الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1987 / عدد إبريل1987-مثل وموال (غنوة وحدوتة)

عدد إبريل1987-مثل وموال (غنوة وحدوتة)

مثل وموال

(غنوة وحدوتة)

بدءاً من هذا العدد، نستسمح القارئ أن يكون المتن أحدوثة (حدوتة) أو أغنية – من التراث الشعبى،

أيضا، وبهذا تتسع مساحة هذا الباب لمعظم أشكال التراث الشعبى

“أربع حواديت”

وطفلة … أمية .. شغالة

عن : توظيف العدوان،

واكتشاف طبقات الذات،

والتكامل

الحدوتة الأولى :

 

الأستاذ الغول ([1])

كان فيه استاذ، الأستاذ ده غول، المدرسة موظفاه، بس ما يعرفوش يعنى … انه غول، فبعدين قام قال للعيال، اللى حييجى بدرى، هنجحه فى المدرسة، فحبة تلامذه جم بدرى، قام حبسهم فى الفصل، وقعد ياكل فيهم.

قام جت “فرع الرمان” وفى رجلها قبقاب كويس، قام بصت من الخرق، كانت واخده له شالية لبن، بصت من الخرق، لقته بياكل العيال، هوه لمحها، قامت جريت، القبقاب وقع منها، سابته ومشيت، مقلتش حاجه، وبعدين الغول بقى يجيلها وهى نايمة، يشق لها الحيط ويدخل، وبعدين يقول لها “شفتينى بعمل إيه فى العيال؟؟” قالت له “مشفتش” قال لها قولى الجد “قالت له : مشفتش”، وبعدين يسيبها ويمشى.

وكل يوم يجيلها.

قامت زهقت.

قامت راحت بقا لعيله، قالت لهم “بيتونى مع المواشى بتوعكم، أنام معاهم” أصل أنى حكايتى كذا كذا، فراحت وبيتوها.

جالها الغول بالليل، قال لها “شفتينى بعمل ايه بالليل؟؟” قالت له “مفيش حاجة” لا قولى قالت له “معرفشى” وبعدين قتل البهايم وطلع صبحوا الصبح ضربوها، وتهموها فيها، قامت هى كبرت، ومشيت، وهى حلوه قوى، لكن ابن السلطان شافها، طلب من أبوه أنه يتجوزها، قام أيه؟ أتجوزها وبعدين خلفت أربعة، كل ما تخلف عيل، الغول بييجى يأخذه، وهى فى السبوع، ويعوص بقها دم، وبعدين جوزها يقول لها: انت بتكليهم؟ تقول له : “أبدا” وبعدين قام قال “أنى حاتجوز واحده غيرها” كان سيدها (حماها) ([2]) بيسافر بلاد بعيدة، قال لها “عاوزة ايه من البلاد يا فرع الرمان” قامت قالت له “هات لى علبة مر، وعلبة صبر” وبعدين جاب لها، تحطهم قدامها وتقول “يا علبة المر مررتينى، يا علبة الصبر صبرينى”، وبعدين قام الغول شق الحيطه، ودخل لها، وهى قاعده، وفى ايده ولادها، بقوا كبار قوى، وأتوظفوا … دكتور … قامت قالت له “دول ولاد مين؟” قام قال لها “ولادك انت” قامت قالت له “هو انت ماكلتهمش؟” قال لها : “لا” وبعدين قامت قالت لولادها “انتو عارفين الفرح اللى هناك ده؟” قالولها “آه” قالت لهم “فرح أبوكم”، قاموا العيال راحوا بقى ياخدوا تراب، ويزقلوا، ويقولوا : “الفرح أبونا، والغرب يطردونا” قام أبوهم

قال، احنا لازم نروح نسال “فرع الرمان”، قاموا راحوا يسألوا فرع الرمان، قامت قالت له “دا دول ولادى، والحكاية بتاعتهم كذا وكذا”.

توته توته خلصت الحدوته.

اذن ماذا؟

وكيف نقرأ هذه “الحدوته”؟

لم نتكلم منذ بداية النشر فى هذا الباب (مثل وموال) عن المنهج ولم يكن هذا اهمالا، كما لم يكن بقصد مبيت، وكان لابد لنا أن نعود لما سبق أن نشرناه بتلقائية، لننظر فى معالمه لعلنا نكتشف منهجه بأثر رجعى، فوجدنا أن أغلبه اتبع طريقا غابت عليه معالم بذاتها، مثل :

1 –  نبدأ بالفكرة (أو القيمة، أو المعلومة) مستمده من مثل بذاته أو موال

2 – نبحث عما يدعمها ونناقش ما يعارضها – من معالم تراثية أخرى.

3 – نحاول تفسيرها والتأكيد على توازيها مع بعض المعلومات والنظريات النفسية أو الطبنفسية.

4 – نستطرد – أثناء ذلك – استطرادا تختلف ابعاده باختلاف حدة التداعى ودفعة الحماس.

ومن خلال هذا الموقف المسبق، لاحظنا كما لاحظ قراؤنا أن هناك تحيزا واضحا.

(أ) نحو ما نريد تقديمه من أفكار.

(ب) نحو ترجيح ايجابية الحدس الشعبى (دون سلبيته).

وقد وصل التحيز أحيانا أننا كنا نتعسف فى التفسير، كما كنا نقلب السلبيات الى ايجابيات لدرجة اغاظت بعض القراء حتى الاعتراض والتحفظ ([3]).

ولكننا ونحن نقدم هذا النوع الآخر من الأدب الشعبى، نجد انفسنا مضطرين للبداية من النص (المتن) – “كما هو”، وذلك لترامى أبعاده وتعدد مقولاته، كما نجد أنفسنا ناظرين الى الراوى، جنبا الى جنب مع الرواية فى محاولة قراءة مجتهدة، فرضية بالضرورة، مرنة متغيرة.

وقد اخترنا أن يكون مصدرنا فى هذه البداية “واحدا” محددا “منشورا”، أملا فى أن نقل من عدد المتغيرات ما أمكن، وقد انتقينا هذا المصدر لأسباب محددة (بعد الصدفة طبعا) : منها:

1 – ان الذى قام بجمعه وتبويبه ليس اكاديميا متخصصا (فهو يعمل بالتدريس العادى) واعتبرنا ذلك مزية خاصة.

2 – وبالتالى فان المنهج فيه ليس سجنا محكما، بقدر ما هو تلقائية ملتزمة.

3 – ان الذى قام بالجمع هو شخص واحد لا أكثر

4 – ان منطقة الجمع تحددت جغرافيا (الدقهلية : السنبلاوين، وميت غمر، والمنصورة) بشكل متواضع – فى حدود فرص الباحث فى التنقل والتواصل.

5 – أن وسيلة البحث كانت التسجيل الصوتى.

6 – اننا لاحظنا شدة الامانة فى تسجيل النصوص المدونة، من حيث دقة النقل الحرفى، والالتزام بالرسم المظهر للعامية كما هى، بما يشمله ذلك من “اخطاء” دالة.

ولكن كل هذه الميزات لم تغيب عنا ما كنا نرجوه من الباحث من مزيد من التعريف بالرواة، كل الرواة وليس التركيز على بضعة منهم كانوا اقرب الى الاحتراف، وكذلك ما كنا نأمله من اعادة التصنيف والتبويب والفهرسة، بطريقة أرحب وأكثر تباديلا، وأيضا ما كان يستطيع أن يضيف من هوامش شارحة وموضحة لمواقف بذاتها – لكننا نعترف أن الباحث غير ملوم فى أى من ذلك لأنه حدد هدفه من البحث فى “جمع مادة التراث الشعبى …حتى تكون سجلا فيما بعد يدرس من خلاله … الخ”.

لذلك، فقد اعتبرنا أن ما بين أيدينا هو مادة خام، جمعت بعناية خاصة، تستأهل القراءة من كل جانب، واحد جوانبها هو مدخلنا هذا.

فما هو مدخلنا هذا؟

لقد اخترنا ان نبدأ بهذه الحدوته (الأستاذ الغول) لما فيها من معالم تستأهل الوقوف عندها ومن ذلك :

1 – شخصية الراوى (انظر بعد)

2 – انها اشتملت على وجوه متعددة لشخصية الغول (وهى شخصية مكررة فى الحواديت).

(الغول هنا كان “استاذا” (مدرسا) – وكان قدرا غامضا، وكان قدرا طيبا … انظر بعد).

3 – ان الحدوته لم تحتو على استقطابات اخلاقية مسطحة، مما تشتمل عليه الحواديت عادة (لا يوجد فيها خير مطلق فى مقابل شر مطلق مثلا).

4 – ان العقاب (لصق التهم واختطاف الأولاد) فى هذه الحدوته بدأ غير مفهوم وبلا جريمة محددة، أو عصيان صريح.

5 – كذلك لم يرتبط الثواب (عودة الابناء) بأى حدث يبرر

6 – أن النهاية كانت مفتوحة، (دون اعلان مباشر للتبات والنبات مثلا).

لكن هذا، بدت لنا هذه الحدوته مختلفة عما يتواتر فى مثل هذا التراث، فركزنا على شخصية الراوى لعلها تنير بعض معالم هذا الشتات، فوجدناها :

“اسمها “نور منصور يوسف”، عمرها اثنى عشر عاما، لا تقرأ أو تكتب، (أمية) تعمل شغالة، من أسرة “المزارعين”، تحفظ الحكايات عن عمتها، وهى من بلدة الزهايرة دقهلية”.

وكانت هذه هى كل المعلومات الواردة تحت كل ما روت (أربع حواديت).

فرأينا أن نقترب من هذه المادة باعتبارها تكثيفا خاصا لمعالم حواديت متعددة، متداخلة حيث لاحظنا ورود مشاهد لا تخفى من حواديت متفرقة مثل :

1 – الفقى (المدرس) الذى يقوم بعكس الدور المنوط به، أو المنتظر منه.

2 – الغولة (أو الغول) التى تخطف العيال، لتسمنهم وتأكلهم.

3 – ابن السلطان الذى يتزوج من بنت من الشعب.

4 – الأم التى لا يعيش لها عيال، فيتهمونها بأكل ابنائها.

5 – المعرفة المحظور اذاعتها، أو كشف سرها.

6 – الصبر على الظلم بلا شكوى، مع الثقة فى حتم الفرج.

7 – الزواج الثانى، وافساده بأولاد الزوجة الأولى الذين أنكرهم الزوج.

لكننا عدنا نتوقف عن محاولة أرجاع كل جزئية الى أصلها المحتمل، لأن ذلك عمل يحتاج الى دراسة أخرى أشمل وأعمق، كما يحتاج الى فروض أكثر تحديدا ووضوحا، فعدلنا، واعتبرنا أن هذا “المتن” هو مادة قائمة بذاتها اختلط فيها التراث بخيال الراوى الطفلة فى ظروفها الشخصية (شغالة أمية) فكان هذا النص المتميز بمعالمه الخاصة، بحيث لا نستطيع الفصل ابتداء بين المنقول والموضوع (المؤلف) – فرأينا أن نقرأ نفس الحدوته مرتين، من بعدين مختلفين : الأول : باعتبار أنها – كما هى – من التراث الشعبى الجمعى، وأن الراوى الطفلة، سواء أضافت أم لم تضف، هى ممثلة له ماثلة به، بذاكرتها وخيالها وذاتها، فى جوف هذا التراث، والثانى : باعتبار أن محتواها المشتت، لم يجمعه الا انتقاء ذاتى، حكمته ظروف الراوى الطفلة وشخصيتها، وقدراتها، فجاء مترجما – اساسا – لحاجتها وحرمانها وآمالها ومآزقها وظروفها الذاتية الشديدة الخصوصية أى باعتبار الحدوته فى صورتها الماثلة اسقاطا ذاتيا أكثر منها درسا شعبيا جمعيا.

القراءة الاولى : (باعتبار الحدوته رواية داله (بما هى) عن التراث الشعبى الجمعى)

فى هذه الحدوته، نستطيع أن نتبين صورتين للغول ([4]) على الأقل، (تتكثف فى كل منهما صور أخرى أو وجوه أخرى فرعية) :

الأولى : صورة الغول : الأب / السلطة / المعلم.

والثانية : صورة الغول : القدر / الممتحن / الشرير / المكافئ.

والأستاذ ” (أو الفقى) الغول، هو غول بما يغتال به براءة أطفاله، بما يحشر فى عقولهم المعلومات حشرا، يخنق به فطرتهم، ويمحو ذواتهم – ولو مرحليا – ليصيروا حالة كونهم تلاميذ ممتثلين نسخة مكررة فى سجن محكم يسمى “الفصل” (أو الكتاب).

والأستاذ المعلم غول حين يبدو عقابه فى سوانح الأخطاء وكأنه السحق والابادة والنفى من الوجود … (الخ).

فالأستاذ المعلم غول بما يقحم من معلومات جاهزة مشلة، وبما هو من قوة ساحقة منقضة.

معنى الالتهام، ودلالاته :

وعادة ما يلتهم الاستاذ المعلم من تلاميذه الأشطر والأسرع، والأنصح، والأكثر حرصا على اتباعه واكتساب رضاه (على حساب ذاته)، لأن التلميذ البطئ والبليد، قد يحتمى فى ذاته من خلال ايقاعه البطئ، فتنضبط جرعة تلقيه ما ليس هو، وهكذا تشير الحدوته الى أنه “اللى حييجى بدرى (الأشطر، الأسرع، الأنصح) حنجحه فى المدرسة” واذا بالنجاح هو أن يتخلى عن ذاتيته، ليصبح كتابا مصقولا، أو درسا محفوظا، أو تسجيلا نقيا، فالالتهام هنا – ما دام الغول معلما – هو فناء الذات فى جوف هذه الآلة التدريسية العمياء (البلدوزر) التى تردم الذات تحت أكوام المعلومات الجافة الساكنة، والتى يقوم بقيادتها سائق ماهر متخف تحت اسم الأستذة.

ولكن من يكتشف هذه الحقيقة (لاحظ أنها نصف حقيقة فقط : انظر بعد)؟

هنا تظهر فتاة عابرة “فرع الرمان” – ونحن لم نعرف من خلال الحدوته ان كانت تلميذة هى الأخرى أم لا، والأرجح أنها مجرد طفلة عابرة، قد يصلح أن تكون أخت احد التلاميذ النجباء، أو بنت “دادة” المدرسة، أو حتى شغالة صغيرة فى المدرسة تحضر الافطار (شالية لبن) للأستاذ المجتهد المبكر، لكنها – وبمحض الصدفة – تكتشف السر.

وترجيح أن شخصية المكتشف هى من خارج “المشروع التعليمى المبيد” قد يكون له دلالة خاصة، من أن المنهمك داخل الايقاع اللاهث لا يستطيع أن يدرك ماهية الخطر المحتمل من هذه الملاحقة الضاغطة، أما العابر – بسذاجة – من خارج العملية، فقد يكون أقدر على الاحساس بالخطر القائل : ان “هذا التعليم يمحو كيان الذات الفردية”.

وبألفاظ أخرى، ان التعليم – هكذا – هو على حساب كل ما هو طفلى فطرى طبيعى .. الخ .. لكن هذا الخطر – كما المحنا حالا – هو نصف الحقيقة لا أكثر، لأن النصف الآخر يقول : ان التعليم بكل مخاطره هو حتم انسانى لا بديل عنه اذ هو صك المرور الى أحقية الوجود البشرى (وعلم آدم الأسماء كلها)، لذلك فاعلان نصف الحقيقة (أن الأستاذ غول) خليق بأن يعطل العملية التعليمية اللازمة لأنسنة الانسان.

ونحن لا نعنى هنا – رغم استعمال كلمة الأستاذ – أن نخص بهذا المأزق موقف التعليم المدرسى فحسب، بل أننا نعنى أن أى جرعة زائدة من سلطة جاهزة، تلغى تلقائية وفطرية الأصغر، هى التهام بشكل ما، وانى لأرجو من قارئ هذا التفسير الصعب الا يتسرع بالرفض، وأن يحاول أن يستوعب الفكرة فى مجملها دون تطبيق تفصيلى، أو أن يمتد تطبيقاته الى كل علاقة موازية، ففى المجتمع القبلى مثلا لا يوجد تعليم أو استاذ، ولكن يوجد الغول شيخ القبيلة، والغول تقاليد القبيلة .. وهكذا، والتراث الشعبى ينقد، ويكشف، ويفسر دور الأستاذ / المدرس / الفقى، بكل طريقة ([5]).

لحظة  :

ونقف لحظة عند زائدة ربما تكون مجرد أرضية، وربما تكون لها دلالة، فلبس “فرع الرمان” قبقابا “كويسا” ثم وقوعه منها، قد يكون اقتباسا مما أشرنا اليه فى الهامش السابق مع التحوير، كما قد يكون دلالة على فقد الأرض الثابتة بعد هذه المعرفة المناقضة، وغير المتوقعة، من لبس قبقاب (خشب / كويس) الى الجرى حافية، وأخيرا، فقد يكون لمجرد ايراد آلة لها صوت هو السبب فى أن الأستاذ الغول سمعها قادمة، ثم وهى تعدو مولية، فبدأت المطاردة لضمان عدم اذاعتها السر.

نقلة :

انتقل المسرح الى الداخل، فالغول يأتيها وهى نائمة، والمسرح الآن هو عالم الداخل باعتباره الواقع الآخر، وليس بديل الواقع، والغول الذى أصبح جزءا (كيانا) من عالمها الداخلى يقتحم وعى النوم، ليطمئن أنها لم تذع السر، وكأنه يؤكد ضرورة الكبت (وربما الكف الارادى أيضا)، فهو يريد أن يمحو ما رأت أصلا، اذ هو لا يسألها “قلتى لحد” بل يسألها : “شفتى باعمل ايه فى العيال”، وهى تنكر فورا، وتماما، ومكررا (ماشفتيش) وعموما فكثير من الحواديت، (والأساطير وبعض الديانات) قد تسمح بمعرفة السر، لكنها لا تعاقب الا على اذاعته، وكأن السر المضنون به على العامة، أو على غير أهله، فمثل هذه الأسرار اذا ما أذيعت، أخذت بنصف معناها، (وليس بتناقص تكاملها وتداخل مكوناتها المعلنة والخفية) وبالتالى فقد تعطل المسيرة.

هرب فاشل :                         

ولكن الى متى تظل فرع الرمان فى مواجهة ملحة (كل ليلة) مع هذا الذى لا يريد ان يتأكد من قدرتها على الكتمان والحفاظ على السر؟ لابد أن تضيق بكل هذا الالحاح والمطاردة والتشكيك، فضاقت، (قامت زهقت) – ورغم أن المعركة داخلية (يأتى الليل) الا أن الهرب الممكن هو خارجى بالضرورة، فتلجأ الى الناس، الى أسرة ما تحتمى بها، وكأن ثمة أملا يلوح يغريها بأن تغيير الخارج سوف يغير الداخل ([6]) وهى تبدو شديدة الحرص على أن تقبلها “هذه العائلة” (لعلها عائلتها أو أى عائلة، أو أى ناسه) حتى ولو ساووا بينها وبين بهائمهم، فرضيت، بل طلبت، أن  “تنام مع المواشى” فهل يا ترى كانت تحتمى بمستوى ادنى لعل ذلك ادعى لتصالح “ما”مع العدوان الملاحق؟ أم أنها كانت – بذلك – تعلن مدى حرصها على الانتماء الى “العائلة” حتى لو لم يكن لديهم مكان لها، فهى تستجير بهؤلاء الناس، وتحكى لهم حكايتها، لكنها حين حكت لهم أسباب استجارتها بأن “حكايتها” كذا كذا” ([7])، لم نتبين أن كان هذا الــ “كذا كذا” قد تضمن اذاعة سر ما فعله الغول الأستاذ، أم أنه اقتصر على ذكر اغارته كل ليلة دون تفاصيل، لكننا نلاحظ من السياق التالى، أن السؤال الذى عاد يطرحه الغول قد تغير، فهو لم يعد يكرر محاولة الطمأنينة على أن أحد لا يعرف سر التهامه لتلاميذه الأطفال، وانما هو يعمم تساؤله حول “مجرد مجيئه ليلا وما يفعله أو ما يمكن أن يفعله” (شفتينى باعمل ايه بالليل) – وهكذا انقلبت المطاردة الى نوع جديد، غامض،عام، والجواب على مثل هذا السؤال اصعب من الجواب على السؤال الأول (شفتى باعمل ايه فى العيال؟) – وانكارها أنها شافته أبعد عن التصديق، لان ما “يعمله بالليل” هو أى شئ، وكل شئ، وبالتالى كأنه يتساءل عن اعترافها بوجوده أصلا، فان أنكرت وجوده أصلا، فانها تلغيه، وان اعترفت به فانها لا ترضيه، لأن سؤاله يتضمن اصراره على أن تنكر أنها  رأت “أى شئ” فتظل تنكر (مفيش حاجة) وتغمض، (معرفشى) – وبما أن هذا الانكار لا يعنى شيئا ولا يفيد شيئا، فان الغول يواصل الاغارة والتجريم، فيذبح المواشى ليلصق بها التهمة، وفى نفس الوقت هو يعرى بذلك انكارها “الزائف”، وكأنه يقول : اذ1 لم أكن أنا أعمل أى شئ بالليل، فمن الذى ذبح المواشى، سيقولون هم أنك أنت التى فعلتها (تهموها فيها) – وستعرفين أنت أنى يستحيل أن أصدق أنكارك الكاذب لوجودى بعد هذا الدليل العينى الماثل.

ونفاجأ فى هذه الحدوته، بأنهم لم يفعلوا شيئا بعد الاتهام، لم يطردوها، ولم يعاقبوها، بل يبدو أنه بالرغم من كل شئ، صبروا عليها، وحموها، حتى “كبرت، ومشيت” ونلاحظ هنا – أيضا – أنها لم تقل مشيت (بلاد الله لخلق الله مثلا) .. وكبرت، لكن الترتيب جاء أنها كبرت أولا، ثم مشيت وهى كبيرة (من عندهم) وهى كبيرة، وجميلة.

النجدة :

ثم نقلة أخرى واسعة وسريعة يراها ابن السلطان ويطلبها من “أبوه”، ويتزوجها، هكذا فجأة، بلا مشاكل أو اعتراض، لا منها ولا من ابيه ولا من أحد غيرهما، فنجد أنفسنا أمام لمسة سحرية حققت بها احلامها مرة واحدة، من طفلة تنام مع المواشى، ومتهمة بذبحها، الى زوجة وحبيبة ابن السلطان.

الهناء لا يدوم :

يعود الغول للظهور، وهو لم يعد الغول الأستاذ، أو الغول حركية الحلم، انما هو الغول القدر، وأتصور أن الشعور بذنب خفى هو الذى برر ظهور هذا القدر ليحرمها من اطفالها أولا بأول، ثم يتهمها بأنها المسئولة عن ذلك، بل بأنها تلتهمهم التهاما، وعادة ما يظهر الشعور بالذنب بغير ذنب، ولكن لمجرد الخوف من السعادة، أو الخوف من الأمان، أو الخوف من الاستقرار، بعد طول حرمان، وصبر، واتهام – وكأنها لا تجرؤ أن يحمل هذا الحلم مقومات استمراره، فتسارع بهدمه أولا بأول (طفلا بعد طفل) بتحريك العدوان للتخلص منهم، بدلا من الفرحة بهم والتمادى فى الأمل بما يحمل تهديد الحرمان من جديد، فما دام فرط الحرمان، والكتمان، والصاق التهم بالباطل قد تركوها لا تستأهل فليكن العقاب من داخلها، ولتتجرع المرارة كاملة، وعليها الصبر ولتتقبل التهديد بالزواج من أخرى، ما دامت – من فرط الحرمان – عاتبت نفسها بحرمان أقسى – اذا انعكس العدوان الى الداخل ([8]الى اطفالها، اكبادها، ذواتها الطفلية … السيد (الحمل) الحانى

لكن ثمة دعما حقيقيا كان قائما طول الوقت، وها هو ذا يظهر صريحا فى الصورة بعد أن رجحنا وجوده من قبل (حين لم يلحق اتهامها بذبح المواشى طردها)، الا وهو ذلك السيد / السلطان / الذى يحترمها، ويسألها عن طلباتها، ويستجيب لها، ويحضر لها ما طلبت (علبة مر وعلبة صبر) ثم لتعلن بمناجاتهما كم هى مرة الحياة، وكم هى صابرة عليها.

التصالح مع الداخل :

فما دامت قد مرت بكل هذه الامتحانات : الرؤية، الكشف، كتم السر، التحمل، شرب المر، الاتهام الباطل، فقد الولد، الصبر، مرت بها دون أن تلغى بالعمى الهروبى أيا من حدة بصيرتها وتحمل تناقضاتها، فلابد أنها تصالحت مع داخلها، فلا يصبح الغول غولا، ولا يكون الالتهام التهاما (قالت له هوه انتى ماكلتهمش قال : لا – فتكتسب بعد تجرع المر وطول الصبر أمانا، يسمح لها باستعادة ذواتها، فزوجها وذلك من خلال تخلصها من عقاب على جريمة لم ترتكبها، فهذا الاعلان للأمان هو اشارة الى جرعة النضج الهادئ بالصبر الواعى، ثم يتأكد الأمان، ليس فقط بتغير موقف الغول، وانما باليقين فالاستقلال، فأخذ الحق، فالأولاد عادوا كبارا، وكانوا سببا فى استرداد حق أمهم، وليس استجداءه أو العثور عليه بضربة حظ.

الوجه الآخر لعودة الغول ورد الأطفال كبارا :

ولكن لابد من رجعة الى الموقف الأصلى منذ البداية، فاذا كان الغول العدوان بالداخل هو الذى لقلق مضجعها، والصق بها التهم الباطلة فشعرت بالذنب لدرجة أنها عاقبت نفسها – عاقبها – بكل هذا الحرمان، فأين يكون موقع الغول الأستاذ، وما حال الأطفال (التلاميذ) الذين أكلهم بكورا؟.

أحسب أن ذلك يتطلب مدخلا آخر، لا ينفى المدخل الأول، وانما يوازيه ويتداخل معه ويتكثف به، فالالتهام ([9]) “التعليمى” (الذى أشرنا أنه ليس الا نصف الحقيقة) لم يكن – اذن – التهاما هو أيضا، فلعله كان احتواء لدرجة محو الذات فى حضانة جديدة، لتفريخها كبيرة ناضجة من خلال استمرار اعادة الولادة النموية، وكأن هذا التفسير يقول : أن الانسان لكى يكون نفسه ذات المعالم الخاصة، لابد أن يقبل التنازل عن نفسه – بلا معالم خاصة – أى لابد أن يستسلم لحضانة محيطة تخفيه لفترة، تطول أم تقصر لصالح نضجه، ثم يعود كبيرا مستقلا (موظفا / دكتورا!!) قادرا على الدفاع عن حق أمه (ومن مثلها)، يبرئ ساحتها بما كبر به.

قفلة مفتوحة :

وتنتهى الحدوته بأن يفسد الأولاد فرح أبيهم بزوجته الجديدة، لتعلن الحقيقة لأبيهم وللناس.

لكننا لا نعرف أن كان الوالد قد رجع لفرع الرمان ليعيشوا فى التبات والنبات، أم لا؟.

وقطم الحدوته هكذا دون اعلان محدد لطبيعة نهايتها قد يكون ذا دلالة من حيث أنها نهاية مفتوحة، أو أن استنتاج النهاية السعيدة غنى عن التقدير.

 وبعد :

فنحن لا نستطيع أن نجزم أن هذا التفسير له أحقية أن يكون كذلك، باعتباره تعبيرا عن الحدس الشعبى للطبيعة البشرية ومسار النمو، لذلك كان علينا أن ننظر من بعد آخر، بعد الخيال الشخصى، وتلاحق الصور الطفلية بأدنى الروابط، فنعيد قراءة نفس الحدوته من زاوية شخصية تماما، وهى ظروف الراوى الخاصة جدا، والتى جعلتها تخرج بالقصة بهذه الصورة دون غيرها

القراءة الثانية :

فرحت أعتبر رواية هذه الحدوته هكذا، بما هى تكثيف لأجزاء متفرقة من حواديت أخرى، ليست الا نشاط خيال شخص بذاته، فى ظرف بذاته، عبر بها عن حاجاته، وآلامه، وآماله بطريقة فضفاضة دون أن يدرى.

فالراوى هنا هو محور هذه القراءة الثانية، وخيال الراوى الشخصى وقدراته، لا الحدس الشعبى العام هى المسئولة عن الغموض، والمفارقات، والهلهلة، فى نسيج الحدوته “هكذا”.

فهذه الشغالة الصغيرة مقهورة مقهورة، وهى فى نفس الوقت متقمصة لأسيادها الصغار الذين يذهبون الى المدرسة مرغمين، ويشكون (سرا وعلانية، بوعى أو من وراء حجاب) من اغارة الأساتذة ([10]) على طفولتهم حتى الالتهام، وهى تتعاطف معهم كشاهد عابر، وقد تقدم لبعض المدرسين الخصوصيين شايا بلبن أو ما شابه (شالية لبن)، وكلما زاد أحدهم تفوقا زادت معالم الاغارة وضوحا فى أرضية وعى مجتمع أطفال المنزل جميعا، دون استثناء الشغالة، فهى تحكى – من خلال الحدوته – ما تباشره عيانا بيانا من حرمان أسيادها الأطفال من طفولتهم، وبالتالى حرمانها من مشاركتهم بطفولتها طفولتهم، فضلا عن حرمانها الذاتى من الطفولة والاعتراف والحرية بل الحرمان حتى من أن يأكلها غول التعليم مثلها مثلهم، فان كانوا هم قد حرموا من طفولتهم بالتعليم الساحق الماحق الملتهم، فهى قد حرمت من طفولتها بدون تعليم أصلا، فهى تطلق لخيالها عنان الاسقاط والاحتجاج والاتهام بالأصالة عن نفسها والنيابة عنهم، فهى شاهدة، راصدة للأحداث فى صفحة وعيها متقمصة، مشاركة معا، ونستطيع أن نستنتج درجة ما من “الطيبة” فى هذه العائلة التى تعمل عندها بما سمح لخيالها بالاحتجاج على “هذا” الأستاذ الغول بما تتعاطف به من أسيادها الأطفال، وهذا التعاطف لا يسمح به الا قرب المسافة والسماح بدرجة من التقمص – وكذلك نستنتج نفس الطيبة من خلال ما ورد فيما بعد من لجوئها لعائلة ما استجارة من غولها الداخلى، وأيضا من موقف سيدها (حماها) قبيل سفره حين راح يسألها عما تريد ثم استجابته لطلباتها (علبة المر وعلبة الصبر).

وهى فى موقفها الراصد هذا، ومع هذا الجو الطيب (بشكل ما) تظل العارفة الصامته، كاتمة السر، شاربة المر، حليفة الصبر، فهى تعيش كل خبراتها فى صمت راصد، رغم مطاردة الداخل (كل ليلة) وحرمان الخارج طول الوقت.

ولو أنها كانت (تعيش) فى جو أكثر قهرا، لا يسمح حتى بحركة الداخل فى حلم أو قص حدوته، لما عاشت كل هذه الخبرات الداخلية كما بدت لنا فى حركية داخلها مسقطا فى الحدوته، ولما تجرأت حتى على مجرد التخيل ناهيك عن الحكى.

استمرار المطاردة بهذه الصورة الملحة، انما هو دليل على استمرار نشاط الداخل، وخاصة اذا ما خلت اليه ليلا (نائمة أو مستلقية)، واستمرار نشاط هذا الداخل هو دليل بالتالى على هذا الوضع الخاص الذى هو جماع خليط من : الحرمان المبدئى (شغالة تنام مع المواشى) والأمان (عن عائلة طيبة) والتقمص (لأولئك الأطفال المقهورين بالأستاذ الغول) فيتراكم كل ذلك فى قفزة متوقعة نحو تفكير حالم يحقق حلما منقذا :

فكيف ذلك؟

تتزوج من ابن سيدها (ابن السلطان) بعد أن تكبر، وبما هى جميلة، (ولا تنسى هنا أنها استعملت كلمة “سيدها” لتعنى بها حماها كما أثبت الباحث).

لكن القفزة كبيرة عليها.

والجريمة (الجرائم) التى لم ترتكبها، تلح عليها بالذنب، وأنها لا تستأهل هذه القفزة، حتى فى الخيال الحالم، ولا يتصور أحد أن مجرد براءتها الحقيقية، ويقينها منها، هى مبرر لرفض الشعور بالذنب، بل أن الشعور بالذنب يأتى عادة على جريمة لم ترتكب، وبالذات هو تفاعل تقمصى لعملية الاذناب Qualifying  ([11]) التى تمارسها السلطة الوالدية (بكل درجاتها وصورها) معنا لقفزة تطور متجاوزة غير مضبوطة.

وحتى لا تتمادى الشغالة الصغيرة فى حلمها من الاقتران بابن سيدها فأنها تسارع بضبط جرعة قفزة الحلم باجهاضها بقتل / التهام / خطف اطفالها أولا بأول – فتحقق بذلك تسوية محدودة، فهى تتزوج من ابن السلطان مع وقف التنفيذ المؤمن لهذا الزواج، وحيث لا أمان، يظهر المنافس الواقعى، الأحق منها بفتاها – الزوجة الجديدة، وهذه “التسوية” compromise  تفيد وظيفة أخرى، وهى أنه “بيدى لا بيد عمرو”، وكأنها اذ سمحت بعدوانها أن يرتد عليها فيخطف أولادها أولا بأول، ويتهمها بأكلهم، قد حققت بنفسها ما يبرر حرمانها من حلمها الجامح، فخففت من احتمال وقع آلام جديدة اصلاحية تصالحية، ذلك أنه باستمرار صبرها، وكتمانها يبدو انها شعرت بأنها قادرة على تجاوز ذنبها، فتسمح لخيالها (بما فى ذلك عدوانها المتصالح) أن يعيد اليها أبناءها كبار مستقلين، فيعيدون بدورهم لها أباهم … حتى لو لم تعلن نهاية الحدوته ذلك صراحة.

وبعد

فكأن هذه القراءة الثانية تتحرك فى احلام وخيالات شغالة مقهورة رغم طيبة العائلة التى تعمل عندها، وتقارب سن أعمار “اسيادها” الصغار من سنها، واشتراكهم معا فى الحرمان، رغم اختلاف الأسباب وهكذا ومن خلال النظر فى القراءتين معا :

نستطيع أن نحدد عدة ملامح دالة فى تعاملنا مع هذا النوع من التراث ومن خلال ايحاءاته لما هو تركيب بشرى شديد الغور والتكثيف ولما هو مأزق التعليم فى مواجهة نبض النمو الطبيعى، ومن ذلك :

1 – أن الخيال الطفلى – فى ذاته – هو أقرب موازيات الحدوته “الطاقة”.

2 – أن ظروف الراوى – وخاصة اذا كان طفلا – وظروف الرواية وقدرات حاكيها ([12])، وسنه طبعا – كل ذلك متغيرات لابد من أخذها فى الاعتبار عند القراءة والتأويل.

3 – أن توظيف جدل الخيال الطفلى مع الحدس الشعبى، فى مسيرة التربية والتعليم، مع مواجهة مأزق “الالتهام فى مقابل الحضانة” من جانب الاغارة التعليمية هو من أصعب تحديات العصر الحاضر لتنشئة الأطفال بعد تسطيح التدريس فى المدارس، وتشويه الاعلام لوعى الناس والأطفال خاصة بالتهام كل الوقت حتى أثناء النوم.

4 – أن اعلان تحدى المدرسين وكراهية التعليم، وثقل المدرسة فى اللعب والأغنية والحدوته فى ود عابث ([13])، ليس موقفا اخلاقيا ضارا، بل أنه اعتراف تربوى واع يساعد على التجاوز، ويقاوم تعتيم الوعى وتشويه الوجدان الطفلى خاصة، باصطناع صورة زائفة وكأنها محببة، لعملية التدريس.

5 – ان “عالم” الشغالات الصغيرات خاصة – لم يدرس الدراسة الكافية.

فنحن اذن – بعد القراءتين – نقف أمام مزج رائع بين ما هو خاص وما هو عام، وبين ما هو حاجة طفلية آنية، وما هو تاريخ شعبى ممتد.

وقد كنت أريد أن اتوقف عند هذه المرحلة وهذا الاستنتاج، لا أنى عثرت على ثلاث حواديت أخرى وردت من نفس الراوية فى نفس المرجع، فرجحت أن أتقدم خطوة أخرى، أتعرف عليها – وعلينا – من خلال هذه الفرصة النادرة، واخترت أن أبداً بالحدوته الأقرب الى معايشتها الاسقاطية لعالمها الداخلى فى ظرفها هذا، وخاصة وأنها أظهرت جانبا هاما يفسر من “هو الغول” كذات داخلية من ذواتنا المتعددة، فضلا عن نقلاتها الشاسعة التى تبدو لأول وهلة بلا رابط أصلا.

الحدوته الثانية : وعنوانها :

قمر بين حيطتين ([14])

كان فيه واحد اسمه الشاطر محمد، وأبوه ملك، الشاطر محمد كل ما يعدى، يلاقى  واحده عجوزه، عامله حجتها انها بتصلى، فقال لها : يا ستى قومى، قالت له “يا أخى قوم”، هوا أنت عامل زى القمر بين حيطتين؟؟ قام كل نوبه تقول كده، قام راح لابوه “يابه، فيه ست عجوزه، كل ما أعدى تقول لى أنت ولا قمر بين حيطتين، وقال : أنا لازم هوصل لها قال له “يابنى، انت لو عديت مالسبع الأولانى، مش حتعدى مالسبع الثانى” قال له “لا سيبنى وهاروح”.

قام فات، لقى واحد اسمه محمد برضه، لقاه بياكل الناس، وبيقتلهم، والملك حاكم عليه بالاعدام، فالشاطر محمد هوه اللى نجاه، ولما طلع قال له : اطلب منى حاجة يا شاطر محمد “قال له : اطلب منك توصلنى لقمر بين حيطتين” قال له : طب تعالى : اركب الفرس، ونى هاركب وراك، قام ركبوا ومشيو، ومعاه السيف، بقى  يقابلهم الحيوانات الوحشه، يقتلهم، وبعدين وصلوا كد

لقوا القصر بتاع قمر بين حيطتين، لكين عالى قوى، وعليه الناس واقفين، قام خدلهم سندوتشات وفيها مخدرات، وهم لابسين أبيض – لبس أبيض زيهم، وقعدوا يفأروا، قاموا نعسوا، قام طلع لقمر بين حيطتين فى القصر ده بقى، قام قال لها ايه؟ “انى أخويا عايز يتجوزك” قالت له “ليه اللى جابك؟” قال لها “انى عملت فى الحراس، واكلتهم مخدرات فى السندوتشات”، قالت له “طيب اعمل كده بكره وخليه ييجى” قام قال لها “طيب” فعمل ([15])، فطلع لها الشاطر محمد بنفسه، قالت له “انت عاوز ايه منى” قال لها “عاوز اتجوزك” قالت له “اذا ابويا طلب منك انك تعمل لى القصر ده ([16]) كله، تصور هولى ([17]) بالقشاية، كله يعنى” قام قال لها “ونى حعمل ليه فيه”؟ قامت قالت له “خد صورة م القصر أهه، أنى مصوراها” – وبعدين راح لأبوها، قام قال “صورلى القصر بالقشاية من جوه كله” قام قال له “ادينى فرصه”

قال له “خمستاشريوم”، بعد ما الخمستاشريوم ايجو، قام راح اداله الصورة.

هى قالت :أنا حابقى فى الجمل الأخير ([18]) اللى معلهوش نور، الجربان” الملك راح جاب كل عرسان بلدها، بتوع بلدها، يختارو الجمال الحلوه، وبعدين قام هى فضلت فى الجمل الأخير .. بتوع بلدها اختارو الجمال الحلوه وهو قال له “انى حختار الجمل ده”

        قال له : طيب يا شاطر محمد مبروك عليك، وهيه العروسه فيه.

وقال له : “أنى عاوز أروح بها على بلدنا” – قام خدها وراح.

وهم فى الطريق، التلاته جالهم النوم – عاوزين يناموا – فالشاطر محمد قال له “نام ونى وهى حنفضل صاحيين” قال “لا نام انت … وهى الأول، عشان انى برضه مش حيجيلى نوم الا اما انتم تصحو “فالشاطر محمد نام”، والغول ([19]) نعس هو كمان وهى فضلت قاعدة.

فات واحد سحير، قام سحرها وخدها، صحيوا ملقوهاش جنبهم، قام الشاطر محمد قال له “مش أنى قلت لك” قام قاله “يالله ندور” قام قعد يدور الناس يقولوله : دا فى البلد دى راجل سحير يسحرك، قال لهم وصلونى له، قام وصلوه، قام دخل عنده وقعد وكله معاه، فالسحير طلع، فمحمد دخل لقمر بين حيطتين، قالت له “أطلع من هنا ليقتلك عمى، قال لا، دنى حنجيكى” قالت له “حتنجينى ازاى؟” قال لها “اقعدى اضحكى معاه، وخليه سكران، وقولى له : احنا روحنا بتطلع ازاى” وبعدين لما ايجا، وقعدوا يضحكوا قالت له : احنا روحنا بتطلع ازاى”، قال لها “أنى روحى مش زى روحكو” قالت له “أمال روحك ازاى” قال لها “دانى روحى فى زور كتكوت، والكتكوت فى كوز، والكوز فى بطن أرنب، والأرنب فى بطن سبع”.

وبعدين لما جالها محمد ([20]) ده قالت له، قام خد الجمال اللى عند الساحر معاه، وقال له ([21]) أوعى الأرنب يطلع من بطن السبع، أصل ([22]) اقتلك انت، قال “طيب” قام مسكوا الارنب، ومسكوا اللى فيه، والكوز، والزور ([23]) وكله، قام راح للسحير قال له “أنى عايز قمر بين حيطتين” قال له “اسكت أصل اسحرك” “روحك فى ايدى أهه”  – ووراه روحه، وقال له “خش خدها”.

قال خش خدها، قال له “طلع الناس اللى انت ساحرها” قال له “شيل تراب من تحت رجلية والناس تطلع” كل ما يشيل، الناس اللى مسحورة تطلع، وبعدين قام قال له “سبنى أعيش بقى” قال له “لا” قام موت الكتكوت قام السحير مات.

وبعدين بقى يوريهم لهم ([24]) العيال المسحورة وأبوهم يقول : اطلب كيل من المال، ونى أديك “يقول لا مش حطلب حاجه، قام راح لواحده”. واحده قالت له “ودينى دنا أبويا يقولك أطلب كيل من المال، قول حط لسانك على لسانى” وبعدين قام راح، قام قال له “كده” قال “لا يبنى دا اللى يقول بالسر حيموت” قال له “محدش” كان اللى يحط لسانه على لسانه يسمع كلام العصافير، وكلام الطيور كلها، وبعدين قام راح حط لسانه على لسانه، قام وهو ماشى، سمع الحمامة واليمامه بيكلموا بعض، وتقولها : ان أم الساحر واخته حييجوا على الشاطر محمد، ومراته، وهم نايمين يقتلوهم، قام سمع، وفضل صاحى، لغاية ما ايجو، وبعدين قام، ايجت برضه حمامه، ويمامه، وقالت للثانية ان هيقتلوه الساعة واحده بالليل، قام  محمد قال “طب ونى حدخل لهم ازاى؟ وادى واحده وواحده نايمين “قال طب انى فكرت، قام دخل وهم نايمين قتلهم – ام الساحر واخته – وشالهم بعيد فالشاطر محمد صحى هو ومراته، قاله “ايه اللى دخلك من غير متستاذن بالليل؟” قال “انت كنت حتتقتل بالليل” قال له “من مين؟ قال له “تعالى وأنا أوريك الجثة” قام وراها له، قالى لى “طب قولى الحكاية” قال “لو قلتها لك حموت” قال له “لازم تقول” قال له “انى حاطط لسانى على لسان راجل عالم، وبسمع كلام العصافير”

وقام ميت.

قامت مراته قالت له “كده، موت اللى هوه بينجينا من الوحوش؟ وقالت له لف البلاد واسأل وقول : اللى موت صاحبه يعمل ايه؟ وبعدين مشى مشى ملقاش أى حد يقول له، وبعدين لما رجع قالت له “جيت بخير؟” قالها “لا” – قالت له “لف تانى” قام لف قام واحد فلاح قال له : اللى موت صاحبه يجيب عيل يكون مولود ولسة ما شمش هوا، واقتلوه، وحطو الدم عليه، كانت مراته حامل فى سبع أشهر، قام راح قال لها كده وجاب الدكتور، وقام منزل الولد وهو ناقص، وخد دمه، وقام حاطط عليه، قام محمد صحى وعاشوا فى التبات والنبات، وخلفوا صبيان وبنات                 

 

القراءة :

أولا : سوف نحاول أن نقرأ هذه الحدوته أساسا من منطلق أنها تمثل – فعلا – حدسا شعبيا عاما ثم نعيد القراءة بايجاز من منطلق أنها تعبر عن راويها لتكون بمثابة هامش لاحق للقراءة الأساسية أكثر منها قراءة موازية مثل التجربة الأولى.

ثانيا : أن الحدوته بصياغتها هذه تفرض علينا فرضا يقول بضرورة قراءتها بداية، أو تماما، من الداخل، بمعنى أن نرى كل شخوصها (أو أغلبهم على الأقل) باعتبارهم تركيبات ذاتية فى حوار وجدل وصراع وتبادل مستمرين، وهذا لا يعنى أنها ذاتية تماما (فى مقابل مفهوم مسطح للواقعية) وانما يعنى أنها تحقق – من منطلق شعبى / طفلى معا – فكرة تعدد الذوات من ناحية، واعتبار – الراوى (الأديب) ممثلا ومختبرا، ودالا، وجماعا، ومصهرا لشخوص واقع آنى، وواقع تاريخى معا، فالذات الماثلة هنا نقرأها من الداخل ليست ذات الطفلة مما يمثلها وعيها الأظهر فى حدود منطق الحياة العادية، وانما هى ذات “جمعت تاريخها وتاريخ تراثها الشعبى فى تراكيبها وتنظيماتها الكياناتية الذاتية، لتسقطها على هذا العمل الأدبى المتميز هكذا.

ولقد انتبهنا الى هذا الغرض من خلال ما يلى :

1 – من بداية الحدوته لم يحدد الحكى أن من تدعى “قمر بين حيطتين” هى فتاه (ابنة سلطان) بعيدة المنال، وانما أعلن وجه الشبه مباشرة “انت عامل زى القمر بين حيطتين” فالتشبيه هنا وصلنا كتنبيه مبدئى للشاطر محمد وجه الآخر محجوز خلف حواجز وعى آخر، ويلحق ذلك مباشرة ما يوحى بالتفضيل أو التقرير انتى ولا قمر بين حيطتين” – ولم نتبين احتمال وجود هذا القمر فى صورة فتاة بالخارج الا حين قبل الشاطر محمد التحدى “أنا لازم هوصل لها” رغم تحذيرات العجوز من مخاطر المحاولة (السبع الأول والسبع الثانى) الا ان هذا السعى اليها الذى وجهنا للخارج قد لا يكون الا سعيا للداخل مسقطا على الخارج (انظر بعد).

2 – من البداية أيضا، أعلنت الحدوته احتمال أن الشاطر محمد، هو هو محمد (القاتل والمتهم والمحكوم عليه بالاعدام والمنقذ البطل الحامى الراعى المتفدى … الخ) – ولا يوجد ما يبرر التسمى بنفس الاسم الا حدس غائر يؤكد أنهما واحد : (كثير فى واحد) – وعلاقتهما (رغم كون واحد “شاطر” والآخر قاتل ؟ أو غول) هى علاقة أخوة : أخويا عايز يتجوزك” – وصداقة “اللى موت صاحبه يعمل ايه” وتعاون طول الوقت.

3 – طوال الحدوته، كان لابد للسامع (والقارئ) أن يجهد نفسه قبل أن يميز من هو المقصود فى هذا المقطع دون ذاك : هل هو الشاطر محمد، أم محمد (وسنسميه تجاوزا القاتل محمد، والبطل محمد – وان كان التأكيد على ظهوره (ظهورهما المتداخل) هكذا – دون تحديد فى كل مرة عن من “هو” “منهما” هو مرجح أيضا لفرضنا الحالى (أن الكل : ذوات داخلية أساسا).

وانطلاقا من هذا الفرض (أن شخوص الحدوته ليسوا الا ذوات الداخل مسقطة فى الخارج) نستطيع أن نواجه ونفسر ما ورد فى الحدوته من معالم مألوفه، وذلك من خلال النظر الى تعدادات التركيب الداخلى، ومن هذه المعالم :

1 – أن الشاطر محمد (1) أنقذ القاتل محمد (2) من حكم الاعدام ([25])، دون مبرر ظاهر، وبالرغم من جريمته (جرائمه) المتكررة.

2 – أن ما قام به محمد الثانى كان أغلبه خيرا سواء فى (أ) قتل الوحوش، أم (ب) فى تحقيق أمل محمد (1) الأول فى الزواج من فتاة أحلامه، (جـ) أ/ فى تخليص صديقه من أزماته : أما باسترداد فتاته من الساحر، واما بحمايته من مكيدة أم الساحر وأخته لقتله، وقتلهم قبل أن يقتلوا محمد الاول.

3 – انه بعد كل هذا الفضل والحماية كان نصيب محمد الثانى هو الموت بسبب حب استطلاع ولامسئولية محمد الاول – (مما يذكرنا بقيمة (مقولة) ضرورة حفظ السر .. الخ) فكأن محمد الاول قد أنقذ محمد الثانى فى البداية بلا مبرر ظاهر ثم عاد فأماته بلا مبرر أيضا اللهم الا حب الاستطلاع!!.

4 – أن محمد الأول عاد فأنقذ (أحيا، بعث) محمد الثانى بالتضحية بجنين من صلبه لكنه جنين لم يتخلق بعد.

5 – أنه يبدو أن الراوية (الشغالة / 12 سنة) لم تتقمص بطلة هذه الحدوته بنفس درجة الحدوته السابقة، هذا أن كانت قد تقمصتها أصلا، وذلك رغم الاسم “قمر بين حيطتين” الذى يوحى بموقفها السجين الشغالة.

6 – أن احياء ضحايا الساحر من أطفال بلا عدد، جاء حشرا وسط السياق بما يحتاج الى غوص الى البحث عن علاقات أعمق بمن هو الساحر، ومن هم “العيال المسحورة، ومن هو أبوهم” (عارف السر، وعارف الطريق الى معرفة لغة الطير).

ثم : الى محاولة لقراءة – اغلبها من الداخل – حسب تسلسل الحكاية :

فنجد ان الشاطر محمد (محمد الأول) بدا بحثه المعرفى بقبول تحدى عجوز مشكوك فى تقواها (عاملة حجتها انها بتصلى) – فقد تكون هذه العجوز هى احدى صور الذات الوالدية الوصية والواعظة (سطحيا)، وأنها من فرط ثقتها بسيطرتها تعلنه أن ذاته الأنثوية (الطفلية) المكملة لوجوده حتما، التى هى هو، هى بعيدة المنال (بين حيطتين)، ومع أنه هو “مثلها” “عامل زى”، الا أنه ليس هى “ولا” (وان كنت أميل الى عدم اعتبار العجوز المدعية التقوى – وكذلك الملك أباه لا أعتبرهما، من الذوات الداخلية، فالعجوز أيضا هى تحديات النمو واعاقاته، والملك كذلك : هو التحفظ الواقعى من مخاطر السعى”.

ونتذكر هنا أن العجوز لم تقل له – مثلا – أنت موعود بهذه الفتاة كما لم تتنبأ له بها، أو تشير عليه بجمالها واحقيتها بالسعى لنوالها – ولكن الصياغة كانت من الغموض بما يوحى بأنها استثارة للتكامل بالالتحام بالاستقطاب الغائر ([26]) فى وجودنا كما أسلفنا – ثم أنها (قمر) أيضا : بنت ملك ([27]).

ثم تأتى دلالة الاسم لتقول : ان هذه الــ “قمر بين حيطتين” هى فتاة، وهى حبيسة حواجز الداخل، وهى بعيدة المنال : فى آن.

ويقبل الشاطر محمد التحدى رغم تحذيرات والده من السبع الأول، فالثانى، وعلينا أن نتذكر – دون ربط مباشر – أن النمو (التكامل) انما يحدث فى قفزات / بعد استيعاب وهذه القفزات تتخطى بكل وثبات التطور مآزق الاعاقة الناتجة من الميل الى التثبت عند كل مرحلة.

وتحتاج رحلة “النمو / التكامل” الى قبول كل محتويات / ذوات الداخل، من أول التنويعات المتبادلة للذات الظاهرة، الى احترام الدفع الغريزى جنسا أو عدوانا، وقد قدرنا أن محمد الثانى هذا هو التجسيد الذاتوى للكيان العدوانى الكامن فينا ([28]) (بعد تذكر أنه يحمل نفس الاسم “محمد برضه”).

  • فالعدوان قاتل ملتهم ([29]) (بداهة)
  • وفى نفس الوقت هو محكوم عليه بالاعدام من الملك (انكارا وكبتا).

فاذا اعترف محمد الأول بعدوانه، (اذ نجاه من الكبت / الاعدام) تصالح مع قوته المتمثلة فى التكامل مع الجانب الايجابى من حفزه التقدمى المبدع ([30]) – وهذا الاعتراف فالتصالح يحور العدوان “القتل الالتهام”، الى العدوان “الحماية الاقدام” حالة كونهما التوجه معا للأمام (ومعاه السيف، يقتل الحيوانات المتوحشة) ولا يعود يأكل الناس وكأن الذى يجل العدوان التهاما للناس هو انكاره (الحكم عليه بالاعدام) والذى يجعله تقدما وتخلصا من وحشية الوجود البدائية هو الاعتراف به والركوب معه على فرس واحد!! – وكأن العدوان اذا انفصل عن “الكل” أصبح حيوانا وحشا، فاذا تصالح مع الوعى المسئول بحثا تواصليا عن المعرفة وحفزا الى العلاقة بالآخر، اذا حدث ذلك أصبح العدوان سلاحا حياتيا يستعمل الحيلة (الذكاء) لما يحقق أكثر انسانية الانسان رحلة المعرفة :

يحسب أغلب الناس أن رحلة المعرفة هى أساسا (ان لم تكن تماما) رحلة اكتساب معلومات، فى حين أنها أيضا (وربما قبلا) رحلة التعرى فالنمو الذاتى بما يشمل ذلك تقليب وتنظيم وترسيخ المعلومات (البيولوجية القح وذات الحضور الرمزى) اثناء النوم، ومن خلال نشاط الحلم ([31]).

وقد قرأت – لذلك – أن تخدير حراس قصر “قمر بين حيطتين” هو النوم، فيتقدم حفز العدوان (- والكشف المعرفى من أعظم مظاهر العدوان الابداعية – الى “طلب القرب” من القمر الحبيس باسم صاحبه.

واقرأ بمثابرة عنيدة – أن شرط القبول (التكامل) هو معرفة أكثر فأكثر، معرفة الداخل بكل تفاصيله، أن شرط التكامل (بالالتحام الجدلى بالنقائض) هو تنشيط البصيرة فى الأعمق فالأعمق، وهذا هو ما بلغنى من معنى “تصوير القصر بالقشاية من جوه”.

ولكننا نفاجأ هنا فى هذه الحدوته أن تحقيق شرط الملك (والد “قمر بين حيطتين” لم يكف مهرا لابنته، فنجد أنفسنا أمام شرط آخر (مستعار من حدوته أخرى فى الأغلب)، شرط نستنتجه من السياق لأنه لم يعلن مباشرة وانما وجدنا أنفسنا فجأة أمام مراسيم تنفيذه، فنرى “طابور العرض” على الجمال، فنعلم أن الملك قد أعلن أنه سيزوج ابنته “قمر بين حيطتين” لمن يعرف على أى جمل تركب من جمال العرض، فتعطى “قمر بين حيطتين” سر جملها للشاطر محمد (مزيد من معرفة أسرار الداخل)، والسر هو أن الجمل الذى تركبه هو طى المجهول (ملهوش نور) كما أنه ليس جذابا صحيحا مبهرجا (كان الجمل أجرب) – ونحسب ان هذا وذاك – من خلال رحلة الداخل التكاملية قد يشير إلى ان الداخل – رغم جماله وضرورته وحتم الاتحاد به – هو طى الكتمان، وحبيس تشويهنا له بانكاره وفهمه بما ليس هو.

وبمجرد النجاح فى اختراق كل المحاذير والقفز على كل الحواجز ومصارعة كل الوحوش الحائلة دون الاحاطة بالقصر من جوه “واكتشاف الجمل المظلم الذى تقبع فيه ذاتنا الأخرى، بعد كل ذلك : لا تنتهى قصة الحياة، بل لعلها تبدأ.

فالمعرفة مسئولية، والتكامل اختبار، ومرونة حركة النمو تحتمل كل حركية الاتصال / الانفصال، المعرفة / الدفاعات، التقل / الاحياء الموت / البعث

وهذا ما نراه فى بقية القصة :

اذ تتطور الحدوته بغير ما نتوقعه عادة، حين يعزم كل من المحمدين على بعضهما البعض بالنوم (أولا) ثم لا يلبثا أن يناما هما الاثنين رغم وعد محمد الثانى (الذات العدوانية الحامية) بالسهر لحماية لقاء التكامل (محمد الأول وحبيبته / زوجته قمر) – فالعدوان هنا يمتد : بعد الحماية والاقدام والتعرف، الى وظيفه المستمرة تحت مظلة خادعة تسمى أمان “الوصول”، فنحن نعرض وجودنا الى بتر جديد بالغوص الى جوف ظلام جديد متجدد.

فتعلن الحدوته أن البحث المستمر (فى الداخل / الخارج / الداخل / … الى مالا نهاية …) هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة، والبحث المعرفى بهذه الصورة لابد وان يظل متتابعا طول الوقت، ومتسلحا بيقظة عدوان لا يهمد، وقد قرأت “السحير” (الساحر) هنا باعتباره القوى التى تخفى “فى الداخل” – وفورا – كل الشخوص والمعلومات المطبوعة من الخارج، فتحرمنا من التفاعل معها، والنماء بها، وهذا ما أعرفه عن نشاط أغلب الحيل الدفاعية العامية (بكسر الميم وفتح الياء دون تشديد) – مثل الكبت والانكار والمحو .. الخ فلا يبقى على السطح اذا اشتدت هذه الحيل السحر الا وجود مسطح، نفعى، ذو منطق قشرى.

وكأن اختطاف “قمر” واختفاءها هو نوع من التراجع – بالغفلة – عن استمرار الاحاطة التكاملية بالمعرفة، وكأن السحير هو الحيل (الميكانزمات) العامية الشديدة الخفاء المعقدة السر (لاحظ أين يحفظ روحه فى جوف تاريخنا الحيوانى بعيدا عن الكشف).

اذن فعلينا ألا نكتفى بمعرفة أغوارنا الداخلية وذواتنا النقيضة، وانما علينا أن نعرف كيف نحافظ عليها وعلى كشفنا لها وخاصة ضد الاعيب الحيل المعتمه “والعامية” “والخافية” ولا يفل الحيل الا ألا تصبح حيلة بفضح سرها (مكان روحها) والمعرفة تتبع المعرفة، والكشف ينير الكشف الى كشف أعمق وهكذا – وبمعونة اقدام وذكاء العدوان، محمد الثانى، تحصل قمر على سر هذا الساحر الذى خبا طفولتنا وغيرها (العيال المسحورة) بعيدا عن نبض الحياة الكشفى التامى.

وفجأة تقفز الحدوته قفزة أخرى واسعة تدهشنا فعلا، لكننا سرعان ما نكتشف أنها فى نفس الاتجاه : مزيد من كشف السر، واختراق حواجز اللغة، حتى لغة الطير، ذلك أن المحمدين بعد أن استعادا نبض التكامل (قمر بين حيطتين) بقتل الساحر (بمعرفة سر بقائه / موقع روحه) لم يكتفيا باطلاق سراح قمر، بل أطلقا سراح “المحتوى” المسحور جميعه (شيل تراب من تحت رجليه([32]) والناس تطلع”.

وحين يصل المرء الى هذا المستوى المعرفى، لا يصبح المال هو هدف سعيه، ولا يرضيه الا مزيد من أدوات المعرفة، فالمكافأة هنا – مكافأة المعرفة – هى معرفة – أعمق وأرحب : لغة الطير (تذكر مغزى قصة سيدنا سليمان)، أى اكتساب سلاح جديد لمواصلة للكشف، وهذا الكشف – مثل ما سبق – ليس لمجرد اتساع الاحاطة، وانما هو ضرورى للنجاة من هجوم جيوش الظلام والاظلام، فالكشف هو سلاح العدوان الايجابى، والعدوان (محمد الثانى) هو وسيلة الكشف، ومزيد من الكشف، وهكذا وهنا نواجه مأزقا آخر، اذ كيف أن الحيل الدفاعية (الساحر) هى – فى جرعتها المناسبة – دفاع ضد فرط المعرفة ومن ثم احتمال الاعاقة بالتوقف المنبهر أو باليأس العاجز أمام هول المسيرة، وفى نفس الوقت فان مزيدا من المعرفة (على حساب الحيل الدفاعية / الساحر) هو حفز الى حركية أرحب، ونمو غور؟ وهو الحامى ضد حيلة أخرى بديلة (أم الساحر وأخته).

أن النقلة التالية فى الحدوته تنبهنا – كما فعل معظم المتصوفة – أن ثمة معرفة لابد أن تظل طى الكتمان الشخصى، حتى على الشعور نفسه (محمد الأول) – وان الحقيقة اذا أعلنت (بلا داع ولغير أهلها) قد تفقد سر فاعليتها، وهذه الفكرة تتكرر باستمرار فى الأدب الشعبى وفى الفكر الدينى التصوفى على حد سواء، وهنا، حين لا يستطيع الشاطر محمد أن يحجم حب استطلاعه (مثل حكاية الهبوط من الجنة) (وحكاية موسى والخضر) فيكشف العدوان الحامى (محمد الثانى) عن طبيعة وجوده، وأسلحة حمايته، أى حين يظهر العدوان صريحا هكذا، فأنه سرعان ما يرفض حتما، ما دام عدوانا ومازلت فى كل كتاباتى وحواراتى ادافع عن حق العدوان (لا العدوانية ولا الاعتداء) فى التواجد فى وعى الناس، ومازلت القى دائما نفورا من اللفظ (لفظ العدوان) ورفضا لأى احتمال ايجابية فيه، وهذا الرفض والانكار (من الكافة الساكنة) هو قتل له، وبالتالى حرماننا من وظيفته الايجابية.

وهكذا قتلوا محمد الثانى باعلان سره، فأنكرناه.

وباختفاء دور العدوان الايجابى يبتر الوجود من جديد، فيجهض التكامل بالالتحام بالشق الآخر من الوجود / أى يجهض الابداع، أو على الأقل – بحسب ما ورد فى الحدوتة – يوقف حتى يستعيد طاقته الخلاقة (احياء العدوان):

فيبدأ البحث من جديد، ويبدأ الكشف من جديد، وتعطينا الحدوته قيمة جديدة لعدواننا اليقظ، حتى على حساب مجرد تكاثرنا العددى فى تكرار سطحى، وكأنها تقول “أولى أن نلد أنفسنا، وأن نبعث “دائما” من جديد، من أن نختبئ فى أولادنا تحت زعم أنهم الأمل والمستقبل دوننا نحن الآن : بل ان عملنا فى وهم الاستمرار الجسدى يستحق وقفة يقظة تخيرنا بين استعادة يقيننا بما فى ذلك العودة للاعتراف بحق العدوان فى التواجد وضرورته لمسيرة التكامل، وبين الاختباء فى زعم المستقبل والولد، اختارت الحدوته أن تقدم الأخير قربانا للأول ([33])، قدمته قربانا حسيا لم يتخلق لبعث العدوان التكاملى اليقظ المبدع.

وبهذا البعث، تعود حركية التكامل من جديد.

وتنتهى الحدوتة بالصيغة المألوفة، وان كنت قد تمنيت الا تكون كذلك، حيث كنت أفضل أن تكون النهاية مفتوحة مثل الحدوته الأولى.

وبعد

فأحسب أن القارئ لابد قد انزعج – مثلى وأكثر – من هذا التفسير البالغ الادهاش حتى الرفض، وليطمئن : فلا أنا متمسك به تماما ولا أنا رافض غيره أصلا، لكننى اكتشفته اثناء القراءة – كتابة – هنا، فلم أرفض ايحاءاته، ومازلت متمسكا بدور الراوى الشخصى فى هذه الصياغة :

اذ انى ارجح أيضا أن تكون “قمر بين حيطتين” هى أيضا الراوية (الشغالة الأمية / 12 سنة)، وأنها – شخصيا – تنتظر من ينقذها من سجنها “بين حيطتين”، ولا تقتصر هذه الرغبة على مجرد الخلاص الجسدى والعملى من “الخدمة” بل انها – وكل الشغالات فى سنها – تحتاج الى من يراها (الحاجة الى الشوفان)، من يراها فى ظروفها فيقدر همس وجدانها، ومن يراها انسانة لها “داخل”، ولها احلام ولها لغتها الصامتة، ولها حسنها رغم اختبائها فى  الظلام (جمل بلا نور) وفى ظروف شائهة (الجمل أجرب) (هل تذكرون “قرفصة” مثل هذه البنت فى ركن المطبخ بجوار صفيحة الزبالة وقد اطفئ النور وغلبها النوم من التعب حول النهار، وها لا تجرؤ أن تذهب للنوم قبل ستها؟؟).

ثم ان أحلامها عرفت أن ابن سيدها (الذى تحبه  أو ربما تتوهم تحبه). (راجع الحدوته السابقة)، وهو شاطر، لكنه دمث، عرفت أنه لا يستطيع اختطافها ورؤيتها وانقاذها … الخ فأدارت صورته لترى وجهه الآخر فتبدت لها صورة البطل الذكى العارف المقدام (محمد الثانى) فتتضاعف قدراته فيتغلب على الصعوبة تلو الأخرى ويكتمل باقدامه حتى يلتقى بها فى النهاية فينقذها.

وكما أعلنا منذ البداية فهذه ليست قراءة ثانية مثل المحاولة الأولى، الا أنها الارضية “الشخصية” التى أثبتها لأعلن للقارئ أنه لم يغب عنى الوجه الأبسط لهذه الحدوته، لكننى مازلت افترض (1) قدرة هذه الطفلة – والوعى الشعبى – على اختراق طبقات النفس الى أغوار أغوارها، (2) كما ارى العالم الخارجى مسقطا للعالم الداخلى فى (بدايات حركية المعرفة والتواصل على الأقل)، (3) بنفس القدر الذى ارى فيه العالم الداخلى باعتباره هو جماع العالم الخارجى – حى كما هو – فى حركية دائبة، وليس فى رمزية مختزلة بمعنى أنى حين اقول “قمر بين حيطتين” هو  الوجود الداخلى المقابل لوجود “الشاطر محمد”، لا أنفى وجودها بالخارج يبدأ اسقاطا من هذا الوجود الداخلى، ثم يتواصل حوار الداخل والخارج للتعديل والتطوير حتى يتموضع الداخل فى الخارج، وفى نفس الوقت يتموضع الداخل بالخارج، فنعرف ونتعارف، ونكشف ونتكشف فى آن، (4) وأخيرا فانى افترض أن رؤية هذه الرواية بالذات، وشطحات خيالها، من منطلق شخصى من جهة، وباعتبارها جماعا لحدس شعبى من جهة أخرى له طبيعة خاصة باعتباره مادة خاما تحتاج لوقفة، فوقفات مراجعة.

فبالاضافة الى الحدوتتين السابقتين، فانها قدمت – فى نفس العمل – حدوتتين اخريتين، رأيت فى أولاهما (الحدوته الثالثة) رؤية جديدة لما سمى فى تراث التحليل النفسى : عقدة أوديب، وكانت هذه الرؤية تقع فى وعيى موقع التساؤل بعد أن رأيتها فى خبرتى المهنية وبحثى العمى ماثلة امامى، تعلن العلاقات الجنسية الخطرة بين الأم وابنها فى موقف الذهان خاصة.

ولو صحت – أو رجحت – هذه الرؤية (اعادة النظر فى العلاقة الجنسية بين الأم وابنها) لاقتربنا أكثر فأكثر من الاهتداء الى طبيعة الكشف، واعادة الكشف، فى التراث الشعبى والخيال الطفلى على حد سواء.

الحدوتة الثالثة

التفاح المسحور

كان فيه ست جوزها صياد، والست ديه، نفسها تخلف لكن مابتخلفش، لقت راجل بيقول “التفاح التفاح اللى يحبل الصبايا الملاح” قامت قالت له “هات ياعم” قامت خدته، وراحت حطته تحت الطشت، قام ايجا جوزها صايد، وجعان، قام كشف الطشت لقى تحته التفاح، قام واكله، قامت جت مراته وقالت له “أجيب لك تاكل؟” قال لها “لا دنى كلت التفاح اللى كان تحت الطشت” قالت له : ايه؟؟ دانت هتحبل، دنى جايباه لى قال لها : واعمل ايه فى المشكله ديه؟ قالت له : روح خد متر حرير معاك ومتر خيش، ان جت بنت لفها فى الخيش وسيبها، وان كان ولد، هاته فى المتر الحرير وتعالى، قام قعد تسع تشهر، وبعدين قام، جاب بنت، من بطن رجله الشمال، قام حطها فى الخيش وسابها، الحيوانات اللى بيطيروا صعب عليهم، وبعدين قاموا خدوها، وحطوها فوق النخلة العالية قوى، خدوها كبروها، ولبسوها، وصيغوها، وبقت أحسن واحدة بقى.

وبعدين كان ابن السلطان رايح يسقى الحصان بتاعه من البحر، قام الحصان شاف الخيال، قام خاف من الخيال قام رجع، بص ابن السلطان لقى نور فوق، ما أقدرش يبص، قام رجع عيان، جابوا له دكاتره كتير محدش عرف يطيبه، وكان عندهم الداده بتاعته العجوز، قالت له : انت عيان يا ابنى؟ قال لها .. آه قالت له : لكن انت عياك حب قال لها : جدعه يا أمنا العجوز وبعدين قالت له : هات لى خروفين، خروف محشى جير، وخروف حقيقى، وبعدين جاب لها، وقالت له .. هات لى سكينة مش حامية – تلمه -، وبعدين قام جاب لها قامت راحت قدام النخلة، وتجز، قامت البنت اللى فوق النخلة تقول لها : جزى من رقبته يا أمنا العجوزة من رقبته قامت قالت لها ياختى انزلى، اصل ما عرفش أجز، جزى انت بدالى قامت قعدت تقول : يا نخله ابويا اقصرى اقصرى، لحد الأرض وأوصلى.

قامت النخلة نزلت لغاية الأرض.

قام ابن السلطان خدها، وطار بقى ع الحصان، ومشى وراح لأمه.

قال لها يامه “دى فى عنيكى” ..

قالت له : .. حاضر يابنى، دى مرات ابنى، وكده ([34])

وقال لها “وانى هروح أحج، وعيبه لما آخد مراتى واحنا لسه عرسان”.

قامت قالت “يا ابنى مراتك فى عنيه وكده ..”

ابن السلطان سابها وراح

هى قالت لستها (حماتها) أنى جعانه.

قالت لها “ادينى الغوايش اللى فى ايدك” وانى اديكى رغيف وخرطة جبنة.

قامت ادتها، تانى نوبة قالت لها “ادينى هدومك” ادتها، شعرها، ادتها، لغاية عينيها خدتهم، قامت بتقول لها : “ادينى” قالت لها “انتى معتش .. فيكى حاجة يالله، وقامت رمياها م الشباك، البنت وهيه جنب الحيطة، تلم العيش الوحش، تحطه فى جنب، والحلو تاكله وبعدين، وهى بتاكل كده قام لقت خاتم، قال لها “شبيك، لبيك، اطلبى من بين ايديك” قالت له: اطلب عنيه، وشعرى قام جابلها، قالت له : اطلب لبسى وغوايشى وسيغتى، جابلها، قالت له : بقى أطلب قصر عالى، فى وسط بحر كبير، ملهوش أول ولا آخر، ويكون فيه جنينة فيها كل حاجة.

قصر أعلى من قصر الملك ومفيهوش زى حاجات الملك، قام قال لها طيب، بصت لقت نفسها فى قلب قصر، والقصر مفروش وكله.

ابن السلطان جه م الحجاز “واتجوز أمه ([35])، عشان قالت له أمك ماتت، ونى مراتك، لبست لبسها، والعنين، والسيغة وكله، بقت هى … وبعدين، قامت حبلت منه، وهى لسه مولدتشى، قامت اتوحمت على ايه، على قطف عنب قام شيخ بربرى م اللى عنده، راح يقول لها “يا ست ياستنا يا للى قصرك أعلى من قصرنا، هاتى حتة عنابة للوحيمة اللى عندنا، قام البربرى راح قال لها، قامت قالت له …… أنى أبويا حبل فى بى بى، والغربة والصقرة ([36]) عششت على ضى ضى، وابن السلطان حبنى، واتجوز أمه على، يا مقص قص طرف لسانه، ليروح يفتن على قام راح، ميعرفش بتكلم، يضربه، ميعرفش، والتانى والثالث، والرابع، قال “أما أروح أنى، يمكن آجى كده” قام راح يقول لها : يا ست يا ستنا، يا اللى قصرك أعلى من قصرنا، هاتى حتة عنابة للوحيمة اللى عندنا، قالت له : “أبويا حبل فى بى بى، والغربة والصقرة عششوا على ضى ضى، وانت يابن السلطان، حبتنى، واتجوزت أمك على، يا مقص، قص طرف من شعره ليروح يفتن على، قام قالها “انتى مين؟؟”.

قالت له “أنى مراتك اللى كنت فوق النخلة” قام قال لها : “امال الثانية دى مين؟؟” قالت له “دى أمك، وخدت عنيه، وشعرى، وغوايشى وهدومى، ورمتنى تحت القصر” قام قال لها “طيب” وخد السيف، وراح قتل أمه، وعاش معاها فى التبات والنبات، وخلفوا صبيان وبنات. 

فى هذا النص الثالث، تركز على قراءة  جديدة فى ما أطلق عليه من بعد التحليل النفسى عقدة أوديب مشيرين الى العلاقة الجنسية الطفلية بين الطفل الذكر وأمه منافسا لأبيه.

فهذه الحدوته تنفذ الى هذه العلاقة من منطلق مختلف تماما :

1 – فالفتاة – منافسة الأم – هى ابنة الطبيعة، سواء لأن بذرتها (أصلها) من تفاحة سحرية، أم لأن نشأتها كانت فى حضن الطبيعة، على فرع نخلة، وقد تبنتها الطيور “الغربة والصقرة عششوا على”.

2 – وابنة الطبيعة هذه تنافس الأم / الممتلكة / الزوجة .. فى ابنها.

3 – ثم أن ذلك يستتبع أن نرى المعركة بين ممثلة الطبيعة الفطرية الواثقة فى حضن الصقور (الامان)، وممثلة شهوة الامتلاك (بسبب عدم الأمان) ([37]) هما أصل العلاقات البشرية، فيأتى الجنس تعبيرا وليس أصلا، يأتى بدفعه، ولذته، وما يرمز اليه تاليا لهذه العلاقة الأساسية.

4 – كذلك نرى أن مبعث هذه العلاقة الجنسية المحرمة هنا كان شهوة الأم الصريحة، وليس رغبة الابن، الدفينة.

5 – كما تمت العلاقة بعلم الأم وتحايلها وخداعها وقصدها الواعى – دون الابن (عكس جهل الطرفين فىعقدة أوديب).

6 – كذلك لم يعقب اكتشاف طبيعة هذه العلاقة شعور الابن بالذنب أو كف رؤيته – الحد من بصيرته بفقء عينيه.

7 – وأخيرا فلم يظهر الأب ([38]) فى الصورة اصلا كمنافس خطر فى هذه العلاقة.

8 – ثم أن نهاية الأم كانت القتل (بلا ذنب أيضا) ([39])

ورغم أن تركيزنا فى هذه القراءة – كما ذكرنا – هو على هذه المسألة الموازية لعقدة أوديب، الا أن الحدوته تضيف أبعادا أخرى الى رؤية التركيب البشرى من زوايا أعمق وأكثف وأخطر، ومن هذه الأبعاد :

1 – أن “الرجل” يمكن أن يحبل، ويلد.

2 – أن الرجل حين ولد – فقد ولد أنثى، فى حين أن زوجته حين تمنت الخلف تمنت ذكرا، وان “لم يظهر ذلك الا مؤخرا”.

3 – ان ناتج ولادة الرجل (وهو الابداع) متسقة مع ما هو فطرة لم تتشوه.

4 – أن النشأة الفطرية (تذكر : حى بن يقظان) هى أضمن الطرق لترعرع امكانيات البشرية من جمال وذكاء وصبر واستمرار.

ثم الى قراءة الحدوته فى تسلسلها الوارد :

تبدأ الحدوته بأن الرجل الصياد، هو الذى يحبل ويلد بمحض الصدفة التى سمحت له بتزاوجه مع الطبيعة، وكما المحنا حالا (وفى الحدوته السابقة) فان الاعتراف بالقطب الانثوى فى الوجود الذكر هو من خطوات التكامل اللازمة، كما أنه من معالم الابداع الكامنة ([40]) والابداع هنا يتجسد من الرجل بنفس الطريقة العيانية التى تتميز بها المرأة بيولوجيا والرمز هنا جيد، حين يحمل ويلد من بطن رجله ([41]).

ولكن هل يا ترى كانت ستختلف الدلالات التى سنذهب اليها لو أن المرأة هىالتى أكلت التفاح المحبل؟ أو دعونا نضع السؤال بهذه الطريقة : “هل كان من اللازم لكى تكون المولودة أنثى، ثم ابنة الطبيعة أن يكون مولدها من هذا المصدر الذكرى غير المألوف؟ وأنا لا أستطيع الجزم بالاجابة الا أنى أقبل تصور أن هذا الخيال بهذه الصورة هو الذى نبهنى الىعلاقة بطلة الحدوته بالطبيعة أكثر فأكثر، حتى أنه لا يوجد ثمة شك فى أن أى عنصر بشرى “ذاتى” هو المسئول عن ولادتها، بمعنى أنه لو أن المرأة هى التى أكلت التفاح ثم حملت، وولدت، لكنا أميل الى تصور أن هذا التفاح قد عالج عقمها – مثلا – ولم يكن هو بذرة مسئولة عن ولادة هذا الكيان الانثوى الطبيعى مباشرة – (من ابداعية الرجل).

ثم تنتقل اللقطة بخطوة واسعة (كالعادة) الى عشق ابن السلطان لابنة الطبيعة (حيث الطبيعة متفاعلة مع ابداعية والد ذكر) ([42]) – وتحكى الحدوته حيلة معروفة من عجوز عارفة ([43])، تمكن ابن السلطان من خطف معشوقته الجميلة والطيران بها الى أمه التى رحبت بها دون أدنى اشارة

رفض داخلى أو خارجى، وهذا نسج جميل وعميق بدلا من التمحك فى أسباب ظاهرة سطيحة تبرر الخطوات التالية كما أعتاد بعض مقترفى الأدب، (حيث اعتادوا أن يجعلوا لكل خطوة تمهيد، ولكن نتيجة سببا، مع أن الأمر ليس – بهذا المستوى – كذلك – اذن لم ترفض الأم رعاية زوجة ابنها، ورحبت بها باعتبار أن ذلك من البديهيات، ومع هذه باستقرارها الجديد حتى يسافر زوجها، فتساومها أمه عينا برغيف، وعينا بخرطة جبنة … الخ، ويتأكد لنا، عابرين، أن الحياة فى ذاتها (بعيش وجبن) أغلى من كل شئ حتى العين والشعر .. الخ، ولم يكن ذلك عقابا وتخلصا فحسب، بل كان انتحالا وتقمصا أيضا، أو أساسا، وهكذا تحاول الأم أن تسترد ابنها بأن تكون زوجته.

وهذا هو الجديد فى تفسير العلاقة المتبادلة (ذات الظاهر الجنسى) بين الأم والابن :

1 – تبدأ هذه العلاقة الخطرة منذ الولادة حيث ليس سهلا أصلا أن تقبل الأم بأن تسمح لجزء من كيانها أن ينفصل عنها، اللهم الا بضمان أنه انفصال ظاهرى، أو مؤقت.

(واضطرابات ذهان الولادة، أو ذهان النفاس Peurpeural psychosis  هو أحد صور ذلك).

2 – اذا تهددت الأم – بجرعة غير متناسبة – بالانفصال الحقيقى لابنها “كموضوع مستقل”.

(ا) اما أن تقع فريسة اضطرابات الهجر (مرض الأم).

(ب) او تحاول استعادته بوهم احتوائه (اعاقة نمو الابن حتى المرض).

(جـ) أو تقتله فعلا (جرائم قتل الرضيع Infanticide)

3- اذا كان المولود أنثى فقد يسهل على الأم أن تتقمصها فتستمر فيها، وبها، فكأنها تلغى الانفصال بأثر لاحق.

4 – اذا كان المولود ذكرا، فقد تأخذ محاولات الاستعادة، خاصة اذا استمرت المعركة حتى فترة المراهقة للابن، قد تأخذ شكلا جنسيا من جانب الأم أولا، فالابن مستقبلا (بكسر الباء).

(يتم هذا بداهة فى اللاشعور فى الأحوال العادية).

5 – تظهر هذه العلاقة بشكل صريح فى بعض مظاهر الذهان (المرض العقلى) عند الابن خاصة وعند الأم أحيانا فاذا ظهر الميل (وهو فى الحقيقة استجابة) الجنسى عند الابن تكلمنا عن عقدة أوديب وما هى كذلك ([44]) ومما يميز هذا عن ذلك عادة هو السن، ونقطة البداية، (هذا ان كان لعقدة أوديب أصل ثابت فعلا) وقد تظهر فى شكل أبسط فيما يبدو من غيره الأم من زوجة ابنها عليه فى الحياة العادية دون مرض صريح.

6 – فى مثل هذه الخبرات (حيث تلح الأم أن تستعيد ابنها – الى رحمها – عن طريق الاثارة الجنسية الكامنة) يكون الأب من ذوى الشخصية المتنحية والسلبية، غير الكفء، بمعنى أنه يفتقد عادة الى الحضور الذكرى الحيوى الذى يملوء كيان الأم ووجدانها، فيبدو أنها تستعيض عنه بأبنها – فالأم هنا هى الطاغية بعكس العلاقة الأوديبية حيث الأب هو الطاغى وهو الحاصى  castrating  – وكأن الأب هنا من هذا المدخل (مدخل رغبة الأم فى استعادة الابن كما تظهر فى الجذب الجنسى) هو أب غائب (بعكس أبى أوديب المنافس) وغيابه أما غياب مجازى مثل تمتعه بالصفات السلبية السالفة الذكر، واما غيابا حقيقيا – كما لم يظهر فى هذه الحدوته أصلا ويكون الابن فى هذه الحال وحيدا، أو الابن الأول البكرى أو ذو صفات رجولية خاصة، كما تتضح هذه العلاقة بشكل غير مباشر – كما ذكرنا – فى فترة المراهقة وعند الزواج (زواج الابن).

واذا كانت العلاقة الأوديبية (الابن —- أموية) تحل بأن يتقمص الابن أباه فتختفى المعركة المفروضة ولو الى حين، فان العلاقة “الأم — بنوية” هنا تحل بالكشف عن حقيقة مصدر الرغبة، ثم برفضها حتى التخلص من جذورها بقتل الأم، على أن القتل عامة، وقتل الأم خاصة (خيالا طبعا) ليس فى صالح مسيرة النمو، فاذا لاحظنا اختفاء الشعور بالذنب فى هذه الحدوته( مهما كانت جريرة الأم) لرجحنا أن النهاية عادة تصيغ هذه الأم، فى مواجهة الزوجة، بأنها الامتلاك بالكذب والصناعة الزائفة فى مواجهة الطبيعة السلسة والتصالح مع القدر فى ظل مثابرة لا تهمد، وبالتالى يكون التخلص من الأم هو تخلص مما تمثله فى هذه اللقطة فحسب فيكون قتل الأم هو للتخلص من الماضى لصالح الحاضر، أو من الزيف لصالح الحقيقة، أو من اللا أمان التملكى لصالح الأمان الفطرى .. الخ.

ونلاحظ أخيرا أنه – بذلك – (وحتى بالنسبة لاعادة تفسير عقدة أوديب كما أوردناها فى مكان آخر) فان الجنس ليس هو الدافع المسئول عن هذه الوقفة ضد مسار جدل النمو، وانما هو المظهر القوى لرغبات تداخل وتراجع للاحتماء بأمان تملكى، أو احتوائى ساكن، ضد مغامرات الانفصال والاستقلال المهددة.

ثم نظرة من موقع الراوية :

وكما فعلنا فى الحدوتتين السابقتين، فقد قرأنا الحدوته باعتبارها حدوته مستقلة بذاتها، دالة بمحتواها، عما هى دون أن ننتبة الى ماهية الراوية الصغيرة، لكننا اذ نعود فنتذكر، نجدنا مرة أخرى فى مواجهة ملامح الراوية – أيضا – فى بطلة هذه الحدوته على الوجه التالى.

هذه الطفلة الشغالة، “الملقاة” بعيدا عن أهلها وكأنهم استغنوا عنها، هى ابنة لغير والد الا صدقات العواطف العابرة، وقد لاحظنا فيما سبق أن ثمة احتمال حنو وارد من سيدها (حماها فى “الأستاذ الغول”، والسلطان فى “قمر بين حيطتين”)، فأن صح ذلك، فقد يصح أن نعتبر أنها وهى تصبر على هذا الرفض من أهلها الذين القوها فى بيت الخدمة، قد لقيت بعض الرعاية بما سمح لخيالها أن تنسج حول ابن سيدها الصغير صورة فارس أحلامها، ثم يصور سيدها الكبير قلبا مسامحا، يعينها أن تصبر (علبة الصبر) على مرارة حياتها (علبة المر)، وحنان الصقور والغربة هنا يشير الى أن الحنان أتى راويتنا الصغيرة من مصدر غير حان بطبيعته، فلا الصقر معروف بحنانه ولا الغراب، لكن هذا ما حدث، مثل سيدها المفروض أنه قاس قاهر، لكن الحواديت الثلاثة تقول بغير ذلك – فاذا تمادينا فى هذا الفرض فقد يتطلب أن تكون سيدتها هى القاسية رغم ظاهر حنوها أمام ابنها أو زوجها، وهذا (قسوة الست فى مقابل عطف السيد على الشغالات الصغيرات) وارد فى البيوت المصرية عامة فى تلك الحقبة التى سجلت فيها هذه الحواديت) فتتسلسل الحدوته على هذا النمط، حين تستولى سيدتها على كل ميزاتها لتحرمها من خيال الاقتران بابن سيدها، لكن الأحلام التعويضية تعود بسحر خاتم له خادم يرد اليها ذاتها وفتاها ويتخلص من سيدتها فى خبطة حقيقة دامغة.

ومرة أخرى فهذا التفسير ليس بديلا عن التفسير الأول بل هو مكمل له ومتداخل فيه.

خاتمة :

انتهت الحواديت الثلاثة، ولم يبق أمامنا فى هذه المجموعة القصصية من روايات هذه الشغالة الأمية (12 سنة) سوى حدوته واحدة لم أجد فيها ([45]) ما يضيف الى ما ذهبنا اليه، أو يناقضه، بالقدر الذى يسوغ لى أن أوردها كاملة أو أقراها بنفس الطريقة.

وأكتفى هنا بذكر اسمها “الزوج المسحور” (وصفحتها 111) وأن أقول أن ما استرعى انتباهى فى كل هذه الحواديت، بما فى ذلك هذه الأخيرة هو جسامة قدر الخرافة والمبالغة فيها، فهذه الحدوته الأخيرة تبدأ – أيضا – بتمنى زوجة السلطان فدعائها أن تنجب، فيدعو السلطان وهى تصلى “يا رب مراتى تخلف جمل” ولم نجد ما يبرر هذه الدعوة بالذات، ولو كانت صياغتها “يا رب مراتى تخلف” ولو “جمل” لفهمنا ان الحرص على الانجاب قد يبرر هذه الدعوة، أو لو أن شرط الانجاب جاء جزاء فعل بذاته، وكان الشرط هو انجاب الجمل، لساغ الأمر أيضا … وهكذا، ولكن لا هذا ولا ذاك وردا أصلا وتترى أحداث هذه الحدوته الأخيرة، بنفس درجة الغرابة والخرافة حيث يكبر الجمل (ابن السلطان) ويتزوج بنات الملك الثلاثة الواحدة تلو الأخرى، لكن الأولى والثانية تتمهلان فى نصيبهما “قطع الجمل وأبو جمل” فينبرى الجمل يحارب عن أبيه، ثم ينتصر له، لكن ثمة زوبعة غيرة تثار حول علاقة الجمل – بعد عودته من الحرب – بزوجته الصبور، وحين يعرف ويتأكد من حقيقة طهارة زوجته يرجع انسانا من جديد (ونحن لم نعرفه انسانا أصلا) – أقول أن كل ما فى هذه القصة من دلالات مرتبطة بما سبق، هو مبلغ الخرافة، وضعف الترابط، وقيمة الصبر، وسهولة القتل، وسحرية الحل، ومفاجآت النهاية … مما لم أجد فيه ما أضيفه تحديدا.

تعقيب عام

ونستطيع أن نخرج من كل ما قدمنا ببعض الملاحظات والاتجاهات لطرح الفروض الجديرة بالنظر، ومحاولات التطبيق على مدى أوسع بمنهج أكثر التزاما وتحديدا وتربيطا، وذلك من واقع المادة الشعبية الشديدة الثراء الواردة هنا – كمثال – ومن ذلك :

أولا : ان الحدوته الشعبية ليست كيانا ثابتا، ولا هى رواية واحدة مكررة، بل هى مسقط مرن لحركة خيال متجدد من الراوى والسامع على حد سواء.

ثانيا : وبالتالى فان العوامل الذاتية، المحكومة بالظروف الخارجية، والكينونة الداخلية (والمحتوى الخفى) تتدخل فى صياغتها بدرجات متفاوته.

ثالثا : ان الحدوته “من طفل بالذات” ترتبط بالعالم الداخلى ارتباطا جوهريا بحيث يصبح الواقع الخارجى بمثابة مسقط مرن أيضا لهذا العالم الداخلى (فيلتحم  النص مع الواقع الخارجى مع الحلم الداخلى فى شكل الصياغة النهائية كما تعلن فى لحظة بذاتها).

رابعا : أننا بذلك لا نعطى أهمية خاصة للعالم الداخلى منفصلا عن الواقع، بل اننا نعلن – بشكل ما – ان هذا العالم الداخلى ليس الا الواقع مكثفا فى ذات ممثلة له بفجاجتها الفطرية هنا).

خامسا : أن فكرة (وحقيقة) تعدد الذوات داخل (خارج) الكيان الفردى هو أساس الابداع الروائى (والمسرحى) خاصة، والحدوته هى جماع بين الاثنين – وهى تسمح بتفكيك واحدية الذات الى أصولها المتعددة فى مرونة طلقة دون الالتزام بايقاع زمنى تتبعى، أو منطق مقنع محسوب.

سادسا : ان مدارس السيكوباثولوجى (التحليلية والتركيبية وغيرها) يمكن أن تسمهم فى تفسير الحدوتة، وفى نفس الوقت يمكن أن تتعدل وتثرى ويعاد صياغتها من استيعاب حدس هذه الحدوته ومثلها (بما هو حدس شعبى وكشف بدائى أو طفلى فى آن).

سابعا : ان سن الراوى لابد أن يوضع فى الاعتبار كمتغير اساسى يسهم فى تحديد كم الخيال الشخصى فى مقابل استيعاب جرعة الحدس الشعبى العام (وقد حاولت فى هذا العمل، (الكتاب المرجع جميعه) أن أقارن حواديت هذه الراوية الشغالة الأمية – 12 سنة – مع حواديت راو آخر يبلغ أكثر من خمسين عاما، فوجدت فروقا دالة تحتاج الى دراسة خاصة لاحقة.

ثامنا : ان على الدارسين ان يهتموا باستقصاء هادف يشرح بتفاصيل كثيرة ما يمكن من جوانب شخصية الراوى من حيث تاريخه الشخصى (طوليا) بما يمتد فى تاريخ عائلته (وراثيا أيضا) وكذلك ظروفه الحالية الخاصة، وخاصة بما يتعلق بقهره وعجزه  وأحلامه التعويضية.

تاسعا : ان الفصل بين جرعة الحضور الذاتى وبين جرعة الحدس العام فى حدوتة ما، قد يحتاج الى اعادة تسجيل نفس الحدوته أكثر من مرة، من نفس المصدر، تحت نفس الظروف، وتحت ظروف أخرى : تكون أما قد تغيرت تلقائيا، أو تغيرت بتأثير متعمد من الباحث.

ودراسة فروق الاستعادة هنا ينبغى الا تلتفت الى تقييم ثبات الراوى Reliability  وانما الى تفسير معانى (والى درجة أقل اسباب) الاختلاف بين الروايات.

عاشرا : أن علينا أن ندرس – بمسئولية خاصة – دراسة مقارنة، تقارن بين أثراء هذه الحواديت (من طفلة أمية شغالة) ودورها التربوى الحقيقى لمسيرة النمو للاطفال خاصة، وبين تلك الحواديت المسطحة، والوعظية والاخلاقية، والصارخة التى نحيط بها وعى اطفالنا تحت زعم أننا نخاف عليهم من سماع قصص الجان وأبى رجل مسلوخة، وما شابه، ناسين أن الجان وأمنا الغولة، والحيوانات المتوحشة والمستأنسة والوجودات الناقصة، هى هى نحن اطفالا وكبارا بما لا يليق معه انكارها تحت وهم نظريات تربوية غبية، أو تشويهها بمواقف اخلاقية ميتة.

حادى عشر : ان بعض كتاب القصة القصيرة أراد أن يستلهم نبض هذه الحواديت لكنه بدلا من أن يغوص فيها ثم ينساها، فيخرف على حسابه لحسابنا (القراء) راح يفتعل اللاترابط ويغرق فى الرموز بوعى ساذج – فما حصل الاختراق الغائر الذى أدت اليه عشوائية الشغالة، ولا هو كتب قصة قصيرة تليق بتسميتها كذلك.

(وقد يحتاج هذا الأمر الى دراسة نقدية مستقلة).

خاتمة

فيها توضيح ورجاء

هذه “حالة” طفلة، شغالة (مما اعفانى – فى هذا العدد – من كتابة مسهبة هذه المرة فيما هو حالات وأحوال).

وهى فى نفس الوقت تراث شعبى أصيل (مما أغنى – هذا العدد – عن ذكر مثل بذاته أو موال – كما وسع مرامى هذا الباب).

برجاء ان يقبل القارئ هذا التحليل

ثم انى ارجوه – جدا جدا – ان يرسل لى رأيه فى هذه القراءة، فأنا منزعج منها أشد الانزعاج، فخور بها غاية الفخر، أمل فيها عظيم الأمل – لكنى وحدى هكذا أخشى أن أشطح أكثر فأقيد أقل، أو أصير وحيدا بلا معنى رغم صدق الرؤية، ووضوح اليقين.

وفى انتظار وعى مشارك، سأظل أحاول.

الساعة 11.25 – الاحد 25 / 1 / 1987

[1] – مصدر هذه الحواديت (وسوف نستعمل اللفظ العلمى بدلا من مقابله الفصيح “الاحدوثه”) هو كتاب القصص الشعبى / فى الدقهلية “جمع وتبويب وتقديم” فتوح احمد فرج. الناشر : المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية 1977

[2] – ما بين قوسين اضافة من مسجل المتن / مؤلف  المرجع / تفسيرا لكلام الراوية، وليس فى نص كلامها، فسيدها هنا (بألفاظها) يعنى حماها (كما أثبت المؤلف) وليس كما وردت فى الرواية.

[3] – انظر مثل “اطعم مطعوم ولا تطعم محروم” عدد 23 مجلد 6 ص 114، ومثل : “احينى النهارده ومتنى بكره” عدد 28 مجلد 7 ص 106.

[4] – يظهر الغول (أو الغولة) فى الأدب الشعبى بدلالات ومعان كثيرة، فليس الغول هو ممثل الشر على طول الخط، ولكنه بشكل ما (والفروض من الذاكرة) (أ) يمثل “القوة والخطر والالتهام المتربص (ب) كما يمثل العالم الخارجى، أو الواقع الصعب المتحفز بما فى ذلك قهر السلطة (كل سلطة) (جـ) كما يمثل العدوان الداخلى مسقطا فى الخارج (د) وهو يمثل أصل الانسان العارى الحيوانى المقاتل للبقاء بأنيابه واظافره (هـ) كذلك هو يمثل صورة الأم البشعة Bad mother figure  (فللأم فى الفكر التحليلى صورتان متقابلتان : الصورة الحانية المرضعة، والصورة العدوانية الملتهمة (و) كما يمثل الوالد الساحقCastrating father  المستحوذ على الأم جنسيا (ز) وأخيرا فالغول هو القدر الشرير عادة، أذ هو الغموض المنقض غير المفسر، كما قد يحمل لنا المكافأة فيبدو خيرا اذا قبلنا شروطه، أو سترنا” عليه.

 5- وذلك مثل اعلان أن الفقى يعلم أولاده قلة الأدب (بدلا من الأدب) فى حدوتة فردة الخلخال الموازية لهذه الحدوته واختصارها “أن ست الحسن ذهبت مبكرة الى الكتاب، فنظرت – أيضا – من ثقب الباب، فوجدت الفقى يعلم أولاده قلة الأدب، فولت هاربة عدوا، فانشبكت فردة الخلخال فى العتب، مما لفت أنظار أمها فسألتها “شفت ايه من فقيكى لما فردة الخلخال انشبكت فى العتب؟” فتردد شفت    وشفت، وشفت فقينا بيعلم أولاده قلة الأدب”، فتصير قولا سائرا أو مثلا (ب) كذلك دور المعلمة (الخياطة عادة) التى تسهل للعشيق لقاء صبيتها ليلا وهى نائمة، أو شبه نائمة : فتتململ الصبية فى لذة خفية : “يا معلمتى اشى بيعض ويبوس” لترد عليها المعلمة “نامى يا بنتى دا كابوس (جـ) على ان هذا الدور التعليمى (تعليم قلة الأدب، تعليم الغرام، الالتهام) ليس مرفوضا اصلا اللهم الا من منطلق أخلاقى مسطح، لأن التعليم يشمل الجدل والسماح والتعرى والحضانة والمرونة جميعا، وكل طور من هذه الأطوار قد يبدو مستقلا مزعجا، ولا يفهم الا بوضعه فى السياق العام (انظر بقية القراءة).

[6]  –  من أصعب الحاح المرضى النفسيين هو طلب تغيير السكن، أو الدراسة، أو العمل، أو حتى الشريك (الزوجة) متصورين أن هذا يحل معركة الضيق الداخلى ولابد من عدم الاستجابة لمثل ذلك، ففضلا عن صوبته الواقعية، فهو مهرب مضروب ابتداء، لأنه لا يزيل السبب اصلا.

[7] – من أجمل ما يتكرر فى الحواديت هذا الاختصار الدال “كذا كذا” أو أن يضيف الراوى تعبير “وكلام من ده، وبتاع” دون أن يدخل فى تفاصيل سطحية معادة.

[8] –  قتل الرضيع بواسطة أمه Infanticide  هو نوع من الانتحار المحور، لأن الأم التى تقتل رضيعها انما تقتل طفلها الداخلى المسقط على هذا الرضيع، فضلا عن أنها تحميه من مرارة الحياة التى تنتظره وهو من أهم مظاهر الاكتئاب من ناحية والشعور بالذنب وعدم أحقية الحياة من ناحية أخرى.

[9] – الالتهام نوع أشمل من العدوان :انظر العدوان والابداع – الانسان والتطور – عدد 3 مجلد 1 ص 49 وان كان يتصف بعدوان الانثى بوجه خاص.

[10] – ليس مألوفا فى القصص الشعبى الأقدم استعمال لفظ الأستاذ، وانما كان يستعمل لفظ “الفقى” واستعمال هذا الأسم الجديد (الأستاذ) من هذه الشغالة هنا يوحى بأنها سمعته “هكذا” من أسيادها التلاميذ الصغار.

[11] – هى العملية التى يحرص بها المجتمع والسلطة والأديان على ملاحقة الوعى بأنه مذنب طول الوقت، بحيث لا يكون أمامه الا مواصلة التكفير عن هذا الذنب بدلا من النمو، وقد تجسدت هذه الظاهرة فى مسرحية الذباب لسارتر.

[12] – خيل الى أن هذه الطفلة تتمتع بذكاء ابداعى خاص، وفى نفس الوقت فأنها تفتقر – بشكل ما – الى ملامح الذكاء العادى كما يظهر فى تجاوزاتها اللغوية وأشكال خلل الترابط الفكرى ومثلا فان اسم بطلة الحدوته فرع الرمان، هو تقريب دال للاسم الشائع – عادة – وهو “فرط الرمان” أو “حب الرمان” … الخ، وهذا التقريب هو ابداع خاص وقصور فى نفس الوقت، وقس على ذلك أغلب قفزاتها اللاترابطية.

[13] – يتكرر ذلك منذ كنا نهتف “يا برميل النفط يا يوم السبت على الصبيان” – أو حين كنا يغنى أولادنا بالفرنسية أم ما يقابلها “تحيا الاجازة .. لم تعد ثمة عقاب … فالكراريس فى النار والكتب وسطها”  – وحتى مدرسة المشاغبين ليست هى سبب فساد الأخلاق، فكل ذلك جزء من وجدان التلاميذ الصادق، وهذا كله أفضل من تسطيح مشاعر الأطفال بالنصح والانشاء ومسخ العلاقة بالمدرسة والمدرسين.

[14] –  نفس المرجع ص 221

[15] – لاحظ البداية بكلمة القمر (معرفة) ثم عدم تحديد أن هذا اسم فتاة أو خلافه.

[16] – لاحظ مرة أخرى طريقة الايجاز، والايقاع السريع، لفظا واحداثا.

[17] – صحتها : تعمل للقصر ده كله ..، تصور هوله ..” ولكن هكذا جاء رسمها فى الأصل والتصحيح من السياق.

[18] – نقلت الكلام الى أول السطر مخالفا المرجع، ليشعر القارئ معى بالنقلة الشاسعة، والكلام الناقص (أو المتروك لاستنتاج السامع!!)

[19] – لاحظ أن هذه هى المرة الوحيدة التى استعملت فيها الراوية لفظ الغول فى هذه الحدوته.

[20] – لاحظ التبادل المستمر – ربما دون قصد – بين محمد والشاطر محمد، باعتبار أن محمد هو القاتل (الغول) والشاطر محمد هو البطل الأصلى، لكن التحديد يبدو صعبا.

[21] – لا يعرف من الذى قاله هنا.

[22] – لاحظ خطل اللغة، “أصل” هنا تعنى “أحسن” (أى : والا ….)

[23] – لاحظ فرط التضمين Overinclusion حيث الكوز والزور تعنى هنا : زور الكتكوت الذى فى بطن الأرنب، بل لابد أن تتضمن بطن السبع أيضا.

[24] – لاحظ فضفضة اللغة

[25] – سوف نسمى محمد الأول اشارة الى الشاطر محمد ومحمد الثانى، اشارة الى محمد الآخر (محمد برضه) حتى لا أكرر ذكر صفة القاتل، أو الغول مما يتعارض مع غلبة شهامته وأعماله البطولية كما وردت فى الحدوته.

[26] –  باعتبار ان التكامل (أو التفرد individuation) بلغة يونج، يشتمل قبول الذات الداخلية المقابلة لما هو خارجى فى التحام جدلى فائق، وهذه الذات الانثوية (فى الذكر) (والذكرية فى الانثى) انما تسقط على صورة المحبوب الخارجى فى كثير من الأحيان، على الأقل فى احدى المراحل من تطور ما يسميه العامة “الحب” أو “الغرام” بالجنس الآخر.

[27] – مما لا يستبعد معه أن يكون ذات الملك الوالد.

[28] -انظر العدوان والابداع عدد 3 مجلد 1 ص 49 مجلة الانسان والتطور.

[29] – باعتبار انه فى صورته الجامعة والمفصلة، لا يكتفى باقتحام حوصلة الآخر لعمل علاقة ابداعية، بل يتمادى الى التهامه للحفاظ عليه من جهة بامتلاكه الكامل، وللتخلص من احتمال خطره من جهة أخرى – فيقع فى التناقض الذى أشار اليه جانترب “انك لا تستطيع أن تحتفظ بالكعكة وتلتهمها فى نفس الوقت”.

“You cannot have the cake and eat it”.

[30] – انظر العدوان والابداع عدد 3 مجلد 1 ص 49، مجلة الانسان والتطور.

[31] – انظر الايقاع الحيوى ونبض الابداع .. للكاتب (فصول) مجلد 5، عدد 2، 1985

[32] –  يعبر الوعى الشعبى عن ما هو تحت الشعور (اللا شعور) بتعبير تحت الأرض (أختك تحت الأرض – اسم الله عليكى وقعت على أخوكى أحسن منك – سبع أراضى – العالم التحتانى …. الخ).

[33] – لاحظت مؤخرا العلاقة بين نوبات البسيط الجسيمة Mega Unfolding  التى تظهر فىصورة دورات الهوس والاكتئاب وبين تكرار الاجهاض عند السيدات المرضى وخاصة فى نوبات الهوس – وقد افترضت أن هذا البسط الذى ينوى الولادة الجديدة (وان لم يحققها) هو البديل التطورى للولادة التكاثرية العددية بالانجاب، مما يبرر الاجهاض المتكرر غائيا، وهذا لا يعنى أن التطور يستغنى عن التناسل، وانما هناك التقاء آخر على مستوى اعلى مما لا مجال لذكره هنا.

[34] – نفس طريقة الايجاز الرافع

[35] – مرة أخرى انظر سرعة الايقاع.

[36] – تقصد الغربان والصقور.

[37] –  ينطبق ذلك كثيرا أو قليلا فيما يقابل المرحلة الأولى عند اريك اريكسون الثقة فى مقابل التوجس Trust versus Mistrust

[38] – نعنى الأب السلطان وليس الأب الصياد وآكل التفاح طبعا.

[39] – تفسر مدرسة “العلاقة بالموضوع الشعور بالذنب نتيجة للقتل (الحيالى) للأم حين تصبح – رغم أنها مصدر الحياة والحب – هى التهديد الملاحق للوجود باحتمال أنها قد تنساه فيموت.

اضغط تحلب –         اترك تنصب –     لكن هل تنضب يوما دوما – فكرهت الحب –   وقتلت البقرة.

انظر : دراسة فى علم السيكوباثولوجى ص : 194

[40] – انظر : تحرير المرأة وتطور الانسان : المجلة الاجتماعية القومية المجلد الثانى عشر، العدد الثانى والثالث 1975 ص 21 “ان كمال الرجل هو أن يقبل الانثى فى داخله ليصنع جماعا مؤلفا من ذكورته الظاهرة وانوثته الكامنة فتحقق كينونته” ثم انظر العدوان والابداع : ص 49 الانسان والتطور مجلد 1 عدد 3.

[41] – وفى روايات أخرى من “بز رجله” واختيار البطن هو اشارة الى انتفاخ بطن المرأة فى الحمل، واختيار “البز” لأن الثدى لفظ انثوى حتما.

[42] – يؤكد هذا التزاوج قول البنت فيما بعد “يا نخلة أبويا اقصرى اقصرى… الخ”.

[43] – نلاحظ هنا عدم الحبكة (وهى صفة سائدة فى هذه الحواديت لهذه الراوية) فنحن لا نعرف ماذا فعلت العجوز بخروف الجير، المحشى جير) لأن هذه الحيلة (كما تواترت فى حواديت أخرى) يكفى لها أن تأخذ سكينا باردة، وأن تحز الخروف بظهر السكين لا بسنها، وفى موقع غير الرقبة وغير صالح للذبح.

[44] – فى حالة من حالاتى، كانت الأم لا ترحب – بالعلاج – باختفاء ضلالات ابنها، ومحاولاته الغزل بأختها (خالته) كبديل لها، وكلما اختفت هذه الأعراض وأبدت الأم رضاها الظاهرى، انطفات حيويتها الانثوية، والعكس صحيح.

[45] –  قد يكون ذلك العزوف بسبب طول الدراسة، ويكون هذا تبريرا للايجاز فالخاتمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *