الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1988 / عدد ابريل-سبتمبر1988-الموسوعة النفسية حرف ذ الذنب

عدد ابريل-سبتمبر1988-الموسوعة النفسية حرف ذ الذنب

الموسوعة النفسية

  حرف الذال

ذنــب

الشعور بالذنب !!!

قول شائع أكثر منه عرض متواتر،

وهو شائع عند العامة وصغار المختصين باعتباره مظهرا أساسيا من مظاهر الاكتئاب وهو غير ذلك، أو هو لم يعد كذلك.

ملاحظة لغوية:

من عجب أن مادة ذنب (ذال / نون / باء)، كما وردت فى أغلب المعاجم[1]، تتعلق بما هو ذنب أكثر مما تتعلق بما هو ذنب.

فى حين أنها فى التنزيل الكريم لم ترد إلا بمعنى الإثم والجرم والمعصية، وفى المعجم الصوفى (ابن عربى) لم ترد كمادة مستقلة وعند النفرى (أنظر بعد!!).

الذنب والوعى:

يبدو أن الشعور بالذنب قد نشأ مع ظهور الوعى البشرى بما هو، أى بتعدد مستوياته، إذ لا يكفى أن يكتسب الإنسان ظاهرة الوعى ليقع فى إشكالة إصدار الحكم على نفسه بحكم قضائى داخلى خاص،

وإنما يلزم أن يكون ثمة وعى، ووعى آخر، فثالث …. وأكثر، ومن ثم الجدل والحرية.

فالإنسان إذ اكتسب الوعى، قد انفصل قليلا أو كثيرا عن هارمونية الزمان / المكان فى اتساعهما المطلق، فأصبح بإمكانه أن ينظر من موقف متعال إلى مسيرته الذاتية، لكن ذلك لا يكفى لتولد الشعور بالذنب، إذ لابد أن يصاحب هذا الانفصال تعدد مجادل، وكذلك إمكانية اتخاذ قرار حر، مما يستتبع ظهور مسئولية ما، وبما أن الوعى المختار لا يمثل كل الوجود الفردى الذاتى، فإنه بالتالى لابد أن يوجد قرار مضاد كامن، جاهز أن يطل للوم، ومن ثم المحاكمة، فالحكم، متى حانت الفرصة.

فذنب الانفصال عن هارمونية الكل هو الخطوة الأولى لتولد هذا الشعور، ويمثلها بوضوح شديد الفكر المسيحى، وإلى درجة أقل الفكر الإسلامى، ويقابل ذلك فى التنظير النفسى موقف أوتو رانك Otto Rank بصفة خاصة، حيث اعتبر الخروج من الرحم هو الصدمة الأولى (المقابلة للخروج من الجنة)، ثم راح ينظر إلى الانفصال عن الوالدين فى مرحلة لاحقة (هى المراهقة أساسا)، باعتباره مبعثا لمزيد من تدعيم الشعور بالذنب (أنظر بعد)، وعلى نفس المستوى كان زانك هو الذى ربط الشعور بالذنب بالحرية (الفعل الإرادى) ربطا مباشرا ، حتى وضعها صريحة كالتالى “إن كل فعل إرادى ينتج عنه شعور بالذنب” وقد يكون هذا موازيا لمعنى الأمانة التى حملها الإنسان: “إنه كان ظلوما جهولا”.

فظهور الوعى وما صاحبه من إعلان الانفصال عن الطبيعة جزئياً أو مرحليا، وكذلك ما صاحبه من اكتساب حرية الإرادة، هما أول علامات تشير إلى تولد هذا الاحتمال.

لكننى قلت للتو أن المسألة تحتاج إلى وعى آخر (على الأقل) حتى يمكن للذنب أن يحتل الوساد الشعورى الظاهر، وقد اعتاد النفسيون أن يصوروا هذا الوعى الآخر باعتباره الضمير، أو الأنا الأعلى، لكن ثمة احتمالا آخر (من منطلق أوتو رانك، وكذلك الفكر الدينى) وهو أن يكون المعاقب، واللائم هو وعى الرغبة فى الاعتمادية المطلقة(العودة إلى الرحم / العودة إلى الجنة / الالتحام بها رمونية الطبيعة)، فيصبح الشعور بالذنب هو إعاقة والدية سلطوية كما يصبح أيضا، وربما قبلا، وظيفة تعطيلية ضد الحرية وضد الاستقلال، لصالح الاعتمادية الرضيعية (أو حتى الرحمية) من ناحية أخرى.

الذنب والجنس والعدوان:

وبهذه الصورة فنحن نقدم قضية الشعور بالذنب للتأكيد على ظهوره قبل المرحلة الأوديبية التى ربطت بين هذه الظاهرة وبين الجنس، وخاصة ما يتعلق بمضاجعة المحرمات.

ذلك أن هذه الظاهرة – بتصويرنا السابق – بعد فهم ما ترتب على نشوء الوعى (وتعدده) – ينبغى أن ترتبط بالعدوان بشقيه الإيجابى (إشارة إلى دوره فى الإبداع) والسلبى، وهو القتل أساسا: المتمثل تاريخا (ربما رمزيا) فى علاقة قابيل وهابيل – دينيا – الجريمة، والمتمثل – نفسيا – فى علاقة الإبن بالأم فى الموقف الاكتئابى (مدرسة العلاقة بالموضوع) حين ال يحتمل الطفل التهديد بالهجر من جانب مصدر الحب (الأم) فيتخلص منها بالقتل الخيالى، ثم يندم [2]، ثم يأتى بعد ذلك ارتباط هذا الشعور بمحاولة ضبط الشهوة (الجنس) الموجهة ابتداء إلى المحرمات (الذنب الأوديبى / الأخلاقى) أى أن الشعور بالذنب مرتبط أشد الارتباط بظهور وتوجه كل من:

(1) الوعى (2) العدوان  (3) الجنس

بهذا الترتيب أيضا.

وبمقابلات ذلك مما يمكن الإشارة إليه فيما هو:

  • التفرد والتعدد
  • الإبداع والحرية.
  • اللذة والتواصل.

بهذا الترتيب

وعلى ذلك فيحق لنا أن نقدم المسألة على الوجه التالى:

  • أنا موجود … إذن أنا مذنب.
  • أنا أريد / أفعل / أختار … إذن مذنب
  • أنا أحب، أضاجع، أشعر .. إذن مذنب.

بهذا الترتيب.

ولابد أن تكون لهذا الشعور بالذنب فى الأساس وظيفة بناءة مادام بهذا الوجود الغائر على كل هذه المستويات، وما دام قد ظل قائما بهذا الإلحاح وهذا الشمول طوال هذا التاريخ فيجدر بنا أن نتصور أن وظيفته هى “ضبط الجرعة” حتى يحافظ على إمكانية استمرار الجدل لدفع مسيرة ولاف synthesis النمو فعلا (أنظر بعد).

المنظور التركيبى والشعور بالذنب:

ذكرنا حالا ما يشير إلى أن أحادية الوعى (الوجود) فى الكيان الفردى البشرى لم تكن لتكفى لظهور الشعور بالذنب بهذه الصورة، إذ لابد من وعى آخر يعوق، ويحاسب، ويعارض ثم يتهم ويحكم، ويعاقب، وقد أشرنا أيضا إلى أن هذا الوعى الآخر ليس بالضرورة هو ما يسمى ضميرا أو “أنا أعلى”، بل هو قد يكون طفلا معتمدا، أو عبدا خائفا من الحرية، ونحب أن نزيد هذه النقطة أيضاحا على الوجه التالى:

1 – إن تعدد الذوات (تعدد مستويات الوعى / تعدد التنظيمات المخية .. الخ) داخل الفرد (وخارجه)، هو أمر لازم حتى يكون شعور بالذنب.

2 – إن الأنا الأعلى (أو الذات الوالدية) ليست هى دائما مصدر الشعور بالذنب.

3- إن الأنا الوالدية، التى تبدو فى مسألة الشعوربالذنب هذه وكأنها حامية حمى الأخلاق، ليست هى كذلك دائما، وإنا يبدو أنها تحمى نفسها ابتداء.

4- إن الأمر يحتاج إلى إعادة النظر فى ماهية الأخلاق، وبالتالى ما هو الذنب، حتى نستطيع أن نتبين مصادر الوصاية على الإبداع والحرية تحت عنوان الشعور بالذنب.

ومع بعض التجاوز، فإننا نستطيع أن نتصور نشأة الشعور بالذنب على مستويين:

ومع بعض التجاوز، فإننا نستطيع أن نتصور نشأة الشعور بالذنب على مستويين:

الأول: وهو ما أشرنا إليه من شعور ملازم – ولازم – لظهور الوعى وممارسة الحرية، وقد نشأ هذا الشعور بجرعة مناسبة، وفى تضفر جدلى مع ما ظهر ليضبطه (الحرية / الاستقلال الخ ..) ويمكن أن نسمى هذا المستوى: الذنب الوجودى Existential guilt

الثانى: حين النقط المجتمع السلطوى القاهر هذه الظاهرة ذات القيمة الايجابية أساسا، فأسقطها على قيم أخرى، موضوعة وأخلاقية مسطحة، واستعملها لغرض القهر والتشكيل – فنشأ الشعور بالذنب الأخلاقى Moral guilt feelings  وقد أدت وطأة هذا الشعور الأخلاقى إلى إحياء نزعة اعتمادية راجعة تغرى بالتكفير من ناحية (الاستغفار والتوكل..!!) والتراجع من ناحية أخرى (النكوص والتنازل عن التفرد، Individuation) وقد صاحب ذلك إسقاطات متعددة وتبريرات دينية، وقيمية بلا حصر.

وقد اقتصر حاليا استخدام تعبير الشعور بالذنب المستوى الثانى (الأخلاقى)، نظرا لكمون المستوى الثانى (الأخلاقى)، نظرا لكمون المستوى الأول (الوجودى) فى معظم الحالات.

وبما أن المستوى الأخلاقى لما هو ذنب هو المستوى الشائع فى السلوك والشعور جميعا، وقد صاحبته مبالغات وتشويهات بلا حصر، فإن من واجبنا ابتداء أن نوضح كيف أنه ليس هو الأصل، وكيف يرتبط أساسا بالمستوى الأول.

فيمكن اعتبار عقدة أوديب، وكبت الجنسية بأنواعها، وإنكار العدوان، يمكن اعتبار كل ذلك من المدعمات التى ظهرت تنظيرنا، وعمليا، لتخفى المستوى الوجودى الأعمق، وبالفاظ أخرى فإن الذنب الأساسى هو أن أوجد، أن أكون، أن أقرر، أن أختار، بما يتبع ذلك من مسئولية وحساب، ثم أسقط هذا الذنب الأساسى عمليا على ما شاع من مخالفة للقيم والأخلاق الموضوعة والمنظمة بشكل أو بآخر.

فكلمة ذنب، على المستوى الوجودى الاول، ليست مرادفة لما هو إثم، أو جرم، أو معصية، لأن هذه المواصفات إنما تسقط على أى فعل لا يرضى عنه الوعى المانع (داخل الذات أو خارجها، أى مما يحمل إيحاءات التجريم والإدانة، فيتطلب التكفير والغفران، وما يستتبع ذلك من مطالب التبعية والنكوص.

المضامين “الشائعة” لكلمة ذنب:

ويمكن أن نعدد بعض ما يمكن أن يكون وراء ما يشاع أنه ذنب على الوجه التالى[3]:

فنقول:

لقد شاع بيننا، وفى عمق وجداننا، أن الذنب:

1 – هو ما نهى عنه الوالدان والسلطة (أيا كانت).

2 – هو ما حاك فى الصدر وخشيت أن يطلع عليه الناس.

3 – هو العجز عن تحقيق ما توقعوه منك، أو ما توقعوه لك.

4 – هو التقصير دون تحقيق الأمان أو الستر (أو كليهما) بالسخرة عادة (السخرة لأى سيد بما فى ذلك أوهام الفقر وضلالات الخلود الخ).

5 – هو الاختلاف عن المجموع.

6 – هو إلحاق الأذى بالغير، حقيقة أو خيالا (ظاهرا أو باطنا).

7 – هو أى شئ عليه عقاب معلن (تم العقاب أو لم يتم).

8 – هو الجرأة على التفكير (مجرد التفكير) فى المقدسات (الدينية، أو الاجتماعية أو الإيديولوجية).

(كل هذا على سبيل المثال لا الحصر).

ويبدو من هذا العرض أن ما يسمى ذنبا قد استولى على مساحة شاسعة من وجداننا (/ وجودنا) بما يصاحب ذلك من لوم ذات، وندم وما يتبع ذلك من استغفار وتكفير، وكل هذا متعلق أشد التلق بمحاولة حشر الناس فيما هو تشكل لصالح الوضع القائم.

على أن وجود – أو حتى اقتراف – ما هو ذنب، ليس مرتبطا أرتباطا مباشرا بالشعور به، فالشعور بالذنب هو إدراك لاحق لوجود الذنب.

ثم إن الخلط الواضح فى هذه القائمة السابقة بين ما هو ذنب حقيقة وفعلا – بمعنى الإثم والإيذاء.. مثلا، وما هو أيهام بذنب بقصد الإعاقة وقهر المحاولة على مسار النمو، ومنع الاستقلال، والتخويف من الحرية، هو خلط شديد الخفاء والتداخل بحيث يصعب – إن لم يستحل – تنقيته بطريقة مباشرة، ذلك بالرغم من أن هذا الفصل هام جدا إذا أردنا أن نحافظ على جرعة الإيجابية الضرورية للمسار (المرتبطة بالذنب الوجودى)، دون جرعة التشويه والإعاقة (المرتبطة بالذنب الأخلاقى)، وهى الجرعة المسئولة عن اغتراب حياتنا، وربما استسلامنا للعبوديات الظاهرة والخفية، كما أن هذه الجرعة تزيد بتشويه أخطر لتظهر فى ظروف خاصة فيما يسمى المرض النفسى.

على أن للشعور بالذنب – فى جذور نشأته – مضمون آخر يتعلق بالمستوى الوجودى، حيث يرتبط ظهور هذا الشعور بالانفصال عن الأصل، عن الكل الهيلامى الأول، فهو يعلن خطورة هذا الانفصال، ويدعو إلى حفز محاولات العودة إلى ولاف أعلى فى الأحوال الصحية المتميزة ولكن هذا لا يعنى أن هذه النهاية التكاملية هى القاعدة فى الحياة العادية، بل لعل العكس هو الصحيح (بالتقييم الإحصائى).

لذلك يجدر بنا أن نلقى نظرة عابرة على البدائل المطروحة كمسارات محتملة أمام رحلة الإنسان المعاصر حالياً وهو يحاول مواجهة هذا الانفصال الرائع الخطر، بما يصحبه من شعوربالذنب، ومحاولات القهر بمزيد من التأثيم (انظر بعد).

المسار والمصير:

أعتقد أن الحديث بإفاضة عن طبيعة المسار فى الحياة العادية فيما يتعلق بما هو ذنب، قد يخرج عن نطاق هذه الموسوعة، بذلك أكتفى بوضع رؤوس مواضيع لانتقل بأسرع ما يمكن إلى التخصيص، وبصفة عامة فإن مسيرة الحياة العادية تتجه فى أحد المسارات التالية (فيما يتعلق بما هو شعور بالذنب):

  • مسار التقبل والمبالغة (الدينى التقليدى)

وموجز هذا الموقف يقول:

مادمت مذنبا، فليكن، ولاتقرب ولاستغفر، بلا إبداع، ولا حرية، ورغم أنى لم أختر الوعى، فأنا أتحمل الخطيئة الأولى، ثم أتحمل خطيئة الاستمرار فيها (الحياة)، فإذا احتجت فطرتى على أنى أتحمل نتيجة ذنب لم أقترفه (الذنب الوجود) فإنى سأرد بأنى إنما أتحمل معصيتى للأوامر اللاحقة، لأنى لم أستطع – بقدر كاف – كبت الجنس والعدوان، فذنبى الجديد هو ذنب أخلاقى، وهو الأهم، وليس أمامى إلا الاعتمادية المطبقة (الاعتمادية الرضيعية – الرحمية -) لعلنى أعود الرحم الأرحب (الجنة).

  • مسار الإنكار والمحو (الإلحادى الذاتوى)

وموجز هذا الموقف يقول:

ولا ذنب ولا يحزنون، فأنا حر حتى النخاع، لم أقترف شيئا، ولم يستأذننى أحد فى قدومى، فلا استغفار للجانى الأصلى، إن وجد أصلا، ليس هناك سوى “أنا”، حتى داخلى هو أنا واحد أحد، فلا وصاية على حتى من مجهول فى الداخل، وكل ما يسمى ذنبا (تجاوزا) هو ما يعاقب عليه القانون الخارجى الذى على أن أتحايل عليه طول الوقت حتى أغيره ليصبح كل الناس أحرارا أعنى لأصبح “أنا” حراً، والباقون كذلك (!!) إن أمكن، المهم أنى لست مذنبا أصلا، وأنا حر جداً (جداً).

  • المسار الاغترابى القهرى:

وموجز هذا الموقف يقول:

ليكن، لكنه ليس ذنبى فقط، كما أنى لست مسئولا وحدى عن كل ما جرى، ثم إن ثمة مسائل ومشاكل أقرب إلى مسئوليتى وأولى بتقويتى حتى لمواجهة احتمال أن أصلح ما أفسده قدرى وتورطى (بشراً)، فعلى بالجمع المستمر، والالتزام المكرر، وأساليب القوة من كل مصدر ونوع، من أول القرش حتى السلطة بأنواعها، حتى مصادر الشهوة أو محتويات فكر الآخرين (ولا مانع أن أعيد تنظيم هوامشها وأسميه إبداعا) فإذا حققت ذلك فقد أنسى حكاية الذنب هذه، بل إنى نسيتها ما دام أحدهم لم يضبطنى متلبسا.

  • المسار الإيمانى الإبداعى:

وموجز الموقف يقول:

نعم، لقد اخترت أن أكون بشرا، حرا، وهذا أكبر من قدرتى، ولم أكن أعرف ذلك تماما (جهولا) فظلمت نفسى (ظلوما)، لكنها البداية، ولا سبيل إلى التراجع، فما زلت أكرر اختيارى كل لحظة، ما دمت مستمرا حيا، لكن ليس معنى ذلك أن أستسلم لشعور بذنب لا وجود له، فما سموه ذنبا هو جزء من شرف إنسانيتى، هو ثمن وعلامة وجودى، وليس أمامى إلا أن أدفع المقابل بتقبل تاريخى (تعددى) مع الاستمرار مجتمعا إلى مزيد من الرؤية / المسئولية، ومزيد من القدرة (الإبداع) فلا يعود الذنب ذنبا لأنى فى طريقى أبدا إلى تجاوز أسبابه، ذلك أن الذنب الحقيقى (الوجودى) هو فى استمرار انفصال الجزء عن الكل بحيث يظل يدور فى مدار مستقل نافر، على حسابى، بعيدا عن أصلى ، بما يهدد بسقوطى كنيزك محترق، ولكى أمنع ذلك سوف أرفض التجمد، ولن أخدع بالتكرار، ولن أحافظ على المسافات، ولن ألغى مالا أرى (الغيب)، فطالما أنا أختار، أنا أبدع، أنا أجادل تاريخى ساعيا – كدحا – إلى تناغمى فلا ذنب لى إلا: التوقف عن السعى، أو الانغلاق على نفسى، أو الانخداع فى التكرار والوسائل، أو الخضوع لإيهامكم لى باقتراف ذنب (أخلاقى) تحت أى زعم أو إغراء.

الشعور بالذنب والمرض النفسى:

ملاحظات عامة:

 1 – لم يعد الشعور بالذنب عرضا متواترا فى الأمراض النفسية عامة فى وقتنا الراهن، وفى الاكتئاب خاصة، وهذا لا يعنى أن دوره فيما هو سيكوباثولوجى قد قل عن ذى قبل، بل هو قد يعنى أن البعد عن الوعى بمسئولية الوجود قد طمس الذنب الوجودى، كما أن البعد عن التدين التقليدى (فى الغرب خاصة) قد أخفى الردع الخلقى الذاتى (فتوارى الذنب الأخلاقى). ومعنى ذلك أن هذا الأمر – العرض – قد أصبح أقل ظهورا، مع أنه زاد تأثيرا فى نفس الوقت.

2 – ليس لوجود عرض “الشعور بالذنب” نفس الدلالة فى مختلف الأمراض النفسية (أنظر بعد) ولا فى مختلف الأفراد.

3 – ليس معنى ظهور الشعور بالذنب، وإلحاحه، أن هناك موقفا تكفيريا، أو احتمالا للتراجع عن ذنب حقيقى أو همى، بل قد ينى تمسكا بالموقف واحتماء فيه.

4 – إن علاقة الشعور بالذنب بالانتحار هى علاقة مركبة، ولا يكفى تفسير الإنتحار هى علاقة مركبة، ولا يكفى تفسير الإنتحار الذى يبدو نتيجة للشعور بالذنب بأنه نوع من التكفير عن إثم لا يغتفر، لأن الانتحار لا يمسح الذنب، بل لعله يؤكد عدم الرجوع عنه، إذ لا سبيل بعد ذلك (بعد الموت) إلى الرجوع عنه، إذ لا سبيل بعد ذلك (بعد الموت) إلى الرجوع عنه، وكأنه من عمق بذاته تمسك بالذنب لدرجة إنهاء الحياة برمتها خوفا من أى تغير، بما فى ذلك التغير إلى ما هو وجود “غير مذنب”، ومن منظور تركيبى فإنه إذا كان الشعور بالذنب هو الوعى بالإنفصال، فإن الانتحار هو الحيلولة دون الاتصال، فهو أيضا تأكيد آخر لما هو ذنب.

أمثلة من الأمراض:

وسأحاول أن أرتب الامراض على نفس مستويات المسار الطبيعى للنمو، ثم أنتقى منها بعض الأمثلة:

مسار الإنكار والمحو: وتمثله الشخصية السيكوباتية، (وكثير من أنواع اضطراب الشخصية) والهوس (غالبا).

المسار الاغترابى القهرى: ويمثله العديد من العصابات وخاصة عصاب الوسواس القهرى، وكذا كثير من اضطرابات الشخصية من النوع النمطى خاصة.

المسار الإبداعى السلبى  (إبداع العدم = اللا إبداع): ويمثله الفصام خاصة.

أمثلة – من الأمراض – من كل مسار (أو مستوى):

أولا: مسار التقبل والمبالغة:

الاكتئاب:

من أكبر الأخطاء التى وقع فيها الطب النفسى (وإلى درجة أقل علم النفس) هو أن يعامل ما يسمى اكتئابا معاملة واحدة باعتباره حزنا وهمودا أساسا، وأن يعتبر الحد الفاصل بني السواء والمرض هو كمية هذا الحزن والهمود، فإذا زادا إلى كمية كذا، أو أعاق حتى درجة كيت فى المجالات الفلانية اعتبر مرضا، والامر غير ذلك تماما، فالاكتئاب نوعان متضادان تقريبا على طول الخط، رغم أنهما يشتركان فى التعبير عن ما هو حزن، وفى إظهار بعض مظاهر الهمود أو العزوف عن نشاطات الحياة العادية، إلا أن أحدهما (النشط / البيولوجى/ الدورى/المواجهى) هو حركة جدلية مصاحبة بألم مواجهة (مواجهة للواقع وللعلاقة الموضوعية)، ومرتبطة بيقظة وعى مفرطة [4]، أما الثانى (النعاب / المزمن / المتراكم / الهروبى / العامى) فهو همود منسحب، واعتمادية رضيعية، وشكاوى معادة، وضيق فى الوعى، والشعور بالذنب كما يظهر فى الصورة الشائعة عند العامة والاطباء النفسيين على حد سواء، هو مرتبط أشد الارتباط بالنوع الثانى من الاكتئاب دون الأول، لكن هذا لا يعنى أنه لا يوجد شعور بالذنب فى النوع الأول، لكن الاختلاف نوعى وجذرى رغم ارتباطهما برباط ما، ورغم ظهورهما بنفس الألفاظ أحيانا.

على أن العلاقة بين النوعين ليست واهية، بل إن أحدهما (الثانى) قد يؤدى إلى الأول، إذا أجهض، أو أزمن، أو تجمد، كذلك فإننا نجد درجات مختلطة ظاهرة وخفية على المتدرج فيما بينهما.

وحين نقول أ، الاكتئاب يمثل المبالغة فى التقبل والرضوخ فلابد أن تعلن أننا نعنى غلبة النوع الثانى (النعاب، الهروبى) على الأول (النشط، المواجهى):

يقول هذا النوع من الاكتئاب (النعابى الهروبى):

مادمت مذنبا، فليكن، وليس أمامى إلا الاعتراف، وإعادة الإعتراف، فالاستغفار، ثم التوقف عند الاعتراف والاستغفار، بل وانتهاز الفرصة لتأكيد هذا الذنب الذى لا يصلح معه شئ أو محاولة، إذ ماذا أصنع لو أنه اختفى، على ماذا أعترف ولماذا أستغفر؟ بل إنى – ولا تقولوا لأحد – فرح – فى السر – بوجود هذا الذنب (أنظر سارتر فى الهوامش)، فالذى سيدفع الثمن هو أنتم المسئولون عن زرعه، وريه، بالإهمال، والتأثيم، والترهيب، والترغيب، قد أدفع معكم الثمن توقفا وهمودا، لكن من قال إنى أريد غير ذلك، ما دام الأمر كذلك.

وفى هذه الحالة، يصبح إعلان الشعور بالذنب المتكرر ليس شكوى حقيقية التخلص منها، وليس اعتذارا عن إثم أو محاولة لمحوه، بل هو تثبيت له وتمسك به، (بطريق خفى طبعا) وفى ذلك سبق أن قلت تعقيبا على الشعور بالذنب الذى يظهر وكأنه ندم على العدوان الخيالى على الأم واهبة الحب والرعاية، وكأنه تكفير عن قتل المحبوب (فكرهت الحب، وقتلت البقرة) [5] قلت ما أجد من المناسب إعادة صياغته وتوضيحه على الوجه التالى:

  • إن الإصرار على إعلان الشعور بالذنب نتيجة لما يبدو ندما على اغتيال الأم (فى الخيال) وهى مصدر الحياة والرعاية، هو تمسك بالفعل وتثبيت له، وهو إعلان عنه، وإصرار عليه، وتأكيد للقدرة لى إعادته، فهو ليس ندما صادقا ولا توبة نصوحا، وتفصيل أهم دلالاته بما يتناسب مع هذا المقام هو أن هذا الشعور إنما يعنى:

1- تثبيت الفعل (المجرم) والإصرار عليه: فلو أن الفعل – القتل الخيالى – قد انتهى تماما، فقد أصبح ماض بلا فاعلية، و (لكن) استمرار الشعور بالذنب تجاهه هو إصرار عليه، وعلى إبقائه واقعا (داخليا) قائما مؤكدا .. فهو إعلان للإصرار عليه وليس حقيقة الندم تجاهه.

2- الاحتفاظ بالآخر فى الداخل، وعمل علاقة ما معه – رغم زعم اختفائه – (بالقتل) – هى علاقة الندم (وكأنه استعادة للآخر، والاحتفاظ به، دون مسئولية العلاقة الصعبة الحقيقية معه).

3- إن الشاعر بأن ذنبه لا يغتفر، يعلن ضمنا عن التوقف عند هذه النقطة ما دام لا سبيل إلى تجاوزها، وبهذا يعفى نفسه من مخاطرة نمو جديد، وتناقض جديد، وخوف جديد، وقتل جديد.

4 – إنه تأكيد للقدرة على إعادة الجريمة فإعلانه اعترافه بذنبه، هو فخر بقدرته عليه، وبالتالى هو ضمان ضمنى بالقدرة على إعادته إذا عادت إغراءات النمو النمو الصعبة تلوح له، وبهذا يضمن من باب آخر توقف النمو فالإعتمادية السلبية.

وكل هذا متعلق  اساسا بالجريمة الخيالية: قتل الأم (التخلص من مصدر الحب والحياة) لكنه فى واقع السلوك المعلن قد يأخذ مستويات بديلة على مستوى السيكوباثولوجى أو على مستوى السلوك المعلن قد يأخذ مستويات بديلة على مستوى السيكوباثولوجى أو على مستوى السلوك، فهو فهو قد يبدو – عند الطفل الذكر – مرتبطا بقتل الأب المنافس على حب الأم (أوديب) أو قد يبدو مرتبطا بإثم دينى، أو معصية أخلاقية (عقوق الوالدين بالذات) أو مرتبط بتجاوزات جنسية (نحو المحرمات خاصة) أو بأى من أشكال الذنب السابق الإشارة إليها.

ويظل هذا المكتئب النعاب، يحكى عن – ويصر على – ذنبه بلا توقف، مما ينبغى أن نفهمه فى عمقه وهو أنه أبعد ما يكون عن الندم أو الاعتذار أو التوبة، وكذلك هو أبعد ما يكون عن الاكتئاب الحقيقى النشط والجدلى.

ففى هذا النوع الأخير، يكون الشعور بالذنب متعلق أساسا بمسئولية الوجود وثمن اللحرية، فهو شعور بالذنب الحقيقى (الذى هو ليس ذنبا أصلا) وهو الانفصال عن هيلامية الكل، دون الارتماء فى تبعية العبودية (الاعتمادية الرضيعية) (أنظر بعد).

(2) مسار الإنكار والمحو:

ويمثل هذا المسار نوعين من الاضطرابات سوف نورد من كل منها مثال دال، وهذان النوعان هما: بعض أمراض الهوس، واضطرابات الشخصية من النوع السيكوباتى خاصة:

  • ففى أمراض الهوس نقابل نموذجين من الإنكار: الإنكار بالإنشقاق Dissociation والإنكار بالنكوص Regression، وفى الحالتين يختفى الشعور بالذنب لاختفاء شرط وجود الآخر الداخلى المنوط بالتأنيب والتذكرة والإذناب المستمر. وكأن هذا الموقف الإنكارى يقول:

ولا ذنب ولا يحزنون، فأنا لم أنفصل أصلا، أنا الكون – كما كنت أبدا – ليس هناك سوى “أنا”، واحد أحد، حر حتى النخاع، ولا وجود لشئ يسمى ذنب أصلا، فليس هناك سواى، والذنب إنما يكون ذنبا حين يكون هناك ضعف أو حاجة لآخر، وهذا غير وارد، فليس هناك سوى الأصل، والكل والهارمونى، الذى هو أنا شخصياً.

ولا فرق فى هذا الموقف الهوسى بين أن يكون قد حصل نتيجة لانشقاق شديد أزاح الذوات الأخرى فألغى أى حوار أو مواجهة، أو نتيجة لنكوص شديد تراجع حتى الامحاء فى الأصل الكل الهيلامى.

(ب) أما فى حالة الشخصية السيكوباتية، فإنكار الشعور بالذنب لا يأتى نتيجة الانشقاق أو النكوص، وإنما هو يبدأ بنفى الذنب أصلا، باعتباره” دفاع شرعى “(يحمينى منكم، من كذب الحب، من لغو الصدق) ([6]) وهو يعمم ما هو ذنب، ويفخر بأنه يأتيه جهارا نهارا بصدق متحد، أحسن من الادعاء والفتوى من موقع كبار اللصوص والقتلة بحكم القانون وهكذا نجد إنكار الذنب هنا هو ليس إنكارا لحدوثه، وإنما هو إنكار الذنب هنا هو ليس إنكارا لحدوثه، وإنما هو إنكار لاعتباره ذنبا أصلا، وكأن السيكوباتى بهذا يتخلص تماما من الوصاية الأخلاقية اللاحقة، وبذلك يتخلص تماما من الوصاية الأخلاقية اللاحقة، وبذلك يتخلص من مستوى الذنب الأخلاقى، لكنه فى مقابل ذلك يتخلص أيضا من الذنب الأخلاقى، لكنه فى مقابل ذلك يتخلص أيضا من الذنب الوجودى، فيحرم نفسه من معاناة رحلة الانفصال / الحرية / الإستقلال = للإتصال / العودة / الجدل، الهارمونى على مستوى أعلى، وتكون الحرية التى يدعيها هى نقيض الحرية الموضوعية على مسار النمو، (وهذا المستوى) هو الذى يقابل المستوى الإلحادى) (أنظر قبلا).

(3) المسار الاغترابى القهرى:

ويمثله على مستوى المرض – كمثال – عصاب الوسوساس القهرى، فهذا المستوى يعلن الموقف الذى يقول:

ليكن، لكنه ليس ذنبى، وهأنذا أخفيه بما لا يعلن مسئوليتى عنه، فاهتماماتى بعيدة عن “هذا الموضوع” أصلا، لأن ثمة مسائل تشغلنى وهى قذارة الاشياء (لا قذارة نفسى)، ومخاطر الأماكن الضيقة (وليس حبس روحى)… الخ (ولأغسل ثوبى الأغبر، حتى أخفى تلك القاذورات – داخل نفسى) [7] وهو لا يخفى ديالوج الذنب (الإذناب = الاعتذار الاعتراف = التوبة) عن الناس فحسب، بل عن نفسه أصلا، ولكى يفعل ذلك لابد أن يغترب عن كليته، عن لحظته، وبالتالى يتوقف عن مسعاه على مسار النمو، بالدخول فى هذا المسار الجانبى الدائرى المنغلق (بدلا من أن أشغل نفسى، بطهارة جوهر روحى، فلأغسل ظاهر جلدى بالصابون الفاخر).

4 – المسار الإبداعى السلبى (= أو إبداع العدم):

أشرنا حالا إلى بدايات المسار الإبداعى فيما أسميناه بالاكتئاب النشط الدورى والمواجهى وقبل ذلك اشرنا إلى المسار الإبداعى الايمانى كأكثر المسارات صحة وتكاملا لتمثل ما هو شعور بالذنب، لكنا نشعر أن الفصام – ممثلا لغاية مراتب اللاهارمونى (فالتدهور تفسخا) له وضع خاص فىعلاقته بالإبداع ونقيضه، ونبدأ ببعض الملاحظات الاكلينيكية:

الواقع أننا نلقى الحديث عن (أو الشكوى من) الشعور بالذنب فى مرض الفصام، بنفس التواتر، إن لم يكن أكثر، مثلما نلقاها فى مجموعة أمراض الاكتئاب، لكن الفصامى فى العادة لا يتكلم عن ذنب محدد، بقدر ما يتكلم عن “تهمة ما”، وهو لا يشعر بالذنب بشكل مباشر بقدر ما يعترف بالتهمة، ومهما ذكر هذه الخطيئة أو تلك فإننا يمكن أن نتبين – بمنهج فينومينولوجى – أن المسألة ليست فيما يذكر بقدر ما هى متعلقة بقضية وجوده مباشرة، مشكلة الفصامى فى وجوده، وليست فى موقفه الأخلاقى أو اغترابه القهرى، وكأن الفصامى يواجه ما هو ذنب وجودى (أصل القضية كما ذكرنا) بوعى مباشر، على الأقل فى بداية يقظة وعيه الأعمق، لكنه سرعان ما يبالغ فى مسئولية انفصاله عن الهارمونى الأعظم، وبالتالى فهو يسارع بخطى لاهثة مضطربة إلى تأكيد مزيد من انفصاله بمحاولات أتصال فاشلة ومجهضة، حتى ينفصل عن بعضه البعض تحت وهم استقلال مفرط حتى التناثر، وحرية مطلقة حتى الضياع، وكأنه يواصل إبداع وجوده الانسانى المستقل عن الكون حتما، ولكن بقفزات عملاقة يستحيل أن يتم معها إبداع أو جدل، فبالرغم من بداية المواجهة بمشكلة الوجود وما يصاحبها من معايشة الذنب الوجودى، فى اتجاه الإبداع فإن النهاية سرعان ما تؤدى إلى تفسخ متناه ضد الإبداع، وكأن موقف الفصامى يقول:

نعم لقد اخترت أن أكون بشرا، حرا، وهذا أكبر من قدرتى، ولم أكن أعرف ذلك تماما (جهولا) فظلمت نفسى (ظلوما)، وهأنذا ألتمس الغفران شريطة أن “أكون” (جدا)، ألا أتراجع، فهل يمكن؟ (هل يأذن حاجبكم أن أتقدم، لبلاطكم ألتمس العفو)، لكن لا أحد يسمع، ولا أحد يرد (وصرخت بأعلى صمتى، لم يسمعنى السادة)[8] فلتكن البداية هى النهاية، ولن أتراجع بل سأعمق اختيارى وأتمادى، مذنبا مسئولا حرا جدا جدا، ولن يخدعنى أحد بدعوى العودة إلى التكامل فأنا أرعب من مجرد احتمال الاعتداء على حريتى، وما سموه ذنبا هو وجودى شخصيا، وحتى لو أدى الانفصال (الاستقلال) إلى مزيد من الانفصال حتى التناثر، فهذا هو اختيارى الذى يحمينى من الإمحاء، بل إنى حين أذوب بعيدا عن أصلى، أؤكد فرديتى باللاعودة.

وهكذا ينتهى الفصامى إلى العدم من حيث هو يؤكد الوجود هربا من ذنب وجوده (الانفصال) فهو يختفى فى العدم الإنفرادى، خوفا من العودة إلى هيلامية الضياع الكلى، وكأن الفصامى يبدع العدم نقيض التفرد التكاملى والجدل الولافى للتصعيد ولعل هذا مانعنيه بتعبير “إبداع العدم”.

عودة إلى كيفية تجاوز / تمثل الشعور بالذنب:

نستطيع الآن أن نوجز طبيعة الشعور بالذنب ومساره الأمثل على الوجه التالى:

1 – إنه شئ طبيعى تماما.

2 – إن الذنب الوجودى هو المقابل للوعى بالإنفصال عن الكل الكونى فى كيان فرد حر مسئول.

3- إن الذنب الوجودى يسقط بالتربية والكبت على الذنب الأخلاقى، فيحرم الإنسان من مسئولية وجوده، ويجمده فى قفص الأخلاق المفروضة.

4- إن بعض حياتنا القهرية المغتربة (إن لم يكن أغلبها) هى لتجنب مواجهة هذا الشعور بالذنب على مستوييه.

5- إن مجرد إعلان الشعور بالذنب فى مظاهر وطقوس دينية تقليدية قد يثبته لا يتجاوزه.

6- إن التوقف عند إعلان الشعور بالذنب، وتكرار ذلك والتفرغ للاعتراف به، أو التكفير عنه هو من أكبر دفاعات التوقف عن مسيرة النمو إبداعا للذات، وتصعيدا للجدل.

7- إن إنكار الشعور بالذنب (وإنكار الذنب أصلا) لا يعنى بحال تجاوزه، أو تمثله، بل يعنى إخفاءه، وبالتالى الانتقاص من كلية وفرص جدلية الوجود، وإبطال السعى الحقيقى إلى التكامل.

8- إن تمثل الشعور بالذنب إنما يدل على يقين خطو السعى إلى تحمل مسئولية الإنفصال سعيا إلى العودة (الاتصال) جدلا على مستوى أعلى، وهو ما يقابل الجهاد الأصغر، والكدح الصوفى إلى وجهه، والإبداع الذاتى فى الكل الأشمل وغير ذلك من مقابلات ومكافئات لا مجال لتفصيلها هنا.

9- إن لكل من هذه المراحل ما يقابلها – على أقصى الطرف الآخر (على مسيرة التدهور).

استشهادات:

سنورد فيما يلى بعض الإيضاحات والإشارات المتعلقة بالظاهرة، بشكل مباشر أو غير مباشر، مما ينبغى ذكره، ثم بعض الاستشهادات من بعض الأعمال الأدبية التى قد توضح بعض ما ذهبنا إليه:

1 – كما تبين سابقا كل ما ورد من مقتطفات شعرية هنا هى من متن دراسة فى علم السيكوباثولوجى، وهو ديوان سر اللعبة، وقد أوضحنا ذلك فى الهوامش.

2- وصفنا قبلا ظاهرة الإذناب أو الإيهام بالذنب، والتى نفضل، لها الآن كلمة “التأثيم” وهى ظاهرة تمارسها السلطة عامة، والسلطة الدينية خاصة، وعلى المستوى المرضى يمارسها نوع متميز من أصحاب الشخصية البارنوية أو حالات البارانويا، ووظيفتها الأساسية هى إعاقة نمو الآخر حتى لا ينفصل عنى (عن البارنوى غير الآمن) حتى لا أفتقد الأمان الذى أستشعره بتبعيته لى، وتبدأ هذه الوظيفة أصلا بقلب – وتشويه – الذنب الوجودى (مسئولية الحرية) بإحالته إلى الذنب الأخلاقى بالتأثيم الدينى عادة.

كما أن السلطات المعيقة والقاهرة تستثمر هذه الوسيلة (التأثيم) على كل المستويات[9]

  • وصف دوستويفسكى هذه الظاهرة بدقة بالغة فى عرضه لموقف بطرس ألكسندروفيتش، فى روايته القصيرة، أو قصته الطويلة نيتوتشكا نزفانوفا مثلا:
  • “وينظر إلى امرأته – الكسندين – الفزعة، على حين غرة – نظرة تعبر عن الرحمة والشفقة”

إلى أن قال:

ثم يطفق أخيرا يبكى معها، إلا أنها كانت تنتفض فجأة انتفاضة من تيقظ ضميره وشعر أنه ليس من حقه أن يغتفر ذنبه، كانت تهولها دموع زوجها، فإذا هى تزداد لوعة واضطرابا ونحيبا فترتمى على قدميه تسأله الغفران، وسرعان ما يجود عليها به.

فانظر عظمة اقتران الشفقة – من أعلى – بالتأثيم، بالشعور بالعار[10]، ثم انظر أن عملية التأثيم من قبل الزوج، ورغم اصطناع المشاركة إلا أن الزوج فى النهاية قد أصبح إله يستغفر، فيغفر للعبد الذليل المللقى تحت قدميه.

3 – مسرحية سارتر “الذباب”[11] مبنية أساسا، إن لم تكن تماما، على هذه الظاهرة، حيث أوضحت بشكل شبه مباشر:

(1) تواتر ظاهرة الشعور بالذنب

(2) التمسك بها

(3) وظيفتها

(4) علاقتها بالحرية والسلطة

(5) صعوبة تجاوزها.

ونقتطف هنا بعض ما يوضح ذلك:

“أه إننى أندم يا إلهى .. وليتك تعرف كم أنا نادمة، وابنتى أيضا نادمة، وصهرى يضحى كل عام ببقرة، وحفيدى يناهز السابعة من عمره، ولقد ربيناه على الندم .. إنه عاقل كالصورة، شديد الشقرة، وهو ممتلئ بشعور الخطيئة الأصلية”

فانظر مدى عمومية الظاهرة، ثم كيفية تجميدها لنمو طفل (عاقل كالصورة) وكذلك لاحظ معالم الفخر بها.

“يكفى أن تصرفهم .. ولو لحظة واحدة عن ندمهم، حتى تتسمر عليهم خطيئاتهم جميعا كالشحم البارد .. وللخوف وتبكيت الضمير رائحة لذيذة لأنوف الآلهة”.

وهنا أيضا تتضح علاقة ضرورة الندم المستمر، ومتعة السلطة بالتأثيم الدائم.

“إن سكان السهول ينظرون إلى ندمنا كما لو كان الطاعون، وهم يخافون العدوى” إغفرو لنا أننا أحياء بينما أنتم أموات”.

فيرتبط الشعور بالذنب (الندم) بالحياة المدنية وما تعنيه من قيم دينية، وبرجوازية أخلاقية، وهنا ثمة إشارة إلى الطبقة الوسطى بصفة خاصة.

“أعرف أيتها المرأة أنك ستحدثينى عن ندمك حينا، إننى أحسدك عليه، فهو يعمر لك حياتك”.

وهنا إشارة واضحة إلى وظيفة الندم فى ملء حياة فارغة.

“أما أنا فليس عندى ندم، ولكن ليس فى أرجوس من هو فى مثل حزنى”

فانظر كيف انفصل الحزن عن الندم، بل لعل الحزن لم يظهر إلا حين اختفى الندم، وهو عكس الشائع فى الطب النفس من تلازم الاثنين فى حالة الاكتئاب.

“إننى أحب الجرائم التى تتطلب التكفير، – فما عسانى أن أصنع بجريمة لا يعقبها ندم؟”

وكأن وظيفة القتل، أو إحدى وظائفه، أن نجد ما نندم عليه، أو بتعبير آخر، كأن الحاجة إلى إسقاط الندم الوجودى على حدث عيانى، تصبح مبررا للقتل وأخيرا:

“لا سيطرة للآلهة على إنسان حر”.

وهذا ينفى أن الحرية، بما يصاحبها من شعور بالمسئولية (الندم الوجودى) هى أمر فردى تلقائى أساسا، ليس له علاقة مباشرة وغالبة بعملية التأثيم الأخلاقى والدينى التى تمارسها السلطة للسيطرة المستمرة والإعاقة.

7 – نجيب سرور[12]:

خطايانا على أكتافنا صلبان.

ولكن فيم أذنبنا؟

لماذا دون ما ذنب تعذبنا؟

تعذبنا، تعذبنا، تعذبنا

لأنا حين أحببنا

رأينا الناس والدنيا بعين الحب

……….

………

خطايانا – وياللعار – أنا من بنى الإنسان إلينا أيها النسيان

فليس لخاطئين بغير ما ذنب سوى النسيان.

فقد يكون فى الجزء الأول ما يشير إلى الوشم بالذنب (خطايانا على أكتافنا صلبان).

لكننى اقتطفت سرور هنا لدقة ربطه بأن الشعور بالذنب والتأثيم مرتبطان بالتجاسر على الحب، أى أن الحب هو الذنب، والحب هنا بمعنى العيش سويا، إنسانا وإنسانا معا – أنا من بنى الإنسان – وهو يعرض حلا يائسا هو مكافئ للتنكر لإنسانيتنا التى جلبت علينا هذا التأثيم فالحياة المتهمة المجرمة، ذلك أننا إذا كنا قد صرنا بفضلهم مذنبين بلا ذنب، فما لزوم الوعى أصلا، فإلى النسيان العدم (إن أمكن).

8 – صلاح جاهين[13]:

حلمت الليلادى بإنى فى موقف رهيب

باقول، والكلام منى طالع نحيب ….

سيادى القضاه

دفاعى بسيط

كلامى ما هواش غويط، وما هوامش عبيط،

بسيط،

بساطة هدوم الغلابا الفقارى الحفاه

بسيط زى اسم صديق على شفة صديق

بسيط زى دمعة برئ،

بسيط زى وحش جعان فى الفلاة

بسيط زى حفنة دقيق

سيادى القضاة، يا ذهم يا همم يا قمم يا عتاه

دفاعى قوى

قوى، زى صرخة غريق

بينده لقارب نجاه،

بينده بينده بآخر قواه، للحياه

دفاعى قوى زى دقماق حديد،

قوى زى نظرة وعيد،

قوى زى تمثال إله

قوى زى بلطة رجال الحريق فوق بيبان الحريق

سيادى القضاه،

سيادى الكرام العظام الفخام العلاه،

فاعى مؤيد،

مؤيد بكل الكلام العظيم، بتوراه،

بإنجيل، بمزامير داوود،

بقرآن كريم،

دفاعى مؤيد بكل أنين الكمنجات فى كل الوجود

بكل حفيف النسيم

بتهنينة الأمهات للعيال فى المهود

بقولة “باحبك”، و “أه”

بصوت القبل،

وكل ابتسامة بحق وحقيق

تؤيد دفاعى

وبارفع صباعى الضعيف واقول كلمتى

سيادى القضاه

سيادى الحدادى اللى حايمه على رمتى،

حاقول كلمتى

لكين قبل ما نطق واقول كلمتى

قولولى انتو ..

إيه تهمتى؟؟

فنقرأ فى هذا النص:

  • أن الذنب الوجودى، وهو الأصل، وهو ما يظهر فى أقصى الإبداع على ناحية، ويكمن وراء أقصى التناثر على ناحية أخرى (الفصام) هو ذنب غامض غير محدد المعالم، لكنه موجود ومثير لكل هذا الدفاع.
  • أن مواجهة هذا الذنب الوجودى قد أظهر إيجابية وجوده لأنه أصبح دافعا لكل هذه الدفاعات، وهى ليست دفاعات بمعنى نفى التهمة، وإنما هى دفاعات بمعنى تحمل مسئولية الوجود تنمية كل إيجابياته.
  • أن الدفاعات هنا ليست هى دفاعات العمى والهروب[14] mechanisms وإنما هى دفاعات الاختراق وتأكيد الحياة بكل ما تعنى على مستوياتها المختلفة، الطبيعية الفطرية، والإيمانية التكاملية، والإنسانية العلاقاتية.
  • فقد ظهرت هذه المستويات:

بدءا بتعميق الفطرة / البساطة، لكنها ليست بساطة نكوص الطفولة، وإنما هى بساطة نقاء الفطرة التى لا تخلو من قوة، وأصالة وتلقائية وألم يقظ.

ثم منثنيا على توجيه العدوان إلى تحطيم قوى الدمار (لاحظ: قوى زى بلطة رجال الحريق فوق بيبان الحريق).

ثم راح جاهين يؤكد المعنى التكاملى فى علاقة الحياة بما هو إيمان، فالدين نزل ليكون دفاعا عن الحياة لا تأييدا للاتهام، وتشويها له بنقله من المستوى الوجودى إلى المستوى الأخلاقى بما يلحق ذلك من إرعاب وقهر.

كذلك نلمح قيمة ترادف الحياة بالعلاقة الحقيقية مع أخر فى صورة ما هو حب طيب، أو قبلة ودود، أو بسمة حقيقية.

وهكذا نرى أن الذنب الوجودى هنا كان معترفا به، لكنه لم يكن محددا، وهذه هى طبيعته، فالإنسان هنا قد نفى التهمة دون التخلص من مسئولية الفعل الكامن فيها دفعا للحياة فلم تعد تهمة تستأهل التفكير وإنما راحت تتبين طبيعتها باعتبارها مسئولية تدفع الحياة

وأحسب أن القارئ يتذكر ما أشرنا إليه من ظهور نفس نوع الاعتراف (دون تهمة) على الجانب الآخر فى حالة الفصام (أيضا: أنظر بعد).

9 – يحيى الرخاوى[15]

ننصح ابتداء بالرجوع إلى الاستشهادات الواردة فى المتن هنا، والمقتطفة من ديوان سرا للعبة، مع التحفظ إزاءها باعتبارها قد كتبت بحدس موصى عليه مما هو علم السيكوباثولوجى الذى لحقها شرحا.

لكننى هنا أستشهد بالرخاوى شاعرا، وليس كاتبا لما هو سيكوباثولوجى شعرا، وفوق بين الحالين، علما بأن الشعر الذى اخترته للإستشهاد هنا لم ينشر أصلا:

1 – من قصيدة صليل[16]

ياليتنى طفوت دون وزن

ياليتنى عبرت نهر الحزن

من غير أ، يبتل طرفى فرقا

ياليت ليلى ما انجلى ولا عرفت شفرة الرموز والأجنة

يا سعد من لم يحمل الأمانة

يا ويل من صاحبها فى خدرها

أو عاش ملتفا بها، وحولها

يامقود الزمان لا تطلقنى

ثقيلة، ومرعبة:

قوله: كن

لو كان: بت بائسا

لو كان: طرت نورسا

لو كان: درت حول نفسى عدما

ب – من قصيدة “تسرب”[17]

أخبئها فى قوافى المراثى، لأغمد

سيف دنو الأجل

وأخجل أن تستبين الأمور، فأضبط فى حضنها الغانيه

فأزعم أنى انتبهت، استعدت،

استبقت، استبنت (إلى آخره)

فياليته ظل طى المحال

وياليتها أخطأتها النبال

وياليتنى أستطيب العمى

وأحسب أنى كنت فى محاولة استلهام حدسى الشعرى فى منطقة إيضاح بعض جوانب هذه القضية: علاقة الذنب باكتساب الوعى، والإرادة، وحرية فعل الخلق، كما يلى:

1 – علاقة اكتساب الوعى والهوية، بضرورة اختراق ألم المواجهة، ومعايشة مخاطر اقتحام المعرفة، وهذا هو ما يبعث على الشعور بما أسميته الذنب الوجودى، وكأنه مادام ثمة ألم (نهر الحزن)، ورعب (فرقا)، فثمة سبب يبررهما وكأنهما نشأ كعقاب على الرؤية (الوعى) والهوية، ولما كان أنه لا عقاب إلا على جريمة، فهو الذنب الوجودى.

ب – ثم الرغبة فى التراجع والنكوص (يا سعد من لم يحمل الأمانة).

ج- ثم ارتباط هذه المعاناة باكتساب الحرية والإرادة النافذة المبدعة (قولة: كن) بتنويعات الاختيارات المطروحة.

أما المقتطف من القصيدة الثانية، فهو يظهر ارتباط ما هو ذنب (فاضبط فى حضنها: الغانية = الحياة) بمحاولة الهرب فيما هو رؤية بديلة، تتضمن درجة من العقلنة (فأزعم أنى انتبهت …، …، …، الخ، وقبلها: أخبئها فى قوافى المراثى) كل ذلك هربا من مزيد من الوعى بحقيقة الوجود بما فى ذلك حدود الرحلة وطبيعة نهايتها (لأغمد سيف دنو الأجل) ثم ينتهى بعد ذلك إلى إعلان فشل كل هذا إلا على مستوى تمنى المستحيل.

وهذا أيضا مرتبط بما أسميناه الذنب الوجودى المرتبط باكتساب الوعى

10- النفرى:

أوقفنى فى الصفح الجميل

وقال لى:

لا ترجع إلى ذكر الذنب، فتذنب بذكر الرجوع

وقال لى

ذكر الذنب يستجرك إلى الوجد به

والوجد به يستجرك إلى العود فيه.

تحديدات خاتمة:

  • إن أصل الشعور بالذنب هو الانفصال عن الكل الهيلامى، وبالتالى اكتساب الوعى والإرادة والحرية، فالمسئولية الأكبر من القدرة، فهو فى هذا العمق شرف الوجود ذاته.
  • إن الذنب الأصلى: هو استمرار الوجود الفردى منفصلا عن الكل وعن الكون، كالجسم الغريب، دون محاولة استعادة الدوران فى الكل الهارمونى.
  • إن إسقاط القيم الأخلاقية والدينية السطحية على الشعور الأساسى بالمسئولية هو تشويه للشعور بالمسئولية وإعاقة لمحاولات التفرد فالحرية وإجهاض لمحاولات التواصل والعودة إلى التناسق مع الأصل على مستوى أعلى (الإيمان المبدع).
  • إن كثيرا من مظاهر الفشل فى الحياة يمكن إرجاعه إلى هذا الشعور الخفى بالذنب إذا ما تجمد فى صورته السلبية، يبطن ذلك: الخوف من النجاح، والخوف من السعادة أو الفرحة (اللهم اجعله خيرا) ولكن الأهم والاخطر هو الخوف من الإبداع، بما يصاحب كل ذلك من إعاقة حقيقية.
  • إن للشعور بالذنب – فى حدود – (أى دون مبالغة أو استغلال للسلطات الأعلى له لصالحها) وظيفته الإيجابية على مسيرة التطور، فهو على المستوى الوجودى يعلن الحرية والمسئولية، وهو على المستوى الأخلاقى والدينى يحد من الاندفاعة، إذ ينظم الخطو، ويسمح بالمراجعة والتدرج على مسار النمو.
  • إن الحل الحقيقى للشعور بالذنب لا يكون: بإخفائه، أو إنكاره، أو التبجح فى تعميمه، أو التكفك فى تعميق أسباب ظهوره لكنه فى التكامل فى الكل الجديد، أى رفض الوجود النيزكى الساقط، لحساب تحقيق عملية الجدل الخلاق، والإبداع الإيمانى المتجدد أى أن الذنب الحقيقى هو اللاهارمونى النافرالمستديم، والشعور بالذنب هو الوعى بهذا الانفصال عن الهارمونى الكونى، وهو فى مسيرة النمو – انفصال حتمى، وإنما ينشأ الشعور بالذنب حين يستقبل على أنه انفصال دائم، حتى يهدد بما يمكن أن نسميه “الوجود النيزكى” أو الجسم الغريب، فيكون الشعور بالذنب على هذا المستوى هو إدراك لخطورة استمرار الانفصال، ويكون التغلب ليه هو بمحاولة السعى إلى إعادة الهارمونى، ولكن ليس بالتراجع عن خطوة الوعى والاستقلال والحرية، وإنما بالجدل إلى مستوى أعلى من الهارمونى، الأمر الذى يصاحبه ألم يقظ، ومعاناة خلاقة.
  • ومن منطلق آخر فإنه من منظور تركيبى نجد أن التواجد البشرى يمر فى مراحل ضرورية تحتاج إلى ما هو انفصال فى اتصال، وتباعد للحوار، وتناقض للجدل، فالتركيب الواحدى هو بداية قبل التمايز، وهو غاية عند التكامل، لكنه أبدا ليس الطبيعة البشرية، وبالتالى فالتعدد يفصل الوحدات المكونة للكل عن بعضها البعض، ولكنه انفصال فى اتجاه بعضها البعض على مستوى آخر وبعلاقات أخرى، أما الانفصال المندفع نفورا مطلقا، والمتمادى إعاقة مشوهة، فهو البذرة الكامنة فى كل ما هو شعور بالذنب.

[1] – الوسيط، وأساس البلاغة، والمحيط ولسان العرب، كامثلة

[2] – أنظر بعد

[3] – سأورد هنا البعد السلوكى الظاهرى والبعد التركيبى الغائر، بما يترتب على أيهما من إثارة أو تبرير الشعور بالذنب، دون النظر إلى حقيقة ما إذا كان ذلك إثما يقترف أم لا.

[4] – انظر حلات وأحوال: الاكتئاب الحيوى النشط: حزن أم تفجر وعى ص: 85 وما بعدها.

[5] – يحيى الرخاوى 1978 “سر اللعبة “(ديوان) القاهرة دار الغد للثقافة والنشر:

اضغط تحلب

اترك تنضب

اضغط تحلب، اترك تنضب

لكن هل تنضب يوما دوما؟

فكرهت الحب، وقتلت البقرة”

[6] – المرجع السابق (قصيدة هربا من هربى فى وصف السيكوباتى) ومنها ايضا ما يصلح استشهادا الفقرة التالية فى المتن أما هنا:

وسرقت لا تتهمونى يا سادة، لم أفعل إلا ما يفعله من تدعون الساسة، أو أصحاب المال الكاسح، أو من حذقوا سر المهنة .. وكذبت، لا تتعجل فى حكمك، ولينظر أى منكم فى أوراقه، فى عقد زواج أو بحث علمى يترقى به، أو ينظر داخل نفسه إن كان أصيب ببعض الحكمة، وليخبرنى هل أنى وحدى الكذاب.

[7] – نفس المرجع، نفس الديوان فى وصف عصاب القهر.

[8] – نفس الديوان فى وصف الفصام

[9] – ما زالت اسرائيل تواصل تأثيم الغرب كله بل والعالم كله على ذنب وهمى، يبدو أنه لم يرتكب أصلا.

[10] – يحيى الرخاوى (1982) الانسان والتطور المجلد 3 العدد 4 ص 116 /117 / 118 (دراسة مطولة لهذه القصة).

[11] – جان بول سارتر، (بدون تاريخ) الذباب، تعريب محمد الطيب، القاهرة، الدار المصرية للطباعة والنشر والتوزيع.

[12] – نجيب سرور (1976) لزوم ما يلزم، القاهرة، دار الشعب. ص: 101 ، 102

[13] – صلاح جاهين (1977) ، ديوان قصاقيص ورق (فى الأعمال الكاملة) القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (ص 277 – 979) وقد أوردت هنا قصيدة برمتها، رغم أنها لم تتناول الشعور بالذنب مباشرة، إلا أن المرافعة كلها كانت تعلن الاتهام من جانب، وغموض التهمة من جانب، ودفاع الفطرة من جانب ثالث (أنظر المتن)

[14] – قارن هروب نجيب سرو إلى النسيان الذى أوردناه حالا.

[15] – أشير إلى معلومة هامة، وهى أننى كتبت قصيدة وهتفت بأعلى صمتى” شارحا سيكوباثولوجية الفصام، دون قراءة قصيدة المرافعة لجاهين، ثم التقيت بعد ذلك بهذه المقابلة التى يمكن من ناحية أن تعتبر تصديقا لما ذهبت إليه بالاتفاق Consensual validity كما يمكن أن تثبت المقابلة (لا التساوى) بين إبداع الفصامى للعدم على ناحية، وبين إبداع الحياة على الناحية الأخرى، مع فرض صدورهما من مصدر واحد، واخلاف المسار بعد ذلك.

[16] – لم تنشر 15 سبتمبر 1980

[17] – لم تنشر: 10 مايو 1986

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *