الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1986 / عدد يوليو1986-قصة قصيرة بيضة الصباح والمساء

عدد يوليو1986-قصة قصيرة بيضة الصباح والمساء

قصة قصيرة

بيضة الصباح والمساء

إبراهيم الحسينى 

عندما يدخل شعاع الشمس من النافذة، يغمر الحجرة ضوء النهار، يطن فى أذنى الولد سمير لغط وهمهمات وصياح الباعة فى الحارة، يتقلب فى فراشه بالطول والعرض، مستمتعا بالدفء والخدر والسرير خال من أخته وأمه وابيه، الذين ينهضون مع آذان الفجر وتكبيرة الصلاة، ويكون سمير فى انتظار أمه، تأتى ويدها مبللة بالماء، لتدفع الغطاء عن وجهه، تهزه، وتقبل جبينه تقول:

– قوم يا سمير، الشمس طلعت من بدرى

– يظل يئن يتلوى يراوغ  يتملص، الى أن يشعر بتبراتها، وقد فاض منها الكيل، تحتد وتقوى متوعدة ومنذرة، يكف والبكاء يخنقه ويطبق على أنفاسه، يقاوم رغبته فى النوم والكسل، يستجمع قواه لمواجهة لسعة البرد ووخز الهواء، يشب بجذعه متعلقا برغبتها، لتمنحه بعض الدفء وابتسامة تزيل التجهم والصرامة وآثار الغضب على وجهها، يقبلها، ويتوسل اليها” أن تدعه ينام اليوم.. واليوم فقط..” تداهمه السبورة والحصيرة وأحذية وشباشب الأولاد وعصاة الشيخ مسعود، الذى يراه

– كما يرى الجان والعفاريت، فى حواديت وحكايات أمه، التى تملأه بالرعب والخوف، فى انصاف الليالى – بقرون وحوافر أنياب حادة طويلة مدببة.

تحمله بين ذراعيها، تسير به إلى الحوش الترابى، تضع راسه تحت حنفية المياه، وهو يرفس الهواء بقدميه، ينشج ويصرخ ويضربها بيديه على صدرها، يحاول التملص والانفلات من أحكام ذراعيها حول جسمه.

الولد سمير تظل البيضة طوال الأسبوع، تداعبه، تراوده، تأتى اليه فى الأحلام، على هيئة ثمار كثيفة تتدلى من فروع الشجر، أو تلال كبيرة لا تنضب، ويظل هو فى خيالاته، ينزع القشر عن البيضة، يتحسس الملمس الناعم من الداخل، يدبرها ويضغط عليها فى كفه، بينما لعابه يسيل وريقه يجرى، يعد يحسب:

السبت الأحد الاثنين، بدءا من ليلة الجمعة الى صباح الخميس، ينتظر مرور الأيام وتتابعها، على فارغ الصبر، وطعم البيضة الحلو الشهى اللذيذ، يتعلق بذاكرته، يلازم شفتيه، ولا يفارق لسانه.

لهذا يكون الولد سمير، يوم الخميس بالذات، فى انتظار أمه، قلقا متوجسا، يتحرق شوقا الى سماع صوتها- وابتسامة مديدة تشق شفتيها- عندما تقول:

– خليك نايم أنت يا خويا، وأنا رايحة ألم البيض.

ينتفضو ينفض اللحاف بعيدا عن جسمه، دون خوف من لسعة البرد ووخز الهواء ومياه الحنفية وخيزرانه الشيخ مسعود، يهبط السرير شاكيا باكيا، بملابسه الداخلية المتسخة، يجرى يصعد السلم بساقية المقوسين محاذرا، يستند بكفه الصغير على الجدار.

وعند عشة الفراخ: يكور جسده الصغير، وينفذ من الفتحة الضيقة- وقلبه يرجف- يبحث فى التراب والريش والغبار. عن البيضة التى يخبئها فى عبه، الى أن يغيب عن الجدار وطلمبة المياه فى الحارة، عن عيون أمه التى تودعه بقبلة على جبينه، والحزن يرقد فى قلبها بلاد وبلاد.

ذات ليلة، والقمر هلال، وكانوا يجلسون فى حوش الدار، قال:

****

فتلقى صفعة قوية من أمه، التى ظلت تبكى طول الليل، لكنه ظهيرة اليوم التالى، وجد بيضة مسلوقة بين طيات الرغيف، عندما هم يتناول طعام الغذاء فى الكتاب. عندما تغيب شمس الخميس، وتسقط خلف النقطة القديمة، يعود الولد سمير، رغم كثافة الشوق، على قدميه من الكتاب. وفى الكتاب ينسى الولد سمير،فى هذا اليوم بالذات، الدنيا وما عليها، يغيب تماما عن المكان، لايرى الشيخ أو السبورة أو الأولاد، يسرح ببصره، يركز بعقله وأفكاره، هناك عند الجدار، حيث دفن البيضة بجواره فى الصباح، يتأمل شكلها حجمها، ملمسها، مذاقها، الى أن يأذن لهم الشيخ مسعود، بالانصراف، فينطلق مسرعا، ويكون الشيخ قد ضربه، فى هذا اليوم بالذات، على كفيه أو اليته مرات ومرات.

وفىا لحارة يلقى نظرة على الجدار، ملؤها الحنين والرغبة واللذة، ثم يقترب منه بحذر وتردد شديدين، يتلفت حواليه، يختلس البصر يمينا ويسارا، ويعبث بأصابع قدميه فى التراب.

لكن الولد سمير لم يكن بمقدوره، أن يرى أمه، كل يوم خميس، وهى تستبدل البيضة، التى يدفنها فى التراب، كى تنضج على نار الشمس الحامية. ولم يكن بمقدوره أيضا أن يرى أمه المختفية الآن وراء الباب، تتأمله بفرحة ومرارة، وهو ينبش فى التراب باحثا عن البيضة، التى تكون قد نضجت واستوت، فيأخذها فى عبه- هنا بجوار القلب- ويجرى يأكلها، ويرمى قشرها بعيدا عن انظار الآخرين.

ثم يرفع الترباس، ويتسلل داخلا من فتحة الباب الموارب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *