلة النمو ‏فالتطور‏، ‏لا‏ ‏مجرد‏ ‏الوصف والحـِكى.

أما إذا كان الأمر قد وصل إلى مرحلة الإبداع المُجهض الذى تمادى حتى تشتت، بل وتفسخت الشخصية بكل مكوناتها نتيجة لذلك، فإن العلاج يحتاج إلى إعادة تأهيل ومرونة توقيت التداوى، وتناسب تدرج التجميع: حتى يمكن لم شمل ما تيسّر نحو واحدية ممكنة([55]).

الحل‏ ‏الوسط‏ والتوقف:‏

‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏تصور‏ ‏مستويات‏ ‏الصحة‏ ‏محددة‏ ‏ومنفصلة‏ ‏عن‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏ ‏‏بالقلم‏ ‏والمسطرة‏، ‏فإن‏ ‏أى ‏تناسب‏ ‏من‏ ‏الوسائل‏ ‏الثلاث‏ ‏قد‏ ‏يتم‏ ‏بنسب‏ ‏متفاوتة‏ ‏ويحقق‏ ‏التوازن‏ ‏عند‏ ‏الفرد‏ ‏حسب‏ ‏ظروف‏ ‏تطوره‏، ‏وكما‏ ‏ذكرت‏ ‏فإن‏ ‏هذه‏ ‏الصورة‏ ‏التى ‏قدمتـُها‏ ‏عن‏ ‏المستويات‏ ‏المختلفة‏ ‏هى ‏الصورة‏ ‏الكاملة‏- ‏نظريا‏- ‏لكل‏ ‏مرحلة‏، ‏أما‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏فإننا‏ ‏نجد‏ ‏درجات‏ ‏متنوعة‏ ‏من‏ ‏التداخل ‏ ‏بين‏ ‏المستويات‏، ‏وإنما‏ ‏يتحدد‏ ‏نوع‏ ‏الصحة‏ ‏بنوع‏ ‏الوسائل‏ ‏التوازنية‏ ‏الغالبة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏وقت‏.‏

وهناك‏ ‏وضع‏ ‏متوسط‏ ‏آخر‏ ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏غير‏ ‏مستقر‏ ‏أو‏ ‏متوازن‏ ‏بصفة‏ ‏دائمة‏ ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏يستمر‏ ‏لفترة‏ ‏ ‏حتى ‏يمكن أن يـُعـَدّ أيضا‏ ‏حلا‏ ‏وسطا‏، ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏يظل‏ ‏الفرد‏ ‏لمدة‏ ‏طويلة‏ ‏متذبذبا‏ ‏بين‏ ‏مستويين‏ ‏أو‏ ‏أكثر‏، ‏ترجح‏ ‏كفة‏ ‏هذا‏ ‏مرة‏، ‏وترجح‏ ‏كفة‏ ‏ذاك‏ ‏مرة‏، ‏أو‏ ‏يظل‏ ‏فى ‏أزمة‏ ‏تطور‏ ‏تستمر‏ ‏عدة‏ ‏سنوات‏ ‏وهذا‏ ‏ما يفسر‏ ‏ما أشار‏ ‏إليه‏ ‏”ياسبرز”‏ ‏من‏ ‏أن‏ “‏الحالة‏ ‏الحادة‏” ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تستمر‏ ‏سنوات‏، ‏ ‏وهى ‏حالة‏ ‏قلقة‏ ‏مزعجة‏، ‏فإما‏ ‏أن‏ ‏ينطلق‏ ‏منها‏ ‏الانسان‏ ‏إلى ‏المستوى ‏الأعلى ‏يؤصل‏ ويبدع أساسا، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏المستوى ‏الأدنى ‏أو‏ ‏أقل‏، ‏أو‏ ‏يلجأ‏ ‏إلى ‏الحل‏ ‏المرضى ‏بالتدهور‏.‏

كما‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏احتمالا‏ ‏ثالثا‏ ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏المستوى ‏الأغلب‏ ‏للصحة‏ ‏هو‏ ‏أحد‏ ‏المستويات‏ ‏الأدنى، ‏ولكن‏ ‏الفرد‏ ‏يمارس‏ ‏نوعية‏ مستوى آخر‏على ‏فترات‏ ‏متباعدة‏، وكأنه‏ ‏يفرغ‏ ‏شحنتها‏ ‏بإطلاقها‏ ‏وإتاحة‏ ‏الفرصة‏ ‏لغلبتها‏ ‏ثم‏ ‏يعود للمستوى ‏الأصلى ‏السائد‏ ‏للتوازن‏، ‏وأكثر‏ ‏ما‏ ‏نشاهد‏ ‏هذا‏ ‏التناوب‏ ‏عند‏ ‏بعض‏ ‏الفنانين‏ ‏المبدعين‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏ ‏الذين‏ ‏تنطلق‏ ‏قدراتهم‏ ‏الخالقة‏ ‏أثناء‏ ‏عملية‏ ‏الابداع‏ ‏فقط‏ ، فيعيشون‏ ‏نوعية‏ ‏الصحة‏ ‏على ‏المستوى ‏الخالقى ‏حينذاك‏، ‏ثم‏ ‏يعودون‏ ‏إلى ‏المستوى ‏الغالب فى حياتهم العادية، وهو الذى ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏المستوى ‏المعرفى الذهنى ‏أو‏ ‏الدفاعى ‏أو خليطا‏ ‏منهما‏ ‏معا‏، ‏وهذا يفسر كيف تكون‏ ‏الأعراض‏ ‏السابقة‏ ‏مباشرة‏ ‏لعملية‏ ‏الإبداع‏ ‏أشبه‏ ‏بأزمة‏ ‏تطور‏ ‏ولكن‏ ‏الفرق‏ ‏أنها‏ ‏تتم‏ ‏لفترة‏ ‏محدودة‏ ‏أثناء بدايات‏ ‏عملية‏ ‏الإبداع‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أنها‏ ‏تطول‏ ‏إلى ‏شهور‏ ‏أو‏ ‏سنوات‏ ‏فى ‏التطور‏ ‏الفردى ‏الذى ‏قدمناه‏، ‏وبانتهاء‏ ‏عملية‏ ‏الإبداع‏ ‏مؤقتا‏ ‏يعود‏ ‏التوازن‏ ‏على ‏المستوى ‏السابق‏ ‏العام‏، ‏وهذا‏ ‏قد‏ ‏يفسر‏ ‏اختلاف‏ ‏أحاسيس‏ ‏ونوعية‏ ‏الفنان‏ ‏أثناء‏ ‏الإبداع‏ ‏عن‏ ‏حالته‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏، ‏إذن‏ ‏فالابداع‏ ‏الفنى والأدبى وحتى العلمى ‏ليس‏ ‏دائما‏ ‏مرادفا‏ ‏للتوازن الصحى‏ ‏على ‏المستوى ‏الخالقى ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏ذكرنا‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏بهذه‏ ‏الصورة‏ ‏حل‏ ‏وسط‏ ‏متناوب‏ ‏بين‏ ‏مستويين‏ ‏للصحة‏ ‏النفسية‏، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏الفرق‏ ‏الذى ‏أوضحناه‏ ‏بين‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الفن‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏الحياة‏ ‏أو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الفن‏ ‏هو الحياة‏، ‏ونتاجها‏ ‏بعض‏ ‏صوره‏، ‏ففى ‏الحالة‏ ‏الأولى ‏يمارس‏ ‏الانسان‏ ‏الفن‏ ‏كحل‏ ‏وسط‏ ‏يطلق‏ ‏به‏ ‏قدراته‏ ‏الفنية‏ ‏على ‏فترات‏ ‏حتى ‏لاتتجه‏ ‏اتجاها‏ ‏تحطيميا‏، ‏وفى ‏الحالة‏ ‏الثانية‏ ‏تصبح‏ ‏الحياة‏ ‏ذاتها‏ ‏فنا‏ ‏ونتاجها‏ ‏الطبيعى ‏هو‏ ‏الفن‏ ‏بصفة‏ ‏شبه‏ ‏دائمة‏.‏

على ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏لايعنى ‏التقليل‏ ‏من‏ ‏أهمية‏ ‏الانتاج‏ ‏الفنى ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏مستوى ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏للفنان‏ ‏عامة‏، ‏فإن‏ ‏نتاج‏ ‏الفن‏ ‏الأصيل‏ ‏ينفصل‏ ‏عن‏ ‏حياة‏ ‏الفنان‏ ‏وذاته‏ ‏ويصبح‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏المثيرات‏ ‏والمقومات‏ ‏التى ‏توقظ‏ ‏القدرات‏ ‏والوسائل‏ ‏الخلاقة‏ ‏عند‏ ‏المتلقى‏ ‏الذى ‏يسعى ‏بدوره‏ ‏إلى ‏تحقيق‏ ‏مستوى ‏أفضل‏- ‏نتيجة‏ ‏لهذه‏ ‏الإثارة‏- ‏من‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏، ‏وهذه من أكثر الوظائف إيجابية للفن بغض النظر عن مستوى التوازن الغالب عند منتجه.

8   

شكل (4) النقلة المحتملة من المستوى الأدنى (الدفاعى أو المعرفى)

 إلى المستوى الإبداعى فى فترات الإبداع فقط.

هوامش ضرورية

الهامش الأول:

عن صحة‏ ‏الطفل‏ ‏والمراهق‏ ‏أثناء‏ ‏النمو‏:‏

إذا‏ ‏كانت‏ ‏مستويات‏ ‏الصحة‏ ‏التى ‏قدمتها‏ ‏هى ‏المستويات‏ ‏التى ‏قد يستقر‏ ‏فيها‏ ‏الشخص‏ ‏الراشد‏، ‏وهو‏ ‏ينتقل‏ ‏من‏ ‏أحدها‏ ‏إلى ‏الآخر‏ ‏فى ‏الظروف‏ ‏التى ‏أشرت‏ ‏إليها‏ ‏فكيف‏ ‏يحقق‏ ‏الطفل‏ ‏والمراهق‏ ‏التوازن‏ ‏والتلاؤم‏… ‏وماهو‏ ‏نوع‏ ‏صحته؟

إذا‏ ‏رجعنا‏ ‏إلى ‏تعريف‏ ‏الصحة‏ ‏بأنها‏ ‏توازن‏ ‏القوى ‏الفعالة‏ ‏للحصول‏ ‏على ‏التوافق‏ ‏الداخلى ‏والتلاؤم‏ ‏الخارجى ‏فى ‏وقت‏ ‏معين‏، ‏وتذكرنا‏ ‏أن‏ ‏الفرض‏ ‏الأول‏ ‏يقول‏ ‏أن‏ ‏الطفل‏ ‏يولد‏ ‏على ‏استعداد‏ ‏أن‏ ‏تعمل‏ ‏الوسائل‏ ‏المختلفة‏ ‏بنفس‏ ‏الدرجة‏ ‏للحصول‏ ‏على ‏التوازن‏ ‏حتى ‏تغلب‏ ‏إحداها‏ ‏على ‏الأخرى ثم يتوالى التبادل والترتيب ‏فى ‏مرحلة‏ ‏الرشد‏ وما بعدها ‏فإننا‏ ‏نستنتج‏ ‏أن‏ ‏الصحة‏ ‏فى ‏أطوار‏ ‏النمو‏ ‏السابقة‏ ‏تعتمد‏ ‏على ‏مدى ‏عمل‏ ‏هذه‏ ‏القوى ‏مجتمعة‏ ‏بدرجات‏ ‏متفاوتة‏ ‏ومتناوبة‏ ‏فإذا استمر‏ ‏التوازن‏ ‏والتبادل دون نقلات حتى بعد تجاوز مراحل النمو الأولى فإن ذلك قد‏ ‏يكون‏ ‏أقرب‏ ‏‏إلى ‏الحلول‏ ‏الوسط‏ ‏التى ‏أشرنا‏ ‏إليها‏.

 أما‏ ‏مظاهر‏ ‏المرض‏ ‏عند‏ ‏الأطفال‏ ‏فهى ‏تحدث‏ ‏إذا‏ ‏تخلخلت‏ ‏سرعة‏ ‏النضج‏ ‏فى ‏غير‏ ‏تناسب‏ ‏مع‏ ‏إمكانيات‏ ‏التوازن‏… ‏فإنه‏ ‏لو‏ ‏أهملت‏ ‏ملكات‏ ‏الطفل‏ ‏الخلاقة‏ ‏لحساب‏ ‏نمو‏ ‏الوسائل‏ ‏الدفاعية‏ ‏فربما‏ ‏نشأت‏ ‏الأعراض‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏الإنكار‏ ‏المستمر‏ ‏والهرب‏ ‏الكامل‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مواجهة‏ ‏للواقع‏، ‏مثال‏ ‏ذلك‏ ‏أعراض‏ ‏الهستيريا‏ ‏أو‏ ‏الأمراض‏ ‏العصابية‏ ‏الأخرى عند الأطفال ‏التى ‏يتمادى فيها ‏استعمال‏ ‏الوسائل‏ ‏الدفاعية‏ ‏حلا‏ ‏للقلق‏.‏

كما‏ ‏أنه‏ ‏لو‏ ‏أطلقنا‏ – ‏فى ‏التربية‏- ‏الفرصة‏ ‏لتنمية‏ ‏القدرات‏ ‏العقلية التحصيلية‏ ‏مثلا، ولكن بشكل تعويضى دفاعى، على ‏حساب‏ ‏غيرها ‏فإن‏ ‏الطفل‏ ‏قد‏ ‏يهمل‏ ‏قدرات‏ ‏الخلق‏ ‏مبكرا‏، ‏أو‏ ‏قد‏ ‏يصاب‏ ‏بأعراض‏ ‏القلق‏ ‏أو‏ ‏الاكتئاب إذا ما تذبذب بين ما يـُفرض عليه، وما هو مُهـَيـَّا له.

وأخيرا‏ ‏فإنه‏ ‏لو‏ ‏طغت‏ ‏قوى ‏الخلق‏ ‏التطورية‏ ‏دون‏ ‏إمكانيات‏ ‏تعبيرية‏ ‏مناسبة‏ ‏ودون‏ ‏دفاع‏ ‏كاف‏ ‏عن‏ ‏ذات‏ ‏الطفل‏ ‏الضعيفة‏- ‏إذ‏ ‏لم‏ ‏تتشكل‏ ‏بعد‏ ‏بالصلابة‏ ‏الكافية‏- ‏فإن‏ ‏الخلق قد ينقلب‏ ‏إلى تفكيك مُجْهض دون المـِضىّ إلى مرحلة إعادة التشكيل.

إذن‏ ‏فصحة‏ ‏الطفل‏ ‏تعتمد‏ ‏على ‏التناسب‏ ‏المستمر للأساليب ‏الثلاثة، ثم تناوبها المنتظم، وتبادلها المناسب المستمر، وذلك حتى ‏ترجح‏ ‏كفة‏ ‏إحداها‏ ‏عل‏ ‏الأخرى ‏فى ‏سن‏ ‏الرشد‏، ثم يتمادى التناوب وتتعدد الاحتمالات.

أما‏ ‏كيفية‏ ‏قياسها‏ ‏فهذا‏ ‏أمر‏ ‏نسبى ‏إذ‏ ‏تختلف‏ ‏معانى ‏مقاييس‏ ‏الصحة‏ (‏التكيف‏ ‏والعمل‏ ‏والرضا‏) ‏باختلاف‏ ‏مراحل‏ ‏النمو‏، ‏ولعل‏ ‏وصف‏ ‏إريك‏ ‏إريكسون Erick Erickson ([56]) ‏لمراحل‏ ‏النمو‏- ‏رغم‏ ‏اختلافنا‏ ‏مع‏ تفاصيل ‏تفسيراته‏- ‏هو‏ ‏أقرب‏ ‏مايتصل‏ ‏بهذا‏ ‏التنوع‏ ‏فى ‏قدرات‏ ‏التوازن‏ ‏على ‏مختلف‏ ‏المراحل‏.‏

فالعمل‏: ‏قد‏ ‏يعنى ‏عند‏ ‏الطفل‏ ‏أو‏ ‏المراهق‏ ‏إطلاق‏ ‏الطاقة‏ ‏أو‏ ‏اللعب‏ ‏أو‏ ‏الاستذكار‏ ‏أو‏ ‏تدريب‏ ‏ملكاته‏ ‏الخلاقة‏ ‏أو‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏معا‏، ‏حسب‏ ‏مرحلة‏ ‏تطوره‏.‏

والرضا‏: ‏قد‏ ‏يعنى ‏تجنب‏ ‏الألم‏ ‏أو‏ ‏قبول‏ ‏الذات‏ ‏أو‏ ‏نشوة‏ ‏الابداع‏ ‏والخلق‏ ‏أو‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏أيضا‏.‏

والتكيف‏: ‏قد‏ ‏يعنى ‏التشكل‏ ‏مع‏ ‏البيئة‏ ‏والمجتمع‏ ‏أو قبوله‏ ‏أو‏ حتى ‏تغييره‏… بما هو معروف من طلاقة خيال الأطفال ‏وعادة‏ ‏ما يتم‏ ‏ذلك‏ ‏معا‏.‏

إلا‏ ‏أنه‏ ‏ينبغى ‏الاشارة‏ ‏أن‏ ‏الفروض‏ ‏التى ‏قدمناها‏ ‏لا‏ ‏تؤكد‏ ‏أن‏ ‏المستويات‏ ‏الأدنى ‏سابقة – زمنيا -‏ فى الظهور والغلبة على ‏المستويات‏ ‏الأعلى بشكل آلى، ‏فهى لا تشير إلى أن الطفل يلجأ للدفاع أكثر من الخلق، بل هى ‏تشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الوسائل‏ ‏كلها‏ ‏تتقارب‏ ‏فى ‏أول‏ ‏الأمر‏، ‏ولا‏ ‏ترجح‏ ‏الأدنى ‏أو‏ ‏الأعلى ‏إلا‏ ‏بمرور‏ ‏الزمن‏، ‏وحسب‏ ‏ظروف‏ ‏المجتمع‏ ‏والإمكانيات‏ ‏المتاحة‏، ‏فتكمن‏ ‏بعضها‏ ‏وترجح‏ ‏الأخرى، ‏ثم‏ ‏تثار‏ ‏الوسائل‏ ‏الكامنة‏ ‏فى ‏أزمات‏ ‏التطور‏، وهكذا،  ‏حسب‏ ‏ما قدَّمْنا‏.‏

الهامش الثانى:

علاقة هذه الفروض بالطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى([57])

تبنت مفاهيم الإيقاعحيوى المسار التطورى لنمو الفرد، باعتبار أنه استعادة نابضة فى وحدات زمن أقصر فأقصر، حتى أن الأمر يحتاج لمن يريد أن يستوعب دورات الإيقاع فى هذا الزمن المتناهى القصر، يحتاج إلى قدر هائل من الخيال، وسماح بالغ لما هو إدراك بكل مستوياته، وعلاقته بالنبض الحيوى فالنمو والتغيـّر.

وفيما يلى موجز الخطوط العريضة جدا لهذا المنطلق النابع من هذه المنظومة الإيقاعحيوية التى سوف نرجع إلى تفصيلها فى أعمال لاحقة.

تتحقق الصحة النفسية من منظور الطبنفسى الإيقاعحيوى إذا أمكن توفر الظروف التالية:

‏1- ‏أن‏ ‏يستمر‏ ‏النمو‏ ‏طول‏ ‏العمر‏ ‏من خلال ‏تناوب‏ ‏نابض‏ ‏بين‏ ‏الاستيعاب‏ ‏والبسط‏، ‏، وبين التفكيك وإعادة التشكيل، وأن تحقق كل ‏ ‏مرحلة‏ ‏‏ ‏توازناتها‏ ‏بخصائصها‏ ‏الخاصة‏ بها باستمرار، وهذا يؤكد ‏ ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏ ‏ ‏مراحل‏ ‏عمرية‏ ‏يتلو‏ ‏بعضها‏ ‏بعضا‏، ‏وإنما‏ ‏هى ‏مراحل‏ ‏متكررة‏ ‏بتكرار‏ ‏النبض‏ ‏الحيوى ‏باستمرار‏، بدءا من دورات اليقظة/النوم/الأحلام([58]) وتتوقف الصحة النفسية على كفاءة ‏دورات‏ “‏النوم‏/‏اليقظة‏”& “‏الحلم‏ /‏اللاحلم‏” ‏فى ‏أداء‏ ‏وظائفها‏ ‏الإراحية‏ ‏والتنظيمية‏ ‏والتعليمية‏ والإبداعية  ‏معا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذه‏ ‏العملية‏ ‏العادية‏ ‏اليوماوية ‏(‏السركادية‏)([59])

‏2- ‏أنْ تُحَقِّقَ‏ ‏كل‏ ‏خطوة‏ (‏وأحيانا‏ كل ‏لحظة‏)  ‏من‏ ‏خطوات‏ ‏النمو‏ ‏توازنها‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏كفاءة‏ ‏النبض‏ ‏الحيوى ‏المنتظم‏ ‏المستمر بالوصف السالف الذكر فى (1).

‏3- ‏أن‏ ‏تعمل‏ ‏وظائف‏ ‏المخ‏ ‏وفقا‏ ‏لسلامة‏ ‏النبض‏ ‏الحيوى ‏متناوبة‏ ‏مع‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏، ‏ومع‏ ‏نبضات‏ ‏النمو‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏الملء‏ (‏اعتمال/فعلنة([60]) ‏ ‏المعلومات‏)، ‏والإبداع‏ (‏بمعناه‏ ‏العام لإعادة تشكيل‏ ‏الشخص‏ ‏العادى والبمدع على حد سواء، وذلك باستمرار ما استمرت الحياة (وربما بعدها)

9 

شكل (5):  يبين الإيقاع اليوماوى بالتبادل للتكامل

‏4- ‏أن‏ ‏يكتسب‏ ‏الفرد‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏نبضة‏ ‏حيوية‏ ‏من‏ ‏نبضات‏ ‏المخ/الكيان الحيوى عامة، ‏ ‏قدرات‏ ‏أعلى- مهما كانت ضئيلة او غير مرصودة – قدرات ‏تمكنه‏ ‏من‏ ‏التعامل‏ ‏بكفاءة‏ ‏أفضل فأفضل مع‏ ‏موضوعات‏ ‏الواقع‏ ‏الحقيقية‏ ‏من‏ ‏حوله، باستمرار متغير‏. ‏(وإن كانت الفروق غير ملموسة أولا بأول إلا بقدر تراكمها ربما لتظهر فى أزمة نمو جسيمة فيما بعد)

‏5- ‏ ‏ ‏بمزيد‏ ‏من‏ ‏اكتساب‏ ‏هذه‏ ‏الكفاءة‏ ‏الحيوية الناتجة من سلامة أداء الإيقاعحيوى ‏ ‏‏يزداد‏ وعى الفرد امتدادا وعمقا ‏، ‏حتى‏ ‏يستغنى ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏عن‏ ‏الإفراط‏ ‏فى ‏استعمال‏ ‏الحيل‏ ‏النفسية‏ ‏العامِيَـْة‏،([61]) ‏ليتقدم‏ ‏نحو‏ ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏إعادة شحذ البصيرة وتشكيل الذات (النمو) أو التنشيط الابداعي‏.

‏6- ‏أن‏ ‏يتعامل‏ الشخص تلقائيا ‏مع‏ ‏كل‏ ‏طور‏ ‏من‏ ‏أطوار‏ ‏النبض‏ ‏الحيوى ‏بما‏ ‏يناسبه‏ ‏من‏ ‏قواعد‏ ‏ومقومات‏، وهذا ‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الفرد‏

مستعدا لتلقى ‏المعلومات‏ ‏برحابة‏ ‏تناسب‏ ‏طور‏ ‏الملء‏ ‏فى ‏النبضة‏ ‏الحيوية ‏، ‏وأن‏ ‏يكون‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏إعادة‏ ‏التنظيم‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏البسط‏ ‏والتشكيل من‏ ‏نفس‏ ‏النبضة وباستمرار‏‏،

 (وهذه ليست عملية إرادية تماما وإنما هى تحتاج إلى التهيئة والوعى وحوار مستويات الوعى وهى تجرى نيوروبيولوجيا بشكل طبيعى ما لم تتدخل عوامل خارجية لإعاقتها أو تشويهها.

10

شكل (6)

‏7- ‏أن‏ ‏يتبع ذلك‏ ‏امتداد‏ ‏ ‏التناغم‏ ‏مع‏ ‏دوائر‏ ‏أوسع‏ ‏فأوسع‏ ‏من‏ ‏دوائر‏ ‏الوعى فالوجود‏، ‏بدءا‏ ‏بمجتمعه‏ ‏الأصغر‏، ‏أسرته‏ ‏الصغيرة‏، ‏امتدادا‏ ‏إلى ‏المجتمع‏ ‏الكبير‏، ‏ثم‏ ‏مع‏ ‏سائر‏ ‏البشر‏ ‏حتى ‏التناغم‏ ‏مع‏ ‏دورات‏ ‏الكون‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏التناغم‏ ‏الإيمانى ‏(أو‏ ‏ما‏ ‏شئت من تسميات)‏. ‏شرط‏ ‏ألا‏ ‏تتخطى‏ ‏الدوائر‏ ‏الأبعد‏ ‏تلك‏ ‏الدوائر الأقرب‏ ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع‏، أى ألا تقفز فوقها.‏

إن هذا التبادل والتلاحق فى شكل دورى ليلنهارى حتى لو لم تظهر تفاصيله على السطح أولا بأول، هو ما يشير إليه دور الإيقاعجيوى اليوماوى (السركادى) فى التفكيك والتشكيل باستمرار، وهذا يجعل  ما يبدو على السطح مما ورد فى فرض مستويات الصحة النفسية هو مجرد تكبير هائل جدًّا جدًّاوصل إلى السماح  بالإعلان عن حضوره  فى ظاهر الوعى ومجرى السلوك([62]) .

يمكن القول بإيجاز اضطرارى إن‏ ‏الشخص‏ ‏السليم‏ ‏نفسيا‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يعايش – بأى درجة من الوعى – مواكبة الإيقاعحيوى أساس وجوده وأصل الحركية النمائية (التلقائية، وليست بالضرورة الإرادية الواعية) القادرة‏ ‏على ‏أن‏ ‏تنشط قدراته على ‏ ‏تنظيم‏ ‏ذاته‏، (‏سلوكيا‏ ‏وبيولوجيا‏، كما خلقها بارؤها)، ‏وكذلك على‏ ‏تنظيم‏ ‏المعلومات‏ ‏التى ‏يتحصل‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏التفاعل الجدلى‏ ‏الحيوى ‏المنتظم‏ مع المحيط النابض بدوره،  ‏وهذا‏ ‏يتم‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏كفاءة‏ ‏النبض‏ ‏الحيوى المتبادل ‏الجارى طول الوقت ليلا ونهارا، ‏ ‏دون‏ ‏انقطاع‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏أشرنا إليه‏ ‏بشأن‏ ‏كفاءة‏ ‏دورات‏ ‏النوم‏ /‏الحلم‏/ ‏اليقظة‏، ‏وكذلك‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏نشاطات‏ ‏الإبدا‏ع‏ ‏الإدراكى، ‏والإبداع‏ ‏السلوكى ‏المنتـُج‏ ، ‏ثم‏ ‏إبداع‏ ‏الذات‏ ‏المستمر‏ ‏مع‏ ‏التناوب‏ ‏الناجح‏ ‏من خلال‏ ‏النبض‏ ‏الحيوى، وكل ذلك سوف يشرح تفصيلا مع تقديم الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى لاحقا .

كما أن ما تمدنا بها حديثا الإنجازات الأعمق فى عطاء النيوروبيولوجيا من معلومات  دالة على أن المخ (والكيان البشرى) هو عضو نابض أكثر مهارة وانتظاما من القلب النابض، وأن هذه الدورات يمكن أن تتم فى أجزاء الثوانى فى ولادة الفكرة الجديدة بالذات حتى تمتد إلى دورات الفصول إلى غاية ما لا نعرف من دورات توثق علاقتنا بالمابعد دون خرافة أو تسليم أعمى، هو أيضا دعم غير مباشر لهذه الفروض.

الهامش الثالث:

إشارات نحو تطبيقات‏ ‏محتملة‏

لقد‏ ‏عمدت‏ُُ ‏من‏ ‏أول‏ ‏الأمر‏ ‏وأنا‏ ‏أقدم‏ ‏هذه الأطروحة ‏ ‏ألا‏ ‏تكون‏ ‏وظيفتها‏ ‏مجرد‏ ‏بحث‏ ‏نظرى ‏لمشكلة‏ ‏تعريف‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏، ‏إذْ‏ ‏كان‏ ‏الهدف‏ منها هو ‏أن‏ ‏نتمكن‏ ‏من‏ ‏استعمال‏ ‏مقاييس‏ ‏معينة‏ ‏ومحددة‏ ‏نقيس‏ ‏بها‏ ‏مستوى ‏الصحة‏، ‏وأن‏ ‏يخدم‏ ‏هذا‏ ‏التقسيم‏ ‏فهم‏ ‏بعض‏ ‏الظواهر‏ ‏النفسية‏ ‏المرضية‏ ‏والصحية‏ ‏على ‏السواء‏، ‏وأن‏ ‏يساهم‏ ‏فى ‏تقسيم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏ودرجاتها‏ ‏وكذلك‏ ‏اتجاهات‏ ‏العلاج‏ ‏والتخطيط‏ ‏له‏، ‏وأن‏ ‏يتيح‏ ‏فرصة‏ ‏أكبر‏ ‏للدراسات‏ ‏المقارنة‏ ‏ويلقى ‏ضوءا‏ ‏هادفا‏ ‏على ‏وسائل‏ ‏التربية‏.، ومن ذلك :

‏1- ‏إن‏ ‏التفرقة‏ ‏بين‏ ” ‏أزمة‏ ‏التطور‏” ‏وبين‏ “‏المرض”‏ ‏الذى ‏يقتصر‏ ‏على ‏الهزيمة‏ ‏أمام‏ ‏قوى ‏التدهور‏، ‏خليقة‏ ‏بأن‏ ‏توجه‏ ‏العلاج‏ ‏توجيها‏ ‏أساسيا‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏: ‏فتسهم فى انتهاء الأزمة المفترقية إلى  سلوك طريق إعادة التشكيل، وهذا ما حاولته فى تقديم مستوى ثالث لتشخيص الأمراض بإضافة ما هو “أبعاد” Dimensions وليس فقط محاور Axes ([63])

2- كما أنه من خلال‏ هذه ‏الفروض يمكن إعادة‏ ‏تقييم‏ ‏بعض‏ ‏الأعراض‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏تعتبر‏ ‏مضاعفات‏ ‏لبعض‏ ‏العلاجات‏ ‏الكيميائية أو النفسية‏ ‏تقييما‏ ‏جديدا‏، ‏إذ‏ ‏أنها‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏علامة‏ ‏صحة‏ ‏على ‏طريق‏ ‏العلاج، ‏فإن‏ ‏ظهور‏ ‏الاكتئاب‏ ‏مثلا‏ ‏فى ‏مرض‏ ‏الفصام‏ ‏أثناء‏ ‏العلاج‏ ‏يمكن‏ ‏النظر‏ ‏إليه‏ ‏على ‏أنه‏ ‏تقدم‏ ‏وليس‏ ‏مضاعفة‏، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏الاكتئاب (الحيوى وليس الثانوى أو الموقفى)‏ ‏من‏ ‏صفة‏ ‏الأزمة‏ ‏السابقة‏ للفصام، ‏وبذلك‏ ‏نستغل‏ ‏وجود‏ ‏الجوانب‏ ‏الايجابية‏ له ‏فى ‏فهم‏ ‏وتطوير‏ ‏العلاج‏ ‏لتجنب‏ ‏الاستسلام‏ ‏للاستقرار‏ ‏المرضى ‏(الأعراض السلبية)، ‏وبديهى ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏موضوع‏ ‏التطبييقات‏ ‏الاكلينيكية‏ ‏الجارية‏ ‏فعلا منذ ظهور هذه الفروض‏.‏

‏3- ‏إن‏ ‏بعض‏ ‏العلاجات‏ ‏التى ‏غلب‏ ‏عليها‏ ‏مفاهيم‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى (‏وخاصة‏ ‏التقليدى ‏منها‏) ‏قد‏ ‏تقتصر‏ ‏على ‏المستوى ‏المعرفى الذهني ‏للصحة‏ ‏النفسية‏، ‏و‏إذا‏ ‏اقتصرت‏ ‏رؤية‏ ‏الإنسان‏ ‏على ‏تفسير‏ ‏سلوكه‏ ‏بالميول‏ ‏الغريزية‏ ‏الجنسية‏ (‏صريحة‏ ‏أو‏ ‏متسامية‏)، ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏لا يتعدى ‏حدود المستوى التفسيرى‏ ‏الذى ‏انتقل‏ ‏من‏ ‏عقل‏ ‏صاحب‏ ‏النظرية‏ ‏أو‏ ‏معتنقها‏ ‏إلى ‏المريض‏، ‏مهما‏ ‏صاحب‏ ‏هذه‏ ‏النقلة‏ ‏من‏ ‏تفريغ‏ ‏انفعالى ‏وطرح‏ ‏ومقاومة‏ وما إلى ذلك، ‏‏على ‏أن‏ ‏النتائج‏ ‏التى قد ‏يصل‏ ‏إليها‏ ‏بعض‏ ‏المرضى أثناء التحليل وبعده وهى ‏التى ‏تنطلق‏ ‏فيها‏ ‏القدرات‏ ‏التطورية‏ ‏فعلا‏ ‏بما‏ ‏يتخطى ‏حدود‏ ‏النظرية‏ ‏ذاتها‏ ‏إنما‏ ‏تدل‏ ‏على ‏أن‏ ‏الانسان‏ ‏إذ‏ ‏يتحرر‏ ‏يتعدى ‏الحدود‏، ‏وأولها‏ ‏حدود‏ ‏النظرية‏، ‏وكأن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏المريض‏ ‏ ‏يستعمل‏ ‏العلاج‏ ‏بطريقته‏ ‏الخاصة‏ ‏لمجرد‏ ‏أنه‏ ‏إنسان‏ ‏متطور‏ ‏أساسا‏ ([64]).‏

‏4- ‏إن‏ ‏تقارب‏ ‏هذه‏ ‏الوسائل‏ ‏التوازنية‏ ‏منذ‏ ‏الولادة‏ ‏يعطى ‏تفسيرا‏ ‏لوجود‏ ‏ملكات‏ ‏الخلق‏ ‏عند‏ ‏الطفل‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الناضج‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏ترجيح‏ ‏القوى ‏الدفاعية‏ ‏على ‏القوى ‏الخلاقة ‏للحصول‏ ‏على ‏التوازن‏ ‏بالطريقة‏ ‏الدفاعية‏ ‏عند‏ ‏أغلب‏ ‏الراشدين‏ قد ‏يفســِّر‏ ‏كمون‏ ‏هذه‏ ‏القوى ‏الخالقة‏ ‏عند‏ ‏معظم‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏سن‏ ‏اليفوع‏ ‏وبعده‏.‏

‏5- ‏ينبغى‏- ‏بناء‏ ‏على ‏ذلك‏- ‏أن‏ ‏تتجه‏ ‏الأساليب‏ ‏التربوية‏ ‏فى ‏عصرنا‏ ‏‏إلى ‏عدم‏ ‏ترجيح‏ ‏مستوى ‏من‏ ‏الصحة‏ ‏أدنى ‏على ‏حساب‏ ‏قدرات‏ ‏الإنسان‏ ‏التطورية‏، ‏لذلك‏ ‏كانت‏ ‏محاولة‏ ‏تنمية‏ ‏الفكر‏ ‏الخلاق‏ ‏والملكات‏ ‏الإبداعية‏ ‏هى ‏من‏ ‏أهم‏ ‏محاولات‏ ‏تطوير‏ ‏الإنسان‏، ‏لأنه‏ ‏إذا‏ ‏تحقق‏ ‏التوازن‏ ‏مباشرة‏ ‏وبطريقة‏ ‏آمنة‏ ‏وهادئة‏ ‏ومخططة‏ ‏بتنمية‏ ‏قدرات‏ ‏الخلق‏ ‏أساسا‏ ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏خليق‏ ‏أن‏ ‏يعفى ‏الفرد‏- ‏وخاصة‏ ‏ذا‏ ‏الطاقة‏ ‏التطورية‏ ‏القوية‏- ‏من‏ ‏مشاكل‏ ‏معيقة لنموه‏ ‏تعترض‏ ‏حياته‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏، ‏حين‏ ‏يحاول‏ ‏فى ‏تطوره‏ ‏الفردى ‏أن‏ ‏يرفض‏ ‏المستويات‏ ‏الأدنى ‏التى ‏فرضت‏ ‏عليه‏ ‏قسرا‏، ‏فيدخل‏ ‏فى ‏أزمات‏ ‏تطور‏ ‏متلاحقة‏، ‏لانعلم‏ ‏مدى ‏إمكانيات‏ ‏نجاحه‏ ‏فى ‏الانطلاق‏ ‏منها‏ ‏إلى ‏الخلق‏، ‏أو‏ ‏احتمال‏ ‏فشله أمامها‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏التردى ‏فى ‏هوة‏ ‏المرض‏، ‏أو‏ ‏النكسة‏ ‏إلى ‏مستوى ‏أدنى، ‏وهذه‏ ‏الاحتمالات‏ ‏تكثر‏ ‏فى ‏أقارب‏ ‏المرضى ‏الذهانيين‏ ‏وأقارب‏ ‏المبدعين‏ ‏على ‏السواء‏.، ووضع كل ذلك فى الاعتبار أثناء ممارسة التطبيب والعلاج النفسيين يحمل الممارس مسئولية توجيه المسار بقدر ما يحمله إزالة الإعاقة والتخفيف من المعاناة ،……..و ……..وأكثر.

الهامش الرابع:

آفاق‏ ‏جديدة وتطور الفروض من واقع الممارسة‏

حاولت‏ ‏منذ‏ ‏ ‏سنوات‏ ‏أن‏ ‏أضع‏ ‏هذه‏ ‏الفروض‏ ‏محل‏ ‏اختبار‏ ‏وكانت‏ ‏النتائج‏ ‏الأولى ‏ ‏مشجعة‏، ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏فتحت‏ ‏أفاقا‏ ‏أوسع‏ ‏فى ‏الفهم‏ ‏التطورى ‏للأمراض‏ ‏النفسية‏، ‏وخاصة‏ ‏بإدخال‏ ‏عامل‏ ‏العلاجات‏ ‏العضوية‏ ‏والفيزيائية‏ ‏مع‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏والبيئى ‏فى ‏كلٍّ ‏تطورى ‏متناسق‏ ‏مما‏ ‏جعلنى ‏أحجم‏ ‏عن‏ ‏تقسيم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏على ‏تلك‏ ‏المستويات‏ ‏المقترحة‏ ‏فى ‏المرحلة الحالية  ‏حيث‏ ‏وجدتها‏ ‏أقل‏ ‏مما‏ ‏يفى ‏بفهم‏ ‏مجاميع‏ ‏الأمراض‏ ‏وفهم‏ ‏تطور‏ ‏الانسان‏ ‏الفردى ‏والنوعى ‏بالتفصيل.

وقد‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏الآفاق‏ ‏الجديدة‏ ‏التى ‏مهدت‏ ‏لفروض‏ ‏أكثر‏ ‏تفصيلا‏ ‏بالنسبة‏ ‏للمرض‏ ‏النفسى ‏وعلاجه‏، ‏هى ‏أهم‏ ‏مانتج‏ ‏عن‏ ‏التطبيق‏ ‏المبدئى‏ ‏التى ‏وردت‏ ‏فى ‏هذه الفروض‏.‏

ولكنى ‏اقتنعت‏ – ‏رغم‏ ‏الصعوبات‏ ‏المنهجية‏ ‏التى ‏لم‏ ‏أتغلب‏ ‏عليها تماما أبداً‏ ‏- ‏أنه‏ ‏يمكن ‏تقديم‏ ‏المادة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏والمشاهدات‏ ‏أولا‏ ‏قبل‏ ‏الإقدام‏ ‏على ‏عرض‏ ‏نظرية‏ ‏تطورية‏ ‏متكاملة‏ ‏لتقسيم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏وأسبابها‏ ‏وعلاجها‏ ‏والأمر الذى‏ يحتاج حتما‏ ‏إلى ‏وقت‏ ‏ليس‏ ‏لا يمكن حسابه‏، ‏وقد‏ ‏لا‏ ‏يتحقق‏ ‏بفرد‏ ‏أو‏ ‏عدة‏ ‏أفراد‏ ‏فى ‏المدى ‏القريب‏، ‏وهنا‏ ‏يصبح‏ ‏تقديم‏ ‏الفرض‏ ‏حتى ‏قبل‏ ‏تحقيقه‏ ‏ضرورة‏ ‏حتمية‏ ‏لا‏ ‏مفر‏ ‏منها‏.‏

وقد بلغ من اهتمامى بهذه  الفكرة  البدئية أننى أن اعتبرت الوعى بها وحسن مواجهتها بمثابة مفتاح الوقاية الباكرة من المآل السلبى للمرض، وأيضا أنها يمكن أن تكون عاملا جوهريا فى تغيير النظرة للأمراض النفسية وعلاجها من منظور تطورى عملى، يرتبط بثقافتنا لانه نابع منها، لكنه لا يقتصر عليها.

خاتمة:

إن ‏ ‏ما أرجوه‏ ‏أخيرا‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏الذى ‏قدمته‏ ‏خصبا‏ ‏حتى ‏ولو‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏صحيحا‏ ‏مصداقا‏ ‏لما‏ ‏قال‏ ‏حسين‏ (‏محمد‏ ‏كامل‏)([65])‏”..وأقول‏ ‏الفروض‏ ‏الخصبة‏ ‏وليست‏ ‏الفروض‏ ‏الصحيحة‏….. ‏وإنما‏ ‏تقدر‏ ‏الفروض‏ ‏العلمية‏ ‏على ‏قدر‏ ‏خصوبتها‏ ‏وأعنى ‏بذلك‏ ‏قدرتها‏ ‏على ‏فتح‏ ‏آفاق‏ ‏جديدة‏ ‏من‏ ‏البحث‏، ‏وعلى ‏الإيحاء‏ ‏بتجارب‏ ‏جديدة‏ ‏توحى ‏بدورها‏ ‏فروضا‏ ‏خصبة‏ ‏أخرى ‏حتى ‏تتجلى ‏الحقيقة‏…”‏.

إلى هنا انتهى ما رأيت أنه لابد من اقتطافه من هذا العمل الباكر “حيرة طبيب نفسى” لتسجيل مرحلة تاريخية لا أعتقد أنه يمكم إغفالها إذا أمِلـْنا فى تتبع تداعياتها خلال حوالى نصف قرن، صحيح أن هذه الحيرة بدأت قبل كتابة هذا الكتاب بعدة سنوات، وأنها استمرت وتضاعفت مع مرور الأيام، وفى نفس الوقت لاحت معالم محاولة التخفيف منها، وتوجيه طاقتها باختبارها عمليا من خلال تطبيق فروض الطب النفسى الإيقاعحيوى التطورى، وممارسة العلاج بمختلف أنواعه على هدى هذه الفروض، وقراءة النتائج أولا بأول.

إن كل ما مارستـُهُ بعد ذلك وأغلب ما كتبته منذ ذلك الحين، حتى فى غير مجال الطب النفسى، كان مرتبطا بهذه الحيرة بشكل أو بآخر، بما ذلك كتابتى فى السياسة، والنقد، بالإضافة إلى محاولات إبداعى الشخصى الذى جاء بعضه واصفا لهذه الحيرة، ومن ذلك ما عرضته مما اقتطفته من شعرى بالعامية فى هذا العمل (ص 15 إلى ص 26).

أما ما أغفلت الرجوع إليه مما جاء فى هذا الكتاب الأصل “حيرة طبيب نفسى”، وكان مُهـِمـًّا لتسجيل المرحلة التاريخية  فقد تناولت أغلبه بالتفصيل طوال هذه السنوات (الأربعين) وهو غالبا ما سوف أفرد له أعمالا مستقلة كاملة نظرا لتشعب قضاياه، وطول تداعياته، وأكتفى الآن بالإشارة إلى عناوين ما لم أتطرق إليه من مجالات تجلى حيرتى، وجاء ذكره فى ذلك الكتاب الباكر ([66]).

 الفصل الثانى: الوشم بالتشخيص

 الفصل الثالث: البحث العلمى

 الفصل الرابع: فى التعليم الطبى

 الفصل الخامس: العلاج أولاً .. والعلاج أخيراً.

والمتابع لما نشر طوال هذه السنين سواء بالنشر الورقى أم فى مجلة الإنسان والتطور الفصلية (1980 – 2002) أو فى نشرة الإنسان والتطور اليومية (سبتمبر 2007 حتى الآن نوفمبر 2017) أو فى أى مجال متاح للنشر سواء الصحف والمجلات النقدية مثل: (مجلة فصول) والثقافية مثل مجلات “وجهات نظر” أو “شموع” أو “الهلال” أو “إبداع”  أو فى موقعى الخاصwww.rakhawy.net   سوف يجد أننى تناولت ما جاء فى هذه الفصول ( الثانى إلى الخامس) فى مئات الصفحات بشكل نقدى متواصل.

 وإنى لأحمد الله تعالى أننى استطعت أن أحافظ على موقفى دون جمود، وأن أستثمر حيرتى لصالح  مرضاى، وأن أواصل السماح لمزيد من الفروض فالتطبيق، وكذلك أن أحاول نقل خبرتى بكل وسيلة متاحة من تدريس، وإشراف، ومتابعة، وكتابة، إلى من يهمه الأمر من خلال كل الأدوات والمجالات التى مارست وأمارس فيها مهنتى وحياتي،  ومنها العلاج الجمعى طوال 46 عاما فى قسم الطب النفسى، كلية الطب قصر العينى وفى كل مجالاتى حارجه، فضلا عن ممارساتى كل أنواع العلاجات المتاحة ممارسة يومية لم تنقطع طول ستة عقود وإشرافى طول الوقت      – أيضا- على من يعمل أو يتدرب معى، وتعلـّمى منهم كذلك طول الوقت.

المحتوى

الموضوع
الاهـــداء
استهلال:

إرهاصات الفكرة: ومعالم النهاية البداية!الفصل الأول

بدايات الحيرة، وتطورهاالفصل‏ ‏الثانى

أولاً: تصحيح الأخطاء، وولادة الفكرة

(عن الصحة النفسية)ثانياً: ولادة فكرةالفصل الثالث

مستويات الصحة النفسية على طريق التطور الفردىهوامش ضرورية

الهامش الأول:

عن صحة‏ ‏الطفل‏ ‏والمراهق‏ ‏أثناء‏ ‏النمو‏الهامش الثانى:

علاقة هذه الفروض  بالطبنفسى الإيقاعحيوى التطورىالهامش الثالث:

إشارات نحو تطبيقات‏ ‏محتملة‏الهامش الرابع:

آفاق‏ ‏جديدة وتطور الفروض من واقع الممارسة‏خاتمة       

 

 

[1] – يحيى الرخاوى “حيرة طبيب نفسى” 1972، (كتبت 1970) دار الغد للثقافة والنشر.

[2] – يحيى الرخاوى “عندما يتعرى الإنسان” صدرت طبعته الثالثة مؤخراً 2017 ، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، مركز الحضارة للنشر.

[3] – محفوظ أنهى رحلة قنديل محمد العنابى (ابن فطومة) بعنوان يقول “البداية” (وليس النهاية) وقد ناقشت مغزى ذلك فى نقدى المقارن بين “رحلة بن فطومة وساحر الصحراء لكويلهو” فى دورية نجيب محفوظ، العدد الثانى 2009، المجلس الأعلى للثقافة، وقد كتبت عنوان كتابى الباكر قبل أن أقرأ أعمال محفوظ هذا بعشرات السنين، وكأنى كنت أصاحبه قبل أن أصاحبه.

[4] – مقدمة كتاب: “حيرة طبيب نفسى” (كتبت 1970)، ونشر الكتاب سنة 1972:

علما بأننى لم أكن قد تعرفت بالقدر الكافى على تعدد عقولى خاصة فى ممارسة الحيرة والنقد والإبداع،  ولو كنت فعلت  لغيرت العبارة إلى “يسمح لعقوله بالعمل دون خوف” لكننى حريص فى هذا الفصل على البدء من المقدمة الأولى 1972 أساسا.

[5] — يحيى الرخاوى: حياتنا والطب النفسى، دار الغد للثقافة والنشر 1972

[6] – “هذه الأيام” ترجع إلى سنة 1969/1970 ولن أكرر الإشارة إلى ذلك بعد ذلك.

[7] – أنظر ملحق هذا الفصل القصيدة بالعاميّة التى تبدأ بما يؤكد ذلك: “كل‏ ‏القلم‏ ‏ما‏ ‏اتقصف‏ ‏يطلعْ‏ لُـه‏ ‏سِنّ‏ ‏جديدْ..الخ”: ص 15.

[8] – هذا كلام موريل Morel  الذى رصد الفصام قبل أن يرتبط باسم “كريبلن” تحت مصطلح “العتة المبكر”.

[9] – هذا المقتطف هو بداية مقدمة ديوانى “أغوار النفس” دار الغد للثقافة والنشر 1978 الطبعة الأولى، وهو بالعامية المصرية ولم يتضمنها كتاب “حيرة طبيب نفسى” الذى ظهر قبلها بسنوات، ثم تم شرحه فى كتاب كامل باسم: “فقه العلاقات البشرية” فى موقع الكاتب www.rakhawy.net من تاريخ 10/6/2009 إلى تاريخ 15/9/2010 (720 صفحة A4)، وهو تحت النشر الورقى  أيضا حاليا.

[10] – ويبدو أنه قد كانت هذه هى بذور أفكار وفروض الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى الذى وهبت كل ما تبقى لى من عمر لأبيــِّـنها وأحددها.

[11] – تحت الطبع-  يحيى الرخاوى: “الطب النفسى بين اليوتوبيا والأيديولوجيا”.

[12] – كان ذلك أثناء حكم نيسكون فما بالك الآن بعد حكم بوش ثم أوباما ثم ترامب!!

[13] – حكمة صلاح جاهين الأصلية “إفعل أى شىء تقرره، وستجد مثلا يبرره”

[14] – سوف أعود إلى ذلك تفصيلا فى كتابى اللاحق عن “الطب النفسى بين المثالية السطحية، والأيديولوجيا المغلقة”. (تحت الطبع)

[15] – هنرى إى (1900 – 1977)، رائد الطب النفسى من منظور تطورى نيوروبيولوجى انطلاقا من “هوجلج جاكسون” الذى تناول الجهاز العصبى كله  بترتيب تطورى متصاعد متكامل معا.

[16] – هو زميل فرنسى جميل استضافنى بحجرته التى كان يسجل فيها أبحاثه فى الطب النفسى الاجتماعى، وكان يفخر بأخواله الطليان (كانت أمه طليانية) ويعتبر أن إبداعه نابع من هذا الأصل أكثر من جذوره الفرنسية (الأب) وقد استضافنى فى بيته كثيرا، كما استضافنى فى كوخه فى فالورسين فى جبال الألب مع أسرته لأكثر من أسبوع.

[17] – هذه الأبجدية‏ ‏من‏ ‏الفكر‏ ‏التحليلى ‏الجديد المدرسة الانجليزية: مدرسة العلاقة بالموضوع‏، وهى أبجدية مفيدة، إلا أننى تجاوزتها بعد ذلك،  منذ زمن ، وحتى الآن:  2017.

[18] – وصلت بعد ذلك إلى تفسير نيوروبيولوجى لطريقة عمل هذا العلاج من منطلق كيف يعيد المخ بناء نفسه باستمرار، وكيف يمكن أن يكون هذا العلاج بمثابة “إعادة تشغيل Restart للمخ ليعيد بناء نفسه بعد الإعداد المناسب لذلك: أنظر “صدمة بالكهرباء .. أم ضبط للإيقاع”؟ www.rakhawy.net

[19]- تطور هذا بعد ذلك إلى أطروحتى عن “واحدية الأمراض النفسية”   Unitary Concept of Psychiatric Disorders ، وهى متاحة فى موقعى www.rakhawy.net  ولم تنشر ورقيا بعد.

[20]  –  ساندور رادو Sandor Rado  من مواليد 1890 بالمجر وتوفى 1972 بأمريكا، وهو صاحب مدرسة “الدينامية النفسية التكيفية” Adaptational Psychodynamics  بما لها من اتجاهات تنسيقية وتطورية، وهى ذات بعد تطورى دينامى معا، لكنها محدودة الانتشار.

[21] – هذا التعبير “قلوب مخية” لم أكن أعرف كيف يتطور إلى ما وصلنى بعد ذلك تحت مسمى “العقل الوجدانى الاعتمالى”  Emotianally Processing Mind وكتبت فيه كثيرا فى موقعى www.rakhawy.net  وهو ما أرجو أن أجمعه لاحقا إذا أمكننى مواصلة هذا النشر الورقى الذى بدأته من شهور محدودة.

[22] – هنا أيضا إشارة إلى جذور فكرى التطورى منذ ذلك الحين، حتى أطل بهذا الإلحاح فى المراسلات الخاصة.

[23] – لا أعرف لماذا نشرت هذا الفصل كملحق لكتابى “حيرة طبيب نفسى” ولم أجعله حتى الآن فصلاً مستقلا فى المتن!! لعلى كنت أنتظر حتى اختبر هذه الفروض على مدى نصف قرن (إلا سنوات)، ومع ذلك، ولأن هذا الكتاب القديم مازال هو المُنطلق،  فسوف أحتفظ بما كتبت سنة 1970 ونشر فى 1972 بأقل قدر من التعديل ، مع أننى اضطررت إلى إضافة بعض ما يلزم الإشارة إليه، وخاصة فيما يتعلق بما أضافه إلىّ انتمائى المتزايد لما هو إيقاعحيوى تطورى وهو أساس ما أصبح يسمى الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى. وإن كان ذلك نادرا.

 ويلاحظ كذلك أن المراجع المثبتة فى الهوامش قديمة،  حيث كتب هذا الفصل سنة 1972 ولم يتم تحديثها.

[24] – اضطررت أن أضيف بعض الأشكال التوضيحية التى أعانتنى على شرح فروضى وأنا أعرض أفكارى فى اللقاءات العلمية المحلية والقومية، وسوف أسمح لنفسى بإضافة بعض ذلك مما قد يعين على توصيل فكرة جديدة.

[25] – لعل هذه الفقرة هى أوضح علامة على بداية انتمائى إلى الفكر التطورى على مسار الإنسان الفرد (الواقع الذاتى) وليس فقط كناتج لتطور حيوى ممتد، وقد كان ذلك قبل غوصى فى علاقة ذلك بالإيقاعحيوى الدائم النبض طول الوقت طول العمر طول الزمن، مما سأشير إليه فى نهاية الكتاب.

[26] – ‏فقد‏ ‏عارض فروبد‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏صراحة‏ ‏إذ‏ ‏يقول‏ “…. ‏ذلك‏ ‏لأنه‏ ‏يلوح‏ ‏لى ‏أن‏ ‏التطور‏ ‏البشرى، ‏وما وصل‏ ‏إليه‏ ‏حتى ‏اليوم‏ ‏لا‏ ‏يتطلب‏ ‏أن‏ ‏نلتمس‏ ‏له‏ ‏تفسيرا‏ ‏يختلف‏ ‏عن‏ ‏تفسير‏ ‏التطور‏ ‏فى ‏الحيوان‏، ‏وأن‏ ‏مايبدو‏ ‏لدى ‏أقلية‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏رغبة‏ ‏ملحة‏ ‏جامحة‏ ‏تدفع‏ ‏بهم‏ ‏إلى ‏الرقى ‏والكمال‏ ‏يمكن‏ ‏تفسيره‏ ‏على ‏أنه‏ ‏نتيجة‏ ‏كبت‏ ‏الميول‏ ‏الغريزية‏ !!”‏

[27] – قد يلاحظ القارئ بعض التكرار مع ما جاء فى الجزء الأول من الفصل الثانى، إلا أن العرض هنا مرتب ومفصل ومدعم بما لزم من المراجع، فهو تكرار مقصود لم أحاول التخلص منه فى هذه المراجعة، للأهمية!

[28] – Ruth Bendict: Patterns of culture, Boston, Houghton Mifflin, .1934

[29] – Wegrocki H.J.: critique of cultural and Statistical concepts of Abnormality in personality in Nature, Society and culture. Ed. by clyde clushhorn, Henry A. Murray and D. Schnider, New York, Alfred A. Knoff, .1965

[30] – Gillis, L.S.: who is Mentally Healthy, South Africa Medical Journal, Vol. 35, No. 8, Deel, 35,cape Town (Feb).1961‏

[31] – Rawnsly K. and Laudon J. B. : Factors Influencing the Referral of patients to psychiatrits by General practitioners. Brit. Journal of preventive and Social Medicine, Vol. 16, No. 4, Oct. .1962

[32] – أنظر هامش رقم (28)

[33] – Tucker D.K. and Harding le Riche W.: Mental Health. The Search for a Definition. canad.Med. Asoc. J., Vol. 90,.1964‏

[34] – Lemkau P.V: Mental Hygiene in public Health, Mc Craw- Hill Book company Inc., New York, .1955

[35] – Jahoda, Marie: Current concepts of positive Mental Health : Basic Books, N.Y.,.1958

[36] – Arasteh A.R. : Psychocultural Analysais‏‏ and three concepts of Mental Health. confina psychiatrica vol. 9, No. 1,.1966‏

[37] –   Blatt, J.: An Attempt to Define Mental‏‏ Health, Journal of consulting psychology, Vol 28, No 2, .1964

[38] – Rakhawy, Y., Shaheen O. and Soliman R. Sich Absence as an Index of Mental Health in an Industrial Society in U. A. R. The Egyptian Journal of Mental Health, Vel 12, No. 7, (Annual No.) .1971‏

[39] – الصحة النفسية: ليست مجرّد غياب الاضطرابات النفسية، بل هي حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة والتكيّف مع حالات التوتّر العادية والعمل بشكل منتج ومفيد والإسهام في مجتمعه المحلي. “منظمة الصحة العالمية”

[40] – أنظر هامش رقم (34)

[41] – Brunetti P.M : Contribution au Concept‏‏ Ecologique de la Sante Mentale. Social psychiatry Ed. N. Petrilowitsch and Flegel. Topical Problems in Psychiatry and Neurology,Vol. 8, Karger Basel, New York, .1969

وهو الصديق الذى تعرفت عليه وعملنا معا فى باريس (مستشفى سانت آن) والذى راسلته أول ما خطرت لى هذه الأفكار (أنظر صفحة 39 هامش (16).

[42] –   Whithead, A.N.: The Function. (par bake Edition), Boston Beacon press, .1958.

[43] – اكتشف الآن (2017) بداية علاقتى بنظرية الاستعادة لإرنست هيكل من سنة (1970)   Recapitulation theory  

[44] – Defensive Mechanisms

[45] – تم تعديل طفيف فى صياغة هذه الفقرة الآن بعد أن قمت بالغوص فى منجزات العلم المعرفى الأحدث وأيضا حاولت سبر غور “الإدراك”، بشكل تفصيلى مؤكدا أنه أشمل وأعمق من التفكير وأخيرا بعد الغوص فى آلية اعتمال المعلومات بالعقل الوجدانى الاعتمالى Emotionally Processing Mind، نشرات “الإنسان والتطور” (25-8-2017- 8-9-2014، 25-10-2017)  لكننى لم أضف هنا أى تفصيل عن   ذلك حفاظا على المعالم التاريخية، وسأرجع إلى كل ذلك فى كتب مستقلة إن أتيحت الفرصة!

[46] – إبراهيم‏ (‏زكريا‏) “‏مشكلة‏ ‏الإنسان‏” ‏مكتبة‏ ‏مصر‏: 1990، ‏القاهرة‏.‏

[47] – هذا تعبير مرادف لما هو “الكبت” تقريبا

[48] – Lambo, T.A.: The concept and practice of Mental Health in African cultures. East African Medical Journal, Vol. 37, No. 6, 1960

[49] – كنت قد أطلقت على هذا المستوى “المستوى المعرفى” فقط، لكننى أضفت الذهنى لتوضيح أنه لا يعنى إلا نوعا من البصيرة على مستوى معقلن أقرب إلى الاستبطان مقارنة بما هو عمق البصيرة الإدراكية فى حالة المستوى الخالقى.

[50] – فقد انتبهت كيف أن الإبداع هو صفة حياتية إنسانية عند كل البشر وبينت ذلك فى فروض وأطروحات متنوعة: أنظر مثلا : “الحلم إبداع الشخص العادى” نشرة الإنسان والتطور: 29-7-2007، وأيضا كل فروض “حالات الوجود المتبادلة” نشرات الإنسان والتطور: 25-6-2016، 26-6-2016

[51] – وهو ما أصبحت أطلق عليه بعد ذلك “الأزمة المفترقية” Cross Roads  Crisis من منظور الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى.

[52] – أنظر التفاصيل فى أعمال المؤلف اللاحقة عن العلاج تحت مفهوم “نقد النص البشرى”.

[53] – وهذا ما يحدث ضمنا فيما يسمى أحيانا العلاجات المثيرة للقلق، anxiety provoking therapy  وكثيرا ما يحدث ذلك أثناء المرور بمأزق Impasse التعبير فى العلاج الجمعى النشط، كما لاحظنا وبالذات فى مدرسة قسم الطب النفسى – قصر العينى، على مدى ست وأربعين سنة حتى الآن 2017.

[54] – وهذا النوع يسمى أحيانا الاكتئاب الطفيلى Psychotic Depression أو الاكتئاب النعـّاب Nogging Depreission وهو يكاد يكون نقيض الاكتئاب الحيوى النشط الذى يظهر فى مرحلة الأزمة المفترقية ذاتها.

[56] – Erickson E.H. :Growth and crisis of the Healthy personality. in “personality” in Nature Society and culture Ed. by clyde kluchhonn and Henry A. Murray. New York, Alfred A Knoff,.1965 ‏

[57] – هذه إضافة لاحقة لم ترد بشكل مباشر فى النشر الأول سنة 1972، حيث لم تتبلور فروض وأطروحات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى إلا فى العقدين الأخيرين 2017.

[58] – وظيفة النوم-الحلم الإيقاعية لتحقيق الصحة النفسية: هى تمكين ‏التبادل‏ ‏بين‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى ‏أثناء‏ ‏النوم‏، ‏وبالذات‏ ‏أثناء‏ ‏نشاط‏ ‏الحلم‏ ‏الراتب‏ ، وهو ما يتعلق‏ ‏بتلقائية‏ ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى، ‏حيث‏ ‏يجرى ‏تنشيط‏ “الوعى ‏الآخر‏” ‏بشكل‏ ‏منتظم‏ ‏أثناء‏ ‏النوم‏ ‏لمدة‏ ‏عشرين‏ ‏دقيقة‏ ‏كل‏ ‏تسعين‏ ‏دقيقة‏. ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏النظام‏ ‏الطبيعى‏ ‏لتبادل‏ ‏التنشيط‏ ‏المتكامل‏ ‏بين‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى (ولندع‏ ‏جانبا‏ ‏الآن‏ ‏عملية‏ ‏التكامل‏ ‏للتوليف‏ ‏بين‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى ‏المختلفة‏ ‏عبر‏ ‏عملية‏ ‏النمو‏ ‏المتسلسل لنعود إليها لاحقا فى فصل مستقل فى أعمالى عن الوعى والأحلام‏)‏.

[59]- Circadian ترجمت هذه الكلمة إلى”يوماوية” لأنها تشير إلى دورة الإيقاع الحيوى خلال 24 ساعة (ليلة ونهار)، أما الدورة الأقل من 24 ساعة Ultradian، والأكثر Infradian، فلم أجد لها ترجمة مناسبة فى الوقت الحالى، وحتى يحين استعمالها ننتظر الفرج.

[60] –  Information processingاختلفت ترجمتى لهذا التعبير اختلاف متكررا حتى خجلت، وقد قبلت لها ثلاث ترجمات أولا “فعلنة” المعلومات، ثانيا: “اعتمال المعلومات”، ثالثا: “معالجة المعلومات” لكننى أرجح فى النهاية أن تكون “اعتمال المعلومات” للأسباب التالية:

أولاً: أن تعنى فعلنة المعلومات بما يقابل تفعيل acting out

ثانيا: أن نخصص كلمة معالجة المعلومات على تناول المعلومات شعوريا بآليات التفكير الظاهرة.

ثالثاً: أن كلمة “يعتمل” تعطى إشارة ضمنية لبيولوجية وتلقائية العملية ، فأصل كلمة يعتمل “هنا”، هو التفعيل الذاتى التلقائى الطبيعى المستقل، والشاعر العربى يقول:

                     أن الكريم وأبيك يعتمل * * إن  لم يجد يوما على من يتكل.

[61] – العامية من العمى البصيرى، حيث أن الحيل النفسية إذا أفرط فى استعمالها فهى تطمس البصيرة بدرجة معوِّقة 1972

[62] – خطر لى أنه ربما يكون موازيا لما فعله أفلاطون حين أراد أن يقدم لنا النفس البشرية فأضطر أن يقوم بتكبيرها مئات المرات فى مدينة بأكملها فكانت “جمهورية أفلاطون”.

[63] ‏- Breakthrough the Current Psychiatric Nosology – Arab Journal of Psychiatry (1990) Vol. 1 No. 2 81-92. Part I. & Part II: Multiaxial vis-a-vis Multidimensional ‏Approach to Psychiatric Nosology‏ ‏Arab Journal of Psychiatry (1991) Vol. 2 No1.  Page 1-13

[64] – على ‏أنى ‏لا‏ ‏ألوم‏ ‏فرويد‏ ‏بالذات‏ ‏رغم‏ ‏ماترك‏ ‏لنا‏ ‏من‏ ‏معوقات‏، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏دائم‏ ‏الاعتذار‏ ‏فى ‏تواضع‏ ‏العلماء‏، ‏وذكاء‏ ‏أصحاب‏ ‏الغرض‏- ‏عن‏ ‏تصوره‏، ‏فهو‏ ‏الذى ‏يختم‏ ‏كتابه‏ ‏الذى ‏تناول‏ ‏فيه‏ ‏مشكلة‏ ‏الموت‏ ‏والتطور‏ “‏فوق‏ ‏مبدأ‏ ‏اللذة‏” ‏مستشهدا‏ ‏بقول‏ ‏الحريرى ‏فى ‏مقامته‏ ‏الثالثة‏: “‏فليس‏ ‏على ‏أعرج‏ ‏من‏ ‏حرج‏”‏ (مع إغفال لؤم تعارجه وغرضه).

[65] – حسين‏ (‏محمد‏ ‏كامل‏) ‏متنوعات‏: “‏البحث‏ ‏العلمي‏” ‏مكتبة‏ ‏النهضة‏ ‏المصرية‏. ‏القاهرة

[66] – ويمكن الرجوع إلى أصل هذا الكتاب فى موقعى الخاص www.rakhawy.net

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *