الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1987 / يوليو1987- اللقاء بين العلم والاسطورة

يوليو1987- اللقاء بين العلم والاسطورة

اللقاء بين العلم والأسطورة

كلود ليفى شتراوس

ترجمة: د. عصام اللباد

مقدمة التحرير:

بدءا من هذا العدد، سنقدم كتاب ليفى شتراوس “الاسطورة والمعنى”، يترجمه عصام اللباد، ونحن نحاول من خلال هذا المدخل، وبانتقاء هذا الكتاب، أن نقترب “مباشرة” الى قضية تمثل محورا أساسيا فى محاولات هذه المجلة، فنحن بقدر ما نحترم ما هو علم، فأننا نأتنس ونغترف مما هو معرفة ماثلة “بما هى” حتى لو لم تسمى علما، وبعض أشكال هذه المعارف يبدو غامضا أو قديما أو ذاتيا، حتى اذا قيمه بعض الاختزاليين فطردوه من محراب العلم بلا شرعية ولا مبرر، وقد تناولنا من قبل فى هذه المجلة المنهج الفينومينولوجى فى الدراسات الانسانية، كما طرقنا باب الأسطورة طرقا هينا، كذلك نقدنا المناهج التجزيئية والاختزالية الكمية وخاصة فى مجالات الطفولة والجنون، ولكننا نحسب أننا لم نستطع أن نصل بعد الى ما أردنا.

ثم عثر المترجم على هذا الكتاب المبسط، الذى هو مجموعة أحاديث القاها ليفى شتراوس فى اذاعة ثقافية للمستمع العادى ثم جمعها فى كتابه هذا، فاذا بنا نجد أنه استطاع بمنتهى العمق والأمانة، فى لغة شديدة الوضوح والبساطة، أن يكشف لنا أبعادا نحن فى أشد الحاجة الى توصيلها للناس، وهو فى ذلك يعود بنا الى أصل الأشياء قبل أن يتراشق المتعالمون بأحدث تقاليع النظريات، حتى اصبحت كلمة البنيوية مثلا وهى أصل الأصل علما منفرا ووصيا بشكل أو بآخر، لكن ليفى شتراوس فى هذا الفصل الأول يحاول العبور من خبرته الذاتية بدءا بطفولته الى ولعه بما هو علم، الى احترامه لما هو عيانى، الى اقتحامه لما هو غامض، الى بحثه عن “الما وراء” من نمط ضام ومفسر، وهو يضع مثلا الجهاز العصبى (بكل تركيبه الرائع والمعقد) كمعبر ما بين الخبرة والعقل، وهو يعلن بشكل بسيط أن كل ما هو ليس اختزاليا هو بنيوى، فاذا قبلنا ذلك، فانه يستحيل علينا أن نعيش مجزئين فى أفكار مترامية، ومشاعر مبتورة، وتصورات مجهضة، نعيشها بأبشع ما يفرض علينا من تشويه لمجرد الخوف من الذاتية والكلية، كما أنه من هذا المنطلق البسيط يمكن أن نتعرف على ما هو بنيوى دون وصاية المعادلات الجديدة التى هى فى عمق وظيفتها اذا ما تشوهت اختزال بشع لحقيقة الاشياء والخبرات والوجود.

ونحن نتصور أن القارئ العادى هو أحوج ما يكون الى الاطلاع المباشر على اجتهادات هذه العقول المرنة المضيئة التى تقدم المعارف سهلة (ممتنعة)، كما أننا نتصور أننا فى مصر خاصة، وفى مرحلة تطورنا هذه ورغم غلبة البدائية والهلامية، نحن أحوج ما نكون الى الحذر من “الاختزالية” المستوردة التى يمكن اذا لم ننتبه أن تختزل وجودنا، وتخثر وعينا، وذلك مواصلة حشر تناثرات العلوم (مثل نشارة الحديد الصدئ) فى نبض وعينا فنتراوح حتما من البدائية الى التعلمن (مع أن المفروض أن نتكامل ما بين الفطرى والعلمى (لاحظ الاختلاف ما بين الفطرة والبدائية وما بين العلم والتعلمن) وهذا هو موضوع هذا الفصل، وهذا الكتاب.

مقدمة المؤلف:

بالرغم من أننى أتحدث الآن عن كتاباتى، وعن كتبى وابحاثى .. الخ، الا أننى فى الواقع، ولسوء الحظ، قد نسيت ما كتبته، عمليا فور انتهائه.

قد تكون فى هذا صعوبة ما، لا أننى، مع ذلك، أعتقد أن كونى على هذا الحال، لا أشعر بأننى قد كتبت كتبى، قد يحمل دلالة ما فأنا أشعر أن كتاباتى أنما قد كتبت من خلالى وأحس لخواء، وبأن لا شئ، قد تبقى بمجرد أن تعبرنى.

علكم تتذكرون الآن ما كتبته بأن الأساطير قد فكرت (بضم الفاء وكسر الكاف) داخل الانسان بلا أدنى علم منه وقد نوقش ما كتبته كثيرا، وانتقد من زملائى المتحدثين بالانجليزية[1] لأنهم رأوا أن هذه المقولة من وجهة نظر امبريقية تجريبية ليست ذات معنى الا أنها بالنسبة لى كانت تمثل وتصف خبرة حية معاشة، وتعبر بدقة عن كيفية ادراكى لعلاقتى بعملى وهى أن عملى يفكر (بضم الياء وفتح الفاء) من خلالى غير معلوم لدى وأننى لم أستطع أبدا، ومازلت، غير قادر على ادراك هويتى الشخصية، وأنا أبدو لنفسى كما لو كنت مكانا يحدث فيه شئ ما.

فليس هناك أنا فاعل، أو أنا مفعول به، فكلاهما تقاطعات طرق تحدث فيها أشياء ما وتقاطعات الطرق سلبية تماما تحدث فيها أشياء، بينما تحدث اشياء مختلفة ذات شرعية وصلاحيات مساوية فى مكان آخر ولا توجد هناك أى اختيارات، انما هى فقط مسألة مصادفة.

وأنا لا أقوم بادعاء هذا أو افتعاله على الاطلاق، بل أومن به، وأومن أن من حقى أن أستنتج أن الجنس البشرى يفكر على هذا النحو أيضا، ولكن لكل طريقته الخاصة التى فكر بها أو يكتب بها، ويفتح نافذة جديدة تطل على البشر.

وحقيقة أننى شخصيا أمتلك تركيبتى الخاصة هذه قد تعطينى الحق فى أن أشير الى بعض أشياء ذات صلاحية وشرعية، بينما يقوم زملائى بفتح نوافذ أخرى مختلفة لها صلاحية وشرعية مساوية.

الفصل الأول

التقاء الأسطورة والعلم

دعونى أبدأ باعتراف شخصى وهو أن هناك مجلة أقوم بقراءتها مخلصا كل شهر، من السطر الأول الى السطر الأخير، رغم أننى لا أفهم كل ما يجئ بها أنها مجلة “العلميون الأمريكيون”[2] فأنا متحمس بشدة للاطلاع، بأقصى استطاعة، على كل شئ يحدث فى مجال العلم الحديث وتطوراته الجديدة وموقفى من العلم، هكذا، ليس موقفا سلبيا.

ثانيا، أنا أعتقد أننا قد فقدنا بعض الأشياء، وأنه ينبغى علينا أن نحاول استعادتها وأنا غير واثق من أن نوع العالم الذى نعيشه الآن، ونوع التفكير العلمى الذى ارتبطنا به وتبعناه يمكننا من استعادة تلك الاشياء المفقودة تماما وكأننا لم نفقدها أبدا الا أنه بأمكاننا أن نحاول الوعى بوجودها وبأهميتها.

ثالثا: أنا أو من أن العلم الحديث ليس متنافرا ولا مبتعدا عن تلك الاشياء المفقودة على الاطلاق، وانما على العكس، هو محاولة تقترب أكثر فأكثر نحو اعادة تربيطها ودمجها فى اتجاه التفسير العلمى.

ان الفجوة الحقيقية هى الفصل الواقعى بين العلم وبين ما قد ندعوه (من اجل العثور على تسمية مريحة) التفكير الأسطورى (رغم أن هذه التسمية ليست حقيقية تماما)، قد حدثت فى القرنى السابع عشر والثامن عشر فى هذا الوقت، حيث بيكون وديكارت ونيوتن .. وآخرون، كان ضروريا للعلم أن يبنى صرحه ضد أجيال قديمة من التفكير الأسطورى والخرافى، وكان هناك اعتقاد بأن العلم، حتى يتمكن من تواجده، يجب أن يتجاهل عالم القدرات الحسية، وكان يعتقد أن عالم الحواس العالم الذى نرى ونشم ونتذوق وندرك عالم مضل delusional ، وأن العالم الحقيقى الواقعى هو عالم خواص الرياضيات التى يمكن القبض عليها بالقدرات العقلية.

كان هذا الفصل اذن حركة ضرورية وخبرتنا تقول أنه بفضل هذا الفصل أو الفصم ان احببت أن تسميه استطاع التفكير العلمى أن يقيم صرحه.

وانطباعى الآن (وأنا بالطبع لا أتحدث بوصفى عالما فأنا لست عالم طبيعة، ولا كيميائيا، ولا عالم أحياء) ان العلم المعاصر ينوى أن يتغلب على تلك الفجوة، وانطباعى أيضا أن استيعاب ودمج معطيات الحواس داخل التفسير العلمى باعتبارها أشياء ذات معنى وذات حقيقة وقابلة للشرح أخذ فى الازدياد.

على سبيل المثال، فقد اعتدنا على اعتبار عالم الروائح شيئا ذاتيا (غير موضوعى)، خارج عالم العلم، ولكن الكيميائيين تمكنوا أن يخبرونا الآن، ان لكل رائحة أومذاق تركيبا كيميائيا خاصا، وأن هناك سببا يجعل بعض الروائح والمذاقات تعطى مشاعر مشتركة عند كل الناس، وبعضها يعطى مشاعر تختلف تماما من شخص لآخر.

ومثال آخر، نجد تلك الفلسفة التى تعود الى أيام اليونان القدماء والتى امتدت الى القرن الثامن عشر وربما التاسع عشر والتى تمتد بعض الشئ الى وقتنا هذا وكانت تلك الفلسفة تناقش أصول الأفكار الرياضية كفكرة الخط المستقيم، والدائرة، والمثلث، فقد كانت هناك، بصفة اساسية نظريتان كلاسيكيتان: الأولى تعتبر المخ لوحا غير منقوش Tabula Rosa ، لا شئ داخله فى البداية، تأتيه الاشياء لاحقا من الخبرة والتجربة وأنه من خلال رؤية عدة أشياء دائرية لا أحد منها كامل الاستدارة أصبحنا قادرين على تجريد فكرة الدائرة، وهكذا، وتعود النطرية الثانية الى أيام أفلاطون الذى زعم أن مثل هذه الأفكار (الدائرة، والمثلث، والخط .. ..) هى أفكار كاملة، فطرية، موجودة بالعقل، وأننا أصبحنا قادرين على اسقاطها لأنها معطاة على الحقيقة، رغم أن الحقيقة لا يمكنها أبدا أن تمنحنا دائرة كاملة الاستدارة أو مثلثا كامل التثليث ..

والآن، تخبرنا الأبحاث العلمية المعاصرة فى الوظائف العصبية لعملية الابصار أن الخلايا العصبية بالشبكية، وبالأجهزة الأخرى وراء الشبكية، انما هى خلايا بالغة التخصص، بعضها يمتلك حساسية خاصة، فقط، تجاه الخط المستقيم فى الاتجاه العمودى، وأخرى للاتجاه الأفقى فقط، وثالثة للاتجاه المائل فقط، ورابعة للعلاقة بين الأرضية والصورة المركزية، وهكذا.

لهذا (وأنا أقوم بالتبسيط للغاية بسبب صعوبة شرحى هذا الموضوع المعقد باللغة الانجليزية) يبدو أن حل تلك المشكلة برمتها مشكلة الخبرة مقابل العقل يكمن فى تركيب الجهاز العصبى وليس فى تركيبة العقل أو فى الخبرة انما هى فى مكان ما بين العقل والخبرة وطريقة بناء جهازنا العصبى هى تلك الكيفية التى تتوسط العقل والخبرة.

وربما كان هناك شئ ما غائر فى عقلى أنا، يفسر أننى كنت دائما ما يسمى الآن بالبنيوى فقد أخبرتنى أمى أننى فى حوالى الثانية من عمرى وكنت غير قادر بالطبع على القراءة كنت أزعم القدرة على القراءة فعلا وعندما كنت أسأل: كيف؟، كنت أقول أننى حين أنظر الى لافتات المحال على سبيل المثال (مطعم – مطحن)[3] كنت اجدنى قادرا على قراءة شئ ما لأن ما كان واضح التشابه من وجهة النظر الجرافيكية فى الكلمتين كان لا يمكن أن يعنى شيئا آخر غير (مط) المقطع الأول فى كلمتى (مطعم – مطحن) قد لا يكون هناك أى شئ أكثر من هذا فى التناول البنيوى انها مسألة الثبات (وعدم الاختلاف)، أو ثبات جزئيات وسط تغيرات ظاهرة وطوال حياتى كان الجزء الطاغى من اهتماماتى هو البحث عن هذا الشئ.

فعندما كنت طفلا، كانت الجيولوجيا هى محور اهتمامى لفترة ما وكانت المشكلة فى هذا العلم ايضا أن تحاول فهم ما هو الثابت فى خرائط متناقضة للغاية، وأن تكون قادرا على اختصار الخريطة الى عدد محدود من الطبقات الجيولوجية والعمليات الجيولوجية.

بعد ذلك، فى فترة المراهقة، كنت أقضى جزءا كبيرا من وقت فراغى الحر أرسم أزياء ومشاهد للأوبرا، وكانت المشكلة هى: أن تحاول التعبير بلغة واحدة لغة الفن الجرافيكى والرسم عن شئ موجود أيضا فى الموسيقى والليبرتو، وأن تحاول الوصول الى الخواص غير المتغيرة فى موقف رمزى بالغ التعقيد (الشفرة الموسيقية الشفرة الادبية الشفرة الفنية) كانت المشكلة هى العثور على المشترك بين كل تلك الاشياء.

نستطيع أن نقول أنها مشكلة فى الترجمة، ترجمة ما تم التعبير عنه فى لغة ما (أو فى شفرة ما أن كنت تفضل هذا التعبير ولكن تعبير اللغة يكفى) الى التعبير بلغة مختلفة.

ان البنيوية، أوما يندرج تحت هذا الاسم، قد اعتبرت شيئا حديثا تماما، وحدثا ثوريا، وأنا أعتقد أن هذا تزييف مضاعف فهى أولا ليست شيئا جديدا على الاطلاق، حتى فى مجال الدراسات الانسانية، ويمكننا سهولة تتبع هذا الاتجاه نفسه فى الفكر منذ عصر النهضة، حتى القرن التاسع عشر، والى وقتنا هذا وثانيا، هذه النظرة خاطئة أيضا من منطلق آخر فما يسمى الآن بالبنيوية فى مجال علوم اللغة وعلوم الانسان وما أشبه، ما هو الا محاكاة وتقليد باهت وخافت لما كانت تفعله العلوم الصلبة Hard Sciences طوال الوقت فليس أمام العلم الا طريقان للسير، أما اختزالى أو بنيوى اختزالى عندما يكون هناك احتمال امكانية اختصار ظاهرة بالغة التعقيد على مستوى ما الى ظواهر أبسط على مستويات أخرى، وهناك الكثير فى حياتنا، على سبيل المثال، مما يمكن اختزاله الى عمليات فيزيائية كيميائية تشرح جزءا وليس كلا، ولكن عندما تواجهنا ظواهر معقدة لا يمكن اختصارها الى ظواهر أقل مرتبة فأنه يمكن حينئذ الاقتراب منها، والنظر الى علاقاتها بمحاولة فهم النسق الأساسى الذى يحكمها، وهذا بالضبط ما نحاول عمله فى علم اللغة وفى الأنثرويولوجيا وفى مجالات مختلفة.

واذا قمنا (من أجل مواصلة النقاش) بتجسيد الطبيعة واعتبرناها شخصا فأننا نجد أنها، فى الواقع، تمتلك فى جعبتها عددا محدودا من العمليات، وأن نوعيات تلك العمليات التى تستخدمها فى مستوى واحد من مستويات الواقع لابد أن يتعاود ظهورها فى مستويات مختلفة وخير مثال على ذلك الشفرة الوراثية Genetic code ، فمن المعروف أن علماء الأحياء والوراثة عندما يواجهون بمشكلة وصف ما تم اكتشافه، لا يستطيعون الا استعارة لغة من علم اللغويات فيتحدثون عن كلمات وجمل وتكوينات لغوية، وعلامات ترقيم وما الى ذلك وعلى هذا فان المشكلة نفسها قد ظهرت فى مستويين مختلفين من الواقع وأنا لا اعنى ان الظاهرة واحدة، فهىليست كذلك بالطبع وأنما هى نفس النوع من المشكلات تظهر فى مستويين مختلفين من مستويات الواقع.

ثم أن أبعد ما يكون عن عقلى هو أن أحاول اختزال الثقافة (كما نطلق عليها بلغة الانثروبولوجيا) الى الطبيعة ولكننا نرى على أى حال أن فى مستوى ما من الثقافة توجد ظواهر من نفس النوع، من وجهة نظر شكلية (ولا أعنى فى الأساس على الاطلاق) ونستطيع، على الأقل، أن نرجع المشكلة التى نلاحظها فى مستوى الطبيعة الى العقل، رغم أن الثقافى أكثر تعقيدا بالطبع، ويستدعى عددا أكبر من المتغيرات.

أنا لا أحاول صياغة فلسفة، ولا حتى نظرية، ولكن ما حدث هو أننى كنت منذ طفولتى مستاءا دعنا نقول من اللا عقلى، وكنت أحاول أن أجد منطقا خلف ما يعطى لنا من اللامنطق، ثم حدث أن أصبحت عالم أنثروبولوجى، ليس لأننى فى الحقيقة كنت مهتما بهذا العلم، ولكن لأننى كنت أحاول الابتعاد عن الفلسفة، وحدث أيضا أن هذا العلم لم يكن يدرس فى جامعات الأكاديمية الفرنسية كعلم قائم ذاته، وكان بامكان أى شخص خاض فى الفلسفة وقام بتدريسها أن يهرب الى هذا العلم، وهذا ما فعلت وهناك ووجهت على التو بمشكلة: وهى أن هناك قواعد كثيرة تحكم الزواج فى أنحاء العالم، وقد بدت لى بلا معنى على الاطلاق وما تسبب فى اقلاقى بشدة هو أنه لو كانت تلك القواعد بلا معنى لما وجب أن تكون هناك قواعد مختلفة لكل شعب، ولأدى ذلك فى النهاية الى عدد محدود من القواعد والقوانين ولكن ما دام الشئ العبثى العجيب يتواجد ويعاود الظهور، وتعاود أنواع مختلفة منه الظهور، فهو اذن ليس عجيبا ولا غامضا تماما، وكان هذا هو توجهى الأول: أن أحاول ايجاد نظام ونسق وراء هذا اللانظام واللانسق الظاهر على السطح.

وبعد عملى فى نظم صلة القرابة وقواعد الزواج، تحول انتباهى أيضا بالصدفة تماما، وبدون أى قصد مدبر الى علم دراسة الأساطير وهناك كانت المشكلة هى هى.

فالحكايات الأسطورية عجيبة أو هكذا تبدو عشوائية لا تحكمها قوانين، وهى عبثية لا معنى لها وبينما يفترض أن يكون هذا الابداع الخيالى للعقل البشرى فريدا، لا يمكنك أن تجده بنفسه فى مكان آخر، الا أن الأساطير رغم كل هذا تعاود الظهور فى كل أنحاء العالم. وكانت مشكلتى أن أحاول العثور على نوع من النظام والنسق وسط هذا اللانظام الظاهر على السطح.

هذا كل شئ، ولا أستطيع ادعاء أن هناك أى استنتاجات يمكن لى أن أخطها أو أسجلها، أنا أعتقد أنه من المحال تصور المعنى فى عدم وجود نظام (أو نسق).

وهناك فى دراسات علم المعنى فى اللغة (خاصة فى مجال تطورها التاريخى) شئ شديد الغرابة، وهو أن كلمة “معنى” هى الكلمة التى تثير أبلغ الصعوبات عند تحديد معناها.

ما هو معنى كلمة “يعنى”؟

ويبدو لى أن الأجابة الوحيدة التى يمكن اعطاؤها هى أن كلمة “يعنى” تعنى قابلية أى نوع من المعطيات للترجمة الى لغة مختلفة؛ لا أعنى كالفرنسية أو الألمانية، ولكن الى كلمات مختلفة على مستوى مختلف، وعلى كل حال، فأن هذه الترجمة هى كل ما يمكن أن تعطيه لك المعاجم، أى أن تعطيك معنى الكلمة فى كلمات أخرى مساوية فى الشكل، على مستوى مختلف قليلا، للكلمة أو التعبير الأصليين الذين نحاول فهمهما.

وفى هذه الحالة، كيف تكون الترجمة اذن اذا افتقرت الى القواعد؟ انها تكاد أن تكون شيئا غير مفهوم بالمرة؛ ذلك لأنك لا تستطيع أن تحل أى كلمة محل أى كلمة هكذا؛ ولا أى جملة محل أى جملة، اذ ينبغى أن تتبع قواعد بذاتها، ونحن اذ نتحدث عن القواعد أو نتحدث عن المعنى فأننا نتحدث عن نفس الشئ.

واذا نظرنا الى النشاط العقلى للجنس البشرى وفقا لما هو مسجل فى انحاء العالم لوجدنا أن القاسم المشترك فيه هو ادخال نوع ما من النظام، ويبدو أن هذا يمثل ضرورة أساسية للعقل البشرى وبما أن العقل البشرى لا يمثل الا جزاء من العالم وأن العالم ليس فوضى وانما له نظام قائم بالفعل، فأن هذا الاحتياج الى النظام هو قائم بالفعل.

ان ما أحاول قوله هنا، انه اذا كان هناك انفصال ما بين التفكير العلمى، وبين ما أطلقت عليه المنطقى العيانى الذى هو احترام واستخدام المعطيات الحسية فى مقابل الرموز والصور وما شابه فهو انفصال كان ضروريا ونحن الآن نشاهد تلك اللحظة التى يحتمل أن يندحر فيها هذا الانفصال أو ينقلب حاله، لأن العلم الحديث يبدو الآن قادرا على تحقيق تقدم، ليس فقط فى مجاله التقليدى مندفعا الى الأمام فى نفس قنواته الضيقة، ولكنه يقوم أيضا بتوسيع تلك القنوات ويعيد استيعاب مشكلات عديدة هامة كانت فى الماضى خارج نطاق اهتماماته.

وربما أكون بذلك الاعتقاد عرضة للاتهام بأنى “ذو نزعة علمية”، أو بأنى من المؤمنين بطريقة عمياء بالعلم لكنى لا أعتقد بالتأكيد ما يعتقده أولئك المؤمنون بأن العلم قادر على حل جميع المشكلات على نحو مطلق، فأنا لا استطيع استيعاب فكرة أن يوما سوف يأتى يكتمل فيه العلم ويتم انجازه بصورة نهائية فسوف تتواجد دائما مشكلات جديدة وسوف تظل هناك فجوة دائمة بين الاجابة بطرحها فالعلم لن يعطينا كل الاجابات ولك ما نستطيع نحن أن نفعله أن نزيد ببطء شديد كم ونوع المعلومات والاجابات التى يمكن اعطاؤها وفى اعتقادى أننا لن نستطيع ذلك الا من خلاله، العلم.

[1] – كتب ليفى شتراوس هذا الكتيب باللغة الانجليزية وهو يكتب بالفرنسية أساسا.

[2] – Scientific American.

[3] – المثل الذى أو رده المؤلف فى كتابه هو كلمتى boulanger  وتعنى خباز، و boucher  وتعنى قصاب (جزار)، والمقطع المتشابه فى الكلمتين من الناحية الجرافيكية هو بالطبع  (bou)، وقد استخدمنا بدلهما كلمتى مطعم ومطحن المشتركتين فى المقطع (مط) لتوضيح المعنى، وسهولة تفسير ما يريده المؤلف (المترجم).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *