الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1985 / ابريل1985-مثل وموال علم بالنفس: من حدس الناس 2 – فصل فى النذالة والخسة

ابريل1985-مثل وموال علم بالنفس: من حدس الناس 2 – فصل فى النذالة والخسة

مثل وموال 

علم بالنفس: من حدس الناس

2 – فصل فى النذالة والخسة

( واقعية الناس لا مثالية المكاتب)

النذالة خلق كريه ما فى ذلك شك وهو ضرب من الخسة والحقارة يسمح لصاحبها بالدون من الفعل دون حرج، فعلا اراديا مع سبق الاصرار، وأفظع من ذلك أن تكون نذلا دون أن تعرف، نذلا بالسليقة(!) مع تصور غير ذلك.والأفظع من الأفظع أن تكون نذلا وتدعى ضد النذالة. لكن، أليس للنذالة وجه آخر؟ واستعمال آخر؟

– 1 –

أول ما انتبهنا الى احتمال وجود هذا الوجه الآخر، كان حين سمعنا من يقول ( من ساقية أبو شعرة)، فى مناسبة جيدة

” عش نذل[1] تموت مستور”

ورفضنا هذا المثل رفضا تقليديا، وحين عدنا الى اعادة النظر تبين لنا أن المسآلة لها – فعلا – وجه آخر، ذلك أن بعد النذالة يمكن أن يكون وقاية محسوبة ضد المثالية المدعاة، أو أنه كشف لغطاء ادعاء عدم النذالة (المصاحب عادة بممارستها فى الخفاء)، أو أنه اعلان لحق أن تحمى نفسك – بالنذالة – فى مجتمع نذل، فما أسهل أن يقولوا لك هذا عيب، وهذا لا يصح، ليمارسوا هم كل ما لا يصح، القوة من احتكار أو ثراء أو سلطة. ويحذق هذه اللعبة بوجه خاص الأقليات التى تعتبر أغلب وجودها ليس الا دفاعا فى حب عنصرية متصلة، فتستعمل النذالة خارج دائرة فصليتها، فى حين أنها قد تتراحم فيما بينها بشكل أو بآخر[2].

أذن، فثمة احتمال أن هذا “المثل الواقعى” لا يدعو بالضرورة الى خسة أو هوان بقدر ما ينبه الى نوع من النصاحة والانتباه، وأن فرط ادعاء الشهامة قد يخرب البيوت، وأن قد يكون من حق الواعى من الناس أن “يستعمل” النذالة بحرص وشجاعة، لا ان يكون نذلا فى سر أو علن، وشتان بين استعمال النذالة من مضطر واع، وبين دونية الوجود النذل المستتب!!

– 2 –

على أن ثمة اقترابا آخر من موضوع النذالة من حيث أن النذل لا يعتمد عليه، ولا ينتظر منه شهامة أو مساعدة أو سند، اذ يقول “المثل الثانى:

النذل ميت وهو حى، ما حد يعمل حسابه:

زى الترمس التى، وجوده يشبه غيابه.

 وهذا المثل ضعيف فى تفاصيله، والمناقشة التى  تتجاوز ما قيل من أجله تكشف ضعفه هذا بدرجة تجعله محل نقد شديد، ولكنه لا يصح أن نتجاوز به حدودهز اذا لابد أن نأخذ هذا المثل – وغيره – فى حدود ما قيل فيه لاأكثر ولا أقل، فهو ينبه الذى يأمل فى النذل ألا يرجو فيه خيرا، منه أحد ما يعنيه بقوله:” ماحد يعمل حسابه”، أى لا ينبغى أن ينتظر منه أحد شيئا طيبا، ذلك انك اذا ذهبت تستدين منه لم يسعفك، واذا استشرته لم يصدقك… وهكذا. ومع هذا فتعبير، م احد يعمل حسابه، يوحى بالاهمال أكثر من مجرد عدم الترجى، ومن هنا يأتى ضعف آخر فى المثل، لأن المثل عادة ينصح الغافل، لايزيده غفلة. ومن أهم ما ينبغى التوقى منه هو مقالب النذل الجاهزة، ةمن هنا لابد أن يعمل حسابه ألف مرة “لتوقيه”، و”ابطال شره”، “الا”، كما أن التشبيه بلاترمس النى: هو تشبيه قاصر، فضلا عن أن الترمس النى له فوائد حقيقية، فأنه يعد بأن “يستوى” أو حتى أن يرع فينبت، فوجوده يشبه غيابه “حالا”، وليس مستقبلا (والنذل ليس كذلك).

هذا مثل ضعيف، رغم أنه يؤدى واجبه فى حدود ما قيل له…

– 3 –

الا أن ثمة مثلا ثالثا لابد أن يستوقفنا مثل المثل الأول حين يقول:

” النذل يوعد ويوفى، والكريم يوعد ويخلف”

 وقد قدرنا أول ما قدرنا أن هذا المثل يدعم راينا فى أنه ليس دائما “يحيا الثبات على المبدأ”، بل أن الثبات على المبدأ مع تغير الظروف قد يكون دليلا على الجمود والغباء، وبالتالى فان “الوفاء” (هذه الفضيلة الجيدة) قد لا تكون دائما صفة حسنة، فهذا هو النذل “يفى” بالوعد لأنه جامد متعصب لا يلين أو يتكيف مع اختلاف الأحوال ما بين وقت الظروف.

 أما الكريم فعنده من الشجاعة والوعى ما يسمحان له بإعادة النظر، فهو لو أخلف وعده، فأنما يفعل ذلك لأنه شجاع، لأنه ربما اكتشف حلا افضل، فالمسألة ليست فى أن يقال “وفيا”، ولكن المسألة أن يكون شجاعا كريما واعيا يتغير الظروف دائما ابدا.

وهذا هو ما يمكن أن يخطر بالبال حين يسمع هذا المثل فى بادئ الأمر.

لكننا بتأمل اهدأ، ةمن عمق ىخر، نكتشف أن كلمة يوعد هنا تعنى “يتوعدط، وبالتالى يصبح المعنى المراد أن النذل قلبه اسود، اذا توعد نفذ وعيده (لا”وفى” بوعده) بقسوة ونذالة فلا مجال للسماح فى قلبه (الأسود)، أما الكريم فهو يتوعد ولكنه قادر على السماح والعفو عند القدرة. ومع أن هذا هو المعنى الأصح فأن الغيط لا يفارق السامع وكلمة “يوفى” ترن فى أذنه لأن الانسان لا يفى بالوعيد ، وأنما ينفذه.

– 4 –

فالنذالة جزء لا يتجأ من الحياة، وهى مرفوضة ابتداء، الا أن الوعى بها، ومعاملتها بالمثل أحيانا، هما نوع من اليقظة الواقية والواقعية، ولكن ذلك ابدا لا ينبغى أن يكون تبريرا ولا ديدنا، فلنتشجع أكثر لنرى كيف يفل الحديد الحديد، فثمة امثلة تعملنا كيف نحدد مصالحنا من النذل فى حدود جزئية، فلا نقبله كله، ولا ننسجب أمامه فيخلو له الجو، ذلك أن كون النذل نذلا لا يمنع معاملته بالحذر، بل أنه يمكن أن تكون هذه المعاملة سبيلا الى الحد من نذالته اذا لقى من هو أكثر منه يقظة ومناورة:

خذ بنت النذل وخاصمه

وفى هذا المثل دعوة الى المواجهة الواعية ابتداء، ثم أنه يدعو ألا يؤخذ الابن (البنت) بجريرة أبيه.

وأخيرا فان تجنب اذى النذل – حتى بعد مصاهرته – ممكن، ويتدرج هذا الموقف أمام النذالة (واللؤم) ليس بمجرد التجنب (المخاصمة) وأنما الى المواجهة بالهجوم بعد الحصول على بعض الحق:

خذ القليل من اللئيم وذمه”

وهى مناورة واقعية ايضا، صلحت حتى فى السياسة مما لا يعجب المثاليين الذين لا يتحركون من أماكنهم تحت عنوان “الكل أو لاشئ” وهو مبدا مثالى خطير فى صراع القوى. فاذا كان مبدأ “الخطوة خطوة” هو مبدا تنازلاتى خطير، فان مبدأ “الكل أو لاشئ” هو مبدأ طفلى لغير الواثق من نفسه ولا من قوته المتنامية، والسياسة الحكيمة قد تضطر الى استعمال كل الأسلحة فى مختلف الأوقات حسب مقتضى الحال، والساسة أعلم.

– 5 –

فاذا تصورنا بعد ذلك أن هذا الموقف (خذ بنت النذل وخاصمه، وكذا: خذ القليل من الليئم ومه) هو موقف هجوم دفاعى واقعى تجاه الأنذال، حتى نكون قدهم وزيادة، فأننا يمكن أن نفسر أمثلة أخرى فى نفس الاتجاه حسب ظروف استعمالها، مثل:

” اللى ييجى منه احسن منه”

وهذا المثل من اصرخ الأمثلة انتهتازية، اذا تصورنا أنه موجه لكل الناس. ولكن اذا تصورنا أنه موجة للئيم والنذل فحسب، فأنه يصبح فى نفس اتجاه الواقعية والهجوم الدفاعى الذى اشرنا إليه، ويؤكد ذلك مثل قريب منه، حد الضمير المتصل فى كلمة منـ …

شعرة من الخنزير أحسن من دقنه

على أن ثمة وضعا آخر قد يكون لائقا فى ظروف تجعل الهجوم الدفاعى مخاطرة ثمنها أبهظ من مكسبها. وهنا يصح المثل البديل “عتاب الندل اجتنابه” وان كنت فضلت أن أقرأه أحيانا “عقاب الندل اجتنابه”، لكن الندل لا يعاقب لأنه لا يتعلم من الخبرة ولا يخجل ولا ينظر لبعيد بحيث يردعه عقاب او حتى اجتناب، فالاجتناب هنا لصالح المنسحب اذا لم يكن فى مستوى الهجوم بنفس اللغة لعجز عن استعمال النذالة “من الظاهر” مع الترياق المضاد والموقظ خشية التمادى أو التعود فالنسيان.

– 6 –

وهكذا يعلمنا الأدب الشعبى – بحذر شديد – أن التعميم على كل الناس هو أمر غير طموح، لأن الناس تختلف، والمواقف تختلف. كما ينبهنا الى واقع “ضرورة التعامل”، ثم يتقدم خطوة الى تجزئ المواقف، فما كل نذل هو نذل “طول الوقت”، ولا هو نذل فى كل ما يفعل، وكل ما يملك، وكل ما (ومن) ينتمى اليه، وبالتالى فامكانية التعامل مع أجزائه الطيبة، أو خلقه البرئ، أو اعطائه القليل، هو ممكن حتما وواقعا. الا أن الوقاية الحقيقية من الأعيب النذالة لا تكون الا فى القوة الذاتية المتزايدة، فى مواجهة الأنذال واللئام. فثمة اساليب أخرى مطروحة دائما للتعامل مع اللئام، من مركز أقوى ولكنه أصعب –  يقول الموال:

خسيس عمل مقبحه رايد بها عندى

عملت أنا الطيبة شوف فرق دى من دى

والله أن كشيت الخسيس حرير من الهندى

يأكل فى خيرك وعند الناس يذم فيك

هلبت ياعين بعد الشرد ما تندى

فالخسيس هنا يرد عليه بالاحسان، ولكن من مركز القوى، ومعرفة أن عامل الطيبة لا ينتظر جزاء، بل لعله ينتظر العكس (انكار الجميل، والتنكر للعطاء) بل ان الملاحظ أن من طبع الخسيس ألا يكتفى بانكار العطاء بل انه يبادر بالهجوم على صاحب الفضل عليه، ومن عمق معين يمكن ان نفهم هذا الهجوم باعتباره نوعا من الدفاع ضد الاعتراف بالضعف والحاجة، وهو موقف عام ليس من صفات الخسيس خاصة، بل أن الأخذ المعلن والمشروط هو أمر شديد الصعوبة حتى على الشخص العادى وخاصة من لم يتجاوز الموقف البارنوى[3]، غير أن الفرق بين الموقف البارنوى المجرد الذى لم يتشوه بانحرافات خلقية هو أن هجوم البارنوى على من يعطيه، يكون مباشرا ومن منلطق رفض العطاء، أو الشك فيه، أو انكاره الحاجة اليه، خوفا من اعلان الضعف فالاستهلاك للاحتواء والتلاشى:

” فبقدر شعورى بحنانك

سوف يكون دفاعى عن حقى فى الغوص الى جوف الكهف

وبقدر شعورى بحنانك

سوف يكون هجومى لأشوه كل الحب وكل الصدق”

فهو هنا (فى الموقف البارنوى) الأخذ مرة بالانسحاب الى عزلته فى حالة من اللاعلاقة، أو بالهجوم المباشر والتشكيك فى الحب والصدق، ولكنه انسحاب وهجوم من واقع رفض موقف الاعتراف بالضعف المبرر للأخذ – وفى نفس الوقت: مع احترام متألم لصدق العطاء وفيض الحنان.

ثم قد يتحور هذا الموقف (البارنوى) ويتلوث ليصبح الهجوم تحت الجزام،و فى غير مواجهة. فالموال هنا يقول “عند الناس” ولا يقول يذمك أو يهاجمك وجها لوجه، ذلك أن الخسيس أذا هاجم صاحب الفضل فثمة احتمال لأن يحرم فضله مبكرا أو كاملا، لكنه يتمسكن او ينتنظر أو يناور حتى يحصل على مطلبه ثم يمارس نوعا نيئا من الهجوم بتشويه صورة الكريم “عند الناس” بالذم وأنكار الجميل

– 7 –

وليس أخيرا، فثمة موقف قد يضطر إليه فى مواجهة اللئيم، خاصة اذا انتقل وضعه من المستذل المتمسكن: الى صاحب السلطة بشكل أو بآخر، هنا يصبح الألم مضاعفا فى معاملته/ فأنت لا تستطيع أن تاخذ منه” شعرة” أحسن من ذقنه، ولا تملك أحيانا أن تخاصمه ، وقد تضطرك الأمور الى معاملته من واقع سلطته، وهنا يصبح الوعى بالموقف شديد الايلام:

الله يلعنك يا زمان وانت بقيت بالهم

والكلب لما حكم قاله الأسد يا عم

وهذه الرؤية ليست تبريرا للنفاق، وأنما هى مواكبة للألم نتيجة للاضطرار، وتراها فى كل موقع سلطوى حين تأتى السلطة نتاجا غير طبيعى لظروف طارئة – ولعل الصورة التى تنشأ فيها هذا المثل – اصلا – كانت – مثلا – صورة عمدة فى قرية هو قاطع طريق، ومحتكر أزراق، واذ يقف أمامه شيخ بلد كريم، أو فقيه فاضل عاقل، يرجو قضاء حاجة له أو لناس المستجيرين به، فيصده بنذالة الأوغد، فيتوالد المثل ويتردد، الا أن هذه الصورة قد اصبح لها ما يقابلها على أعلى مستوى علمى وثقافى، فاحيانا بشعر الأصغر والأكثر أمانة فى مجال مناقشة رسالة علمية، أو حكم على بحث، أو ترشيح لجائزة، يشعر هذا الأصغر أن محكميه أدنى منه، وأن الزمان هو الذى اضطره لقبول هذا الوضع، وأن عليه أن يمضغ ألم الواقع ويصبر ويقول لهم “ياعم”.. حتى تنعدل الأمور أو يعدلها.

على أن الأكثر ايلاما ليس فى مجرد أن الأسد صاحب الحاجة (حقه – وقضاؤه معا) يقول لكلب الحاكم يا عم، بل أن الحاكم (الكلب) قد يردده بعد هذا التنازل الواقعى المؤلم والمهين، وقديما سئل أعرابى ما اشق الأمور على النفس  قال  “وقوف الكريم بباب الئيم ثم يرده”.

– 8 –

ونحب أن نؤكد أن دقة هذا الموال وما ارتبط به من تفسير واستشهادات تكمن فى الألم المصاحب للتنازل المؤقت، فأن تلعن الزمان وتشعر بالهم وأنت – الأسد – تقول للكلب يا عم، أمر يختلف تماما عن ما يشير به المثل:

” اللى يتجوز أمى أقوله يا عمى”

 الأول …… اضطرار واقعى مؤلم.

والثانى ……. ذل ارادى انتهازى مستسهل.

وأحسب أننا يمكن أن نتذكر من هذه الاطلالة على بعض اقوال الناس، والتلمذة فى بعض فصولهم، أن الأمثال والمواويل ليست حكما عاما على شعب، ولا هى دلالة على طباع غالبة، بقدر ما هى رؤية مخترقة فى موقف محرر. ولابد أن نشك فى جدوى أية دراسة تعتند على احصاء كمى لاتجاه الأمثال عامة، ما لم تأخذ فى الاعتبار التفرقة النوعية فى توقيت ظهور المثل والمواقف استعماله، وهو أمر يكاد يكون بعيدا عن متناول الدراسات المتعجلة أو المسطحة.

أذن، لتكن رؤيتنا لهذه الأمثال واعادة معايشتها لنا مجرد فتح أبواب احتمالات راجحة فى مواقف بعينها دون تعميم أو تعصب.

والى مثل مخترق، وموال معلم، نترككم على خير.

***

[1] – تستعمل اللغة العامية لفظ ندل بدلا من نذل، ولكنها تتفق مع العربية فى أن الخسيس هو النذل، نذل: نذالة: خس وحقر، وسوف نستعمل اللفظ العربى فى الشرح ونحتفظ باللفظ العامى فى نص المثل.

[2] –  فكر فى معنى استنقاذ اسرائيل ليهود أثيوبيا دون سائر الأثيوبيين!!

[3] – الموقف البارنوى ليس مرضا، ولكنه مرحلة من مراحل النمو تتصف بعلاقات الكر والفر، والشك والتوجس، والهرب والملاحقة … ويتجاوزها الانسان باستمرار النمو، ولكنها تظل كامنة جاهزة للتنشيط فى أى وقت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *