الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1985 / ابريل1985- الناس والطريق(3) المخيم الاول

ابريل1985- الناس والطريق(3) المخيم الاول

الناس …. والطريق

الفصل الثالث

المخيم الأول

(الألبا .. دورو Alba D”oro)

يحيى الرخاوى

لم يعد ثمة شك فى أن تسجيل هذه الرحلة ليس سوى تحايل للكشف عن جانب ما من “سيرة” كاتبها “الذاتية”. ثم أنى أكتبها بعد أسابيع كثيرة (أو شهور قليلة) من نهايتها، فهى ليست تسجيلا .. ولكنها استعادة طليقة، وذلك أنه قد خطر ببالى أن كل هذه الرحلة يمكن أن تختصر فى كلمات :” سافرنا، وعسكرنا، وعاشرنا الخواجات” (وقد: جدوا فى الزمان والعبوه)[1] ،وصاحبنا الطبيعة، ولم يلهنا الشراء عن الناس أو عن أنفسنا، وعدنا”، فماذا يمكن أن يجعلها تستأهل أن تحتل هذه الصفحات الا أن يكون كاتبها حاضرا كل الوقت، ليقول شيئا، غير هذا، يستحق أن يكنب، وليس ذلك الا هذا التجوال فى الداخل الذى قد يكون هو الدافع الأصلى لهذه المحاولة،فلا يكون الكلام عن الرحلة الا تحايلا، أى أنها رحلة “فى الذاكرة”  أكثر منها “فى الطريق”، والناس فى “الداخل”  أكثر مما هم ” الخارج”. على أنى لا أعنى بالذاكرة ذلك التذكر الرواى بقدر ما أعنى “المعايشة”، فالذاكرة أمرها عجيب أشد العجب، وكل الحديث العلمى عن طبيعتها، لابد وأن يتوارى بجوار حقيقة حدتها، وأعاجيب مفاجآتها، وحيوية روائحها، ذلك أن الذاكرة كما يدرسها العلماء هى ذاكرة: فورية، أو ذكراة قربية، أو ذاكرة بعيدة،… الخ، وأغبها تعنى “حفظ” معلومات معينة، ثم اتسرجاعها بتوقيت معين، وقدر معين، أما الذاكرة التى تبرق فى الظلام، والذاكرة التى تنقض من شاهق، والذاكرة التى تتهادى فى تراخ،و الذاكرة فى سباق التابع، والذاكرة التى تفوح رائحتها حقيقة وفعلا، وفهذه ظاهرات ليست فى متناول “منهج” العلم المتواضع، فليفسح لنا العلم مجالا لنقول ونحكى، وليكن موقفا حاسما وحادا مهما ضحكوا وأنكروا الكاتب اليابانى يوكيوميشيما “كنت أدعى لسنوات طويلة أن بوسعى تذكر أشياء شاهدتها وقت ميلادى، وكلما قلت ذلك كان الكبار يضحكون … الخ”[2]، ولم لا يصدقونه، أخوفا من أن يتذكروا بدورهم؟ أو لنقرأ ماذا قفز الى سطح وعى الكولونيل “أورليانو بونيدا” أمام فصيلة الاعدام: أنه لم تحضره انصع ولا أغرب من “كتلة الجليد” (مجموع رؤوس الابر) التى رآها طفلا منبهرا بدهشة والده فى مهرجان الغجر السنوى.

كان هذا بعض حالى وأنا أستقبل مفاجآت “وعيى الآخر”، بلا مناسبة، ثمانى عشرة سنة مضت وانا اسأل أولادى عن أغنية كنا نغنيها سويا حين كنت أتوجه بهم صباحا الى المدرسة، فلا يتذكرونها، ولا أفعل، وفجأة، وبدون مناسبة وأنا أقود السيارة فى هذا البلد الغريب، تقفز الى وعيى تلك الأغنية بلاذات، برنينها وصليلها، وكلماتها التى تبينت بعد قليل أنى لم أفهم أهم ما فيها، ويرجع الأولاد أطفالا يتقافزون على المقعد الخلفى وبجوارى، ليغطوا، بهذا النشاط الغنائى بعض الغم المدرسى الصباحى، ثم بعد كل هذه السنين، وفجأة، تعود الأغنية تكشف عن نفسها:

كان ثمة فيل يتأرجح،[3]

فوق شبكة من خيوط العنكبوت،

وحين وجد ذلك ممتعا (مهما)

ذهب ينادى فيلا ثانيا

****

اصبحا فيلان يتأرجحان

فوق شبكة من خيوط العنكبوت

وحين وجدا …… الخ الخ

(ثم ثلاثة أفيال … فأربعة … وهكذا)

فى حال الاول، قلت فى نفسى لأولادى، بلاذمة ما المناسبة؟ ثم هأنذا أقولها لنفسى كاتبا، ولعلهم قالوها سرا، فقد خرجنا من الجبل ذى الطريق الوعر الذى كنا نتأرجح فيه، والذى كان أولى باستعادة هذه الأغنية، ثم أن معنى الأغنية لم يكن فى متناولى أصلا حتى ذلك الحين، لكنه النغم.

وقبل أن أعلن مفاجأة ذاكرتى العجيبة أراهن ابنتى على أنى تذكرتها “أخيرا”، وتتعجب، وتنكر، فأنشدها فتشاركنى، فاسألها – لأول مرة – عن معنى الشطر الثانى، فتشرح لى معناه، فأمتلء فرحا طفليا وأنا أشاهد ذلك الفيل الضخم يتأرجح على شبكة العنكبوت، أى حدس، وأى تحد؟!.” الدنيا ..و الوهم(!!)، وتظهر أشجار الفاكهة فى الحدائق حولنا من كل جانب،و كأنها تلتقى فى نهاية الطريق فتسده، وأدعى الخجل م هذا الرطان الخواجاتى، فتتسرب الى ذاكراتى فى ما يشبه الاعتذار التعويضى أغنية قديمة جدا، سمعتها فى طفولتى الأولى بلحنها المطاط، الذى يفرض على من تغنيها من نساء أهل بلدنا أن تحرك كلتا يديها مضومتين أمام فمها ذهابا وعودة فى ترواح هادئ وسلاسة طروب:

“نين[4] يا أبراهيم؟

نشوا الجناين ونمشى منين يا أبراهيم؟

لو كنت تتلف لألفك فى جوز قفاطين،

واشيل المشنة وأقول حلو وعسل ياتين”

****

وتتردد الأغنية، وتتغير الأسماء، فيحل “بركات” محل “ابراهيم” و” جوز ملسات” محل” جوز قفاطين”و “البلح الأمهات” محل “التين”، وهاتيك الحدائق تتكاثف وتتداخل حتى تغلق أمامنا الطريق فى تعابث حلو يسمح لنا بأن نشق الطريق داخلها وكأننا نرصفه أولا بأول، لنردد بذلك على الأغنية بأن” سماح” الحدائق أرحب من “خلق الناس”، وأن م يضيق على المحبين الطريق هو الخوف من داخل،و المطاردة من خارج، وليست أسوار الخضرة التى خلقها الله لترعاهم وتسمح لنا بالاختراق الخلاق.

ولكن ما كل هذا؟ ونحن قد تخطينا هذه المرحلة من الرحلة منذ مدة؟ كان كل ذلك بين “زغرب” و” لجبلجانا”، وها نحن أولاء، قد وصلنا الى الحدود الايطالية، وقد ركنا الأتوبيس حتى مسئول الجوازات أوراقنا، وقد استغرق ذلك وقتا طويلا بالمقارنة بما كان على حدود اليونان ويوغسلافيا. ويبدو أن النقلة من “الشرق” الى “الغرب” (السياسيين) أصعب من العكس (مع أن المفروض عو العكس)، وحين طلب الجندى المسئول أوراق السيارة فرحت وقلت “أخيرا”!! سيثبت أن تعبى فى القاهرة له جدوى، فكل شئ معى بالتمام: الرخص، ودفتر” التربتيك”، واستمارة “129”، ورخصتى الدولية ذات الأختام الخمسة، فأنا أحمل من بلدنا ما يسمح لى بذلك: رخصة درجة أولى (جميع أنواع السيارات)[5]، ورغم كل ذلك فقد مط الرجل شفتيه بعد أن قلب بسرعة واستهانة شديدتين فى كل الأوراق وقال:” الكارت الأخضر” ولم أفهم لأن اوراقى فيها كل الألوان والأرقام: الأ الأخضر. وتحمست للدفاع عن حقى، فقد سألت كل الناس المسئولين فى بلدنا قبل مغادرتها عن المطلوب، وأكدوا لى أنى – هكذا – تمام التمام، وزيادة، ولكن رجل الحدود هز كتفيه مرة اخرى واشار الى مكتب قريب على احد الجانبين، وانصرف كأنى فهمت، ولم أكن قد فهمت وحياة رسول الله، فتابعته وقد اهتزت ثقتى بأوراقى قليلا،محاولا أن أفهمه أنى كنت فى اليونان ويوغسلافيا، ولم يطلب منى أحد شيئا، وانهم بلغت ثقتهم بى، وببلدى (!!) أنهم تركوا أرقام سيارتى باللغة العربية لم يستبدلوها، وأنهم… وأنهم..، وهو يرفض الاستماع أصلا، ويعاود بين الحين والحين الاشارة الى المكتب اياه، ذاكرا شيئا مثل أن اليونان ويوجسلافيا بلاد “أى كلام”، أما بداية من ايطاليا فيبدأ الجد، وايش جاب لجاب، وتصورت أنى عائد لامحالة، وقلت فى نفسى:و الله فكرة! فما شبعت مما رأيت، ولقد مررنا فى بلاد الله وقابلنا من خلق الله ما يحتاج الى شهور وسنين، حتى نستوعب بعض ما يجدر بنا ان نستوعبه، والمسألة ليست بعدد البلاد أو عدد الساعات، وأنما بنوع الرؤية وصدق المعايشة، والله فكره! وذهبت الى المكتب “المشار اليه”، وكررت لفظى “كارت أخضر” فى شكل استفهامى، لعل وعسى، واذا بالآنسة الحلوة كما القشدة الصابحة تبتسم فى وداعة وتمد يدها الى ” دفتر” كله “أخضر فى أخضر”، وتطلب منى ببساطة وترحيب رخصة

****

السيارة فاذهب واحضرها، وتسألنى عن مدة الرحلة فأذكر لها وقما تقريبيا، وادفع ما يوتزى أربعين أو خمسين دولارا، واكتشف أن هذا “الكارت” هو ما يفيد التأمين الاجبارى لصالح الغير على السيارات التى تسير فى بعض بلاد أوربا الغربية باتفاق مشترك، وتعدد لى البنية (القشدة) الحروف المثبتة على الكارت والتى يغطيها التأمين طوال شهر،” وأتنفس الصعداء”(بدا هذا التعبير طريفا مناسبا لمشاعرى فى هذه اللحظة)[6]. وأعود رافعا رأسى كالقائد المنتصر بلا معركة الذى حل اشكالا لم يوجد أصلا، ويلمح بعض أولادى ابتسامى فيطمئنوا الى اكمال الرحلة بعد أن واكبوا قلقى المبدئى وعرفوا بعض تخوفاتى حتى تقلصت امعاؤهم، أما البعض الآخر، فكان يرد على الجندى الذى يتصرف وكانه يفتش أمتعتنا (بالنظر: قال يعنى!)، ويسأل” ويسكى”؟، فيردون:” مسلم”، فيهز رأسه و:أنه فهم، ونمضى بعد أن تخلص من بقايا الدنيارات اليوغسلافية، فى مفس مكتب تبديل العملة، ونحصل على ملايين الليرات الايطالية (فى ثوان: أصبحت مليونيرا!!) فى مقابل عشرات من الدولارات المزهوة المتبخرة فى سوق المال والسياسة.

ونواصل الرحلة فى الأرضى الايطالية.

…………………

نحن فى أقصى شرق ايطاليا، ومازالت الخضرة تحيط بنا، لم يختلف شئ ذو بال، اللهم الا انفراجه فى الوجوه، وتراخى أحدى الساقين فى وقفة جنود المرور،و الاجابات الرحبة التقريبية، ونجاح استعمال اللغة الفرنسية أو الانجليزية بدرجة أكبر، نعم: الفروق قليلة، لكن الدلالات كثيرة.

وسرعان ما”نركب” الطريق السريع المتغطرس مقل الامبرياليين (بصراحة: أنا لا أفهم هذه الكلمة جيدا، ولا استعملها أبدا، ولكنى وجدتها مناسبة هنا بشكل ما … فليصححنى الشعراء والساسة!!).

 وسرعان ما نقترب من محطة بنزين فخيمة جدا، وواسعة جدا، ونعاود البحث عن مصباح أمامى “كامل” لحافلتنا، فلا نجد، فنشرب البارد، ونملأ خزان “البنزين”، ونكتشف فرق السعر مما سبق الاشارة اليه، ونقترب من كوكبة من فرسان “الموتوسيكلات”، عدد كبيرا جدا يمتطى

****

صهوة جياد السباق الأحداث، يختلط فيه الرجال بالنساء بلا تمييز واراهن نفسى لو نجخت فى ” فرز” أيتها أنثى، فاقترب وادور وأدقق باحثا عن شعر حرير، أو صدر ناهد، أو استدارة دالة، بلا طائل، “فالجينز”، والكاب، والسويتر، قد أخفوا كل شئ، ويشك أولادى فى حركاتى، وينظر لها (لحركاتى) بعض الفرسان والفارسات شذار، لا .. أبدا، معذرة، فلا اظن أنى احسنت الوصف، ولا أظن أنهم يعرفون كيف ينظرون شذار[7] أصلا، هم ينظرون “فقط”، ويتعجبون اقل القليل/ اذ من  طبيعتهم – المكتسبة حتما – أن يفبلوا كل احتمال، وكأن من فواعد الحرية الحديثة أنه “… وأنت مالك يا بايخ”، فليس عندهم وقت للنظر شذار أو غيره، يقفون.. وقد يتكلمون فى صمت مباعد، ثم ينطلقون بسرعة مئات الكيلومترات، الى أين؟؟ لست أدرى!!، وقد نبهنى أحد الأصدقاء بعد أن قرأ المقال الأول من هذه الحلقات الى ان المخرج فللينى صور هذه الموجة “الموتوسيكلياتية” مؤخرا فى أحد الأفلام، باعتبار أنها علامة من دلائل الفاشية الجديدة، ربما! ولكنى لم أنتبه لهذا المعنى، ولم أوافق عليه حين عرض على، اذ لم أتصور أن وسيلة الفاشية الجديدة تختلف باختلاف وسيلة المواصلات؟ ولكن قد تكون منطقة الالتقاء فى معانى التأكيد على “الفردية” و”القوة” و”السرعة” و” أوهام الحرية”، ترجمها المخرج الى الفاشية، ووصلنى منها ظاهر الفروسية. المهم: لم أتبين بينهم فتى من

****

فتاة، وعدت الى الأولاد بعد أن استعملوا كل خدمات محطة البترول بلا استثناء، فوجدتهم يتحدثون – بقرف – عن ركاب عربة مجاورة، وحين سألتهم عما جذب انتباههم لهم يزيدوا عن أن ” دمهم ثقيل”، ونظرت فوجدت خمسة من الشباب مثل كل الشباب، ثم أعدت النظر فوجدت فيهم “شيئا ما” قد يبرر مشاعر الأولاد، شيئا ليس طبيعيا، اشبه بخليط من الغرور والاستهانة والتراخى والبجاحة والبهجة المغلقة على أصحابها دون غيرهم، ولم أمتعض وأن كانت شفتاى همتا بذلك.

……………

انظلقنا فى الطريق السريع من جديد، وتمر بنا سيارة “سبور” تجر يختا أحمر اللون جميل المنظر، يقودها رجل يليق بها وتليق به، وينبهنى ابنى للمنظر ويذكر بعض التفاصيل عن ميزات هذه السيارة مما لا أفهم فيه، ويعجب – مثلى – بالتناسق الملئ بالشباب والفتوة بين الثالوث المتسق: السيارة،و اليخت،و القائد، وكأنهم ثالوث يصاحب بعضه بعضا، لا يقود أحدهم الآخرين، ويزداد الطريق اتساعا (هو نفس الاتساع منذ البداية لكن يبلغنى اتساعه)، ونعومة، وتزداد السيارات انطلاقا وازدحاما،و المسافة من تريستا الى فينيسيا لا تحتمل نوما جديدا مهما بدا الطريق متسعا مملا، وقبل أن يعتذر الركاب الخلفيون للنوم يدق أبوابهم (أو يستسلموا له) نلمح عن بعد تباطؤا فى الخمسة الصفوف المتوازية من السيارات المنظلقة، وكنا فى الصف الثالث، وعلى يسارنا صفان يسبقانا فهما اقصر، فاقصر، فأفكر ى أن أنحرف يسارا كسبا لبضع عشرات من الأمتار حتى نتبين سبب التباطؤ، ثم أعدل عن هذا القرار فى آخر لحظة، لنقترب من العربة ذات اليخت أمانا فى نفس الصف، ويبدو أن نفس الخاطر كان قد خطر على قائدها، لكنه نفذه فورا، وما أن ينحرف يسار وبيننا وبينه ثلاث عربات لا أكثر، حتى تمرق من جوارنا سيارة مندفعة جدا، تصدمه جدا جدا، واسمع من خلفى صيحات الأولاد بأنهم (هو أولاد الـ….) –” ألم نقل لكم؟” “كان يبد عليهم” – وقبل أن أسألهم عن مقصدهم اتصور انه نفس الحادث فى الطريق من نيش الى بلجراد، وأنما يعاد تصويره بلاسرعة البطيئة، فقد طار اليخت وانحرفت السيارة محطمة فدخلت فى السيارة المجاورة الى اليمين، التى دخلت بدورها فيما على يمينها، وهكذا حتى الصف الخامس (أقصى اليمين) – حيث كانت تقف سيارة قديمة (نسبيا) صغيرة متواضعة، فيها رجل وزجته وابنه وابنته، وقد أصيبت سيارتهم أصابة بالغة رغم أن جميع ركابها قد سلموا والحمد لله (جسديا على الأقل).. هكذا فى لمح البصر. واقول لنفسى: اين الشطارة؟ وسبحان المنجى!! فلو أن هذا الحادث تأخر الى  يسارى بضعة أمتار، رغم أنى ملتزم بكل قواعد المرور،و الخوف، والحساب، لكنا الآن فى “كلام ثان”، أو بالتعبير الأحدث: لرحنا فى أبو ليرة – واللبرة اقل من النكلة – وأذكر القارئ بما سبقت الاشارة اليه عن قانون الطرق السريعة أنه ..” لكل حسب قدرته”. وارجع أستفسر عن ما عناه أولادى من تلك التعليقات الفورية، وقبل أن أسألهم يتوقف بصرى عند اصفرارا وجه رب العائلة فى أقصى اليمين، وهو يلف حول سيارته المحطمة ويحتضن طقليه، ويظل هذا اللون الأصقر عالقا على وجه ادراكى حتى يكاد ينسحب على فكرى، فأقاوم الشحوب دافعا بدماء حيوية دهشتى الى ألفاظى، وقبل أن أعلن السؤال اسمعهم يقولون: أنهم “هم” الشبان الخمسة ثقلاء الدم اياهم، وأنهم “أولادى” كانوا يشعرون منذ البداية أنهم (الشبان)” لن يجيئوا بها إلى بر” وظللت أتأمل هذا الربط العنيد من جانب الأولاد بين “ثقل دم الجناة”، و” تناسق فتوة” المجنى عليه الأأول، فأن صح قولهم وما ترتب عليه من غلبة الشر بلا مناسبة، وأن صحت المقابلة بأثر رجعى بين قوتين استرعنا انتباهنا قبل الحادث، فما ذنب أولئك الضحايا الأبرياء خارج لعبة التحدى المفترض؟؟، وأحاول أن أخفف الوقع على مشاعر ابنى فأمزج معه، قائلا:”نقرت الرجل عينا باعجابك بسيارته وفتوته ويخته”، فبحزم بأنه “لا”، واصدقه. فقد كان اعجانبا بثالوث الفتوة أقرب الى الاستماع بتناسق جمالى منه الى تطلع الى أوجه الرفاهية التى يرمز اليها. وادعو له بالشفاء،و لنا بالستر ولرب العائلة المصفر الوجه بالستر، وعلى ثقلاء الظل الـ… –لم استكيع أن أدعو عليهم بشئ رغم أن عدوى نفور أولادى منهم كانت قد اصابتنى بمثل ما شعروا،و لكن ما هى الحكاية، وما معنى ربط أولادى بين عربة الخمسة الأشرار، وبين عربة الفتوة المتناسقة باعتبارها تمثل الطبيعة الخيرة المنطلقة؟ وماالذى جعلهم ينزعجون لتصور أن تصدم “الوقاحة” “الفتوة”، أن يحطم الشر الخير حتى لو نال الصادم جزاءه بتحطيم سيارته واصابته شخصيا بدرجات لم نتبين مدى خطورتها تفصيلا؟ وأحاول أن أفهمهم خطأ المبالغة والحساب، وأن عربة “الفتوة” هى المخطئة لأنها انحرفت يسارا فجاة، فيردون: ولكن هؤلاء “السفلة” هم الذين مرقوا مندفعين، وأكتشف أن ثمة بعدا آخر وراء هذا التقابل،و هو ما تنبأوا به مسبقا – بسمل ما – بأنها لن تأتى سليمة مع هؤلاء الأوغاد، فأسكت غير مصدق .. ولكنى لا أستطيع التمادى فى الرفض معتمدا على منطقى السليم، وفرضى أن أحكامهم جاءت بأثر رجعى بعد الحادث لا قبله، ولكنها اذا كانت” خناقة” بين الشر النشاز، وبين الطبيعة الفتية، فما ذنب بقية الضحايا المسالمين؟ ولماذا يدهم الشر الخير (فرضا)؟؟

أنا مالى ؟ له فى ذلك حكم؟ وما توقفت هنا الا لأعلن احتمال ان الطريق يوقظ بشكل ما علاقة أخرى بالطبيعة البشرية والحدس والتنبؤ وألعاب القدر وضعف الحسابات.

****

ويعاود الركب سيره بعد قليل (قليل فعلا رغم عدد السيارات المحطمة والبنى آدمين المصابين) – وابحث – كما سبق – عن آثار الحادث،و الموعظة،و الألم، والمشاركة، فى وجوه قائدى السيارات من حولى، المارقين عن يمينى وعن يسارى بنفس السرعة وأكثر، فلا أجد لها أثر، وأكرر لنفسى دهشتى نم “سرعة المحو “Undoing  (أول بأول يا “وعى” حول)، ولكن نظرة الى مرآة السيارة ترينى وجهى فأخجل من أحكامى وارجع الى تساؤلاتى القديمة: كل هؤلاء الناس، كل هذه السيارات، كل هذه النقود، كل هذه الحوادث، كل هذه الكيلومترات… الى أين؟ حقيقة وفعلا..؟ ألى أين………؟

وتخرج ابنتى كتاب “المخيمات” المرتب بأبجدية منظمة حسب البلد والموقع وعدد النجوم ورقم التليفون لكل غرب أوربا تقريبا، وتجد اسم اقرب مخيم الى فينيسيا، وتقرا لنا مواصفاته،و أوافق وننقل رقم تليفونه استعدادا لمكالمته من أول محطة بنزين على مشارف المنطقة، وفعلا نصل الى محطة بنزين جميلة، ولكنها صامتة خالية مثل “حوش” قبر أحد الوجهاء، ونتذكر أن اليوم هو الأحد، وأقول فى نفسى “احسن”، فأنا لا احب الاهتداء الى أماكن اقمتى فى الرحلات بالتليفون والتخطيط المسبق، وأنما بسؤال المارة، ومفأجات المصادفة، فبهذا اكتشف ما لم أحسب، ثم أنى أثق فى حسن السيارة التى اصاحبها أكمثر من ثقتى بأى دليل مخيمات أو تليفونات،و أعرف يقينا أنها (السيارة) ستقودنى بحنان واع الى أفضل مكان. ونبدأ رحلة السؤال، ويكفى أن تذكر كلمة واحدة حتى يبدأ الشرح واضحا مرحبا – نعم: هؤلاء الناس طيبون، ولم لا؟ ونقول كلمة السر المناسبة للمقام “مخيم؟؟ “Camping”- وتجئ أغلب الردود متشابهة ” مطار airoporto”، ونفهم – أخيرا – أن المخيم يقع فى اتجاه، أو بجوار المطار، ونبدا فى السؤال:”مطار”؟؟، ثم تظهر علامات مخيم “ماركوبولو” كثيرة جدا، ومتتالية جدا، ونتوقع خيرا رغم تخوفى من احتمال بعد المسافة عن فينيسيا البلد (ايش جاب المطار للمراكب؟). والشمس قاربت الغروب، ولابد من الاسراع حتى نتمكن من نصب الخيمة قبل الظلام، ونمر على قرية صغيرة مما أحب، فأواعدها وأأتنس بالبعد عن المدنية، وما زلنا وراء الأسهم حتى وصلنا الى هذا الـ”ماركوبولو”، فاذا به مثل ممر من الزلط، وقد اصطفت بطوله العربات والخيم بشكل يشعرك أنك لابد أن ترحل بعد ساعة، أو أنك على أهبة سماع النفير للانطلاق الى معركة “ما”، أو أنك لابد وان تبيت الليل  داعيا فى انتظار الصباح لمشاهدة اسمك مع املفرج عنهم لحسن السير والسلوك أو لانتهاء العقوبة، ومع كل ذلك يهم بعضنا بالموافقة، ويصر الآخرون على البحث من جديد، ويغلب الرأى الأخير ونذهب لنسترد جوازات السفر، ونعتذر، فبمط المسئول شفتيه، فنتمادى فى الاستعباط ونسأله عن مخيم قريب آخر، فيقول لنا أنه أغلى بكثير، فنقول: ولو ولكن “اين” فيستعبط بدوره، قائلا:”هنا أو هناك، فى كل مكان”[8] ماطا شفتيه فى غعيظ (أو قرف.. لست متأكد) – ويظن أنه يسوق علينا اللؤم جزاء وفاقا، فتذكرنا احدى بناتى انها شاهدت لوحة قبيل هذا المخيم فيها اسم آخر “لمخيم آخر”، وأنها متأكدة، فنجعلها ترشدنا اليها، ونكتشف أن اللوحة على بعد عشرة أمتار فحسب من باب هذا المخيم “المعتقل” “الممر”،و نهم أن نرجع لصاحبه نطلع له لساننا، ولكن الطيب أحسن/ ونصل الى المخيم الآخر والعربة تكاد تقفز فرحا لأنها تخلصت من هذه الوحدة فوق ذاك الحصى الجاف غير الحنون، وعلى بعد كيلو متر ونصف لا غير نجد شيئا آخر، بحق، وكأننا انتقلنا فجأة، بوعد مسبق، الى حلمنا المتوارى فى أرضية تحفظاتنا المادية.

صحيح أن السعر مختلف، لكنه ثمنه فيه، ونؤجر “بنجالوز”، بالاضافة الى ما معنا من خيم، وهو كوخ جميل يسع أربعة اسرة (كل زوج فوق بعضه) لكنه رحب، وأمامه جلسة وارائك مصفوفة، وننصب الخيمة لأول مرة، وبسرعة مناسبة لم نكن نتوقعها، ونكتشف مدى التمزق الذى ترتب على محاولاتى االابداعية التعويضية الخائبة فى “بلجراد”، ومع ذلك يسير الحال حتى الصباح.

****

الجو‏ ‏شديد‏ ‏الانعاش‏ ‏والحنان‏ ‏معا‏، ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الدفء‏ ‏الذى ‏يتوارى ‏فى ‏وداعة‏ ‏أمام‏ ‏نسمة‏ ‏ليل‏ ‏تتهادى ‏قبل‏ ‏الأوان‏، ‏والمخيم‏ ‏به‏ ‏مطعم‏، ‏وسوق‏ ‏أعظم‏ (‏سوبر‏ ‏ماركت‏) ‏وخدمة‏ ‏هاتفية‏، ‏وحمام‏ ‏سباحة‏، ‏وناس‏، ‏نعم‏ ‏ناس‏ ‏بحق‏ (‏وحقيق‏)، ‏لا‏ ‏معتقلين‏، ‏ناس‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏بلد‏ ‏وجنس‏ – ‏كما‏ ‏أعرف‏ ‏المخيمات‏ ‏تماما‏ – ‏وأقول‏ ‏للأولاد‏: ‏هذا‏ ‏هو‏… ‏وزيادة‏!! ‏ويوافقوننى ‏دون‏ ‏إيضاح‏، ‏وتبدو‏ ‏السعادة‏ ‏بغير‏ ‏حدود‏ ‏على ‏ولدى ‏الأصغرين‏، ‏وتنتقل‏ ‏إلى ‏بسهولة‏، ‏وأكشف‏ ‏أن‏ ‏عدوى ‏الفرحة‏ ‏الطفلية‏ ‏التى ‏أصابتنى ‏هى ‏ناتجة‏ ‏من‏ ‏إطلاق‏ ‏سراح‏ ‏طفلى ‏من‏ ‏داخلى ‏بمثير‏ ‏مباشر‏ ‏لم‏ ‏يستأذن‏، ‏أعنى ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏فرحة‏ ‏والد‏ ‏أو‏ ‏جد‏ ‏بفرح‏ ‏أطفاله‏، ‏بل‏ ‏أنى ‏فرحت‏ ‏أكثر‏ ‏لأنى ‏وجدت‏ ‏من‏ ‏يشاركنى (‏هكذا‏) ‏الذى ‏تأهب‏ ‏للانطلاق‏ ‏بلا‏ ‏تردد‏ ‏أو‏ ‏كلام‏ ‏كثير‏.‏

وأنا‏ ‏لى ‏موقف‏ ‏مؤلم‏ ‏متعلق‏ ‏بصداقتى ‏للأطفال‏ ‏والشباب‏ ‏عبر‏ ‏تاريخى ‏كله‏، ‏وأنا‏ ‏لست‏ ‏طفلا‏ ‏فى ‏ظاهر‏ ‏وجودى ‏الحالي‏، .. ‏كما‏ ‏أنى ‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏طفلا‏ ‏كما‏ ‏أسمع‏ ‏عن‏ ‏الأطفال‏، ‏أو‏ ‏كما‏ ‏درست‏ ‏عن‏ ‏الأطفال‏، ‏أو‏ ‏كما‏ ‏أدرس‏ (‏وآفتي‏) ‏عن‏ ‏الأطفال‏، ‏ثم‏ ‏أنى ‏لا‏ ‏أحترم‏ ‏الاشاعات‏ ‏التى ‏تطلق‏ ‏على ‏براءة‏ ‏الأطفال‏ ‏وطهارة‏ ‏الأطفال‏ ‏دون‏ ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏من‏ ‏أنانيتهم‏ ‏وقسوتهم‏ – ‏وذات‏ ‏مرة‏ ‏كتبت‏ ‏فى ‏الأهرام‏ ‏أهاجم‏ ‏حكاية‏ “براءة‏ ‏الأطفال‏ ‏فى ‏عينيه‏”[9]، ‏مذكرا‏ ‏القاريء‏ ‏بمنظر‏ ‏ذلك‏ ‏الطفل‏ ‏وهو‏ ‏يربط‏ ‏عصفورا‏ ‏اصطاده‏ ‏هو‏ ‏وأقرانه‏ ‏ثم‏ ‏قد‏ ‏يقضم‏ ‏رأسه‏ ‏فى ‏برود‏ ‏مرعب‏، ‏أو‏ ‏منظر‏ ‏مجموعة‏ ‏الأطفال‏ ‏وهم‏ ‏يجرجرون‏ ‏صغار‏ ‏القطط‏ ‏بحبل‏ ‏من‏ ‏رقابهم‏ ‏قد‏ ‏يخنقهم‏ ‏فى ‏أى ‏لحظة‏، ‏وأتذكر‏ ‏منظرنا‏ ‏ونحن‏ ‏ننزع‏ ‏زبان‏ ‏زنبور‏ ‏لنحبس‏ ‏أرجله‏ ‏فى ‏شق‏ ‏بوصة‏ ‏مشقوقة‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏تدور‏ ‏أفقيا‏ ‏فوق‏ ‏شوكة‏ (‏سلة‏: ‏بكسر‏ ‏السين‏) – ‏قال‏: ‏نعمل‏ ‏ساقية‏، ‏وكم‏ ‏خرجت‏ ‏أمعاء‏ ‏أثناء‏ ‏هذه‏ ‏العمليات‏ ‏الجراحية‏ ‏البدائية‏، ‏ولا‏ ‏نكف‏ ‏عن‏ ‏المحاولة‏!! ‏فأنا‏ ‏لم‏ ‏أخدع‏ ‏أبدا‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏طفلي‏، ‏وحين‏ ‏أصاحب‏ ‏الأطفال‏ ‏لا‏ ‏أعنى ‏تقديسا‏ ‏لبراءة‏ ‏مزعومة‏، ‏وإنما‏ ‏مواكبة‏ “لفطرة‏ ‏واعدة‏” ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏سرقت‏ ‏حينذاك‏ ‏بغير‏ ‏علمي‏، ‏من‏ ‏يدرى؟‏ ‏وهأنذا‏ ‏أراجع‏ ‏طفولتى ‏بمعايشة‏ ‏جديدة‏ (‏وليس‏ ‏بتذكر‏ ‏معاد‏)، ‏فأنا‏ ‏أتمثل‏ ‏صحوتها‏ ‏التى ‏رقصت‏ ‏مع‏ ‏أولادى ‏الأصغر‏ ‏وهم‏ ‏يهتفون‏ ‏لمخيم‏ “الألبادورو‏” ‏ممنين‏ ‏أنفسهم‏ ‏بسباحة‏ ‏وجرى ‏وانطلاق‏، ‏فصداقتى ‏لطفلى ‏الرحلة‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏اللحظة‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏صداقة‏ ‏الوالد‏، ‏بل‏ ‏القرين‏.‏

على ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏بعدا‏ ‏آخر‏ ‏يجعلنى ‏أقدر‏ ‏على ‏مصاحبة‏ ‏الأصغر‏، ‏ذلك‏ ‏أنهم‏ ‏يفهموننى ‏أكثر‏، ‏كما‏ ‏أنى ‏أتحملهم‏ – “بما‏ ‏هم‏ ‏اجمالا‏” – ‏أكثر‏، ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏كتبت‏ ‏كلاما‏ ‏يقول‏ ‏عنه‏ ‏الكبار‏ ‏أنه‏ ‏غامض‏، ‏فيلتقطه‏ ‏أصدقائى ‏الأصغر‏ ‏بشكل‏ ‏يطمئن‏، ‏وكلما‏ ‏زرت‏ ‏أقاربا‏ ‏لى ‏هنا‏ ‏أو‏ ‏هناك‏، ‏فى ‏القرية‏ ‏أو‏ ‏فى ‏المدينة‏، ‏وصعبت‏ ‏على ‏مجالسة‏ ‏الكبار‏ ‏ومجاراة‏ ‏أحاديث‏ ‏القيل‏ ‏والقال‏، ‏وكثرة‏ ‏السؤال‏، ‏وأحول‏ ‏المال‏، ‏أهرب‏ ‏إلى ‏الأصغر‏ ‏فأجدهم‏ ‏فى ‏انتظارى ‏بما‏ ‏أنتظر‏ ‏منهم‏، ‏فأشاركهم‏ ‏وأحتمى ‏بهم‏ ‏من‏ ‏حديث‏ ‏الكبار‏، ‏وتتراوح‏ ‏أعمار‏ ‏أصدقائى ‏هؤلاء‏ ‏بين‏ ‏الثالثة‏، ‏والثامنة‏ ‏عشرة‏، (‏أو‏ ‏حول‏ ‏ذلك‏)، ‏ولكنى ‏لا‏ ‏أدرى ‏أين‏ ‏يذهبون‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏لأنى ‏انتبهت‏ ‏أنه‏ ‏بمرور‏ ‏الأيام‏ ‏أجد‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأصدقاء‏ ‏يشيخون‏ (‏لا‏ ‏يكبرون‏) ‏بمجرد‏ ‏عبور‏ ‏حاجز‏ ‏العشرين‏ ‏أو‏ ‏الخمس‏ ‏وعشرين‏، ‏وأنا‏ ‏كما‏ ‏أنا‏، ‏ماذا‏ ‏يحدث؟‏ ‏لعلهم‏ ‏يعقلون‏..‏؟‏ ‏طيب‏…، ‏وأنا؟‏ ‏أليس‏ ‏من‏ ‏حقي‏، ‏أو‏ ‏من‏ ‏واجبي‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏قدري‏، ‏أن‏ ‏أهمد‏ ‏وأعقل؟‏ ‏ثم‏ ‏ماذا‏ ‏يعقلهم‏ ‏هكذا‏ ‏لدرجة‏ ‏الانطفاء‏ ‏الباهت؟‏ ‏فى ‏أول‏ ‏الأمر‏: ‏يتمذهبون‏ ‏يمينا‏ ‏أو‏ ‏يسارا‏، ‏سلفا‏ ‏أو‏ ‏ادعاء‏ ‏ثورة‏، ‏ثم‏ ‏ينقلبون‏ ‏أبواقا‏ ‏مرددة‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏كانوا‏ ‏مصانع‏ ‏أفكار‏ ‏مجددة‏,‏وبعد‏ ‏ذلك‏ ‏يلبسون‏ ‏قميص‏ ‏أكتاف‏ ‏الزوجة‏ ‏فالوظيفة‏، ‏فالقرش‏ ‏أحيانا‏، ‏والخوف‏ ‏أحيانا‏، ‏حسب‏ ‏حظ‏ ‏أى ‏منهم‏ ‏من‏ ‏الإعارة‏ ‏أو‏ ‏التجارة‏، ‏وما‏ ‏أن‏ ‏ألتقى ‏بأحدهم‏ ‏بعد‏ ‏سنوات‏ ‏من‏ “تحويل‏ ‏مجرى ‏الوعي‏” ‏هذا‏، ‏حتى ‏أجدنى ‏أمام‏ ‏كهل‏ ‏بارد‏ ‏عاقل‏ ‏مفضال‏ (‏نعم‏ “مفضال‏” ‏وليس‏ ‏فاضلا‏ ‏فقط‏!!)، ‏فأشوح‏ ‏له‏ ‏بيدى ‏فى ‏سرى ‏أن‏ “تشاور‏” (‏وداعا‏) (‏مازلنا‏ ‏فى ‏إيطاليا‏!!) – ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏حديثى ‏مع‏ ‏هذا‏ “المفضال‏” ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏صار‏ “هكذا‏” ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يخرج‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ “السباب‏ ‏السياسي‏” ‏و‏ “السخط‏ ‏الاقتصادي‏” ‏يم‏ ‏يتعثر‏، ‏ثم‏ ‏يتوقف‏، ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏أنصرف‏ ‏داخليا‏، ‏فينصرف‏ ‏زاهدا‏ ‏فى ‏أو‏ ‏مشفقا‏ ‏علي‏، ‏أو‏ ‏رافضا‏ ‏إياي‏، ‏ولا‏ ‏حول‏ ‏ولا‏ ‏قوة‏ ‏إلا‏ ‏بالله‏، ‏فأنتقل‏ ‏إلى ‏الجيل‏ ‏الأصغر‏، ‏ويتكرر‏ “النص‏” Script ‏حتى ‏أنى ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أعد‏ ‏الآن‏ ‏أربعة‏ ‏أجيال‏ ‏من‏ ‏الشباب‏ (‏أو‏ ‏الذين‏ ‏كانوا‏ ‏شبابا‏) ‏على ‏الأقل‏ ‏ممن‏ ‏تخطونى ‏جميعا‏ ‏الجيل‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏، ‏وأنا‏ ‏واقف‏ ‏فى ‏نفس‏ “المحطة‏” ‏فاغرا‏ ‏فاهي‏، ‏متعجبا‏ ‏مما‏ ‏يجرى ‏على ‏هؤلاء‏ ‏الأطفال‏ ‏والشباب‏ ‏ضد‏ ‏كل‏ ‏حسابات‏ ‏الفطرة‏ ‏الواعدة‏ ‏فعلا‏، ‏أو‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏حساباتى ‏الأملة‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الفطرة‏ ‏الواعدة‏، ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏يعلمنى ‏أن‏ “أعقل‏” ‏أو‏ “أياس‏”، ‏ولكنى ‏تعلمت‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏أهم‏، ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏أتوقع‏ ‏هجرهم‏ ‏وعقلهم‏ ‏وشيخوختهم‏ ‏دائما‏ ‏أبدا‏، ‏فأستقبلها‏ ‏بما‏ ‏ينبغى ‏من‏ ‏واقعية‏ ‏وصبر‏ ‏وألم‏ ‏طبعا‏، ‏ولكن‏ ‏دون‏ ‏دهشة‏ ‏أو‏ ‏احتجاج‏ ‏أو‏ ‏مقاومة‏، ‏وما‏ ‏دامت‏ ‏الأجيال‏ ‏تتعاقب‏، ‏فلا‏ ‏ضير‏ ‏علي‏، ‏وسأجد‏ ‏الرفاق‏ ‏الأصغر‏ ‏دائما‏ ‏فى ‏انتظاري‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏نجحت‏ “أسرة‏ ‏المستقبل‏” ‏أن‏ ‏توقف‏ ‏عجلة‏ ‏المستقبل‏ (‏مالهم‏ ‏هم‏ ‏يا‏ ‏ناس؟‏ ‏أولياء‏ ‏أمورنا؟‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏فى ‏الأمر‏ ‏ملعوبا‏!!) – ‏وذات‏ ‏مرة‏ ‏سألت‏ ‏أحد‏ “العقلاء‏” ‏زملائى ‏عن‏ ‏سر‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏فقال‏ ‏لى ‏أنى “أى ‏كلام‏”، ‏لذلك‏ ‏فأنى ‏استسهل‏ ‏الضحك‏ ‏على ‏ذقون‏ ‏الأصغر‏، ‏ولكنى ‏لا‏ ‏أحتمل‏ ‏الصراع‏ ‏التنافسى ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الأكبر‏، ‏ورعبت‏ ‏من‏ ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ذلك‏ ‏صدقا‏، ‏ومرة‏ ‏قال‏ ‏آخر‏ ‏أنى ‏استغل‏ ‏انبهارهم‏ ‏بى ‏فأستعملهم‏ ‏لملء‏ ‏فراغ‏ ‏وجودي‏، ‏يا‏ ‏خبر‏!! ‏محتمل‏!‏؟‏ ‏ولكن‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأكبر‏ ‏الذين‏ ‏يهددون‏ ‏وجودى ‏الهش‏ ‏بوجودهم‏ ‏الراسخ‏ ‏لا‏ ‏يحاوروننى ‏أصلا‏، ‏هم‏ ‏يزدادون‏ ‏قوة‏ ‏وبطشا‏ ‏فيزدادون‏ ‏اصرارا‏ ‏وثباتا‏، ‏فأين‏ ‏التنافس‏ ‏والخوف‏ ‏مما‏ ‏يمثلون؟‏ ‏هل‏ ‏يستدرجوننى ‏لأعمل‏ ‏مثلهم‏ ‏دون‏ ‏حوار‏ ‏أصلا؟‏ ‏وأنا‏ ‏لا‏ ‏أنكر‏ ‏أنى ‏أفعل‏ ‏مثلهم‏ ‏وزيادة‏ (‏وإلا‏ ‏ما‏ ‏استطعت‏ ‏أن‏ ‏أكتب‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏وأنشره‏)، ‏ولكنى ‏لا‏ ‏أتنازل‏ ‏عن‏ ‏أملى ‏فى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ذلك‏ ‏وسيلة‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏بعده‏، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يتحقق‏ ‏مع‏ ‏الكبار‏ ‏عامة‏، ‏وساء‏ ‏صدق‏ ‏ظنهم‏ ‏في‏، ‏أم‏ ‏صدق‏ ‏أملى ‏فى ‏الأصغر‏، ‏فهذه‏ ‏هى ‏حكايتى ‏مع‏ ‏الأجيال‏، ‏ومادامت‏ ‏النساء‏ ‏تنجب‏ ‏أطفال‏، ‏فأنا‏ ‏سأجد‏ ‏الأصدقاء‏ ‏دائا‏ ‏مهما‏ ‏اعتبرى ‏الكبار‏ “أى ‏كلام‏”، ‏واعتبرنى ‏الصغار‏ ‏مجرد‏ “محطة‏” ‏لابد‏ ‏من‏ ‏تجاوزها‏..، ‏غير‏ ‏أنى ‏أتعجب‏: ‏ألم‏ ‏يكن‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الأرجح؟‏ ‏وكان‏ ‏المنتظر‏ ‏أن‏ ‏آعتبر‏ ‏أنا‏ ‏الصغار‏ ‏حلما‏ ‏مثاليا‏ ‏فانتظرهم‏ – ‏بعد‏ ‏السماح‏ – ‏فى ‏المحطة‏ ‏التالية‏: ‏محطة‏ ‏العقل‏ ‏والتدبر‏، ‏أو‏ ‏محطة‏ ‏الخوف‏ ‏وبعد‏ ‏النظر‏، ‏أو‏ ‏محطة‏ ‏المكسب‏ ‏والشحم‏ ‏الزاحف‏ ‏حول‏ ‏الأوعية‏ ‏الدموية‏ ‏والمغطى ‏للأفكار‏ ‏الطازجة‏، ‏أو‏ ‏محطة‏ ‏تكرار‏ ‏العمرات‏ ‏غير‏ ‏الخالصة‏، ‏والصفقات‏ ‏الدينية‏ ‏السرية‏، ‏فلماذا‏ ‏انقلب‏ ‏الحال‏ ‏وأصبحت‏ ‏أنا‏ ‏المتخلف‏ ‏عند‏ ‏محطة‏ ‏الطفولة‏ ‏الدائمة‏ ‏الدهشة‏ ‏والقلقلة‏!!‏؟

المهم‏، ‏نرجع‏ ‏مرجعنا‏ ‏إلى ‏صديقى ‏الطفلين‏ ‏الفرحين‏ ‏بالألبادورو‏، ‏وهما‏ ‏يساعداننى ‏فى ‏تهيئة‏ ‏المكان‏ ‏المعد‏ ‏للجلوس‏ ‏أمام‏ ‏الكوخ‏ (‏البنجالوز‏)، ‏وعلى ‏بعد‏ ‏خطوات‏ ‏تقبع‏ ‏الخيمة‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏منذ‏ ‏بدأنا‏ ‏الرحلة‏. ‏وتذهب‏ ‏بناتى ‏الأربع‏ ‏إلى ‏السوق‏ ‏الأعظم‏ (‏السوبر‏ ‏ماركت‏) ‏ليبضعوا‏ ‏عشاءنا‏، ‏وكنا‏ ‏قد‏ ‏نوينا‏ ‏أن‏ ‏نقبع‏ ‏هذا‏ ‏المساء‏ ‏لنطبخ‏ ‏لأنفسنا‏ ‏شيئا‏ ‏يناسب‏ ‏النسيم‏ ‏العليل‏ ‏والمخيم‏ ‏الفخيم‏، ‏ونكتشف‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏نملك‏ ‏أناء‏ ‏للطبيخ‏ ‏أصلا‏، ‏فنلمح‏ ‏طاسة‏ ‏أمام‏ ‏الكوخ‏ ‏المجاوز‏، ‏ورجل‏ ‏خواجة‏ (‏شديد‏ ‏الخواجاتية‏) ‏وقد‏ ‏تخطى ‏منتصف‏ ‏العمر‏ ‏يلبس‏ “شورتا‏” ‏يروح‏ ‏ويجيء‏، ‏فنبدأ‏ ‏ممارسة‏ ‏هواية‏ ‏المخيمات‏ ‏فى “الاستدانة‏ ‏بالعشم‏”، ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏لاحظت‏ ‏منذ‏ ‏قديم‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المبدأ‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏أساسيات‏ ‏التعامل‏ ‏فى ‏المخيمات‏، ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏الكرم‏ ‏التلقائي‏، ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏مخيم‏ ‏فى ‏سويسرا‏ / ‏جنيف‏ (1969) ‏حين‏ ‏تقدم‏ ‏جار‏ ‏لنا‏، ‏وناداني‏، ‏وأشار‏ ‏إلى ‏وعاء‏ ‏واسع‏، ‏عميق‏، ‏حديدى ‏وأسود‏ ‏له‏ ‏أرجل‏ ‏رفيعة‏، ‏وبجواره‏ ‏كيس‏ ‏من‏ ‏النايلون‏ ‏أشد‏ ‏سوادا‏، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏لى ‏عهد‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ “السواد‏” ‏للاستعمال‏ ‏الأدمي‏، ‏وبعد‏ ‏عدة‏ ‏إشارات‏ ‏دالة‏، ‏مع‏ ‏بضع‏ ‏كلمات‏ ‏فرنسية‏، ‏تصورت‏ ‏أن‏ ‏الرجل‏ ‏يظن‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الأشياء‏ ‏ملكي‏، ‏وأنها‏ ‏كانت‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏تلوث‏ ‏بعض‏ ‏أمتعته‏ – ‏مثلا‏ – ‏فأخذت‏ ‏أشرح‏ ‏فى ‏حماس‏ ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏أشيائي‏، ‏وأنا‏ ‏مالي‏، ‏وأنى ‏آسف‏، ‏وأنى ‏مبتديء‏، ‏وطال‏ ‏فى ‏المقدر‏ ‏جديد‏، .. ‏وجميع‏ ‏عبارات‏ ‏الدفاع‏ ‏المحتملة‏، ‏والرجل‏ ‏يبتسم‏ ‏ويهز‏ ‏أكتافه‏ ‏ويشرح‏ ‏عرضه‏ ‏بتواضع‏ ‏جم‏، ‏مما‏ ‏اضطرنى ‏أو‏ ‏أردد‏، ‏فى ‏استسلام‏ “نعم‏”.. ‏أو‏ .. “ليكن‏”.. ‏أو‏ .. “ماشي[10] ‏ولم‏ ‏أكن‏ ‏أعرف‏ ‏ما‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏أو‏ ‏يمشي‏، ‏فإذا‏ ‏به‏ ‏يذهب‏ ‏متحمسا‏ ‏ويحضر‏ ‏الأشياء‏ ‏السوداء‏ ‏ويضعها‏ ‏بجوار‏ ‏خيمتنا‏، ‏ثم‏ ‏يكتشف‏ ‏سوء‏ ‏نصبنا‏ ‏للخيمة‏، ‏فيترك‏ ‏سيارته‏ ‏وأهله‏ ‏ويساعدنا‏ ‏فى ‏آصلاح‏ ‏ما‏ ‏آفسده‏ ‏المطر‏ ‏وقلة‏ ‏الخبرة‏، ‏ويستغرق‏ ‏ذلك‏ ‏وقتا‏ ‏كل‏ ‏هو‏ ‏أولى ‏به‏ ‏وقد‏ ‏استعد‏ ‏للرحيل‏ ‏الفوري‏، ‏واستشعر‏ ‏هذه‏ ‏الفروسية‏ ‏الخواجاتية‏، ‏وأن‏ ‏مسألة‏ ‏عصر‏ ‏السرعة‏، ‏وقيمة‏ ‏الوقت‏، ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏علاقة‏ ‏دالة‏ ‏دائما‏  ‏على ‏تدهور‏ ‏الخلق‏ ‏وموت‏ ‏الشهامة‏، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏المعسكرات‏، ‏وربما‏ ‏كان‏ ‏الحنين‏ ‏إلى ‏التخييم‏ ‏هو‏ ‏لانماء‏ ‏هذا‏ ‏الخلق‏ ‏التعاوني‏، ‏ورعاية‏ ‏الكرم‏ ‏الفطري‏، ‏فالسواد‏ ‏الذى ‏أعطانى ‏اياه‏ ‏كان‏ ‏شواية‏ ‏وفحما‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إليها‏،

‏والعون‏ ‏الذى ‏بذله‏ ‏كان‏ ‏تلقائيا‏ ‏وطيبا‏. ‏تذكرت‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏وشجعنى ‏على ‏استعارة‏ “الطاسة‏” ‏من‏ ‏جارنا‏ ‏الخواجة‏ ‏جدا‏، ‏فيبادر‏ ‏الرجل‏ ‏باسما‏ ‏مرحبا‏، ‏ونشعر‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏أن‏ “الدنيا‏ ‏بخير‏”، ‏وأن‏ ‏الناس‏ ‏لبعضها‏، ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏الاستعارات‏ ‏الصغيرة‏ ‏بين‏ ‏الجيران‏ (‏هل‏ ‏تذكر‏ ‏لعبة‏: “حبة‏ ‏ملح‏”، “عند‏ ‏الجارة‏”؟‏) – ‏مع‏ ‏مشاكلها‏ ‏الطريفة‏ – ‏تعطى ‏للحياة‏ ‏معنى ‏آخر‏ ‏يتحدى “الاستكفاء‏ ‏الذاتي‏” (:‏الذواتي‏” ‏فى ‏العادة‏) – ‏ذلك‏ ‏أنه‏ – ‏حتى ‏مع‏ ‏الكتابة‏ ‏والغنى – ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏للعلاقات‏ ‏الإنسانية‏ ‏طعم‏ ‏إلا‏ ‏بــ‏ “خذ‏.. ‏وهات‏”، ‏وهذا‏ ‏الاستكفاء‏ ‏الذاتى ‏إذا‏ ‏زاد‏ ‏أصبح‏ ‏استغناء‏ ‏قبيحا‏ ‏يشوه‏ ‏الدنيا‏ ‏ويكثف‏ ‏الجليد‏ ‏على ‏طرق‏ ‏مواصلات‏ ‏البشر‏. ‏ونوقد‏ ‏الموقد‏ (‏البوتاجاز‏) ‏الصغير‏ ‏لنعمل‏ ‏شايا‏ ‏مصريا‏ ‏ونستعد‏ ‏لأكله‏ ‏شهية‏، ‏وتعود‏ “لجنة‏ ‏المشتريات‏” ‏بحمولتها‏ ‏الثمينة‏ ‏وأسألهن‏ ‏أن‏ ‏كن‏ ‏قد‏ ‏راعين‏ ‏نوع‏ ‏اللحم‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏خنزيرا‏، ‏فيؤكدون‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏كذلك‏، ‏ولكنى ‏أشك‏ ‏فى ‏منظره‏، ‏ويعدن‏ ‏ليتأكدن‏، ‏فإذا‏ ‏بالشك‏ ‏يصبح‏ ‏يقينا‏، ‏وتبدى ‏أحداهن‏ ‏استعدادها‏ ‏لدفع‏ ‏ثمن‏ ‏الخطأ‏، ‏وتصر‏ ‏أخرى ‏على ‏ارجاع‏ ‏اللحم‏ “بالعافية‏”، ‏ويظهر‏ ‏أن‏ ‏السبب‏ ‏أنهن‏ ‏نطقن‏ “الخنزير‏” ‏بالفرنسية‏ Pork  ‏والانجليزية‏ Harm (‏بعد‏ ‏طلينتها‏ ‏بالمط‏)، ‏والبائع‏ ‏ليس‏ ‏عنده‏ ‏فكرة‏، ‏فأسم‏ ‏الخنزير‏ ‏شيء‏ ‏أقرب‏ ‏إلى “ميالي‏”، ‏وهذا‏ ‏من‏ ‏مقالب‏ “الحداقة‏” (‏الحذق‏) ‏المصرية‏ ‏فى ‏نحت‏ ‏لغة‏ ‏من‏ ‏لغة‏ ‏أخري‏، ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏للحاذق‏ ‏المصرى ‏منا‏ ‏أن‏ ‏مط‏ ‏كلمة‏ ‏فرنسية‏ ‏إلى ‏أسفل‏، ‏أو‏ ‏أعلي‏، ‏وعلى ‏ناحية‏ ‏يقلبها‏ ‏ايطالية‏ ‏بقدرة‏ ‏قادر‏، ‏فالجبن‏ “فروماج‏” ‏تصبح‏ “فروماجو‏”، ‏و‏”بونجور‏” ‏تصبح‏ “بونجورنو‏” ‏وبالتالى ‏لابد‏ ‏أن‏ “بورك‏” (‏خنزير‏) ‏تصبح‏ ‏بوركونو‏.. ‏فيقع‏ ‏المحظور‏. ‏وأذكر‏ ‏أنى ‏حين‏ ‏ذهبت‏ ‏إلى ‏فرنسا‏ ‏اتبعت‏ ‏نفس‏ ‏القاعدة‏ ‏فى ‏تحوير‏ ‏الانجليزية‏ ‏إلى ‏فرنسية‏، ‏ورحت‏ ‏إلى ‏بقال‏ ‏اشترى ‏جبنا‏، ‏وهى ‏بالانجليزية‏Cheese  ‏فقلت‏ ‏لا‏ ‏عليك‏ ‏يا‏ ‏ولد‏ ‏ببعض‏ ‏المط‏ ‏يمشى ‏الحال‏، ‏وطلبت‏ ‏من‏ ‏البائع‏ Chaise ‏بإذن‏ ‏الله‏، ‏ونظر‏ ‏إلى ‏الرجل‏ ‏مندهشا‏، ‏أنا‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏الرف‏ ‏وهو‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏محل‏ “الموبيليا‏” ‏المقابل‏، ‏وأصر‏، ‏ويصر‏، ‏وأخيرا‏ ‏يمسك‏ ‏بالمقعد‏ ‏الذى ‏فى ‏محله‏ ‏ويرفعه‏ ‏وأتصور‏ ‏أنه‏ “فاض‏ ‏به‏” ‏وسوف‏ ‏يناولنى ‏به‏، ‏لكنه‏ ‏مازال‏ ‏يبتسم‏، ‏وأخيرا‏ ‏يستسلم‏ ‏لتصميمى ‏ويسمح‏ ‏لى ‏بالدخول‏ ‏إلى ‏المحل‏ ‏لآخذ‏ ‏بيدى ‏ما‏ ‏أريد‏، ‏فأفعل‏ ‏وينتهى ‏الموقف‏ ‏بسلام‏، ‏وأكشف‏ ‏بعد‏ ‏أسابيع‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏فعلته‏ ‏بكلمة‏ ‏جبن‏ ‏بالانجليزية‏Cheese  ‏قلبها‏ ‏إلى “مقعد‏” ‏بالفرنسية‏Chaise ‏بقدرة‏ ‏قادر‏، ‏وسبحان‏ ‏لاوى ‏الألسن‏ ‏فى ‏كل‏ ‏اتجاه‏، ‏وتنجح‏ ‏ابنتاى ‏فى ‏استبدال‏ ‏لحمم‏ ‏الخنزير‏ ‏بمياه‏ ‏غازية‏، ‏إذ‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏لحم‏ ‏إلا‏ ‏هذا‏ ‏المحرم‏. ‏ويتراجع‏ ‏أملنا‏ ‏فى ‏وجبة‏ ‏ذات‏ ‏رائحة‏ ‏تليق‏ ‏بالهواء‏ ‏الطلق‏ ‏والجو‏ ‏الصحي‏ ‏ويبدأ‏ ‏اعداد‏ ‏الحساء‏ ‏المتعدد‏ ‏المحتوي‏، ‏والصالح‏ ‏لكل‏ ‏الأغراض‏: (‏شراب‏ ‏ساخن‏، ‏ومن‏ ‏رائحة‏ ‏اللحم‏، ‏وسائل‏ ‏دسم‏ ‏جاهز‏ ‏لأى “فتة‏” ‏محتملة‏، ‏ووهم‏ ‏بأن‏ ‏ثمة‏ ‏طبيخا‏ ‏يعد‏.. ‏ولى ‏فيها‏ ‏مآرب‏ ‏أخري‏) – ‏ونفرح‏ ‏بهذه‏ ‏الوجبة‏ “الجوكر‏” ‏التى ‏أصبحت‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏فداءنا‏ ‏الرئيسي‏، ‏ونفرح‏ ‏بهذه‏ ‏الوجبة‏ “الجوكر‏” ‏التى ‏أصبحت‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏فداءنا‏ ‏الرئيسي‏، ‏وأحيانا‏ ‏الوحيد‏، ‏ليتطور‏ ‏الأمر‏ ‏ليصبح‏ ‏عقابا‏ (‏أنت‏ ‏خاتسكت‏: ‏ولا‏ ‏أعملك‏ ‏شوربه‏!!) ‏وتنتهى ‏الوليمة‏، ‏ونعيد‏ ‏للرجل‏ ‏طاسته‏، ‏مغسولة‏ ‏وآخر‏ ‏تمام‏، ‏وأتمنى ‏على ‏الله‏ ‏أن‏ ‏يحتاج‏ ‏شيئا‏ ‏ليتأكد‏ ‏مبدأ‏ “هات‏.. ‏وخد‏”، ‏ويستجاب‏ ‏الدعاء‏ ‏بأسرع‏ ‏مما‏ ‏أحسب‏، ‏فيطلب‏ ‏الرجل‏ ‏بعد‏ ‏قليل‏ ‏ثقابا‏، ‏فأفرح‏ ‏بدرجة‏ ‏لا‏ ‏تتناسب‏ ‏مع‏ ‏طبيعة‏ ‏الأشياء‏.‏

…………….

…………….

فى ‏المقهى ‏البار‏ ‏الملهى ‏الخاص‏ ‏بهذا‏ ‏المعسكر‏ ‏الفخيم‏ ‏يتجمع‏ ‏الرواد‏ ‏حول‏ ‏المناضد‏ ‏وآلات‏ ‏لعب‏ ‏الحظ‏ ‏والمهارة‏، ‏ويسرى ‏صخب‏ ‏يقظ‏ ‏يوحى ‏بالحيوية‏ ‏المستحبة‏، ‏فأذهب‏ ‏وأحضر‏ ‏أوراقى ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏لأحد‏ ‏على ‏مكانى ‏فقد‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏لأجازة‏ ‏منفردة‏، ‏ولو‏ ‏ساعة‏ ‏أو‏ ‏بعض‏ ‏ساعة‏، ‏فما‏ ‏أنا‏ ‏بالشخص‏ ‏الذى ‏يحتمل‏ ‏ألا‏ ‏يختلى ‏بنفسه‏ ‏وورقه‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏يوم‏، ‏وها‏ ‏قد‏ ‏مر‏ ‏على ‏يومان‏ (‏دهران‏: ‏بالحسابات‏ ‏الجديدة‏ ‏للزمن‏) ‏وأنا‏ ‏لم‏ ‏أختل‏ ‏بأوراقى ‏ولم‏ ‏أسامر‏ ‏قلمي‏، ‏وهأنذا‏ ‏أضغها‏ ‏أخيرا‏ ‏أمامى ‏معتذرا‏ ‏واعد‏ ‏بحوار‏ ‏أعمق‏ ‏وانصات‏ ‏أطيب‏، ‏وتتلقانى ‏أؤراقى – ‏كالعادة‏ – ‏بسماح‏ ‏شديد‏، ‏فهى ‏واثقة‏ ‏دائما‏ ‏من‏ ‏أنى ‏لا‏ ‏أملك‏ ‏منها‏ ‏فرارا‏، ‏وأنه‏ ‏على ‏عينى ‏هجرى ‏لها‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الدهور‏، ‏فأمسح‏ ‏جبهتها‏، ‏وأداعب‏ ‏أطرافها‏ ‏وانصت‏ ‏إلى ‏همسها‏ ‏وسط‏ ‏هذا‏ ‏الصخب‏ ‏المتداخل‏، ‏وأقول‏ ‏وتقول‏، ‏وأنظر‏ ‏وتوافق‏، ‏واقترح‏ ‏وتعارض‏، ‏وآمل‏ ‏وتحذر‏، ‏وابتسم‏ ‏فتتذكر‏، ‏وأتطلع‏ ‏للوجوه‏ ‏من‏ ‏حولنا‏ ‏فتعلق‏، ‏ويمر‏ ‏وقت‏ ‏ليس‏ ‏بقصير‏، ‏ثم‏ ‏أنظر‏ ‏إلى ‏المائدة‏ ‏فإذا‏ ‏الورق‏ ‏خال‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏سوء‏، ‏والقلم‏ ‏متراخ‏ ‏فى ‏غير‏ ‏كسل‏، ‏فألملم‏ ‏ورقى ‏راضيا‏ ‏بهذا‏ ‏الائتناس‏ ‏الصامت‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏تجرح‏ ‏بكارته‏ ‏شقاوة‏ ‏القلم‏ ‏وشهوة‏ ‏الكتابة‏.‏

وننام‏ ‏نوما‏ ‏جديدا‏، ‏فالهواء‏ ‏غير‏ ‏الهواء‏، ‏والأصوات‏ ‏غير‏ ‏الأصوات‏، ‏والناس‏ ‏غير‏ ‏الناس‏..‏؟‏ ‏ماذا‏ ‏فعلت‏ ‏بنا‏ ‏المدينة؟‏ ‏ماذا‏ ‏فعلنا‏ ‏بنا‏ ‏فى ‏المدينة؟

الاثنين‏ 27 ‏أغسطس

صباح‏ ‏آخر‏ ‏كأجمل‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏الصباح‏، ‏بحيث‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏وصفه‏ ‏أصلا‏ ‏إلا‏ ‏بأنه‏ ‏صباح‏ ‏حقيقي‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الصباح‏ ‏الذى ‏فرضته‏ ‏علينا‏ ‏الحياة‏ ‏الأحدث‏ ‏ليس‏ ‏صباحا‏ ‏أصلا‏، ‏فلا‏ ‏شمس‏ ‏تخرج‏ ‏من‏ ‏خدرها‏ ‏أما‏ ‏العين‏ ‏مباشرة‏، ‏ولا‏ ‏صوت‏ ‏لطير‏، ‏ولا‏ ‏لفحة‏ ‏هواء‏ ‏باردة‏ ‏سمحة‏ ‏فى ‏آن‏، ‏ولا‏ ‏وجه‏ ‏إنسان‏ ‏خال‏ ‏من‏ ‏حسابات‏ ‏الأمس‏ ‏وأطماع‏ ‏اليوم‏، ‏ولم‏ ‏تحل‏ ‏هذه‏ ‏البرامج‏ ‏الصباحية‏ ‏محل‏ ‏الصباح‏ ‏الحقيقى ‏أبدا‏، ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏بعض‏ ‏برامج‏ ‏الصباح‏ ‏قد‏ ‏شوهت‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “صباح‏” ‏بكثرة‏ ‏الأحاجي‏، ‏وادعاء‏ ‏خفة‏ ‏الظل‏ ‏وانثناء‏ ‏الأصوات‏ ‏الأنثوية‏ ‏بطريقة‏ ‏ليس‏ ‏لها‏ ‏أدنى ‏علاقة‏ ‏بالهواء‏ ‏والنقاء‏ ‏والخضرة‏ ‏ووجوه‏ ‏البشر‏ ‏الطازجة‏، ‏وقد‏ ‏كانت‏ ‏علاقتى ‏بالصباح‏ ‏قد‏ ‏تجددت‏ ‏قبيل‏ ‏قيامى ‏بهذه‏ ‏الرحلة‏ ‏حين‏ ‏كنت‏ ‏أمارس‏ ‏عادة‏ ‏قبيحة‏ (‏وهى ‏الجرى ‏منفردا‏)([11]) ‏قبل‏ ‏طلوع‏ ‏الشمس‏ ‏على ‏طريق‏ ‏سقارة‏ ‏أحيانا‏، ‏وفى ‏غيابه‏ ‏صحراء‏ ‏المقطم‏ ‏أحيانا‏ ‏أخري‏، ‏وحين‏ ‏ألقى ‏راكب‏ ‏حمار‏ ‏أو‏ ‏سائق‏ “كارو‏” ‏فى ‏طريقى ‏وهم‏ ‏ينظرون‏ ‏إلى ‏اشفاقا‏، ‏فألقى ‏تحية‏ ‏الصباح‏ “صباح‏ ‏الخير‏” ‏كنت‏ ‏أتلقى ‏ردا‏ ‏غير‏ ‏الذى ‏ألفته‏ ‏فى ‏المنزل‏ ‏أو‏ ‏العمل‏ ‏أو‏ ‏شوارع‏ ‏المدينة‏ ( ‏غير‏ ‏صباح‏ ‏النور‏.. ‏الخالية‏ ‏منالنور‏ ‏والدفء‏ ‏تحت‏ ‏تأثير‏ ‏الفول‏ ‏المدمس‏ ‏والمواصلات‏)، ‏أقول‏ ‏كنت‏ ‏أتلقى ‏ردا‏ ‏جديدا‏ ‏على ‏أنه‏: “نهارك‏ ‏قشطة‏”، ‏فأشعر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏الجديد‏ ‏له‏ ‏طعم‏ ‏جديد‏، ‏طعم‏ ‏طازج‏ ‏منعش‏ ‏مطمئن‏ ‏معا‏، ‏وحين‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أستعمل‏ ‏اللغة‏ ‏الجديدة‏ ‏فأبدأ‏ “صباحك‏ ‏قشطة‏” ‏كنت‏ ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏الرد‏ ‏سيكون‏ “صباح‏ ‏الخير‏”، ‏ولكن‏ ‏يجيئنى ‏رد‏ ‏أكثر‏ ‏جدة‏: ‏أنه‏ “بالصلا‏ ‏عالنبي‏”. ‏ما‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏بالصلا‏ ‏عالنبي؟‏ ‏وما‏ ‏معى ‏الصلا‏ ‏عالنى ‏هنا؟‏ ‏تفسيرات‏ ‏ومعان‏ ‏طيبة‏ ‏كثيرة‏ ‏جدا‏ ‏خطرت‏ ‏ببالى – ‏ولن‏ ‏أذكرها‏ – ‏وأنا‏ ‏سعيد‏ ‏بتغيير‏ ‏الإيقاع‏ ‏الروتينى ‏للتحيات‏ ‏الفاترة‏ ‏المعادة‏، ‏وأمضى ‏فى ‏عدوى ‏الذاتوى ‏الخائب‏.. ‏ويمضون‏ ‏إلى ‏باب‏ ‏الكريم‏، ‏أقول‏ ‏رغم‏ ‏أنى ‏صالحت‏ ‏الصباح‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏قبيل‏ ‏سفرى ‏فى ‏هذه‏ ‏الرحلة‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الصباح‏ ‏كان‏ ‏صباحا‏ ‏آخر‏.‏

وأشاهد‏ ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏المخيم‏ ‏وهى ‏تسير‏ ‏أمام‏ ‏مكتبها‏ ‏فى ‏خطى ‏كالقفزات‏ ‏الصغيرة‏، ‏تملأ‏ ‏رئتيها‏ ‏بالصباح‏، ‏وتكاد‏ ‏تبخل‏ ‏أن‏ ‏تخرجه‏ ‏مع‏ ‏الزفير‏، ‏وهى ‏امرأة‏ ‏لا‏ ‏يقل‏ ‏سنها‏ ‏عن‏ ‏الخمسين‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏بها‏ ‏قدرا‏ ‏من‏ ‏الحيوية‏ ‏والصحو‏ ‏يكفى ‏لانبعاث‏ ‏رسائل‏ ‏موقظة‏ ‏محفزة‏ ‏لكل‏ ‏خلايا‏ ‏من‏ ‏حولها‏، ‏من‏ ‏الرجال‏ ‏خاصة‏، ‏وفى ‏بشاشة‏ ‏مفجرة‏[12] ‏تشرح‏ ‏لنا‏ ‏الطريق‏ ‏والمواعيد‏، ‏ونشترى ‏منها‏ ‏تذاكر‏ ‏الأتوبيس‏ (‏خدمة‏ ‏إضافية‏ ‏رقيقة‏ ‏تجنبنا‏ ‏مشاكل‏ ‏الفكة‏.. ‏غير‏ ‏الموجودة‏) ‏ونمضى ‏إلى ‏الناس‏ ‏وسط‏ ‏الناس‏ ‏كما‏ ‏الناس‏، ‏ويالفضل‏ ‏المواصلات‏ ‏على ‏حس‏ ‏البشر‏.. ‏لو‏ ‏أتيحت‏ ‏للبشر‏ ‏الفرصة‏ ‏أن‏ ‏ينظر‏ ‏أى ‏منهم‏ ‏فى ‏وجه‏ ‏الآخر‏، ‏لا‏ ‏أن‏ ‏ينحشر‏ ‏بعض‏ ‏لحمه‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏لحم‏ ‏الكتلة‏ ‏الممتزجة‏ ‏من‏ ‏جين‏ ‏أجساد‏ ‏الركاب‏ ‏المصريين‏ (‏أهمه‏) ‏فى ‏بلدنا‏ ‏المكدسة‏ ‏بكل‏ ‏شيء‏، ‏وسبحان‏ ‏مخلص‏ ‏الأجساد‏ ‏من‏ ‏بعضها‏ ‏عند‏ ‏المحطة‏ ‏التالية‏ ‏حيث‏ ‏يولد‏ ‏الإنسان‏ ‏المصرى ‏من‏ ‏جديد‏ ‏بفعل‏ ‏المخاض‏ ‏الأتوبيسى ‏المتقطع‏ – ‏ثم‏ ‏نقول‏ “تكافؤ‏ ‏الفرص‏”!! ‏ولماذا‏ ‏لا‏ ‏ننتج‏ ‏؟‏ ‏إن‏ ‏مجرد‏ ‏وصول‏ ‏مواطننا‏ ‏إلى ‏عمله‏ ‏صباحا‏ ‏هو‏ ‏بطولة‏ ‏فردية‏ ‏يومية‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يستلم‏ ‏بعدها‏ ‏خطاب‏ ‏شكر‏ ‏لنجاح‏ ‏فى ‏الحضور‏، ‏ثم‏ ‏يكافأ‏ ‏بالانصراف‏ ‏استعدادا‏ ‏لليوم‏ ‏التالي‏ ‏لأنه‏ ‏بذل‏ ‏من‏ ‏الجهد‏ ‏ما‏ ‏يكفى ‏لدفع‏ ‏أمة‏ ‏بأكملها‏ ‏إلى “محطة‏ ‏أتوبيس‏ ‏العودة‏!” ‏وأرجو‏ ‏ألا‏ ‏يستبعد‏ ‏القاريء‏ ‏المى ‏الشخص‏ ‏وأنا‏ ‏أسخر‏ ‏من‏ ‏حقيقة‏ ‏لا‏ ‏أعيشها‏ ‏بحجمها‏، ‏فكل‏ ‏هذا‏ ‏يغيب‏ ‏عادة‏ ‏عن‏ ‏راكبى ‏السيارات‏ ‏الخاصة‏ ‏أمثالي‏، ‏كما‏ ‏يغيب‏ ‏عن‏ ‏اللائمين‏ ‏والمنظرين‏ ‏من‏ ‏أصحاب‏ ‏الأقلام‏ ‏والقرارات‏ ‏رغم‏ ‏كثرة‏ ‏السفر‏ ‏وحتم‏ ‏المقارنة‏، ‏وأنا‏ ‏حين‏ ‏تضيق‏ ‏بى ‏الحال‏ ‏من‏ ‏فرط‏ ‏التفكير‏ ‏والعجز‏، ‏تخطر‏ ‏على ‏بالى ‏حلول‏ ‏مضحكة‏ ‏لمشاكلنا‏ ‏اليومية‏، ‏أظل‏ ‏أتصور‏ ‏أنها‏ ‏عملية‏ ‏رغم‏ ‏يقينى ‏بستحالتها‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏، (‏فمثلا‏ ‏بشأن‏ ‏مشكلة‏ ‏المواصلات‏ ‏عندنا‏، ‏خذ‏ ‏عندك‏: (‏أ‏) ‏يلغى ‏استعمال‏ ‏جميع‏ ‏السيارات‏ ‏الخاصة‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏السفر‏ ‏بين‏ ‏المدن‏ ‏حيث‏ ‏تقبع‏ ‏الجراجات‏ ‏خارجها‏ (‏مثل‏ ‏رأس‏ ‏البر‏ ‏زمان‏) (‏ب‏) ‏يسمح‏ ‏داخل‏ ‏المدن‏ ‏بالحافلات‏ (‏الأتوبيسات‏) ‏العامة‏ ‏والدراجات‏ ‏والموتوسيكلات‏ ‏فقط‏. (‏جـ‏) ‏يسمح‏ ‏للمسنين‏ ‏القادرين‏ ‏والوزراء‏ ‏و‏”المهمين‏” (‏حتى ‏الرئيس‏) ‏العاجزين‏ ‏عن‏ ‏قيادة‏ ‏موتوسيكل‏ ‏خاص‏ ‏بأن‏ ‏يركبوا‏ ‏فى ‏صندوق‏ ‏جانبى (‏سيدكار‏) ‏أو‏ ‏خلفى ‏لموتوسيكل‏ ‏خاص‏، ‏أو‏ ‏بالأجر‏، ‏أو‏ ‏تعد‏ ‏لهم‏ ‏حافلات‏ ‏خاصة‏ ‏مسبوقة‏ ‏الحجز‏ ‏محددة‏ ‏المواعيد‏. ‏وأتصور‏ ‏بذلك‏ ‏أن‏ ‏الدنيا‏ ‏ستتغير‏ ‏حتما‏، ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏بشأن‏ ‏المواصلات‏، ‏ولكن‏ ‏بشأن‏ ‏الأخلاق‏ ‏والعلاقة‏ ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏واحساس‏ ‏المسئولين‏ ‏بالعامة‏، ‏ويبدو‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الحل‏ “جنونيا‏” ‏لغرابته‏ ‏لا‏ ‏لاستحالته‏، ‏وعموما‏ “فأبشر‏ ‏بطول‏ ‏سيارة‏ ‏يا‏ ‏مرفه‏” ‏فأى ‏حل‏ ‏يمس‏ ‏أى ‏كبير‏ ‏لن‏ ‏يخرج‏ ‏إلى ‏حيز‏ ‏التنفيذ‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏للتوصية‏ ‏بمرور‏ ‏السيارات‏ ‏ذات‏ ‏الأرقام‏ ‏الفردية‏ ‏يوما‏ ‏والزوجية‏ ‏يوما‏ ‏آخر‏ (‏كما‏ ‏رأيت‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏أثينا‏) – ‏لسبب‏ ‏بسيط‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏السادة‏ ‏صانعى ‏القرار‏ ‏هم‏ ‏من‏ ‏ذوى ‏العربات‏ ‏الزوجية‏ ‏الأرقام‏، ‏ومنفذيها‏ ‏لهم‏ ‏عربات‏ ‏فردية‏ ‏الأرقام‏، ‏أو‏ ‏العكس‏، ‏ولو‏ ‏صدر‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏القرار‏ ‏فسوف‏ ‏ينقطع‏ ‏التفاهم‏ – ‏بين‏ ‏صانع‏ ‏القرار‏ ‏ومنفذه‏ !!، ‏والخيرة‏ ‏فيما‏ ‏اختاره‏ ‏الله‏، “وخرم‏ ‏أبرة‏ ‏ينفذ‏ ‏مائة‏ ‏عربة‏” ‏ببركة‏ ‏دعاء‏ ‏الوالدين‏ ‏وموجات‏ ‏الانضباط‏ ‏المتقطعة‏، ‏وأن‏ ‏شاء‏ ‏الله‏ ‏خير‏. ‏المهم‏: ‏ركبنا‏ ‏الأتوبيس‏ ‏حاملين‏ ‏مصباح‏ ‏سيارتنا‏ ‏المحتق‏ ‏معنا‏ ‏آملين‏ ‏فى ‏شراء‏ ‏بديل‏ ‏كغامل‏ ‏عنه‏ ‏فهو‏ – ‏كما‏ ‏يبدو‏ – ‏لا‏ ‏يفك‏ ‏إلى ‏أجزاء‏، ‏وغيرنا‏ ‏فى ‏محطة‏ ‏المطار‏. ‏وجاء‏ ‏الأتوبيس‏ ‏فى ‏ميعاده‏ “بالثانية‏” ‏كما‏ ‏هو‏ ‏مثبت‏ ‏فى ‏الجدول‏ ‏المعلق‏ ‏على ‏المحطة‏، ‏ووصلنا‏ ‏فينيسيا‏ ‏فى ‏أقل‏ ‏من‏ ‏ربع‏ ‏ساعة‏.‏

****

وأنا‏ ‏صديق‏ ‏لهذا‏ ‏البلد‏ ‏من‏ ‏قديم‏، ‏وأن‏ ‏كانت‏ ‏صداقتى ‏لها‏ ‏لا‏ ‏تراجع‏ ‏إلى ‏أسباب‏ ‏جندولية‏ ‏محمد‏ ‏عبد‏ ‏الوهابية‏، ‏ولا‏ ‏لأسباب‏ ‏أثرية‏ ‏تاريخية‏، ‏ولكن‏ ‏لأسباب‏ ‏شخصية‏ ‏تتعلق‏ ‏باقتراحى ‏المواصلات‏ ‏سالف‏ ‏الذكر‏، ‏وبحبى ‏للماء‏ ‏والناس‏ ‏حبا‏ ‏جما‏، ‏والمشى ‏فى ‏شوارع‏ ‏البندقية‏ ‏فى ‏مواكب‏ ‏وموجات‏ ‏الناس‏ ‏المتلاحقة‏ ‏يقربك‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏بشكل‏ ‏تصعب‏ ‏مقاومته‏، ‏لا‏ ‏سيارة‏ ‏ولا‏ ‏أتوبيس‏ ‏وإنما‏ ‏ناس‏ ‏وشوارع‏ ‏مبلطة‏ ‏ببلاط‏ ‏قديم‏ ‏نظيف‏ (‏فى ‏الأغلب‏)، ‏ومقاه‏، ‏وفن‏ ‏على ‏كل‏ ‏لون‏ ‏وشكل‏، ‏لذلك‏ ‏فإنى ‏متى ‏وصلت‏ ‏إليها‏ ‏آخذ‏ ‏نفسا‏ ‏عميقا‏ ‏وأنا‏ ‏أخلع‏ ‏ايقاع‏ ‏وعيى ‏اللاهث‏ ‏وألقى ‏خارج‏ ‏سطح‏ ‏أدراكى ‏كل‏ ‏تلك‏ ‏الوجوه‏ ‏المبلدة‏ ‏بالهم‏ ‏والحساب‏.‏

وقبل‏ ‏أن‏ ‏أبدأ‏ ‏جولتى ‏مع‏ ‏الأولاد‏ ‏رأيت‏ ‏أن‏ ‏أنهى ‏موضوع‏ ‏مصباح‏ ‏السيارة‏,‏وهذا‏ ‏موضوع‏ ‏لا‏ ‏قيمة‏ ‏له‏ ‏فى ‏ذاته‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏موقف‏ ‏سائق‏ ‏التاكسى ‏وصاحبه‏ ‏العجوز‏ ‏المبدع‏ ‏علمانى ‏أشياء‏ ‏هى ‏دين‏ ‏على ‏لمن‏ ‏أحكى ‏له‏، ‏فبعد‏ ‏سؤال‏ ‏صاحب‏ ‏الجراج‏ ‏الكبير‏ ‏فى ‏ميدان‏ ‏روما‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏جسر‏ ‏الحرية‏ ‏عن‏ ‏بغيتى ‏أبلغنى ‏أن‏ ‏أعود‏ ‏عبر‏ ‏الجسر‏ ‏الطويل‏ ‏إلى ‏ميستر‏Master (‏والعلاقة‏ ‏بين‏ ‏فينسيا‏ ‏وميستر‏ ‏مثل‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏زفتا‏ ‏وميت‏ ‏غمر‏.. ‏أو‏ ‏المنصورة‏ ‏وطلخا‏.. ‏مثلا‏)، ‏فتوجهت‏ ‏إلى ‏سائق‏ ‏تاكسى ‏وأفهمته‏ – ‏بطريقة‏ ‏ما‏ – ‏المشكلة‏، ‏وطلبت‏ ‏منه‏ ‏أن‏ ‏يصحبنى ‏ذهابا‏ ‏وعودة‏، ‏وسألته‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أركب‏ (‏نظرا‏ ‏لسمعة‏ ‏الطليان‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المكان‏) ‏كم‏ ‏سيكلفنى ‏هذا‏، ‏فأجاب‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏الوقت‏ ‏الذى ‏سنقضيه‏ ‏هناك‏، ‏ثم‏ ‏ذكر‏ ‏رقما‏ ‏تقريبا‏ ‏شديد‏ ‏التواضع‏، ‏فقلت‏ ‏خيرا‏، ‏وتواعدت‏ ‏مع‏ ‏الأولاد‏ ‏على ‏مكان‏ ‏اللقاء‏، ‏وصحبنى ‏السائق‏ ‏فى “ميستر‏” ‏من‏ ‏محل‏ ‏إلى ‏محل‏، ‏وهو‏ ‏يستبعد‏ ‏أن‏ ‏نحصل‏ ‏على ‏المصباح‏ ‏لأن‏ ‏الحكومة‏ ‏الإيطالية‏ ‏لا‏ ‏تستورد‏ ‏لا‏ ‏السيارات‏ ‏اليابانية‏ ‏ولا‏ ‏قطع‏ ‏غيارها‏ ‏حفاظا‏ ‏على ‏مصانع‏ ‏فيات‏ – ‏وقلت‏ “خيرا‏”، ‏ولكن‏ ‏الشاب‏ ‏السائئق‏ ‏أمرى ‏فر‏ ‏صبر‏ ‏هاديء‏، ‏وأخذنى ‏إلى ‏محل‏ ‏قطع‏ ‏غيار‏ ‏كبير‏ ‏به‏ ‏عجوز‏ ‏طيب‏ ‏لا‏ ‏يقل‏ ‏عمره‏ ‏عن‏ ‏سبعين‏ ‏سنة‏، ‏ونظر‏ ‏العجوز‏ ‏إلى ‏المصباح‏، ‏ثم‏ ‏إلي‏، ‏ثم‏ ‏إليه‏، ‏ثم‏ ‏فتح‏ “كاتالوجا‏”، ‏ثم‏ ‏نظر‏، ‏ثم‏ ‏ذهب‏، ‏ثم‏ ‏فك‏، ‏ثم‏ ‏عاد‏، ‏ثم‏ ‏أعاد‏ ‏العملية‏ ‏فى ‏صمت‏ ‏جميل‏، ‏أخجلني‏، ‏وأدهشني‏، ‏حتى ‏كدت‏ ‏أقبل‏ ‏يده‏ ‏الماهرة‏، ‏داعيا‏ ‏له‏ ‏بطول‏ ‏العمر‏ (‏حتى ‏لو‏ ‏فشل‏)، ‏هذا‏ ‏أستاذ‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏والصنعة‏ ‏جميعا‏. ‏وظل‏ ‏الرجل‏ ‏يتابع‏ ‏مهمته‏ ‏الابداعية‏ ‏حتى ‏خلق‏ ‏مصباحا‏ ‏جديدا‏ ‏من‏ ‏عدة‏ ‏أجزاء‏ “وماركات‏” ‏متفرقة‏ – ‏وللأسف‏، ‏فقد‏ ‏سألت‏ ‏السائق‏ ‏بالانجليزية‏ ‏البسيطة‏ ‏التى ‏نتفاهم‏ ‏بها‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏العجوز‏ ‏واثقا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ “الابداع‏ ‏المصباحي‏” ‏هو‏ ‏نفس‏ ‏مقاس‏ ‏مصباحى ‏القديم‏، ‏ولم‏ ‏يرد‏ ‏العجوز‏، ‏بل‏ ‏نظر‏ ‏نظرة‏ ‏عاتبة‏ ‏مشفقة‏ ‏متعالية‏ ‏فخورة‏ ‏بما‏ ‏عمل‏، ‏فخجلت‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏حتى ‏كدت‏ ‏أعرق‏، ‏وتأكدت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المصباح‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يكون‏ – ‏من‏ ‏جديد‏ ‏حتى ‏كدت‏ ‏أعرق‏، ‏وتأكدت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المصباح‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يكون‏ – ‏والله‏ ‏العظيم‏ ‏ـ‏ ‏أفضل‏ ‏من‏ ‏المصباح‏ ‏الأصلي‏، ‏هكذا‏ ‏تقول‏ ‏عيون‏ ‏العجوز‏، – ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏حضراتكم‏ ‏الآن‏ ‏قد‏ ‏علمتم‏ ‏كم‏ ‏أنى ‏شديد‏ ‏التلمذة‏ ‏دائم‏ ‏البحلقة‏ ‏والاندهاش‏، ‏ويزداد‏ ‏ذلك‏ ‏عندما‏ ‏يكون‏ ‏أستاذى ‏عجوزا‏ ‏صامتا‏. ‏وقد‏ ‏ذكرت‏ ‏علاقتى ‏بعم‏ ‏عطية‏ ‏معقب‏ ‏البرسيم‏، ‏وعم‏ ‏شعبان‏ ‏ضاخ‏ ‏الطلمبة‏ (‏الماصة‏ ‏كابسة‏) ‏وهأنذا‏ ‏أتعلم‏ ‏من‏ ‏شيخ‏ ‏خواجة‏ ‏معنى ‏جديد‏ ‏للابداع‏ ‏والطيبة‏. ‏وأتذكر‏ ‏فضل‏ ‏عجوز‏ ‏آخر‏ ‏على ‏وأنا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السن‏ ‏هو‏ ‏الحاج‏ ‏سيد‏ ‏عطوة‏، ‏وفضله‏ ‏على ‏هذه‏ ‏المجلة‏ ‏حيث‏ ‏يقف‏ ‏طول‏ ‏النهار‏ ‏وقد‏ ‏تجاوز‏ ‏السبعين‏، ‏وحده‏ ‏طول‏ ‏النهار‏ (‏نعم‏، ‏وجزاء‏ ‏من‏ ‏الليل‏) ‏على ‏قدميه‏ ‏يصلى ‏بعمله‏ ‏فى ‏عبادة‏ ‏بهيجة‏ ‏متقنة‏، ‏ويعطينى ‏دروسا‏ ‏متصلة‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏مع‏ ‏كل‏ “بروفة‏”، ‏ولا‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المجلة‏ ‏إلا‏ ‏علق‏ ‏عليها‏، ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏يذهب‏ ‏يناقشنى ‏فى ‏رسوم‏ ‏الصديق‏ ‏عصمت‏ ‏داوستاشى ‏محتجا‏ ‏بأنه‏ “لماذا‏ ‏هذا؟‏” ‏و‏ “أن‏”.. ‏و‏ “لا‏…”، ‏فأقسم‏ ‏له‏ ‏أنى ‏لا‏ ‏أفهم‏، ‏وأنها‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تؤخذ‏ ‏هكذا‏ ‏بالحس‏ ‏العام‏، ‏فيمط‏ ‏شفتيه‏، ‏فأواصل‏ ‏اصرارى ‏على ‏أنها‏ ‏جميلة‏ ‏فقط‏، ‏فيكاد‏ ‏يوافقنى ‏لكنه‏ ‏يصر‏ ‏على ‏الفهم‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏أملك‏ ‏له‏ ‏ردا‏. ‏وحين‏ ‏يعترض‏ ‏على ‏مقال‏ ‏غامض‏، ‏أو‏ “كتابة‏ ‏طليقة‏”، ‏لا‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أقنعه‏، ‏ولكنى ‏أصر‏ ‏على ‏أنه‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يحاول‏، ‏وحتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يفهم‏ ‏التفاصيل‏ ‏فليحب‏ ‏الصدق‏ ‏المحتمل‏ ‏وراء‏ ‏التناثر‏ ‏الظاهر‏، ‏فيأخذنى ‏على ‏قدر‏ ‏عقلى ‏ويطيب‏ ‏خاطرى ‏ونتبادل‏ ‏انخاب‏ ‏حمص‏ ‏الشام‏ ‏بالشطة‏، ‏ولكنه‏ ‏لا‏ ‏يهمد‏ ‏فيعود‏ ‏ينصحنى ‏أنه‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لكلامنا‏ ‏معنى ‏واضحا‏، ‏حتى ‏لا‏ ‏نكون‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏الذى ‏يقول‏ ‏لصاحبه‏ “ان‏ ‏السمك‏ ‏يخرج‏ ‏نارا‏” ‏فيرد‏ ‏صاحبه‏ “كيف‏ ‏ذلك‏ ‏فالسمك‏ ‏فى ‏الماء‏، ‏والماء‏ ‏جديدر‏ ‏بأن‏ ‏يطفيء‏ ‏النار‏ ‏فورا‏” ‏فيرد‏ ‏الأول‏ ‏أنه‏ “أهو‏ ‏كلام‏” – ‏ويأبى ‏الحاج‏ ‏سيد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏كلامنا‏ ‏فى ‏المجلة‏ “آهو‏ ‏كلام‏”، ‏وأقسم‏ ‏له‏ ‏أنه‏ ‏أبدا‏ ‏لن‏ ‏يكون‏ ‏كذلك‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏نفهمه‏، ‏ويصدقني‏، ‏ويدعو‏ ‏لي‏، ‏فأدعو‏ ‏له‏، ‏وأفرح‏ ‏أنه‏ ‏أقصر‏ ‏منى ‏كثيرا‏، ‏لأن‏ ‏ذلك‏ ‏يسمح‏ ‏لى ‏حين‏ ‏تسخن‏ ‏العواطف‏ ‏بيننا‏ ‏أن‏ ‏أنقض‏ ‏على ‏صعلته‏ ‏مقبلا‏ ‏اياها‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يستعد‏ ‏بالابتعاد‏ ‏الدفاعى ‏المتواضع‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏فعلته‏ – ‏عن‏ ‏بعد‏ – ‏بصلعة‏ ‏العجوز‏ ‏الايطالي‏ ‏مبدع‏ ‏المصباح‏. ‏ويصحبنى ‏الشاب‏ ‏السائق‏ ‏التاكسى ‏عودا‏ ‏إلى ‏فينيسيا‏، ‏ونتحدث‏ ‏قليلا‏ ‏فى ‏السياسة‏ ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏كفة‏ ‏الحكم‏ ‏فى ‏أوربا‏ ‏تميل‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏تتجه‏ ‏ناحية‏ ‏الأحزاب‏ ‏الاشتراكية‏ (‏فرنسا‏ – ‏أسبانيا‏ – ‏اليونان‏ – ‏إيطاليا‏) ‏دون‏ ‏الشيوعية‏ ‏أو‏ ‏الرأسمالية‏، ‏فيبتسم‏ ‏فى ‏خبث‏ ‏المتفرج‏ ‏الواعي‏، ‏ويقول‏ ‏ما‏ ‏أفهم‏ ‏منه‏ ‏أنها‏ “اشتراكية‏ ‏القادرين‏”، ‏وأهمس‏ ‏أنه‏ “هل‏ ‏غادر‏ ‏الشعراء‏ ‏من‏ ‏متردم‏”.‏

****

رجعت‏ ‏إلى ‏أولادى ‏وهم‏ ‏فرحون‏ ‏بكل‏ ‏الناس‏، ‏وكل‏ ‏الأشياء‏، ‏وكل‏ ‏الأشياء‏، ‏وكل‏ ‏الألوان‏، ‏وكل‏ ‏الأجواء‏، ‏وذكرت‏ ‏لهم‏ ‏ما‏ ‏حدث‏ ‏من‏ ‏فضل‏ ‏الشاب‏ ‏والعجوز‏، ‏فقالوا‏ ‏لى ‏أنه‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏الطليان‏ ‏من‏ ‏أحسن‏ ‏الناس‏، ‏وأن‏ ‏بائعا‏ ‏جرى ‏وراءهم‏ ‏ليرد‏ ‏لهم‏ ‏بقية‏ ‏خمسين‏ ‏ألف‏ ‏ليرة‏ ‏حسبوها‏ ‏ألفا‏ ‏أو‏ ‏مائة‏، ‏وبالتالى ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏مراجعة‏ ‏هذه‏ ‏الاشاعات‏ ‏عن‏ ‏نصب‏ ‏وألاعيب‏ ‏الايطاليين‏، ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏تعميم‏ ‏ظالم‏ ‏خاطيء‏ ‏وهذا‏ ‏تأكيد‏ ‏جديد‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏بلد‏ “فيها‏”، ‏و‏”فيها‏”، ‏وأوافق‏ ‏بكل‏ ‏امتنان‏.‏

بمجرز‏ ‏أن‏ ‏عبرنا‏ ‏الجسر‏ ‏من‏ ‏ميدان‏ ‏روما‏ ‏إلى ‏داخل‏ ‏فينسيا‏ ‏حتى ‏بدأت‏ ‏رحلتى ‏الخاصة‏ ‏وأنا‏ ‏أستعيد‏ ‏الأماكن‏ ‏والمشاعر‏ ‏والروائح‏ ‏والوجوه‏، ‏والسائر‏ ‏فى ‏فينيسيا‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏أن‏ ‏يسأل‏ ‏عن‏ ‏أى ‏مكان‏، ‏فكل‏ ‏مكان‏ ‏مثل‏ ‏كل‏ ‏مكان‏، ‏وهو‏ ‏فى ‏سياحة‏ ‏مستمرة‏ ‏حيثما‏ ‏سار‏ ‏وحيثما‏ ‏توقف‏، ‏وما‏ ‏عليه‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يترك‏ ‏نفسه‏ ‏مع‏ ‏تيار‏ ‏الناس‏ ‏يميل‏ ‏كما‏ ‏يميلون‏، ‏ويعتدل‏ ‏كما‏ ‏يعتدلون‏، ‏وسوف‏ ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏حيث‏ ‏يجدون‏ ‏أنفسهم‏، ‏فيحقق‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يدرى ‏مما‏ ‏ينبغي‏، ‏وهذا‏ ‏الشعور‏ ‏بالدفء‏ ‏والمؤانسة‏ ‏بمشاركة‏ ‏الناس‏ “ما‏ ‏هو‏ ‏مشترك‏” ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏هو‏ ‏جوهر‏ ‏الأسفار‏ ‏جميعا‏، ‏بل‏ ‏ربما‏ ‏هو‏ ‏جوهر‏ ‏الوجود‏ ‏وأمل‏ ‏المستقبل‏، ‏ولا‏ ‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أزعج‏ ‏القاريء‏ ‏بأفكار‏ ‏تلح‏ ‏على ‏كلما‏ ‏امتزجت‏ ‏مع‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الجمع‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏لون‏ ‏وجنس‏ ‏ودين‏ ‏وعقيدة‏، ‏حين‏ ‏أخاطب‏ ‏ربى ‏متسائلا‏ ‏متفائلا‏ ‏واثقا‏ ‏فى ‏عدله‏ ‏ورحابة‏ ‏ملكه‏ ‏وسعة‏ ‏صدره‏ ‏وعمق‏ ‏رؤيته‏، ‏ويختفى ‏كل‏ ‏تعصب‏، ‏فإن‏ ‏ظهر‏ ‏أى ‏ظل‏ ‏من‏ ‏تعصب‏ ‏فى ‏أى ‏اتجاه‏ ‏فإنه‏ ‏يبدو‏ ‏لى ‏من‏ ‏أغبى ‏الجنون‏ ‏وأقبح‏ ‏النشاز‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏جريمة‏ ‏فى ‏حق‏ ‏عقل‏ ‏أى ‏إنسان‏ ‏ينتمى ‏إلى ‏شرف‏ ‏الحياة‏، ‏وأتمنى ‏لو‏ ‏ألبست‏ ‏شبابنا‏ ‏النقى ‏المتمسك‏ ‏بدينه‏، ‏المتحمس‏ ‏لفريقه‏، ‏دون‏ ‏سواه‏ -، ‏لو‏ ‏ألبسته‏ ‏عيونى ‏فى ‏هذه‏ ‏اللحظة‏، ‏إذن‏ ‏لتفجر‏ ‏نقاؤه‏ ‏إبداعا‏ ‏يشمل‏ ‏الناس‏ ‏جميعا‏، ‏ولترعرت‏ ‏سماحته‏ ‏ثورة‏ ‏تحطم‏ ‏كل‏ ‏غباء‏ ‏منحوصل‏، ‏ولاندفع‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏الناس‏ ‏فى ‏ود‏ ‏قوى ‏يسحق‏ ‏قوى ‏النشاز‏ ‏الكونى ‏من‏ ‏بقاع‏ ‏العالم‏. ‏راودنى ‏هذا‏ ‏الخاطر‏ ‏وأنا‏ ‏أجلس‏ ‏على ‏الأرض‏ ‏المبلطة‏ ‏بذلك‏ ‏البلاط‏ ‏القديم‏، ‏أغاظة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏سيارات‏ ‏العالم‏، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏الشارع‏ – ‏هكذا‏ – ‏هو‏ ‏ملكى ‏دونهم‏، ‏وأدعو‏ ‏بعض‏ ‏أولادى ‏لمشاركتى ‏الجلسة‏ ‏لنخرج‏ ‏ألسنتنا‏ ‏معا‏ ‏لجميع‏ ‏أنواع‏ ‏السيارات‏، ‏فيهم‏ ‏أحدهم‏ ‏أن‏ ‏يفعل‏، ‏وإذا‏ ‏به‏ ‏يرفض‏ ‏ويشدنى ‏كالمدوغ‏ ‏أن‏ ‏أقف‏ ‏فورا‏، ‏فأفعل‏ ‏مندهشا‏ ‏حيث‏ ‏كنت‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏تصالح‏ ‏مع‏ ‏طوب‏ ‏الأرض‏ ‏وعطن‏ ‏الماء‏ ‏وروائح‏ ‏البشر‏ ‏جميعا‏، ‏وأنظر‏ ‏إلى ‏حيث‏ ‏يشير‏ ‏فأجده‏ ‏محقا‏ ‏فآثار‏ “الكلاب‏” ‏مازالت‏ ‏تتحدى ‏نظافة‏ ‏شوارع‏ ‏أوربا‏ ‏جميعا‏[13]، ‏حتى ‏فينيسيا‏. ‏ونمضى ‏مع‏ ‏موجات‏ ‏البشر‏ ‏حيث‏ ‏نصل‏ ‏إلى ‏ميدان‏ ‏سان‏ ‏ماركو‏، ‏فنجد‏ ‏الحمام‏ ‏فى ‏انتظارنا‏، ‏ولا‏ ‏أكرر‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏قلته‏ ‏فى ‏الفصل‏ ‏الأول‏ ‏عن‏ “الناس‏ ‏والحمام‏” ‏لما‏ ‏كنا‏ ‏أمام‏ ‏البرلمان‏ ‏فى ‏أثينا‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏حمام‏ ‏سان‏ ‏ماركو‏ ‏أشهر‏ ‏وأكثر‏ ‏من‏ ‏غيره‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مكان‏، ‏ويمسك‏ ‏ابناى ‏الصغيران‏ ‏يدى ‏ويجذبانها‏ ‏ليسألنى ‏أحدهما‏ – ‏هامسا‏ – ‏متى ‏سنرجع‏، ‏وأعجب‏ ‏ابتداء‏ ‏للسؤال‏ ‏فأنا‏ ‏أتصور‏ ‏لهم‏ ‏فى ‏غاية‏ ‏المنتهي‏!! ‏مثلي‏، ‏وأجيب‏ “وقتما‏ ‏تشتهيان‏”، ‏وكنت‏ – ‏شخصيا‏ – ‏قد‏ ‏التهمت‏ ‏جرعتى ‏المناسبة‏ ‏التى ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏اجترها‏ ‏بهدوء‏ ‏إذ‏ ‏اصطحب‏ ‏هذه‏ ‏الدنيا‏ ‏بكل‏ ‏أبعادها‏ ‏وروائحها‏ ‏وارضيتها‏ ‏ونبضها‏ ‏فى ‏كيانى ‏المتلقي‏، ‏وبذا‏ ‏أصبحت‏ ‏على ‏استعداد‏ ‏للذهاب‏ ‏دون‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏البحلقة‏ ‏والتجوال‏، ‏واكتشف‏ ‏أنهما‏ ‏يريدان‏ ‏الرجوع‏ ‏إلى ‏حمام‏ ‏السباحة‏ ‏فى ‏المخيم‏ ‏قبل‏ ‏غروب‏ ‏الشمس‏، ‏فأفرح‏ ‏سرا‏، ‏فهذا‏ ‏ما‏ ‏أريده‏ ‏تحديدا‏، ‏ونرتب‏ ‏الأمور‏ ‏مع‏ ‏بقية‏ ‏أفراد‏ ‏الرحلة‏، ‏وأعود‏ ‏مع‏ ‏صغيرى ‏محملين‏ ‏بأغلب‏ ‏المشتريات‏ ‏حتى ‏نترك‏ ‏للباقى ‏فرصة‏ ‏أكبر‏ ‏فى ‏التجوال‏ ‏الحر‏، ‏وخاصة‏ ‏وأن‏ ‏بعضهم‏ ‏كان‏ ‏يزور‏ ‏فينيسيا‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏.‏

***

جريا‏ ‏إلى ‏المخيم‏، ‏وفى ‏ثوان‏ ‏كنا‏ ‏جاهزين‏ ‏لننطلق‏ ‏إلى ‏الحمام‏ ‏حالا‏، ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الحمام‏ ‏تماما‏ ‏لا‏ ‏يجذب‏ ‏الأولاد‏ ‏فى ‏بلدنا‏، ‏بل‏ ‏قد‏ ‏يقاوم‏ ‏أحدهم‏ ‏النزول‏ ‏إليه‏، ‏ولكنه‏ ‏هنا‏ – ‏لسبب‏ ‏ما‏ – ‏يجذب‏ ‏ثلاثتنا‏ ‏بسحر‏ ‏خاص‏ ‏واعد‏ ‏بالهجة‏ ‏والنكوص‏ ‏السمح‏، ‏وأنا‏ ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏العوم‏ – ‏إلا‏ ‏أقل‏ ‏القليل‏ – ‏ولكنى ‏أحب‏ ‏الماء‏ ‏حبا‏ ‏جما‏، ‏وحين‏ ‏حاولت‏ ‏صغيرا‏ ‏أن‏ ‏أتعلم‏ ‏العوم‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏كبرت‏ ‏على ‏ذلك‏، ‏واجتهد‏ ‏أولاد‏ ‏عم‏ ‏لى ‏أكبر‏ ‏وأشقى ‏أن‏ ‏يساعدونى ‏فى ‏هذا‏ ‏الأمر‏ ‏هازلين‏ ‏ساخرين‏ ‏جادين‏ ‏صابرين‏ ‏فى ‏آن‏، ‏وأنا‏: …” ‏أبدا‏ “، ‏كنا‏ ‏نذهب‏ ‏إلى ‏بئر ساقية، فيربطونى بحبل طويل سميك (سلبة) حول صدرى، ويلقوننى بها عاريا كاملا طبعا، وأنا : …. “أبدا !!”، كنت حول الرابعة عشرة على ما أذكر، ونجح أخى الأكبر فى تدريبات العوم الكلابى، وفشلت أنا (كالعادة)، بل ان اغيط ما كان يغيظنى أن شخيا كفيفا طريفا (وفديا) كان يذهب معنا، ويقفز الى بئر الساقية دون تردد وهو ………. ويحوقل، وهات يا عوم، وأنا مندهش منكمش أرتعش من البرد والخجل طول الوقت، وعموما فان علاقتى بكل أنواع الألعاب صغيرا هى علاقة واهية نتيجة لتلاحق هزائمى قبل وبعد كل محاولة، ولعل السبب فى ذلك، أن أخى الأكبر منى بسنتين اثنتين كان يحذق كثيرا من الألعاب بشكل يجعلنى دائما اختبئ فى ظله، بل فى جب عجزى وخجلى أساسا، ولم يكن لى اصدقاء فى مثل عجزى أستطيع أن أبدأ معهم بالتدريج كما ينبغى، وحتى صداقاتى المحدودة جدا كانت تقتصر على تبادل الرسائل أو المشى البطئ على جسر المصرف أو طريق الزراعية فى بلدنا، ثم، فيما بعد، حول ضاحية مصر الجديدة (1945) قبل أن تصبح هذا الأخطبوط ذا الألف ذراع نمشى ونتكلم، ونتكلم ونمشى، ثم نفترق لنتراسل، ولا لعب ولا يحزنون، وأذكر ذات مرة أن ابن عمة بعيدة لنا جاء يزورنا فى بلدتنا، وكان يحذق لعب تنس الطاولة (البنج بنج)، وظل يلعب مع أخى هذا ما يقرب من أربع ساعات متواصلة، وأنا انتظر أن يحن على احدهما ولو بشوط واحد، ولا فائدة، وحين جرؤت على السؤال عن متى ينتهيان، لم يكلف أى منهما خاطره بالرد على أصلا وما زلت أذكر معنى “الانزواء” من داخل منذ ذلك الحين، ومرة أخرى فى صحراء مصر الجديدة، ذهبت متطفلا مع اصدقاء أخى هذا للعب كرة القدم، وكنت حول الثالثة عشرة، وكانوا جميعا حول الخامسة عشرة، وقد نسونى تماما عند تقسيم الفرقتين، فذكرتهم بوجودى، فقال أحدهم اذهب الى أى فرقة “فوق البيعة”[14]، وبلعتها، وقررت ان انضم الى احدى الفرقتين، ولكنى لم اخطر أفراد الفريق الذى أقحمت نفسى عليه، وكيف أفعل؟ وظللت أجرى طوال الشوط الأول بجوار خط التماس دون أن أقترب من أى من الفريقين، أو تقترب منى الكرة أصلا، ولست أدرى هل غلبنا أم هزمنا، وكيف لى أن أدرى وأنا لست على يقين أصلا من الفرقة التى أنتمى اليها؟

وفى الشوط الثانى : انتقلت الى الفريق الثانى – دون أن أخطر أحدا – وظللت أجرى على خط التماس المقابل طوال الشوط أيضا، دون أن يلحظنى أحد، وأذكر فى احدى سفراتى السابقة[15] أنى حكيت هذه القصة لزوجة صديق (كان دائم الفخر أنه جمع الحسنيين، فنصفه الأموى من الميدى (فرنسا) والنصف الأبوى من تورينو (ايطاليا) وهو يعتقد أن هاتين المقاطعتين جمعا أنقى عناصر الشعبين، وكان قد أخذنا الى غابة فى جنوب باريس جيث تسكن عائلة قريب له، فوجدناهم يلعبون كرة القدم كبارا صغارا، وحين أصر على أن أشارك، لم ينسنى رغم تهبيلى المطلق، وكلما عثرت الكرة فى قدمى – بالصدفة طبعا – هلل وشجع كأنى قصدت شيئا، حينذاك، بلغتنى رسالة شديدة العمق وهى أنى لم العب حقيقة وفعلا “أبدا”، وذكرت لزوجته (فرانكا) علاقتى بكرة القدم منذ حادث صحراء مصر الجديدة مع أخى وصحبه، فقالت مازحة أنه يبدو انه كان يلزمنى أكثر من ثلث قرن من الزمان، ثم الحضور الى غابة فى فرنسا حتى أعرف الى أى فريق أنتمى، وقررت يومها أن أعمل فى بلدنا عند عودتى غابة وسطها ملعب (ملاعب) لمرضاى وعائلتى، لا ننسى فيها عاجزا ولا نغفل مبتدئا،

وقد كان.

****

كل ذلك خطر ببالى وأنا فى حمام السباحة مع أولادى الأصغر (احفادى) وفارق السن بيننا يقارب الخمس وأربعين سنة، وأنا أتصنع أنى أرعاهم وأحرص عليهم من الغرق، والواقع أنى أعيش كل الخبرة الممكنة فى هذه اللحظة بشكل ذاتى أساسا وبصحبة أقران أحرار، وتمر سحابة محملة بما تيسر، وتتوسط السماء فوقنا تماما، وترخ رخة قصيرة، فأفرح فرحتين وأنا أتمتع بمنظر الماء الهابط من السماء يتلألأ على الماء الصناعى الدال على محاولات الانسان الدائبة لتجميل الحياة، والاضافة الى الطبيعة بكل ما أوتى من ابداع مثابر، وهطول المطر عندنا فى بلدنا مصاحب أبدا بذكريات فصل الشتاء، ومغامرات الأوحال والحوادث وأعطال المرور، أما أن يهطل المطر عليك فى جو دافئ وأنت فى حمام سباحة نظيفة “تبلبط” طفلا مع الأطفال فهذه نغمة أرى عزفها رب الطبيعة ورب الناس، جعلتنى أحسن الانصات حامدا مرات كثيرة على ان المسألة ليست مسألة حمام سباحة والسلام، فان حمامات السباحة فى بلدنا لا تمثل عندى شيئا ذا بال، بل لعلى أنفر منها نفورى من النوادى التى تحتويها، فأنا لا أعرف مجتمع النوادى أصلا، ولست متأكدا على ماذا يجتمعون وعلى أى شئ يفترقون، والمرة الوحيدة التى دخلت فيها نادى الجزيرة كانت بدعوة من صديق تصور أن عندى ما أقوله بمناسبة عرض فيلم “ابنة ريان”، وكان لى فيه رأى منشور، وقد خرجت من هذه التجربة بخبرة لا تسر، فقد شعرت أنى أكلم ناسا لا أعرفهم على موجة لا يعرفونها، ولم أتعرف على ما هو حمام سباحة الا فى خلوة لاحقة، وعلى مساحة رائعة من مياه فيروزية قابعة وسط صحراء الخليج العربى تتحدى كل جفاف وجفاء، كان ذلك فى فندق “ابللى” فى رأس الخيمة، وكنت أنزل فيه ذات أغسطس، والحرارة 545، وتذوقت لأول مرة طعما فسر لى ما كان يقال فى بلدنا عن أم كلثوم أنها تستحم باللبن الحليب، فضلا عن أن هذا الحليب الفيروزى هو شفاف رائق بلا دسم، لكن يبدو ان التشابه كان فى درجة الحرارة ومعنى الرضاعة وأذكر عاملا آخر شجعنى على أن أختلس نزول ذلك الحمام دون شد – المرة بعد المرة – وهو أنه كان خاليا معظم الوقت، فاذا شاركنى فيه أحد، فصاحبة مايوه بكينى “جدا”، فى هذه الصحراء المحافظة جدا جدا، وسبحان مجمع الأضداد، ولم يكن ينغص على شعورى آنذاك الا هذا الالحاح المستمر فى التفكير فى من “هو ليس هنا”، ولا يستطيع أن يكون هنا، وكان ذلك أظهر ما يكون فى حمام آخر، أكثر فخامة، فى مكان أشد تحديا لأنه يقبع وسط فقر مدقع متزايد، كان ذلك فى هيلتون الخرطوم، والحمام دائرى، يملؤه أناس من تكساس، بعض رجالهم حول الحمام يلبسون القبعات المرتفعة ذات الريش، ويمكن لمن ينزله أن يتناول ما شاء من مشروبات وهو فى الماء حيث يوجد ما يشبه البار قابع على أحد جوانبه، وثمة كراسى صخرية يغطيها الماء يجلس عليها السياحون ويشربون ثم يعاودون النكوص، وظللت أتساءل حتى الآن : كيف لا تقتل كل هذه الرفاهية كل احساس بالحاجة الى العدل وضرورة اليقظة؟ وكيف يستطيع أن يذكر الناس “هنا” ناسا آخرين على بعد أمتار أو أميال لا يجدون ما يسمح لهم بمجرد استمرار دخول نفس الهواء واخراجه؟ وكيف لمن يدعى – مثلى – انه لا ينسى (وهذا مستحيل) أن يستمتع بنعم الله ونعم البشر طالما استطاع أن يحصل عليها؟ وما حال من هو أصغر وأصغر ممن يتصور أن الحياة هى كلها “هكذا” بالتعود على “هكذا”، حتى لو كان كل ما يكسبه شريفا؟ اسئلة تجلب الغم فى وقت يعتبر الغم فيه جريمة أو خطيئة لابد أن يحاسبنا الله عليها، ولكن الحمد لله، فحمام المخيم شديد التواضع، وان كان شديد النظافة، شديد الجمال، وناسه طيبون “منا وعلينا”، ولا تناقض على بعد أمتار أو أميال، وكل من يملك بضعة جنيهات يستطيع أن يمضى هنا يوما أو بعض يوم، وهو أمر يشجع على النسيان وحمد الله دون تنغيص ادعاءات حب العدل!!!، ونخرج من الحمام الى الكوخ، وأرشو الطفلين ببعض “الفكة” التى يمكن أن يمارسوا بها العاب التسلية فىالمقهى واعدا أياهم بأنى لن أبلغ بها أمينة الصندوق، ابنتى الوسطى، وذلك حتى أنفرد بنفسى أكبر وقت ممكن.

****

فاخذت أتامل نزلاء هذا المخيم الفخم ذى الأربعة نجوم (فالمخيمات مثل النفادق تحدد درجتها السياحية بعدد النجوم) – وتساءلت : هل هؤلاء الناس ذوو العربات الفارهة والبيوت المتحركة يسترخصون الاقامة فى المخيم عن الفنادق اللائقة بأمثالهم أو حتى عن بيوتهم؟ ويجيئنى الجواب معادا : ان المسألة ليست فى درجة الرفاهية ونعومة الخدمات، وانما فى فكرة الخلاء، والخدمات المشتركة، وتنشيط كل ما هو فطرى وكريم وسمح ومتعاون .. فى وجودنا الذى زحفت عليه دهون البلادة والخوف والحساب، ويتأكد عندى هذا المعنى حين أذكر أن مثل ذلك يحدث مع ناس أكثر ثراء، وفى أماكن أقل خدمات، ذلك أن من عادات أهل الجزيرة العربية من الأثرياء أن يخرجوا الى “البر” بين الحين الحين، ولم أفهم فى بادئ الأمر أن “البر” هو الصحراء المترامية الخالية، فطول عمرى اعتبر البر هو الشاطئ، اذ هو “خلاف البحر” ومقابله، الا أن “البر” عند اخواننا هناك كان يعنى ما يقابل “المخيم” و “التخييم”، ومرة وأنا فى رأس الخيمة – لمدة أسبوع خاطف – علمت من صديق يسكن قصرا (بحق وحقيق) مكيف بكل شئ (… ولا خطر على قلب بشر) أن عائلته فى البر منذ فترة، وعلمت – بطريق غير مباشر – أنهم هناك يمارسون حياة بدائية كاملة (بما فى ذلك – ولا مؤاخذة – قضاء الحاجة)، لأنه لا توجد خدمات متحضرة مثل هذه المعسكرات الرائعة فى أوربا، وجعلت اتساءل وأنا فى دورة مياه القصر – وكأنها من الذهب الخالص!! – “ايتركون هذا الذى يخجل واحد مثلى أن يلوثه حتى ولو حيل بينه وبين وظيفة بيولوجية حتمية، “ليعملوها” هناك؟ يا سبحان الله!! – وما زلت أذكر أيضا كيف عاد ابنه الأصغر (7 سنوات) من البر ومعه جحش صغير، يريد أن يدخل به الصالون المكيف!! (بعد أن عاد به من البر حيث الحمير بلا صاحب (ملكية مشاع) – وتعلمت من هنا وهناك انها – بالتأكيد – ليست مسألة رفاهية وتكييف طول الوقت، وانما هذا النشاط وذاك ليس وراءهما الا التذكرة والتأكيد على ضرورة النكوص، والاتصال المباشر بالطبيعة، ونحن فى مصر لا حصلنا هذا ولا ذاك، ولم يبق من مثل هذا النشاط الا شد الرحال الى بعض الموالد حيث ما زالت الجمال تحمل الأمتعة والعائلات أياما وليالى الى مولد السيد البدوى أو سيدى عبد الرحيم القناوى، والفرق شديد بين ناس يخرجون الى الخلاء (الخاص… أو العام) من كثرة النقود ودغدغة الرفاهية، وآخرون يدخلون الى ساحة الأولياء وزحام الناس من الحاح الرجاء و”قلة مفيش” – ومع ذلك فقد أحسست  أن الفكرة متشابهة، فثمة انتقال، وتخييم، وناس أغراب يلتقون دون سابق معرفة، ونشاط جماعى دون اتفاق، وهدف مشترك – فى مساحة ما – دون اعلان، وأنا أعتبر نشاط الموالد من أهم ما تبقى لنا من فرص النكوص الدورى الجماعى، الا أنى – بكل ألم – أسمع نغمة جديدة يتزايد علوها فى الهجوم – أيضا – على هذه الموالد، يهاجمها المتمدنون باعتبارها “تخلف وقذارة”، ويهاجمها المتدينون المتزمتون باعتبارها مسخرة وبدعة، ونحن شطار فى الهجوم دون اعطاء بديل أو اقتراح بتعديل، فبدلا من أن نوسع فى المكان ونقدم خدمات النظافة والاخراج، نهاجم، ونشجب، وننذر، ونتعالى، بل أننا لا نعتنى بمثل هذه الخدمات العامة حتى فى الأماكن السياحية المعدة للتخييم فى مصر، وما أقلها (سيدى عبد الرحمن مثلا) – وكأن ثمة خطة مدبرة قصدا تمنع الناس من مغادرة منازلهم … اللهم الا القادرون.. يغادرونها من منازل الى منازل أغلى واثقل تسمى الفنادق، والباقى يرص وقتنا أمام التليقزيون بأمر سلطوى، يبدو أنه متفق عليه بين أصحاب السلطة الفكرية والاعلامية والسياسية والدينية جميعا – واتساءل بانزعاج: فماذا بعد؟ لو أننا واصلنا حرمان شعبنا أكثر فأكثر من هذه النشاطات الجماعية النكوصية الدورية (الموالد، والمهرجانات،و حلقات النشاط الجماعية بكل أشكالها وأسمائها..) تحت دعوى الالتزام أو التحضر، أو الدين، أو الأصول.. الخ فأى مصير ينتظر حركة وجودنا الدورية؟ وأى خصام مع دورات الطبيعة ودورات النكوص الحتمية؟ وأنى ما زلت أذكر زفة مولد النبى فى زفتا والحرفيون فوق عرباتهم “الكارو” يستعرضون أنشطتهم المختلفة فى بهجة ما بعدها بهجة، ثم .. يارب رب سترك.

وأفتقد فى هذا المخيم – فى رحلة تأملاتى جيدا – هؤلاء “الغجر” من الخواجات الذين كان منظرهم مألوفا لدى فى مخيمات 1969 فى سويسرا وايطاليا، فأذا كانت الأسر الكبيرة، والقادرون يخيمون نكوصا الى ماهو قبيلة، فأن الشباب المحدثين (الهيبز وما شابه) كانوا يرتحلون ويخيمون نكوصا الى ماهو ” غجرى”.. بما فى ذلك أخلاق الغجر بما لها وما عليها، ولندا دارنل فى” عنبر الى الأبد” تبتسم لى وتشير بسبابتها على فمها الا أفسر أكثر من هذا، فلا أسمع لها، ويهف على وجدانى ذلك الخليط من المشاعر التى تحركت بى حين شاهدت لأول مرة فى معسكر ما فتى وفتاة من هؤلاء، وقد تجمعت عليهما قاذورات: الرحلة والطريق والزمن، حتى فاحت رائحة العرق المختلطة بالشبق والحرية، فأستقبل كل ذلك بخليط من مشاعر :الرهشة، والغيظ، وحب الاستطلاع، والغيرة، الاعجاب( ولا أطيل حتى لا أكتشف أكثر على ماهو أكثر، ويمكن للقارئ – لو صدقنى – أن يقوم هو بجمع هذه الصفات والمشاعر بعضها الى بعض،(لا على بعض)، وقد يقرا هو ما لم أكتبه، أو حتى من أعرفه فعلا وأصلا..، والأكل على رائحة الشواء بالمجان!!) وقد ارجعت خلو مخيمنا هذا، من مثل هؤلاء ” الغجر” الى احتمال تواكب ذلك مع اندار أمثال هذه الموجات (الهييبز .. الخ) أصلا منذ بداية السبيعنات، أولا لأن المخيم ذو أربعة نجوم، وهؤلاء الغجر يفضلون الأرخص والأقذر عادة.

ويعود ولداى (حفيداى / رفيقاى) فرحين باكتشافهم لطريقة مارسة ألعاب الحظ والشطارة، ويحاولون أن يستدينوا منى ما يصرفهم عنى، فأفعل وينصرفان لأخرج ما صحبت من أوراق وقد عقدت العزم على الكتابة وفاء لهذه المجلة بما وعد، وأجد موضوع “تطور الوجدان” يطل على من بين الأوراق البيضاء، فأخجل من أفكارى “العلمية” حول هذا الموضوع فى هذا الجو المشحون بشتى العواطف والمشاعر والوجدان والأحاسيس.. وكل ما ينتمى الى هذه “المنطقة” من الوجود، والفكرة وراء هذه “النظرية” التى تشغلنى عن تطور الانفعال هى أنه لا يوجد شئ اسمه عواطف أو انفعال أو حتى وجدان، بالمعنى الشائع الذى يصورها باعتبارها وظائف مستقلة ذات معالم خاصة بها، فان صح ذلك وتمك الغاء ما هو عواطف ووجدان: فما هذا الذى فيه؟ وبم اسميه؟ وكيف أصفه بمصطلحات العلم الوصى على الخبرات[16]، وقلت لنفسى: لنفرض أنى – شخصيا – أقترب من أعلى مراتب الوحدان تطورا فرديا (وهذا غير صحيح) فليكن ما أنا فيه هو ما أحب أن أسميه “المعنى الجوهر”،” المعنى الشامل” أو “الحقيقى” أو “النابض” أو ” المتناغم”: وهو ما يفيد نتاج الالتحام الطبيعى بين ما يسمى وجانا بما يسمى فكرا  اذا اصبحنا “واحدا” يستحيل فصمه الى اجزائه،… وأقول :ولو، أعجز عن كتابة أى حرف على أى ورقة… ولو على سبيل نقاط للتذكر مستقبلا، وينقذنى من مواجهة عجزى هذا حضور بقية أفراد الرحلة من جولتهم فى حالة من النشوة والانبهار ليس لها مثيل، ويعرضون على غنائمهم، واستعيد حبى لألوان “المورانو” الرائعة، ويحاولون أفهامى أن مفارش “فينيسيا” “صنع اليد” هى أكثر فنا وذوقا من هذا المورانو المصبوب فى قوالب، فلا أفهم، وعموما فأنا من بلد لا يقدر “اشتغل اليد” حق قدره كما يفعل “الخواجات” والذين يفهمون، وتحاول ابنتى أن تشرح لى كم من الساعات أنفقتها الفنانة التى “شغلت” هذا المفرش فأقول فى نفسى قوله جورج سيدهم فى ” المتوزجون”: “ناس فاضية – يا عم”.. لكن: أبدا هذا فن أى فن، يحتاج لتأمل خاص ليس فى مجال قدراتى الآن، وأعد نفسى – مثلما افعل بالنسبة للموسيقى[17] – أن أفرغ له يوما، ويبدأ الاعداد للعشاء، وكانوا قد اشتروا من الآنية ما أغنانا عن استعارة جديد، وهات يا حساء (شوربة!) أكلنا وشربنا الشاى، وسهرنا، وحاولنا أن نسمع اذاعة مصر فلم نفلح، وكنا فرحين بأول ليلة استطعنا فيها أن ننام فى مكان معروف لنا مسبقا من أول النهار!!، وأذهب وزوجتى الى المقهى النادى الملحق، نتأمل الوجوه، ونصخب فى صمت، ونحمد الله.

الثلاثاء 28 اغسطس

صبح حقيقى آخر، بكل الآمال المجهولة، والرسائل الهامسة، والأنغام الجياشة الواعدة، والصمت الناطق باهدهدة الدافئة، ويستيقظ الأولاد على راحتهم لأول مرة، وبعد الافطار المناسب والذى منه، وكنا قد بدأنا نستعمل منضدة مخيمات اشتريناها من أثينا، فردناها، فجمعتنا فى رحابة صدر ذكية، فضل ولداى الأصغران (رفاق الأمس وحمام السباحة) أن يمضيا اليوم فى المخيم دون النزول الى فينيسا، ففرحت فرحا شديدا لأنى سأجد ما يبقينى فى المخيم بحجة رعاية الصغيرين، فأعلنت ذلك، وأخذت أعد نفسى بيوم كامل أرتب فيه داخلى .. وقد تتاح لى فرصة افضل لكتابة بعض ما وعدت، وكان المخيم بكل اشيائه وأجوائه قد استقر فى وعيى حتى أحسست أنه بيتى وأكثر، وكأنى أقيم فيه منذ تناسخى الرابع عشر قبل المائة …، والمرأة الفرس تمشى فوق قفزاتها الصغيرة، أمام طمكتب الادارة”، وهى تطلق دفء  الفتوة ذات الرائعة الشبقية، واذا بزوجتى تفضل أن تبقى معنا، ولدى وأنا، وحاولت أن أثنيها عن عزمها خشية أن تكون “جاءت على نفسها” من أجل خاطرى، الا أنها اصرت أن تبقى حتى لو نزلت أنا والأولاد، وقلت: فرصة لجولات صغيرة لا يعرفها السياح ولا المخيمون، جولات أحلم بها شخصيا تميز رحلاتى دائما، وقد كان، فما أن رحل الأولاد الكبار، وانطلق السوق الأعظم (السوبر ماركت) لمعدات المخيمات المجاور لمخيمنا مباشرة، ووجدت فيه كل ما حلمت به من معدات المخيمات، وقد كنت ذاهبا لأصلح ما أفسدته تجربة بلجراد فى كيس نوم خيمتنا، ولكنى فوجئت بهذا الحشد الهائل من المعدات والتجهيزات، وقلت فرصة: سأتباع كل ما يجعلنى فى مصر قادرا على الحركة الحركة، ونويت لها حين عودتى، وأن كنت شككت – من واقع خبرات الماضى – أن إيقاع حياتى فى مصر سوف يسمح لى بأى حركة “أخرى”.

****

بدات جولتى الخاصة بصحبة زوجتى (أسمى مثل هذا النشاط: الجولة السرية فى الأماكن غير السياحية)، فدخلنا القرية الصغيرة التى واعدتها فور وصولنا بالعودة، الشوراع خالية خالية، وأحسن وصف لها هو ما نسميه فى بلدنا “ليس فيها سريخ ابن يومين”، وحقدت عليهم، ثم أشفقت علينا، ما هذا الصمت كله؟ أين الناس الزحمة؟ يعملون؟ كلهم يعملون؟ كل الوقت؟ وأين العجائز والنساء؟- وتركنا العربة وأخذنا نمشى على اقدامنا فى دهشة وصمت مفروض علينا حتى لا نجرح الصمت المطبق حولنا، وبين الحين والحين تمرق بجوارنا سيارة صامتة أيضا، وكأنها تسير دون دوران الموتور، وأخيرا توقفت سيارة غير بعيدة منا، ثم عدلها صاحبها فى مواجهة باب حديقة منزل لا هو بالفيلا، ولا هو بالقصر، ولكنه جميل متميز بين هذا وذاك، وغير هذا وذاك، ونزل منها (من الوجهاء) لابسا” أبيض فى أبيض”، ومضى فى هدوء باسم، فأمر باب الحديقة أن يفتح ذاكرا – بالضرورة – كلمة السر، شئ اشبه بـ “أفتح يا سمسم”، وعاد هذا الرجل الى  سيارته وادخلها ونحن نتفرج عليه وكأننا فى متحف للشمع، ونزل من سيارته وأخرج حقيبته، وذهب الى باب المنزل بنفس الهدوء، ليفتحه بحركات موسيقية ناعمة، ودخل..، طيب بالله علكيم ماذا فى هذا المنظر حتى احكيه بهذه التفاصيل الدقيقة التى تبدو بلا معنى، لابد م البحث عن دلالة هذا الحدث التى اتقل من أرضية جولتنا الى واجهة مسرح وعينا، ربما كان ذلك فيما جذب انتباهنا من ذوق رفيع تميزت به “عمارة” هذا المنزل وما جاوره، بالمقارنة بلانشار المعمارى الذى اصبح يتحدى أى حس سليم فى بلدنا، لا..، هذا لا يكفى، نعم: وجدتها، فقد بدا لى – رغم كل شئ – أن هذا الرجل المهذب جدا، الأنيق جدا،: هو وحيد جدا – حدا، لماذا؟ لست أدرى، وقلت لزوجتى: هل يمكن أن يؤدى فرط النظام، وعمق الهدوء، وتمام الاستكفاء الذاتى، وتناهى الذوق المتناسق، هل يمكن أن يؤدى كل ذلك الى هذه الدرجة القصوى من “الوحدة”، فأجابت بصدق أنها “لاتدرى”، فكانت أطيب منى وابسط، وتساءلت: لماذ الجأ الى الانتقاص من كل تكامل بهذه الشطحات الفرضية؟ وما الداعى لافتراض “الوحدة” وسط هذا النسيج المتناغم من الحمال والدعة؟ ومع ذلك، وبرغم اعتراض زوجتى، فأكاد اقسم أنه وحيد، وحدة “بلبل” اسمهان المهجور، لم يستقله أحد، ولا يبدو فى المنزل أحد أصلا، ولا حتى كلب فى الحديقة يهز ذيله لصوت السيارة، ويتمسح بقدم صاحبه فور نزوله منها، ولكننا وقت الظهيرة…. ولعل ناس المنزل فى الداخل، أو ما زالوا فى الخارج… الله!! الله!! الى أين؟… وأنا مالى؟ عندك. قف…

 ودخلنا الى أقرب مقهى، فلم نجد به أحد الا رجل البار واقفا وراء طاةلته دون اهتمام بقدمنا – ربما – حتى نقرر، فقررنا أن نخرج من الباب الآخر وقد بدا ظل من اكتئاب يهدد بالاقتراب.

ثم دخلنا مقهى آخر سمعنا به أصواتا “ما”، وفعلا كانت ثمة منضدة مستطيلة (لعلها اثنتين بجوار بعضهما) وقد جلس حولها خمسة أشخاص يلعبون الورق، وبجوار كل شخص آخر، متفرج أو مشجع، الوجوه شديدة الاحمرار، ولأصوات شديدة الضجيج، والتشجيع شديد الحماس، وانتقينا منضدة صغيرة بعيدا عن هذه المباراة المشتعلة وكأنها بركان نشط فى صحراء غير بركانية، ولم يكن فى المقهى كله الا نحن، وهم، ويستحيل أن ينفع بعد أو قربـ وبصراحة هم لم يلاحظونا، أو قل: ما كانوا يستطيعون الا أن يهملونا، حتى الصبى الجميل الذى لا يزيد عمره عن السابعة عشر قد جاءنا فى تكاسل، واللبانة فى فمه، وهو ينظر الينا بربع أو نصف عين، ويتابع المباراة بعين ونصف، وفى الوضع مائلا اشرنا له ما يمكن، فانصرف، وعاد بكل تراخ ليضع أمامنا شرابا لسنا واثقين أنه هو الذى طلبناه لأننا لسنا واثقين أنه هو الذى طلبناه لأننا لسنا واثقين ماذا طلبنا أصلا، وقلت لزوجتى أنهم لابد فريق من العمال الكادحين يمضون فترة استراحة الظهيرة فى هذا اللهو الخفى(!!)، ولكن “ظهيرة” من؟ لقد مرت الدقائق فالساعات، وكنت قد انهمكت مع زوجتى فى حديث يتصل بشكل أو بآخر بتعديل الكون، والجدية، والاصرار، (و”أنه”.. و”لذلك..”، “فان المستحيل”.. ،”حتى لو..”) وأقر واعترف أن بى هذه العادة القبيحة التى تقلب اى فسحة – ومع زوجتى بلاذات – الى هذه الجدية المحفوفة بالهموم، واستغرقنا الوقت، وهى مسكينة تستمع وكأنها 0 شخصيا – المسئولة عن كل “ذلك” وما “عدا ذلك”، لنها – بديهيا – تتربص بى وبالزمن لتحقيق “حياة الدعة دون مقابل”، بمجرد أن أسهو.، وكلام من هذا القبيل، وأكاد أجزم أنها تعلن فى سرها “هذا القبيل” ليل نهار، وخصوصا فى مثل هذا الوقت، الا ان ذلك الحماس الممتد وغير المناسب جعلنا نتأمل هؤلاء الناس أطول فأطول، ونتابع رهانا بدون مقابل أنهم ان يكفوا عن الشراب، أو أن يسكروا طينة حتى لا يعودوا يعرفون “الآس البساتى” من ” العشرة الطيبة”، ولا الملك من الكتابة – ونخسر نحن الاثنين الرهان، لأنه لا هذا يحدث ولا ذاك، ويعودنى المعنى الأول الذى جعلنى أقف أمام الرجل المذهب “لاذوق”،” الأأبيض فى أبيض” الذى زعمت بوحدته الثلجية، فهنا العكس تماما: صخب وسكر ولعب وقلة ذوق، وقفز عند المكسب، وقفز عند الخسارة،… الخ وابلغ زوجتى ما خطر ببالى بهذه المقارنة، فتنبهمى أننى آخذ بالظاهر، وأنه ربما كانت وحدة هؤلاء هى التى دفعتهم الى “كل هذا”، فهل كسروها بمت يفعلون؟ فأتعجب لمعارضتها لى على الخط، ولكنى أتامل كلامها وأقول: يارب سترك، لو صح كلامى الأول عن وحدة الرجل المهذب، وصح كلامها الثانى عن وحدة الصخب قليل الذوق فائق السكر، لأغلقت كل منافذ الأمل فى أن هذا المجتمع “يتواصل” أفراده مع بعضهم البعض كما خلق الله البشر، ولكن ما لنا نحن؟ وهل هذا الذى نفعله فى بلدنا، ويفخر بعضنا به هو هو” التواصل البشرى” المناسب الذى نقيس به غيرنا؟ ثم أليس من المحتمل أننا لا نفعل الا أن نسقط وحدتنا نحن (زوجتى وأنا ومن مثلنا) على هؤلاء البشر الذين لا نعرف عنهم الا ظاهاهم؟ ( ياعم روح!)

ونخرج بعد أن شعبنا جدا واجتهادا، وأملا، وتكون الساعة قد جاوزت الثالثة ظهرا، والشوارع ما زالت كما هى، أين الناس؟ وفى الطريق الى المخيم عائدين يلفت نظرنا مكان لانتظار السيارات، صغير وجميل، مكتوب عليه “خاص بزيائن المطعم فقط” (نفهمها بالعافية)، ونبحث عن هذا المطعم الملحق، فلا نجد الا محل بقالة مقفول، زبجواره كوخ متواضع نظيف وجميل أيضا، لابد أن يكون أن يكون هو ذاك، وافرح من جديد لأن هذا – بالضبط – هو ما أنشد الآن، فأنا شديد الشوق الى مطاعم القرى والضواحى الصغيرة، ونقرر بلا تردد أن نخون الأولاد ونتناول وجبة ساخنة يخدمنا فيها “آخر” كما الزبائن المحترمين فى هذا المطعم السرى الجميل، الا أننا سرعان ما نكتشف أن المسألة ليست سائبة، وأن ميعاد الغداء قد انتهى، ولن يفتحوا المطعم لا فى السابعة مساء وحتى التاسعة والنصف تماما(أهلا..!!) هكذا احترام كل شئ، ويغلب على ظنى أن رواد هذا المطعم هم ضيوف أسرة هذا الكوخ، لا أكثر ولا أقل، فعلا، رجح ذلك حين عدنا فى المساذ، بعد أن ذهبنا نطمئن على الصغيرين واشاركهم غطسا( ابويا هذه المرة – اذ لم أعثر بداخلى على طفل الأمس بعد ما كان من نقاش الظهيرة واسقاطات الوحدة).

ويبدو أن عمل بعض الأسر يكون متكاملا ومحليا فى هذه الأماكن البعيدة الجميلة، فقد خيل الى ان المنزل، ومحل البقالة، والمقهى،و المطعم هم جميعا جزء لا يتجزأ من منزل اسرة صغيرة تقوم فيها الأم أو الأخت أو الخالة بالطبيخ، ويقوم الابن بلاخدمة (هو هو فتى الظهيرة) ويقوم الأب بالادارة وطلبات المقهى..، وحين جاء لاشاب يسألنا ماذا نأكل، حاولنا أن نفهمه أننا نريد أى أكل طليانى جدا، لا نجده الا فى ايطاليا شريطة الا يكون بيتزا أو مكرونة اسباجيتى ( فقد انتشرا وتشوها حتى لم يعدلهما شخصية)، ولم يفهم – طبعا -، فقلنا ليس أمامنا الا الاشارة، وربنا يستر، ولكن الاشارة الى موائد الغير أكبر عيب، فكيف السبيل ان نقول “من ذا” دون أن “ننظر” فى أكل غيرنا؟ علما بأننا كنا قد عدنا نمتلئ سماحا ونرى “كل الناس حلوين” رغم هموم الظهيرة والفشل فى تعديل الكون وكسر الوحدة، فلا سبيل الى “نظر” فى أكل الغير أو نقود الغير أو أى شئ والله العظيم، واهتدينا أخيرا الى طلب ما(ازر بالكمون وسمك مشكل على ما أذكر)، وجاءت الطلبات عند حسن الظن، وان بدا الأرز لأول وهلة أنه “معجن”، ولكن ما أن ذقناه حتى تأكدنا أننا أمام شئ “مختلف”، وهذا هو المهم فى السفر، أن ترى وتأكل وتحس شيئا مختلفا، كان هذا هو الحال مع أنواع السمك وطريقة طهيه، وبعد أن انتهينا ودخلت أغسل يدى اذا بى اجد نفسى فى المطبخ دون “الدورة”؟ ففوجئت وفوجئن،(ثلاث نساء عجائز)، ولكننى سررت داخلى اذ تحقق ظنى أنى فى بيت ولست فى مطعم، وكدت أدهش من دهشتهن الشديدة وانا أتذكر الممثلة المصرية (التى لا أذكر اسمها) التى كانت تقوم بدور الزوجة الرفية للمرحوم سعيد أبو بكر فى مسرحية ” حركة ترقيات” وهى تنتفض حين دخول غريب وتنظر فى الأرض قائلة “يوه؟ راجل!!” – تراجعت دون احساس بالخطأ، فالبابان بجوار بعضهما، وشكل بعضهما، وليس على الباب اللآخر أى شئ يدل على المنع أو السماح، لا صورة رجل ولا أمراة ولا تسريحة ولا صنبور، المهم جاء الفتى الصغير المهذب، واشار الى لافتة على الباب، عليها حروف “أوربية”، وشئ اشبه بـ “كازينا”، طيب بالله عليك يا سيدى كيف اعرف أن كل هذا معناه “لا تدخل من فضلك: هذا هو المطبخ – ولكن العنب على الشم، ولكن من أدرانى من أين تأتى الرائحة والمطعم الجمل كله روائح شهية تمنعك من مجرد التفكير؟ المهم مرت بسلام، وحاسبنا الشاب فى رقة، ولم ندفع أنا وزوجتى أكثر  يقابل ثمان جنيهات ..، ياخبر!! هذه هى السياحة يا حضرات المسئولين عندنا، وفقكم الله وايانا.

وحين رجعنا الى المخيم كان الأولاد قد رجعوا من جولتهم المستقلة، وقالوا أنهم تمتعوا أكثر من أمس حيث كانوا قد ألفوا المكان والناس وكانت رائحة الحساء تفوح “كالعادة”( رغم أنها تكن قد تأصلت بعد) وكانوا قد احضروا لنا مفاجاة ما ينفع لاعداد عشاء ساخن كما ينبغى، وأنظر لزوجتى وتنظر لى، هل نعترف بالخيانة؟ أم نضطر لاصطناع الجوع ثم التزويغ او التموية؟ وأنقذنا ذكاء الأولاد على كل حال من هذا وذاك، فقد وجدوا فينا فتورا فى استقبال المفاجأة، والاسهام فى الاعداد نتيجة للشبع والرضا معا، ولم يثوروا احتجاجا وأن كانوا قد تهامسوا حقدا، وفرضوا علينا تعويضا مناسبا، وهو ان ندفع نصيبنا من ثمن العشاء حتى لو لم نتعش، فما ذنبهم فيما اشتروا حاسبين حسابنا، وفرحنا – زوجتى وأنا – بهذا الحل الوسط، ودفعنا ما علينا عن طيب خاطر وهمست زوجتى “هين قرشك ولا تهين بطنك”، وقلت جاءت سليمة.

………..

………..

ثلاث ليال بالتمام ننام فى نفس المكان، هذا عز لم نحلم به والله العظيم، وغدا سوف نشد الرحال الى نيس، رغم أننا أجمعنا جميعا أننا سعدنا فى هذين اليومين والثلاث ليال بما يجعلنا

****

 نقبل أن نمضى بقية الأجازة هنا دون ضجر، وتذكرت نفس شعورى عند توهم مشكلة “الكارت الأخضر” على جدود يوغسلافيا / ايطاليا، وسررت أن ما جعل هذه الرحلة موفقة بهذا القدر هو  ذلك الشعور بالرضا السابق لأى حركة أو سكون أو ذهاب أو رجوع، فقد كانت الغالبية راضية عن الاقامة فى أى مكان، كذلك عن السفر فى أى وقت، وعزمنا، وتوكلنا.

وذهبت أودع مضيفتنا “المرأة الفرس”، وكانت الساعة قد قاربت العاشرة مساء، فعجبت – من جديد – لهذه المرأة التى تخطت الخمسين دون أن تتنازل عن درهم أنوثة من أنوثتها المتفجرة المستبدة (صحيح يا ابن أبى ربيعة: ليت هندا استبدت .. أنما العاجز من اليستبد) وقد أجابتنى عن سؤالى عن الطريق السريع الى ميلانو فى اجابات قصيرة واضحة “… الى فينسيا فى خط مستقيم، ثم ترى اللافتات الى بادوفا … ميلانو” – وقارنت كلامها بخريطة شديدة التعقيد كان قد رسمها لى شاب خجول نحيف متردد يعمل فى ” سوبرماركت” مستلزمات المخيمات المجاور، وقلت فى نفسى: هل التركيب الجسدى الواضح المتحفز، يصاحبه مفس الوضوح العقلى المخترق؟ سيقو السلوكيون “لا”، ولا من “احصاء” ولاذى منه، وسأوافق، ولكنى لن أستطيع أن أمنع وضوح وجه المرأة وتحديد تقاطيعها، وخفة وثباتها وحسن وصفها، ودفء حيويتها من ان يقولوا لهم … “ولو!!!”.

وننام جميعا فى البنجالوز حيث فضلنا ان نلم الخيمة ليلا، حتى نقوم مبكرين جاهزين، ويسعنا البنجالوز رغم أنه ليس حجر ديب، لكنه احتوى تسعة من الرفاق يربطهم الرضا والأمل والطفولة والدهشة.

والى الحلقة القادمة، فقد أصبحت عادة.

****

[1] – أشارة الى قول المعرى فى اللزوميات

قد اختل الزمان بغير شك                         فجدوا فى الزمان وألعبوه

[2] – “اعترافات قناع”: يوكيوميشيما – (ترجمة اسامة الغازولى) ” ص7″ .دار التنوير للطباعة والنشر . بيروت.

[3] – Un elephant qui se balancait

Su rune toile d’araignee

Il trouve ca si interessant

Il appelait un dexieme elephant

***

Deux elelphants … ….. etc

[4] – فى النطق الذى أذكره كانت” منين” تنطق “نين” دون الميم، وقد ظللت مدة أكررها قبل أن أكتشف أن” نين” هى فى الحقيقة” منين” التى تتكرر. وخاصة وأن الـ “منين” كانت تعنى عندى صغيرا نوعا من الفطائر الصغيرة المعجونة باللبن، وليست علامة استفهام أصلا.

[5]  – استخرجت هذه الرخصة لظروف خاصة، وأمانا من الطب والتحول الاشتراكى المفاجئ، فبرغم أنى لا أفخر بشئ فى حياتى كلها أكثر من فخرى ” بصنعة المداواة”و” فن الألم” Art of healing ، فان هذه الصنعة لا تبدو لى أمانا من الفقر، لأنها صنعة فى العقل أساسا، والمثل يقول ” صنعة فى اليد”، كما أن “قيادة” العقول – حتى التى يسمونها مريضة – هى مسألة سياسية تربوية فلسفية دينية: فسبحان المنجى (واسالوا عمنا “سقراط”) أما قيادة “جميع أنواع السيارات” فهى صنعة مادية عيانية يمكن أن أقوم بها بكفاءة دون انتماء لما “أنقل”، ودون التدخل فى قيم وسياسات القوى التى تكلفنى بنقل ما أنقل،و الاحتياط واجب!!.

[6] – للتاكد: قمت بالكشف على هذا التعبير، فوجدته للأسف يعنى “نفسا ممدودا من توجع”، والحقيقة أنى استعملته بمعنى نفسا ممدودا “من راحة” اعلانا بانتهاء الأزمة واختفاء التوجع، فما هى الحكايةـ ما زلت مصرا على استعمالى على كل حال، بعد اذنكم!

[7] – رجعت الى كلمة “شذر” أوخى الدقة، فلم أجد فيما بين يدى من معاجم ما يفيد ما ذهبت اليه ابتداء، لا وأنا استعملها فى زحمة سياق الحكى،و لا وأنا أنكرها، وكدت – مثلما سبق ان ذكرت – أنكر على فلمى حقه فى هذا الاستعمال الشائع، ولكنى فضلت لوم المعاجم التى لم تسعفنى … يا للغيظ! ثم … يا لفضل هذه الكتابة الطليقة!

[8] – هذه هى ترجمة الحرفية لما قال بالفرنسية Ici ou la partout  ولكنها ترجمة قاصرة لا تفيد الروح التى صرفنا بها، والتى تنتقل أكثر اذا ترجمنا هذا القول الى “اللى يدور يلاقى …..”

[9] – كتبت شعرا بعد ذلك بسنوات بعنوان : فى”هجاء البراءة” قد أضمه لملحق هذا العمل أن كتب له أن يجمع يوما.

[10] – كلمات يرددها المبتدئ فى الفرنسية تنقذه من الزنقة وتفض الحديث مثلAh oui /D’accord /ca y ets

[11] – سأعود الى الحديث عن انتشار هذه الرياضة فى أوربا وأمريكا، وقصتى معها.

[12] – بشديد الجيم وكسرها، وما أعنيه هنا ليس من الفجور – وأن لم يستعبد – ولمنه من التفجير، ولا أقصد تفجير الحجارة البليدة، وأنما فك صلابة التربة المستعدة ( وفجرنا الأرض عيونا).

[13] – عدا أيسلندا!! حيث ممنوع دخول الكلاب أصلا، وسوف أعود لمشكلة “أوربا والكلاب” التى تضخمت فى سويسرا بشكل خاص.

[14] – يمكن أن نرجع الى موقف “زائد عن العدد” الذى أشرنا اليه فى مقتطف

[15] –  كانت رحلة عاجلة قابلت فبها ذلك الصديق القديم “بيير – ماريا – برينتى”، وثانى اسمه هو اسم والدته الفرنسية، أما ثالث اسم فهو اسم والده، فتعجب معى، وهو طفل كبير، تحدثت عنه فى كتابى “حيرة طبيب نفسى”، وما زالت علاقتى به تمثل أمانا خاصا مهما بعدت الشقة وطال الزمن، فنحن لا نلتقى الا كل عدة سنوات، كما أننا لا نتراسل باتفاق واضح بأن نتراسل دون كتابة ….!

[16] – علم النفس

[17] – اكتشفت فيما بعد خيبة سقراط – قبل دارون – فى الموسيقى، وكيف أنه كان يستجيب لهاتفه الذى يهيب به أن ” أنشئ الموسيقى وتعهدها” بمزيد م الفلسفة باعتبارها أسمى جوانب الموسيقى، لكنه: فى سجنه وقبل اعدامه مباشرة يراجع نفسه “ربما قصدت هواتفه الموسيقى بمعنى الكلمة”-.. “فأنشأت قبل رحيلى قليلا من الشعر”، أليس فى كل ذلك ما يطمئن ويؤنس ويفسر؟ وأنى لست وحدى الخائب فيما هو موسيقى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *