الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1988 / عدد إبريل1988-الشفاه الأرنبية والتوائم انشطار أسطورة

عدد إبريل1988-الشفاه الأرنبية والتوائم انشطار أسطورة

الشفاه الأرنبية والتوائم

انشطار أسطورة

ليفى شتراوس  الأسطورة والمعنى ( الفصل الثالث)

قراءة وترجمة: د. عصام اللباد

فى نهاية القرن السادس عشر، قام الأب ب.ج. إرياحا، وهو مبشر أسبانى كان يعمل فى بيرو، بتسجيل ملاحظة محيرة فى كتابه محو الوثنية فى بيرو(1) فقد لاحظ الأب إرياجا أنه فى مناطق معينة من بيرو – ذاك الوقت، كان القس يقوم فى أيام البرد القارص، بدعوة كل المواطنين المعروف أنهم قد ولدوا وأقدامهم أول ما خرج من الأم Feel-first أو ذوى الشفه الأرنبية hare-lip أو التوائم. وكانت توجه لهم تهمة التسبب فى جلب البرد القارص، وذلك لاستخدامهم – كما قيل – الملح والفلفل فى طعامهم، وكان هؤلاء المتهمون يؤمرون بالاعتراف بخطيئتهم تلك والتكفير عنها

فى ذلك الحين كان الربط بين التوائم وحالات اضطراب الطقس شيئا معتادا تماما فى كل أنحاء العالم، بما فيها كندا ومن المعروف أن هناك اعتقادا بين الهنود الذين يعيشون الآن على سواحل كولومبيا الجنوبية بأن للتوائم قوة خاصة تجلب الطقس الجيد، وتشتت العواصف وما إلى ذلك لكن هذا لا يمثل جزءاً من المشكلة التى أود وضعها فى اعتبارنا الآن لكن ما يسبب صدمتى هو أن كل جامعى الأساطير – على سبيل المثال : سير جيمس فريزر الذى قام فى أحيان كثيرة باستخدام فقرات ومقاطع مأخوذة عن إرياجا – لم يتساءلوا أبدا لماذا اعتبرت الأساطير أن هناك تشابها من بعض النواحى بين ذوى الشفاه الأرنبية وبين التواءم. لماذا ذوو الشفاه الأرنبية ؟ لماذا التوائم ؟ ولماذا تم تصنيفها معا ؟

ولكى نجد حلا لتلك المشكلة يجب علينا، كما يحدث احيانا أن ننتقل فجأة من أمريكا الجنوبية إلى أمريكا الشمالية؛إذ أن هناك أسطورة فى أمريكا الشمالية ستعطينا مفتاح حل الاسطورة الجنوبية(2) وقد قام أناس عديدون بإلقاء اللوم على لاتخاذى هذا المسلك، وزعموا أن الاسطورة مواطنين معينين لا يمكن تفسيرها أو فهمها إلا فى الإطار الثقافى لهؤلاء السكان. وفى أثناء ردى على هذا الاعتراض، ستتاح لى فرصة قول عدة اشياء اخرى:

فى المقام الأول إن ما تم اكتشافه فى السنوات الأخيرة بواسطة ما يطلق عليه مدرسة بيركيلى Berkley واضح لى تماما، وهو أن سكان الأمريكيتين قبل كولومبوس كانوا أكثر عددا مما كان مفترضا لهذا فإنه من الواضح أن شعوبها كانت على اتصال ببعضها البعض على نحو ما، وأن المعتقدات والطقوس والعادات كانت، إن جاز لى القول تسرى إلى أى قبيلة بالجوار، وأن كل قبيلة كانت إلى حد ما على وعى بما يحدث فعلا داخل القبيلة الأخرى. النقطة الثانية فى هذا الموضوع هى أننا نعتقد أن تلك الأساطير لا تتواجد بمعزل، فى بيرو من ناحية وفى كندا من ناحية أخرى ولكنها تتواجد فيما بينهما وتتكرر وتتكرر فهى فى الواقع أساطير أمريكا الكبرى أكثر منها أساطير متناثرة عبر أجزاء القارة المختلفة .

وفى البرازيل – وقت اكتشافها ،تواجدت أسطورة بين الهنود الساحليين، قوم الأمازون وأيضا بين هنود بيرو وكانت عن امرأة نجح رجل وضيع فى إغوائها بطريقة شيطانية شريرة وفى الرواية الأكثر تواترا والتى سجلها الراهب الفرنسى أندريه تيقثه فى القرن السادس عشر. أنجبت تلك المرأة توأمين من الذكور أحدهما لأب شرعى والأخر من الغاوى الذى استطاع الاحتيال عليها، فقد كانت المرأة فى طريقها للقاء الرب الذى كان سيصبح زوجا لها، واعترض المحتال طريقها، واستطاع إيهامها أنه الرب المفترض انه زوجها الحقيقى المنتظر حملت منه أيضا، أنجبت توأمين ولان هذين التوأمين – غير الحقيقيين – كانا لأبوين متناقضين، فقد كانت لهما صفات متناقضة، فأحدهما شجاع والآخر جبان، أحدهما يقوم بحماية الهنود والآخر يقوم بحماية البيض، أحدهما يعطى الهنود الخيرات، والآخر على النقيض مسئول عن العديد من الأحداث الشريرة.     

وقد حدث وأن عثرنا على نفس الأسطورة تماما فى شمال أمريكا خاصة فى الشمال الغربى من الولايات المتحدة وكندا. لكن المقارنة بين الرواية الأمريكية الجنوبية، وبين تلك التى جاءت من المناطق الكندية أوضحت اثنين من الاختلافات الهامة، فمثلا، فى رواية أهل الكوتيناى Kootenay  الذين يعيشون فى جبال روكى،لا يوجد سوى تلقيحا واحدا أدى ‘إلى إنجاب التوأمين الذين أصبح أحدهما فيما بعد الشمس وأصبح الآخر القمر. وفى رواية الهنود الآخرين فى كولومبيا البريطانية الذين يتكلمون لغة الساليش Salish ـ هنود طومسون، أو كاناجان – توجد أختان خدعتا بواسطة شخصين مختلفتين، وأنجبت كل منهما ولدا، فالطفلين إذن ليسا توأمين فى الواقع، فقد ولدا من أمين مختلفين، ولكن لأنهما قد ولدا تماما فى نفس نوع الظروف، على الأقل من وجهة النظر الأخلاقية والنفسية، فقد تشابها إلى هذا الحد، كتوائم.

وفيما يتعلق بما كنت أحاول الإشارة إليه، فإن مايهم أكثر هو أختلاف الروايات عن بعضها. فرواية الساليش تضعف الخصائص التوأمية للبطل، إذ أن التوأمين ليسا إخوة، إنما هما أولاد خالة كانت  ظروف ميلادها متوازية ليس إلا، فقد ولد كل منهما نتيجة خدعة. إلا أن المغزى الأساسى يظل كما هو لأن البطلين هما فى الواقع توأمان ولا محالة، رغم أن إنجابهما قد تم بلا شك بواسطة اثنين من الآباء؛ حتى فى رواية أمريكا الجنوبية، يحملان صفات متضادة سوف تظهر فى أسلوبهما وفى سلوكيات سلالاتهما.

وعلى هذا، نستطيع القول أن الأطفال الذين قيل، أو اعتقد انهم توائم، كما فى الرواية كوتيناى، ستصبح لهما فيما بعد خبرات مختلفة تنفصل بها توأميتهما، وهذا الفصل بين شخصين قدما فى البداية كتوائم هو من الخصائص الجذرية لأساطير أمريكا الشمالية والجنوبية.

وفى صياغة الساليش للاسطورة توجد بعض التفاصيل الهامة والمثيرة للفضول بشدة، فأنتم تذكرون أنه لا يوجد توائم البتة فى تلك الصياغة، وإنما هناك أختين ترتحلان بهدف أن تعثر كل منهما على زوج، يتم التعرف عليه بواسطة هذا أو ذاك من الخواص كما أخبرتهما جدتهما. وقد حدث أن استطاع اثنان من المحتالين الذين تقابلا معهما صدفة بالطريق إيهامهما بأنهما الزوجان المفترض الزواج بهما، وقضيا معهما الليلة،فأنجبت كل امرأة ولدها.

وقد حدث وأن تركت الأخت الكبرى أختها الصغرى بعد تلك الليلة المشئومة التى قضياها فى كوخ المحتالين، وذهبت لزيارة جدتها؛ ويحدث أن ترسل جدتها التى هى راعية ماعز جبلية، وأيضا إحدى السحرة، والتى كانت تعرف مسبقا أن حفيدتها فى الطريق لاستقبالها والترحيب بها؛ فيقوم هذا الأرنب بالاختفاء تحت شجرة ضخمة سقطت وسط الطريق، وعندما رفعت الفتاة ساقها لتعبر الشجرة يستطيع هذا الأرنب أن يرى أعضاءها التناسلية ويقوم بالتندر على الفتاة بأسلوب غير لائق، فاستشاطت الفتاة غضبا ولطمته بعكازها فانشق أنفه . وهكذا صارت حيوانات عائلة القوارض ذات أنف مشقوق وشفة عليا مشقوقة وطبقا لتلك الصفة التشريحية فى الأرانب والأرانب الوحشية فقد أطلق عليها عندما توجد بالآدميين، الشفة الأرنبية(أو الشرم).

وفى نص آخر، أن الأخت الكبرى بدأت فى شق جسد الحيوان، ولو كان هذا الشق قد أكتمل حتى النهاية، ولم يتوقف عند الأنف بل استمر حتى الجسم والذيل، لكان هذا الشخص قد تحول إلى توأمين، أى فردين تاما التشابه، ومتماثلين،لأن كلاهما نصف من كل. فى هذا الخصوص يصبح العثور علىالفرض الذى برر به الهنود الأمريكيون فى كل أنحاء أمريكا أصل التوائم شيئا بالغ الأهمية. وما نعثر عليه هو اعتقاد عام بان التوائم ثمرة انشطار داخلى لسوائل الجسم التى تتجمد فيما بعد وتصبح جنينا، وعلى هذا الأساس تمنع المرأة الهندية الحامل عند بعض هنود أمريكا الشمالية من التقلب بسرعة أثناء النوم، حتى لاتنقسم سوائل الجسم  إلى قسمين، وإن فعلت هى ذلك فإنها تنجب توأمين.

وعند هنود كواكيتوال Kwakitual   بجزيرة فانكوفر توجد أسطورة، يجب أن تذكر هنا، عن فتاة صغيرة يكرهها كل الناس لكونها شرماء( ذات شفة أرنبية) وعن ظهور غولة أو امرأة خرافية تأكل لحوم البشر. وأن هذه الغولة قامت بسرقة كل ألاطفال بما فيهم تلك الفتاة الصغيرة ذات الشفة الأرنبية وحملتهم فى سلة إلى بيتها لتأكلهم وما يحدث هو أن الفتاة الصغيرة تختطف أولا فتوضع فى قاعة السلة. وتنجح الفتاة بواسطة صدفة محار التقتطتها قبلا من الشاطئ فى أن تشق السلة المعلقة أولا ، وتهرب قبل الجميع.

وموقع الفتاة ذات الشفة الأرنبية فى تلك الأسطورة مطابق تماما لموقع الأرنب الوحشى فى الأسطورة التى سبق ذكرها، الأرنب الذى انحنى أسفل البطلة حين ربض تحت الشجرة الضخمة عبر الطريق، وهو من هذا الموقع،يصبح تماما كما لو كان قد ولد بقدميه أولا.

وعلى هذا فنحن نرى من دراسة كل هذة الأساطير، تلك العلاقة الحقيقية بين التوائم من جهة، والميلاد الذى يبدأ بخروج القدم قبل الجسد – أو ما هو مجازيا مواز له من جهة أخرى، وهذا يوضح الصلة التى بدأ منها الأب إريجا فى وضع العلاقة (الموجودة فى بيرو) بين التوائم، والمولودين بالقدم، وذوى الشفه الأرنبية.

إن تصور الشفة الأرنبية وكأنها توأمية ابتدائية وقد ساعدنا حقيقة على حل مشكلة أساسية جدا واجهت علماء الأنثروبولوجيا، بصفة خاصة، أولئك الذين عملوا فى كندا: وهى لماذا اختار هنود الأوجيبوا Ojibwa واختارت مجموعة أخرى من العائلات التى تتكلم لغة الـ”الجونكيان” Algonkian الأرنب الوحشى كالهة يعبدونها؟ وقد قدمت كثيرا من التفسيرات منها : أن الأرنب الوحشى كان جزءا هاما إن لم يكن أساسيا فى طعامهم، ومنها أن الأرنب الوحشى سريع العدو وقد كانت سرعة العدو الموهبة التى على الهنود التحلى بها، وهكذا ولم يكن أى من تلك التفسيرات مقنعا، ولكن إذا كانت قراءتى التفسيرية صحيحة، فقد يكون أكثرإقناعا أن نقول:

  • إن الأرنب الوحشى بين عائلة القوارض هو الأكبر حجما والأكثر بهاء والاكثر أهمية، ويمكن اعتباره بذلك ممثلا لعائلة القوراض

(2) إن كل القوراض تمتلك خاصة تشريحية تظهرهم كتوائم أولية (مشروع توائم) لأنهم قد انشطروا جزئيا.

وهناك دائما فى الأساطير أحداث خطيرة للغاية تتبع وجود توائم، أو أكثر من جنين واحد فى رحم الأم ويعتقد أنه فى حالة وجود طفلين فقط يبدأ بينهما الصراع والتنافس من أجل الحصول على شرف الميلاد أولا، وأيضا لأن أحدهما وهو الأكثر شرا، لايتردد فى كشف أقصر السبل. إذا جاز القول، حتى يولد مبكرا ، بدلا من اتباع الطريق الطبيعى، فيقوم بشق جسم الأم لكى يتملص خارجا منه.

وفى اعتقادى ان هذا هو تفسير سبب اعتبار الميلاد بالقدم أولا كتوأمية، إذ أن الحالة التوأمية والميلاد بقدم أولا نذير بولادة خطرة. وأستطيع أن أطلق عليها الولادة الملحمية لطفل سوف يقوم بامتلاك زمام المبادرة ، ويصبح ذا نوعية بطل، قاتل فى بعض الأحوال، وإن كان القتل هنا هو إتمام لعمل بطولى أوعمل فذ.

وهذا قد يفسر لماذا كانت التوائم تقتل، ولماذا كانت الأطفال الذين يولدون بأقدامهم أولا يقتلون فى عدد كبير من القبائل.

إن النقطة الهامة فى كل الأساطير الأمريكية، وأستطيع القول فى أساطير العالم كله، هى أن هناك آلهة وخوارق للطبيعة تلعب أدوارا أوسطية بين القوة العلوية وبين الانسانية فى اسفل، فمثلا هناك خصائص المسيح وهناك توائم سماوية ونستطيع أن نرى أن موقع الأرنب الوحشى فى الأساطير الألجونكية هو بالتحديد ما بين المسيح  (المخلص المنتظر) وبين التوائم السماوية. إن الأرنب الوحشى ليس توأما وإنما مشروع توائم فهو ما يزال فردا كاملا إلا أنه ذو شفة مشقوقة، هو إذن فى منتصف الطريق إلى أن يصبح توأمين.

وقد يوضح هذا سبب تلك الخاصة المميزة للأرنب الوحشى فى الأساطير، والتى اجهدت المعلقين وعلماء الأنثروبولوجيا، فهو أحيانا الإله البالغ الحكمة، المسئول عن وضع نظام الكون وهو أحيانا أخرى مهرج يخرج من تشوه إلى تشوه وقد يمكن فهم هذا أكثر لو فسرنا اختيار الهنود الألجونكيين له كشخص بين حالتين(1) إله مفرد كاف للجنس البشرى(ب) توأمان أحدهما خير والآخر شرير لم ينقسما إلى اثنين ، ولم يصبحا توأمين بعد، لهذا تظل الخصائص المتناقضة مندمجة فى واحد.

تذكرة :

النص المترجم للمؤلف هو حديث إذاعى يجيب فيه المؤلف على مجموعة من أسئلة.

تعقيب:

لا شك أن التأويل الذى ذهب إليه ليفى شترواس هو من الذكاء واللماحية بدرجة تستأهل الاحترام والاعتبار، إلا ثمة بعدا لم يشر إليه إلا فى أخر فقرة، وهو الإشارة الضمنية على تعدد الذوات، وانشقاق الكل، واحتمال إجهاض هذا الأنشقاق، وهو ما يمكن أن تذكر به الشفة الأرنبية.

وكل هذا يذكرنا بمفهوم تعدد الذوات، الذى قد يحمل فى شكله المرضى معنى التباعد الاغترابى ، لكن ثمة تذكرة واجبة هى أن الانشقاق ضرورى كخطوة مرحلية نحو التكامل، وبالتالى فإن رفض الإنشقاق – اسطوريا وبدائيا، وفعلا – هو رفض علانيته واستمراره ليس إلا.

[1] – Extirpaction de la Iddalria del Peru

[2] –  القادمة من بيرو (المترجم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *