الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1987 / يوليو 1987- حالات وأحوال: صديقان.. وصديقان

يوليو 1987- حالات وأحوال: صديقان.. وصديقان

حالات وأحوال

صديقان .. وصديقان

1 – صديقان:

هو شاب فى الخامسة والعشرون من عمره، دعونا نسميه (م ..) حضر مترددا، لكنه بمجرد أن استقر جالسا حتى فاض بالحيوية والحياء معا، كان طيبا طيبة قوية، بادى الرجولة، متوسط الطول والوزن، متناسق الجسم، محدد التقاطيع، يميل الى السمرة المصرية الهادئة.

وبعد ان اعتذر عما سيقوله (قبل أن يقوله)، كذلك اعتذر لأنه “كان مفروضا أن يأتى من زمان”، كذلك سأل عن الوقت المسموح له للكشف.

بدأ يحكى[1] أن:

والده توفى وهو بعد طفل (11 سنة)، ورغم أنه أصغر اخوته، الا أن والدته أولا، ثم بقية الأسرة، راحوا يعاملونه باحترام شديد وتقدير زائد، رغم ترتيبه الأصغر – باعتبار انه اعقل اخوته، وأكثرهم اتزانا، والتزاما، فلبس الدور نصف فخور، ونصف متورط، ونشأ متدينا، مجتهدا فى دراسته، (حتى التفوق)، راعيا لوالدته واخوته، مقلا فى صداقاته، لكنه شديد الاخلاص فيها، ولم يشك من أى حرمان ظاهر، أو اضطراب معوق حتى تخرج، ودخل الجيش مجندا، وسرعان ما تكيف لواجباته، ومشاركة زملائه، وطاعة رؤسائه .. الخ، وهو لم يعلن فى مراهقته من حرمان عاطفى ظاهر، وان كان قد جرى عليه ما يجرى على من مثله من خيالات عابرة، وممارسات “ذاتية” (استمنائية) بسيطة، مع التزامه الدينى والخلقى على وجه طيب.

الى هنا والمسألة لا تشير الى أى احتمال آخر: ثم ان التاريخ الأسرى سلبى، والمجتمع بخير (وعمل لهم اللازم).

لكنه ذات يوم:

“نعم ذات يوم، راح يزور صديقا له أثناء اجازته المحدودة من الجيش، وهو صديق لا يعرف عنه صاحبنا هذا الا كل خير، وهو ليس صديقا حميما، ولا هو غير حميم، فتبادلا الحديث، وتسامرا، وتوادا بما يحدث بين الأصدقاء بمنتهى العادية والبساطة، لكن صاحبنا (م ….) أخذ راحته فاستلقى على السرير على وجهه وهو لم ينم، ولم يغالبه نوم، كان فى كامل يقظته، ولم يكن يخطر على باله بأى صورة يذكرها، ولأى احتمال ضئيل ما حدث بعد، أن صديقه (على حد حكايته)، ودون سابق تمهيد أو تلميح، قام فربت عليه وهو مستلق على وجهه، ثم، ودون تلكؤ، كان ما كان، لم يكن فعلا كاملا، لكنه تم بدون ملابس، واستمنى (م …..) مستسلما وملتذا غاية اللذة، بحسب قوله الصادق وهو يحكى للطبيب أثناء الاستشارة الحالية (بعد ثلاث سنوات من الحادث).

حكى لى صاحبنا حكايته وهو مندهش فعلا، رغم مرور هذه السنوات الثلاث، وقد صدقته فورا بكل امانة وانصات، ولم أملك الا أن أحترم ذلك الألم المطل من بعيد وسط نبرات الصدق والدهشة، ثم استطرد فاذا للحكاية (الحادثة / العارضة / العرض) بقية:

“ذهب (م ….) الى بيته بعد الحادثة، وكان الشعور الغالب هو الدهشة، والاحتجاج، والانهاء، ولكن بأقل درجة من مبالغات الذنب والخجل المعجز، وبعد يوم واحد، ذهب صديقه هذا اليه يزوره، ولم يحدثه فيما حدث، ولم يعتذر عما حدث، فأوضح له (م …) دهشته، وأعلن رفضه، وحذره، وأن هذا الذى حدث غير مفهوم أصلا، وسواء كان مفهوما أو غير مفهوم، فهو ماضى وانتهى”.

وقد حاولت عند هذه النقطة أن أسأل (م ….) عن تفسيره لعدم الشعور بالذنب بدرجة مناسبة، فأجاب بأنه شعر بأن ما حدث هو خطأ تماما، لكنه لم يطل فى اللوم، ولم يهول المسألة، على اعتبار أنها أشبه بالقضاء العابر، منها بالاثم الذى يحتاج معه الى وقفة وندامة ….. ولكن للحكاية بقية:

“فحين اطمأن (م …) الى أن صاحبه قد أدرك موقفه بوضوح كاف، قبل أن يصحبه لنزهة عادية، ولم يتحدثا خلالها ثانية فيما حدث، ومضى الوقت والسير عاديين، حتى وصلا الى المنزل، ودخلا (عادى جدا)، وبعد فترة لم تطل كثيرا، تكرر ما حدث فى المرة الاولى، بنفس الصورة، وبنفس الصمت، وبنفس عدم التمهيد، ونفس اللذة، ونفس النهاية كذلك تكررت نفس المشاعر التى حدثت عقب المقابلة الأولى مع زيادة الجرعة، من رفض، وتنبه، وحذر، مع الفارق أنه (م …) قرر بحسم واضح ألا يترك للصدفة أى ثقب ابرة، فحاول أن يتجنب صاحبه مدة أطول أطول، وحين قابله لم يطرقا الموضوع أصلا وكأنهما اتفقا على ذلك”.

ولم يذهب (م…) ثانية الى منزل صديقه، ولم تتكرر الحادثة ولا أى صورة منها، ولا أى مشاعر قريبة، أو تغير سلوكى مريب، أو حتى أحلام دالة بعد ذلك، لا مع صديقه، ولا مع غيره، ولم تتوقف ذاكرته عندما حدث سلبا (انكارا = نسيانا = تحويرا) ولا ايجابا اجترارا (استعادة مفرطة – تأنيبا)، وحين ذهب بعد ذلك الى صديقه، لم يحدث شئ، ولم يتحدثا فى شئ له علاقة بالماضى، ومضت الأمور عادية كما تمضى مع الأصدقاء دون أدنى شائبة جديدة.

وتمر سنة وسنة وسنة، ثم جاء (م….) يستشيرنى.

وقد تعجبت لتوقيت الاستشارة (بعد ثلاث سنوات)، وأخذت أبحث عن الجديد الذى جد حتى يدفعه للاستشارة (الآن)، وقد مضى ما كان دون آثار تقريبا، ثم انى، حتى ذلك الحين، لم أجد لافتة تشخيصية جاهزة أعلقها على حالته لعلها تريحنى من التعاطف والدهشة اللذان صاحبا تقبلى له، تصديقى اياه.

وحين كررت سؤالى: اذن ما الذى جاء بك الآن، وقد مضى على ذلك كل ما مضى، أجابنى أن ثمة حزن داخلى يهب عليه أكثر فأكثر، وهو غير متعلق مباشرة بالحادث، وأنه تساوره مشاعر عدم ثقة مفاجئة، لاحظ أنها تزيد بالأيام رغم توقعه عكس ذلك لزيادة فرص اختلاطه بالعالم وزيادة خبراته وعلاقاته، ومع ذلك لم يقنعنى شئ من هذا بأن الأعراض وصلت من الحدة بما يسمح لى أن أطلق على الحالة اسم “الاكتئاب” مثلا، فانتقلت الى تساؤل موضوعى محدد: “اذن، ما الخدمة التى تتصور أنى أستطيع أن أؤديها لك؟” فأجاب بعد أن التقط تصديقى وتقبلى وبعض دهشتى، أنه لا يعرف، وأضاف أنه يبدو أنى أديت له ما أراد قبل أن نبدأ، وعاد يؤكد وكأنه يحدث نفسه أنه لم يكن يريد غير “ذلك”، وأنه لا يعنى أن مثله مثل الذى راح يجلس على كرسى للاعتراف ليحصل على غفران ما لكنه عبر عن طمأنينته الأكيدة التى سمحت أن يقرر أن يواصل ما يمكن، مما لا يعرف، علاجا أو تفهما أو كيفما يكون اسمه، “وحده” أو “معى” كما أرى فلم أرتح أن تكون المقابلة الطبية لها مواصفات اشبه ما تكون بما يمكن أن يسمى “الصدفة السرية”، فقررت دون داع ظاهر، ودون حماس – أن يتردد على أحد زملائى الذين يساعدونى، مرة أسبوعيا، شارحا له أننا نريد سويا أن نتخطى قانون الصدفة، رغم هدوء معالمها، الى مزيد من الوعى فالارادة، واننا لا نقصد مباشرة البحث عن سبب خاص كما أننى لا أشك فى أن الموضوع ،القديم قد انتهى، لكنى حريص على ألا أطمئن الى كل هذه الصدف حسنة كانت أم غير ذلك.

انتهت الحالة الأولى سردا، لكنها لم تنته اثارة للنظر فى “الأحوال” المحيطة:

1 – فهذا الشاب الكريم، منذ دخوله على، ومن أول وهله كان كما وصفت أبعد ما يكون عن شبهة سلوك، أو مظهر، أو ملبس، أو صوت يوحى بأى درجة من الليونة أو الأنوثة أو الشذوذ

2 – وهذه الخبرة التى انسابت بطريقة غير مألوفة، ثم انحسرت بهدوء غريب، قد حدثت فى سن متأخرة، فقد يحدث مثل ذلك بصورة أو بأخرى فى فترة الطفولة أثناء الممارسات الاستكشافية، أو التجريبية وقد تحدث مثل هذه الخبرات أيضا بالتبادل أثناء لهو المراهقة، ثم تختفى بتقدم السن ولكن أن تحدث هكذا، ولأول مرة فى سن الثانية والعشرين، فهذا يحتاج الى بحث متأن.

3 – ثم حدثت “فجأة”، كأنها القضاء والقدر فعلا، بلا تمهيد، ولا عاطفة خاصة عارمة لا تقاوم (حتى انقلبت الصداقة الحميمة الى التحام جسدى مثلا)، فلم يبلغنى أن ثمة تعلقا مفرطا كان بينهما لكنها كانت أقرب إلى الصداقة العابرة، ومع ذلك حدث ما حدث.

4 – ثم انها حدثت فى حالة من الوعى كاملة الافاقة، فأحيانا ما نسمع عن مثل ذلك بين بعض الأصدقاء، اذا تصادف نومهما مع بعضهما فى سرير واحد، واحدهما، أو كلاهما بين النوم واليقظة أو حتى بقول أحدهما أنه كان فى عز النوم لكننا هنا فى حالة (م ….) كان الوعى كاملا، والصدق على حد ما ذكرنا كاملا.

5 – ثم ان (م …) أقر دون ابطاء (فى المرتين: المرة تلو المرة) انه شعر بلذة كاملة وبدا أنه تقبل هذا الشعور دون أن يتراجع عنه، أو يتبرأ منه، أو يلغيه، أو يقلبه الى عكسه (احيانا ما يستبدل الشعور بالرغبة الى الشعور بالقئ ولو بأثر رجعى، كلما تذكر الحادثة، أو قابل المثير لكن لا هذا، ولا مثله قد حدث هنا).

6 – ثم انه رغم تقبله لهذه اللذة هكذا، لم يفتح الباب للتمادى فى طلبها (من هذا = “من ده”) لا بشكل مباشر، ولا بشكل غير مباشر.

7 – كذلك كان تفاعله غير مألوف من شاب ملتزم متدين حكيم، اذ غلبت عليه مشاعر الدهشة والألم اليقظ أكثر من مشاعر الندم والذنب وعقاب الذات وما شابه، مما يتوقع هنا من شاب متدين.

8 – ثم ان ما سبق هذه الخبرة كان غريبا، فى تسحبه سهلا وانتهائه هادئا، فلم تحدث مقاومة متوقعة، أو صراع منبه، أو دفع مؤجل، أو نقاش كلامى كان خليقا أن يوقظ التراجع أو أن يوثق الموافقة الواعية، وقد تكرر ذلك، وان كان تفسيره فى المرة الثانية أصعب لأن عنصر المفاجأة اختفى وكان الحذر أوجب، والرفض أسهل وأمكن، لكن شيئا من ذلك لم يحدث.

9 – اذن فقد تمت الحادثة الحادثتين فى جو من الصمت الكلامى التام، وكأن عدم الكلام أصلا، وتماما، قد سمحا بتواصل آخر (انظر بعد).

10 – ونعود لنكرر غرابة عدم ظهور الشعور بالذنب، والندم، وتأنيب الذات، والاستغفار، وما شابه (رغم الالتزام الدينى الفعلى)

11 – وأخيرا، فما الذى صبر (م ….) ثلاثة أعوام كاملة قبل أن يذهب للطبيب (علما بأنه لم يحكها لمخلوق آخر)، وما الذى دفعه أخيرا (ولم يجد جديد) حتى يذهب للطبيب؟

التعليق والرؤية:

أولا: سنقف بهذه الحالة هنا، أى لن نتتبعها بعد ذلك لأسباب لا مجال لذكرها، فقط سوف نؤكد أنه لا شئ قد حدث أو تبين مما يمكن أن يغير ما سنعرضه من فروض هنا، بمعنى أن الفروض المطروحة والتفسيرات المحتملة، من خلال هذه “اللقطة المحدودة” مازالت هى المحتملة دون غيرها.

ثانيا: لابد أن ننتبه الى ضرورة أخذ كلام المريض “كما هو، بما هو” ابتداء، فلا يوجد أى داع لافتراض غياب الوعى كليا أو جزئيا لتفسير ما حدث، ولا يوجد أى مبرر (تحليلى مثلا) يجعلنا نندفع للبحث، فالعثور، قسرا، على شعور بالذنب خفى، أو صراع مؤجل، أو ما شابه، بمعنى أنه لا ينبغى أن يستدرجنا “الشائع” و “الغالب” حتى لو صح، لا ينبغ أن يستدرجنا بعيدا عن تلقى الخبرات الطازجة بما هى، لا بما ينبغى أن تكون، أو نتوقع، على الأقل نتخذ هذا الموقف المستكشف فى البداية، ثم يتعدل ان لزم حسب ما يضاف من معلومات لاحقة.

ثالثا: ان عدم ظهور هذه الخبرة، أو ما يرمز اليها، أو ما يكافئها، الحاحا فى الأحلام التالية، وعدم وجود ما يشير الى احتمالها فى الأحلام السابقة، قد يدل على أن جذورها لم تكن قابعة تحت كبت خاص، يجعلها تلح فى أن تأخذ مسار الحلم للتعبير كما نتوقع فى مثل هذه الأحوال، وذلك بعد أن نستبعد الكبت المفرط القاهر ليلا ونهارا من واقع “سهولة ما حدث” و “بوعى هادئ”.

التفسير والفروض:

من واقع المعلومات المتاحة فى هذه المرحلة، نستطيع أن نتقدم خطوة أخرى نضع من خلالها فروضا محتملة لعلها تفسر قليلا أو كثيرا بعض ما لم نألفه فى مثل هذه الحالة، فنقول:

أولا: افتراض مبدئى عام:

لم لا يكون ما حدث، هو حادث متكرر؟ اكتر تكرارا من القصص التى أشاعها التحليل النفسى، وأكثر حدوثا من المعلومات التى تملأ العيادات كلاما. أى أنه أقرب الى ما هو طبيعى، وعابر، وبالتالى لم يظهر فى العيادات، ولم يحتج الى تحليل، ولصق لافتة شذوذ، وعلاج، ودمغ أخلاقى وما شابه فتكون الغرابة الوحيدة هنا، بناء على هذا الفرض، هى أنه أعلن، والمفرض أنه ما دام بهذا الانسياب العابر، دون آثار، الا يعلن ولا يعرف أصلا.

وقد يؤيد هذا الفرض عجز الطبيب على أن يضع لهذا الشاب (م …. لافته تشخيصية، وفى نفس الوقت عجز المنطق البسيط أن يصفه بصفه أ خلاقية رافضة أو دامغة.

ثانيا: الفرض التركيبى Structural hypothesis ونعنى به عرض تنظيمات الشخصية عرضا مستعرضا بحسب علاقات قوى المستويات ببعضها بما يسمح بحدوث ما حدث.

فالظاهر هنا من تركيب هذا المرض أن التنظيم الوالدى قوى ومسيطر، لكنها سيطرة مقرونة بسماح وموافقة من التنظيمات الطفلية، (والغريزية)، أى أن تماسك الشخصية وقوتها (كما هو ظاهر فى وصفها) ليس نتيجة حكمة ضابطة زائفة، أو قهر شامل خائف، وانما هو نتيجة ضبط محسوب، وقبول دور ناجح (نظر بعد: التفسير الطولى).

وبقدر سماح التنظيم “الطفلى” (والغريزى) لهذا التنظيم “الوالدى” أن يلعب دوره فى سلاسة، كان ثمة تصالح ضمنى أكد ايجابيات هذا الفتى الخلقية والوجدانية معا، فقد تم بناء عن ذلك سماح مقابل، وان كان محدودا “بمرة” “فمرة” (الحادثة الأولى، فالثانية)، فأخذ التنظيم (الطفلى) الغريزى حقه “فجأة” ، وبسماح محدود، ولأنه قريب من السطح، ولأنه يبدو أن التنظيم الوالدى قد سمح بما سمح به فى حدود التجربة، وقد تم أراد فعلا فى النهاية، بأن عزف (م….) عن التمادى – وبهدوء بعد مرتين، ليس الا، وبلا رجعة.

مما يؤكد هذا الفرض أيضا أن السماح تم دون تدخل فى كم أو نوع اللذة التى تحققت (دون أن ينكرها، أو يشوهها، أو يلغيها، أو يعكسها) وكأن المحتوى اللذى (نسبة الى اللذة) كان قريبا من سطح قوى، لكنه سطح مسامى التكوين، مرن الحركة فلما فاض المحتوى، “نتح” مرة، غمرة ثم وجد أن المسألة – هكذا – “ليست هى”، فتراجع.

ومن خلال هذا الفرض – ان صح – نستطيع أن نقول: انه ليس كل تركيب شخصى هو صراع مستميت بالضرورة، أو هو قهر من جانب وكسر واختراق مباشر أو غير مباشر من جانب آخر، الى غير ذلك مما يغلب على تصوير الصراع.

وفى نفس الوقت نحن لا نريد أن نبسط الأمر حتى نصور، فنتصور، أن هذا السماح ممكن فى كثير من نقاد التحليل النفسى من أنه لا ينبغى تعميم معطيات التحليل النفسى النابع من العيادات فى ظروف شاذة، لا ينبغى تعميمه على السواء بلا تحفظ.

الفرض الثانى: التفسير الطولى:

اذا صح الفرض الأول، أو حتى اذا لم يصح، فاننا نلاحظ أن هذا الفتى قد لبس دور الوالد مبكرا، عقب وفاته وهو بعد صبى، ولا نعرف لماذا اختارته امه للقيام بهذا الدور رغم أنه اصغر اخوته، الا أن المهم هنا هو أنه قبل هذا الدور فعلا، بل يبدو انه فرح به فلم يسئ استعماله، بل ارضاه فرضى به، وبالتالى لم يتم هذا على حساب اخوته، ولا حساب قهر ذاته الداخلية بشكل مفرط، الا أنه تم على حساب تأجيل طفولته (ولا نقول الغاءها)، فلم يتمتع بحقه فى الاعتمادية، ولا فى اللذة الطفلية الرحبة، ولا فى الاستكشاف الحسى أو الجنسى العابر، ومع أنه لم يتمتع بكل هذا، فأنه لم تقبله فى نفسه، لأنه قبل الدور الذى فرض عليه عن طيب خاطر، كذلك لم يجرمه والد حقيقى قسرا وقهرا من الخارج بل أنه (م …) هو الذى حرم نفسه، فقبل الحرمان بروح سمحة، لكن الى حين، وبالتالى فقد قفز من ورائه بمجرد أن أتيحت له فرصة عابرة لنكوص مؤقت ومحدود، وكأن هذه التجربة العابرة التى كان يمكن أن تتم وتمضى فى الطفولة والمراهقة، تأخرت كل هذه السنين، فلما أتيحت لها الفرصة، تمت ومضت، هكذا ببساطه: فى مرة، مرة، وكفى.

فالكبت الذى تم منذ لبس هذا الفتى دور الوالد، كان كبتا ناجحا وحقيقيا، لكنه متوسط أو خفيف ومتاهى، لذلك ما ان أتيحت الفرصة لظهور ما كبت، عامة وخاصة، بما التحمت فيه الحاجة الى الخضوع والحماية، بلذة “التلقى الجنسى”، حتى ظهر فى هذه الصورة الجنسية العابرة، ونعيد التعبير السابق هنا بألفاظ أخرى فنقول: كأن جدار الكبت كان مساميا مرنا، سمع بهذا النتح مرة فمره، ثم عاد فالتحم أكثر حيوية وأقدر على الضبط بالمرونة الأكثر من النتح، أى أن التجربتين أكدتا على صفة حيوية المرونة على حساب نفاذية النتح، ان صح التعبير، فمضى بعد ذلك هذه السنوات دون قصص معادة عن شعور بالذنب، أو اعاقة نمو، أو تبلد وجدان، حتى ألحت الوحدة، وتراكم الألم وأطلت الدهشة من جديد، فجاء يأتنس، جاء الطبيب يأتنسن فأتنس!!!

ولتوضيح ذلك وهو يحتاج الى توضيح نشرح عكسه: فلو أن جدار الكبت كان صلبا ومصقولا وجامدا، لكنه من مادة قابلة للكسر أو للشرخ تحت ضغط ما، اذن لظلت القشرة الأخلاقية ظاهرة على حساب النبض الوجدانى، والتصدع الجدار أو انبعج تحت ضغط المكبوت قسرا وعنفا، أو لأخرج من بعض ثقوبه مادة بديلة ومحددة مثل الأعراض المرضية الصريحة لا الممارسة العابرة الاستكشافية أو التجريبية فهذه الحالة (م …..) انما اخرجت ما هناك، كما هو، لا بديلاعنه. وبالتالى فقد انقضت الخبرة فى سلام نسبى، ولم تترك آثارا باقية، لأن (م….) لم يضطر الى استعمال ميكانزمات مساعدة لاخراج أعراض بديلة، كذلك هو لم يتمادى فى كبت أعمى طول الوقت بما كان يحتمل أن ينتج عنه نوع أو آخر من اضطرابات الشخصية.

تحذير:

لأن هذا الفرض وذاك يبدو غير مألوف، رغم احتمال أن يكون أكثر تواترا فى حالات السواء والسواء الفائق ولأن هذه الخبرة وأمثالها مرفوضا اخلاقيا (ودينيا) رفضا تشنجيا وحاسما، فقد يكون مناسبا أن أنبه الى أن قبولى لهذا النوع من الكبت المسامى porous or permeable repression  والمرن، لا يعنى – بالضرورة – أن النمو السليم لا يتم الا بهذه الممارسات غير المألوفة، والخطرة، ذلك لأنه اذا كانت هذه الحادثة قد مرت بسلام نسبى عند (م …..) لظروف خاصة جدا بهذا الشاب، فان غيره لو مر بها فى ظروف أخرى، وبتركيب شخصية آخر فانه: (أ) قد يتمادى فيصبح شاذا جنسيا، (ب) قد يبالغ فى التراجع مع الشعور بالذنب وما يصاحبه من فرط كبت بما قد يترتب عليه من اكتئاب صريح شديد، (جـ) قد ينكرها بكبت آخر، ونسيان مطلق، وربما باستعمال ميكانزمات غائرة مساعدة وملحة (جاثمة) حتى يشوه نمط الشخصية، ويوقف نموها تماما بما ينتج عنه اضطراب شخصية كما ذكرنا.

لذلك – وغيره – نقول، ان دعوتنا لقبول هذه الفروض، هى دعوة لقبول فكرة احتمال تركيب الشخصية الأسهل والأكثر نتحا، والأكثر مرونة، بما لا نراه عادة فى العيادات النفسية، بما يترتب عليه من السماح بقبول ما نعتبره شاذا ومحرما كجزء لا يتجزأ من تركيبنا حتما، وليكن قريبا، وفى المتناول، وتحت ضبط الوعى الهادئ، بدلا من أن يختفى ليضغط ويشوه.

توضيح لازم:

لكن الا يلاحظ القارئ معنا أننا نتكلم عن خبرة جنسية مثلية باعتبارها جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، تظهر أو لا تظهر، هذا أمر آخر، ويذكرنا هذا فوراً بانجازات فرويد الدقيقة فى هذه المنطقة، فرغم اختلافنا معه فى كثير من الوجوه، الا أنه لمس بوعيه الفائق مناطق وحقائق لمسا مضيئا يحتاج الى نظر واعتبار والسؤال الذى تطرحه هذه الحالة (وما ذهب اليه فرويد) يقول: “هل من الضرورى – ليكتمل الانسان نموا حقيقيا أن يمر الفرد بهذه المرحلة (الجنسية المثلية) واعيابها، وبلغة جنسية صريحة؟ والاجابة صعبة فعلا، فالتعميم مرفوض عادة لكننا نقول ان الجنس لا يكون جنسا صريحا “هكذا” الا اذا انفصل عن بقية هارمونية الوجود وقد تكون الجنسية المثلية هى تعبير حسى الذى للحاجة الى “دعم” الآخر (القوى)، والاحتماء به، والخضوع له. وهذا كله يتحقق بالتلقى الجنسى، وبغيره، وعلى ذلك فان “الحاجة الى الخضوع” التى تأخذ هذا الشكل الجنسى (التلقى) أو غيره هى التى ينبغى احترامها كمرحلة، وكدور ينبغى أن يأخذ حقه فى دورات حياتنا اليومية، جنسا أو غير جنس، وتناوب “الحاجة الى الخضوع” مع “الحاجة الى السيطرة” وهو تناوب طبيعى مثل تناوب الليل والنهار، و “الحاجة الى الخضوع” لا تكون بالضرورة لنفس الجنس، بل قد تكون من رجل لامرأة.

                  (يتمنى عمر بن أبى ربيعة أن تستبد به “هند” وهو يقول:

واستبدت مرة واحدة انما العاجز من لايستبد)

ولا داعى لتسمية هذه الرغبة بأسماء جنسية مثل الماسوشية Masochism  أو غير ذلك، فأن الحاجة الى الخضوع والاحتماء هى حاجة طفلية اساسا، وقد تأخذ شكل الجنسية المثلية، اذ التحمت مع الغريزة الجنسية وكبتت معها اصلا وتماما، ثم ظهرتا معاً فى ممارسة جنسية صريحة.

أى أن الانسان – لكى يكتمل نموه – لابد سيمر بشكل أو بآخر بهذه “الحاجة الخضوع”، بأى درجة من الوضوح، وفى دائرة الوعى اليقظ، وعليه أن يقبلها ولو من حيث المبدأ، ولو أخذت شكل جنسية مثلية، وكأننا نستطيع أن نتمادى فنقول ان من لم يمر بهذه المرحلة، ويرى هذه الحاجة، ويتقبلها واعيا بها، متمثلا اياها، ثم متجاوزا لها، فهو لا يسير على الطريق الأمثل للتكامل البشرى الحقيقى، ونحن لا نستثنى من ذلك الطبيب النفسى، بل ان الطبيب لا يستطيع أن يحسن الاستثماع والسماح، والتقبل، والدعم، والاحترام، لمثل (م…..) ما لم يكن كل هذا يتم من موقع التقمص والمواكبة (فأن ما يسرى على مريضه، يسرى عليه)، وليس من موقع الغفران وقبول التوبة (من اعلى)، وهذا هو الفرق بين دور الطبيب النفسى النامى، وبين كرسى الاعتراف المطهر والغافر.

وصديقان آخران

بعد مقابلتى لحالة (م ….) وأنا بعد مندهش، مسامح، متأمل، متعلم، كنت أشارك بعض زملائى الاجتماع الأسبوعى  للاشراف على جلسات العلاج الفنسى، فذكر أحد الزملاء الأصغر حالة لديه كان يحتاج فيها لرأى المجتمعين، فذكرتنى – رغم الاختلاف الشديد – بحالة (م ….) وصديقه، من حيث أصالة وتواتر “الحاجة الى الخضوع” فى صورتها الجنسية المثلية السلبية مع اختلاف المظاهر والآثار المترتبة.

الحالة:

هو شاب فى الرابعة والعشرين من عمره، يقول الزميل أنه منذ سبع سنوات تعرض لحادث اغتصاب هو وصديق له، من مجموعة من الرجال وبعد هذه الحادث (غير الواضح تماما: انظر بعد) مضى هذا الشاب، ولنرمز له (س ….) فى حياته دون أن يعاود مثل ذلك أبدا، اللهم الاممارسة واحدة ايجابية اراد أن يثبت بها عكس ما حدث، الا أن أعراضا نفسية عصابية (تتراوح بين القلق والاكتئاب وأعراض بارنوية خفيفة (نظرات الناس) كانت تظهر وتحتد، حتى الجأته الى المشورة النفسية، فالعلاج النفسى عند الزميل، لكنه ظل صديقا ملازما للصديق الذى تعرض معه لحادث الاغتصاب السالف الذكر، علما بأن هذا الصديق – صديق (س ….) – تمادى بعد الحادث فى ممارسة الجنسية المثلية سلبا اساسا، ولكن ليس مع صديقة هذا (س ….)

أبدا مع أنه كان يصحب (س …….) أحيانا الى مواقع تجمعات هؤلاء الذين يعرفون بعضهم بعضا “هناك” – وصديق (س ……) الجنسى المثلى هذا لا يعتبر نفسه مريضا، ولا يريد أن يعدل عما به، ولا يؤثر ذلك فى صداقته بـ (س …..)

وقد أوردت حالة هذين الصديقين الآخرين لاؤكد، وأناقض، بعض ما ذهبت اليه فى عرضى لحالة الصديقين الأولين.

1 – ان ما سمى اغتصابا هنا، لشابين فى السابعة عشرة، لا يمكن أن يكون كذلك تماما، وبهذه البساطة، وللشخصين معاً … كيف؟ وأين؟ وأى مقاومة؟ وحتى متى؟ وكل هذا يذكرنا أن نبحث فى معظم اتهامات “الاغتصاب” عن الجزء الظاهر أو الخفى فى حالة المجنى عليه التى ساهمت فى اتمام الاغتصاب، وهذا لا يعنى اتهام المجنى عليه بالكذب على طول الخط، ولكنه يذكرنا أنه كما أن النوم فى بعض الحالات، ثم الاستغراق فيه قصدا، قد يسهل ارواء “حاجة الخضوع” فى شكلها الجنسى هذا، كذلك فان الاستسلام – فى النهاية – للاغتصاب قد يروى هذه الحاجة أيضا.

2 – ان الاغتصاب (المزعوم أو النصف مزعوم) الذى تم للصديقين معاً، قد بدأ علاقة تقمص بينهما فى هذا الشأن، فراح احدهما يكمل الطريق (بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن صديقه، ان صح التعبير مجازا)، أى أن صاحبنا (س …) لم يتماد – مثل صديقه – فى طريق الجنسية المثلية وان كان قد ظل محافظا على صداقته لصاحبه الذى استمر – بعد الاغتصاب – فى نفس الدور، دون اغتصاب!!

3 – ان (س ….) حين كبت “حاجته الى الخضوع” (ملتحمة بالتلقى الجنسى) كما أثارها الاغتصاب السالف الذكر، فعل ذلك بنجاح ظاهر، لكن بثمن مقابل، وهو ما اصابه من مرض نفسى، ويذكرنا هذا بالتناقض الذى كان يطرحه “فرويد” فى مثل هذا الموقف، والذى يشير الى أن الجنسية المثلية فى ذاتها ليست مرضا، وأن المقابل لها- القطب الآخر- هو المرض (العصاب بلغة فرويد).

وهكذا نرى من خلال هذه اللقطة الثانية، ومساراتها المختلفة، وخاصة اذا ما ظهرت فى ظروف متشابكة وسن متأخرة قليلا كما حدث هنا.

تعقيب عام

وقد يكون مناسبا ان نطرح بعض الاتجاهات العامة التى أمكن استلهامها من تقديم هذا الرباعى، والتى تقول:

1 – ان الجنسية المثلية السلبية (عند الذكر)، بما هى، أو بما تعنى من الحاجة للخضوع، هى طور لازم من اطوار النمو.

2 – قد تمضى الحياة كلها دون أن تظهر هذه المرحلة، خاصة بصورتها الجنسية، فى وساد الوعى اليقظ، وفى هذه الحالة قد يحق لنا أن نشك فى كمال النمو.

3 – قد تظهر هذه المرحلة فى الطفولة عادة فى شكل استكشاف وتجريب والعاب (عريس وعروسة) ولا يبقى منها فى الذاكرة شئ معوق.

4 – قد يصاحب هذه التجارب الطفلية تثبيتات، وكبت، واشعار بالذنب، يطل فيما بعد صراحة، أو محورا، فى شكل مرض نفسى أو اضطرابات شخصية.

5 – قد يظهر هذا الطور، ومعادلاته، فى الاحلام بشكل أو بآخر

6 – قد يتأجل هذا الدور من الطفولة الى فترة المراهقة، أو قد يختفى ليظهر من جديد، ليتكرر فى المراهقة، وان كان بطريقة أقل صراحة، وأكثر خطورة.

7 – قد يظهر ويستمر عند بعض الاشخاص كما هو، ويستمر عند مثل هذا الشخص كنوع من المصابين بالشذوذ، من نوع الجنسية المثلية.

8 – قد يصاحب “السماح” المستمر للتعبير الصريح عن هذا الداخل، نوع آخر من السماح بنتح المحتوى الداخلى جنبا الى جنب مع المستوى الواعى الخارجى بما ينتج عنه انتاج ابداعى متميز، لذلك فأن تواتر الشذوذ الجنسى عند بعض المبدعين هو أمر محتمل، لكنه ليس قاعدة ولا هو متواتر جدا.

9 – ان هذه التفسيرات فى هذه الحالات لا تمتد الى نمو الاناث مما يحتاج الى عودة أخرى فى حالة أو حالات أخرى، لنرى الخط الموازى عند الاناث، وكيف يمضى.

وبعد …

فأن أهم ما تنبهت اليه من خلال كل هذا، هو ضرورة الانصات الجاد لأى احتمال آخر، حتى يستمر الكشف المعرفى وتستمر النهاية مفتوحة الى كل مدى.

[1] – نظرا لحساسية الحالة، فانى سوف اتجنب أى مقتطف حرفى، كذلك سوف أتجنب أى تفاصيل شخصية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *