الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1987 / عدد إبريل1987-تيار‏ ‏التجديد‏ ‏فى ‏شعر‏ ‏العامية‏ ‏المصرية‏ ‏الراهن

عدد إبريل1987-تيار‏ ‏التجديد‏ ‏فى ‏شعر‏ ‏العامية‏ ‏المصرية‏ ‏الراهن

تيار‏ ‏التجديد‏ ‏فى

‏شعر‏ ‏العامية‏ ‏المصرية‏ ‏الراهن

حلمى سالم

أول‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏الاعتراف‏ ‏به‏ – ‏فى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الاتجاهات‏ ‏الجديدة‏ ‏فى ‏شعر‏ ‏العامية‏ ‏المصرية‏ ‏الراهن‏ – ‏هو‏ ‏الاقرار‏ ‏بأن‏ ‏تيارا‏ ‏جديدا‏ ‏متميزا‏ ‏عن‏ ‏أقطاب‏ ‏جيل‏ ‏الستينات‏ ‏لم‏ ‏يفرض‏ ‏نفسة‏ ‏بحضور‏ ‏واسع‏ ‏بعد، ‏ولم‏ ‏يلمع‏ ‏فى ‏سماء‏ ‏حياتنا‏ ‏الثقافية‏ ‏والابداعية‏ ‏بمثل‏ ‏ما‏ ‏لمع‏ ‏الجيل‏ ‏السابق‏ ‏فى ‏سمائنا‏ ‏الأدبية‏ ‏والشعرية‏.‏

هذه‏ ‏حقيقة‏ ‏أولية‏ ‏يتوجب‏ ‏الاعتراف‏ ‏بها، ‏ببساطة‏ ‏وشجاعة‏ ‏ووضوح‏.‏

لكن‏ ‏تفسير‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏ ‏الأولية‏ ‏الواضحة‏ ‏ينطوى ‏على ‏عدة‏ ‏حقائق‏ ‏اساسية‏ ‏أخري، ‏لا‏ ‏تقل‏ ‏نصاعة‏ ‏وجلاء‏.‏

ان‏ ‏الاعتقاد‏ ‏بأن‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏ ‏تعنى ‏أن‏ ‏الأجيال‏ ‏الجديدة‏ ‏لم‏ ‏تقدم‏ ‏تجربة‏ ‏ابداعية‏ ‏واضحة‏ ‏الملامح، ‏سيكون‏ – ‏بلا‏ ‏ريب‏ ‏اعتقادا‏ ‏مجافيا‏ ‏للصواب، ‏غافلا‏ ‏عن‏ ‏عديد‏ ‏من‏ ‏المتغيرات‏ ‏المتنوعة‏ ‏التى ‏ساهمت‏ ‏فى ‏تكوين‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ : ‏ظاهرة‏ ‏عدم‏ ‏حضور‏ ‏الجيل‏ ‏الجديد‏ ‏من‏ ‏شعراء‏ ‏العامية، ‏حضورا‏ ‏عريضا‏ ‏على ‏المستوى ‏الثقافى ‏والجماهيرى ‏والاعلامي، ‏على ‏غرار‏ ‏حضور‏ ‏الأجيال‏ ‏السالفة‏.‏

ينبغي، ‏اذن، ‏أن‏ ‏تأخذ‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏أن‏ ‏الظروف‏ ‏السياسية‏ ‏والاجتماعية‏ ‏والوطنية‏ ‏فى ‏الخمسينات‏ ‏والستينات‏ ‏كانت‏ ‏تدعم‏ ‏ازدهار‏ ‏ورواج‏ ‏شعر‏ ‏العامية‏ ‏المصرية، ‏حيث‏ ‏كنا‏ ‏نسمعه‏ ‏ونقرآه‏ ‏فى ‏الصحف‏ ‏والاذاعة‏ ‏والمؤتمرات‏ ‏والاغانى ‏وأناشيد‏ ‏الصباح‏ ‏المدرسية‏.‏

وكان‏ ‏هذا‏ ‏الحضور‏ ‏العريض‏ ‏لشعر‏ ‏العامية‏ ‏المصرية‏ ‏فى ‏وسائل‏ ‏الاعلام‏ ‏المختلفة‏ ‏بهذا‏ ‏الشكل‏ ‏المكثف، ‏يضيق‏ ‏الشقة‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏الشعر‏ ‏والجماهير‏ ‏العريضة‏ ‏وخاصة‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الشعر‏ ‏كان‏ ‏يتغنى ‏فى ‏معظمة‏ ‏الغالب‏ ‏بقضايا‏ ‏وهموم‏ ‏هذه‏ ‏الجماهير‏ ‏العريضة، ‏تغنيا‏ ‏مباشرا‏ (‏فى ‏أغلبه‏) ‏وبسيطا‏.‏

وقد‏ ‏تواكب‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏مع‏ ‏شيوع‏ ‏التصورات‏ ‏النقدية‏ ‏التى ‏رأت‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الشعر‏ ‏العلمى ‏خاصة‏ ‏وقضايا‏ ‏الشعب‏ ‏وهمومه، ‏علاقة‏ ‏شبه‏ ‏تطابقية‏ ‏تستوجب‏ ‏الحديث‏ ‏البسيط‏ ‏الى ‏الناس‏ ‏البسطاء‏ ‏كما‏ ‏ترى ‏المسألة، ‏جماليا، ‏على ‏أساس‏ ‏أن‏ ‏اختيار‏ ‏الشاعر‏ ‏العلمى ‏للغة‏ ‘‏العامية‏’ ‏هو‏ ‏اختيار‏ ‘‏ايديولوجي‏’ ‏يفصح‏ ‏عن‏ ‏رغبة‏ ‏فى ‏التوجه‏ ‏الشعبى ‏لدى ‏الشاعر‏ ‏العلمي، ‏وعن‏ ‏ارادة‏ ‏فى ‏التواصل‏ ‏المباشر‏ ‏مع‏ ‏الشعب، ‏بلغته‏ ‏البسيطة‏.‏

وبصرف‏ ‏النظر، ‏الآن، ‏عن‏ ‏خلل‏ ‏هذه‏ ‏التصورات‏ ‏النقدية‏ ‏وثغراتها‏ ‏العديدة، ‏فأن‏ ‏هذا‏ ‏الفهم‏ ‏الذى ‏شاع‏ – ‏ومازال‏ ‏بعضه‏ ‏يشيع‏ ‏قد‏ ‏ساعد، ‏آنذاك، ‏على ‏رواج‏ ‏وذيوع‏ ‏شعر‏ ‏العامية‏ ‏المصرية‏ ‏الحديث

وينبغي، ‏كذلك، ‏أن‏ ‏نأخذ‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏اختلاف‏ ‏العصر‏ ‏والقضايا‏ ‏والرؤيا‏ ‏بين‏ ‏التجربتين‏ ‏ولن‏ ‏نتحدث‏ ‏كثيرا‏ ‏عن‏ ‏اختلاف‏ ‏العصر‏ – ‏بين‏ ‏الخمسينات‏ ‏والستينات‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏وبين‏ ‏السبعينات‏ ‏والثمانينات‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى – ‏حتى ‏لا‏ ‏نكرر‏ ‏نافل‏ ‏القول‏ ‏مما‏ ‏نعرفه‏ ‏جميعا‏ ‏من‏ ‏تغير‏ ‏فى ‏المناخ‏ ‏الثقافى ‏والسياسي‏. ‏يكفى ‏أن‏ ‏نشير‏ ‏الى ‏أن‏ ‏تغير‏ ‏الحال‏ ‏قد‏ ‏وصل‏ ‏الى ‏درجة‏ ‏امتناع‏ ‏بعض‏ ‏المنابر‏ ‏الصحفية‏ ‏القومية‏ ‏عن‏ ‏نشر‏ ‏شعر‏ ‏العامية‏ ‏فى ‏السنوات‏ ‏الأخيرة‏.‏

كان‏ ‏من‏ ‏نتيجة‏ ‏هذه‏ ‏التغيرات، ‏السياسية‏ ‏والثقافية‏ ‏والاجتماعية، ‏أن‏ ‏تعقدت‏ ‏الرؤية‏ ‏التى ‏كان‏ ‏شعراء‏ ‏الأجيال‏ ‏السابقة‏ ‏يعبرون‏ ‏عنها‏ ‏بوضوح‏ ‏وصار‏ ‏منوطا‏ ‏بالأجيال‏ ‏الجديدة‏ ‏أن‏ ‏تعبر‏ ‏عن‏ ‏واقع‏ ‏معقد‏ ‏مضطرب‏ ‏منقلب، ‏بأساليب‏ ‏فنية‏ ‏تتجاوز‏ ‏أو‏ ‏تضيف‏ ‏الى ‏انجاز‏ ‏السابقين‏.‏

وجدير‏ ‏بالذكر‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏نوضح‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المسعى ‏كان‏ ‏ومازال‏ ‏مسعى ‏الأجيال‏ ‏المبدعة‏ ‏الجديدة، ‏فى ‏سائر‏ ‏الأنواع‏ ‏الفنية، ‏وليس‏ ‏قصورا‏ ‏على ‏الأجيال‏ ‏الجديدة‏ ‏من‏ ‏الشعراء‏ ‏العاميين‏.‏

كما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نأخذ‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏ما‏ ‏نحا‏ ‏اليه‏ ‏التيار‏ ‏الجديد‏ ‏من‏ ‏شعراء‏ ‏العامية‏ ‏من‏ ‏منحى ‏فنى ‏تجديدى (‏وكل‏ ‏جديد‏ ‏غريب، ‏الى ‏حين‏), ‏وهو‏ ‏منحى ‏يتفارق‏ ‏مع‏ ‏ما‏ ‏استقرت‏ ‏عليه‏ ‏معظم‏ ‏الذائقة‏ ‏المتلقية‏ ‏والناقدة، ‏بحيث‏ ‏يقع‏ ‏نوع‏ ‏مؤقت‏ ‏من‏ ‏تعثر‏ ‏الاتصال‏ ‏بين‏ ‏العمل‏ ‏الفنى ‏الساعى ‏للجديد‏ ‏وبين‏ ‏المتلقين‏ ‏الذين‏ ‏تواضعوا‏ ‏وتعارفوا‏ ‏على ‏نهج‏ ‏بعينه‏ ‏فى ‏التلقى ‏وفى ‏الابداع‏ ‏معا‏.‏

فاذا‏ ‏أضفنا‏  ‏إلى ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏جميعا‏ ‏ضخامة‏ ‏الانجاز‏ ‏الذى ‏حققه‏ ‏الجيل‏ ‏الرائد‏ ‏والجيل‏ ‏الذى ‏تلاه‏ ‏بشعرائهما‏ ‏الكبار‏ ‏الموهوبين‏ ‏من‏ ‏ناحية، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏الجيل‏ ‏الجديد‏ ‏لم‏ ‏يزل‏ ‏فى ‏أوج‏ ‏تجربته‏ ‏وفى ‏ابان‏ ‏تخلقها‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يتكامل‏ ‏تكامله‏ ‏الصالح‏ ‏للحكم‏ ‏عليه‏ ‏كرصيد‏ ‏عريض‏ ‏بعد، ‏سوف‏ ‏نكون‏ ‏قد‏ ‏وضعنا‏ ‏ايدينا‏ ‏على ‏صورة‏ ‏شبه‏ ‏متكاملة‏ ‏تفسر‏ ‏لنا‏ ‏عوامل‏ ‏عدم‏ ‏بروز‏ ‏هذه‏ ‏الأجيال‏ ‏الجديدة‏ ‏البروز‏ ‏الواسع‏ ‏الذى ‏حققته‏ ‏الأجيال‏ ‏السابقة‏ ‏فى ‏حياتنا‏ ‏الثقافية‏ ‏والادبية‏.‏

قبل‏ ‏أن‏ ‏نحاول‏ ‏تلمس‏ ‏ما‏ ‏قدمته‏ ‏هذه‏ ‏الأجيال‏ ‏الجديدة، ‏يحسن‏ ‏أن‏ ‏نحاول‏ ‏معرفة‏ ‏أو‏ ‏تأكيد‏ ‏المنجزات‏ ‏الأساسية‏ ‏للأجيال‏ ‏السابقة‏ (‏ولو‏ ‏بتلخيص‏ ‏موجز‏), ‏حتى ‏نستعين‏ ‏بهذه‏ ‏المعرفة‏ ‏على ‏تعيين‏ ‏ما‏ ‏قدمته‏ ‏الأجيال‏ ‏التالية‏ ‏من‏ ‏ملامح‏ ‏متميزة‏ ‏جديدة‏.‏

وبدون‏ ‏أن‏ ‏نقع‏ ‏فى ‏اخلال‏ ‏كبير، ‏يمكن‏ ‏اجمال‏ ‏المنجزات‏ ‏الأساسية‏ ‏للأجيال‏ ‏السابقة‏ (‏سواء‏ ‏التى ‏رادت‏ ‏الطريق‏ ‏وفتحته، ‏أو‏ ‏التى ‏سارت‏ ‏فيه‏ ‏أشواطا‏ ‏بعيدة، ‏أو‏ ‏التى ‏أعطت‏ ‏له‏ ‏علامات‏ ‏مميزة، ‏جميعا‏) ‏فى ‏التحقيقات‏ ‏التالية‏ :‏

‏(‏أ‏) ‏الانتقال‏ ‏بتجربة‏ ‏الكتابة‏ ‏بالعامية‏ ‏المصرية‏ ‏من‏ ‏طور‏ ‘‏الزجل‏’ ‏الى ‏طور‏ ‘‏الشعر‏ ‏الحديث‏’, ‏على ‏مستوى ‏الرؤية‏ ‏وعلى ‏مستوى ‏التعبير‏ ‏عنها، ‏كليهما‏.‏

وكان‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏التأسيسى ‏الكبير‏ ‏يتواكب‏ ‏مع‏ ‏العمل‏ ‏التأسيسى ‏الكبير‏ ‏الذى ‏أنجزه‏ ‏شعراء‏ ‏الفصحي، ‏فى ‏الانتقال‏ ‏من‏ ‏طور‏ ‏الشكل‏ ‘‏العمودي‏’ ‏الى ‏طور‏ ‏الشكل‏ ‘‏الحر‏’ ‏الجديد، ‏رؤية‏ ‏وتعبيرا‏.‏

وكلاهما، ‏كان‏ ‏تواكبا‏ ‏مع‏ ‏اطوار‏ ‏اجتماعية‏ / ‏ثقافية‏ / ‏حضارية‏ ‏حديثة‏ ‏يمر‏ ‏بها‏ ‏المجتمع‏ ‏المصرى ‏بعامة‏ ‏ولعل‏ ‏هذا‏  ‏السياق‏ ‏هو‏ ‏السياق‏ ‏السليم، ‏فى ‏تصوري، ‏للربط‏ ‏بين‏ ‏شعر‏ ‏العامية‏ ‏المصرية‏ ‏وثورة‏ ‏يوليو‏ 1952 ‏سياق‏ ‏التحولات‏ ‏الاجتماعية‏ / ‏السياسية‏ / ‏الحضارية‏ (‏قبيل، ‏ومع، ‏وبعد‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏ 1952) ‏التى ‏تجادلت‏ ‏مع‏ ‏التحولات‏ ‏الثقافية‏ ‏لتفرز‏ ‏جملة‏ ‏من‏ ‏التطورات‏ ‏الأدبية، ‏كان‏ ‏من‏ ‏بينها‏ ‏الشعر‏ ‏العامى ‏والشعر‏ ‏الفصيح‏ ‏الحديثان، ‏وغيرهما‏ ‏من‏ ‏تطورات‏ ‏مماثلة‏ ‏فى ‏أنواع‏ ‏أدبية‏ ‏أخرى ‏عديدة‏.‏

‏(‏ب‏) ‏الخطو‏ ‏خطوة‏ ‏واسعة‏ ‏فى ‏تجذير‏ ‏مفاهيم‏ ‏ارتباط‏ ‏الشعر‏ ‏بالواقع‏ ‏الاجتماعي، ‏للانتقال‏ ‏بها‏ ‏من‏ ‏حدود‏ ‘‏النقد‏ ‏المجتمعى ‏الساخر‏’ ‏الذى ‏صدر‏ ‏عنه‏ ‏معظم‏ ‘‏الزجل‏’ ‏السابق، ‏بما‏ ‏يحفل‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏فضح‏ ‏المثاب‏ ‏الاخلاقية‏ ‏فى ‏النماذج‏ ‏البشرية‏ ‏والطوائف‏ ‏المجتمعية، ‏الى ‏مفاهيم‏ ‏أوسع‏ ‏وأعمق‏ ‏لهذا‏ ‏الواقع‏ ‏الاجتماعي، ‏تتجلى ‏فى ‏تجسيد‏ ‏الحركة‏ ‏الاجتماعية‏ ‏الموارة‏ ‏فى ‏الواقع، ‏وكشف‏ ‏علاقات‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏وقوانينها‏ ‏الجوهرية‏.‏

ويتصل‏ ‏بهذه‏ ‏الخطوة، ‏الانتقال‏ ‏بمفهوم‏ ‘‏الناس‏’ ‏من‏ ‏انحصاره‏ ‏أو‏ ‏حصره‏ ‏فى ‏مجرد‏ ‏نماذج‏ ‏بشرية‏ ‏فردية‏ ‏تثير‏ ‏السخرية‏ ‏أو‏ ‏تستحق‏ ‏المدح‏ ‏أو‏ ‏القدح‏ ‏أو‏ ‏العطف، ‏إلى ‏مفهوم‏ ‘‏الجماهير‏’, ‏أو‏ ‏الشعب، ‏بما‏ ‏لهذه‏ ‏الجماهير، ‏أو‏ ‏لهذا‏ ‏الشعب، ‏من‏ ‏أشواق‏ ‏وتطلعات‏ ‏وما‏ ‏تعانيه‏ ‏أو‏ ‏يعانيه‏.‏

‏(‏جـ‏) ‏الاقتراب‏ ‏من‏ ‘‏لغة‏’ ‏الناس‏ ‏العادية‏ (‏لغة‏ ‏الشارع‏ ‏أو‏ ‏الجارة‏ ‏والقرية‏ ‏والنجوع‏) ‏وجعلها‏ ‏لغة‏ ‏شعرية‏ ‏أو‏ ‏قابلة‏ ‏للشعرية‏ : ‏بوضعها‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏شعرى ‏من‏ ‏ناحية، ‏وبتحويلها‏ ‏الى ‏صور‏ ‏مجازية‏ ‏وتخييلية‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏ثانية، ‏وباكتشاف‏ ‏مناخاتها‏ ‏الشعبية‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏رابعة‏.‏

  ‏وصل‏ ‏لغة‏ ‏وشعر‏ ‏التجربة‏ ‏بتراثها‏ ‏وتراث‏ ‏شعبها‏ : ‏تراث‏ ‏اللغة‏ ‏العامية، ‏وتراث‏ ‏الاداء‏ ‏الشعرى ‏الشعبي، ‏وتراث‏ ‏الأمة‏ ‏بعامة‏ : ‏الرسمى ‏والشعبي، ‏الأدبى ‏والتاريخي، ‏الاجتماعى ‏والانساني، ‏الفرعونى ‏والقبطي، ‏الاسلامى ‏والعربي‏.‏

‏(‏هـ‏) ‏تجديد‏ ‏واحياء‏ ‏لغات‏ ‏ولهجات‏ ‏بعض‏ ‏الاقاليم‏ ‏والمناطق‏ ‏المصرية‏ : ‏الجنوبية‏ ‏الصعيدية‏ ‏عند‏ ‏الأبنودي، ‏السواحلية‏ ‏عند‏ ‏سيد‏ ‏حجاب، ‏القاهرية‏ ‏المدينية‏ ‏عند‏ ‏صلاح‏ ‏جاهين‏ ‏ومجدى ‏نجيب، ‏وغير‏ ‏هؤلاء‏ ‏من‏ ‏أمثلة، ‏واستلهام‏ ‏طاقات‏ ‏هذه‏ ‏اللغات‏ ‏واللهجات‏ ‏المعنوية‏ ‏والاشارية‏ ‏والموسيقية‏ ‏واللغوية‏.‏

كانت‏ ‏هذه‏ ‏وغيرها‏ ‏مما‏ ‏لم‏ ‏أذكره، ‏أو‏ ‏لم‏ ‏انتبه‏ ‏اليه‏ ‏هى ‏السمات‏ ‏الرئيسية‏ (‏على ‏الأقل‏) ‏لانجاز‏ ‏الشعراء‏ ‏المؤسسين‏ ‏من‏ ‏الأجيال‏ ‏السابقة، ‏هذه‏ ‏الكوكبة‏ ‏الساطعة‏ ‏التى ‏تضم‏ ‏فؤاد‏ ‏حداد‏ ‏وصلاح‏ ‏جاهين‏ ‏وسيد‏ ‏حجاب‏ ‏وعبد‏ ‏الرحمن‏ ‏الأبنودى ‏ومحسن‏ ‏الخياط‏ ‏ومجدى ‏نجيب‏ ‏وفؤاد‏ ‏قاعود‏ ‏وغيرهم‏ ‏كثير، ‏ممن‏ ‏تقاسموا‏ ‏المهمة‏ ‏الكبيرة‏ : ‏فمن‏ ‏أسس، ‏ومن‏ ‏شاد‏ ‏البنيان، ‏ومن‏ ‏أضاف‏ ‏طوابق‏ ‏جديدة‏.‏

ولقد‏ ‏ظلت‏ ‏هذه‏ ‏الأجيال‏ (‏أو‏ ‏لنقل‏ : ‏هذه‏ ‏الصفوف، ‏لمن‏ ‏يتحفظ‏ ‏على ‏مصطلح‏ ‏الأجيال‏) ‏تقود‏ ‏تجربة‏ ‏شعر‏ ‏العلمية‏ ‏المصرية‏ ‏بصدارة‏ ‏وجدارة‏ ‏وذيوع، ‏حتى ‏سنوات‏ ‏النصف‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏الستينات، ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏هزيمة‏ 1967, ‏حين‏ ‏بدا‏ ‏كأن‏ ‏متغيرات‏ ‏جديدة‏ ‏فى ‏مشهد‏ ‏شعر‏ ‏العامية‏ ‏قد‏ ‏بدأت‏ ‏تحدث، ‏ضمن‏ ‏ما‏ ‏حدث‏ ‏من‏ ‏متغيرات‏ ‏كبيرة‏ ‏فى ‏مشهد‏ ‏الابداع‏ ‏والثقافة‏ ‏المصرية‏ ‏بعامة‏.‏

فمن‏ ‏ناحية، ‏بدا‏ ‏كما‏ ‏لو‏ ‏أن‏ ‏اقطاب‏ ‏التجربة‏ ‏المؤسسين‏ ‏راحوا

يغيبون‏ ‏عن‏ ‏المشهد، ‏من‏ ‏الزاوية‏ ‏الشعرية‏ / ‏وان‏ ‏ظل‏ ‏الكثير‏ ‏فمن ناحية، بدا كما لو أن أقطاب التجربة المؤسسين راحوا يغيبون عن المشهد، من الزاوية الشعرية / وأن ظل الكثير منهم حاضرا حضورا كبيرا من الزواية الشعرية / الغنائية.

كان صلاح جاهين قد دخل صمته الشعرى / الشعرى بعد انهيار الحلم الذى ساهم فى تلوينه وتزيينه بقناعة خالصة، وان لم يصمت غنائيا.

وكان سيد حجاب قد قلل كثيرا من انتاجه، أو من نشر انتاجه على الأقل (فبعضنا) يعرف أن لدى حجاب انتاجا شعريا خصبا ظل طى الأدراج حتى فترة قريبة).

وكان فؤاد حداد ماضيا، كعهده، فى عزلته الشاعرة.

الأبنودى، وحده, هو الذى شذ عن هذا الغياب (الظاهرى على الأقل)، اذ ظل طوال الفترة من 1968 حتى 1975 حاضرا حضورا قويا، غنائيا وشعريا، ولعل مرد ذلك راجع الى أسباب سياسية فى المقام الأول، كما هو معروف.

وكان الجيل التالى (أو التجربة التالية، ان شئت) الذى بدأ يظهر فى أواخر الستينات وأوائل السبعينات، من مثل سمير عبد الباقى وزين العابدين فؤاد ومحمد سيف واحمد فؤاد نجم وأسامة الغزولى ونجيب شهاب الدين ومحمود الشاذلى وغيرهم ممن لم تسعفنى بهم ذاكرتى، قد استغرقت معظم نماذجه التجرية السياسية الجماهيرية (الطلابية خاصة) التى بدأت تنهض مجددا فى تلك السنوات، لتجعل أغلب شعر هذا الجيل (ولا نقول كل شعر هذا الجيل) أميل الى النزعة الخطابية السياسية الزاعقة، منه الى النزوع الفنى الشعرى الرفيع، باستثناءات قليلة سنشير اليها بعد قليل.

وما أن بدأ الاضطراب الكبير الذى وسم الفترة من أواخر الستينات الى منتصف السبعينات فى الانجلاء عن خريطة سياسة اجتماعية جديدة، مرتبة بحراكها الاجتماعى والثقافى، حتى بدأت البوادر الصحية الوليدة لجيل شعراء العامية، يحاول تيار هام منهم أن يشكل لتجربته سمات خاصة : تميزهم عن الجيل السابق عليهم مباشرة (جيل الانتفاضات الطلابية) من ناحية، وتضيفهم – بالتطويروالامتداد الى الجذور التجديدية التى اسس مداميكها الأولى الرواد والمؤسسون، من ناحية أخرى، فى آن.

والحق، أن جيل 68-75 (الذى أسميناه جيل الانتفاضات الطلابية) لم يكن كله، تماما، تكرارا أو استنساخا لجيل المؤسسين والمشيدين، ولا كان كله، تماما، غارقا فى التحريض السياسى المباشر الفج الذى يحتوى على كثير من الشعارات وقليل من الشعر.

ذلك أن بعض تجارب بعض هذا الجيل كانت حافلة خلق تكوين شعرى درامى واداء فنى تصويرى جديد، بمثل ما نجد فى بعض أشعار زين العابدين فؤاد وأسامة الغزولى ونجيب شهاب الدين.

ولقد شكلت هذه “الايماءات” الفنية نوعا من حلقة الوصل بين ما سبقها من عمل الرواد والمؤسسين وما تلاها من تيار تخلق حتى وان كان محدودا ما يزال فى ساحتنا الشعرية العامية الراهنة، ليتصل النسغ الفنى بين التجارب الرائدة وبين التجارب الصاعدة.

وكان هذا الاتصال أوضح ما يكون تجليا فى الشريان الذى امتد من فؤاد حداد وسيد حجاب الى العروق الجديدة، أكثر من تجليه فى الصلة بغيرهما، نظرا لما تحفل بهما تجربتهما، خصوصا، من عناصر فنية وقدرات سبكية وصوغية ولغوية خصبة، استلهمها التيار الجديد ساعيا الى تطويرها والوصول بها الى آفاق أبعد وأرحب.

على أن ذلك لا يعنى أن الشعراء الآخرين من الرواد والمشيدين قد خلوا من التحقيقات الفنية الملحوظة، فعمل صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودى وغيرهما، اكتنز بسمات فنية واضحة، استلهمها قسم آخر من الأبنودى وغيرهما، اكتنز بسمات فنية واضحة، استلهمها قسم آخر من هذا التيار، محاولين الوصول بها كذلك الى آفاق أبعد وأرحب.

على أية حال، ومهما يكن من خطأ أو صواب ما تقدم من رصد وتقديرات، فقد تخلق بعد منتصف السبعينات تيار شعرى واضح للعين المتابعة ربما لم يصبح عد عريضا واسعا، شأن الأجيال الرائدة والمشيدة، لأسباب سقنا بعضا منها فى صدر هذا الحديث، غير أنه صار بغير ريب حقيقة مهمة من حقائق حياتنا الشعرية بعامة، والعامية بخاصة.

أبرز عناصر هذا التيار المتميز، فى تقديرى، هم الشعراء: ماجد يوسف وصلاح الراوى وأحمد سماحة وعبد الدايم الشاذلى وحسين حمودة، وبعض شعراء المجموعة التى اطلق عليها اسم “الوراقين” نسبة الى حى الوراق مثل رجب الصاوى وأشرف عامر، وبعض شعراء المجموعة الشابة التى تطلق على نفسها اسم “مواسم” مثل شحاته العريان ومجدى الجابرى.

وفى تعرضى لسمات وملامح هذه التجربة الجديدة، سأتخذ من شعر ماجد يوسف نموذجا تطبيقيا، لأسباب عديدة : منها أن صلتى بشعره أقوى من صلتى بشعر رفاقه وتوفرى عليه أحضر من توفرى على الآخرين، ومنها أن شعره هو أجرأ شعر هذه التجربة رؤية وتعبيرا، ومنها أن شعره هو الأكثر تجسيدا لملامح هذه التجربة المتميزة، سواء فى تحقيقاتها الفنية الموفقة, أو فى ما يعتورها من شوائب.

على أية حال، مرة ثانية، فأن قراءة عمل هذه التجربة الجديدة ستكشف فى تقديرى عن جملة من الملامح المتميزة، سنعرض فيما يلى لأهمها بايجاز سريع.

– 1 –

أبرز هذه الملامح، هو أن هذا التيار الجديد (على الرغم مما بين عناصره من تنوع فى الرؤى وفى الأدوات) قد قدم بشعره تصورا مختلفا لقضية “طبيعة” الكتابة الشعرية بالعامية المصرية.

لم ينطلق هذا التيار من الاعتقاد الذى كان سائدا فى السنوات السابقة (لاسباب سياسية ونقدية معا)، ومؤداه أن الشعر العلمى ينبغى أن يصل الى “العامة” جميعا مباشرة، وأن يعبر عن قضاياهم فى ترجمة شبه حرفية، طالما هو يستخدم اللغة “العامية” أداة فى الكتابة الشعرية.

لقد رأى هذا التيار أن الانطلاق من هذا الاعتقاد ينطوى على اغفال التمييز بين اللغة كاداة للتخاطب والتفاهم، وبين اللغة الشعرية.

ان دخول اللغة، أيا كانت (علمية، أو فصيحة)، يتضمن تغيرا جوهريا فى طبيعتها وفى وظيفتها، لتصبح غير تلك اللغة الاشارية التى كانت مستخدمة، قبل دخولها الشعر، فى التفاهم والتخاطب.

كما أن هذا الاعتقاد ينطوى على تمويه وتضييع لشعرية الشعر، لصالح لا شعرية الأعمال الهابطة فنيا، وذلك بمحاولته احلال معيار “طبيعة اللغة العامية” محل معيار “شعرية” اللغة، العامية أو الفصيحة على السواء.

فكأن حد الشعر، فى هذا الاعتقاد، منسوب الى أدوات ووسائل هذا الفن، لا الى “ماهيته” كفن جميل.

ان تقييم الشعر بالاستناد الى أدواته سيفضى الى نتائج خطرة من مثل أن نقول سيرا مع ذلك المفهوم أن الشعر الفصيح، مثلا، لا يتوجه للناس جميعا، لأنه لا يتخذ لغة العامة أسلوبا للانشاء، أو أنه ينبغى أن يتوجه ويتواصل مع الذين يعرفون الفصحى فحسب، لمجرد أنهم يعرفون الفصحى، التى بها كتب.

وفى مثل هذه النتائج المضللة تجاهل مبدأ أن الأصل فى الشعر بأنواعه وفى الفن عموما هو التوجه للناس جميعا وللبشر بأسرهم، وبعد هذا “الأصل” تأتى “الفروع” المتصلة بالخصائص النوعية وبظروف كل نوع فنى وشروط مجالاته النسبية.

المعيار السليم، جماليا ونقديا، عند هذا التيار التجديدى ليس هو “اللغة”، بل هو “الشعرية” أصلا واللغة العامية هذا المعيار السليم شأنها شأن الفصحى أو الألوان أو الرخام أوالخشب أوالآلات الموسيقية، فى الفنون المختلفة هى أداة من الأدوات يجد الشاعر العلمى فى اختيارها أنسب أداة لتجسيد ما يريد تجسيده ابداعيا، وأقدر أداة على الوفاء بصوره ورؤاه وتخييلاته الفنية.

– 2 –

يقوم على الأساس الذى سبق المفهوم الأرحب عند هذا التيار الجديد فيما يتصل بمسألة علاقة شعر العامية (والشعر عامة) بالقضايا الشعبية والواقع الاجتماعى ومجريات الحياة الوطنية والانسانية، لا بالاستناد الى اللغة المستخدمة، بل بالاستناد الى كيفيات تبدى الصلة الجدلية بين الشعر، والفن بعامة، وبين الواقع الاجتماعى والجماهير الشعبية.

ولعلنا، هنا، نجد تفسيرا للملاحظة الصحيحة التى تشير الى أن علاقة الأجيال السابقة من شعراء العامية بالجماهير الشعبية وقضاياها الاجتماعية كانت أوضح وأبرز مما نراه عند الأجيال الجديدة، والتيار المتميز منها بخاصة.

على أن هذه الملاحظة الصحيحة ليست راجعة فى تقديرى الى ما قد يفهم من الملاحظة نفسها من معنى ضعف علاقة هذا التيار الجديد بالواقع الاجتماعى، وتضبب رؤيته تجاه مجرى الواقع السياسى والاجتماعى والانسانى.

انها ترجع الى أن طبيعة تجلى هذه العلاقة المذكورة، فى الفن عامة والشعر خاصة، هى التى تغيرت، والى أن طبيعة كيفيات حضور هذه الرؤية تجاه الواقع الاجتماعى السياسى الانسانى، هى التى اتخذت، فى المفاهيم وفى الابداعات الجديدة معا، تبديات وخصائص مغايرة.

فمثلما حدث حراك اجتماعى / سياسى / وطنى فى بنية مجتمعنا الداخلية،عبر العقد الأخير، حدث “حراك شعرى / تعبيرى / جمالى” مواز أو مواكب، وعلينا أن ننظر اليه برؤى ومداخل وأدوات مناسبة

كان معظم التعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية والانسانية يتم فى التجربة السابقة بصور وطرائق مباشرة، لأسباب عديدة ذكرنا طرفا منها فيما سلف وكانت المفاهيم والرؤى النقدية المواكبة تؤكدوتدعم هذه الطرائق المباشرة، بينما صار التعبير عن هذه القضايا لدى التيار الراهن مرتبطا بفنية الفن وبشعرية الشعر، متجليا ضمن سياق تخييلى تصويرى تركيبى متنوع الدلالات وواسع الايحاء.

لقد أصبح التعبير عن هذه القضايا (الاجتماعية / السياسية / الانسانية) محكوما بأن يكون الشعر “شعرا”، بحق.

ان هذا التصور الفنى لدى شعراء هذا التيار الجديد جعل التعبير عن هذه القضايا، لا يتبدى زاعقا أحاديا، بل يتبدى فى نسق فنى عريض يتضمن ضمن ما يتضمن التعبير عن قضايا الواقع والانسان، وعن تناقضات وجدل الحياة المعاصرة، لا تضاداتها وثنائياتها الواضحة الساكنة.

ولنقرا أو نسمع هذا المقطع (من “مراية للتمام والنقص”)

“تبقى الملاك اللى انحبس جو اللهب

فضة على صفحة ذهب

وابقى الشيطان اللى انحبس من غير سبب

خشى فى مملكة العجب

واترهبنى فى طقس العفن

واتصوفى فى نقص الوطن

ودخلينى فى اللظى .. طحن المحن

انصهرى فى خرايط عروقى

                           اتبوتقى

ولخصينى فى السحن

واعتقينى واعتقى ماء الفنن

أو بخرى الروح م البدن

وخرجينى من تضاريس المسوخ الميتة

                           جوا الكفن

القمة فى قاع مجدها

واحنا

اعف من افتراس الجيفة فى وليمة الزمن”

هنا تعبير عن واقع اجتماعى / سياسى / انسانى، ولكنه جاء فى سياق تشكيلى عريض، فيه من الاسطورة، وفيه من الحس الصوفى لغة وتجربة، وفيه من اللغة المثقفة لمثقف معاصر مقهور ونازع لنفى القهر, وفيه من تناقض الحياة والموت / الحرية والحبس / النقص والكمال / الرق والعتق / القاع والذرى، كل ذلك فى نسيج واحد متشابك.

ولنقرا أو نسمع هذا المقطع (من “مراية نسر”) :

“وتتجلى فى حوار البيد

                  عامود عارى العيدان وعنيد

                  وتلمس بالعصا العاصية عصور عاصتنا رجل وايد

                  وتفتح كوه للعصفور

        يعربد فيها من روحك سنا التوليد

فنتقلب على الكثبان

ونتدحدر على الألوان

فى أقواس القزح والطيف

وساق على ساق بنتحول

                  ونتبدل

                  ونتكون

ونطلع فى الهوا الميت دواير رعد

ونتمرغ فى بعد القرب قرب البعد

وسيوف الخرس بتزيد

ونفتكرك :

عامود عارى العيدان وعنيد”

هنا، كذلك، شوق لتجاوز الواقع الملوث، وارادة رفض منسوجة فى نول من الحسية وطاقة التحول من الصمت والخمود الى الحرية والتخلق، ومشغولة بدلال لغوى، يبسط غلالة شفيفة على سطوع هذا الموقف الفكرى، تخدع من يمر على التشكيل الشعرى مرورا عابرا، سطحيا، خاليا من التأمل فى سائر خيوط النسيج.

على، بالطبع، أن أعتذر عن هذه “الشروح” المسفة المسيئة للشعر والمتدنية عنه بآلاف الدرجات غير أننى ارتكبت هذه الفعلة البغيضة على نفسى وعلى الشعر لكى أوضح أن حضور “الموقف” (الاجتماعى أو السياسى أو الفكرى) فى شعر هذا التيار الجديد غير منفى، لكن لا يمكن الكشف عنه أو اكتشافه أو معرفته الاعبر تجسده التشكيلى الفنى.

ولأنه كذلك، فأن وجوده فى التجسيد التشكيلى الفنى المتجدد لهذا التيار المتميز، لا يكون ساطعا حارقا كشمس الظهيرة فى صيف قائظ، بل وانيا ساريا تحت الجلد السطحى، مضفرا باشعة اخرى عديدة متداخلة ونسائم لغوية وصورية ومجازية، تجعل وجوده أقرب الى وجود شمس الأصيل أو بدايات المساء.

ولقد وددت كذلك، من تلك الشروح المسيئة، أن أشير الى أن التعبير عن “الموقف” الاجتماعى أو السياسى أو الفكرى قد اختلفت طرائقه عند الجيل الراهن عن معظم الأجيال السابقة : المؤسسة منها والمشيدة والقاطنة فى البناء الذى أسس وشيد، على الرغم من أن طرائق هذه الأجيال السابقة كانت فى سياق لحظتها وما سبقها واحاء بها قفزات فنية سابقة.

ولنقرا أو نسمع هذا المقطع (من “انفجار العشق”) :

“وكنت باقول

مفيش فى الجبه الا انتى

ضنا العانى اللى فانى بقهر النهر للزمن الحمول

غنا الباكى اللى شاكى الدهر وتوالى الفصول وقنعت من عشق البتول

بالانسحاب من باب دعانى للدخول

طالع بمعراج للسما

                  واحد أنا

                  لكنما مبعزق فلول”

بتفسير مجتزئ وابتسار مخل، نجد أن المقطع يتحدث عن فكرة سياسية / اجتماعية فحواها العجز والتشرذم الذى نعانى منه : أفرادا، أو قوى سياسية وطنية، أو شعوبا عربية.

ان هذه الفكرة اذا صحت هذه التسمية، وصح هذا السلخ لها عن لحمها الشعرى الحى – فكرة محورية مستمرة فى الشعر الوطنى الحديث، علمى وفصيح لكن تجسيدها عند التيار الجديد من شعراء العامية يختلف عن تجسيدها عند الأجيال السابقة.

لم يعد تجسيدها يأتى على هيئة تجسيد صلاح جاهين، مثلا، حينما قال :
                             “أنا لو حدى مفيش حاجه

                           مجرد اسم متشخبط على ورقه

                           فى ايد واحد مدير أصله قومسيونجى”

ان التعبير عن هذه الفكرة (نفى العجز والتشرذم بالفعل والوحدة) يأتى عند التيار الجديد فى غمار سياق تشكيلى متنوع، يتضمن الاستلهام الصوفى والاستلهام التراثى الدينى، ويتضمن التلاعب اللغوى والصوتى الجميل، ويتضمن مناخات والفاظا ثقافية ومثقفة، ويتضمن بعد أن قبل كل ذلك وجها من “التورية” الفنية والمعنوية التى تمكنك من اطراح التلفى السياسى لها، الى التلقى “العاطفى” أو التلقى “الذاتى”، أو ما شئت من تأويلات تتنوع ولا نقول : تتضارب وتتضاد بتنوع الرؤى والقراءات.

وتجدر الاشارة، مع كل ما تقدم، الى أن هذا التصور السليم لكيفيات تجلى “الموقف” الفكرى فى سياق فنى متداخل ومتضافر، عند التيار الجديد، ليس عديم الجذور منبت الأصول كلية بعمل الأجيال السابقة.

ففى الكثير من هذا التصور، استلهامات غير خافية لبعض شعراء الأجيال الرائدة والمشيدة، وبخاصة للكثير من عمل سيد حجاب، الذى خفتت عنده بين جيله النبرة الزاعقة فى التعبير عن هموم وقضايا الانسان، لصالح التعبير عنها فى سياق من “شعرية الشعر”

فى قصيدة “اتنين فى العتمة”، وفى سياق تجربة حسية وجسدية متفجرة بالدلالات التى تتعدى ايحاءاتها الأولية المباشرة، يتبدى “الموقف” الفكرى متضافرا مع نسيج العمل المركب، حين يقول حجاب :

“على نفس سرير أمى

على نفس الأرض الهمدانة

عريان يانا يانا يانا

زى المية الراكدة

زى الهم اللى فى دمى

زى الأرض الشايبة الشرقانه

العايبة الخزيانه

اللى فرط فيها الفراط

                  دهر

                  وقهر

                  وعهر

                  واحباط

الولاده طواغيت وعبيد

                  وسكون ممقوت

وغنا وعديد

وحياه بتموت

وميلاد من دم شهيد”

عمق هذا التيار الجديد العلاقة بالتراث الشعبى المحلى والعربى، بل والتراث العالمى بعامة وخطا خطوات واسعة فى تطوير الأساليب الفنية فى معالجة هذا التراث داخل النص الشعرى.

فخفتت فى هذه المعالجة الاحالات المباشرة لاسماء أو مناطق أو مواقع أو وقائع من الأساطير والتراث والتاريخ.

“وأنا وأنت

غياب قتال بحجم حضور

وخوف عمال يعلى السور

ويرسم بالضباب بلدين :

باد فيها الغيلان العور

وف التانية البنات الحور

وبين العور وبين الحور

جدل بين الظلام والنور

وباب على بحر بجزيرتين :

جزيزة الوحش ساكنها

                  وعنده نص تفاحتى

                  ملفلف فوق مساكنها

                  ومن فوقى ومن تحتى

وع الثانية اللغات الزين

                  وبيمص ف دماها البين

ودود بروحين بيرعى ف نصها الثانى

وأنا تفاحتى دوابه

واكلها الحلم فىالغابه

وقلقانى على الجنبين” (نصين فى مراية روح)

يتجلى، فى هذا المقطع، مثال للتعامل الداخلى / الضمنى مع التراث، لا التعامل الخارجى / القشرى، الذى يرصع النص ويبهظه باسماء أو وقائع مستدعاة ومقحمة، وبالتالى : ناشزة.

فبدون أن يذكر لنا الشاعر أية “حواديت” شعبية قديمة، وبدون أن يطابق الرموز بالمرموزات فى وضوح فاضح، تسرى فى المقطع روح اسطورية شعبية تتقمص الصور وبعض المفردات، وتتلبس الثنائية الفولكلورية المعروفة : الظلام والنور، بلد الخير وبلد الشر، الجزيرتان، التفاحة المقسومة نصفين، الدود ذو الروحين، القلق على الجنبين

– 4 –

تعقد وتركيبية العالم الواقعى فى “بصر” الشاعر، وتعقد وتركيبية العالم الشعرى الذى تصوره “بصيرته” المبدعة هذا التعقد والتركيب فى العالمين (الواقعى والفنى) يجعل التجربة الشعرية متمازجة المقومات متداخلة العناصر : العاطفية الانسانية الاجتماعية الانسانية الوجودية الفلسفية الذاتية الحضارية الموضوعية، وغيرها من عناصر.

ويصعب، فى هذا النسق المتجادل المتداخل، تحليل أو تفكيك النص الى عناصره الأولية، لفرز الذاتى فيه عن الموضوعى، والجسدى عن الروحى، والعاطفى عن الاجتماعى، والوجودى عن التقدمى.

لنقرأ أو نسمع هذا المقطع (من “انفجار العشق”:

“وادى الصراع

من أول الشعر اللى ضاع

محتوم بكل الأسلحة

لا الضد ضد على المدى

ولا التناقض فى البقاع

شارخ جبين الورده بسيوف الندى.

حرف الالف لا زال بشكل النخلة

                  مش شكل الصاروخ

لسع افتتاح الأغنية واقع فى احبولة الردى

لسه اللغة بتخون فى صدرى الانفلات

                  بتشدنى لافق الفتات

والسهم مشدود ع الوتر

من أول الكلمة القدر، ولآخر اللفظ الرفات

                  زمن الحصار للسهم

                  دفع النهار للدم

                  ولا حد شد القوس

                  ولا كيف فتح، ولا كم”

هل يمكن “تفنيط” هذا المقطع لفك عناصره، وعزلها عن بعضها البعض؟

– 5-

الذهنية والتجريد يشكلان ملمحا هاما من ملامح هذه التجربة الجديدة

على انه ينبغى الاقرار بأن هذا التجريد وهذه الذهنية ليسا، فى حد ذاتهما، ميزة أو عيبا انهما يشكلان ميزة ايجابية بقدر ما تتحقق الوظيفة “الفنية” للتجريد والتذهين : فى الارتفاع بالرؤيا من التخصيص المحدود الى التعميم اللا محدود، أى فى تحويل “الحالة العينية” الى “نمط مطلق”، بدون أن ينتفى نهائيا التخصيص والتعيين فى آن.

ان الانتقال من “العينى” الى “المجازى” هو وجه من وجوه الشعر الحق، لأنه مد “للجزئى” باتجاه “الكلى”، واثراء للدلالات، واطلاق للاشعاع الشعرى فى هذا المد والاثراء والاطلاق معنى من معانى خلود العمل الفنى، اذ يجعل النص غير مرتهن بحدث أو بحالة أو بواقعة، فلا يزول أثر النص بزوال الارتهان، أى بزوال الحدث أو الحالة أوالواقعة.

التجريد والتذهين، بهذا المعنى، شحن للعمل باقتراحات دائمة مع كل قراءة ومع كل عصر، ومع كل مكان.

أنه، بهذا المعنى، ارتفاع من “الشخصى” الى “الانسان”.

ولنقرا، أو نسمع، هذا المقطع (من “نصين فى مراية روح”) :

“بسكينه وتفاحه .. فاقنا فى القمر نصين

.. ف نص اللغز بيرعرع

ونص بيعمى نوره العين

لا طلنا السر بالمره

ولا ضوء انفجر بره

ولا لملمنا فى الشطين”

على أن هذا التجريد والتذهين ينطويان فى نفس الوقت على مزاق لا يخلو شعر هذا التيار الجديد من الوقوع فيه، على نحو ما سيرد بعد قليل.

– 6 –

الحرص على انشاء العمل فى اهاب من “البناء” الشعرى، الذى تتكامل وتتقاطع فيه الأصوات والمحاور والخطوط، من حوار الى مقاطع غنائية داخلية تتعامد على انسياب المجرى الأصلى للنص، الى أناشيد جوقية، الى كتل متواصلة التفعيل الموسيقى، الى غيره من اساليب.

-7-

اتسمت تجربة هذا التيار، بتنسيج العمل الشعرى بحس صوفى واضح، ضمن استلهامه للتراث الشعبى والرسمى، الذى سبقت الاشارة اليه بتفصيل.

ان هذا الحس الصوفى يخلق بتضافره مع ما ذكرناه آنفا من ذهنية وتجريد حافة عامة فى النص، قوامها الجدل العريض بين الجزئى والكلى، بين العارض والدائم.

التطوير الذى قدمه هذا التيار، فى هذا الصدد، هو أسلوب اندماج هذا الحس الصوفى فى لب العمل الشعرى، دون تصريح مباشر أو استدعاءات شكلية وهى السمة التى تسم، بعامة، أسلوب استلهام التراث أو التاريخ عند الجيل السابق، مما أشرنا اليه فى ملمح سابق.

“ياما تصوفتك حقب

ياما ونال منى التعب

لكن عجزت عن الحلول”

والاستخدام الصوفى، هنا، ليس مجرد حلية تزيينية، بل هى احدى تكات تشكيل موقف فكرى مغاير:

“وكنت باقول

مفيش فى الجبة الا انتى

ضنا العانى اللى فانى بقهر النهر للزمن الحمول”

فاذا كان الشاعر يذكرنا بقولة الحلاج “ما فى الجبة غير الله”، فأنه فى صهره الشعرى يحل الوطن الرب او ربما يحل الحبيبة محل الرب، فى تأويل آخر لمن شاء ليصبح حلوله أومفارقته علاقة جدل ومكابدة بين المواطن والوطن.

والملحوظ أن هذا الحس الصوفى متواشج، فى نفس الوقت، مع خيط جلى من “الحسية” الحية، بحيث تتشكل فى كثير من الأحيان حالة من “الجسدانية / الصوفية” اذا صح التعبير يتراكب فيها التحليق الروحى الخالص مع الشوق البدنى الطافح بالنزوع الى التحقق والاستواء.

من مقومات هذا الاداء الصوفى / الجسدانى أن يصبح المنزع الصوفى المعروف “بالحلول”، وضعا من أوضاع التجربة الشعرية نفسها : حيث تغدو الأعضاء “طبيعة” وتغدو الطبيعة “أعضاء”، وتتصل القنوات بين اللغة والاشارة، بين روحية البدن وبدنية الروح، بين “شيئية” الانسان و “تأنس” الاشياء.

نقرأ (من “البرزخ”) :

“حبل الوريد يتمد فى جلد الحجر

تنفك أوصال السؤال شريان وجود

يفتح بيبان السحر فى تراب اللغه

ويمر طيف الملحمة سيال شفيف المأتى

صعب الاقتناص

وتغور رغاوى اللحم تخرج من القفص

تطلع لمشكاة الرؤى جوهر بيتعدى الخلاص

وكأن شريان الجسد

حمى التوحد فى المدد

رعبى البهيج اللى اتولد ومالوش مناص”

-8-

الحرص على التأكيد (الابداعى بالطبع) على ما للغة العامية من قدرة، هى الأخرى، على منح الشعر طاقات صوتية وحروفية عارمة.

ولعل المصدر الأساسى للمدد، هنا، عائد الى منبعين هامين، أولهما هو ما يحفل به الشعر الشعبى والمأثور العلمى المتناقل من ثراء موسيقى وصوتى ثانيهما هو مد تطوير الرواد والمشيدين فى هذا الصدد الى المدى الأوسع الممكن.

والأمثلة على منجز الرواد فى هذه الوجهة عديدة ولعلنا نتذكر فحسب قول صلاح جاهين :

“النهد زى الفهد نط، اندلع

قلبى انهبش بين الضلوع وانخلع

ياللى نهيت البنت عن فعلها

قول للطبيعة كمان تبطل دلع”

ونلحظ، فى هذا المثال، العلاقة الراقصة القافزة بين حروف النون والهاء والدال، التى تجسد لوحة من الترجرج الأنثوى المتدال ولقد أصبح هذا “اللعب” اللغوى الحروفى واحدا من مقومات التشكيل الفنى، فى عمل هذا التيار الجديد، حيث تلعب صوتيات الحروف وتحاككها اللفظى دورا “مضمونيا” ان صح التعبير يساهم فى تكوين التوجه الكلى للنص :

“ياحد حرفى بين تجلى وبين كمون

يا حرف حدى بين تحدى وبين سكون

أنا نصل صادى بين تعطش وأرتواء

يا تكونى يا لغتى انتماء

يا اما يا لغتى جنون”

اللغة، اذن، موقف، يناشده الشاعر بأن يحسم معه حيرته بين النقائض وهو يشير الى وجهة الاختيار المطلوب، حينما يقرر أن البديل المقابل لاختيار “الانتماء” ليس الا الفراغ والضياع والجنون.

ان المناخ الذى تصنعه حروف الحاء يساهم فى تحديد الصراع وشحذه، وذلك أن تصورا سريعا لأزمة اطرافها هى الكلمات الثلاث : حرف / حد / تحدى، يمكن أن يجسد لنا مدى المساهمة الحروفية فى محتواها المضمونى، الذى يمكن أن نترجمه على عادتنا السيئة فى شروحنا السيئة الى : لغة مبدأ، رؤية / ماهية، معيار، كينونة / صراع، مواجهة، امتحان.

هكذا تصبح محصلة “الحاءات” هى :

الحرف ماهية، والماهية مواجهة وامتحان

اللغة، مرة ثانية، موقف، وليست مجرد حمالة معنى، موجود خارجها، قبلا أو بعدا انها، وجهة وانتماء.

ولعل هذا المقطع يحمل، بهذا الشكل ضمن ما يحمل اجابة (شعرية بالطبع) على سؤال مطروح حول علاقة شعر العامية بالقضايا القومية تشير هذه الاجابة الى أن الهوية العربية ليست فى “ذات” اللغة، وانما فى “موضوعها” أساسا فاللغة، نسق فكرى واجتماعى وتاريخى ومعيار العروبية، آنئذ، ليس فى “شكل” اللغة (لهجاتها، مستوياتها، تكويناتها الاشارية والصوتية)، بل فى “مضمون” هذه اللغة، أى ما تجسده من موقف اجتماعى وسياسى ووطنى وعربى.

على الوجه الآخر من الاجابة، سنجد أن استخدام العامية، فى حد ذاته، ليس دليلا على الأصالة والوطنية، وإلا لكنا نسقط من حسابنا العمق السياسى لتحديد الأصالة وتحديد الوطنية، لنحل محله معيارا لغويا أو انثروبولوجيا، يغدو فيه أى مستخدم للعامية المصرية أكثر وطنية من المستخدم للفصحى، مهما كان الانتماء الاجتماعى / السياسى / الوطنى لدى الاثنين وهى نتيجة، بالطبع، خطرة.

كانت هذه هى الملامح التى ارتأيت حسب ما امكنتنى تقديراتى التى تحتمل الخطأ قبل الصواب أنها تشكل علامات الجدة فى التيار المتميز الراهن فى شعر العامية المصرية، عبر نماذج واحد من أبرز ممثليها الشعراء

على أن الدرس الامين لا يكتمل، فى حقيقة الأمر، الا بالتأكيد على ان هذه الملامح التجديدية ليست كلها ابتكارا خالصا من فراغ خالص انما كانت استكمالا واستمساكا وتطويرا لجذور وبذور سابقة :

جذور فى التراث الشعبى المصرى والعربى.

وبذور فى عمل رواد التجربة المحدثين وبخاصة عند فؤاد حداد وسيد حجاب، ثم عند البعض من عمل زين العابدين فؤاد.

بالامكان، اذن، رسم خط متدرج متوال، فى مسار الملامح الفنية المتميزة لتجربة شعر العامية الحديث، على النحو التالى:

فؤاد حداد / سيد حجاب / بعض زين العابدين فؤاد / ماجد يوسف وأقرانه من شعراء هذا التيار التجديدى.

الخلاصة، أن هذا التيار الجديد قد استلهم مجمل الملامح الفنية السابقة، مطورا ومعمقا، وواصلا بها الى آفاق تأسيسية جديدة.

كما أن الدرس الأمين لا يكتمل، الا بالاقرار بأن هذه الملامح التجديدية المميزة لا تتحقق دائما بدون مزالق أو شوائب ملحوظة.

ان كل عنصر من عناصر الجدة التى ذكرناها آنفا، لم يخل فى بعض الأحيان من مزاق ظاهرة.

1 – فالتعبير عن الواقع الاجتماعى والسياسى والانسانى تعبيرا ينأى عما شاب بعض التجارب السابقة من صياح وزعيق، انزلق فى بعض الأحيان الى نوع من الاستغلاق  والتهويم الجاف، المفتقر الى “ماء المحاياة” الذى ينبغى أن يسرى فى كل تجربة شعرية، ليفتح فى النص نوافذ هواء يستنشق منها المتلقى عبير التجربة الحية.

2 – وتوطيد الصلة بالمأثور الشعبى، وبالتراث العربى والعالمى، وبالعمق الأسطورى، قاد بعض هذه التجارب الى أن تصبح فى بعض الأحيان ترصيعا مثقلا بالأسماء والاحالات التراثية والتاريخية والأسطورية المتنوعة بل المتضاربة الدلالة أحيانا الى درجة تحيل النص الى مجرد “مكابدة ثقافية” خالصة.

3 – يرتبط بالمزلق السابق، بالطبع، المزلق الذى يفضى اليه الحرص الزائد على التجريد والتذهين، اللذين يصلان بالعمل الشعرى فى بعض الأحيان الى تراتبات شكلية، محكمة حقا، لكنها مسمطة تعوزها خصوبة المعاناة البشرية على الأرض البشرية

ولنقرأ، أو نسمع، هذا المقطع (من “البرزخ”):

“داخل لغات الطين، مهاد الحلم، دود الجمجمه الروح زفير الدمدمه

بخر العروق بالشهوة للأصل القدس.

يبدا رصيد الدم فى نحت الجذور

أرجع لنبع الذاكرة فى طمى السطور

ينحل جوايا البصر ساعة الدخول

قنديل عتامة وانعتاق”

وربما كان هذا المقطع فى تأويل من تأويلاته تعبيرا عن تجربة “معرفية” فيها من الحدس واللاوعى والكشف عناصر مرموقة، لكنها مع ذلك تظل “معرفة عقل” لا “معرفة حياة”

المعرفة الأولى، أقرب الى التصنيف الفلسفى

والمعرفة الثانية، هى جوهر المعرفة الابداعية

4 – وقد تؤدى تنسيج التجربة بالحس الصوفى والتراكيب اللغوية والصوتية فى مناطقه غير الناجحة الى انتاج قصيدة تقترب من “العرض” اللغوى المقتدر والهيام الصوفى المحصن، غير المستند على خبرة نابضة، كأن نقرأ أو نسمع :

“الدم جسم الأسم

رسم النفس

ضد الانقسام

كان التوحد فى النهود

غاية غايات الانبهام

لسه العبارة الطفلة أوسع م الرؤى

والفعل قد اللغز

قد العجز

صنو الانعدام

والطعنة مفتتح الوصول الوعر لحروف الكلام”

ويصل هذا الولع الى حد اثقال الصورة الشعرية بما لهذا الحقل الصوفى / الفلسفى من تراكيب ومصطلحات مباشرة، من مثل أن يقول :

“ومن شق فى هيولى الغمر

صدع بالأمر

ترتيلى وترتيلك

لدرجة منتهى العصيان”

5 – والحرص المفرط على “البناء الشعرى” المركب، المتعدد الطوابق والطبقات التشكيلية، قد يدفع صاحبه فى بعض الأحيان الى وضع قصيدة فى هذا الافراط الى اندياح غير مضبوط، فتفسد نفسها بنفسها داخليا، لأنها تصبح حينئذ وبتعبيرات ماجد يوسف نفسه فى موضع من قصيدة :

“طاقه بدون كتله

قدرة بدون معوان ونسيج مالوش فتله

رؤية ومفيش أعيان”

كانت هذه بعض المزالق التى يصور لى تقديرى الذى يحتمل هنا، كذلك، الخطأ قبل الصواب أنها شوائب ملحوظة تعلق بالنسيج الجميل الذى ينسجه هؤلاء الشعراء المجددون وهى تنطبق على شعر ماجد يوسف مثلما تنطبق على شعر أقرانه من التيار التجديدى، وان اختلفت وتباينت درجات الانطباق.

كما أن الملامح التجديدية المميزة، التى سبق رصدها، تنطبق على شعر ماجد يوسف مثلما تنطبق على شعر غيره من القرناء، وان اختلفت فيها حظوظ الانجاز والتحقيق.

الحقيقة المستمرة من أول هذا الحديث الى آخره هى أن هذا الجديد يضيف ملامح حقيقية متميزة فى شعر العامية المصرية الحديث، حتى وان كان لم يسد بعد فى ساحتنا الأدبية، على المستوى الاعلامى والجماهيرى.

واذا كانت هذه هى الحقيقة الأساسية، فأن ما رصدناه من هنات وشوائب لا يقلل من تأسيسية التجربة، بحال بل ربما كانت هذه الهنات والشوائب احدى مؤكدات ومحددات “تأسيسية” التجربة فالتجربة الكبيرة لا يمكن أن تخلو من مخاطر أية تجربة كبيرة والشعر الذى لا مخاطر أو مزالق فيه هو الشعر الذى لا مغامرة فيه ولا تأسيس، المعتاد الناسخ على المنوال المألوف، الحريص على عدم الوقوع فى الاثم

وشعر لا اثم فيه، لا شعر فيه.

ولقد اختار هؤلاء الشعراء التمرد مع الخطأ، عن الانضواء مع الصواب وهذا هو اختيار الشعر أبدا : اختيار الابداع لا الاتباع.

من أين يبدأ، اذن، نقد شعر العامية، وكيف يكون؟

لعل عرضنا الذى سبق، احتوى فىتضاعيفه وغضونه، على بعض الالماحات التى تشير الى اتجاهات الاجابة على مثل هذا السؤال ونستطيع أن نوجز تصورنا فى محاور محددة

1 – شعر العامية المصرية، هو “شعر” قبل اى شئ معياره الابداع، لا الأدوات

2 – ينبغى، فى التعامل النقدى مع هذا الشعر، ادراك تطوراته وتحدياته وسعيه للاضافة الى التجارب السابقة فى مساره الفنى، وشوقه الى الخروج عن النسج على المنوال القديم.

3 – كما ينبغى أن ندرك أن علاقة شعر العامية بقضايا الواقع الاجتماعى / السياسى / الانسانى صارت علاقة مركبة:

توحى ولا تصرح، تومئ ولا تصرخ، تدل ولا تقول.

4 – وعلينا أن نوقن بأن حقيقة هذا الشعر الكبيرة هى ما انجزه من تحقيقات فنية، لا ما وقع فيه بعضه من مزالق فليس للثانوى أن يزيغ بصرنا عن الجوهرى، فما هذه الشوائب سوى الطحالب التى يرميها مجرى النهر العميق على الضفتين.

5 – الفهم النقدى القويم ينبغى أن يرى الى هذا الشعر باعتباره اتصالا وتواصلا جدليا، لا انضوائيا، مع التيار الفنى المشع فى التجارب الرائدة السابقة.

وان أى خروج على هذا الاتصال والتواصل، انما هو خروج فى سياق التفاعل لا الرفض والتجديد لا التبدد، فى اتجاه دفع شتى المنجزات السابقة الى آفاق بكر جديدة

5 – المحصلة، هى أنه ينبغى نقديا أن نكف عن مصادرة هذا التيار الجديد وارهابه بزعم أن لغتهم العامية توجب علمية شعرهم، وتحدد توجهاته وموضوعاته والمدى الذى لا يجب أن يتخطاه طموحهم الابداعى التجديدى.

فهذه دعوة خاطئة – نقديا – وعدمية – فكريا

ان عامية اللغة لا تعنى عامية الشعر، بالضرورة لأن الشعر مهما كانت لغته سيظل ظاهرة نوعية خاصة، حتى ضمن سياقها الاجتماعى والتاريخى والثقافى.

وبعد، فان الشعر شعر، عاميا كان أو فصيحا.

ومن هنا يتضح لنا أن مشكلات شعر العامية وقضاياه التجديدية، هى مشكلات شعر الفصحى وقضاياه التجديدية

ومن هنا، كذلك، يتضح لنا أن مشكلته النقدية فى الاصطدام بالمفاهيم المبذولة المألوفة فىتصورمهمة الشعر وماهيته وأدواته الفنية، هى نفس مشكلة الشعر التجديدى الفصيح فى الاصطدام بذات المفاهيم الضيقة والمضيقة.

هذه المفاهيم التى ربما تكون صحيحة من زوايا سوسيولوجية أو ايديولوجية أو تاريخية أو نفسية، لكنها تجافى تماما أصول النقد الأدبى. علينا، اذن، أن نميز لا نفصل أو نباعد بين التعامل مع الشعر (فصيحا أو عاميا) باعتباره وثيقة سياسية أو اجتماعية أو تاريخية أو نفسية، وبين التعامل معه باعتباره وثيقة ابداعية أدبية

وفى يقينى أن الكثير من الاضطراب النقدى الحاصل فى حياتنا الادبية ناجم عن الخلط بين هذين المنهجين فى النظر للظاهرة الأدبية بعامة والشعرية بخاصة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *