الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1986 / عدد يناير1986-عالم الفنان سعيد العدوى

عدد يناير1986-عالم الفنان سعيد العدوى

عالم الفنان سعيد العدوى

عصمت داوستاشى

فى عام 1973 شاهدت المجموعة الكاملة لرسوم سعيد العدوى فى معرضه المقام بقاعة المركز الثقافى التشيكى بالقاهرة وقتها انبهرت بعالم هذا الفنان الذى رحل مبكرا وكأنه قد أنجز هذه الرسوم ليقول لنا بها وداعا؛ ولتبق فى ذاكرتكم التشكيلية فقد توفى سعيد العدوى فى أكتوبر 1973 فجأة كان رحيله صدمة للجميع وبقيت رسومه الفريدة فى عالم الرسم شاهدة على أصالته كمبدع متميز، يعتبر فن الرسم عملا فنيا متكاملا وليس مسودة لعمل آخر وكان يسعى فى بناء صورته بنفس قوانين بناء السجادة الشرقية، وكان يرى فى الخط العربى اصدق دليل لمزاجنا وذوقنا وأبعاد حضارتنا العربية وأن أى حرف من حروفه هو تلخيص لمنهج فكرنا

سعيد العدوى، الذى نستضيفه من خلال مختارات من مجموعة رسومه الشهيرة، من مواليد عام 1938 وتخرج عام 1962 فى أول دفعة تخرجت من كلية الفنون الجميلة بالاسكندرية وهو تاريخ بداية تعرفى عليه فهو تاريخ التحاقى بكلية الفنون وتاريخ تعيينه معيدا بها بقسم الحفر فلم أسعد بأن يدرس لى ولكن تأثرت كثيرا بأعماله خاصة فى التصوير الذى كان يتميز بالجرأة فى الحلول التشكيلية، ولم يكن عالمه المميز قد ظهر بعد .. ذلك العالم الذى كتب عنه فى مقدمة آخر معارضه يقول :

“ان عناصرى تفوح منها رائحة الماضى السحيق …. الاشياء القديمة العربات الكارو – رسوم الأطفال السجاد الشرقى القديم نحت الحضارات الشرقية عالم الموشحات صلاة الجمعة عربات الحنطور العمارة البدائية حلقات الذكر والحواة والمشعوذين أعمال فيللينى وفسكونتى وبازولينى الأقصر الأضرحة المجزر تجمعات الموالد والاسواق والاعياد والشواطئ الشعبية المنتجات اليدوية بكرداسة وأخميم والواحات سجاد الحرانية الخط العربى بأساليبه المتنوعة الايقاع المنفرد لتلاوة القرآن الكريم الغناء الشعبى البدانى سمات الذوق (البلدى) فى الحديث والتعامل اليومى والشجار حى العطارين الأفلام السينمائية الطليعية الغارقة فى التطرق الحشرات والنباتات الحياة الأولية تحت المجهر رسوم ما قبل التاريخ التصنيع اليدوى المتاحف الحلى البدائية الموسيقى العربية القديمة رسوم كتب الجغرافيا والطب والفلك من المخطوطات الاسلامية والقبطية سيرك المولد بعالمه الفطرى الكلوبات المسارح الشعبية شجاعة بيكاسو الباتيك الهندى الريف المصرى الفن اليابنى والصينى والاسلامى والقبطى الفنون الايرانية تونس نزوات ميرو المكس هندسة ليجيه حلم بهزاد عنف الماسك الافريقى القصور الانسانى فى صناعته الفخارية الساذجة الضوء الصراحة البساطة النيل تضاريس الأرض الترتيب الدقيق الجلاليب المقلمة الصرامة العقود الكهرمان تخطيط الغيطان اللون البنفسجى الاحجام التى تأخذ فى الصغر كلما أو غلت فى البعد ..

هذا هو عالمى”

يبدو أن سعيد العدوى كان يحب كل ما هو فى عالمنا وكيف لفنان أن يكون أسيرا لكل ما ذكره العدوى فكلنا نحب ما أحبه ولكن هل كلنا أبدعنا ما أبدعه أما كيف فعلها سعيد العدوى فهذا هو السر فى أن هناك فنانين مبدعين يستوعبون بحس فطرى ابداعات هذه الحياة، روحية وبشرية وطبيعية لينتجوا ابداعا جديدا غير مقلد يزيد فى اثراء الحياة من حولنا ويعمل على أن تتفتح مداركنا لعالمنا وأن نكتشف رؤيته من جديد وبطريقة جديدة وأن يزيد حبنا له وتفهمنا، أو العكس تزيد كراهيتنا له وغموضه كان سعيد العدوى من هذا النوع من الفنانين المبدعين فلم يقف أمام الاشياء ويصورها وكذلك لم يدخل الى ذاته فيخرج منها ارهاصاتها وانما فعل الاثنين وهى معادلة صعبة فخلق عالما متكاملا بأرضه وسمائه وناسه وحيواناته وقمره ونباتاته ومن بداياته الى نهاياته أنجز هذا العالم ورحل كما رحل من قبل الجزار وكمال خليفة وعبد المنعم مطاوع ولست الآن بصدد الكتابة عن سعيد العدوى أو عرض لأعماله التى شاهدت القاهرة بعضا منها أخيرا فى قاعة مشربية فى ابريل الماضى.

ولكن أحاول تقديم سعيد العدوى الى من لم يعرفه من قبل ومن خلال بعض ما كتب عنه.

كتب الدكتور نعيم عطية

“فى مجلة الكاتب عدد نوفمبر 1974”

رسمت الجنازات، أيها الفنان الوديع، ولم تكن فى الحقيقة ترسم سوى جنازتك أنت

رسمت أيها الصديق مشاهد السيرك وكنت أنت البهلوان الذى سقط ميتا من فوق السلك

الحق أن سعيد العدوى كان يتعدى على الدوام الموضوع الذى يرسمه، فقد كان الموضوع مجرد تكأه ليبدأ العمل، مثل المغنى القدير يبدأ الحفل بطقطوقة صغيرة، ومع تنويعاته وحميته يحيل اللحن الصغير الى اغنية تملأ الدنيا طولا وعرضا، ولقد كان سعيد العدوى ممتازا حقا فى التنويعات على اللحن الواحد، وبناء الملاحم التشكيلية

تذكرنا رسوم سعيد العدوى, المنفذة بالأبيض والأسود بسجاجيد فارسية محكمة النسيج متقنة الأداء أو ربما تذكرنا أيضا بأكلمة أولاد الحرانية (1)، ولكن ثمة فارقا يظل قائما بين رسوم العدوى ورسوم الحرانية بل ورسوم الاطفال بصفة أعم أن رسوم سعيد العدوى هى رسوم “طفل عجوز” أو هى مثل “مسرح الاراجوز” بالمقارنة “بمسرح الاطفال”، ففى رسوم العدوى مكر فنى كبير، ويتضح فيها للعين المتأنية تمكن شديد من أسرار الصنعة.

هناك فى أعمال هذا الفنان الشاب الذى سقط فى الرابعة والثلاثين من عمره، ما هو كامن فى الاعماق ويجب أن تضع اليد عليه حتى تكتسب محتضن، مكتفى به حدس بالمكتوب وقناعه به

ولتذهب كل قوانين المنظور والتكوين والبناء التى يعلمونها فى المعاهد والكليات الى الجحيم، ولتحيا رسوم المتواضعين انقياء القلب، ورسوم الاطفال، والفنان الشعبى، ونقاش الحوائط، ودقاق الوشم، وجادل الحصير، ونساج الكليم، اولئك الذين تشربت أعمالهم بكل البساطة والعفوية التى اتسمت بها رسوم سعيد العدوى

كتبت الفنانة فاطمة العرارجى (2)

نشأ سعيد العدوى فى منطقة من أكثر مناطق الاسكندرية تميزا بطابعها، وأوثقها صلة بالبحر، الا وهى منطقة “بحرى” أصل الاسكندرية القديمة وقلبها التجارى فان العراقة أن وجدت بالاسكندرية فأنما توجد بتلك المنطقة.

نلاحظ فى أعماله للوهلة الأولى الحلول المبتكرة التى تتم عن قدرة ابداعية متطورة، وديناميكية ملحوظة، واستخدامه المباشر للألوان القوية بجرأ تقابلها حساسية مرهفة فى استخدام اللون وأنه على الرغم من ميله للتجيد الى حد كبير الا أن العناصر نفسها والاشكال المجردة التى يتوسل اليها فى النهاية كانت مأخوذة من الطبيعة المحيطة به

تخرج سعيد العدوى من قسم الحفر، لو أنه لم يعرف كحفار بقدر ما عرف كمصور.

كان سعيد العدوى دائما يطيع احاسيسه ويتصرف بما تمليه عليه ولا يراجعها فى ذلك فهو يحب أو لا يحب من أول لقاء وليس مهما أن يكون هناك سبب منطقى يفسر ذلك وان كان هناك مثل هذا السبب فهو من الاسباب اللاحقة ولكن المهم هو انطباعه الفورى

وحين قضى فترة فى كفر الشيخ وبلطيم ليصور مناظرها بدا كما لو ان نوعا من السكينة قد وجد طريقة الى نفسه، فلا نشعر فيما صوره فى تلك الفترة الا بالرحابة والصفاء

يمكن القول أن رسومه الأخيرة تتضمن معظم خبراته، وان كنا نأبى أن نتقبل فكرة الموت بالنسبة لرحيل سعيد المباغت، الا أننا نحس احساسا مريرا بغيابه ونفتقده لا من أجل اسرته واصدقائه ومحبيه فحسب ولكن من اجل المزيد الذى كان حتما سيساهم به فى الحركة الفنية المعاصرة ببلادنا وهى أشد ما تكون حاجة لجهد كل فنان مخلص محب لبلده ولا نملك الا أن نطلب لروحه المتوقدة الامن والسلام

والحديث حول أعمال سعيد العدوى ممتد فالفنان باق بابداعه الاصيل رغم التجاهل التام لأعمال سعيد العدوى بعد وفاته، وكأن الفنان اى فنان فى مصر عندما يموت تموت معه أعماله الابداعية، فلم نسمع أن المركز القومى للفنون (3) قد أقام معرضا شاملا لأعمال سعيد العدوى أو غيره من فنانينا الراحلين أو أنه أرسل بعض أعماله لتمثل مصر فى الخارج أو طبع عنه كتالوج أو كتاب أو قام بالدعاية له ونشر أعماله وقد يقول قائل أن هذا ليس دور الدولة فاسأل أنا ما هو اذن دور الدولة؟ أن يسرق القائمون عليها ميزانيتها وهم يحفرون القبور لمبدعينا أثناء حياتهم أو بعد مماتهم.

لذلك أرى أن من أهم تمارين الحياة تنشيط ذاكرة البشر بالاصلاء منهم فسلام عليك يا سعيد.

[1] – الحرانية قرية بحوار الجيزة تشتهر بصناعة الكليم ولزخارفه ورسومة شهرة عالمية.

[2]  – فى الكتاب التذكارى الذى اصدره اصدقاء الفنان فى الذكرى الثانية لوفاته.

[3] – يدير المركز القومى للفنون أهم اصدقاء العدوى وعضو جماعة التجريبيين “عبد المعطى العدوى عبد الله).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *