الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1986 / عدد يناير 1986-الناس والطريق الفصل الثامن

عدد يناير 1986-الناس والطريق الفصل الثامن

الناس والطريق

الفصل الثامن

 يحيى الرخاوى

الخميس 5/6/1986:

……… هذا هو يوم كتابة هذا الفصل الثامن، عن الرحلة

التى بعدت عنى عامين، فقربت منى عمرا كاملا، فى

“هذا اليوم” تحركت ذكريات قديمة مريرة وغائرة، فهزت

ذلك السكون الزاحف على سطح : هموداويأسا . ذلك أنه :

………. لما طال الأمد، وجثم الموت، بدا لى أن أعظم حكمة يمكن أن أكمل بها أيامى هى أن أكف عن الحركة تماما : عن الكتابة، عن الحماسن عن الأمل، وعن الاصرار، وعن الحوار كما خيل الى أنى بذلك اعيش الموت كما فرضته على رؤيته “فى” صديقى الراحل … ثم … ثم “فى” صلاح جاهين ليس حزنا عليهم كما يحب الناس أن يتصوروا اختزالا للمشاعر، ولكنى قررت أنى أحق الناس فى أن أمضى بقية حياتى متفرجا ساكنا، وكأنى انتقلت الى هناك مع “وقف التنفيذ”، فبدلا من أن أنتظر قدرا غير مفهوم مثل خيانة جسد صديقى له، وبدلا من أن أفرض بنفسى قدرا غير مضمون مثل فعلة صلاح جاهين الرصينة، قدت أجرب قدرا ساكنا أراقب به – متفرجا – عبث هذه الأقدار المفاجئة، ثم أرى :

ذلك أنتى ما كدت أودع صديقى فى الفصل السابق، حتى فعلها صلاح بمنتهى الشجاعة (والنذالة!!) – وأنا لا أعرف صلاحا “معرفة” تسمح لى بأن أتحدث عنه وكانه صديق، وان كنت قد قابلته بضع مرات فان ذلك كان يبعدنى عنه أكثر فأكثر، (بقدر ما كان يقربتى منه بعدى الجسدى عنه)، لكنه حين رحل (ولا أقول مات) – جعل بعمق ما كنتفيه آنئذ من معايشتى لخبرة الموت، وكأنهما – صديقى فصلاح – قد أطلقا من داخلى الى أعماقى تلك الصرخة المكتومة، المفيقة الخاذلة، المتحدية الخبيثة، فتحرك المارد المتربص (الموت) زاحفا، ساحبا وجودى الى بؤرة السكون، وأتذكر موالا لم أفهمه أبدا الا فى هذه اللحظة:

البين عملنى جمل واندار عمل جمال

ولوى خزامى وشيلنى تقيل الأحمال

أنا قلت يا بين هوه الحمل ما ينشال

فلم أكن أفهم كيف أن الفراق، أو الهجرة، وقد تمثلا فى الموت سواء كان زحفا غير مفهوم، أو كان اختياريا أو انتقاميا أو احتجاجيا، لم أكن أتصور كيف أنه يمكن أن يصبح هو القائد الأمر (حمالا)، وان اسلم له قيادى (جملا) مخزوما محملا بما لا اطيق، ولكنى رأيت ذلك رؤى العين، ولم أرد ان اكمل تذكر بقية الموال الذى يقول :

قال رق الخطى يا جمل وامشى على مهك

دا كل عقدة لها عند الكريم حلال

ذلك أن هذا الموت لم يقل لى “رق الخطى” ولكنه تمادى فأمر أن “قف”، تم انه لم يعد بحل ولا حلال، وانما لوح بفرحه الى اجل غير مسمى.

قلت ليكن : أتسحب معه – مخزوما – الى بؤ رة الدوائر، لعلى أرى أكثر وانا فى جوف اسكون، فأجدنى وقد همدت بلا اتجاه، ولاتيه، ولا حركة، حتى الرفض الذى كان دائما “فعلا”… وجدته انه قد قبع فى عمق اللافعل، ويبدو أن بعض من حولى قد لاحظ ما طرا على، فتركونى وشأنى مقدرين منتظرين، ويذكر لى ابنى الاكبر اته قد اجل مفاتحتى فى امر ما “حتى افيق من موت صلاح جاهين” فتعجبت كيف ابدو “هكذا” امامهم كتابا مفتوحا، فحاولت ان أخمى نفسى فى مزاج، أو تفاش، أو عمل، بلا جدوى، وتصور ابنى انه انما فقد “عمه” صلاح، وما هو بعمه، وما صلاح باخى، بل الارجح “انا”، ثم انى لم أرعب من الموت أو ارفضه، كما أن هذا الموت – موت صلاح بعد صديقى – قد حرك داخلى ما هو يقظة ساكنه، لعلها هى التى تظهر على السطح فى شكل ما يسمونه حزنا، لكنى خجلت من هذا التعرى الفاضح، وكان حزنى لم يعد ملكى، فرحت اتسحب أمامهم لامارس شكلا أخر من الحياة، لعله أقرب الى ما يفعلون، لكنه بالنسبة لى، ابعد ما يكون عن ما اعرفه من معانى “الحياة / الحركة/ التحدى / التجوز” ولكن ذلك التسحب المشارك ساعدنى أن أعاود الاختباء لاتستر على ما استيقظ فى أعماقى من موت حى، فأخذت أطيل الجلوس “معهم” أ/ام التليفزيون الذى لا أحب فيه الا الوانه وبعض قديمه، ثم بعض الجديد ذا الرائحة القديمة، فجعلت أحل الفوازير وأتابع مغامرات “ماندو” و “وردشان”، وكأس العالم : حتى استطعت أن أقارن بنجاح نسبى بين مارادوتا (الارجنتين) وعزيز بودرباله (المغرب) وأنا لا أعرف فى الكرة “الليبرو” من “القشاش”، ثم عدت استجيب للادلاء بأحاديث صحفية من النوع الفاتر المعاد بعد أن كنت قد قررت أن أتجنب مثل هذا النوع من الاحاديث “تحصيل الحاصل” – وكأنى أعدت بكل ذلك تحريك ظاهرى لمجرد أن أدارى به صمتى الزاحف، فراح كل ذلك يصب فعلا فى “مركز السكون” فأزداد همودا وانسحابا، وفرجة، بلا انتظار، ولكنى رويدا رويدا اكتشف أن هذه النقطة المركز ليست الا بؤرة دوامة سرية، وأنها انما تبدو ساكنة لأنها تدور بسرعة أكث رمن أن تلاحظ، ثم هى تبتلع – فى صمتها الدائرى – كل ما يصل اليها من أحداث، وآمال وخطط، – ومستقبل، ثم نقول : سكون؟؟!!فهل رحلت يا صلاح فى لحظة شحذ فيها وعيك حتى أدركت استحالة السكون واستحالة الوعى بهذه الحركة، فاستسلمت للزحف السرى الجاذب الى عمق بؤرة الدوامة، لتتركنا – يا صلاح فاغرى الافواه، لا نكاد نشعر بكثبان الرمال المتحركة تحت أقدامنا؟ لكننى على يقين – دون دليل محدد – من أتك لم تكتف بالاستجابة لنداء ليس من صنعك أنت فما بلغنى – هكذا – منك وعنك أنك لم تودعنا مستسلما، بل متحديا مصمما، مخرجا لنا لسانك، حيث أقدمت شجاعا تحسم مصيرك بعد أن عجزت عن تلقى ابداعك، أتقمصك يا صلاح فأزعم أنك رفضت أن تموت بفعل الملل – بعد طول الصبر[1]، كما رفضت الا أن تحاول ما لا يستطيع أن يحاوله الا انسان ليس حمارا، وكان هذا هو الفرق المميز[2]، كما أزعم – رغم كل محاولاتك الرائعة السابقة – أنك قررت هذا الاختيار لما نسيناك – شخصا – فى زحمة انبهارنا بنتاجك، فلم تكن تجد عشا يأويك بعد كل تحليفة من تحليقاتك، فاختفيت فى طيات السماء مثل طائر النورس بعد كل تحليقة من تحليقاتك، فاخشفيت فى طيات السماء مثل طائر النورس الجميل[3] بلا عش، ولا رفيق[4]، فهل تعلن بما فعلت تنهى به فصل حياتك أنك تجيب بالايجاب عن سؤالك ان كانت الحياة “كده كلها فى الفاشوش” أم لا.

“طيب”!! فأين حلاوة الشقشقة، ورائحة نسيم الصباح، ورقة السماح، ودغدغة الفجر، وهمس الورود : الست أنت الذى كنت تصارع مصيرك هذا بضده، فاتحا دائما باب الغد الحامل لألف ألف احتمال، ثم لا نرجح – فى النهاية – يابو صلاح الا “هذا” الاحتمال بالذات، فى هذه اللحظة بالذات، فاستقبله أنا بالذات، “هكذا” بالذات!!

فكتبت اعاتبك يا أخى – بعد السماح –

-1-

يا صلاح : كان لسه،

ما قدرتش تشرب شفطة كمان من ألم الوحدة؟

طيب واحنا؟

-2-

يا صلاح

ليه انت؟ بالذات؟ دلوقتى؟

طب حته،

طب لأه!

(قال يعنى!!)

-3-

 الطفل، الحلو، النغمة، السكتة، الهمسة،

الراجل، الدرش، الدايرة، الهمزة، الحكمة

“كدهه؟؟!”

-4-

يا صلاح، طب بص

طب ثانية،

طب دا أنت،

ياما شفت،

ياما قلت،

كدهه؟!!

-5-

“آه يانى”

طب روح،

لا….، لاه

ما تروحشى –

ازاى؟

ما اعرفشى[5]

وهكذا القانى رحيل صلاح – بعد صديقى – الى ما تصورته سكون الحكمة، فاذا به دوامة الانسحاب، ولم أتبين الفرق بينهما الا حين رحت اكتب هذا الفصل غصبا عنى تحت الحاح زملاء التحرير، فأتذكر كاريكاتير صلاح جاهين اليومى الملزم، فربما هو الذى حافظ عليه لنا طول هذه الفترة – حافظ عليه ما طال عمره رغما عنه من يدرى؟، فأمسك القلم لأواصل كتابة الرحلة، أو لأستجيب الى تسجيل هذه السيرة الذاتية الضاغطة، من خلال تلك المواجهة المتحدية، واذا كنت قد شككت منذ البداية (الفصل الأول) فى حقيقة ما يسمى سيرة ذاتية، فانى فى واقع الأمر لا أفعل الا أن أسجل بعض ذاتى من خلال جولات الداخل / الخارج – وبما انه : لا مذكرات، ولا ذكريات : بل الماضى حيا فى الحاضر يعاد معايشته “حالا”، فهذا هو ما ترك فى داخلى فزادت حركته حتى السكون الظاهر، فحسبت أنى توقفت، فأغرانى الاستسلام، فاذا بى أجدنى بفعل دورات الليل والنهار .. وقد واجهت الحقائق اللاطمة، صامتا لا صامدا هذه المرة، وأحسب أنها نفس الحقائق العارية التى لطمت صلاح فأبدع، ثم لطمته فغنى، ثم لطمته فبكى، ثم لطمته فرحل، ولكن يستحيل – مع دورات الليل والنهار – الا أن تتسرب – هذه الحقائق – من وعينا فلا يبقى منها الا ما نقدر على استيعاب بعض اطرافه مما يدفعنا الى الاستمرار بشكل ما، فبعد هذه الاجازة الاضطرارية بعيدا عن القلم، والأمل، والحوار، والحركة، وبعد هذا الرضا بالتصتم أمام ذهول الحقيقة الاوحد (الموت) – راح يدب فى “وجودى” انبعاث آخر فنشطت حركة ما فى اتجاه ما، حركة  لم أشعر أنها تمت الى الحياة بصلة مباشرة، فهى لا تعد بنقله، ولا تلوح باختيار، واتبين احتمال أنها تكرار لنص قديم، لكنى المح أيضا احتمال اعادة “اخراج” هذا القديم بتناول آخر (من بعد آخر) من يدرى؟ وبهذا بررت عودتى الآن، هنا، هكذا :

***

وأزعم أن القناع القديم تساقط حتى استبان المدار يبشر بالمستحيل، “اذن؟؟”

وتسرى المهارب تنحت دربا خفيا بجوف الجبل، فأخشى افتضاح الكمائن، نسف الجسور، وأغراق مركب عودتنا صاغرين، فأمسكها، تتسحب بين الشقوق، وحول الأصابع تمحو التضاريس بين ثنايا الكلام، تخدر موضع لدغ الحقائق تسحق وعى الزهور ولحن السنابل، “من؟؟”

لماذا الدوائر، زن الطنين، حفيف المذنب يجرى بنفس المسار، لنفس المصير، وبلا مستقر

لماذا الولوج، الخروج، الدوار، “اللماذا”؟

“فماذا؟”

لماذا نبيع “الهنا الآن” بخسا بما قد يلوح، ولبس يلوح، فنجتر دوما فتات الزمن،

ويرقص رقاصها فى عناد، فتنبش لحد الفقيد “العزيز” تسرب منه خيوط الكفن.

اخبئها فى قوافى المراثى لاغمد سيف دنو الاجل،

وأخجل أن تستبين الأمور فاضبط فى حفنها الغانية،

فأرغم أنى انتبهت، استعدت، استبقت،

“الى آخره”

فياليته ظل طى المحال، ويا ليتها اخطاتها النبال،

ويا ليتنى استطيب العمى.

***

وهكذا أعود الى هذا القلم حاملا عشقى للحياة، خجلا من سبق اعلان مغازلتى للموت راضيا بأى درجة من الغفلة تسمح لى بالاستمرار : ولكن أى غفلة والنتيجة أمامى تتعدانى لتصادف عودتى فى نفس هذ1 اليوم الحزين، 5 يونيو، حزيران الكلب، وقد كنت أحسب أننى تخلصت من مرارته بما تحرك بى مع نصر أكتوبر من استعادة توازن حتى الفخر والزهو بما هو أنا، نعم مع نصر اكتوبر : بما صاحبه وسبقه ولحقه من عودة احتمالات الكرامة، ونسائم الحرية، لكن يبدو أن المرارة كانت قد تجمدت فى نخاع وجودى، منتهزة فرصة الفتى بكل ما هو مر مؤلم، وأبرر به وخز الشكوك ونزف الوحدة، لكن أبدا … ذلك شئ آخر لا يبرره تكوينى المستهدف للمؤلم والمر، فهو يعاودنى مع كل عام بهذه المناسبة التعيسة، يعود ليلبسنى بلزوجته الحارقة، منذ أن اقتحم كيانى داهسا كرامتى ساحقا وجودى فى ذلك اليوم تحديدا أو فى تلك الليلة (7 يونيو) حين استبنت ما كان، – تعم هو هو نفس الشعور يجثم على أنفاسى، هو نفس الغول يحتوينى من كل جانب بملمسه الرخو الحارق، وتشوهات سطحه الغائرة المعقدة مثل جوف حبة عين الجمل عطنة، وأنا لا أعلم تحديدا ما هو طعم منقوع الحنظل، ولا مذاق ماء النار، ولا رائحة نتن الجيفة داخل القبر، ولا كثافة لسع الزنابير الهائجة معا بعد هدم عشها مباشرة، ولا بشاعة التهام أسراب الجراد للأخضر الممتد، ولكننى أكاد أعرف أنه لو اختلط كل هذا بكل ذاك لما عبر عن عشر معشار ما اقتحم وعيى ذلك اليوم حتى طمس معالمى داخل الكتلة من الخزى المرير، والمهانة المفضوحة – فى ذلك اليوم تعرى أمامى “والدى” المفروض على غبيا مغرورا وهو يتشدق بزعم تحمل مسئولية لا يعرف أبعادها ولا آثارها على واحد مثلى – فما بالك بالأرق حسا والأصغر سنا، والأكثر ثقة فى عتفو انه وحمايته، أحسبت يومها – ولا مؤاخذة – أنى طفل أدفن راسى بين ساقى والد ضخم يرتدى جلبابا بلون النيلة، أدفن رأسى بين ساقيه احتماء به من مجهول، فاذا به يضغط على رأسى الصغير حتى يفقا عينى دون أن أتصور الا انه يحمينى حتى من الرؤية فازداد غوصا بين ساقيه، فرحا بمزيد من الحماية، لكنى أكتشف أنه أمسكنى هكذا ليمكن منى أسفل أوساخ المشردين من الصبية الأوباش، يعرون مؤخرتى، فيعبثون بها تحت سمعه وبصره، وأنا أزداد تمسكا به ودفسا لرأسى بين فخذيه، ومع زيادة عارى وخجلى وعجزى أكاد أسمعه وهو يعلن عزمه على أنه سوف يغادر الميدان، (ويتركنى هكذا) وأن هذه “هى مسئوليته”، عما كان!! فأرعب : طفل أعمى، مجروح الكرامة، فلقد الوعى، مطموس البصيرة، مشلول الحركة، يتركنى هكذا؟ الى هذا؟ ساقيه المرتدتين بذراعى القصيرين وازداد التصاقا بمخبئى الوحيد، حتى لو أدى ذلك الى أن تمادى الصبية الاوباش فى العبث بمؤخرتى، باذنه، أو بعجزه – يا ساتر، أى ذكريات وأى عار، وأى قلب للأمور، والناس والتاريخ يحاسبون القادة مثل حسابات التجار، كم خسر وكم كسب، وماذا خسر وماذا كسب، مع أن الحساب الحقيقى ينبغى أن يتضمن أخطاء تجب كل ما عداها من انجازات، كما قد يتضمن انجازات تجب كل ما عداها من أخطاء، فان لم يوجد هذا أو ذاك، فدع الحساب يتم بالقطعة، واحدة واحدة، واكتشف أنى لن أسامحه أبدا على هذا الموقف، ولا أعفى نفسى بالاعتذار لطفولتى، أو باستسلامى لأبوته، فأنا الذى غرست رأسى بين طيات ثوبه بلون النيلة، وأنا الذى فقأت عينى بالاعتماد عليه، وأنا الذى أطلت فى أجله بتشبثى بساقيه، من فرط حدة عودة هذه المشاعر فى كل مرة، هكذا هى، أشعر أحيانا أنه حتى لو ذاب كلى وتلاشى جسدى فلا يزول طعم الحنظل هذا مع زوالى، وقد زاد من غوص آثار هذا العدوان – عدوان أبى هذا على وجودى البرئ ذاك – أنى سافرت سفرتى الى باريس عام 1986 لأفاجأ بصور موشى ديان “البطل” وهى ملصقة على جدران باريس تعلن عن فيلم العار، بطولة القرصان الأعور، وكلما أطل على وجهه بضخامته أمتدت يدى الى مؤخرتى أحاول أن أخفهيا عن الأعين، فأصابنى الغثيان من رائحة النيلة المنبثقة من ثوب والدى القائد المنسحب تاركا رأسى الأعمى من بين ساقيه، فى بجاحة رعديدة.

وحين أعود الى باريس هذه المرة، وكل مرة، أتابع عيونى وهى تبحث أول ما تبحث عن صور القرصان الأعور قاهر الآباش، وكأنها ستظل تطل على فى عيون الخواجات بقية عمرى وبعد ذلك، ولا أظن – مؤقتا – الا حين أتأكد من اختفائها، فأتأكد من سترتى تستر عربى، وأتابع عيون أولادى فلا أجدها تفعل مثلى، وأتساءل عن موقف هذا الجيل الذى لم يتذوق أصلا أمل الحرية، كما لم يتجرع بعد ذلك كأس الهزيمة بعد الخدعة، ولا أعلن لهم عن طبيعة ما أبحث عنه، ولا عن عمق سخطى على والدى الكاذب أو المخدوع – (سواء)، فلا هم سوف يدركون، ولا هذا مجاله، وآمل أن تكون رحلتى الى باريس ذلك العام بداية تصالح مع جانب آخر من موقف غير شخصى، ويخيل الى أنى أعتبر رحلتى الى باريس بالذات فرصة اعادة نظر، لأنها كانت كذلك فى تلك السنة المزدحمة بكل هذه التغيرات (68 / 69)، فماذا؟ :

7 سبتمبر 1984

كنا قد اتفقنا على ان يكون اليوم هو يوم حر، يفعل فيه من يشاء ما يشاء، فانطلق الأولاد وأمهم، وبقيت اتمتع بحريتى المزعومة، واذا بى اكتشف ان هذا الزعم بالحرية الانسحابية، هو – أيضا – من ضمن الخداعات الأساسية التى تلوح بها “الوحدة”، وأغلب من يعرفوننى، أو قل يعاشروننى يتصورون – فيما يشبه الاتهام – انى عاشق للوحدة، مفضل لها عن أى صحبة مهما ابديت غير ذلك، وأنا أكاد أكون مثلهم، فكم أتصور أنى أريد أن “أكن ([6])” بعض الوقت، أو طول الوقت، فيبدو ذلك وكأنى افضل أن أكون “وحدى”، وما هو كذلك تماما، ذلك أنه حين يقفل الواحد منا أبواب مثيرات الخارج فهو لا يعيش وحدته أو عزلته، بل هو يفتح الأبواب فى ذات اللحظة لساكنى الداخل، يتحركون ليؤنسوه، ويؤنسهم، فأين الوحدة ([7]) ، تركنى الأولاد مع زحام الداخل فيما يقال له “وحده”، فما كدت استشعر نفسى معى، حتى تبينت أنى لست كذلك، فاليوم هو الجمعة، وأنا حريص دائما على صلاة الجمعة وأنا حريص دائما على صلاة الجمعة فى جامع باريس مثلما كنت أفعل منذ خمسة عشر عاما، حيث كنت أذهب بانتظام باحثا عن ملامح اسلام لم يعد له ملامح، مكررا محاولاتى – بوعى فاتر – توطيد أواصر الانتماء الى أهل ديتى، ورغم الاحباط المتكرر فانى مازالت أصر على “بعث ما”، يؤكد لى حقى فى التمسك بفطرتى – دينى الحنيف، أفعل ذلك رغم اصرارهم على تشكيلى بما يريدون دون محتوى، ودون ابداع، ثم تذكرت أن اليوم هو أيضا موعد “غداء العمل” أو “دعوة التعارف” مع الجانب الفرنسى – تلك المناسبة التى دعانى للمشاركة فيها الاستاذ الدكتور المصرى الذى زرته أمس الأول فى فندقه بشارع ريفولى – فطردت عنى أى أمل فى استراحة منفردة، وقلت يبدو أن هذا اليوم ليس يومى لى.

أديت صلاة الجمعة فى جامع باريس بنفس الطريقة، وبنفس الدوافع، وبنفس الاحتجاج لما أصاب جوهر ما أنزل على نبينا الأمى، فقلب نبض ابداعه الى هذه الرتابة المملة، فى خطب الجمعة تلقى فى املال منفر، كما طمس تناغم الايمان فى زحمة صياح دفاعى يروج للخوف، ويلوح بالطمع، ويدر الاغتراب، وكان صوت الخطيب يأتينى ممدودا وكأنه ينطق اللغة العربية بلهجة فرنسية أهل الجنوب الغربى فى مقاطعات “الباسك”، وأنا لم أفهم أبدا سببا لكل هذا “الزعيق” الذى يلجأ اليه هؤلاء الخطباء، ولم أفهم أيضا سر هذا التمايل فى غير نشوة، فلا زعيقهم يوقظ الوعى، ولا حتى يخدره، ولا غناؤهم يطرب السامع أو يشجيه، فماذا لو تكلموا مثل سائر البشر : أبسط، وأوضح، وأقرب، وأسهل، مهتدين طول الوقت بثقة اليقين، لا بعلو النبرة، ويوضوح الفطرة لا يتهييج النعرة، وقد تيقنت من قديم أن الحاجز الذى بينى وبين خطيب جامع باريس ليس مرده فقط الى اللهجة المطاطة وصعوبة المتابعة، وانما هو يرجع أساسا الى قدم المحتوى واغتراب الرسالة التى يريد توصيلها، ان كان يريد توصيل شئ أصلا، فقد كنت أحد نفس الحاجز الذى بينى وبين خطيب جامع باريس ليس مرده فقط الى اللهجة المطاطة وصعوبة المتابعة، وانما هو يرجع أساسا الى قدم المحتوى واغتراب الرسالة التى يريد توصيلها، ان كان يريد توصيل شئ أصلا، فقد كنت أحد نفس الحاجز فى مساجدتا فى بلدنا رغم وضوح اللغة وسطوع البيان (أحيانا)، حتى أنى رحت أفضل أخيرا أن أحرم نفسى من ثواب حضور الخطبة فى مقابل ألا تصرفنى الخطبة عن علاقتى البسيطة والمباشرة بفطرتى التى فطرنى الله عليها، وحاجتى الملحة الى مجاورة الناس البسطاء من أهلى دينى فى صف واحد بحثا عن توجه واحد، وباستثناء فترة الاخوان المسلمين فى صدر شبابى حيث كان بعض خطباء جماعتنا ينجح فى أن يربط بين ما هو ديننا، وما هو فعلنا، وما هو يومنا، وما هو انتماؤنا السياسى وجهادنا الوطنى (مثل سعيد رمضان أو محمد الغزالى …. الخ) باستثناء هذه الفترة، فأنا لم أتصالح مع أغلب خطباء الجمعة ممن يستهينون بفطرتنا وذكائنا جميعا، وفى تصورى أنه لم يبق من الخطب الدينية الا خطابة رسمية مأجورة أو خائفة أو تافهة، ثم على الجانب الآخر : خطابة عمياء مندفعة متعصبة مهيجة، وأنا لم يعد انتمائى الأوسع يطيق الاولى فلست فى مدرسة للتربية الفكرية!!، كما لم يعد وعيى المسامح يحتمل الثانية حيث أنى على يقين يرجح أنى لو لم أولد مسلما لعجزت أن أكون مسلما، ومع كل ذلك فمازالت هذه العبادة الأسبوعية تمثل لى أملا فى مشاركة، وحرصا على جماعة، واصرارا على عودة الى فطرة نقية مهما طمست بفعل الخوف أو التعصب، يتأكد ذلك أكثر فأكثر وأنا فى الغربة، وقد كان، بلا اضافة، لكن الأمل لا ينقطع.

ثم انتقل من الاغتراب فى مسجد باريس الى الغربة فى وليمة عليه القوم من الفرنسيين فى مطعم فى الحى السادس عشر على ما أذكر، وكان على أن أمر بالفندق الذى ينزل فيه الاستاذ الدكتور المصرى الذى تفضل بدعوتى الى ما دعى اليه، فأجده فى انتظارى فى بهو الفندق الفخم، ثم تهبط زوجته الفاضلة لتلحق بنا، والاثنان يتكلمان الفرنسية معا كأهلها – وربما أحسن – يتكلمانها معا فى غير وجود فرنسيين، أما أنا فقد رحت أشاركهم الايماء والرد بالعربية كلما فهمت شيئا، ويتركنا الاستاذ الدكتور الشيخ ليتكلم هاتفيا، ثم ينبه رجل الاستقبال الى مكاننا حيث ننتظر، فظللنا نتجاذب أطراف الحديث، ولأول مرة أفهم هذا التعبير فهما جميلا مناسبا، فنحن، فى مثل هذه المقابلات الفخيمة والمحسوبة، لا نتحدث، لا نغوص الى وسط الحديث ولا نلامس بدنه، ولكننا – بالكاد – نتجاذب أطرافه، يا حلاوة!! هكذا يكون التعامل الرقيق، الراقى، المتحضر، والحر، ولكن المأزق عندى، أنى آخذ المسألة جدا معظم الوقت، وأتصور أن “الحديث” هو فعل عار، مقتحم، وليس معنى هذا أن يكون ضعيفا، لكنه حديث ذو معنى، وأطرد هذه الخواطر بعد أن كدت اقترب منها معلنا بعضها، فيلتقط مضيفى رائحة ما عرجت اليه دون تفصيل، فيترفق بى، ويمتدح بعض ما ينشر لى احيانا فى الصحف المصرية، وهو أقل الأمور دلالة على ما هو أنا، فأحمد الله أن ثمة شيئا يقدمنى اليه متجاوزا الأطراف، فأنتهز الفرصة لأكثر – بفضل تفضله الدمث – حدة بكمى الذى يبهتنى حين أواجه بالمحتوى والطريقة التى يمضون بها أوقات الانتظار هذه.

ويدخل علينا وجيه من الوجهاء ويسأل فى لطف عن الأستاذ الدكتور، ويقول فى همس مسموع (كأنه يلمس طرف الحديث حتى دون أن يجذبه) أن السيارة تنتظرنا فى الخارج، ويتصرف لا يلوى على شئ (ولست أدرى ماذا كان يمكن أن يلوى عليه) فأخذت أتتبع خطواته الرشيقة وهو يتسحب بظهره، أولا، ثم ينطلق بعوده السمهرى (أى والله : السمهرى!!) () الى الخارج، فيتمهل السيد الاستاذ الدكتور، وتستأذن زوجته لتأتى معطفها (أو ما شابه) ثم تعود ليصحبانى الى الخارج، وأنا أتمنى أن يجد ما يحول دون استمرار كل هذا، وأتوجس حرجا أكبر فى المجتمع الفرنسى المنتظر لنا، فاذا كنت لا أقدر على متابعة لغتهما وهما المصريان لحما ودما، فماذا سأمفعل مع علية القوم من الفرنجة وأنا المدعو بصفتى أمثل – بشكل ما – جانبا من الهيئة الطبية المصرية، فدعوت بالستر وأقدمت أكثر، وما أن لمحنا “السمهرى” حتى اسمهر أكثر، ثم انطلق يفتح باب السيارة للسيدة، ثم للسيد بجوارها، ثم بى بجواره، وجعلت أتأمل هذا “الوجيه” الوسيم، مثل نجم سينمائى أبهى من محمود يس ومصطفى فهمى (الآن) ومن كمال الشناوى وأنور وجدى (زمان) – وكيف يكون هذا أوجيه مجرد “شوفير” (فمثل هذا الفتى لا يصح أن يقال له “سائق” فضلا عن “سواق” فلزم التعريب) – ثم أننا ذهبنا الى المطعم الفخم، فقابلنا “بيك” آخر، بدا لى أنه اما رئيس الوزراء أو عميد الأطباء أو – على الأقل – رئيس مجلس ادارة المطعم، فأخذت عيناى تدوران فى المكان تبحث عن مطعم مثل المطاعم فأعجز أن أجد موائد أو كراسى تطمئننى، فليس الا صالة رحبة، وأركان جميلة، ويتقدمنا هذا “الرئيس الجليل” ليعرج بنا الى جناح على ناحية، فنجد فى استقبالنا بعض عليه القوم من الداعين، فأبلع ريقى، وأتقدم معهم الى حجرة خالية تماما، الا من منضدة عريضة عليها دوارق وزجاجات مخلتف الوان ما بها، وكئوس، والجميع وقوف فى غاية الأناقة والمدنية والفرنسية ومثل ذلك، ولا أحد منهم يبحث بناظريه عن مقعد أو منضدة مثلما أفعل، وقلت لنفسى – مكررا – سوف تنتهى على خير حتما، ومادامت عقارب الثوانى لا تكف عن الدوران فلكل شئ نهاية، وبدا المضيفون (الأكثر عددا من الضيوف) بالاحتفاء والتحية، و “ماذا تشرب”، و “أيها تفضل”، وأسقط فى يدى، ولكن السيدة الفاضلة حرم استاذنا الدكتور، طلبت عصير طماطم، فأنقذتنى اذ تبعتها حرفيا حذوك الكأس بالكاس، وجعلت أرشف العصير ببطء مجهدا وأنا أتمتم بما لا أميز، وأرفع حاجبى واحنى هامنى، وأردد – كما سبق أن أشرت – انى انه “نعم”، “مؤكد”، “موافق”، “لا يا شيخ” ([8])، وهى كلمات تصلح لكل المواقف، ويمشى بها الحال، وخاصة اذا نطقت بلهجة باريسية حذقتها من أيام حرج زمان – لكن الموقف يتأزم حين أفاجأ بسؤال محدد، يحتاج الى اجابة محددة، أولا تنفع فى ذلك ايماءة بلا أو نعم، فانطلق باللغة “الانجلو فرنسية” خالطا الألفاظ وتصاريف الأفعال كيفما أتفق، وأتعجب حين يفهمنى سامعى بالرغم منى، فلعله يقرأ تعبير الوجه، أو على الأقل يرجح حسن نيتى واخلاصى فى المحاولة، ومر الفقرة، لكن تطول الوقفة، وتملأ الكئوس من جديد حتى تصورت أننا سنتغذى عصير طماطم صرف، وبينما أنا أدعو الله أن تمر على خير، اذا بى أشعر بدوخة أو ما شابه، وكأن الأرض التى أقف عليها ترتفع بى الى أعلى، فرعبت ثم ظننت بعقلى وتوازنى الظنون، ثم رجحت أن عصير الطماطم هذا لم يكن “بريئا”، تماما، فرغم طعمه الطماطمى الا أنه من المحتمل أن يكون ذلك من الألعاب الكحولية المستجدثة، فجعلت انظر الى السيدة الفاضلة شريكتى فى الطماطم فوجدتها – كما وجدت الجميع!! – يرتفعون معى الى أعلى، وقلت “حصل” أخيرا، ولم أجرؤ أن أسأل، أو أمسك بأى شئ، أو أى أحد، وجعلت أنظر إلى السقف خوفا من ارتطامنا به ونحن نرتفع، فإذا بالمسافة بينا وبينه لا تضيق أصلا، ث خيل إلى أن الحجرة تتسع من أحد جوانبها فتظهر فجأة مائدة مستديرة وحولها مقاعد وفوقها أطباق، الله!! أهى المعجزة .. أم السكر البين، وأخيراً، وبضربة إفاقة لطيفة أدركت ما حدث: فقد كنا حتى تلك اللحظة فى حجرة التعارف وقوفا مع كئوس “فتح الشهية” (فمن قال لهم أنها كانت مغلقة) وهذه الحجرة يفصلها عن حجرة المائدة المخصصة للضيوف المتميزين – أمثالنا – حائط متحرك، ينزل إلى تحت بفعل زر ا، فى مكان، (توموتيكى) يفعلها بلا ضجيج ولا إنذار، وبنزوله المتسحب هذا نشعر بدورنا أننا نرتفع إلى أعلى فى الاتجاه العاكس، يا حلاوة، مثل زمان، فلا أنا فقدت إتزانى، ولا عصير الطماطم كان منكرا خفيا، نعم مثل زمان فى محطة سكك حديد طنطا بالذات، حين نتصور أن القطار الذى نركبه يسير الى الخلف ثم نكتشف بعد لحظات أنا مازلتا وقوفا كما نحن وأن القطار المجاور هو الذى غادر المحطة سائرا الى أمام، ياحلاوة، هى هى نفس اللعبة والله العظيم، ولن تزال الحركة سكون مسائل نسبية وتقريبية، واشياء أخرى – ويلتف الجميع حول المائدة المستديرة، ويجئ ترتيبى بجوار عميد كلية طب جامعة فى ضواحى باريس، أذكر أن اسمه د.بورتوس (جان لوى)، ويبدو أن منظم الجلوس قد تعمد ذلك لأنى أكتشفت أن جارى هذا قد ولد وتربى فى – شبرا مصر – حتى ما يقارب الثانوية العامة، ثم لحقه أمر الله وأمر عبد الناصر ورجوع الأمور الى نصابها، أو الحق الى أصحابه، أو الحذر الى الغرباء، المهم أنه رجع الى حيث ينبغى، لكنه أبدا لم ينس، ولا يريد أن ينسى، وهو يعتبر نفسه مصريا لك معنى الكلمة، وقد خفف ذلك عنى كثيرا وان كنت عجزت عن مشاركته انظلاقاته المرحة، رغم كلامه بالانجليزية معظم الوقت، وبالمصرية البلدية القح حين يميل على يعلق على حديث لا يعجبه أن”فوت” أو يصدر حكما على مصير مشروع طبى فرنسى مشترك بأنه ستيعثر فى الـ”معلشات” ولا أشعر أنه ينتقدنا بقدر ما يصف نفسه كمصرى أصيل يحذق موقع “معلشى” فى وجودنا الايجابى والسلبى على حد سواء.

وحين حضر “البكوات” الذين يقومون بخدمتنا اسقط فى يدى، فقررت – ايثار للسلامة – أن آخذ نفس القدر من نفس النوع الذى يأخذه جارى بلاضبط، حيث أنى رجحت أن هذا هو السبيل الأسلم تجنبا لأى مخاطر غير محسوبة، لكننى فشلت أن أضبط سرعة تناولى الطعام مع سرعة تناوله نفس الكمية، ثم أنه يكتفى بعينات فى حجم الريال القديم، فأفعل مثله مضطرا، ولكن ما أن توضع العينة فى طبقى حتى تختفى بقدرة قادر بحكم العادة، فى حين تظل قابعة فى طبق جارى، تتناقض عن أطرافها بدلال متمتع، فأخجل من طبقى الفارغ وأمتلئ غيظا من عجزى عن تنفيذ قرارى السابق بالالقتداء بجارى حذوك بالقطمة، ولكن ما يملؤنى حرجا أن يتقدم البك النادل ليرفع طبقى الفارغ دونهم، ثم يفضحنى بأن يحضر طبقا فارغات آخر من أن الأول كان نظيفا بلا شائبة وحياة هذه النعمة، فأظل أنتظر انتهاءهم وهم لا ينتهون، اذا يبدو أن غداء العمل هذا هو أصلا للمناقشة وحل المشاكل المعلقة، وليس لما أفعل هكذا “كالمسروع” الذى يخشى أن يخطف منابه ىخر ان لم يسارع هو بالتهمامه، فأرجع ذلك الى عدم الأمان، الذى كنا نستشعره أطفالا من احتمال عدم كفاية الأكل لينال كل الحضور “مناباتهم”، ذلك أن توزيع منابات اللحم بواسطة أمى كان كثيرا ما يتم بطريقة عشوائية دون تخطيط يضمن عدالة وصول الدعم الى أصحابه فنحن سبعة أفراد، والفرخة (مثلا) أربعة أرباع (لا خمسة ولا أكثر)، وأمى كانت دائما تغيب عنها هذه الحسبة حتى لو ذكرها أحدنا، بالتالى فلا ينال أرباع الفرخة الا الأربعة الأوائل – ووالدى فوق الرؤس غير نصبيه المخفى وحده (لما بعد، أو ما قبل، مما لا نعرف،و لكننا نستنتج)،و حين تدرك أمى أن ما تبقى من الفرخة لم يعد يكفى من المتحلقين حول الطبلية، تبدأ فى توزيع الأجنحة، أو منطقة الوسط مم لا يجدى، فتعد الى الأربعة الأوائل (باستثناء أبى طبعا) بنية أن تنتقص منهم، فالشاطر يكون قد التهم منابه قبل هذه المراجعة، ولا تتعلم أمى أبدا من تكرار هذه القسمة الضيزى، ولا ينفع التنافس على اختيار الجلوس جنبها لأننا لا نعلم من أى جهة ستبدا، جعلت اتذكر كل هذا وأنا اثنى نفسى عن العجلة فى تناول ما يلقى بطبقى، وكان أغيظ ما يغظنى أن يعتذر “قدوتى” عن طبق ما، يبدو لى شهيا، فأخذوه حذوه رغم أننى لما عاهدت نفسى عليه حتى لا أخطئ، ويغيظتى أكثر ألا اتبين هذا الذى آكله، أهو “كفتة” لحم مفروم، أم هو نكهة خضار معجون، أم هو “بهريز” سمك مطبوخ فى شرائح، فكلها مختلطة ببعضها بشكل فنى محكم، ثم هذه الأشياء الصفراء والحمراء التى يمكن أن توضع أو لا توضع على الأطعمة، ناهيك عن سأسى اصلا من احتمال معرفة امس أى مما ينتقل قصر العينى الى زحمة القاهرة، الى وحدة أشكال الجنون من مشاكل رغم اختلاف الحضارات واللغات، وكأن المجانين كانوا أنجح فى التشابه العالمى، رائحة وتناثرا وودا ووداعة، من هؤلاء العقلاء الذين يقتلون بعضهم البعض تحت كل الدعاوى الانسانية والحضارية، الى فيلم وداعا بونابرت، الى داليدا وشبرا والاسكندرية. ويمضى الغداء على خير.

وفى طريق عودتنا يشكرنى الاستاذ الدكتور المصرى الداعى طأنى شرفت مصر خير تشريف، وأنى رفعت رأسه أمامهم، يا سبحان الله، أنا؟ كيف؟ وأقول يا بركة العجز، وياقوة الشر، وفى طريق عودتى أضحك من دهشتى وانبهارى بم الا أعرف متذكرا انبهار الشيخ عبد الرحيم الكفيف، مقرئ ليالى رمضان عندنا فى البلد، حين كان يسهينا قبل السحور فيقوم يتمسح فى الحائط المصيصى الأملس، يهمس لنفسه مهمهما أنه ” يا سيدى فهد الرجال، دا مدهوك بسمن صافى” ثم يكاد يترنم بما يعلن بهجته باكتشافه، قد كان فنانا يحذق العزف بالسلامية، ويستدرجه والدى ذات مرة الى الحمام ليريه مفاجأة لا يستطيع مجرد تخليها حين يهبط عليه مياه “الدش” من أعلى وكأنه معجزة المطر الصناعى، وبعد أن يتخلص من مخاوفه وحذره ويخرج المرة تلو المرة من تحت المطر دون أن يغرق، يصبح من ضمن برنامج سهرته هذا الدش البارد الذى يخرج منه منتعشا فى ليالى الصيف ليقسم أن قراءة “ربع” بعد هذا الدش يساوى ختم خاتمة بحالها وأرجح أنى – ومثلى – لابد ان يعتاد – بالتكرار مثل الشيخ عبد الرحيم – على ما يبهر لكنى أشك أنى يمكننى أن أحتفظ بالنشوة نفسها مثلما فعل الشيخ بوقع “الدش” المثير، وقد ثبت لى ذلك حين عدت الى  بلدى فدعانى أحد الزملاء من علية القوم (قومنا نحن هذه المرة) لأكون الضيف المتحدث فى غداء اللقاء الشهرى  لأحد نوادى الليونز (الروتارى) – وكان ذلك فى مطعم بفندق هيلتون النيل، وكان المجتمعون ذكورا دون الأناث فعلمت أن هذا من أول تقاليد هذه النوادى، ثم بدات الطقوس بعزف السلام الوطنى، ثم أخبار النشاط، ثم الحديث على الطعام،و عرضت بعض آرائى مما حسبت أنها مناسبة، فاذا بى أكتشف من اسئلتهم – ورغم احترام ضمنى لموقفىالفكرى (وهو سبب دعونى) أكتشف أنها (فىالأغلب) ليست كذلك (ليست مناسبة)، وأقول فى نفسى: هاأنذا، نفس الشخص الذى خالف من الحائط المتحرك، ولاذى حرص على تقليد جاره خوفا من السهو والخطأ، والذى تقمص الشيخ عبد الرحيم لاصقا خده بالجدار الأملس، هو أنا ضيف الشرف الذى يسألونى فأجيب، ورغم حسن التقدير وسلاسة اللغة، ودفء الاستقبال، فقد شعرت أن “هذا” ليس مكانى، وبدون الهجوم على ما يجرى فى هذه النوادى فأنى لم أفهم حقيقة جدواه، بل أنى شككت فى طبيعة محركيه، وعدت وأنا محمل بالتسال اذا لم يكن هذا وذاك، هما مكانى، فأين مكانى، ألست استاذا جامعيا، اجتماعيا، طبيبا، كاتبا، عالما، … الخ، اليس هذا، وذاك، من مستلزمات ما هو ظاهر وجودى فماذا هذا الاستغراب،و الحرجو التجنب،و الغرابة؟… أفبعد كل هذه الممارسات الاجتماعية، وهذا النجاح المعلن، أجدنى فى نفس موقفى زمان – شديد العزوف عن كل ذلك، لم أحذقه يوما، ولم أحبه ابدا، ولا أعرف سبيلى اليه،و لم أفهم طبيعته، أو وظيفته، كل ذلك رغم اعترافى الأكيد أنه ضرورة اجتماعية فيها كثير من الخير والفرص، لكن أبدا، ويلح على تصور أنه لابد أن ثمة مجتمعات أخرى، رقيقة ايضا، وعميقة أصلا، وبسيطة جدا، وأتصور أن ثمة مجتمع اشتراكى، وايمانى، أو فطرى، أو نشط تلقائى، يقوم بالواجب وزيادة، وبصراحة، فقد حاولت طوال خمس عشرة سنة مضت أن أحقق هذا “الفرض” تحقيقا عمليا على أرض الواقع، وقد تصورت أنى نجحت، فأختلط مرضاى بتلاميذى باسرتى بعمالى بشكل طيب ومباشر، ثم بدات المضاعفات، لكننى اصررت على التحوير لا التراجع، وازلت أمارس نشاطا “اجتماعيا” فى بعض هذه المجتمعات البديلة بعد تحويرها قليلا قليلا، لكنى أشعر أن هذا التحوير سوف يمتد، خصوصا بعد رحيلى، حتى ينتهى الى “تجاذب أظراف الحديث” و” الأطعمة بغير اسم” و” الحوائط المتحركة” و” السائق السمهرى” – ويصبح كل ما فعلت مجد محاولة فاشلة، و أزداد اقتناعا أن أى اصلاح أو ابداع فردى محدود لا بد أن يضربه المجتمع الأوسع الأقدم والأرسخ، كما أن أى اصلاح أو ابداع ثورى شامل معرض لأن يسرق من داخله أو ان ينتكس.. الى ميوعة طفلية، أو كذبة نقيضية، وأروض نفسى أن” الذى تعرفه أحسن من الذى لا تعرفه” – لكنه ترويض ظاهرى يناقضه ذلك الشعور الرائع بلاخلاص من هذه الورطة الدمثة – رغم الشكر والتقدير.

رجعت شاعرا بالانقاذ، فعادت الى رغبتى فى أن أنتهز فرصة غياب الأولاد لأعاود محاولة أن “أكن” حتى أستتر فى أنس نفسى، وقد كانت هدأة طيبة حدث فيها فض اشتباك بين أكثر من موقع، ثم عادوا، ثم انفصلنا بعد أن انضمت زوجتى لى، فصحبتها واعدا بمفأجاة، وقد اضمرت أن أعوضها بعض حرمان تلك الأيام، وأكتشفت أنى مازالت جائعا، فأنا لم أتناول شيئا فى غداء ذلك اليوم العصيب فى الشانزلزية، مطعم بدورينن كم وقفنا أمامه – قديما – نشاهد قائمة الطعام دون أن تجرؤ على الدخول، وها نحن قادرون على أن نفعلها من حر مالنا بعد خمسة عشر عاما، ولا أجد فرحة خاصة بالمقدرة المالية، ولا أتذكر توجعا خاصا من زعم حرمان، اذ يبدو أن المسألة تتعلق بضبط جرعة القدرة، (واللى معاهوش مايلزموش) مع تواصل إعادة التناسب كلما أمكن ذلك، وألعن كل حضارة الرفاهية كهدف فى ذاته،  وأن كنت لا أرفض بعض الجارى من منطلق نفس الرغبة فى مسايرة الاغلبية. والحمد لله

السبت 8 سبتمبر 1984:

ومازلنا فى حالة من الاستقلال سمحت لزوجتى ولى، أن نقوم هذا الصباح بجولة خاصة، بدءا بالمرور بالمنزل الذى كنت اسكن فى أحدى حجراته فى الحى الثامن عشر، بالقرب من ميدان كليشى وحى البيجال، فى شارع كولانكور،وهو بداية جولتى القديمة الى المونمارتر حيث ابدأ بالانحراف يمينا بعد ناصية بيتى (هكذا أعتبره حتى الآن – كما وعدت الأولاد أن نزوره غدا) ثم هات يا صعود، فيما هو أضيق وأضيق، سيرا على الأقدام، فرحا بالحجارة القديمة، وآثار الرطوبة، وبعض الخضرة، والأبواب الخشبية الصغيرة، واشعر أن زمنا وادعا يغلف كل ذلك دون قفرات شائة تحرم هذا الحى من تاريخه تحت أى عنوان، وزجتى تستسلم لجولتى هذه التى اعتادتها كلما عدنا، حتى أنها بدت لها مثل طقوس المزارات الخاصة، نفس المسار، ونفس الانحناءات، وربما نفس التعليقات، بنس الترتيب، حتى نصل من الباب الخلفى الى تجمع رسامى الشارع والمقهى من الفنانيين وأدعياء الفن على حد سواء، هناك على حواف كنيسة الساكركير، فأكرر ما قمت به وعشته عشرات المرات وكأنى أفعله لأول مرة، واشترى الكروت الصغيرة التى تصور ذلك الطفل الذى” يطرطر” فى غير حياء مخرجا لسانه، أو تلك الطفلة التى تتواعد مع صديقها الطفل وقد رفع الهواء “جونلتها” بشكل محسوب جميل، فأجلس جلستى المستعيدة لما كان، المستكشفة ما قد يكون قد استجد، فأتصور – ربما خطأ – أن ثمة اصابة اصابت المكان كما اصابت الزمان، حتى كاد يفقد أصالته، أو تلقائية، أو وظيفته، لى على الأقل، واشك فى تقديرى اذ ارجح أن تعلقى بالقديم يجرمنى من قبول التغيير ويشككنى فى الحركة الى أعلى، وانا لا اشك فى الحركة الى “اعلى” لكنى ابحث عن الحركة الى “أعمق” فاكاد أجزم أن المكان قد اصابه “انفتاح ما”، ليس انفتاحا على مزيد من افن والابداع، لكنه انفتاح “بوتيكى” الطبع، لعله “تأمرك” (صار أمريكيا) أو تهود (صار يهوديا) أو تهندس (نسبه الى مدينة المهندسين)، لأنه شتان بين مكان قديم، اعتاده فنان فقير، ترك نفسه تجرى مثل ماء تهر صغير بلا غاية مسبقة، فاذا بالخضرة تنمو حوله من فائض دفقه، فيرعاها مزارع عجوز ويبتاع بعض ثمارها عابر سبيل – فقير ايضا، شتان بيم هذه الصورة التى هى عندى “المونمارتلا”، وبين المكان الذى وجدته هذه المرة وكأن تاجرا قد اشتراه بالجدك، فوظف فيه صبيان الفن ترسم لك صورة بعشرة فرنك، وتقرا الفاتحة للست “كير” ولست ادرى لماذا اعزو كل تغير م هذا النوع الى جريمة اللاحضارة الأمريكية، فالأصيل يتأمرك، فى حين ان الأمريكان يتمسحون، ويقلدون الأصالة، فما زلت أذكر قرية جرينوتش فى نيويورك، وهى تحاول أن تكون نسخة زائفة من الحى اللاتينى أو المونمارتر أو البيجال أومنها جميعا، فاذا بها مستنقع للشذوذ الجنسى والبدع المزخرفة، وحين زرتها قبل ذلك بعام فرحت بكل ما هو “موالدى” فيها من مأكولات فجة، وألعاب صارخة، وزفة بدائية، وطبل وزمر وتهريج وبدع، ولكن النظرة الثانية جعلتنى أهرش رأسى واتساءل:هل هؤلاء الناس منطلقون من داخلهم أم أنهم هائصون من خارجهم لا أكثر، فى النظرة الثالثة هرشت جسدى حيث أدركت ريف التقليد، وارجح – أن الأمريكى حين يعجز عن اتقان التقليد يدفعه الغيظ الى اتلاف الأصل، فباريس الزجاجية وناطحات السحاب ليست هى باريس التى أعرفها، وحتى المونمارتر هنا ليكاد يتنكر لى أننى اتنكر له، نفس الشعور يصيبنى وانا اشاهد ناطحات سحاب القاهرة المتحركة” (نسبة الى نيويورك) – ونفس الأسى أتذكره حين زرت مؤخرا قهوة الفيشاوى فاذا بى ابحث عن فيشاوى الخمسينيات، فلا اجدها، اذ افتقد الشيخ محمود الضرير القصير وهو يتادى “انا ابيع الأدب” كما افتقد شلل الشباب وشباب الشيوخ وهم يتبارون فى الشعر والضحك والقافية والمؤانسة دون عدوان أو بذاءة، اذ يهتف ثلة اليمين أنه “ابو شنب  فضة، تفيت على شنبه، قام الشنب صدى” فيرد الآخر، وثلته تردد وراءه “انا البابور اسود غطيس، اللى يقابلنى يروح فطيس”- لكن الآن ، ثمة شئ آخر، كأنه ظل باهت لذكرى مشوهة، ويبلغ قمة التشويه ذلك المسخ الكاريكاتيرى لحى السكرية “البلاستيك” فى فندق السلام هاييتى بمصر الجديدة ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.

وانا لا أحب أن أتمادى فى تكرار هذه اللهجة التى تشعرنى أنى عجوز خائب عن استيعاب الجديد، فأروح اعاند واشوه، واحكم، وامتعض، ثم أنى على يقين من أن القديم لا يعود لا ينبغى أن يعود، لكنى على جهل عظيم بما يمكن أن يحل محله مما هو أفضل منه حتما….، من يدرى؟، ونلف ازف العذراء الى السماء فى كل مرة، ندور حولها لنهبط متدرج سلالمها العريض الجميل نازلين متجهين لـ” وكالة البلح” الباريسية، واقابل عشرات السنغاليين الذين يبيعون الطبلة والرق ونموذج الأفيال الصغر من العاج، ويذكروننى بالفتى النحيل الاسمر الذى قابلناه فى “ثيو” شمال “كان” وأعرف أنهم يمارسون هذه التجارة بشكل مخالف للقانون، ورجال الشرطة الفرنسيين على مرمى البصر، ولكن يبدو أن ثمة اتفاقا غير مكتوب “يسمح لهم” فى حدود، وأقول لنفسى: يا سبحان الله: لو أننا حسبنا القوانيين الحقيقية التى تتحكم فى معاملات وسلوك البشر لوجدناهم أبعد ما يكون عما يجرى فى أقسام البوليس وساحات المحاكم، وربما اهم، وانفع، وأواصل نزول الدرج مع زوجتى، وأعجب لعدم الازدحام رغم تدفق الآلات، واقارن بين نظافة المكان النسبية وبين فضلات البشر وبقايا كل شئ حول الهرم الأأكبر، وابتلع غصتى بصعوبة، ونجلس – كما اعتدنا – على ” دكة “جانبية فى منتصف طريق الهبوط بعد ان تبينا أن أغلب محلات “الوكالة” قد أغلقت ابوابها، فاليوم هو السبت، والأجازة أصبحت يومين فى الأسبوع فى كثير من المواقع، رغم أن المحلات العمالقة فى المدن العملاقة قد عمدت الى بدعة العمل طول الأسبوع – والذى لا يشترى يتفرج!! فأوقن من تواصل التهام المحلات الأكبر للأصغر مثل سمك المحيطات، واسف على احتمال اختفاء وكالة بلح باريس فكم حفظت ماء وجهنا اذ باركت فى فرنكاتنا القليلة حتى استطاعت أن توفى بهدايا المتظرين “كل حى باسمه، وتواصل النزول لصغير الوكالة ىسفين فى اتجاه البيجال من الشوارع الخلفية، لكننا نتوه قليلا أو كثيرا فنجد أنفسنا – فجأة نسبيا – فى منطقة :شديدة الزحام، شديدة الغوغائية، شديدة التشويش، بادية “العروبة” وأتبين فيما بعد أنها حول باريس روششو وكأننا قد انتلنا فجأة الى زنقة الستات أو الموسكى، وأحكم زر جيوب سروالى، وأنظر الى وجه زوجتى فأجد عليه الرضا بالمفأجاة وتنفتح شهيتنا للفرجة، والفصال والدائنين) من المنتظرين والمنتظرات، ومن الكبار والأولاد والبنات،و هذا لهذه وذاك لتلك، أما هذه فهى لابنة فلانة، وتلك لا تليق الا على ابن علانة، واخيرا سأرد جميل ترتانة،و كله سلف ودين،  فاستسلم استسلام العالم الثالث للبنك الدلى، وأفتح الاعتمادات لشراء ما لا اريد لمن لا أعرف، ولا أنكر أننى أحترم هذه العادات، ولا اطيقها، وتتأمل هى المشتريات واتأمل أنا الناس، واتعجب للاغارة العربية التى احتلت هذا المكان بلاجملة، وكأنها نوع من انتقام الذين اتبعوا من الذين تبعوا، واضع يدى على قبلى من احتمالات المواجهة بين اليمينية العنصرية الجديدة على فرنسا وبين هؤلاء المستعمرين العرب، ربك يستر – ثم تنتهى الأزمة الشرائية على خيريسمح بأن أطمئن الى عدم تكرارها، ولكن من يدرى؟ فأمضى محملا بأكياس ورقية وغير ورقية مقتنعا – رغم أنفى – أنى وفرت بذلك الشئ الفلانى، وما أن أصل الى الطريق الممتد بطوله من ميدان لكليشى الى البيجال وبعده حتى أدعو زوجتى الى “وليمة” قارعة الطريق التى تكمل حتما وليمة الشانزلزية، فلا يغنى جديد فخيم عن قديم رائع، تلك الجلسة على دكة الحديقة، وفرش أحدى الصحف، وشراء ما تيسر من البقال والفرن والشواية القريبة – وحين اعود الى زوجتى المنتظرة فى الحديقة، أجدها ممتقعة الوجه غاضبة منى أو على، وقد تعودت أن أمون “مسقط” غضبها حتى لو لم أكن “مصدره” فاسال، فتنتفخ، ثم اسأل وأنا اتلفت حولى فألمح بعض الجزائريين بالكاسكيت أوا لبيريه الممييزين الوجوه السمراء المعروفة، والجسم النحيل، فأقولها! هل هم؟ فأفاجأ، وتقول “نعم”، فأذا كنت تعرف، فلماذا تركتنى؟، ولقد كنت سوف اصرخ أو أجرى لولا أن لمحت غيرهم مثلهم فى كل مكان”، وأحاول أن افهمها أنه ليس فى الأمر خطر حقيقى، وأنها مجرد تماحيك معتادة، فتكاد تبكى وهى تذكر بعض الألفاظ التى رجحت أنها بذيئة من حركات الوجه واليدين، وابلع ريقى بصعوبة وأكف عن محاولة التخفيف عنها، وأتألم لها كما أتالم لهم، ففى هذا الحى بالذات يقوم الجزائريون بأعمال القوادين والفتوات لأن أغلب رواد هذه الأماكن م م مواطنيهم الذين يعيشون فى باريس دون زوجاتهم،و مع انهم يتاجرون فى اللحم الأبيض الفرنسى، فلابد من حام من جنس الزبون، حيث لا يفل الحديد الا الحديد، ولا يستطيع “زبون” أن يتملص من دفع أجرة اللذة، ولا من الاطالة بدون مقابل، ولا من الايذاء اذاا تمادى فى تخبط النشوة – وتنتهى الأزمة على خير.

وفى المساء تجتمع ثانية، لندخل فيلما سيئا، أذكر أن اسمه سلاماSlama، وهو اسم الفتاة المراهقة فى الفيلم، أو اسم قطعة الموسيقى التى يعزوفونها، لا أذكر، لكنى قرفت حتى قرب القئ من امتهان كل ماهو قديم، وكل ما هو كهل، وكل ما هو تقاليد طيبة، وكل ما هو محترم، وكأن الفيلم يدعو بكل وقاحة الى حرية “قلة الأدب” و” نذالة الأبناء” والأحفاد لا أكثر، وقد شعر بأن مثل هذه الأفلام هى أخطر واقسى وادنى من كل الافلام العارية والجنسية، واعترف أننا اخطانا الاختيار، ولكنى افرح باكتشاف “الغث”و”التافة” و”الضار” فى بلاد الحضارة السعيدة، ففى كل بضاعة ما هو طيب وما هو خبيث، واقول، واقول أن الهبوط واد على سلم المصعد، وبدونه على حد سواء.

الأحد 9 سبتمبر 1984:

اليوم يوم جماعى، وقد قررنا أن نبدا بغابة بولونيا ونتنهى فى حديقة اللوكسمبورج، وكان قد اوحشنى حوار الصغار، ومفاجآت الاختلاف، وجولات الاستطلاع.

ولغابة بولونيا فى وجدانى موضع هام، فهى أرحب وارخص مكان كان يمكن لمثلى فى وحدته وفقره “آنذاك” أن يجلس، ويقرا، ويتأمل ويكتب، ثم لا يدفع شيئا،و لا يكلم احدا، فيمضى اليوم بطوله لا يكلفه الا ثمن رغيف (باجيت) وزجاجة عصير، والمراكب على  سطح البحيرة تعيد الى ذكريات فلوكات زفتى وجولات التجديف حول جزيرة المنيل قبل التخرج ومع زملاء منزل النواب، وربما لأنى لا أعرف العوم فان التجديف قد ربطنى بالماء الهادئ ربطا سبق أن أشرت اليه، واضيف هنا أننا حين كنا طلبة فى الجامعة كنا نذهب بين الحين والحين من  قصر النيل الى حلوان مجدفين على  سطح النيل وكان هذا صعبا ايام الفيضان قبل السد العالى ونعود فى منتصف الليل بعد ان يكون صاحب المركب قد انخلع قلبه – وما بين محطة مترو بورت دوفين وبين غابة بولونيا مسافة تسمح لى بالعدو انا وابنتى النشطة فيهم (ابنة صديقى الصغرى)، فنعدو سويا، واتركها تستكشف بنفسها لقطات من الداخل الى الخارج بالعكس، وتهلث هى قبل ان أفعل، فاغيظها بانها عجوز، فتذكرنى بأنى اعتدت ذاك اكثر منها معظم الأيام، وقد كنت اشرت الى هذه العادة (القبيحة) – عادة الجرى – المنتشرة حديثا فى طول أوربا وعرض امريكا بشكل بلغ حد الوباء بعد ان صارت بدعة لها كتبها المنشورة، وابحاثها المنظمة، وتجارتها المرتبطة بالدعاية (الأحذية وملابس الرياضة)، وبالدعاية المضادة ضدها التى ثارت حين هددت هذه الرياضة سوق الأدوية ةتدخين السجائر، وقد رفضتها بادئ ذى بدء، ذلك أنى كنت ألاحظ انها رياضية فردية، تذكرنا باستمتاء رياضة كمال الأجسام أمام المرىة، وما اكاد أنظر فى وجه العداء – صغر أم كبر – حتى أشعر بتكثيف الوحدة وشقاء العناد وعشق الجسد جميعا،وكل هذا مرفوض عندى بشكل أو بآخر، فاقول لنفسى ان هؤلاء الناس قد تفرقت بهم السبل، وأن الأولى ان يعملوا عملا جسديا – لا يدويا – حتى يتصببوا عرقا بدلا من هذا الاستمتاء المضحك، ويؤكد لى ذلك ظاهرة موازية وهى ظاهرة المستمع المشاع Walkman  أعنى حامل جهاز التسجيل (أو المذياع) ذى السماعات أطول الوقت، فتجد الشاب او الرجل أو الفتاة من هؤلاء، وقد وضع السماعات على اذنيه وراح فى غيبوبته الذاتواية يسير بين الناس ذاهلا، لا يسمعهم، ويكاد يتصور انهم لا يسمعونه، وقلت فى نفسى عندهم حق، فماذا يمكن ان يسمعوا من البشر مثلم مما لا يقال اصلا؟ ولكن ما هكذا يكون الرد على العزلة بعزلة اكبر، وما هكذا ننهى تقطيع ازصال احتمالات الحوار الانسانى، أقول أنى استقبلت “العدو المنفرد” من نفس المنطلق، ولكنى حين عودتى الى وطنى، وكنت قد قرات كتابا عن “جذل العدو”Joy of  Running أدخل المسألة الى من باب احبه وهو علاقته بالتطور، فقد ذكر أن التاريخ الحيوى للانسان يؤكد أنه ظل يعدو خلال 3000.000 (ثلاثة ملايين) سنة، وأنه لم يقم على ساقيه واقفا ماشيا تماما الا منذ نشاة أول حديقة (7.000 سنة) وبالتالى فالعدو – بين اشياء أخرى – يربطنا بماضينا، وانا أحب أن أجرب ما ارفض، حتى اتعرف عليه بحق، فبدات أعدو وحدى حتى لا يسخر منى من يشاهد انقطاع أنفاسى، بدات على طريق سقارة السياحى من كوبرى أبوصير حتى انحناءه طريق سقارة وبالعكس (حوالى عشرة كيلومترات)، وكان ذلك بعد الفجر حتى لا يضحك منى الفلاحون وسائقو الكارو، وأن كنت اطمئن لأنهم أيانا ما يشاهدون الخواجات السواح المهفوفين (مثلى) يفعلون من البدع ما يشاءون، واكتشفت رويدا رويدا ان داخل هذا النشاط ما يتخطى الاهتمام بلاجسد، أو بتحسين الدورة الدموية، كما اكتشفت أنه بقدر ما يمكن ان يكون مثل هذا النشاط اغترابا واستمناءا جسديا، وقد يكون ابداعا وتفجرا فكريا، وفى الحالة الأولى قد تزداد وحدة واغترابا، وفى الثانية قد تنبض احساس واقترابا، وعرفت أن الفارق ليس فى نوع النشاط نفسه، وانما فى طبيعة التوجه الباعث اليه، ومدى السماح المتضمن فيه، ومعنى التناغم المحتمل الى ما بعده، فقد اخترقت من خلاله طبقات م وعيى لم أكن أحلم باكتشافها وأنا فى كامل يقظتى هكذا، وحين كنت استحم فى عرقى كنت اشعر باقترابى اكثر فأكثر من ربى وكونى، ثم خطر ببالى – بعد صعوبة معينة مع مريض – أن هذا النشاط قد يفيد بعض مرضاى، فكان هذا  بداية تجربة “الجرى فى جماعة” وهو نشاط يكمل الجرى المنفرد، ثم تطور الأمر الى تكامل نشاطات جماعية معا أثناء الجرى، فتناوب المت (الجماعى) مع الرقص (الهرولة)، مع التسبيح، مع الحمد، المهم فى كل ذلك انى تعملت كيف احذر من الجرى التنافسى، الجرى للسباق، الجرى للتفوق، فكل هذه قيم فاسدة امتلأت بها حياتنا بشكل لم يعد يحتاج الى مزيد، بل انه يحتاج الى نشاط مضاد يعادل الاستغراق فيه، وقد تعملت الحكم من هذه المحاولات أن الحكم على شئ دون تجربته هو حكم ناقص، كما أن تعميم الحكم خطر أى خطر،و حين بدات موجة الدعاية المضادة ضد هذا النشاط بالمبالغة فى ذكر مضاعفاته، (تصورت أن الدافع إليها هو شركات الكحول والسجائر والأدوية (فالجرى يقلل استهلاك كل هذا – وحين ذكرت ذلك الاحتمال لابنى الأكبر (وهو يعدو معى أحيانا) قال لى، بل هو سئ عندهم لأنهم لا يحمدون الله جماعة كما نفعل نحن اثناء جرينا، وفهمت ما يعنى فالجرى المتناغم والتكاملى ه نقيض الجرى المتحوصل الذاتوى – ونكتشف انا وابنتى النشطة أننا وصلنا بسرعة الى بحيرة الغابة فنلتفت وراءنا فلا نعثر لهم على اثر، فنستدير ونواصل العدو اليهم بغير عابئين بالرذاذ الذى بدا يتساقط، غير خائفبن من الوابل المحتمل انهماره فى اى لحظة – ونصحبهم الى البحيرة، ونستأجر المراكب مع بعض دهشة المسئول عن التأجير، ولا ينزل غيرنا تحت هذا المطر الى التجديف بالبحيرة، فنشعر أننا امتلكناها دون غيرنا مما سمح لنا ان نغنى، وتكبر، ونحمد، ونهلل، فمازلنا فى ايام العيد، ثم نتقاذف المياه بسن المجاديف، وكأن المطر المستمر لا يكفينا، فنضيف اليها مياه صفق المجاديف لسطح البحيرة، وتذكرنى حركة المجاديف بطبيعة التواصل بين شقى الحركة، بين الكنون والانفراج، بين الذات والنامى، بين الهمس والصمت والحديث الصارخ.

ونخرج راضين من بين الشجر والماء، ومازال المطر يذكرنا بحدة: اين نحن، وكيف، واطرد من ذاكرتى ذلك اليوم الرطب القائظ الذى مكثنا فيه ممددين كأصنام من العجين المتخثر بجوار البحيرة ذاتها فى العام المنصرم يث تصادف وجودنا هناك تحت وظأة وجة حر رطب يسمح لك بان تقطه فيه “الجو” الى قطع مجسدة بسكين حاد.

وفى طريق عودتنا مررنا بالشانزلزبيه ثانية، فاستوقفنا موكب غريب يسير فيه اناس أغلبم من متوسطى السن الأقرب الى الكهولة وقد ارتدى بعضهم الملابس المدنية وعليها وشاح ما، فى حين ارتدى عدد أقل بعض الملابس العسكرية، ويتقدمهم لفيف من شرطة رسمية ويتقدم الجمع فرقة موسيقية بسيطة، تبدو رسمية ايضا، وقد اصطف الناس على الجانبين يتفرجون، وبعضهم يصفق فى حدود، ثم يتراجع، والأغلبية تسير غير مهتمة، ويظل الركب يسير وظهره الى قوس النصر حتى وصل الى منتصف الطريق الى الكونكورد، فسألت احد المارة، فقال أن هذا هو يوم الاحتفال بذكرى انتصار معركة “كذا” (لست أدرى ماذا) وان هؤلاء بعض من اشترك فى هذه المعركة او من ينوب عنهم اقاربهم، فتعجبت من هذا الحفل الشعبى البسيط والتلقائى والجيمل باقل درجة من الحشد الرسمى، والنفاق الاعلامى، كما شعرت انه موكب تاريخى متواضع طيب، أكثر من كونه موكبا حماسيا عسكريا مفروضا، فتعاطفا مع كل ذلك، قلبت كالعادة فى أوراق بلدى، فلم اتبين ما يقابله حديثا، ولم استبين الا الاحتفال بذكرى سعد التى كان يقيمها شباب الوفد زمان فى دوار عائلتنا بالبلدة، وكنا – رغم انتمائنا حينذاك للأخوان – نشارك فيها تلقائيا بحماس مسامح، ويستمر الموكب جاذبا افكارى واقدامى جميعا، فأواكبه دون تردد حتى اذوب فى حشده، وحين يتحلق الركب بعد الوقوف تلتقط الصور ويتجمع السواح ثم يتقرف الجمع تدريجيا، وهنا – هنا فقط، افيق لصحبتى، فأكتشف كل اولادى لكننى افتقد زوجتى وأسأل عنها، فأتبين انها تاهت منا فعلا، فننتظر طويلا طائل، وزوجتى حين تكون معى تعتمد على ذاكرتى وحافظتى طوال الوقت، فى حين انها حين تكون وحدها تعرف كل شئ  بلا دليل، وارجح أن هذه الاعتمادية هى نوع من العدوان السلبى رضينا به كلانا دفعا لما هو أسوأ، لكنها اليوم تاهت بحق، وليس معها نقود، ولا حتى العنوان، فنتفرق أنا والأولاد فرقا للبحث، ونتفق على مكان محدد للقاء مهما طال البحث، فأذهب، واتصور، وأحسب،و أعود، واضيق بجهدى، وباعتماديتها، ولا فائدة، واشعر بوخز فى جنبى وكأنى انتبهت الى ما لا ينبغى أن أنتبه إليه، فأبلغ ريقى، وأواصل البحث، وتمضى ساعة وبضع ساعة، ثم تعثر عليها أحدى بناتى، تعثر عليها فى نفس الاتجاه الذى كنت مكلفا بالبحث – شخصيا – فيه ولا أحاول أن أبحث عن تفسير ذلك، وخاصة بعد ان تجزم زوجتى، وهى فى اشد حالات الألم (منى للاهمال والترك والعجز والنسيان) تجزم أنها لم تغادر مكانها ولا خطوة واحدة منذ تركناها، اذ يبدو أننا انسقنا وراء الركب دون تفكسر، وقد تصورنا أنها مثلنا كلنا، سوف تفعل مثلنا دون أخطار سابق، خاصة وأنها تحب المواكب بكل اشكالها، ولا اترك لنفسى العنان اتأمل علاقتى بزوجتى من خلال ما عرته هذه الحادثة،وحين أتذكر ما قيل عن علاقة سقراط بزوجته أو تولستوى بزوجته، وما لم يقل عن علاقة ابن سينا بزوجاته أو عن برناردشو و”لا زوجاته” حين اتذكر كل ذلك اتساءل: هل هذا الذى وصلنا، ولاذى لم يصلنا، من معلومات عن هذه الزيجات والزوجات، هل هو حقيقة ما كان، هل هذه السير (الذاتية وغير الذاتية) المزعومة قد أنصفت هؤلاء النسوة البسطاء فى محنته عايشة غرور هؤلاء المبدعين ووحدتهم؟ هل يستطيع مؤرخ منصف ان ينتبه الى دورهن، مثل دور السيدة خديجة فى رسالة نبينا محمد،و لو كان الناس يحتملون، ولو كانت زوجتى لا تقرأ ولا تكتب لقلت فى هذا الشأن ما ينبغى أن يقال، فثمة أمور لا يعرفها عنى مخلوق على هذه الدنيا الا هى، وثمة آراء ومعتقدات لا تخطر على بال أحد عنى لكنها على علم واضح بها، تقبلها فى صمت مسامح، حتى لو لم تقتنع بها او بمثلها، وثمة احترام لشطحات ليس لها اى مبرر، ولا تستأهل أى احترام، ولا تحتمل، لكنها نتركها تمر، ومع ذلك فهانذا”أنساها” هكذا ببساطة وسط الزحام، ولا أعتذار حتى لا اضاعف المأزق،و حين أعلم أنها حين ضاعت قررت ألا تغادر موقعها ولو تأخرنا عليها مهما تأخرنا، ولا أتصور ماذا حرك هذا القرار بداخلها من مخاوف وذكريات وضياع، ومذا اثار من احتجاج وعدان – وأظل اخفف عن نفسى وظاة خطيئتى شارحا لنفسى اسباب انسحابى وراء الركب، فأنا شديد الضعف أمام الشارع، فى الأسفار خاصة، وأنا اتعلم منه كما ذكرت – أكثر مما أتعلم من حديث المرشدين السياحيين وتواريخ الآثار وصخب المسارح، أتعلم من وقفة المتسكعين، ومعاملة البائع، ولهاث العدائين، وموزعى الاعلانات الصغيرة من أصحاب العقائد الجديدة ولاشاذة، ومن مجددى الأديان القديمة حتى أنى رجخت مثلا، من هذه الاعلانات المتكررة والملاحقة فى شوارع نيويورك، أن ثمة محاولة أمريكية يهودية ترمى إلى تهويد المسيح، إذ يبدو أن اليهود لم يكتفوا بادعاء تبرئتهم من دم المسيح ولكنهم تمادوا إلى تهويده حقيقة وفعلا، حتى شككت من فرط الحاحهم باعلانات الشارع هذه، شككت فى معلةماتى التاريخية، وقلت لعلهما دين واحد، ولعل المسيح ما جاء الا ليذكرنا بالدين اليهودى، أفلا يجتمع العهد القديم مع العهد الجديد؟ الا توصف تلك الحضارة الوافدة باسم الحضارة اليهودية المسيحية (أريتى مثلا)؟ فان صح ذلك كله أو بعضه فاننا لابد أن ننظر بعين الاعتبار لوجهة النظر التى تنظر للمسألة الصهيونية باعتبارها الوجه المعاصر للحروب الصليبية، التى هى بدورها ليست صراعا بين أديان سماوية تكمل بعضها بعضا بقدر ما هى تنافس للتفوقت والتعصب والسيطرة من الجانبين لا أكثر ولا أقل، ولعل اصرار دعاة “الشارع” من اليهود والنيويوركيين وغيرهم على تهويد المسيح يتطلب بالضرورة اعتبار اسرائيل  واجهة هذه الحضارة الواحدة، أى أنها الفيلق المتقدم نيابة عن الحضارة المسيحية اليهودية للاغارة على أى احتمال آخر، حتى لو كان الأفضل، ومن هذا تصبح الحركة الاسلامية الأحدث هى الرد الطبيعى على مناورة شديدة التعقيد مترامية الحلقات، يا خبر!! اذن فهى ردة انسانية تغفل بقية أديان العالم “ولا أديانه” ولكن هل تملك – ولو مؤقتا – الا الرد بالمثل، ولكن (أخرى) ما شأن ترك زوجتى اهمالا ونسيانا بكل هذا، هل تركتها لأحل مشكلة اسرائيل أو الاغارة الصليبية المحتملة، أم انه الاستغراق فى الشارع على حساب الصاحب المرافق،  ولكنها تعذرنى فى النهاية، وهى لا تملك الا أن تعذرنى فى أغلب الأحيان، وهذا عبء جديد فى ذاته، وأنا لا أعرف لكل ذلك حلا. وقلت لنفسى : ان أفضل اعزاز لها هو أ ادعوها إلى ما تحب، وقد كان، فانفصلنا عن الأولاد واتجهنا إلى الحى اللاتينى فى صمت، وتركنا أقدامنا تسوقنا هنا وهناك، فوجدنا “هناك” تلك الحلقة المتكررة حيث تقدم الألعاب السحرية من الحواة والمغنين المتجولين “قرب، قرب ، قرب قبل ما يعلب، شربة الخواجة سيمون أحسن من عصير الأفيون” وهات يا موسيقى، ونفخ بالنار، وقفز بداخلها، ومفاجآت عجيبة وأخبار غريبة، كل ذلك أحسن من السرقة والنصف وكافة شئ يغضب الله، مع أن هذه التجمعات بالذات هى المجال الأكبر للسرقة والنشل، لست أدرى باتفاق مع الحواة أنفسهم كجزء فرعى من نشاطهم أم كنشاط مستقل مواز حيث ينتهز “اللصوص المستقلون” فرصة التجمع، وخذ عندك. ولا أفهم بوضوح أين أضع هذا النشاط الشوارعى البدائى فى اطار الحضارة الباريسية وكيف أقيسه بمقاييس التقدم والتكنولوجيا، ونترك الجميع بالقرب من تقاطع سان جرمان بسان ميشيل وتهدينا أقداما إلى مطعم يابانى، فزوجتى تحب كل ما هو شرق أقصى، وهذا المطعم أدق وأرق وأغلى من المطعم الصينى المتواضع، ولعلها – بذلك – تغفر لى سهوى وغفلتى عنها.

الاثنين 10 سبتمبر 1984:

لم نتمكن أمس من زيارة حديقة اللوكسمبورج – فحاولنا اليوم أن نوفق بين زيارة المونمارتر وزيارتها، وكنت قد تحدثت مع السيدة كومباليزييه التى كنت أسكن عندها فى مهمتى العلمية، وحددت معها موعدا لزيارتها مع أسرتى لتحيتها، فاستقبلتنا أحر استقبال وأطيبه، وكنت لم أرها منذ ذلك التاريخ البعيد، ففوجئت بكهولة غالبة لم أضعها فى حسابى، وسألتها عن “بيبى” ابنها المعاق “شلل أطفال قديم” فأخبرتنى أنه تخرج، واستقل فى منزله فى “الفرساى” وكانت ابنتها قد تركت المنزل منذ حللت أنا محللها فى حجرتها فى تلك السنة، ولم أجرؤ أن أسأل عن زواجهما كما اعتدنا السؤال عندنا، فالاستقلال عندهم حتم وحق وواجب، بزواج أو بدونه، هو حتم حتى لو كانت الأم فى هذه السن، وهو حتم حتى لو كان الابن بهذا الشلل، فسألت عن حجرتى وهل يسكنها أحد الآن، فأجابتنى بالنفى، ففرحت، واكتشفت أنى أقرب إلى القائل:

أهيم بدعد ما حييت فان أمت                فلا صلحت دعد لذى خلة بعدى

من ذلك القائل:

أهيم بدعد ما حييت فان أمت                 فوا اسفى من ذا يهيم بها بعدى

وطلبت أن ألقى عليها نظرة، فضحكت السيدة، وفهمت، وسمحت، وما أن فتحت الباب حتى اعترتنى دهشة غير متوقعة، فقد بدت أضيق مما كنت أتصور الم تكن لى عالما بأسره طوال عام بأكمله فكيف اختزلت هكذا إلى هذه المساحة المحدودة ، وأين شرفتها؟ (وهى لم تكن أبدا بشرفة، ولكن هكذا أقفز إلى هذا التساؤل) – يا خبر، أى خيال عشته طوال هذه المدة!! وياليتنى ما رأيتها ثانية، وأعود إلى مضيفتى فأسألها وتجيب، فهى تقضى وقتها مع صديقات كهول بعد أن تقاعدت، وهى تحافظ على صحتها بممارسة ألعاب خفيفة لمدد محدودة كل يوم، وتضبط زياراتها المنتظمة لطبيبها، كما تتبع نهجا غذائيا وقائيا محكما، وأتساءل: لم كل ذلك؟ لتحافظ على ماذا، لماذا، الى متى؟ ولا أتمادى طبعا وأخجل من عودة سخفى وقد كنت أحسب أنى تعملت حتى التوبة عن عبث مثل ذلك التساؤل (انظر الفصل السابق، وعلاقة “هذا” بخالتى!!) فأشفق عليها واحترامها، وأسرع بالانصراف قبل أن تلتقط بقية مشاعرى العبثية، فتودعنا شاكرة الزيارة وهدية الشطرنج الفرعونى الذى تركته لبيير  ولدها، ويتعجب أولادى من تعلقى الشديد بحجرتى تلك، وأتصور أنها (الحجرة) الرحم الحانى فى تلك الولادة المنتصف عمرية، وأصحبهم بنفس مسار أمس الأول الى المونمارتر، ولا أجدنى قد مللته أبدا، وما أن نصل إلى المقاهى والمراسم حتى نفترق قررت هذا اليوم أن أطيل الجلوس لأطبل التأمل، فتفضل زوجتى البقاء معى، ولا أتأكد ان كان ذلك اختيارا لصحبتى، أم تجنبا لتكرار ممل، فيذهب الأولاد وتجلس على مقهى فى مركز حساس.

ويمر أمامى بائعو الفن بغربتى كل واحد منهم برسم “بورتريه” لوجهى البهى وأرفض بداهة، فلا أنا من يهمه التصوير أصلا أو الرسم بداهة، ولا وجهى هم الوجه البهى، ويأتى واحد أكثر ذكاء ومخاطرة من عنادى، فيبدأ فى الرسم دون استئذان منى، فأحاول أن أثنيه عن عزمه وأفهمه بوضوح أنى لن أبتاع ما يرسم، فلا يهتم، ويجيب أنى غير ملزم بدفع سنتيم واحد إلا إذا وافقت، وكمل رسمه، ولا يعجبنى طبعا، فاذا كان الأصل لا يعجبنى فكيف تعجبنى الصورة، ولكنى أخجل وأدفع، ويثبت أن اصراره أذكى من عنادى – وأتصور أن هذه وسيلة ناجحة لا محاولة، لكنى أتابع نقاشا يجرى بجوارى مع “زبون” أحسب أنه أمريكى، فقد غامر أحد الفنانين معه بمثل ما فعل معى، لكنه رسم وجه جارى رسما كاريكاتيريا جميلا وناطقا، تصورت منه أنه لمس داخله وأظهره جنبا إلى جنب مع دقة التقاط التقاطيع، وخاصة أنفه المتميزة، ويبدو أن الرجل قد أعجب بالرسم مثلى، فهم أن يبتاعه مثلى، لكنه قبل أن يفعل خطف نظرة إلى زوجته (أو صاحبته) الحسناء فتحفزت، وجعلت تقلب النظر بين الرسم وبين الأصل، ذلك أن الكاريكاتير قد ضخم الأنف حتى أصبح اكثر دلالة وتمييزا، وقد تصورت أن هذا أفضل لكن يبدو أن ذلك لم يرقها، فتراخت يد جارى رويدا رويدا من على حافظته حتى خرجت بيضاء من غير سوء، وصح ما توقعه وتوقعته حيث “زامت” صاحبتنا أن “لأ” وهى “اللأ” وكأنها أرادت أن تظل محتفظة بصورة صاحبها (بل الأرجح: زوجها) بأبعادها الكاريكاتيرية الأخرى، إذ يبدو أن ما نرسمه فى خيالنا لبعضنا البعض هو كاريكاتير مفضل على الحقيقة من جهة وعلى كاريكاتير الآخرين لنا من جهة أخرى،  بل ان لكل منا عن نفسه صورة كاريكاتيرية خاصة به، ومازلت أذكر – كما أشرت – كيف فوجئت بنفسى فى مرآة حجرتى فى باريس، وحتى الآن فأنا أصدم فى كثير من الأحيان حين اضطر لاكتشاف الفرق بين وجهى فى المرآة وبين صورتى الداخلية الكامنة، فقد أجد المرآة أفضل ، أو أسوأ، وقد يفاجئنى سنى، أو كشرتى، أو جديتى، أو همى، يفاجئنى كل ذلك فى وقت لم أستعد له، وأحيانا أتعجب كيف يحتمل من يعيشون معى هذا الوجه (وجهى) طول الوقت فى حين لا أستطيع أن أحتمله أنا الا مصادفة وأحيانا أكتشف أن لوجهى حضور متميز يمكن أن يبرر قبوله لو صبر عليه أحدهم بعد النظرة الأولى، المهم رفضت السيدة أن ترى زوجها كما رأه الفنان، وتصورت بذلك أنها تستطيع أن تحتفظ بصورته كما تشتهى ، وألتفت إلى زوجتى فأجها راضية بوجهى وصورتى معا، وأمرها إلى الله، وأقول فى سرى: الحمد لله، فلا هى “تزوم” ولا أنا أرضخ، ويمر بنا كهل مهلهل، شديد حمار الوجه، متوسط جحوظ العينين، يمسك عودا خاليا من الأوتار ورغم أنه لم يمد يده سائلا أحدا أى شئ، لكنه حتما يتسول بذلك، ويذكرنى منظره بشيخ درويش ينظم المرور بهلاهيله تحت كوبرى السيدة عائشة، لكن وجه درويش المونماريتر أكثر احمرارا – بفعل الشرب فى الأغلب – وعينيه أكثر جحوظا وعوده بلا أوتار فهو أكثر لفتا للنظر من المروحة الريش بيد الدرويش، وتكاد تصطدم به السيدة صاحبة القهوة (فى الأغلب) فتعتذر وتفسح وتتراجع فى أدب جم واحترام حقيقى، فأتصور أنه كان أحد هؤلاء الفنانين المتجولين، وانه قد تبين بحدس واع ان الحكاية كلها “لاتساوى” – سواء خطها على الورق، أم رصها فى كلمات، أم عاشها فى خطوات، أم أصدرها فى نغمات، فقصف فرشاته، وأخلى عوده من أوتاره، وابقى عليه أجوف يردد صداها – الحياة – بمايليق، وأعجب لاحترام الناس لمثل هذا الوجود المتحدى، بل ودعمه بالشفقة والصدقة والسماع .. وأقول .. لا بأس،

ولكن .

ويبدأ الرذاذ من جديد، وتحلو الجلسة، وتخرج المعاطف المضادة للمطر، وتفرد بعض المظلات، وينصرف أقل الناس ويبقى الأخرون وأشعر أن المطر قد هطل هنا بالذات: تحية لى، ورسالة، فأشكره، ويخف حتى يسمح لنا بالانصراف لمقابلة الأولاد لننطلق إلى اللوكسمبورج، سرة الحى اللاتينى وعلامته.

واللوكسمبورج حديقة مثل كل الحدائق، لكنها – دون أن يقول أحد – جذبتنى حتى صاحبتها، وهى تختلف عن غابة بولونيا أن أشجارها ناس، وناسها طبيعة  وهى تحيل المدينة إلى طبيعة، ولا تكملها بطبيعة منفصلة، وأهم ما فيها هو “من” فيها – فالسيدة العجوز، والطفل الذى يعدو والشباب المستلقى، والمارة الطيبون، والفن الحى، ولم أكن أعرف أن لها عند سارتر موضعا خاصا فى نشـأته وخياله، وحين قرأت علاقته باللوكسمبورج اقتربت من خياله واحترمت نبضه مع استمرار اختلافى مع كثيى مما فرضه على نفسه وهو يحل كلماته محل جوهر الطين وقلب العرق، وننصرف بسرعة هذه المرة لأننا كنا على موعد لزيارة صديقة لابنتى فى ضواحى باريس بعد الظهر.

وفى محطة “سان لازار” ننتقل من محطة المترو إلى محطة القطار، فنجد الدنيا تضرب تقلب، مئات آلاف، داخلين خارجين، فى زحام منتظم، أو انتظام مزدحم، وبسرعة محسوبة، لأن مواعيد القطارات معلنة فى لوحات مضيئة بالدقيقة (وربما الثانية) – وعلاقة باريس بضواحيها علاقة غريبة رائعة، فالضاحية تسمى ضاحية حتى لو وقعت على بعد مائة كيلو، وأكثر وأرجح أن المسألة لا تقاس بالكيلو مترات، وانما بالميكروثانية، وبالتالى لايوجد ما يبرر أن تسكن فى باريس إذا كنت تستطيع أن تصلها فى سبع عشرة دقيقة أوسبع وعشرين، فأنت تعرف مسبقا تى تحلق ذقنك، ومتى تغادر بيتك، ومتى تستقل قطارك، ومتى تغيره الى المترو (هذا اذا لم يكن نفس القطار يخترق باريس مثل خط الـ R.R)، وبالتالى متى تصل عملك – فاذا كان الأمر كذلك فأنت فى  باريس متى شئت، وأنت خارجها متى أردت، أما – مرة أخرى – أن تصل الى العمل بالصدفة،و تعثر على المسكن بالقرعة، فلابد أن نعمل ” بالتيلة” وبسرعة التقطت اسم البلدة التى نتوجه إليها …، “هويل”، فوجدت أن القطار سيغادر المحطة إليها بعد دقيقتين، وهات  يا تذاكر، ويا جرى، ويا قطار، ونحن غير متأكدين تماما أننا على صواب، ويطمئننا بعض الركاب الطيبين، ونجد الأماكن كافية رغم الازدحام، والقطار بدورين مثل ترام الإسكندرية زمان،، وناس الترام ليسوا مثل ناس المترو، نعم .. هم .. هم، لكن الكتب هنا أكثر وهى تخرج أسرع، والكلمات المتقاطعة أقل، والجو الأسرى أوضح، والشباب أقل، والقطار يبدو أسرع، والدنيا مكشوفة، والحقول تتبادل مع مداخن البيوت أو المصانع الصغيرة، ونصل إلى المحطة المعنية، فلا نجد صديقة ابنتى كما تواعدنا، فننتظر، وفى خلال دقيقتين يخلو الرصيف إلا منا، فيبدو مهجورا تماما، وهى محطة مفتوحة، بسيطة، جميلة، وخلوها يعنى عندى الدقة والطمأنينة معاً، فالناس تحضر قبل القطار بدقيقة (مثلا)، فيحضر القطار بعدهم بدقيقة، فتخلو المحطة فى دقيقة، ودمتم، وهكذا أرى محطة ليست سوقا ولا بوتيكا ولا ناديا ولا ميداتا، لكنها محطة، وننتظر أكثر ولا حس ولا خبر لصديقتنا، ونتعجب، ونرجح سوء فهم الاتفاق، فتذهب كل من ابنتى للبحث فى احتمالات أخرى فتجدها إحداهما، ونلتقى.

صديقة ابنتى اسمها فرانسواز، فتاة فى العشرين وزوجها كذلك (هكذا يبدو) وهى، ليست جميلة، وزوجها شديد الجمال والوسامة، والظاهر أن الرجل الفرنسى – بصفة عامد – هو أجمل من المرأة الفرنسية، واستقبلتنا البنية بفرحة حلوة، وقد كنت أتصور أنى سألتقى بمجرد إجابة صغيرة، تمليذة، مثل ابنتى، حتى لو كانت متزوجة، لكنى فوجئت بامرأة وجهها طفل جدا، وبطنها أمامها جدا، وظهيرتها خلفها جدا، حامل فى الثامن على الأقل، ورغم ذلك فزوجها “الجميل” لا يكف عن الغزل بها أمامنا طول الوقت (بزوجته: أى نعم) – وهى ترحب بنا – زوجتى وشخصى – تارة، وتنطلق تواصل حديثها مع ابنتى بفرنسية واضحة، سريعة وجميلة، ويشترك الأربعة فى حديث حار وكأنهم يكملون محادثة لم تنقطع إلا أمس، أو صباح اليوم، وأسحب نفسى بعيدا أتأمل هاتيك الشابات الثلاث والجدع “الحليوة”، وأرى روعة اختفاء الفروق الحضارية والتاريخية والعنصرية واللونية واللغوية، وهى تختفى بينهم فى ذوبان التعصب – وكانت ابنتى الكبرى قد تعرفت بصديقتها هذه أثناء رحلة كشافة فى جزيرة كورس (كورسيكا بالعربية – بلد نابليون: مولدا ومنفى) حيث شاركنا فيما يسمى “راتدونيه” وهى مغامرات لا أحد يعرف مدى صلاحيتها، مارين بمسارات لا تسع إلا فردا واحدا بالكاد، أو بلا مسارات إطلاقا تصعيدا فى جبل أو إنحدارا إلى سفح، مكتشفات طبيعة مجهولة، عابرين – من خلال ذلك، وفى حضن الطبيعة الأم – معظم الحدود بين الأجناس والعقائد وما يصاحبها من تعصب وغرور – وكان هذا دائما هو غرضى الأساسى من وراء السماح لأولادى بهذا السفر الجماعى، مصالحة الخشونة وإذابة الحدود علهم يعرفون أن الحياة الحقيقية ليست فى الرفاهية أو فى احتكار الجنان، يعرفون ذلك بالممارسة، والمشى وليس بالنصائح والكلام، ومنذ هذه الرحلة المشائية الجبلية، وهذه الفتاة – وأهلها – يرسلون الدعوى تلو الدعوة لبنتى وأختها للنزول ضيوفا عندهم فى صيف ما، ورغم رقة حالهم ماديا، فقد كانت دعوة مفتوحة مجانية إلا من ثمن تذكرة السفر، وكانت ابنتى تكرر لى دائما أن الكربم ليس له وطن، كما أنه ليست مرتبطا بقدرة مادية معينة، وأخيرا قبلت بنتاى الدعوة، كان ذلك لسنتين سابقتين على رحلتنا هذه، وقد حكت لى ابنتى عن تواضع منزلهم فى ضاحية “بيك”، وعن زيارتها لعمة صديقتها الفلاحة فى الشمال (فى ولاية بريتانيا)، ومدى نشاط الفلاحة الفرنسية، وكمية اللبن التى تدرها البقرة الفريزيان وتواضع دورات المياه هناك .. فنقلت إلى – وإليها – صورة حقيقية لما هو “غير” ما تعرف عن فرنسا / باريس، ومواز لما لا نعرف عن مصر القروية، وتوطدت العلاقة، ولم تحن الفرصة، بعد لرد الزيارة، وها نحن نزور من جديد هذه الأسرة الصغيرة بعد أن عملتها فراتسواز مع صديقها دون تردد، فى هذه السن، وبكل هذا الاستقلال، وهذه هى بطنها أمامها، وزوجها ذائب فى هواها، طول الوقت.

عرض علينا المضيفان أن نستقل تاكسيا فرفضنا بداهة، وفضلت أن نواصل السير إلى المنزل حتى أعيش خطواتى كالعادة، فجعلت أتملى فى واجهات المحلات، وأقرأ الإعلانات بالتفصيل، ومن بينها إعلانات عن ستوديوهات ومنازل صغيرة، وفيلات، وأثمانها كلها معقولة، فلا يزيد عن ثمن شقة متوسطة فى القاهرة أو حتى بلبيس!!، حتى خطر ببالى – بلا أى مبرر ظاهر – أن يكون لى كوخ فى هذا المكان أو مثله، وحين خجلت من نفسى فراجعتها، وجدتنى أتصور أنى لا أعرف بديلا أحب الالتصاق به والموت تحت ثراه أكثر من أرض بلدى كما لا أعرف فعلا أشرف من أفاد ناسى أولا وقبل أى شئ، لكننى أتصور بين الحين والحين أنه سيأتى على يوم يمنعوننى فيه من أن أفكر لنفسى بنفسى، وبالتالى فسوف أعجز عن أن “أعلن”، أو “أقول” ما أفكر فيه، وأنا أعانى حاليا من صعوبة النشر بعد أن كشفت كثيرا من أوراقى تلو الأخرى، فلم أعد أكتب ما يعرفون، كما لا أستجيب لما يريدون، لا “هؤلاء” ولا “أولئك”، وهم حتى الآن لا يتهموننى بالخيانة أو العمالة أو الكفر، وإن كنت أرجح أنهم يصفونى بالجهل أحيانا أو بالغرابة أحياناً، ولكنى أتصور أنه حين يتولى “هؤلاء” أو أولئك” الأمر، وهما على طرفى نقيض، فلابد أن أجدنى مواجها باتخاذ قرار، قبل أن يتخذوا هم قرار فى شأنى، وأتصور أنى سأكون كهلا لا يحتمل التعذيب، كما سأظل عنيدا لا أخضع للقهر، يقظا لا أحتمل التخدير، وحين لا تتسع أرضى لمثلى، وهم على قمة التحكم الفوقى، فأرض الله واسعة، فلا مانع من إعداد الركن الذى سيأويتى حتى لا أتنازل عن شرف عقلى مقابل ذلك إقامتى حيث يقهرون حقى فى أن أفكر لأقول، وأفيق فجأة: من هم ومن أنا؟ أنا لست فى أولها ولا فى آخرها، بلا كلا الفريقين يفرحون بأمثالى ممن لا يتعدى خطرهم اجترار أفكارهم، فما هذه القصة الطويلة العريضة التى تستدرجنى حتى أهم بشراء كوخ فى ضاحية خواجاتية؟، وحتى لو فعلت، فلمن سأعان آرائى، وكيف سأستثمر حرية تفكيرى، هل ستسمح لى بذلك تلك الصحف العربية الخوجاتية التى لا أحد يعلم حقيقة تمويلها ولا غاية توجهها؟ أم أنى سأزرع أوهام أهميتى فى أوراق مهملة أخزنها فى حديقة كوخى، وأوزعها على خواجات لا يدرون عن وجودى شيئا أصلا ثم تدفن قبلى بعد ان يعجز الحانوتى الخواجة عن فك طلاسمها، وحين افقس نفسى بهذا الوضوح أكتشف حجم حاجة الواحد منا إلى الاطمئنان “بشكل ما”، إلى وجود “ركن ما”، ينتظر الواحد منا فى حالة “ما إذا”…، وأحسب أن وجود مثل هذا الركن، حتى لو لم نلجأ إليه أبدا، هو أمل قائم عند كل منا منذ غادر الرحم، ولكنى أعترف أنى بالغت فى تشييد “الأركان” دون استعمالها، فحيث ما حللت، لقيت لى حجرة أو عشة، أو تعريشة، أو استراحة، أعدها وأتحمس فى أعدادها، وأتعجله، متصورا أنى سأقيم فيها بقية حياتى “بهدوء” وبمجرد أن يتم ذلك، قد لا ابيت فيها ليلة واحدة، ولكنى أواصل العناية بها استعدادا “للجوء إليها” فى وقت ما (لا يجئ أبدا) – فهل يا ترى كانت حجرة الملك، وحجرة الملكة… الخ – فى داخل الأهرامات هى هذا الركن الرحم بين الحياة والموت – يا ساتر، لو صح هذا، فكم كلفنا أجدادنا ثمن مثل ما أعانى وأتخيل!! وأتذكر أن أبى كان يمارس هذه اللعبة بطريقة أخفى، فإمكانياته كانت أقل.

وقد سبق أن أبنت كيف أنتقل إلى حجرة منفردة فى حديقة لنا بعيدة عن البلدة تقع أمام المقابر مباشرة، وقبلها كان قد أعد حجرة فى حقل أبعد، وكانت له حجرة فى الشقة الأصلية تسميها أمى “ركن العزلة” – وكانت سلفتها تشاركها الرأى وتوافق على هذ التسمية، حيث أن عمى (زوجها) كان له مثلها، يلجأ إليها عند التصادم والاختلاف، فهل المسألة وراثية؟ أم أن عائلتنا قد استطاعت أن تعلنها باعتبارها طبيعة بشرية عامة. فى حين أن غيرنا لم يتمكن من ذلك، أو لم يدركها أصلا حتى يعلنها “هكذا”؟ – وبديهى أنه لا الركن ولا الرحم، ولا الموت يستطيع أن يحل كمشكلة القهر، والسطلة، والإعاقة، وأن من لا يتمكن من إدارة معركته على أرضه فلا سبيل غلى تصور أنه سيفعلها على أرض غيره، ومع ذلك فمن حقى أن أحلم “برحم ما” حتى استقر فى جوف الرحم الأوسع “القبر” فى حينه – ولكنى لم أكن أتصور أن حاجتى إلى الاطمئنان لوجود هذا الرحم سوف تتمادى إلى الحلم: بكوخ – ملك – فى بلاد الفرنجة”؟ وأسترجع ما قالته لى ابنتى فى “نيس” حول تفكيرها فى الهجرة، ثم كيف عدلت بعد حادث السرقة فى نيس، وأتصور أن الحرية المزعومة فى بلاد الفرنجة هى خدعة أكبر من كل تصور، فإن كنت أخاف من قمع حريتى فى نشر كلمة، أو إبداء رأى، فى بلدى، فى يوم ما لم يأت بعد، فإن حرية المشى ليلا، وحرية التخلص من وصاية الإعلان، ووصاية التليفزيون، ووصاية شركات التأمين وغير ذلك هى كلها حريات غير قائمة فى بلاد الخواجات المتقدمة، وعندما حدثت “هوجة” الأمن المركزى([9])، ومنعونا من التجول فى القاهرة، ضجر الناس أو ضجوا، فرحت أتذكر كيف كنا فى نيويورك، أو حتى سان فرنسيسكو، نسرع الخطى للعودة للفندق قبل الساعة 8 مساء، حيث التجول بعد ذلك قد يعرضنا للتهب أو ما هو أخطر، ولا أظن أن هذا حرية أو حضارة، ولا أعتبر أن الحكومة برئية من هذا القهر باعتبار أن السود وقطاع الطرق الآخرين من السكارى والعاطلين والمجرمين هم المسئولون عن الإغارة على “قرية التجول” هذه، فالدولة الأضعف من التحكم فى سلوك أفرادها هى مشاركة فى نتائج هذا السلوك على حرية المواطنين والسائرين على حد سواء – فماذا يفيد الرجل الحر أن “يقول” ما يشاء وسط إرهاب دعائى إعلامى يسجنه فى حدود ما يراد تماما، وماذا يفيد فى أن أتصور أنى حر التفكير وأنا لا أستطيع أن أمشى فى الشارع حرصا على حياتى، وقروشى، فأتوارى مقهورا بعد المغرب فى بلاد الحرية؟ وأفيق من جديد على تعدد أشكال القهر بقدر تعدد أوهام الحرية، وأحسب أن كوخا فى الخارج ينتظر عند اللزوم، أو هجرة واعدة، أو تهريب نقد تأمينى إلى الخارج …. إلخ هى كلها أحلام بحرية ليست إلا “حرية” عدم الانتماء لا أكثر ولا أقل، فحين أعيش بين ناس لست مسئولا عن مشاكلهم وآلامهم، فأنا أتصور أنى حر … وبالتالى أستدفئ بظلام كهفى، فى حين أنى أكون قد أخترت التعجيل بنهايتى، ثم من ذا الذى يستطيع أن “ينشر” رأيه فى بلاد غير بلاده، بلغة غير لغته، دون أن ينحاز لهذا الفريق أو ذاك، حتى الرأى العلمى ([10]) لا يقرؤه أحد إذا اختلفت لغته ومنهجه عن الغالب الوارد من بلاد الخواجات، ولكن هل يعنى كل ذلك أن قدرى هو أن أعيش صامتا أو أن أقول ما يريدون أو يتوقعون، اللهم إلا عدة فقاعات تطفو على سطح المسيرة، تتفجر طاقة أو لا تتفجر حسب حسابات صعبة، كونية وتاريخية، ليست فى مقدور تحكمى، ولا تحكم أى فرد واحد مهما بدا دوره واعدا – ولا ألوم نفسى لعودة “أحلام الركن الرحم” بين الحين والحين وخاصة فى شطحات الغربة حين يتحرك الجوع إلى الحرية، أو حين أحاول أن أنسى – أو أتناسى – إلحاح المشاركة اليومية فى مشاكل عامة ملحة، نعم – ونصل إلى منزل فرانسواز ونجد والدها وأخاها فى انتظارنا، ويقودنا المضيفون إلى “المنزل” عبر ممر طويل وهو ليس منزلا لزوجين حديثين بقدر ما هو “مشروع” مصغر، يأوى أمل شابين، فرض نفسه قبل الأوان، وهذا المشروع “الماكيت” يقبع تحت السلم، وهو مكون من حجرة واحدة كالحق، بها منضدة متوسطة تكاد تملؤها، فاصطففنا حولها بالكاد، وبجوار الحجرة مطبخ مفطوس، يعلوه سلم خشبى يصل إلى حجرة نوم فوق الاثنين، وأعجب أن الطفلة الحامل وزوجها لا يشعران بأى حرج من استضافتنا هكذا هنا، بل أن فرانسواز تدعتا لرؤية حجرة نومها، وهى فخورة، دون حساب لاحتمال تصدع السلم أو عدم احتمال اتساع الحجرة، وتفهم زوجتى وابنتاى أهمية هذه “الفرحة” لعروس صديقة، وأعتذر، ويدور الحديث عن جمال البيت كأنه القصر المنيف!! وأتعجب لهذا الرضا بهذه البداية التى لا تؤجل الزواج، وتقول لى ابنتى ونحن عائدون أن الرضا ليس نابعا من ضيق المكان، بل من التأكد من إمكانية تغييره متى ألحت الحاجة وتغيرت الإمكانيات، فى ظروف متكاملة حيث الفرص متاحة ومتنوعة، والإمكانيات متزايدة فإن أى بداية واردة لأنها ليست نهاية، أما عندنا فالمنزل – إن وجد – هو البداية والنهاية حتما، فالمسألة عندنا – تقول ابنتى – ليست دلع شبان، لكنها الخوف من جمود الحركة، وتخبرنى – مثلا – أن فرانسواز قالت لها أنهما – سينتقلان قريبا إلى منزل آخر بمناسبة قدوم الضيف الجديد، فالمكان تحدد سعته حقيقة استعمالاته والحاجة إليه، وأراجع عدد الحجرات التى لا تستعمل عندنا، وعدد الساعات التى لا تمتلئ، وعدد الأمخاخ التى لا تفكر، وعدد طبقات الوعى التى لا تخترق، وأشعر أن الفاقد عندنا أكبر من كل تصور، ثم أن اختفاء الأمل فى أى حركة إلى أحسن، هو دعوة للجمود من البداية، وأتذكر كيف كان والدى فى طنطا يترك الشقة التى نسكنها أثناء شهور الصيف توفيرا لإيجارها الذى لا يتعدى ثلاثة جنيهات، وكان والدى يحضر جملا أو اثنين من البلدة ليحمل عليهما “العزال” (عدة مراتب وأغطية وصيوان مفكك) واذكر أننا كنا نفرش حجرتين فحسب وتبقى حجرة خالية حتى أننا رصصنا فيها الأحذية والشباشب وأسميناها “حجرة الجزم”، تلك الأيام التى كنتا نشترى فيها نصف لقة “الدعدع” بخمسة تعريفة، الدعدع هو البقايا المتناثرة من قلى الكفتة، يبيعها صاحب المطعم – لمن لا يقدر أن يشترى الكفتة السليمة – بدلا من أن يرميها، فقد كان سائدا حينذاك احترام ما يسمى “القيمة” حيث كان لكل شئ قيمة، فلا تلقى ورقة بيضاء تصلح للكتابة، وبقايا الرغيف نعمة من يرميها يحرم من استمرارها، ومازلت اعتبر أن الاهتمام “بالباقىط هو الدليل علىالالتزام بالدقة واحترام الحق، وقد تعجبت من اهتمام الأمريكيين “بالفكة” التى يعطوك إياها بالسنت الواحد حتى لو اشتريت بألف دولار، واختفاء التعامل بالفكة عندنا لا يعلن هبوط قيمة النقود بقدر ما يعلن أننا أصبحنا نعيش “بالتقريب” فى كل شئ، فالتسعة تساوى عشرة، والأربعة وسبعون تساوى مائة وهكذا؛ فالفاقد عندنا ليس فاقدا فى ساعات المكاتب وسنة الخدمة العامة وسنة التجنيد بعد سنين التعليم الجامعى المغترب فحسب، وإنما الفاقد عندنا فى الحجرات الخالية، والمكتبات المهجورة، والسيفونات التالفة، والمصابيح المضاءة نهارا، والأجازات الساكنة،والقروش الباقية، وأفيق على حديث والد فرانسواز عن فشل ميتران فى أن يحقق أمال الطبقة العاملة وعموم الشعب، وهو – وقد أنتخبه – سوف يفشله حتما ليقف عند حده، وأتعجب لفشل الحكومات الاشتراكية (وليس بالضرورة الحل الاشتراكى) فى إقناع الناس، عامة الناس (وهم الناخبون لرجال الحزب) بأنها الأفضل، ولا أظن أن المشكلة الآن هى فى ترجيح ما بين الحل الاشتراكى والحل الرأسمالى بقدر ما هى فى ترجيح النظام الذى يمنع “الفاقد” بكل صورة، فى كل موقع، وأطرد عن أذنى وعقلى هذا الاستدراج الذى حرمنى من لحظات أدق وأرق، فجعلت أتابع علاقة والد فرانسواز العجوز الطيب المتفجر حيوية، ببنتى، وعلاقتهما به، فأشعر به والدا طيبا يكلم بنتى باعتبارهما بنتيه من ظهر، يا حلاوة، فأخيرا وجدت من يتبنى بنتى كما أتبنى بنات الناس، هذا طيب، وهذا بعض فائدة الانفتاح الرحلاتى، وتعدد الآباء – عندى – من أهم معالم التربية الحقيقية، وعندما تقول فى بلدنا للعم والخال ومن فى مقامهما “آبا” فلان، فأننا نوسع دائرة الأبوة بدلا من حكاية “أونكل” و”عمو” خيبهم الله، وقد قمت بمغامرة مع أولادى منذ أربع عشرة سنة حين شجبت لفظى “بابا” و “ماما” لأحل محلهما لفظى “أما” و “آبا” – اصدرت هذا الفرمان بشكل حاسم فاستجاب الأولاد فقد كانوا صغارا، ولكنى ألتقطت بعد ذلك همسا يعلن أنهم أحياناً ما يخفون هذا “الشذوذ” عن أصدقائهم وزملائهم – فأواصل إصرارى مهما كان الثمن، ومرة فكرت أن أتراجع قليلا أو كثيرا حتى لا أتمادى فى “فرض” ما يحرجهم، وبمجرد أن عادوا ينادونى أن يا “بابا” حتى استقبلت اللفظ كأنه “طوبة” سكت وعيى، وكأنى بتراجعى هذا إعلان هزيمتى وفشل محاولتى أن أتجاوز ما فرضته علينا الحملة الفرنسية فالاحتلال الإنجليزى حتى فى أدق ما ننادى به أهلنا، فأجدد الفرمان، وليذكرونى بعد موتى بما شاؤا من ألقاب، وأعود غلى “آبا جبرييل” (والد فرانسواز) وأتابع حديثه مع بناتى، ثم ننصرف شاكرين فرحين داعين أباهم لزيارة بلدنا وهم السابقون بالفضل، وكنا نزمع زيارة الأمم فى ضاحية قريبة، ولكن فى الطريق يستأذن الموالد وينتحى بابنتى الكبيرة جانبا ويسر إليها أمرا وهو يحرك ذراعيه شارحا مسهبا، فتومئ برأسها، ثم تعود قائلة أننا سنتوجه إلى مترو الـ R. مباشرة، ونفهم بعد ذلك أنه كان يعتذر لها بمرض زوجته لدرجة أنها لا تستطيع أن تستقبلنا الآن – وتحكى لى ابنتى أنه ليس مرضا طارئا وأنها كانت قد لاحظت بعض مظاهرة خلال زيارتيها السابقتين، وأتأكد من جديد من علاقة ابنتى بوالدها الخواجة هذا، وأحترم أنه أسر إليها وليس لى، وأتعلم الجديد المفيد.

الثلاثاء 11 سبتمبر:

غدا رحيلنا عن باريس فقررت أن أجالس نفسى فى الفندق طوال الفترة الصباحية، علنى أعيد ترتيب أمورى، وأواصل حوارى معى فيما قد يجمعنى فى قرار، أو يوضح لى موقفا، أو يوجه خطوة، أو يستوعبنى فى مراجعة، فبعد انصراف الأولاد، أخرجت قلما وورقة، وجعلت أكتب وأكتب مدة لا أعرف مداها، ثم نظرت فإذا بشخبطة هائلة، وخطوط بلا معنى، كلمات متناثرة فى غير جملة، ابتسمت فهذا هو “القرار”!! ثم أتنبه على صوت رنين التليفون فإذا به بيير ابن السيدة كومباليزييه يشكرنى على هدية الشطرنج التى تركتها له عتد أمه بعد زيارة أمس، يا للذوق، ثم يدق التليفون ثانية، فأعجب وكأنى فى مصر فإذا به العميد أ. د. بورتوس ابن شبرا، يخبرنى أنه فشل أن يفعل شيئا لابنى هذا العام، فأشعر براحة شديدة ضد ظاهر حرصى على على إجابة مطلبى، فأشكره وأرتد غوصا إلى قاع اللحظة متسائلا: أنا مالى، مالى بهذا الابن أو بغيره، وماذا سيفعل لى بتوجهه هنا أو هناك. ولا أتمادى فقد عرفت مدى كذبى فى كل هذا مهما كررت، ولكنى لا أكف عن التكرار، لعلنى لا أفقد الأمل فى أن استوعب يوما ما أردده هكذا، من خلال احتمال تراكم الرؤية وإلحاح التساؤال.

ودعنا باريس، واتفقنا على الرحيل المبكر.

…………………………..

…………………………..

[1] – الصبر طيب – صبر أيوب شفاه

بس الأكاده … مات بفعل الملل

[2] – وما فيش حمار بيحاول الانتحار

[3] – طيور جميلة .. بس من غير عشوش

[4] – قلوب بتخفق انما وحدها

[5] – أرسلت هذا العتاب الى المهتمين بالأمر، فلم يهمهم الأمر، ولم ينشر.

[6] – كن : ستر، استكن : استتر (واستعمالها العلمى أرق وأرحب فهو يوحى بالسكينة، والصمت الحى، والستر، والتهيؤ … جميعا)

[7] – يبدو أن صلاح جاهين حين غاب – حضر، اليس هو القائل : … وحيد ولكن بين ضاوعى زحام

[8] –   Ah Oui, Bien Sur, D’accord, Mais non!!

[9] – القاهرة 25 ، 26/3/1986

[10] –  دراسة فىعلم السيكوباثولوجى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *