الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1987 مارس 1988 / عدد أكتوبر1987-مارس1988-الجنس: محمد المنسى قنديل “بيع نفس بشرية”

عدد أكتوبر1987-مارس1988-الجنس: محمد المنسى قنديل “بيع نفس بشرية”

الجنس: محمد المنسى قنديل

“بيع نفس بشرية”

يحيى الرخاوى

تنويعات فى لغة الجنس ودلالاته

1 – الجنس “الفيض”

2 – الجنس “الصفقة”

3 – الجنس “اليأس”

من أطيب الأمور أن يضطر الواحد منا – فى زحمة هذا الزمن الملاحق – أن يقرأ عملا ما كان ليقرأه لولا هذا الاضطرار [1] وإذا بى أمام عمل متميز يستأهل النظر، فإعادة النظر، فالقراءة المجتهدة هذه، ثم تلا ذلك أنى استشعرت قدراً متزايدا من الثقة والأمل فى وقت أنا فى أشد الحاجة فيه إلى أى طمأنينة أو ثقة، أو أمل، فى حاجة إلى أن اطمئن أن ثمة خطا أصيلا يتقدم، وأن ثمة حركة حقيقية تتميز وأن ما يبدو على السطح من أكوام العجلة والادعاء، ليس هو كل شئ.

هذا ما كان من شأنى الخاص مع هذا العمل المفاجئ “بيع نفس بشرية”، أما ما تلا ذلك من موقف فاعل فهو تلك الندوة، وهذه الدراسة.

وبداية أقول:

“فى هذا العمل التقيت بقاص سلس[2] مبدع (مبدع رغم أنفه فى بعض الأحيان) يملك القدرة على الإحاطة الشمولية، كما يملك أدوات التطريز المنمنم ولو فى ربع ملليمتر من الزمان أو المكان، يحكم الحبكة طول الوقت مع أنه قد يفلت منه الخيط هنا أو هناك، يفكر أحيانا بغير لغته (الانجليزية غالبا)، نجح فى أن يتخلص من وصاية مهنته (كطبيب)، راح يواكب الواقع الجديد دون انغماس حماسى، ثم هو قد قدم عمله بإيقاع نشط غير لاهث، تتداخل نغماته فى اتساق معظم الوقت، مع ترهلات متوسطة، يحسن البداية عادة (خاصة القصة الأولى والثالثة) وتختلف نهاياته من مفاجأة جيدة مفتوحة (القصة الأولى) إلى تزيد متعسف فاتر (الثانية) إلى نهاية عادية مكررة (لثالثة).

استهلال مفيد (موجز لمقدمة مطولة حذفت): 

والكاتب يهتم بخلفية الأحداث بنفس قدر اهتمامه بمقدم الصورة، تلاحظه مثلا وهو يصف البحر (ص 8، 28، 91)[3] فتعيش البحر مسرحا متفاعلا مع الزمن والأشخاص، ثم هو يعرف داخل النفس فيصفها بنفس قدرته على وصف خارجها، ويتبين ذلك أكثر حين يصف أطوار المعرفة المنبثقة، ومفاجآت اكتشاف طبقات الذات، انظر مثلا قوله (ص 41) .. “ومن أجل أن يصل إلى هذه النتيجة (أنها المرأة الوحيدة التى كان يرغبها طول حياته) كان قد أتلف كل شئ”، فهذا تعبير خطير لا يعرفه بهذه السببية غير المألوفة إلا من يعرف طريقه “إلى هناك”، وهو يعى هذه النقلات النوعية: للادراك، فالبهر، فالتحول، وهو يستعمل مفردات “الفجأة” و “اللحظة” بدقة تناسب ما يليها (ص 46، 57 مثلا) كذلك فإنه راصد عميق لما يجرى التواصل الإنسانى بمستوياته المتعددة، حتى مستوى الادراك الحسى “معا”، انظر قوله: “عاشا تلك اللحظة النادرة من التواصل الإنسانى، حتى أنهما رأيا سويا نفس القصر العالى .. ونفس الشبح القديم” (ولاحظ أكثر تعبير “حتى أنهما”) – فيصاعد التواصل حتى التوحد، وخاصة فى الجنس (ص 40) “أصبح لهما نفس الجسد، ونفس الرائحة” (إلى أن قال ص 41): “… لعلهما حلما نفس الحلم”.

وأخيرا، فقد استطاع الكاتب أن يخترق اغراء الاستقطاب معظم الأحيان، فرغم المقابلة بين قاهر ومقهور، بين مؤمن بالواقع راض بهذا السلام، ومكلوم بالثكل مهدد بالتسليم، فقد استطاع أن يعدد أبعاد الصراع ليصبح التناقض متداخلا مجسما متشعبا، ففتح الثغرات للتعاطف مع القاهر الغبى، ولرفض مثالية المقهور الهروبية، ولو مؤقتا .. ولو جزئيا، وهكذا استطاع أن يبتعد قليلا أو كثيرا عن تهمة الخطابة أو الاستقطاب، وإن لم يتخلص منهما نهائيا، وخاصة فى القصة الثالثة (وهى الأقدم والأضعف) حيث تجسد الاستقطاب بطريقة تقليدية معادة.

ولا يفوتنا أن نشير إلى بعض الهنات هنا وهناك، وهى ليست قليلة جدا، وإن كانت لم تخل بميزات العمل أو تقلل من إبداعيته، فثمة تعجل فى التعبير أحيانا حين يقول مثلا (ص 20): “الشمس لم تكشر عن أنيابها”، فقد يكون من المناسب (غير الجميل أيضا) أن يقال إن الشمس كشرت عن أنيابها، وهو تعبير قديم أصبح ممجوجا، فما بالك إذا أتى بالنفى، وما بالك إذا لم يبرره السياق، ثم إن هذا التعبير يصبح فاترا أكثر لكاتب مثل كاتبنا له قدرة رؤية الشمس – مثلا – من كل زاوية وعمق (ص114) … “فى منتصف السماء تذوب شمس قلقة” أو (ص 130): “…. تفتت قرص الشمس إلى شموس صغيرة متناثرة” … الخ، وعلى هذا المنوال، كانت تقف فى حلق استقبالى كلمات زائدة، كما كانت تطفئ بهر معايشتى وصاية لاحقة على الأحداث، تكاد تفقد الحدث روعة ما أنجز من اختراق وخلخلة فى وعى القارئ (انظر الأمثلة فى صلب الدراسة)، كذلك خيل إلى أنه قد ينسى أحيانا – إن لم يكن قد تجاوز قصدا – مثل أن يذكر أن صالح (المدرس الخليجى الصديق) “…… قد ضاجع كل بائعات التمر حنة” (ص 14) وهو يدرس فى الأزهر، ثم يعود فيقول على لسانه، أنه “حتى الآن لم ألمس امرأة” (ص29).

وبعـد:

فقد وصلنا أخيرا إلى موضوع الدراسة لنرى كيف تناول الكاتب “المسألة الجنسية”، فحدس، وأرهص، وكشف ونوع، وغاص فأبدع.

ولكن قبل ذلك هلا تذكرنا كيف يقدم الجنس عندنا عادة “فى أدب القصة خاصة” (أقول عادة، وليس دائما).

فقد لاحظت أن تناول الأدب – عندنا – لموضوع الجنس يواكب غالبا مفاهيم شائعة، لا هى صحيحة ملتزمة، ولا هى عميقة مكتشفة (هذا بعد استبعاد تفاهات استعمال الجنس بقصد الاثارة، أو ادعاء الجسارة، أو تزيين الحكى، أو دغدغة القارئ …، فكل هذا ليس أدبا أصلا) لكننى أقصد هنا المستوى الأكثر جدا واجتهاداً فى تناول المسألة الجنسية من خلال فن القصة:

1 – فالجنس عندنا قد يقع فى منطقة “الأخلاق”، وفى هذه الحال، قد يتناوله القاص وهو يدور حول محور القيود والسماح، أو الكبت والاباحة، أو الالتزام والتخطى إلى آخر هذه الاستقطابات الخلقية أساسا، التى يصاحبها الذنب أو اللذة المستباحة حسب السياق ومقتضى الحال.

2 – أو قد يقع ما هو جنس فى منطقة “الغرام”، حيث يظهر مواكباً، أو مكملا، أو دافعا لموضوع عاطفى، حيث تجرى العلاقة على محور الجذب أو المطاردة، أو كليهما مع مصاحباتهما من أشواق وهجر والتحام وانفصال، دون أن يستثنى الكاتب من ذلك ما هو جنسى، يقدمه بشكل صريح أو خفى حسب أداة الكاتب ومساحة حركته.

3 – كما قد يطل الجنس من شرفة التحليل النفسى، سواء نبع ذلك من حدس الكاتب الأعمق (الموصى عليه ضمنا بمفاهيم التحليل النفسى)، أو استلهمه من قراءاته أو ثقافته، فيبدو هذا البعد وكأنه أعمق وأكثر دلالة حين يتعرض لعقد مثل ما يسمى عقدة أوديب، أو عقدة الخصاء … الخ.

لكننا نادرا ما نلقى الجنس باعتباره لغة وجودية، بدنية، لها أبجديتها الخاصة، وعطاؤها الجوهرى الغائر، بحيث يمثل فيضا يغمر الكيان البشرى فى مختلف جوانب علاقاته[4] ولا أعنى بذلك أن يكون الجنس مفسرا خفيا أو وحيدا للسلوك البشرى (مقولة فرويد كما شاعت)، وإنما أشير إلى الجانب الكيانى فى الحضور البدنى والجنسى فى وعى البشر بصوره المختلفة، وهذا هو مدخل دراستى هذه، ذلك أن كاتبنا فى هذه المجموعة قد تقدم لنا من هذا المدخل الرائع إلى ما هو “فيض الجنس” كما أسميته، وفى نفس الوقت فقد تناول الجنس على مستويات أخرى كما سنرى حالا:

1 – فالجنس فى القصة الأولى (بيع نفس بشرية) قد ظهر فى شكل فيض أو  طوفان طبيعى، وإن “حضر” هذا الطوفان فى صورتين هما وجهان لعملة واحدة (أ) الأولى هى صورة ذلك الجسد الصغير، كأنه عينة خام من طبيعة نقية، سمحة، ينتح الشهوة فى انسياب تلقائى، ويتأرجح مع نبض الكون دون عوائق أو شروط، فكأنه صلاة الطبيعة وتسبيحها فى شكل طل ندى يغمر الكل بلا تمييز، أو يتجمع فى نهر دائم الجريان، لا يوقف تدفقه ما يلقى به من قاذورات، أو ما يمكن أن يروى من نباتات سامة تتغذى منه بالرغم منه (ب) أما الصورة الثانية فهى هذا الطوفان الطبيعى حين يظهر فى شكل فيضان مخترق ملاحق، يشعل الحياة فى الكل دون استئذان، حتى لو لم يجد من يستوعب دفق لهيبها بما هو.

2 – أما الجنس فى القصة الثانية “الوداعة والرعب”، فقد ظهر لنا فى صورة صفقة لحم نئ، صفقة جسدية محسوبة وفجة وعارية، ومنفصلة عن بقية المكونات الكلية للوجود البشرى الشامل، وكأن الجنس فيها جسم غريب، حى وشبق، لكنه بلا بعد، ولا حتى قبل إلا هو جنس، ثم هو يعرض “هكذا” ثمنا لما هو أبشع منه.

3 – وفى القصة الثالثة “اتجاه واحد للشمس”، لا نجد خطا واحدا يمكن أن يلضم خرزات الجنس المتناثرة طول القصة، لكننا نلحظ جليا علاقته بالجوع واليأس، وأنه يستعمل للتعبير الجسدى البديل، التعبير عن الضياع أحياناً البأس دائما، والصفقات الجانبية الجزئية هنا وهناك، لكنه أبدا لم يكن حضورا كيانيا جوهريا كما ورد فى القصة الأولى، كما لم يظهر باعتباره صفقة “لحم فى لحم” لما بعدها (القصة الثانية) لكنه بدا لى فى هذه القصة الأخيرة كأنه: تصادم جسدين بفعل الجوع واليأس، ليطلقا صيحة يأس شهية ومرعبة، محدودة ومجهضة.

هامش حول نقد متزامن[5]:

حين صنفت فى الصفحات السابقة كيف يتناول القاص عندنا المسألة الجنسية – عادة وليس دائما – لم أعرج إلى موقف النقد من ذلك، أولا لأننى غير ملم بالحركة النقدية بالدرجة الكافية، وثانيا لأنى أتصور أن النقد – عندنا – أما أن يغفلها، أو هو يخضع لوصاية التحليل النفسى تحت تأثير ما يسمى بالنقد النفسى التحليلى، ثم إنى جئت بما اضطرنى إلى زيادة هذا الهامش فى صلب المتن:

1 – فقد صدر عدد ديسمبر (1987) من مجلة ابداع، وفيه دراسة عن نفس المجموعة، ولم أكد أقرأ كيف قرأ الناقد الخط الجنسى فى القصص الثلاث حتى شككت فى نفسى ورؤيتى، فرحت أعيد قراءة ما كتبت، مع الرجوع للأصل مرة ومرات حتى لا أكون قد اقتطفت ما لا يتفق مع السياق، فتأكدت مما ذهبت إليه حتى أصررت عليه، وسوف اكتفى بأن أنقل هنا الفقرات الخاصة بالجنس لأضعها أمام القارئ مباشرة دون تعليق، وحتى يرى منذ البداية مدى التباين – لعله تباين ذو دلالة – كما يمكن أن نقف سويا لمراجعة دور النقد فى هذه المسألة بحجمها الموضوعى، يقول الناقد:

“وأظن المؤلف لا يزال يعتبر الجنس، بل والعلاقة الجنسية والمرأة عموما، إثما وجريمة يعاقب مرتكبوها حتى لو كانوا شبابا قليلى الخبرة” (!!!)[6]، ثم يمضى قائلا:

“وهكذا نرى الجنس فى القصة الأولى يسجل على شريط الفيديو بكل أسراره ليصبح فضيحة كبرى، ويقف البطل وهو مدرس أطفال مهانا أمام أولياء أمور تلاميذه” (!!) وفى القصة الثانية تنتهى العلاقة الجنسية بين الفتى والفتاة بجريمة القتل المروعة، وكأن هذه لم تكن علاقة حب، حيث انقلبت كما يقول ابن الرومى – إلى غابة من البغضاء (!!) وفى القصة الثالثة يعقب الحب بين العامل وزميلته فى مصنع النسيج تجمهر كل العمال وصاحب المصنع وكانوا على وشك أن يقتلوا هذا العامل النجس (!!).

وللأسف، فإن الناقد لم يكتف بعرض رؤيته تلك، بل إنه أردف بما يوحى أن الكاتب لم يوفق فى هذه النقطة بالذات، إذ مضى الناقد يقول:

ولكن هذه الملاحظة الصغيرة (عن موقف الكاتب من الجنس) لا تقلل من قيمة وأهمية هذه المجموعة … الخ.

وأحسب أن القارئ لابد أن يشاركنى جزعى من الاختلاف ومخافة الخطأ، لأنى قد بنيت دراستى كلها على ما هو عكس هذه “الملاحظة الصغيرة”، وللقارئ الرأى فى النهاية.

2 – ثم أقرأ لأستاذنا الدكتور على الراعى ما هو أزق وأرحم، لكننى أيضا أظل مندهشا للاختلاف الشديد، يقول د. الراعى[7]:

ريشة قادرة ملهمة تصور قصر الشيخ ومن فيه وما فيه: الدخان والخمر وعروض الفيديو الداعرة وجسد ماتيلدا العارى يتحرك على شاشة كبيرة يحمل آثار اللحم المحترق، والريشة ذاتها تصور ما يقوم بين مصطفى والفتاة من علاقة جسدية هى نقيض الشهوة والرغبة فى الافتراس، غير أن طاغوت الشهوة هو الذى ينتصر وليس التآخى والحب عبر الجسد.

فنرى رغم الايجاز الضرورى، أن الناقد الكبير قد التقط الفرق، وإن كنا نتحفظ قليلا على حكاية “نقيض الشهوة”، كذلك على أن “طاغوت الشهوة هو الذى انتصر” … الخ (انظر بعد)

هذا عن القصة الأولى.

أما رؤيته للجنس فى القصة الثانية “الوداعة والرعب” فإن اختلافنا معه أدق إذ يقول:

“وبالقصة لحظات يرقص فيها كل من طارق والصهيونية رقصا رقيقا متناغما، يوحى – للحظات – بما كان يمكن أن يقوم بين الشباب فى الناحيتين من ود وتفاهم، لو لم تكن إسرائيل دولة عنصرية عدوانية، غير أن هذه اللحظات ما تلبث أن تتبدد”.. الخ.

ورغم أن تعقيب الناقد كان على لحظات الرقص دون الجنس، إلا أنه من الصعب فصل هذه اللحظات عن السياق العام الذى تطورت فيه العلاقة الجنسية بين الشابين بكل هوامشها (انظر بعد).

والآن، نشعر أن الأوان قد آن لنقدم ما قرأناه من تنويعات جنسية فى القصص الثلاث، واحدة فواحدة، بعد أن عرضنا على القارئ وجهات نظر مختلفة مما نتصور معه أنه سيتحفز أكثر، فنتحسب أكثر:

القصة الأولى: بيع نفس بشرية

الجنس الفيض

(أ) صلاة الطبيعة: فيص نهر جار

(ب) فيضان الشهوة يقتحم

وهذه القصة هى أفضل قصص المجموعة بلا شك، لقد كان المحوز الأساسى الذى تدور الأحداث حوله فى هذه القصة هو محور “القهر” بكل تنويعاته، فمصطفى (المدرس المصرى المغترب فى الخليج) مقهور بفقر أهله، وإلحاح حاجته[8]، والخادمة الفليبينية “ماتيلدا” مقهورة بفقر وطنها وأسرتها وبطالتها ..، وصديق وزميل مصطفى المدرس الخليجى (المواطن) “صالح” مقهور بطبقته الأدنى، وتاريخ الظلم اللاحق بأسلافه، وحتى الشيخ نفسه – يمكن لمن يريد أن يراه – مقهور باستعباد لذته وشذوذه.

ووسط هذا الجو من القهر من الداخل والخارج، كان للقارئ أن يتوقع أن يظهر الجنس كأحد أبعاد هذا القهر لو أن المؤلف قد تسطح فرسم لنا صورة شيخ سيد فرعون، وجارية مهيضة سلبية، الأول يفرض على الثانية ما يشاء، فلا تملك إلا أن تستسلم رغم إرادتها، أو رغم تعلق قلبها بحبيب شاب تركته فى بلدها، أو حتى رغم تعلق قلبها بالمدرس المصرى “مصطفى” الذى أجارها، أو حتى رغم أحلامها بالتحرر ضد ضغط أهلها المحتاجين .. الخ، وحين يحدث ما يتوقع القارئ “هكذا” فإننا نكون قد ابتعدنا عما هو إبداع راسخ آماداً بعيدة، لكن هذا، أو مثل هذا لم يحدث إلا قليلا، فما تيلدا ليست خادمة أسئ استعمالها جنسيا ضد ما توقعت، أو غير ما توقعت، فهى لم تأت شغالة ففوجئت بنفسها جارية فى حريم السلطان، بل هى واعية طول الوقت بطبيعة العقد وشروطه غير الخفية.

ولعل أول صدمة ابداعية تفيق القارئ من الاستسلام لتوقعاته هو هذا الاعتراف السهل الذى يعلن وعى ماتيلدا بما يجرى، بل إنه يتضمن إرادة له، ذلك أنها أعلنت – بشكل أو بآخر – رضاها بهذا الدور الذى تقوم به، من حيث المبدأ على الأقل،

يقول مصطفى لها متسائلا (مثل القارئ):

– عندما جئت إلى هنا … ألم تكونى تعرفين أنك ستصبحين عشيقة؟

فترد:

– هذا لا يهم، أخ أكبر، أنا أحب ممارسة الجنس[9]، هذا أفضل من الأعمال المنزلية.

ثم نتبين بعد قليل أن اعتراضها، ومن ثم هروبها، لم يكن على أنها استعملت جنسيا، بل على أن طريقة الشيخ كانت فى غاية الرعب.

ومن هذا المنطلق نبدأ فى التعرف على الوجه الأول لهذا الفيض الجنسى، إذ نتعرف على هذه الطفلة السهلة القوية فى تسليمها واختراقها معا، ولعل القارئ العربى بوجه خاص لا يستطيع أن يستوعب – بسهولة – هذا النوع من الطفولة الجنسية القوية السهلة، مع أنه كان الأولى بذلك بما يحمل تاريخه من “زواج الطفلات”، وأصناف الجوارى فى أروقة الحريم من كل لون، وسن، وطبع، فهذه الجوارى الأحدث من الفلبين (أو لبنان .. أو مصر!!) لا يفترقن فى كثير أو قليل عن الجوارى الأقدم، اللهم فى ألفاظ العقد، وتحديد المدة، ومشاهرة العقد .. وما إلى ذلك، فقديما كانت الجارية المشتراة تصبح ملكا لسيدها لحين إشعار آخر (البيع أو العتق أو الموت)، أما الآن، فالجارية الأحدث توجر بعقد محدد المدة، مقابل جزاء شهرى فى العادة، وما أسهل أن تلفظ أو تستبدل بأقل التكاليف، وأحسب أن هذا النظام الأحدث هو أقسى وأنذل، فليس فيه أمان التسليم من سيد إلى سيد، وليس فيه ضمان ضد سوء الاستعمال، أقول أنه كان أولى بالقارئ العربى أن يفهم، أو على الأقل “يحسن استقبال” هذا النوع من العطاء الجنسى، حيث على المرأة (الجارية) أن تعطى جسدها – بل نفسها أيضا – بلا تمنع أو حرج، ولا تململ من قهر أو أمل فى مقابل أكثر مما ورد فى عقد الشراء أو الايجار، فلماذا – فى تقديرى – صدم الكاتب قارئه بهذا التسليم الاختيارى من ماتيلدا؟ أو قل كيف حدث ذلك؟

خيل إلى أن الجنس قد أصبح عند العربى (أو قل عند المصرى المتوسط كما عاينته من خبرتى المحدودة) قد أصبح علاقة قهرية بالضرورة، فلم يعد واردا على وعى الإنسان المصرى، حتى فى العلاقة الزوجية المدعمة بعقد مكتوب، ودين مشروع، ومجتمع شاهد، حتى فى هذه العلاقة الظاهرة التراضى، فإن الجنس لا يعدو أن يكون قهرا (متبادلاً فى الأغلب)، فإذا كان الأمر كذلك، فقد يكون طبيعيا أن يفاجأ القارئ العادى بهذا النوع من العطاء الجنسى السهل، الإرادى والواعى، فى ظروف أعبد ما تكون عن السهولة والإرادة والوعى.

ومن خلال هذا الحضور “الجاهز” لهذه الطفلة الفليبينية “تحت الطلب”، حتى لو كان الطالب الشيخ الشاذ نفسه، أقول من خلال ذلك بدأنا نتعرف على وجهى “الجنس الفيض”.

أما الوجه الأول فهو ما أسميناه “النتح السهل النشط” أو “النتح الدافق”: حين يبدو لنا العطاء هنا ليس مرتبطا بمومسية “للتصدير” كما تورط المؤلف ففسره فى البداية، حين أعلن أن هذه الإباحية متعلقة بغربة ماتيلدا (ص19): “خارج الوطن كل شئ مباح”، ذلك أن ماتيلدا بعد أن أعلنت تفضيلها هذه “الخدمة” عن أعمال المنزل، راحت تؤكد أن هذا هو موقفها المبدئى “هنا” و “هناك”، فإنها بعودتها إلى الوطن، سوف تسترد “روح الأرز” .. (… سوف آكل قليلا، وأمارس الحب كثيرا، ولكن مع من أختار، النقود تأتى بعد ذلك)… (ص 33)، وهى لا شك تفضل، بعد هذا الموقف المبدئى المعطاء، تفضل أن يكون شرط عطائها أن يرغبها الشريك رغبة حقيقية، متضمنة بداهة فهما وتقبلا، وربما احتراما، لكل ذلك فهى حين عرضت نفسها على مصطفى، راحت تنفى طبيعة الصفقة كأساس للتقارب، وإن لم تنفها ضمنا، فراحت تؤكد أن عرض نفسها عليه ليس ثمنا لكرم إجارته، فهى لم تكن أبداً فى حاجة إلى تنبيهه الذى أعلنه فى قوله (ص 34) “….. لا أريد ثمنا، حياتك ملكك[10]، وجسدك أيضا”، فقد أكدت له أن المسألة ليست ثمنا أو مقابل، بقدر ما كان شرطها الأول (وربما الوحيد) هو أن “يريدها”، أن “يرغب فى ذلك”، وقد تدخل الكاتب بوعى “لاحق”، حين أردف شارحا: “… كانت تريد أن تدفع له، ولم تكن تملك غير هذا الجسد الصغير”، وقد رفضت – قارئا هذه الوصاية من جانب الكاتب على شخوصه الذين كانوا يستقلون عنه معظم الوقت لكنه كان أحيانا يلاحقهم بتفسير هنا، ووصاية هناك، فأزيحه – قارئا – وأمضى إلى مخلوقاته مباشرة دون خالقهم، ولقد أشرت إلى مثل ذلك فى الهامش الأسبق حين فسر سماحها الجنسى بغربتها خارج الوطن، ولعل هذا بعض ما عنيته بقولى فى التقديم العام أنه مبدع رغم أنفه فى بعض الأحيان.

ثم أعود إلى المخلوقة الصغيرة – دون خالقها – لأؤكد مرة أخرى أنها صاحبة موقف مبدئى قوى بغض النظر عن الشريك أو الثمن اللاحق، وهى لاتهتم بتسمية ما تفعل، لكنها حتما “تفضلهم راغبين” (….. يجب أن ترغب فى حقا، أرجوك كن راغبا فى) (ص 38).

ثم ننتقل إلى مزيد من إيضاح معالم هذا الوجه “النتح الدافق” لهذا “الجنس الفيض” فنشكر المؤلف على تفصيلات المشهد (ص 39 وما بعدها)، حيث أورد تفصيلات هامة ومحددة قد تؤيد ما ذهبنا إليه:

1 – فقد أكد على أنه: صلاة:

“…… وضعت يدها على رأسها وأخذت تحرك شفتيها كأنها تتلو صلاة جنسية خاصة” (ص 39). “…. يتلو من خلال عروقهما المشترك صلاتها الخاصة لإله المتعة” (ص 40). “… لم تكن تريد لطقوس المتعة أن تنتهى” (ص 40).

وهى صلاة فى ذاتها، وكذلك فهى صلاة فى تأليهها للشريك الرجل:

“… أنت إلهى – دع عبدتك تقوم بكل العمل – أنا عبدتك الصغيرة، أنت إلهى الصغير” (ص 39). “…. علمتنى أمى أن الرجل إله صغير – تركته ينهض ويمارس الوهيته الصغيرة” (ص 40). “… ثم كأنها تقوم برقصة وثنية لإله شره، تقبل أصابع قدميه وأطرف شعر رأسه فى آن واحد” (ص40).

(ملحوظة): شعرت أنه لم يكن هنا مبرر لذكر الشراهة بالذات، وكان هذا من بعض ما اعتبرته “الوصاية اللاحقة”، أو “التزيد المخل”، مثل ذلك مثل سؤاله الذى بدا لى جسما غريبا حين قال لها:

“….. أنت تقومين بكل شئ، أين متعتك الخاصة” (ص40) فلم يكن السياق يسمح بذلك: لا حراة الفيض، ولا تلاشى الكيانات، هذا ما خيل إلى، وهو أعلم.

2 – ثم هو أوضح فى هذا الجنس حوار الأعماق:

فهو ليس مجرد صفقة “لحم فى لحم” (أنظر بعد: القصة الثانية)، وهو ليس تنويعات على لحن اللذة الخالصة، لكنه تكامل الوجود من خلال لغة جسدية لها حرارة التواصل إلى أعمق طبقات الوعى بالآخر. “…. وكان لسانها داخل فمه … كأنها تحاول النفاذ إلى أعماقه” (ص 39) (قارن المقابل لذلك فى الجنس الصفقة – القصة الثانية حيث كان اللسان هو ذنب ملكة النحل .. القاتل (ص 99):

“…. تدس أنفها فى كل قطعة من الثياب، تدخل رائحته بداخلها حتى تتشبع بها، رغبتها الحارة تنبعث من داخلها مباشرة” (ص 39) (لاحظ أن)

3 – ولم تخل هذه الصورة الجنسية من تحقيق حدس فرويدى هام[11]، استعمال داخلها هنا يشير ضمنا إلى نفى عقلنة الرغبة، كذلك إلى تجاوز الغريزة العارية – هذا رأيى).

“… حولت كل خلية من خلايا جسده إلى نقطة بالغة الرهافة تتشرب بالمتعة” (ص 40) “… تتجمع كل أحاسيسه فى نقطة ثم تنفرط على جسده كله”

 (ص 40).

(هذا، وقد وصف “جانوف”[12] أثناء علاج الصرخة الأولى أن أحد مرضاه من الرجال كان يشعر بذروة الشهوة (الأورجازم) مركزة فى طرف قضيبه ليس إلا، لكنه حين اخترق حواجز جسده بالعلاج (!!!) انتشر الشعور اللذى فى القمة إلى سائر جسده، والمؤلف هنا يحسن التعبير الذى يوحى بأن الجسد ككل، وليس العضو الجنسى كموضع معزول، هو الذى يمارس هذا النوع من التواصل  المتكامل).

 وهذا الحوار (حوار الأعماق) لا يتوقف عند عمق الداخل، لكنه ينتشر إلى دوائر الخارج:

“.. عندما قبض على جسدها أحس كأنه قد أوقف النجوم عن حركتها” (ص 40).

ثم أن المؤلف يعلنها صراحة، على مستوى الأجساد، نعم .. الأجساد تتحاور (لا تساوم، ولا تختزل): “… وأصبح الجسدان يتبادلان حوارهما المشترك” (ص 40). (ملحوظة): أعتقد أن هذا العمق لن يتبين بوضوح كما تبين لى إلا بالمقارنة بجنس آخر، وخاصة ما ورد فى القصة الثانية، وعندى أمل أن يعود القارئ إلى هذا الوصف – هنا – مرة ثانية بعد الانتهاء من القراءة الأولى.

ولم تخل هذه الصورة الجنسية من تحقيق حدس فرويدى هام

ذلك أن الكاتب هنا قد صور هذا الجسد الصغير، وكأنه (فى جملته) العضو الجنسى الذكرى شخصيا وهذا بعض ما ذهب إليه فرويد مما لم أفهمه طوال حياتى العلمية والمهنية بهذه الصورة إلا من هذه القصة “هكذا”

“… دعنى أتلوى فوقك كالثعبان، وباق أنت ساكنا كالعشب الأخضر” (ص39). “.. – … لم يدر أين هى بالضبط، تحته، فوقه، أم بداخله” (ص 40)؟ “دخل جسدها النحيف بين أضلاعه” (ص 38 – 39)، “غاصت فيه” (ص40).

وفى نفس الوقت لم تمنعه وضوح هذه الصورة الرائعة من أن ينتبه إلى تبادل الأدوار، فيجعل هذا الجسد (القضيب) هو نفسه رحما حاننياً حامياً “… احتوته فى جسدها” (ص 39).

وقد بدا لى أن أهمية هذا التعبير الشمولى لدور الجسد ككل هو إعلان وعى الكاتب، أو حدسه، بشمولية هذا النوع من الجنس، كما أننا نفينا ابتداء أن هذا الجنس هو صفقة “لحم فى لحم” (أنظر بعد) كذلك فإن هذا البعد ينفى تحديدا اختزال الجنس إلى لذة موضعية حيث اللذة هنا تغمر كل الجسد، كل الخلايا، كل الحول والطول، بالالتفاف، والاحتواء، والتداخل، والتمازج الكلى الغائر.

4 – وهنا يحتاج الأمر إلى تناول هذه المسألة الأخيرة بقليل من التفاصيل التى لم تغب عن الكاتب أصلا، فقد أشار إلى بعد “الالتحام المحو، وبالعكس فى أكثر من موقع، فهما يصيران واحدا جديدا ناميا على حساب التفرد السابق فى واحدية مستقلة، بما يصاحب ذلك من محو لكل ما عدا ذلك، لكل ما قبل ذلك، بل وما بعد ذلك “.. كانت تمحو بداخله كل الماضى والحاضر والمستقبل” (ص 40).

“….. ومن أجل أن يصل إلى هذه النتيجة (أنها المرأة الوحيدة التى كان يرغبها طول حياته) كان قد أتلف كل شئ” (ص 41). “…. التحما فى توقيت نادر” (ص 40). “…. أصبح لهما نفس الجسد ونفس الرائحة .. الخ” (ص 40).

وقد ذكرنا حالا أن هذا المحو لم يكن تلاشيا، ولكنه كان تخليقا لكل جديد، وهو ما يبدو لنا قانون الديالكتيك الأعظم، ذلك القانون الذى أطل علينا فى مجمل العمل، كما ظهرت ملامحه فى بعض تجليات التعابير “…. الحب بارد كحقول الأرز لاسع كنيران التنين” (ص 40)، “تقوده فى أناة ومهل دون عهر أو براءة” (ص 40) (لاحظ أن التعبير بالنفى هنا أروع فى اظهار الطبيعة الجدلية).

الوجه الآخر لهذا الفيض الجنسى (فيضان الشهوة يقتحم):

ويشاء الكاتب، بقدرة فائقة، أن يفجعنا مرة أخرى ونحن نعيش هذا الفيض الجنسى الراقى والرائق، فإذا به قرب نهاية القصة، أو قل فى نهايتها، يكشف عن وجه آخر لماتيلدا الفليبينية إذ تظهر على شاشة الفيديو فى صورة طوفان آخر، له توجه آخر يروى جوعا آخر، والكاتب لم يستدرج إلى موقف أخلاقى مسطح فيعرض لنا فسقا علنيا مقززا فى قصر الشيخ لمجرد أن يضيف صورة العهر والعربدة على من يمثل القهر والطغيان، أو ليعرى أكثر فأكثر حياة الرفاهية والفراغ التى يعيشها من يملك بغير عرق، لا … لم يفعل شيئا من ذلك، إذ أنه لو كان قصد إلى ذلك لما جعل بطلة جنس الفيديو هى هى ماتيلدا، أما وقد جعلها هى، فقد استشعرت أنه قد استطاع أن يخترق الاستقطاب الأخلاقى والايديولوجى الجاهز بهذا الاقتحام المنظم، فبدلا من أن يكتفى برسم ماتيلدا وهى رقيقة معطاء بمحض إرادتها لمن أجارها دون شروط، وبدلا من أن يؤكد على أنها هاربة مقهورة ليس إلا، جعلها هى هى بطلة هذا الفيلم الجنسى أيضا، فماذا نحن – القراء – فاعلون بتعاطفنا معها منذ البداية، وهى صغيرة، هشة، مجروحة، فائرة، معطاء فى حضن مصطفى ومن حوله؟

ننظر فى مشهد الفيديو أولا:

قبل أن تظهر ماتيلدا وجدنا أنفسنا نشاهد أشخاصا غير مميزين، وإذا بنا وسط إرهاصات دفق غامر بما يبرر ما ذهبت إلى تسميته بالطوفان الجنسى:

“……. كانت هناك مطاردة بين رجل وامرأة، الرجل يجرى عاريا، والمرأة عارية أيضا، تمسك فى يدها رمحا طويلا تطارده فى شراسة وعدوانية خالصة، (ص 49).

إذن فنحن أمام هجوم جنسى برمز محدد، ومن جانب المرأة أساساً، المرأة التى لم نتبين من هى حتى الآن، ثم تظهر ماتيلدا:

“…. ولكنه يفاجأ بماتيلدا على الشاشة … كانت تتلوى فوق جسد رجل لم يكن شكله واضحا فى الصورة، أهو الشيخ؟ أم أحد أصدقائه؟ أم يكون هو مصطفى نفسه؟” . (ص 50).

وهذه اللقطة تؤكد أمراً، وتضيف آخرا، فهى من ناحية تقول لنا إن الجنس الذى تعاطفنا معه منذ قليل هو هو الذى يعرض على الشاشة “… تتلوى فوق جسد رجل … الخ”، وهى من ناحية أخرى تعلن فقد الخصوصية وذوبان الهوية أمام سحق القهر، وبديهى أنه لا توجد وسيلة تكنولوجية تسترق الصوت والصورة بكل هذه التفاصيل دون علم صاحبها، مما يرجح أن هواجس مصطفى ومخاوفه هى التى سهلت عليه تقمص شريك ماتيلدا فى الفيديو، فضلا عن دهشته واستبعاده أن ما ذاقه طواعية واختيارا قد أعطته ماتيلدا لغيره علانية واستعراضا، فالأرحم له أن يعتبر رجل الفيديو هو نفسه، ليتعرى رغما عنه، من أن يشوه ما تصوره عطاء خاصا به وحده، وهذا التقمص يتضمن عرضا آخر مما نسميه فقد أبعاد الذات[13] Loss of ego boundaries  حيث يصبح الكيان نهبا للآخرين بلا حدود، فيذاع ما بالداخل على الملأ، وفى هذا الموقف بالذات، ومصطفى قد سلب كل شئ حتى صدق تجربته مع ماتيلدا، فإن فقد الهوية بهذه الصورة لدرجة تسهيل التقمص برجل الفيديو هو أقرب التفسيرات وأرجحها حيث تداخل عرض الاذاعة Broadcasting  مع حيلة التقمص والانكار Identification & Denial فقد فضل أن يعتقد أنه قد أذيع ما كان بينه وبين ماتيلدا، فراح يتقمص الشخص الذى فى الفيديو حتى لا يكون غيره (مما لا يحتمله)، وبذلك ينكر أن تعطى ماتيلدا لغيره ما أعطته له هكذا بحذافيره، وكان من أروع ما وفق إليه الكاتب أنه، وحتى نهاية القصة، أنه لم يجزم لنا إن كان مصطفى هو رجل الفيديو نفسه أم لا.

وينبغى أن نتوقف ثانية عند إصرار الكاتب على أن جنس الفيديو هو هو جنس الحجرة الخاصة على سطح بيت متواضع “…. قالت نفس الكلمات، وضج وجهها بنفس الشهوة ، ونزت نفس حبات العرق” ثم هو يذكرنا أن عطاءها هذا يفيض ولا يفرق، يغمر ولا يغرق، إذ سرعان ما يردف: “… كأنها تضاجع كل الموجودين فى القاعة” (ص 50).

لكنه هنا – ومن خلال كشف هذا الوجه الآخر لنفس الجنس – يكاد يؤكد أن هذه الشهوة الجامحة هى القائد لهذا كله، بل لعلها هى هى المسئولة عن إثارة شذوذ الشيخ “كانت شهوة ماتيلدا عارمة حتى أن المنظر كاد يصبح ضبابيا من أثر الصهد المنبعث من جسدها”، وقبل ذلك كان قد أشار إلى أنه “.. لعل هذا الانكسار والذوبان فى ممارسة الحب هو الذى دفع بالسيد الشيخ إلى شهوة جنونه، هذا التفانى الجسدى هو الذى جعله يصنع من جسدها مطفاة لسجائره ..” (ص 39) فهل بقى بعد ذلك شك فى أن ماتيلدا هى ماتيلدا مع كائن من كان، وأن هواجسه عن شخص الفيديو أنه هو نفسه ليست إلا نتاجا لما ذكرنا؟ فهو يقارن ويخاف ويستبعد فيتقمص، فيتعرى “… يعرف هذه الانتفاضة، وهذا الاحساس الغامر بالمتعة، والشعور الطاغى بامتلاك ما لا يمتلك، بالألم والفرح والخوف والانبهار” (ص 50).

فلما كانت ماتيلدا هى ماتيلدا، والشهوة هى الشهوة، والفيض هو الفيض، فلماذا نعتبره وجها آخر لنفس الجنس، ولماذا لم نكتف بأن نقول أنه هو هو مع مصطفى أو مغ غيره؟؟

أعتقد أن هذه التفرقة الدقيقة هى من أفضل حدس المؤلف بلا جدال، ذلك أنه لم يستسهل، ولم يستقطب، فمن أبرع براعة الكاتب أنه قدم لنا صورة تفان جنسى رائق، وما صاحبه من ذوبان وولاف والتحام وامحاء … وصلاة وخشوع فى إيقاع نابض فشمول وانتشار، فلم نكد نقول “هذا هو” حتى راح يفاجئنا بأنه أيضا، وربما قبلا: شهوة عارمة: وصهد صاهر، ومومسية معلنة (وكأنها تضاجع كل الموجودين بالقاعة) (ص 50).

وقد لاحضت أنى شخصيا – وخاصة فى القراءة الثانية فالثالثة – لم أعد أشعر بأى تناقض فى كل هذا، ثم رحت أحمد له هذه الجرعة الإبداعية الجسور، وفى نفس الوقت فإنى لم أقبل أن يكون جنس الفيديو مجرد تسجيل متجسس لجنس الحجرة، لا .. أبدا، ليس جنس الاختيار الحر والنتح الفيض الدافئ هو هو جنس الطوفان الغامر والفيضان الصاهر، صحيح أنهما ينبعان من مصدر واحد هو التصالح مع الجسد، وتلقائية العطاء، لكن الذى يوجه المسار إلى هذه الوجهة (الوجه) أو ذاك هو المجال والتلقى، فحين كان المجال إنسانا شهما متواضعا خائفا اتضحت صورة النتح الطبيعى والصلاة المذيبة .. الخ، وحين كان المجال إثارة وشيوعا وتحديا واستعراضا تميزت صورة الطوفان الشهوى والفيضان اللذى فى دفقات صاهرة مذيبة، ولعلنا نذكر تعبير الكاتب: “دون عهر أو براءة” فى محاولة تنبيهنا إلى هذه القضية التى تجعل البراءة (البرود الزوجى عادة) هى النقيض للعهر (= الفجر القارح) مما يوقع الأزواج – على غبائهم وحسب طلبهم – بين اختيارين انشقاقيين متضادين: فإما الخيانة مع من تعرف مفاتيح الجسد فى دور اللهو وأمثالها[14]، وإما الجفاف أو البرود مع وسائد لحمية خالية من الحياة، فرحت أعتبر هذه اللقطة العميقة من أبرز اقتحامات المؤلف، عساه إذ أفجعنا أيقظنا، وإذ واجهنا عرانا، لعلنا نرفع الوصاية عن أجسادنا وأجساد أولادنا دون خوف من عهر أو دعارة، إذ ندرك أن تحرير الجسد ليس معناه التفريط فيه، بل إنه يعنى مزيدا من احترامه، فإذا تحرر الجسد ابتداء ناغم الطبيعة، ثم تأتى بعد ذلك المسألة الأخلاقية يحددها المجال لا تشويه الفطرة، فالاختيارات ثلاثة على الأقل: إما الحرية الفضيلة، أو الثلاجة الجبانة، أو الصفقة الدعارة …. (وليست استقطابا بين براءة باردة وعهر قارح).

وهذه الأخيرة: الصفقة الدعارة، هى الأقرب إلى صورة الجنس كما بدا فى القصة الثانية، فإليها:

القصة الثانية: الوداعة والرعب

“الجنس الصقفة” (الجسد اللحم)

تأتى قصة “الوداعة والرعب” (الثانية فى المجموعة) لتؤكد موقف الكاتب وقدرته على معايشة الواقع الآنى بسبق سوف يذكر له، ففى هذه القصة راح يقتحم موضوع التطبيع مع الجارة اللدود، فرسمه بحدة تحدياته على مختلف المستويات، دون استقطاب مسطح، فهو قد أوضح وجهة نظر الابن الشاب اليائس الضجر المهاجر (مع وقف التنفيذ)، وموقف الأم الخرساء حزنا على ضناها الشهيد، ثم موقف الأب المتردد بين قبول الأمر الواقع وألم الشعور بالغفلة والخضوع للعبة أكبر من مقاومته، فردا منهكا. مكلوما، وقد اتخذ الكاتب لشخوصه مسرحا يتحركون فيه بعيدا عن أرض الوطن (مصيف فارنا) مما أتاح له مساحة أكبر للحركة والمراجعة والحوار المتنوع، لكنه كان بمثابة من نقل معه الوطن (ممثلا فى بقية أفراد الفوج السياحى)، فاستطاع أن يرسم لنا صورة رجل الأعمال الذى يستنفع من التطبيع – بالمرة – ثم قدم الأستاذ الجامعى الإسرائيلى الذى يتقن “الجاسوسية العلمية” الأحدث والأخبث، وابنته التى تذكرنا بالصورة القديمة لليهودية البائعة جسدها بالمقابل المناسب حسب احتياجات السوق وتعليمات الطائقة، وقد استطاع الكاتب أن يقدم لنا صورة عصرية مواكبة حيث جعل الثمن فى هذه القصة هو وعى الشاب المصرى وكيانه، وتليين الوالد المصرى وترويضه، غير المكاسب الأخرى المحتملة مما لم يعلن.

وجاءت الصورة الجنسية – إذن – فى هذه القصة مختلفة تماما عما قدم الكاتب فى القصة الأولى، وهذا فى حد ذاته دليل على أن الكاتب لا يكرر نفسه، وأنه يستقى معلوماته عن الجنس من مصادر جاهزة – علمية أو أدبية – بل من حدس إبداعى يفيض فى كل خلق بحسبه، ففى هذه الصورة نفتقد المعالم التى ميزت الجنس فى القصة الأولى، معالم الوجهين معا، فرغم أن الجسد هنا أيضا يحتل الواجهة، إلا أننا نفتقد هنا السلاسة والسهولة والتكامل الجسدى فى الوجود الكلى، كما نفتقد العطاء الحر الغامر، .. الخ، وقد كان على – كقارئ – أن أنتبه إلى الفروق الجوهرية وراء الشهوة الجامحة الغامرة هنا (أيضا) حتى لا أخدع فى شبه ظاهرى، وهذا ما كان:

فالجنس هنا هو جنس وقح، منفصل، ملتذ، موقت بوقته، يبدأ جسديا وينتهى جسديا، مفرزا على جنبينه بنود الصفقة بما تعلن وما تخفى من منافع متبادلة، وشروط محددة.

كانت صفقة طول الوقت، حتى الألفاظ التى استعملت فى وصف البضاعة أو المساومة أو العملية كانت أقرب إلى لغة التجارة بشكل أو بآخر:

تبدأ الصفقة مثلما يفعل أى تاجر شاطر بالملاحقة والاثارة: “………. لكن طارق أحس بها وهى تلاحقه بصمتها الغريب، بجمالها الغامض” .. الخ

(ص 72)

ويمضى الزيون فى مقاومة العينة بسائر البضاعة المعروضة، لكنه يستسلم فى النهاية لبضاعة التاجر الأشطر الواثق من نفسه (…. تستحوذ عليه وتفقده أية متعة يمكن أن يشعر بها وهو يرى كل تلك الأجساد العارية التى يمتلئ بها الطريق) (ص 72) (وكأنه يتفرج على بضاعة مرصوصة على الارصفة على الجانبين)، ثم يظهر ما يشير إلى أن المسألة محسوبة بشطارة غير معلنة “…….. يحيط بهما جو من الريبة والتواطؤ” (ص 78) (لاحظ كلمة التواطؤ هنا بما يقابل “سيم” التجار، وخاصة السيم السرى بين التاجر وولده والذى لا يعرفه حتى العامل بالمحل).

ثم تتعرى المسائل، ويوفق الكاتب توفيقا شديدا حين يتكلم ويعاود تكرار أن العلاقة الجارية ليست إلا علاقة بين جسدين، ليست بين كيانين أو شخصين، يا له حين يقول: “… فى أى لحظة عند انطلاق أى شرارة، سوف يمتزج اللحمان ..” (ص 78)، إذن لم يعد هناك شك أن المسألة برمتها هى صفقة جسدية محددة: ملاحقة، استحواذ امتزاج اللحمين، (ولابد من وقفة عند استعمال لفظ اللحم هنا فى صيغة المثنى).

ثم تمضى الصفقة اللحمية “…. يد فى يد، وصدر فى صدر”، “… لحمها يتوثب من خلال ثوب الموسلين” (ص 80).

وربما كان مما يخفف من وقع التجارة والشطارة أن الصفقة جرت فى جو شبابى حار، مما يجعل الصفقة مبلوعة بعض الشئ، فلا شك أن ثمة جذب لحمى “كان من ضمن البنود والشروط والعوامل المساعدة” .. اكتشفا أنهما خفيفان لا تكاد أقدامهما تلمس الأرض (ولعل هذا ما جذب انتباه د. على الراعى إلى اللحظات التى رقصا فيها رقصا رقيقا متناغما) لكنهما ليسا سوى جسدين حتى للناظر من الخارج “… ألا يمكن لهذه الموسيقى أن تتوقف، وهذان الجسدان أن ينفصلا ..” (ص 82).

ثم يتأكد ما ذهبنا إليه فى المشهد الجنسى العارى، حيث الخلفية كلها أجساد فى أجساد، بكل ما فيها من “قبح وجمال” (والذى لا يشترى يتفرج) حيث كان العرى هو إذن الدخول: عرى الجسد والأحاسيس والرغبات (ص 92) لكنه لم يحدثنا – ربما حدسا إبداعيا – إلا عن عرى واحد هو عرى الجسد وفى هذا المشهد بالذات يبدو أن الصفقة كادت تكتمل، فالبضاعة واثقة وحاضرة، والزبون مجذوب، وكأنه قد فقد إرادته (… لم تبال حتى بالالتفات، كانت متأكدة من أنه يتبعها) (ص 98) ثم انظر كيف لم يفت المؤلف تحديد “ماذا” يتبع: “… كان فقط يتبع رائحة جسدها” (ص98).

وحين التقى الجسدان، كان لقاء ذا دلالة هامة، حتى وكأن الثقل الميكانيكى للجسد هو الذى أدى إلى الالتحام الأولى: “… خطا الخطوة الأخيرة إليها، أحس بنفسه فوق جسدها” (ص98) ولأنها مسألة ميكانيكية، فالمحرك و “الموتور” مازال باردا، ربما احتاج بعض الوقت للتسخين (قارن حرارة وصهد ماتيلدا فى القصة الأولى) فهو يردف: “.. كان (جسدها) باردا مرتعدا، فتشبث فيه بكل قوته” (ص98).

فإذا كانت صفقة كما استقبلناها فإنه من المناسب أن نعرف طبيعتها ما هى؟ ماذا مقابل ماذا؟ أو بكم؟، وأحسب أن الكاتب ألمح، وصرح، بطبيعة هذه الصفقة، وتصورى أنه يمكن صياغتها كالتالى:

“خذ جسدى – بضمان والدى وعلمه – فى مقابل أن تسلمنا – أنا وأبى وناسى – كيانك ووعيك وانتماءك”.

إذن فالثمن هو الثمن الذى يدفعه ذكر النحل ليواقع الملكة، وقد ذكر الكاتب هذا القياس الرمزى تحديدا حين قال: “…… لسانها لاذع كأنه ذنب الملكة” (ص 99)، ثم هو الذى أشار من قبل (ص 98) إلى “…. رائحة شهد الملكة التى تودى بكل الملوك” (لعله يقصد الذكور).

وقد أشار عبد الغنى (الوالد المصرى) إلى طبيعة هذه الصفقة وكأنه يكتب المذكرة التفسيرية لبنود العقد، إذ طلب وعداً من والد ليزا (البروفيسور الصهيونى) وعدا تحفظيا “… هل يمكن أن تعدنى ألا تقتلوا طارق أيضا؟” وللقارئ أن يقرأ “القتل” كما شاء، (الاستيلاء على إرادته، تهجيره إلى أمريكا، تخديره حتى ينسى) والكاتب لا تغيب عنه ألاعيب الصهاينة “السلمية” “..جاءوا، وأقاموا وتناثروا كنباتات الحلفا” (ص 66) أو “… أنهم يدخلون تحت جلودنا أكثر مما ينبغى، يأخذون الأسرار، والمتاعب الدفينة، يدرسونها ويحللونها لتصبح نقاطا فى صالحهم، كل سر صغير يساعدهم على قتل المزيد من الناس” (ص 93) أليس هذا هو “القتل” الذى كان يطلب عبد الغنى من والد ليزا أن يعده ألا يحدث؟

إذن فالثمن هو “الكيان”، هو التلاشى، ليس تلاشيا بالمعنى الأول فى القصة الأولى، أى تلاشى النقيضين فى الجديد المتخلق، لكنه تلاشى الكيان الأضعف – وإن بدا ذكرا – فى الكيان الملتهم، فهل يا ترى كان الكاتب يقدم هذا البعد الموازى ليعلن رأيه فى طبيعة الصفقة الأكبر أى: تسليم الأرض (سيناء) فى مقابل استسلام الكيان المصرى (كشخصية حضارية مستقلة واعدة)؟؟
وعلى ذكر مقارنة التلاشى هناك (القصة الأولى) بالتلاشى هنا (القصة الثانية) فإنه يمكن البحث عن مقابلات أخرى موازية مثلما أشرنا إليه فى دلالة لغة اللسان فى الفم، والتى نكررها هنا للأهمية ومزيد الإيضاح:

هناك: “.. كان لسانها داخل فمه .. كأنها تحاول النفاذ إلى أعماقه” (ص 39)

هنا: “.. لسانها لاذع كأنه ذنب الملكة” (ص99)

هناك: “… تقوده بأناة ومهل دون عهر أو براءة، ولم تفقد وعيها بما يحدث، ثم شاركته فى نفس اللحظة، غرست أظافرها فاختلطت المتعة بالألم”

(ص 40)

هنا: “…تعض عضلات صدره، وتخمش ظهره بأظافرها ويتحول صوتها إلى نوع من العواء الحيوانى الجائع” (ص 99)

(غرس وخمش، ولكن شتان بين لحظة ألم محدد يؤكد التداخل والتوحد، تعقب قيادة متمهلة متأنية “دون عهر أو براءة” (هناك) وبين عواء ذئبة تعض وتخمش فريستها طول الوقت (هنا).

هناك: “…. كان يريد أن يعرف من صاحب هذا اللحم الذى يمتزج مع لحمها” (فى الفيديو) (ص50).

هنا: “… عند انطلاق أى شرارة سوف يمتزج اللحمان” (ص78).

ومع أنى لا أستطيع أن أميز فرقا دالا بين امتزاج لحم ولحم، إلا أن مصطفى (فى القصة الأولى) لم يتكلم بهذه اللغة إلا حين انفصل عن الموقف وهو يشاهد الفيديو مغيظا غيورا متقمصا ناكرا .. الخ، ومن ثم اقتربت الصورتان.

على أن ثمة بعدا آخر فى هذا الجنس الصفقة فى القصة الثانية، وهو أن طارقا إذ راح وراء “البضاعة” مجذوبا مخدرا، عومل هو أساسا كبضاعة مشياة فعلا، أنظر حين سألها أصدقاؤها مشيرين إليه “… من أين أتيت بهذا الشاب؟” (ص 100) وكأنها كانت تتسوق فاقتنته، فسألوها مثلما يسأل الواحد منا صاحبه: “من أين أتيت بهذا الجورب، أو هذا الحذاء .. الخ”، كذلك فقد تأكدت معاملته كالآلة “الجنسية” التى تفرغ لتمتلئ “… سوف نبعث فيه النشاط من جديد” أو: “……. وأخذت تسكب على رأسه البيرة” (ص101) وكأنها تملأ الخزان بالوقود (التنك بالبنزين).

ثم تأتى النهاية لتعلن فشل الصفقة، لأسباب خارجة عن إرادة المتعاقدين، لكن يبدو أن البنود السرية التى كانت تجرى موازية للصفقة الجنسية كانت جزءا لا يتجزأ من “الاتفاقية”، ولعل التحام الشابين فى الجنس كان المعادل الموضوعى لالتحام جسد الوالدين الدموى فى العراك البدنى (وبالعكس)، ورغم اعتراضى على النهاية، (فلم أفهم لم يكون القتل متبادلا، فالسياق يغرى باعدام القاتل لا الضحية مما لا داعى لتفصيله هنا) فقد أعلنت (النهاية) بشكل أو بآخر أن الجنس إذا انفصل عن الكل، أو كان وسيلة لغيره، وإذا كان تخديرا ماديا محدودا، فهو العدم ذاته، حتى لو تأخر أعلان هذه الحقيقة.

القصة الثالثة: اتجاه واحد للشمس

الجنس اليأس (تراكمات الجوع والفقر)

وددت لو اكتفيت بهذه المقارنة بين جنس وجنس من واقع قصتين طويلتين، أو قل روايتين صغيرتين، كتبتا – فيما يبدو – فى زمن متقارب، إلا أنى عدت فقدرت أن النظر إلى قصة أقدم[15] (وأقل جودة) قد يضيف بعدا زمنيا لتطور الكاتب، كما قد يكشف لنا أشكالا أخرى للجنس لم تغب عن وعى الكاتب، مما يؤكد ما ذهبنا إليه مقدما من أنه إنما يستهدى بحدسه بأقل قدر من الوصاية.

وقد فضلت أن أكتفى بالاشارة السريعة إلى ما ورد فى هذه القصة الثالثة من تنويعات جنسية للوفاء بالغرض الذى أوضحته حالا، لكننى توقفت عند نوع منها غلب على أجوائها، وهو ما تعلق بالجنس مدفوعا بالفقر والجوع (على أكثر من محور) معلنا اليأس (تراكماً .. ففجأة) وقبل ذلك أقدم خطوط وجو هذه القصة الثالثة فى إيجاز:

تجرى أحداث هذه القصة فى مصنع له صاحب (“حاج” كالعادة)، وله مدير، ومساعد مدير، وبه عمال ورئيس لهم، بينهم أسطى (نقابى أو كالنقابى) يحب الآلات ويكره توقفها كما يكره أصحابها، وثمة كاتبة وعاملات .. الخ، ويدور الصراع تقليديا بين العمال من ناحية وصاحب المال من ناحية أخرى، وتتحدد العلاقات بالطريقة التقليدية، على محاور متعددة، لا تخلو من عاطفة هنا، وشذوذ هناك، وأفكار وتلميحات جنسية طول الوقت. ثم تنتهى بلقاء جنسى غير محسوب، بين عاملة شهية، وعامل فتى، على أكياس القطن فى عز النهار، فيضبطان، فينتهزها صاحب المصنع فرصة ليصرخ: “..كأنه يعلن صيحة الجهاد: نجاسة” ويفسر بذلك ما أصاب آلات المصنع من عطب حتى توقفت جزاء وفاقاً لهذا الاثم الذى يجرى بين عماله “… قطعت عيش العمال يا نجس يا ابن الكلب” (ص142).

فكيف ظهر الجنس متخللا نسيج القصة من البداية للنهاية؟

كان الجنس دائما فى خلفية الأحداث، كل الأحداث تقريبا، فكنت تشعر به، إن لم يظهر صريحا، وهو يتحفز متلمظا على جانب ما من وعى الجميع، وكان التعبير عنه فى كثير من الأحيان تعبيرا جسديا بدائيا، فالريس أحمد “.. تزداد حدة الأكلان لديه حين يشاهد بهية بجسدها الملفوف وساقيها .. الخ” (ص 115)، “واكتشفت بهية أن الريس أحمد مازال جالسا يحتك فى الجدار وهو يحدق فيها” (ص118).

كذلك فقد فهمت، أو قدرت، أن قئ سامية المفاجئ كان تعبيرا جسديا عن مساومة إبراهيم (خطيبها مساعد المدير) الذى يقول لها: “.. الأمر لا يتطلب أكثر من أن تكونى ظريفة معه (مع المدير) متجاوبة قليلا” (ص126)، “.. وكان لحمها حينذاك باردا مقشعرا، ولم يبد على وجهها تعبير من أى نوع” (ص126) .. وهكذا كنت أشعر فى كثير من الأحيان أن الجسد والأحشاء تتحدث بلغة بديلة وقوية ودالة كلما اقتربنا من ما هو جنس على أى مستوى.

كذلك تعددت الصفقات الجنسية بشكل صريح وعلى مختلف المحاور وبمختلف المقايضات، فهى لم تقتصر على صفقة لحمية مثل القصة الثانية، ولم تتحدد بثمن باهظ كما تحددت هناك، (جسد مقابل كيان)، لكنها كانت صفقات عابرة متناثرة ناقصة مجهضة دائما أبدا، هنا وهناك ، على أن ثمة صفقة أساسية – لم تتم أيضا – تعلن صراحة وتحديدا هى تلك التى تتحدث عنها بهية “لم يتقدم من يشترى الصفقة كلها .. هى، ولحمها، ورطوبة فقرها..”، “..كل الذين تقدموا كانوا يريدون التقاطها هى فقط .. جائزة ثمينة عن مجهود لم يقوموا به” (ص 120) وتبدو طبيعة الصفقة أكثر صراحة قالت لها امرأة عجوز (بعد أن شهقت وبسملت): “.. إن ثمنك غال فلا تفرطى فى نفسك .. الرجال حيوانات لكنهم يفهمون الشئ الجيد وهم على استعداد لدفع الثمن المناسب” “..ثم دعى المساومة لى” ثم “… لا تتركى نفسك بالمجان” (ص 132)

كانت هذه أصرح صفقة معلنة ومباشرة، ومع ذلك فهى لم تتم، لأن تراكم الجوع وإلحاح اليأس أفسدا الحسابات (أنظر بعد)

ولعل الصفقات الثانوية الأخرى كانت تسير على نفس المنوال، صفقات بالأجل، وفى الخيال، ومع وقف التنفيذ.. الخ فقس على ذلك علاقات رتيبة مع شنودة أفندى (دواء للخوف والوحدة فى مقابل القرش والزواج) “.. خيل إليه أن جسدها يمكن أن يكون تابوتا دافئا لجسده”، إبراهيم مساعد المدير وسامية الكاتبة، علاوى للخطيب مقابل لين للمدير “فى حدود الأدب”، ثم بنايوتى (صاحب المصنع السابق) مع شنودة أفندى (ارضاء شذوذ بنايوتى فى مقابل الاستعلاء .. “القفز على أسيادك يا شنودة”) وهكذا كلها صفقات مادية، مختزلة ومحسوبة ومجهضة يحيط بها الحرمان ويطل من خلالها اليأس.

وتأتى النهاية لتؤكد أن الجنس هنا قد تفجر تلقائيا بلا صفقة ولا حتى غاية، فبهية صاحبة الجسد الذى يساوى الشئ الفلانى تجد نفسها فى لقاء عفوى مع عبد التواب، لقاء بدا أبعد ما يكون عن المساومة أو حتى اللذة الواعية المختارة، فكشف هذا اللقاء عن تراكمات الجوع والفقر حين تصل إلى حدة ملحة، فتدفع بهية – وهى تعلم ثمن جسدها – إلى اليأس فالجنس، فتلتقط بالصدفة رغبة ميتة من زميل منهك “.. كانت جائعة .. وعليها أن ترضى بفتات الطعام .. وفتات الرجال .. إذا كان هناك رجال” (ص 120)، وقد كانت تظن أنه لا يوجد من يملؤ عينها ويستأهل جسدها فضلا عن أنها كانت محاطة طول الوقت بـ “رطوبة فقرها” “.. كانت بهية متعبة وجائعة إلى درجة الحزن” (ص137)، ثم “.. يطل عليها وجه عبد التواب يحملق فيها ولا يحمل إلا مزيداً من الغبار والتعب والرغبات الميتة ..” (ص132)، لاحظ إلى أى مدى وصل الانهاك، ثم لاحظ “الرغبات الميتة” فماذا يقفز إلى وعى بهية بالمقابل وقد وصلت رطوبة الفقر ولسع اليأس إلى مداهما؟ فورا تتذكر قول المرأة العجوز: “لا تتركى نفسك بالمجان” (ص 132) لكن الواقع والانهاك لا يسمحان بالمساومة فالشوارع تضيق من حولها وتمتلئ بالعيون الواسعة بدون أهداب، بالدكاكين الفقيرة الترابية، إذن فالفقر يتحدى، واليأس يتقدم، وكل شئ يضيق وحين التقى الجسدان لم ينجذبا إلى بعضهما، وإنما التقيا بفعل قوى طاردة (الجوع والفقر واليأس)، وكأنهما تصادما ابتداء، لم تكن ثمة رغبة دافعة أو دافقة، ولكن بعد الصدام تحرك المجهول بشرارة المصادفة، وليكن ما يكون، فلم يعد هناك ما يعد بانتظاره “..كانت مشمئزة ومتعبة، تحس برغبة لشئ مجهول”، “.. كان مقلا عليها ككابوس، كحلم بلا لون” (ص139) فهل بقى بعد ذلك مجال لتأويل؟

وهكذا نرى نوعاً آخر من الجنس يحدث عفوا بفعل قوى طاردة تتصادم بسببها أجساد وكيانات منهكة يحيطها اليأس وينخر فيها الجوع ويذلها الحرمان، فلا صفقة لحمية، ولا تفجر طبيعة، ولا شئ يبقى بعد شرارة المصادفة، اللهم إلا الوشم بالنجاسة والنبذ والاتهام.

وبعد

فلقد حاولت بهذه القراءة أن أقدم للقارئ (وللكاتب على حد سواء) محاولة قراءة مجتهدة، فيما هو جنس، تلك المنطقة التى يتصور الناس أن العلم قد أحاطها من كل جانب، فى حين أن الفن الصادق هو القادر على كشف طبقاتها، ولغاتها، ومحاورها، طالما يحرك الإبداع وعى مخترق، وحدس نشط، دون وصاية أو نمطية.

وهذا ما فعله محمد المنسى قنديل قبل وبعد كل شئ.

[1] – قدم هذا العمل فى ندوة نوفمبر (1987) الشهرية للجمعية التى تصدر هذه المجلة وشارك فى تقديمه د. عصام اللباد، وحضر الكاتب الندوة، وساهم فى تواضع وإيجاز – بما تيسر.

[2] – دافع عن هذه السلاسة بوجه خاص د. عصام اللباد.

[3] – أرقام الصفحات تشير إلى طبعة روايات الهلال عدد أغسطس 1987.

[4] – حضرنى الآن مثل طيب هو “البحث عن وليد مسعود” للكاتب جبرا إبراهيم جبر حيث وظف الجنس توظيفا مبدعا فريدا، قد نعود له يوما: قراءة مكتوبة.

[5] – “الأحداث الدامية فى قصص المنسى قنديل”، ابداع، عدد 12، السنة الخامسة، ص 23.

[6] – علامات التعجب إضافة طبعا !!

[7] – د. على الراعى، 25 ديسمبر 1987، محمد المنسى قنديل، وثلاث من قصصه القادرة المصور، عدد 3298

[8] – كان من أضعف نقاط تصوير هذا القهر: تكرار الصورة القديمة للمدرس الذى يضطر إلى مغازلة بنت الناظر العانس (ص27) (تكرار: السكرتير الفنى – سك على بناتك إلى آخره..)

[9] – أردف الكاتب تعليقا هاجسا على لسان “مصطفى” يفسر هذا الموقف بأنه “…. خارج الحدود كل شئ مباح ..” وهو من وصاياته التزيدية (انظر بعد).

حين أكرر “طفلة” لا أعنى السن بداهة، وقد استعرت الصفة أساسا من حجم الفليبينية الذى أوحى للكاتب عدة مرات بهذا الوصف لكن المعنى يتجاوز الحجم طبعا.

[10] – خيل إى أن كلمة “حياتك” هنا تزيد مخل.

[11] – Janov, A. (1970) primal scream, New York G.P. Putman’s Sons.

[12] –  يزعم فرويد – بحق – أن الانثى (إذ هى طفلة فامرأة) فى محاولة انتصارها على افتقارها إلى قضيب أسوة بالذكر (حسد القضيب Penis Envy) فإنها تجعل من جسدها كله قضيبا، أو رمزا للقضيب

[13] – انظر حالات وأحوال هذا العدد ص

[14] – من أشهر هذه الأمثلة انشقاق “السيد أحمد عبد الجواد” فى ثلاثية نجيب محفوظ

[15] – هكذا قال لنا الكاتب فى الندوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *