الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1988 / عدد إبريل1988-مقتطف وموقف عن البيولوجيا التطورية والذاكرة الكونية

عدد إبريل1988-مقتطف وموقف عن البيولوجيا التطورية والذاكرة الكونية

مقتطف وموقف

عن البيولوجيا التطورية والذاكرة الكونية

من ردود:  ر. شيلدراك، وأعدته: ر. ويبر، صياغة: محمود البشار(1)

(1) .. وأولئك الذين يعملون فى مسائل البيولوجيا الحقيقية، كشكل الأجنة ونموها مثلا، هم عادة أكثر الناس تفردا بالرأى وولعا بالجدال مثل درابيسش الذى يُعد من أوائل المرتدين عن النظرية الميكانيكية، وقد كان عالما فى تطور الأجنة، وتحول إلى المدرسة الحيوية مع بداية القرن، كنتيجة لتجاربه حول الأجنة، فقد استنتج من اختباراته المرة تلو المرة أن الجنين ليس مجرد أعضاء مجتمعة، بل أكثر من ذلك، فهو يلاحظ أن كل مرة يقتطع فيها بعض الأنسجة تعود لتنمو مجددا، ويرجع الجنين لوضعه.

(2) … فى علم الأحياء تيارات كثيرة وراسخة كانت تتلمس طريقا مغايرا للنزعة الميكانيكية الاختزالية الضيقة، وهذه التيارات كانت موجودة دائما، وهى تقليد أعتبر نفسى منتميا إليه وجذوره قوية وخاصة بين علماء الأجنة والبيولوجية التطورية فى حين أن النظرة الميكانيكية الاختزالية كانت قوية فى صفوف الفيزيائيين وعلماء البيوكيمياء والبيوفيزياء.

…. إنّ الرغبة فى اختزال الطبيعة إلى بضع معادلات وصيغ رياضية تبدو جذابة لكثير من العقول الرياضية. لكنها فاشلة حتما، فالرياضيات لم تنجح يوما فى معالجة الأشكال البيولوجيّة والحياتيّة.

(3) أنا أعتقد أن انتقال عوامل الوراثة فى المخلوقات الحيّة لا يتم بالجينات: ح.ن.د. (حامض نووى ديوكسى ريبوزى) D.N.A ، بل بالعوامل المورفولوجية أيضا، فهذه العوامل أو الحقول مستمدة من العضويات السابقة عبر عمليّّة أسميهّا أصداء الأشكال أو الاستعادة المورفولوجية .

(4) ويتحدثّون عن الوعى ،ويرون فيه مظهرا من الدماغ ليس إلا، لأنه لو أتلفنا الدماغ تغيّر الوعى أيضا،وإذا أدخلنا المخدرات إلى تيار الدم نؤثر كذلك على وظائف الدماغ…… إنه يمكن لذلك كلّه أن يكون صحيحا…… لكن هذا لايثبت بالضرورة أن هذه هى العوامل الوحيدة المؤثرة…….. إن النظرة الميكانزميّة لعلم الأحياء الرائجة حالياّ هى كمن يحاول أن الصورة البادية على الشاشة التلفاز بواسطة المزيد من التحليلات التفصيلية لكيمياء الترانزيستورات والأسلاك والمكثفات وسواها ….، وهى إهمال تام لحقيقة أن الصورة تعتمد على الإرسال الذى يبث فى مكان آخر.

(5) إن فرضية السببية التشكيلية يمكن اختبارها عبر التجارب التى اقترحتهّا فى كتابى،وأحد هذه التجارب مبنى على فكرة أن الجرذان إذا تعلمت حيلة جديدة فى أحد الأماكن فإن الجرذان الأخرى من الفصيلة عينها تصبح أكثر سرعة وتقبلا لتلقن الشئ نفسه فى جميع مناطق الأرض وذلك بواسطة الأصداء المورفولوجية.

(6) هذه الحقول (المورفولوجية) مخفية ولا يمكن تحريكها بالحواس، ولها صفات الأنساق الفضائية: حقل الجاذبية هو نسق فضائى أيضا، وأينشتاين اعتبر الجاذبية انحناء الفضاء ذاته …. ( وهذه الحقول المورفولوجية ليست أدوات إسمية فقط) أظن أنها حقيقية مثل الحقول المغناطيسية…. إنها ليست محملة  بالطاقة،وهى فى ذاتها ليست طاقة، فهى لا تنحل بالزمان والمكان فنشاطها يقع خارج أطر الزمان والمكان……،إن الحقل المورفولوجى ينشأ مما يحدث ضمن أطر الزمان والمكان فى العالم الظواهرى هذا، وهو، أى الحقل يسهم فى التشكيل ويحدد الأشياء فى العالم، ثم تحدث تغذية ارتجاعية تصدر عن الأشكال والبنى الواقعية الموجودة فى العالم وتؤثر فى صورة تراكمية على الحقول المورفولوجى وهكذا يظل هذا الحقل خاضعا لصيرورة التطور والتحول الدائم .

(7) إذا فكّرنا فى مؤثرات الماضى تبعا لتعابير ومفاهيم علم التفس تبرز الذكراة أول ماتبرز أمامنا كعنصر يمكن بسطه وتوسيع مداه إذا نظرنا إلى الكون كله كبنية شبيهة بالفكر كما تفعل بعض المدراس الفلسفية المتعددة، وإذا سلمنا أن الكون بكليتّه شبيه بالفكر يغدو عندنا فورا نوع من ذاكرة كونيّة متطورة وهذه المقولة تاخذ بها مدارس فكرية كثيرة منها مثلا مذهب “البوذية” “المهايانية”…. وهناك أفكار مماثلة عند بعض الثيوصوفية والبوذية التيبيتية تقول بمثل هذا المستودع الكونى الشبية ببنك المعلومات المعاصر.

الموقف(2)

إذا كان كذلك فى علم الأحياء، فكيف فيما يسمى علم النفس أو الطب النفسى، فكلمة بيولوجيا قد اخُتزلت فى الطب النفسى، وحتى فى علم النفس إلى معادلات كيميائية، وتحديدات موقعية  Localization وأحيانا كميات سلوكية، بشكل لا يتفق مع هذا المفهوم الحقيقى للطبيعة الكليّة المرتبطة بمفهوم البيولوجيا التطورية، ويبدو أن ما كان مفروضا أن يسهم به علم النفس والطب النفسى فى دفع مفهوم البيولوجيا التطورية، ورفض التجزيئية الميكانيكية قد انعكس تماما حتى أصبح هذان العلمان تابعين لما كان ينتظر لهما أن يقوداه .

ثم نتذكر هنا أن التمادى فى إعطاء قيمة لما هو ح.ن.د (حامض نووى ديوكسى ريبوزى) لما تبين له من دور فى كل من الذاكرة والوراثة قد صوّر لنا أن المسألة (مسألة فهم ماهيّة الحياة) يمكن أن تفهم على هذا المستوى الجزيئى مع إغفال ما يقابل، ويكمل هذا التنظيم الجزيئى من امتداد تنظيمى طولا وعرضا واتساعا، ليس بما هو ولكن بما يوازيه ويجادله فيعطيه فاعليّته وظهوره.

على أن لدينا تحفظا شديدا بشأن تشبيه شيلدريك العلاقة بين الحقل المورفولوجى والتركيب الجزيئى بالعلاقة بين الإرسال والاستقبال فى حالة التلفاز (أو الراديو)، ذلك لأن هذا التشبيه يوحى بسلبية ما من ناحية التركيب الجزيئى الحيوى، ولعله لا يقصد ذلك تماما وإنما يعنى استحالة عمل الواحد بدون الآخر حتى تكتمل دائرة الحيوية ( البيولوجى).

ثم ننتقل إلى تأكيد شيلدريك على خفاء الحقول المورفولوجية، فلا بد أنه يعنى خفيتها عن الإدراك الحسى لا أكثر، فقد رفض حتما اعتبارها أدوات إسمية وعاملها كحقائق موضوعية، أو لعل خفيتها ترجع إلى تجاوزها للزمان والمكان من حيث أنه  يسهم فى تشكيلهما بشكل أو بآخر وفى نفس الوقت هو يتشكل بهما إذ يتحور نوعيا فى صيرورته الدائمة ، وهذا جدل شديد الدلالة بين الخالق وناتجه، باعتبار أن الحقل المورفولوجى هو المسئول عن التشكيل البيولوجى المحدد فى فترة بذاتها( فرد بذاته) لنوع بذاته، وفى نفس الوقت، هو متلق لناتج الخبرات المؤثرة فيه، هكذا.

وهذا المفهوم يوسع لنا فكرة تأثير الخبرات، وخاصة الخبرات الإبداعية ذات العمق البيولوجى، على التنظيم الكونى – إن صح التعبير – وليس فقط على د . ن أ. كتنظيم وراثى محدود مسلسلة( عائلة مثلا) بذاتها، كما أنه يوسع لنا فكرة أن هذا المجال التنظيمى خارج حدود الخلايا – دون انفصال عنها – له تأثيره على التنظيم الخلوى المترجم إلى ظواهر سلوكية( مثل التعلم) إن صحت تجارب انتقال الخبرة إلى ذات الفصيلة طالما أن عددا كافيا من الفصيلة قد تعلمها، فانظر – إن صح هذا، وهو عندنا صحيح – ما يمكن أن يؤثر به هذا المفهوم من ضرورة تجاوزما يسمى صراع أو تنافس انتقال العادات المكتسبة – ذات الدلالة التطورية – عبر الأجيال، ليس فقط بمنطبعات imprints على الجزيئات العظيمة وترتيب ال ح.ن.د وإنما أيضا بتحويرات للأشكال المورفولوجية المسئولة عن مسيرة التطور.

ومن هذا المنطلق يمتد مفهوم الذاكرة من الذكراة الفردية، إلى الذكراة الجينية، إلى الذاكرة الكونية.

[1] – مجلة الصفر، عدد مايو 1988 ص : 36-41.

[2] – كنا نرجو أن نترك المقطف يقول، بما هو، فقد شعرنا باتفاق يؤنس ويطمئن، لذلك فلن نعقب على كل فقرة، كما أننا تجنبنا هوامش شارحة لافتقارنا إلى النص بلغته الأصلية من جهة، ودعوة للقارئ من جهة أخرى للإسهام بجهد خاص، لموقف خاص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *