الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1987 مارس 1988 / عدد أكتوبر1987-مارس1988علم النفس من رؤاهم فى رحاب التصوف الإسلامى

عدد أكتوبر1987-مارس1988علم النفس من رؤاهم فى رحاب التصوف الإسلامى

علم النفس

من رؤاهم فى رحاب التصوف الإسلامى

(فى رحاب النفرى)

مقدمة:

وهذا مدخل آخر لما هو “علم بالنفس“، وهو التعبير الذى لن نكف عن استعماله حتى نفتح الأبواب على مصراعيها للمعرفة الحقيقية، والغائرة، والموضوعية، بما هو “نحن”؛ “كيف”؟ “وإلى أين”؟ جنباً إلى جنب، بل سبقاً على، ما هو علم النفس كما أختزلته المخاوف والوصاية والمناهج، أما المداخل السابقة فكانت من أبواب الأدب، والتراث الشعبى، والموقف إزاء المقتطف، وإعادة القراءة، مما تعود قارئنا عليه منذ صدور هذه المجلة، ورغم يقيننا الواضح بأن التصوف أساساً هو خبرة معاشة، غير قابلة للكتابة، فالشرح وما أشبه، إلا أننا بعد ما تلكأنا أكثر مما ينبغى لم نعد نملك إلا أن تعاود المغامرة، فقد اكتشفنا أننا لو استسلمنا لهذه المقولة (العجز عن الكتابة عن مالا يكتب) فإننا نساهم فى دفن هذه الخبرة البشرية (الإسلامية خاصة) بعيداً عن وعى من لم يألفها، فلم يرتدها، وبالتالى فنحن نساهم فى اختزال الوعى الإنسانى إلى ما أريد به من جانب الوصاة والمستثمرين!!!

فاستخرنا الله، وهممنا نقول، معتذرين لمولانا الإمام الغزالى الذى حذر يقول :

فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر فهل نجرؤ أن نقول :

فكان ما كان مما سوف أذكره، فظن خيراً وهيا اسأل عن الخبر لا، لا نجرؤ، إذ لا يمكن ذكر ما كان، فغاية الممكن هو الدوران حوله، لعلنا نستنشق بعض عبير متنها؟

وقد يكون مناسباً أن نبدأ بالتطفل على مائدة مولانا محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفرى.

فى رحـاب “النفـرى”

وقفة فى موقف ما لا ينقال (موقف 34 صفحة 59)(1)

اخترنا أن نبدأ بهذا الموقف لأننا كنا فيه حالا (أنظر المقدمة) إذ كيف “نقول” مالا ينقال؟ يعلمنا مولانا النفرى، يقول :

  • أوقفنى فيما لا ينقال وقال لى : به تجتمع فيما ينقال”

إذن فما لا ينقال هو وسيلة معرفية فائقة إلى ما يمكن أن ينقال، لاحظ “به“، ثم لاحظ “تجتمع” فهو لم يقل به تعرف ماذا ينقال، وإنما قال “به تجتمع”، ثم انظر حرف الجر “فى”، تجتمع فيه”، فـ فـ : فينقال، وحتى نجتمع فيه لـ لـ : لينقال، علينا أن نقف فيما لا ينقال أولا، وكثيراً

(فكيف نفعل والتليفزيون، والمنهج والوصاية تلاحقنا من كل جانب ؟؟؟)

وقد يؤكد ما ذهبنا إليه أن يردف النفرى :

  • وقال لى : إن لم تشهد مالا ينقال، تشتت بما ينقال”

فشرط أن يكون ما ينقال جديراً بالانصات، أو بالحضور، أو خليقاً بالحوار، أو واعداً بالإضافة، شرط ذلك أن “نشهد” مالا ينقال، فان لم نفعل (عفواً مولانا) أصبح ما ينقال عبئاً على معرفتنا لا إضافة إليها، ذلك لأنه لا يكشف مالا ينقال، ولا يشير إليه، ولا يحدد بعض معالمه، ولكنه يشتته،

(وهذا بعض ما تفعله المناهج المحكمة الرصينة، بالمعرفة الكلية الخطيرة، فهى تظل تجزئ فتجزئ حتى تتشتت الحقيقة، فكأننا، بالتزام منهج “ينقال” دون شهود مالا ينقال، نضاعف من تجهيل منظم تحت لافتة علمية براقة).

ونقف هنا أيضا أمام المعنى المرادف لما هو “الإيمان بالغيب”، وهو أساس جوهرى فى عقيدة الإسلام، فقد استحلى البعض أن يكون الإيمان بالغيب ضرباً من التسليم للمجهول أو للغائب فى حين أخذ الآخرون على المسلمين أنهم بذلك يستسلمون للا معرفة، أو قل للخرافة، فى حين أن “الوقوف” فى مواقع غير المعلن، وشهود مالا ينقال، هو “غيب” بشكل ما، هو غيب عن التصريح، وغيب عن العيانية المباشرة، لكنه حضور قبل الحضور، ومعرفة جديرة باليقين، وصعب على الفكر الغربى مثلا والمادى السطحى عامة أن يرى يقينية الغيب لدرجة الإيمان به شاهداً شامخاً، صعب بنفس القدر الذى يتعثر به هذا الفكر وهو يتحسس طريقه إلى ما ينقال بشهوده مالا ينقال، فالغيب عندنا “هكذا” هو امتداد للمعرفة، وليس فتحاً لآفاق الخرافة، وقد اختزلنا باتباعهم وجودنا إلى ما ليس غيباً، فابتعدنا عن ما هو “نحن” بحق.

ثم نعود إلى خطر الاقتصار على الظاهر، والشهادة، دون الغائر، والغيب، نعود إليها من مدخل ما أشرنا إليه من خطورة التمادى فى التجزئ وخاصة باتباع ما هو منهج علمى مغلق فيعبر النفرى عن هذا الخطر (فرط التجزئ) بقوله :

  • “وقال لى :(2)ما ينقال يصرفك إلى القولية، والقولية قول والقول حرف، والحرف تصريف”

وهو بذلك يعلن خطورة اغتراب ما ينقال إلى أن يصبح دائرة مغلقة عن الوجود الكلى، مغتربة عن الفعل الشامل، وهو ما أسميناه فى موقع آخر “اللفظنة” verbalism، ولا يحسبن أحد أن اللفظنة هى قاصرة على المرضى كعرض، لكن علينا أن ننتبه إلى تنبيه النفرى إلى خطورة الانصراف إلى ما أسماه “قولية” “فقول”، ثم تأتى لماحيته فى الهجوم على التجزئ حين يعلن أن هذا التدرج ينتهى بما ينقال إلى مجرد حرف (جزء) وأن الحرف يكتسب استقلاله فيما هو “تصريف” وكأن التجزئ مآله حتما إلى إغلاق الدائرة فى حركة هامشية تفصيلية مشتته (هذا وفى مخطوطات ثلاثة أخرى(3): جاء تعبير آخر نراه أدق إذ يقول :

“…………. ما ينقال يصرفك إلى قوليته”

ونرى أنه أدق لأن نسبة القولية هنا إلى ما ينقال أفضل من التعميم، لأن ما ينقال هكذا بهذه الصورة لا يفيد إلا جزءاً محدوداً عناه قول بذاته فانغلق على نفسه قولاً فحرفاً فتصريفاً .. الخ.

ثم يستمر النفرى فى نفس الفقرة يقارن بين ما ينقال ومالا ينقال فى هذه النقطة فيقول :

  • (مستمراً) “….. ومالا ينقال يشهد فى كل شئ تعرفى إليه ويشهدك من كل شئ مواضع معرفته.
  • ولم أستطع أن أتبين ما أراده من لفظة “تعرفى”، هل الياء هنا هى ياء المتكلم (تعرفى)؟ فهو يشير إلى التعرف على الحق تعالى – فى كل شئ – بما لا ينقال “تعرف إلى … جوهر الشئ : جوهر الحق، أم أنها ياء صفة لاحقة بمصدر “تعرف” تعرفى، فتكون الإشارة إلى أن ما لا ينقال هو إشهاد موجة إلى المعرفة الغائرة إلى جوهر الشئ، وفى نفس الوقت فإن مالا ينقال هو أيضا وسيلة إشهاد لمواضع المعرفة كمفاتيح إلى الشئ، وليس كمحددات مغلقة للشئ، وهنا تنبيه إلى أن هجومنا على التجزئ التجهيلى قد يفهم على أنه إعلاء لشأن كلية شمولية هيلامية، وهو ليس كذلك أبداًو بل إننا نرى هنا أن الوقوف فيما لا ينقال يهدى إلى مواضع المعرفة فهو يكشف التفاصيل إلى …، والتفاصيل بهذه الصورة هى جامعة للكل ومشتملة إليه، وهذا هو التجزئ القوى حتى يقوم كل جزء مقام الكل لا بديلاً عنه، ولا شذرة نافرة منه.

ونكتفى بهذا القدر كمدخل إلى هذا الباب، ونعد القارئ أن نستمر فى قراءة نفس الموقف “موقف ما لا ينقال” فى العدد القادم.

[1] – الطبعة التى نستند إليها هى طبعة عربية انجليزية، صدرت سنة 1935، حيث طبعت بواسطة Cambridge University Press ونشرت بواسطة Messrs Luzac & Co. London وأشير فى بداية القسم العربى إلى “مكتبة المتنبى” القاهرة، وقد روجعت هذه الطبعة على سبع مخطوطات مما قد ينفع فى تنويع القراءة حسب مقتضى الحال.

[2] – علامات الترقيم لم يرد فى النص المطبوع.

[3] – أ= خط 597 المكتبة الهندية بلندرا مكتوب سنة 1087 هـ.

ب= خط مارش 166 المكتبة البودليانية بأوكسفورد مكتوب سنة 694 هـ .

جـ = خط ثور سطون ا لمكتبة البودليانية بأوكسفورد مكتوب بغير تاريخ (يشير المرجع إلى هذه المخطوطات بالحروف: أ، ب، ج، وإذا استمر هذا الباب هكذا، فلن نكتب فى كل مرة إلا الرنز حرف تجنبا للتكرار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *