الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1987 / يوليو 1987- القدرات البصرية والجرافيكية عند المتخلف الموهوب

يوليو 1987- القدرات البصرية والجرافيكية عند المتخلف الموهوب

القدرات البصرية والجرافيكية عند المتخلف الموهوب[1]

كان من المفترض، وحتى وقت قريب، أن للنمو المعرفى cognitive development  علاقة وثيقة بمهارة الرسم وظل هذا الافتراض سائدا لزمن طويل الى أن حامت، حديثا، شكوك عديدة حول صحة ذلك الافتراض ومما تسبب فى اثارة هذه الشكوك ما اكتشفه جاردنر Gardner، وفريمان وكوكس Freeman & Cox، وثرستون Thurston  فى أثناء عملهم مع الأطفال والمتخلفين عقليا خاصة فيما يتعلق بعمليات الذكاء، والقدرة المعرفية، والذاكرة البصرية … الخ.

فقد وجد أيضا أن الأطفال أقل من 10 سنوات يمكنهم رسم وتصوير ما يرونه، ليس ما يعرفونه – كما كان مفترضا قبلا وأن موهبة الرسم يمكنها أن تصل، عند بعض الناس، الى مستوى عال من النمو، وليس ضروريا ان تصل القدرات المعرفية الأخرى الى نفس المستوى.

وعلى هذا، فان العلاقة المفترضة بين القدرات المعرفية ومهارة الرسم هى علاقة غير حقيقية تماما وقد وصف سيلفى 1983 selfe  مجموعة من الأطفال الذاتويين[2]Autistic استطاعوا الوصول الى مستوى ناضج وجيد فى الرسم رغم أن مناطق المعرفة الأخرى كانت تحت هذا المستوى بكثير.

وهناك أمثلة أخرى لمثل هذا التفوق والموهبة بين المتخلفين عقليا ومن تلك ما كتبه تريدجولد Tredgold عن حالة “قطط رافاييل” فقد كان رافاييل أحد المتخلفين العقليين الا أن قدرته على رسم القطط بلغت براعة وموهبة فذة، وقد اقتنى الملك جورج الخامس احدى لوحاته.

كما قام سيلفى selfe بدراسة أخرى مقارنة سنة 1977، وجد منها أن الأطفال الذاتويين أكثر تفوقا من الأطفال العاديين من نفس السن فى استعمال النسب الحقيقية للأشكال، وتمثيل أبعاد الشكل الثلاثة، والتصغير، ورسم الأشكال المتداخلة.

وقد أثار هذا الأمر سؤالا هاما، هو: هل امتلك هؤلاء الأطفال موهبة فنية معينة مستقلة عن الذكاء، أم تمكنوا من تنمية ما يطلق عليه الذكاء الفنى الى هذا المستوى العالى؟

وفى حالة انهم قاموا بتنمية ذكاؤهم الفنى، الا نتوقع أن ينعكس هذا الذكاء الفنى على وظائف أخرى تتعلق بالرسم كذاكره البصرية، والذاكرة للشكلMemory of form ، وعلى قدرة استعمال المعجم البصرى الداخلى؟

ومما هو جدير بالذكر الآن، ان جاردنر قام بدراسة اعمال مايكل انجلو المبكرة، ولاحظ النمو المبكر لذاكرته البصرية.

وهكذا تستنتج هذه الدراسة أن موهبة الرسم هى موهبة مستقلة عن القدرات المعرفية والذكاء، وأن المتخلف الموهوب فنيا يمتلك ذاكرة بصرية فائقة ونظام معجمى فائق للصور، وأن التفوق الفنى للمتخلف الموهوب، يعتمد فى الاساس على سهولة المدخل الى قاموسهم البصرى الداخلى.

التعليق:

نحب أن نذكر القارئ ابتداء ببعض المعلومات الأساسية:

أولا: ان كلمة المتخلف عقليا Mentally retarded  تطلق عادة على نقص القدرات المعرفية منذ الولادة أو من سن مبكرة، والتساؤل يدور دائما حول ماهية القدرات المعرفية هذه، وهل الذاكرة منها اساسا ام بشكل ثانوى أو هى أرضية للمعرفة، أو مخزن ابجديتها، وهل الذاكرة البصرية بالذات هى احدى صور الذاكرة عامة أم أنها سمة مستقلة.

وهذا البحث يجيب عن بعض ذلك.

ثانيا: تعبير الطفل “الذاتوى” autistic child  يشير اساسا الى زملة الذاتوية الرضيعية Infantile autism  وهو مرض وصف فى الرضع اساسا قبل سن الثانية حيث ينغلق الرضيع على نفسه، يدور حولها، ويرتبط بالأشياء (أو أجزاء الأشياء) دون الأشخاص، ورغم تخلف مظاهر نموه فأن نظراته تتصف أحيانا بذكاء خاطف، كذلك يمكن ان ننتبه الى بعض بؤر الذكاء المفرقة هنا وهناك.

وبالقياس الكمى الكلى، قد لا يمكن التفرقة فى هذه السن المبكرة بين المتخلف عقليا وبين الطفل الذاتوى.

ثالثا: أن اكتشاف تميز بعض القدرات العقلية عند من يعتبرون متخلفين عقليا هو قديم، وقد أطلق على هؤلاء اسم Idiot savaut  والترجمة الحرفية لهذا التعبير هو “الأبله المعارف” وقد وصف احد هؤلاء ممن كانت عنده ذاكرة موسيقية خاصة وفائقة، حتى انه كان يستمع الى سيمفونية للمرة الأولى، فيعيدها مباشرة صغيرا بفمه، فاذا صفق له الحاضرون شاركهم التصفيق ابتهاجا بما لا يدرى تحديدا بشكل يؤكد مدى تخلفه.

رابعا: ان التفرقة بين التخلف العقلى، وبين الذاتوية الطفلية، قد يكون المدخل الى فهم هذه القدرات الخاصة المتميزة بالمعنى التالى:

ان ثمة فرق نقص القدرات الأساسى، وبين تجمد النمو النوعى، وكأن “النقص” هو انحطاط اساسى فى “كم” اللبنات الأساسية اللازمة للنشاط المعرفى فى كل نواحيه، بحيث أن التدريب لا يمكن ان يزيد النقص، وان كان يمكن “توظيف” الموجود.

أما تجمد النمو، فأنه أشبه بالقدرات “المحفوظة” (أو المثلجة) لكن التجميد لا يتم فى كل الاجزاء بنفس الدرجة فيتبقى منطقة هنا ومساحة هناك تنمو نموها الطبيعى بل لعلها تنمو أكثر من الطبيعى لأنها “هى” التى تنمو دون غيرها المجمد بجوارها فاذا قسنا الذكاء العلم (أنظر الغلاف) فاننا نجد النقص، مثله مثل التجمد فى الكم العام، أى أن ثمة نقصا شاملا يدرج الاثنين تحت اسم “التخلف العقلى” لكننا نفترض أن هذه المساحات التى فرت من التجمد النموى بطريقة أو بأخرى هى

أولا: غير قابلة للقياس بالطرق العادية، ثم أنها ثانيا: غير “مفيدة” للتحصيل العادى والتكيف العادى ولعل أغلب من يسمى “المتخلف الموهوب” هو من هذا النوع الأخير.

خامسا: يبدو أن القدرة البصرية والذاكرة الصرية، لها وضع خاص فى مسار النمو فى حالة “التجمد” هذه، اذ أنها تحافظ على العلاقة المباشرة بالاشياء (دون الاشخاص، أو أكثر من الأشخاص) ذلك أن الاشياء قد لا تمثل تهديدا (علاقاتيا) فى حين أن الأشخاص بما يمثلونه قد يكونون هم (أو استقبالهم) هو أصل التجمد.

ولعل الاهتمام بهذا الجانب المعرفى (البصرى) يذكرنا باستعمال كلمات رؤية، ورؤيا بمعانى معرفية وابداعية وابداعية فائقة.

ولعل حدس بعض المتخلفين الذى يرصد فى بعض مناطقنا الريفية حيث يتبركون به، ويثقون فى نبوءاته (العشوائية) لعل كل ذلك يرجع الى الثقة فى هذا الطريق المعرفى الخاص.

سادسا: قد يجدر بنا أيضا أن نفترض أن طريقتنا العصرية فى الحياة، تهتم بالاغارة “السمعية الرمزية” على العقل البشرى، فتخضع عقولنا منذ الولادة الى كم هائل من اسلاك الألفاظ الشائكة، وأسمنت الرموز المسلحة، على حساب المباشرة الحسية البصرية خاصة (وغيرها كذلك)، وعلى هذا الافتراضة الناتجة عن “التجمد” أكثر من النقص) يكون له فضل الانطلاق البصرى (قدرة وذاكرة) دون قيود معجم الألفاظ / الرموز الساحقة.

سابعا: أن هذا البحث قد قدم لنا جانبا من “الذكاء الفنى” فى شكله الابداعى الظاهر، وهذا لا يحتاج فقط الى ذاكرة بصرية، وانما أيضا الى مهارة يدوية قادرة على التعبير، بالاضافة الى قدرة ابداعية على الاصالة والتوليف، وهذا كله مرتبط بعضه ببعض، لكن يجدر بنا أن نفترض هذه العلاقة البصرية الطازجة المتجددة فى الأطفال (والمتخلفين) خاصة حتى ولو لم يظهر هذا فى انتاج فنى مباشر، وهذا مدخل هام فى تنمية القدرات التى فرت من هجمة التجميد، أو القدرات التى حافظت على العلاقة بالعالم الخارجى (أى البصرية).

الخلاصة:

وهكذا نستطيع أن نخلص الى ضرورة الانتباه ليس فقط الى تمييز فئات القصور العقلى الى تصور وتجمد، وليس فقط الى التقاط تفوق خاص فى جانب بذاته، وانما أيضا الى طبيعة تنمية عقلنا المعاصر، والى دور الفن التشكيلى فى تكامل نمو البشر، والى انطفاء علاقتنا “البصرية” بالطبيعة والعالم نتيجة لوصاية الرموز واعارة المؤثرات المصطنعة والمتلاحقة.

[1]- Dr. N O’connor and hermelin visual and graphic abilities of the idiot savant artist

Psycmological medicine, 1987, 17, 79-90

Idio savanr

[2] –  انظر التعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *