الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يناير 1986 / عدد يناير1986-الناس والطريق الفصل السادس لماذا باريس

عدد يناير1986-الناس والطريق الفصل السادس لماذا باريس

الناس والطريق 

الفصل السادس

لماذا باريس ..؟ وإن طال السفر!

أكتب اليوم (15 ديسمبر1985) بما هو “أنا” ” الآن”، أكتب عن ماذا كان، يوم كنت “هو” “هناك”…… جدا، فهل  أستطيع؟.

ثم أنى أكتب هذه الرحلة من الذاكرة تماما، حتى المذكرة الصغيرة التى سجلت فيها (بعد وصولى) التواريخ، وبضع كلمات عن كل يوم، هذه المذاكرة غابت، وكأنها تعمدت الغياب، بعد أن علمت تغير المزاج، وصعوبة العودة، لكن هذا العدد من المجلة على وشك الصدور، وقد كتب له أن تستمر للعام السابع، ولم يعد ثمة وقت للبحث عن شئ لم يعد له أهمية فى الواقع، فالوقت غير الوقت، والإيقاع، وأن كان الالتزام واحدا، والورطة أشد.

وقد كنت أنوى أن أساقر هذا الصيف (1985) فى رحلة قصيرة أثبت (بتشديد الباء) فيها ما جرى، أو أختبره، ولكننى عزفت حسما، وقبل أن يحدث ما حدث، ذلك أنى خفت أن أشوه موقفى من السفر بالوقعع فى استدراج الاعتياد الترفيهى السخيف، كما خفت على الأولاد أن ينسوا حين تستدرجنا العادة تحت وهم أمل فى فائدة مرجوة من تعر مستقبل (بكسر الباء) فى وجه حضارة (ثقافة) أخرى، وناس أخر، وعادات أخرى، وإيقاع آخر، وذلك التعرى الذى آكل دائما معه، كما ذكرت، أن أكسر حدة تعصبنا، وغرورنا، وشعورنا بالنقص، فى آن، خفت منى، وعليهم، من تسحب العادة، فالرفاهية، فالنسيان، فالاغتراب، فالعزلة عن الناس، ثم تصور الحق الخاص من الموقع الفوقى الأخص، خفت حتى أنى لم أستطع أن استجيب لرغبتهم ورغبتى، رغم الالحاح، فأنا –حتى الآن – شديد اليقظة لألاعيب التبرير التى يبرر بها أمثالى مثل هذه الأسفار، سواء تحت دعوى “الحق فى الراحة” (قال “ماذا”؟) بعد طول عناء!! أم دعوى منظرة المؤتمرات (العملية) السياحية الدائية الاجتماعية!! الخ، وأخيرا تحت دعوى فرصة “للحوار “الحضارى.(!!) – فقلت “لا”، لا سفر الآن، على الأقل حتى أنهى كتابة (معايشة) ما كان فى الرحلة السابقة بما انا فيه الآن ثم نرى.

لكن، وفجأة.. حدث ما حدث، فوجدت نفسى فى الخارج هذا الصيف،(صيف85)، لكن الصحبة غير الصحبة، والسبب غير السبب، فى بلد غير البلد.

****

بدأت الأحداث المفاجأة فى يوليو 1985، وكنت بمحض الصدفة قد انتهيت مبكرا من كتابة الفصل الخامس من هذه الرحلة (الغول .. والعنقاء) الذى نشر بالعدد الماضى، فحمدت الله أنه( الفصل) قد نفذ بالكاد من تحمل وطأة ما حل بى منذ أن حدث ما حدث، حمدت الله أن لم يضطرنى الالتزام الى أن أمسك بالقلم أحركه كطن من الرصاص، أو أمسكه وقد تلبست اصابعى وعقلى و وجدانى جميعا بقفازات من الجبس الأسود حتى لا أعود أقدر على متابعة ظل حركة، لكن يبدو انى الآن قد بدأت أعتاد، وأنسحب، وأستطيع أن أتسحب من ورائى لأعاود حركة القلم، بدءا من القيام بالتزامات الروتين، ومنتهيا الى هذه اللحظة رغم دوام  نفس الأحوال ما هذه الأحوال؟.

ذلك… أن لى صديقا بالمعنى القديم لكلمة صديق، أصيب بمرض نذل خفى (أيضا بالمعنى القديم لكلمة مرض)، فوجدت نفسى بجواره.. جدا – مثل زمان – وتطورت الأمور بسرعة، فشددنا الرحال بسرعة اكبر الى حيث تصورنا ان ثمة فرصة عليمة اشمل، او رؤية طبية ادق، سافرنا فجأة، هو، و.. أنا، سافرت وأنا اشعر بعكس كل ما تعودت أن ألقى به السفر، هو ، و..أنا، هو يستند على جذعه دونى، بجهد جهيد، بل ويكاد يطيب خاطرى ويطمئننى، وليس العكس، فهو لم يستطع أن ينسى موقفه الأبوى المزمن الذى تلبسه منذ كان طفلا، وهو لم يكن أبدا طفلا – و”أنا” أتصور أنى أسانده، أو اسنده، فلا أفعل شيئا الا أن يعتصرنى الألم بجواره، عاجزا، خائبا، لا أجرؤ على اعلان رفض المرض والعجز، ولا على قبولهما، فأكتشف خداعى لنفسى بعد طول ادعاء، فكم تصورت أنى اهيئ نفسى طول الوقت للنهاية الطبيعية لدورة حياة الفرد البشرى، وقد كان هذا هو حديثنا (هو وأنا) المفضل فى وقت غير الوقت، حين كنا بعيدين عن المواجهة الصريحة، ولكن، حين تقع الفأس فى الرأس، فتختبر حقيقة وفعلا، نفاجأ بالغرابة لما ليس غريبا، فأى غرابة فى المرض ونحن أطباء؟ وأى غرابة فى العجز ونحن بشر؟ بل أى غرابة فى الموت نفسه ونحن أحياء كيانات بيولوجية محدودة العمر مهما طال؟ – هل نحن غير الناس؟ ربما كان هذا الوهم كامنا فى داخل داخلنا دون أن ندرى، وقد ضبطت نفسى متلبسا به حين عدت مكسورا من الرحلة، وجعلت اسأل “حكيمة” صديقة، تعرف صديقى هذا، وكم أنه كريم طيب معطاء، جعلت اسالها محتجا، وكأنى اسأل نفسى، أوربى، بصوت مسموع، “اشمعنى .. فلان (اسم صديقى)؟” فاذا بها تفاجئنى بايمان المصريين البسطاء “.. واشمعنى غيره”؟!، فأفقت لمدة طويلة، وجعلت هذه العبارة تطل على كلما قلقت ساخطا، أو حزنت مغيظا،” واشمعنى غيره”؟ لماذا نتصور أنفسنا باعتبار أن لنا قوانين خاصة، وأمراضا خاصة،و علاجات خاصة؟ ماذا فينا يستثينا؟.. كان هذا حالى، لكنه لم يكن هو حال صديقى تماما، فهو ارق صبرا، وأعمق إيمانا، لكنه بشر طيب، وطبيب أستاذ/ وأستاذ قدير، وتخصصه يكاد يكون فى نفس ما أصابه، مما لم نكن نعرف “تحديدا” قبيل السفر، وأن كنت للأسف قد كنت أعرف أكثر منه كثيرا .. وصديقى هذا هو والد ابنتى الأخرتين اللتين صاحبتانا فى الرحلة التى أكتبها الآن عن “الناس والطريق”، وقد كان حاضرا معنا الرحلة بشكل ما، حيث كنا نتذكره، ونسترشد بحكمته، ونرفض فرط نعقله، وندعوا له، ونتوعده، فكانت الصغرى، وأنا أجرى بجوارها ( فقد كنا نحن الاثنين نفضل الجرى على السير ما أتيحت الفرصة .. انظر بعد) – كانت هذه الصغيرة تذكرنى أنها حين تعود، ستجعل والدها ( صديقى هذا) يغير كثيرا مما “هو فيه”، فأقول فى نفسى “بل مما اضطر أن يكونه”، واتساءل أيه فارقة بيننا وبينهم؟ ولا اقبل أن اتصور أنهم (أولادنا) أحسن منا، قد يكونون أوفر حظا، لكنهم أقل ألما شريفا، اذ يبدو لى أن الألم – بجرعة مناسبة – هو للبشر مثل الدعة سواء بسواء، لكن يبدو أيضا أن نصيبنا – صديقى وأنا – من الألم والنسيان والاهمال كان أكبر من حقنا، وقد كنت أعلم ذلك وأخفيه طول الوقت، فكنت حين انطلق، أو حين أصور للجميع أنى منطلق، كنت أفعل ذلك “الا قليلا”، أو..(ولا تقل لأحد).. الا كثيرا، نعم، ينسحب منى دائما ذلك الجزء الغائص فى جوف وجودى، ذلك الجزء الحزين وراء كل شئ، يظل يجذبنى ضد كل فرحة، وحين تصورت أنى تغلبت عليه، أو روضته، عاد يلاحقنى، أو يتبعنى خلف كل انطلاق، وكل جرى، وكل ضحكة، فهو لم ينسنى أبدا، فلم أنسه مرغما، واسال صديقى هذا وقد عضنا الألم وعصرنا العجز فرحنا نقطر مرارة رغم ظاهر الابتسام، اسأله، فيجيبنى بحكمته المفرطة التى استسلم لها طول عمره (كارها اياها.. دون أن يدرى)- يقول لى ةنحن نسير ببطء يعلن ثقل همومنا على سيقاننا، وهو يميل بأحد كتفيه ميلا خفيفا الى ناحية (عادة أعرفه بها من بين آلاف من بعد بعيد) يقول، وقد حفت بنا المرارة من كل جانب “… كنت أتحدث مع شقيقتى الكبرى ونحن نبحث فى داخلنا عن ضحكة، أوآثار ضحكة، كتلك التى نراها على وجوه أولادنا فقالت شقيقتى (مازال الحديث له) أو قلت لها: يبدو أنه لافائدة، فمن لم يضحك صغيرا لا يعرف كيف يضحك كبيرا، لقد راحت علينا .. ولن نستطيع أن نفعلها مهما حاولنا..” وأقول فى نفسى “…. سكبوا اللين عفوا على تراب الاهمال، فسقينا لنبقى غصبا وابتسارا بقطرات متقطعة من “الخوف الدائم” و.. و “المثابرة”، فنشأنا كالزرع الشيطانى، فكان ما كان …………. والحمد لله”.

أذن!! فما هذا الذى كنت أكتبه فى الفصول الخمسة السابقة، ونحن نغنى، ونحن نرقص، ونحن نجرى، وأنا استحم مع الأطفال فى حمام السباحة، وانا ألاعب، وأنا ألعب، هل كنت أكذب؟ لا أظن، بل لعل السعادة كانت حقيقية لدرجة أنها ظهرت فى الكتابة حتى استنكرها من يعرفنى (فعلا أو استنتاجا) من القراء، فكتب لى أحدهم (أظن أسمه: يوسف) يقول ما معناه (من الذاكرة) “لم أنت سعيد هكذا؟ أخشى ذلك!!” وقد وصلتنى رسالته على

موجتين، الأولى تقول : “أرفض ذلك”، والثانية تقول “لا تنسنا”، ولم أرد عليه خشية أن أنكر على نفسى هذا الحق المحتمل، وفى نفس الوقت فقد كنت أعلم أن ما بى بكفينى …. وزيادة، ولكن لماذا نحن نتعاطف مع الألم والحزن أكثر من تقبلنا للفرحة والنشوة؟ وهل يا ترى يرتبط هذا بكذبة قبيحة جعلتنا نربط الفرحة والنشوة بالثروة والسلطة؟ وهل هناك ما يمنع من السعادة المجانية : فى الصحبة، والمشى، والجرى، والعمل، والحديث ذى المعنى؟؟ ما علينا، فليطمئن صديقنا “يوسف” الى ان ما فى القلب فى القلب – ولكنى أدعوه أن يرفض معى أن يكون هذا الهم هو محل فخرنا أو عنوان شرفنا أو دليل مشاركتنا لبعضنا البعض، فحق الوجود قائم بعمق الوجود حزنا وفرحا، وشرف الوجود لا يحتاج الى اعتذار عن الفرحة، ولا الى نعابة مع الألم، ولهذا .. ولهذا فعلا، جذبت نفسى جدبا الى هذه اللحظة، أواصل ما بدأت آملا أن أستطيع الحفاظ على كل نبضة بأبعادها دون تدخل لاحق، وليكن الفصل الاخير من رحلتى هذه هو الجزء الذى كان مع صديقى هذا.

…………

…………

ولكن …..،

ولكن كيف أكتب رحلة مضى عليها كل هذا الوقت، وكأنها تحدث الآن؟ وكيف أستدعى كل هذه التفاصيل بهذه الدقة؟ لا …. ليست الذاكرة، بل انى أشعر أنى أقوم بما سبق أن أشرت اليه ولاسميه “احياء اللحظة”، نعم هى عملية احياء أعيشها كلما أمسكت القلم

لهذا الغرض بالذات، وكأنى أمد أدواتى الى نفس المنطقة المستكنة، فأطلق بسراحها، لتنبسط مع سيولة الكتابة، وقد كنت قد تصورت تصورا قريبا من هذا وأنا أكتب تفسيرا بيولوجيا لفعل الابداع ([1]) – وهأنذا أتحقق عمليا من هذا الفرض، فكلما جلست لأكتب هذه الرحلة، سأفرت اليها من جديد، فعشتها بكل التفاصيل، والهمس، والاستطراد، والرسائل ذات المعنى، والوعود، والتنشيط، والاحباط، والمراجعة، فما دامت المسألة تتوقف على نوع الاستيعاب ثم القدرة على الاحياء، فما الداعى لتكرار السفر حتى يصبح روتينيا مملا ثم رفاهية سكونية مخدرة؟ وكلما كتبت زدت اقتناعا بأن قدرة الانسان على تمثل الخبرة الحقيقية هى أقل بكثير جدا من فرص استيعابها الواعى، ناهيك عن فرص التعبير عنها، وكأن أى “اعادة” لنفس الفعل، أو حتى لنفس المتعة – دون استيعاب الجرعة السابقة – لابد وأن تحمل خطورة أن تحرق الخبرة الاولى اذا أفقدتها حدتها، أو طمست معالمها، أو أهمدت دفعها الى التحريك فالتفجير.

لكنى أعود اتساءل : هل يصح أن يكتب ما يسمى أدب الرحلات بهذه الطريقة؟ بعد عام؟ ومن الذاكرة؟ ولكن ما لى أنا أين يدرج هذا الذى اكتب، وكيف يدرج؟..

فالى ثقب الابرة نطلق منه سراح الكمون المتفجر :

الثلاثاء 4 سبتمبر (1984) :

كان الاتفاق أن يحضروا “هم” الينا فى الموتيل قبل السابعة صباحا فيجدوننا قد جهزنا، ذلك أننا كنا قد نوينا أن نقطع المسافة (أكثر من 900 كيلو متر) مرة واحدة فى نفس اليوم الى باريس، لهذا فقد عادوا الى المخيم ليلة أمس فى الأتوبيس الصغير، وتعهدوا بلم الخيمة فجرا دون معونتنا ليكونوا عندنا فى السابعة دون تدخل من جانبنا، وقد تعمدت ذلك تأكيدا واختبارا لضرورة الاستقلال، وكراهية منى للقيام بوظيفة “المسحراتى” التى أمارسها بثقل شديد منذ صغرى، وكأنى الموكل باليقظة والايقاظ جميعا لسائر البشر بدءا بالأقربين، صغارا وكبارا، وقلت لنفسى أنه : “لابد”، “ولسوف أرى”، ولكنى لم أر الا ما لا أحب، ذلك أنهم تأخروا، وتأخروا، حتى حسبنا أن ثمة ما أعاقهم أصلا عن الوصول سالمين الى المخيم ليلة أمس، وحول الثامنة، قلت أذهب اليهم ربما، وفى الطريق غلا غيظى فخفت من الانفجار فى أو فيهم، فأخذت أعدو لأروض أو أكسر حدة العدوان المتحفز قبل أن أصل اليهم، وعند المخيم الخبر اليقين، فاذا به (اليقين أو الخبر) نائم يغط غطيطا يصاعد من داخل الخيمة الى خارجها، والشمس تدفئها بالهناء والشفاء، وحتى الاتوبيس خارج الخيمة الى خارجها، والشمس تدفئها بالهناء والشفاء، وحتى الأتوبيس خارج الخيمة كان فى سبات عميق وقد مالت رأسه ناحية الخيمة وكأنه يحرسها رغم غطيطه الهادئ المنتظم، ويرتفع الغيظ فى داخلى حتى أصبح أهدأ الناس ظاهرا خوفا من كم الانفجار المحتمل، وأوقظهم بهدوء شديد، وينظر الواحد منهم للآخر، تلو الآخر، وهو ينقل عينيه بين نور الشمس وظلام وجه العبد لله، ثم يلتفت الى رفيق خيمته وهو بعد فى سباته، ثم يهب واقفا ناظرا الى ساعته لاعنا المنبه المسطول .. أو زميلته التى لا يعتمد عليها .. الخ، وأكاد أجزم أنه لولا وجودى بالقرب منهم لقاموا قبل الفجر، فمازلت أعانى من هذه الاعتمادية التى أنميها فيهم بثقل “حضورى” ثم العنهم عليها، وأنا أتصور أنى أدفعهم الى الاستقلال دون أن أتخلى عن واجبى أو فاعلية تواجدى، وذلك من خلال “ضبط المسافة” بينى وبينهم .. مع مرونة الحركة ذهابا وايابا، ولكن .. “ولو”!!، وقد كنت – وما زلت – اذا ضقت ذرعا بهذه الاعتمادية أهددهم، أو أذكرهم، بموتى المحتمل، أو القريب، ويبدو أنى كررت هذا الحديث كثيرا حتى أصبح سخيفا بحيث يستأهل هذا “الموت” فى هذا السياق أن يتصف بصفة “موتى المزعوم”، علمنى ذلك ابنى / غريمى (زميل الرحلة)، وكان ذلك منذ عدة سنوات، فما أن هممت بقولى “لما أموت …” فاذا به يقاطعنى بمزاح هو عين الجد “طب .. بس يالله” ([2])، فأفهم أنى كررت حتى أمللت وأنى – هكذا – قد أفرغت التهديد أو التذكرة من جدواها، وفهمت من ذلك أنى ينبغى أن أوجه هذه التذكرة الى نفسى أولا، وقبلهم، أو حتى دونهم، فأنا على يقين من أنى حين أموت سيسير كل شئ على ما يرام، وأفضل من كل تصور يبرر لى حياتى “جدا” ومن هنا يصبح استمرارى هو أمر تطوعى، وأجزع للرؤية، لكنى من خلالها أحاول أن أعدل عن أن أستمر ساخطا لائما هكذا معظم الوقت .. ويقوم الجميع بنشاط تعويضى سريع وهم يتعثرون فى أمواج الخجل ومهمهة اللوم أو ما يشبه الاعتذار والشعور بالذنب، وننتهى من التحميل، .. وننطلق نصطحب أمهم من الموتيل، ونودع نيس بكل ود، فتودعنا بمنتهى الطيبة والتواضع رغم أنها عاصمة (الكوت دازير) شخصيا.

 وانطلقنا شرقا، ولم يجد جديدا علينا اللهم الا زيادة تأكدنا من سماجة الطرق السريعة بالمقارنة  بالطريقة الوطنية الجميلة وحين وصلنا الى مفترق طرق طالعتنا الأسهم المشيرة الى مارسيليا، ومنها الى أسبانيا فنتذكر أصل الخطة، وتأشيرة أسبانيا جاهزة، وتتململ العربة من تحتنا منذرة أنها قد تبرمجت فى اتجاه باريس، وأنها غير مستعدة للعب الأطفال هذا، ويمزح أحدنا، أو يقلب مواجعنا، حين يقول “… طيب كفى مارسيليا، عندى عنوان اللصوص أصحاب العربة الفولكس”. فيرد آخر أن غالب الظن أنهم قد أطالوا رحلتهم بالقدر الذى سمحت لهم به هذه الاعانة التى لا ترد من الكرم العربى المرغم، وأتذكر كم يعين العرب المغاوير أهل غرب أوربا وأمريكا المرفهين، وكيف أنها اعانة برغم معطيها وليس بتفضله، وما هؤلاء المستغلون الا لصوص حضاريون (!!!) وكأنهم أولى بقرشنا منا اذ يحسنون انفاقه !!!، والسرقة فى كل شئ بحسبه.

…………..

…………..

وتنحرف العربة شمالا الى ليون، فباريس، الجو صحو، والنهار ممتد، ونصل الى ليون حول العصر، ونجد ليون – التى لم أزرها قبلا – مدينة “ثانية” كبيرة عتيقة، لم يشوهها التحديث الامريكى كثيرا، وتبدأ ثورتنا العشوائية، ونعطى لها فى برنامجنا حول ساعة، فندخل فى شارع جانبى جدا لنملأ السيارة بالبنزين، فيخدمنا عامل مغربى طيب، لا يمكن أن نتفاهم معه الا بالفرنسية لاختلاف لهجته العربية حتى أصبحت لغة جديدة، وأنسحب الى مقهى ضيق كالممر، كالكهف، أستعمل حقى فى نظامهم ونظافتهم حيث أعلم أن كل مقهى لابد أن يحوى ما “يريح” رواده، فلا أجد مثل ذلك ظاهرا رغم أنى تورطت فى طلب شرب مالا أريد، فأسأل، فيعطينى الرجل مفتاحا كبيرا قديما مشيرا بيده – يرشدنى – الى مكان دورة المياه خلف المقهى فى “حوش” احد المنازل القريبة، فأتأمل المفتاح الكبير القديم، وأحسب أنى فى مكان أقرب الى القاهرة القديمة، أو الى “ميضة” السلطان حسن، وابتسم، وأذهب.

وأعود أداعب رفاقى بالمفتاح الخشب لأبواب دور قريتنا وألوح به وكأنى أصبحت مالكا مؤقتا “لبيت راحة” فى بلاد الخواجات، وأتعجب لصراحة القانون (حسب ظنى) الذى يحتم على كل مقهى توفير راحة زبائنه من كل ناحية، حتى لو كان ذلك فى حوش قريب!!!

ونتجول فى ليون حسب مزاج السيارة وتوجيهات أى نور أخضر لمدة نصف ساعة، هكذا قررنا، ثم نعود، وكلما ابتعدنا عن مركز المدينة اطل علينا وجه الهدوء، فالمرتفعات، فالخضرة، فالجمال …، يالحقدى على هذه الأوربا مرة ثانية وثالثة، ودائما، ونتوه – كالعادة – توها طيبا، كأنه مقصود، فتكشف لنا البلدة الكبيرة عن بعض وجهها أكثر فأكثر، ويكشف لنا ناسها عن بعض طيبتهم، ثم نقرر العودة فتبدأ الأسئلة، وكانت مرشدتى هذه المرة هى كبرى بناتى، وهى أعقلهن وكأنها قد ورثت حكمة والدها المبكرة، يكمن وراءها خوف دفين – ألمحه ولا تدركه – من أن تخطئ حتى بالصدفة، فكانت اذا سألت أحد المارة عن الاتجاه الى باريس راحت تكون جملة مفيدة مسبوقة بنداء مناسب، ومنتهية بشكر مهذب، مثلا “سيدى من فضلك، هلا دللتنا الى الطريق مدرسة اللغة الفرنسية فى حصة مطالعة، وبديهى أنها حتى تتم جملتها التى بالغت فى اطالتها ودقتها، تكون السيارة قد مرقت بجوار “سيدى” هذا قبل أن يدلنا على شئ، ان كان قد سمع أصلا، أو تكون الاشارة الحمراء قد أخضرت فتحركنا دونه، وجعلت أقول لها أن الجهل نعمة، ولأنى لا أعرف الفرنسية إلا أقل القليل، فقد رحت أصيح فى بعض المارة بلهجة استفامية جدا، بكلمة واحدة “….. باريس؟؟” وأحيانا  بدءا بنداء بالعربية “يا عم والنبى .. باريس ؟” فيلتقط هو باريس والاستفهام فورا ويبتسم ويشير، لكننا عجزنا – من كثرة الاستفهامات أن نخرج من “سحر” ليون، وكان لزاما أن نتوقف لنرسل مندوبتين راجلتين كلا فى اتجاه، تدخل أحداهما إلى أحد الحوانيت، وتسأل الاخرى بائع فاكهة قريب، فتعودان بخريطتين ذهنيتين مختلفتين، ونضحك، إذ يبدو أننا كنا نسأل على ما لا يسأل عنه أصلا، فكل الطرق – فى الأغلب – تؤدى إلى باريس، وما علينا إلا أن نمضى حتى نعثر على الاشارات الواضحة، وما أكثرها، وكنا فرحين بالخطأ والخيبة والحوار والمحاولة جميعا، ذلك أننا لم نكن فى عجلة من أمرنا حيث تيقنا أن أغلب بقية الرحلة سوف تكون فى الليل، فقد اقتربنا من المغرب، أو اقترب منا المغرب، إذ لم أكن على يقين أينا أكثر ثباتا، وأينا أنشط حركة (نحن، أم الغرب؟) ورحم الله كوبرنيكس، وكانت معا، ذلك أنه فى السفر خاصة، لابد وأن تصاحب ” الحركة” بدرجة يستحيل معها أن ترى شيئا ثابتا، فأنت فى السفر خاصة، لا تقطع الزمن بل تواكبه، وتدور مع دورات الشمس وتبادل الليل والنهار، فالزمن على “الطريق” يصبح كائنا حيا، يقترب منك كما تقترب منه، ويوازيك، ويستأذنك، وتستأذنه، ثم تلتقيان، أو يتوارى أحدكما عن الآخر قليلا أو كثيرا ليعود متراخيا أو مقتحما، وهكذا، ومن ثم …. فأنى أستطيع أن أعزو تحريك الأفكار واعادة النظر وتجدد البهر لهذا التنشيط المتحرك من كل اتجاه، وفى كل اتجاه، ويبدو لى أن علاقتى بهذه الحركة المتبادلة، أو المتداخلة هى علاقة قديمة، منذ كنت أركب القطار طفلا فأشعر أنه يسير للوراء ثم أكتشف أن القطار المجاور هو الذى غادر المحطة، ومنذ كنت أحاول الامساك بالأشجار على جانبى القطار وهى تتراجع منى الواحدة تلو الأخرى، (أى هجر متلاحق بعد التلويح المتكرر بالقرب والوصال . . يا ناس!!) – من أيامها : وأنا أعيد النظر فى مسألة الساكن والمتحرك، لأكتشف أنه “لاسكون” وانما هو اختلاف سرعات الحركة واتجاهها لكل المتقابلات فى آن، وقد صالحنى هذا اليقين المتأخر على علاقة الزمان بالمكان، وبالعكس، كما صالحنى على الآية الكريمة” …. حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة … ووجد عندها قوما ([3])الآية” إذ كنت أجزع حين أقرأ هذه الآية بالجغرافيا …  كما يحاول بعض المتعالين أن يقرأوا علينا نبض القرآن الكريم بمسطرة التلاميذ السذج، أقول حين كنت أحذو حذوهم، كنت أتساءل بغباء علم ليس بعلم: أنه كيف – بالجغرافيا المدرسية – تغرب الشمس فى عين حمئة؟ ثم كيف نبلغ مغرب الشمس أصلا؟ وكأنه مكان، لا زمان، ولكنى بعد أن تصالحت على الحركة المتداخلة والمتبادلة، وبعد أن اشترك الزمان والمكان عندى فى صفات وصفات ([4]) وهكذا عدت أصالح الآية الكريمة معتذرا، مستزيدا من ايحاءاتها التى لا يمكن أن تنفصل عن القسم “بمواقع النجوم” أو عن “الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها” – إذن، فقد اقتربنا من المغرب مثلما اقترب المغرب منا، ونحن نغادر “ليون” … ولم نلبث إلا قليلا حتى وجدنا أنفسنا وقد عدنا إلى الطريق السريع المتسع (الأوتوروت) وهات يا عدو . .، بقدر ما تستجيب لنا حافلتنا الواعية الحكيمة،

وهذه الطرق لا تعلن لك مرتفعاتها أو العكس فى وضح النهار، بل تسحبك سحبا إلى أعلى أو أسفل على المدى الطويل، فما بالك بالليل. . هذا الليل يا سيد؟ فكنت أستنتج أننا فى مطلع حين “تزوم” سيارتنا الطيبة أو تئن فتتباطأ سرعتها رغما عن حسن نيتها ومحاولتها الاستجابة لقدمى على بدال الوقود، فأنتبه أو ينبهنى أحد الرفاق، فأستجيب بدورى، لكن المسألة انقلبت جدا لا يحتمل هذا الحوار الرقيق، إذ سرعان ما أدركنا أننا داخلون على فصل الشتاء شخصيا، وبسرعة فائقة، فانخفضت درجة الحرارة، وغامت السماء مع زحف الليل اللاهث. . “ثم” . .  ويا ليتنى أجد لفظا أقصر من “ثم”، وأكثر وفاء بالقصد لأعلن  به كيف كان فتح الطوفان من جوف السماء، لم تكن المسألة هذه المرة مجرد تغيير فى الطقس أو اعلان للانتقال من مكان إلى مكان، لا . . ولم تكن أفواها للقرب كما اعتدنا أن نصف المطر الغزير، لكنها كانت نقلة من فصل إلى فصل، من صيف إلى شتاء دون  المرور بخريف أوغيره، وكأن السماء قد قررت – فجأة وفورا – أن  تحفر نهرا جديدا يكون موقعنا هذا هو منبعه شخصيا، وابتسمت، فسنشهد نهرا ينبع!!، ان لم يكن فى الخارج ففى الداخل . .، ولم أكمل ابتسامتى، فقد تسارعت لطمات الماء من أمام – والسيارات تمرق بنفس السرعة، وكأن شيئا لم يكن، وقد سبق أن أشرت فى هذه الرحلة إلى مثل ذلك، لكن التجربة هنا كانت أقسى وأشد مما استوجب التكرار (أو سمح به)، فقد اجتمع الظلام مع المطر مع الطريق السريع، مع ما تثيره العربات المارقة من لطم واجهة سيارتنا، مع عدم خبرتى إذا اجتمع كل هذا، وكانت العلامات الفوسفورية المنظمة على جانبى الطريق هى وسيلة الاتصال الوحيدة بين ناظرى والعالم الخارجى، حيث لا أستطيع أن أتبين أن السيارات التى عبرتنى قد عبرتنى الا بما تثيره من عواصف مائية، أما معالمها فلابد أن تقدر بالتقريب وكان أكثر ما يرعبنى أن يمر بجوارى هذا الكاميون الطويل الذى لا أعرف منى سينتهى، وأتعجب من سرعته مع العلم أنى أسير بسرعة تقترب من المائة، فكيف يمر بى هذا الحوت “موبى ديك” بهذه الصورة وهذه السرعة؟؟ ومرة أخرى : أعلن أن طمأنينة صحبتى وشجاعتهم فاقت كل توقع، فلم يطلب أحد منهم الانتظار أو العدول أو الابطاء أو غير ذلك، وتيقنت – إذن – أن السلامة فى يده وحده فعلا، وما دام كل هذه الصحبة من الطيبين الأبرياء على ثقة – هكذا – بالحياة ومانحها، فلابد أننا نسير “فى السليم”!!، وما أن تعودنا على الطريق الجديد، والدلالات الجديدة حتى نام من نام، وتمدد من تمدد . .، ولم يبق معى إلا مرشدتى والحافلة وأفكارى وعلامات الفسفور،

ويواصل المطر حفر منبع النهر الجديد، بلا انقطاع، لمئات الكيلو مترات حتى ينتصف الليل، وما زلنا نسير ونلمح اشارات امكان الانتظار القادم . . فننحرف يمينا ثم يمينا (ونحن فى أقصى اليمين من أصله) ثم ندخله إليه لنسوى أمورنا، ونفرد ظهورنا، ونطلق عنان سائر الوظائف الفسيولوجية، وبكل غيظ يتباطأ المطر حتى يكاد ينقطع، اين ماذا؟ هذا؟ ألم يكن عنده ذوق حتى ينتظر ليخف بعد توقفنا؟ وقد كنت أحوج ما أكون إلى أن يهدأ قليلا لألتقط أنفاسى ولو دقائق أثناء السير المارق من حولى، لك فى ذلك – وغيره – حكم يا رب العالمين.

ونتشاور فى بقية الرحلة، ونحسبها، فلم يبق على باريس سوى مائتى كيلو متر وبضع عشرة، فمتى نصل ؟ قرب الفجر؟

وكيف سنتعرف على طريقنا فى باريس فى هذه الساعة بهذه السيارة الواثقة المتهاوية، التى يبدو لى أنها تجنست بالمصرية الحقيقية رغم أصلها اليابانى، وأنا لا أعرف باريس الا راجلا، أو تحت الأرض، وهى السيارة – تبدو لى منهكة طيبة، تؤجل الاحتجاج حتى نصل، تتحمل لطمات المارقات العملاقة لظروف الحرب المدنية (!!!) فلها العتبى حتى ترضى، لا . . لن يكون الأمر سهلا إذا وصلنا باريس بعيد الفجر هكذا، إذ : من نسأل . .؟ وكيف نهتدى الى الفندق الذى ألفنا النزول فيه ؟.. فيقترح البعض أنه ما دام مبيت بمبيت، فلنعرج على اول “موتيل”، قد تعلمنا أن الموتيلات دائما أرخض، وأظرف، وأوافق من حيث المبدأ رغم أنى لاحظت أنه فى مثل هذه الطرق السريعة لا توجد موتيلات واضحة أو كثيرة أو قريبة، المهم وافقت وتعهدت وبدأنا مواصلة المسيرة بعد تعبير المرشدة المهذبة الهادئة، بمرشدة متحفزة يقظة، تعرف جيدا أنى أحتاج كل ساعة، أو بعض ساعة، إلى نصف كوب من أى مياه غازية بها سكر، وقد لاحظت أن طلبى هذا قد تكرر بانتظام حتى نبهتنى أنى أصبحت مثل السيارة استهلاك كذا لتر ميراندا (مثلا) كل كذا كيلو، وأنى لابد أنى سأتوقف إذا نفذ وقودى، أو وقود السيارة، أينا أسبق، لذلك كنت احتفظ بزجاجة خاصة لى لزوم احتراق الطاقة المنتظم هذا، الأمر الذى جعلنى أتوجد بالسيارة أكثر فأكثر.

وتمضى ساعة وساعة، ونقترب أكثر من باريس ومن اشارة الموتيل معا، وأقول فى نفسى، يا ولد ستدفع فى الموتيل الشئ الفلانى  لمجرد قضاء ساعتين . . . نصفهما فى عملية نظافة، استعداد لقذارة قادمة، وأخجل من حسبة تعودتها بدلالاتها الفظيعة، وأكتشف أننا فى باريس قد نقع فى نفس المطب، ولابد أن الموتيل أرخص، فاختر وما فيهما خظ لمختار ولا أعلن عن أفكارى هذه لأنى أعلم أنها نابعة من كومبيوتر الفقر القديم، حتى لو كان واحد منا مسئول عن ماليته وقراره مسئوليته منفردة، ثم نصل إلى الموتيل الوحيد وقد كدنا ندخل ضواحى باريس، وإذا به ليس كغيره مما جربنا فى هذه الرحلة، فهو ضخم فخم، يبدو كمجمع خدمات، قهوة .. أو نادى .. أو بار، أو بارات، وصالونات فخيمة، وناس أفخم، محترمين على ما يبدو فأغلب الوجوه هادئة مرسومة، لا يبدو عليها آثار “عدوان” السفر والمطر، أو جهاد اقتحام العادات القديمة واكتشاف الطبيعة الجديدة، ناس رائقة، فنظرت فى وجوه صحبتى، فوجدت فيها مثل ما طاف بى .. ” .. هذا ليس مكاننا” – هكذا قلنا لبعضنا دون كلام، ومع ذلك فأين نمضى الآن، ولم يبق على باريس سوى بضع وستين كيلو مترا، كما لم يبق على الفجر سوى ساعة وبعض ساعة، فلنجرب : فذهبت إلى المبنى المكون من طبقات باعتباره أقرب مظان المنام، فوجدت استقبالات .. وانتظارا .. واحتراما (مشبوها)، لا .. ليس هذا موتيلا على الطريق لخدمة أبناء السبيل أمثالى، بل ان الطريق يكاد يكون معمولا للتوصيل إليه!! ، ومع ذلك قلت أجرب للآخر، وحين حل دورى سألت وأجابت موظفة الاستقبال، ونبهتنى – ربما بعد التملى فى منظرى – أن كذا ممنوع وكذا عيب، وكدت أحتج لو تأكدت أنى وحدى الذى أتلقى هذه التعليمات من بنت الذين تلك ،

وحين أعلنت الأسعار، تم قطع المفاوضات فورا، فقد كانت أكثر من ضعف ما تعودنا، بل ضعف فنادق باريس المتوضعة التى اعتدنا النزول فيها، ثم كل هذا الرقم من أجل ساعتين أو ثلاثة، ولكن . . أنا مالى؟ ما أنا الا واحد من تسعة، وأنا الأقدر، فحملت الرقم ببراءة ظاهرة مطمئنا الى نتيجة الصدمة على رفقتى محدودى الدخل (او محدودى الهبة) وتوجهت لتوى الى أصغرينا، وقلت لهما – على مسمع من الباقى )  – أن هاتين الساعتين سيكلفاننا “كذا” – وتم المراد بحكمة الأولاد فى التو والحال ، فقد استدارا بعد أن وضع أحدهما يديه فى جيوب سرواله، ومط الآخر شفتيه “… لا تعليق!!” ونظرت  فى وجوه الباقى، وانفجرنا ضاحكين والتقط ذلك السباب البرئ الذى يتخلل موجه الضحك من أمثال تعليقات تقول أن “رزق الهبل … الخ” – وهكذا جمعتنا العربة من جديد فى حنان لا يخلو من شماته، وكأنها تتقول “… كنتم ستتركونى وتذهبون؟ فها أنت عدتم صاغرين” واعتذرنا صامتين، وجلسنا واستعددنا، وأدرت المفتاح فعاد صوت الموتور يعلن نوبة نوم جديدة ولكنى تدخلت بسرعة متسائلا بعد أن نظرت الى الساعة : “والآن .. الى أين؟ ” وكانت الاجابة البديهية “باريس يا سيد” مفهوم مفهوم، لكن متى ؟ ثم الاقامة، ونحن حتى الآن (رغم حلول الشتاء فجأة !!!) لم نقرر هل يقيم الأولاد فى فندق أصلا، مقدرين شرط الرحلة منذ البداية فما زالت فكرة “حتم التخييم” تلاحقنى متصورا أنها تبرر لى ما أهيئة للأولاد من رفاهية أحاول أن أدعى أنها ليست كذلك، لكن الدنيا برد، وأرد على نفسى : “برد .. برد، مثلنا مثل غيرنا، أعنى مثلهم مثل غيرهم” ويبدو أنهم قرأوا أفكارى فلم يستطع أحدهم أن يقترح النزول فى فنادق أصلا، وحتى هذا الفرض لابد من حسن توقيته، فاما أن نظل فى الشارع حتى منتصف النهار، واما تحسب علينا الليلة، بلا ليلة، حتى لو نزلنا الفندق بعد الفجر ومع الشمس فعلينا الليلة الفائتة لا محاولة، وهمست للصغيرين – قبل أن يناما – بالخسارة المحتملة، فما أن عبرنا بوابة الطريق السريع حتى اقترح أحدهما، أو زوجتى (لست أذكر) – أنه “وماله لاو نمنا فى السيارة هاتين الساعتين، والصباح رباح، والنهار له عينين، فوافق البعض، وزام آخرون دون تمييز، ولم تكذب العربة خبرا فمالت إلى جانب حتى اطمأنت إلى جوار المبنى الخاص بخدمات الطريق (مما جميعه) فاعتبرناه لخدمتنا الخاصة، وتناوبنا، وعدنا، وتداخلنا فى بعضنا البعض نتقى البرد، ونسيت الجميع وأدرت الزر الآخر فرحت – فورا – فى سبات عميق .

الأربعاء 5 سبتمبر (1984):

استيقظت على فحيح الململة يلكزنى فى جنبى، يتبادل ذلك مع ضحكات ساخرة وتعليقات متنوعة تعلن أنها كانت ليلة ليلاء، وهى لم تكن ليلة بل ساعتين وبضع ساعة، وكنت قد نمت وكأنى فى أفخم مخدع، فما زلت أتمتع بالقدرة على الدخول والخروج إلى الجانب الآخر من وعيى بسهولة ومباشرة، سواء كان هذا الدخول لجزء من دقيقة أم لليلة بأكملها، وفى الحال أقوم وقد شبعت بما يكفينى “لأواصل” حتى أستاذن من جديد، وهكذا، فلم أفهم لم الملمة واللكز والسخرية والتعليقات، ولكنى أخذت أدرك رويدا رويدا أن هؤلاء الأولاد لا يعرفون معنى التقشف، وربما لن يعرفوه، فهذا التقشف المخيماتى المصطنع شئ وذاك الحرمان الحيقيى شئ آخر، فهم لم يستطيعوا أن يتحملوا ليلة واحدة فى داخل سيارة، بل ساعات، وتعجبت من أحوالهم تلك، إذ لو أنى واصلت السير وهم نيام، لقاموا يتطمون ناظرين بالرضا إلى سائقهم الذى انتقل بهم دون ازعاج، أو على نظرة بلا سخط مثل هذا الذى لكزنى فأيقظنى، وكأن الناس تقيس راحتها بما تتوقعه لما بما هو كائن، بمعنى أننا حين كنا نسير كانوا لايتوقعون النوم، فإذا ناموا فهو مكسب، أما وقد ركنا وتوقفنا فقد توقعوا راحة “من التى هى”، فاذا بهم “مضطرون” للنوم حيث لم يحسبوا  وبالطريقة التى لم يألفوها فكان ما كان مما رفضته وظل يؤرقنى إذا لم أعلنه، ولكنه كنت أشعر وكأنهم يتهمونى بأنى أتعبتهم لأوفر ثمن سرير الليلة مثلا، رغم أنى إذا كنت قد وفرت فقد وفرت لهم وليس لى (حسب قانون الاستقلال الرحلاتى الاقتصادى الذى اتفقنا عليه) ([5]) .

وقد زادنى موقفهم المتململ هذا تصميما على أن ينزلوا فى هذا البرد فى مخيم فى غابة بولونيا، اللهم الا اذا كان هذا المخيم قد أغلق أبوابه، وأقوال لهم انه مادام هناك خيمة واحدة، فلتكن خيمتكم الثانية، والا فقد خاب سعيى فى تربيتكم من أوله، فيسمعون ويصمتون، وتصفر وجوه وتسود وجوه، ثم يعلن الأصغر (والأشجع) أنهم أحرار ، وأنهم قد ينامون فى فندق نصف نجمة ولا يأكلون الا خبزا حافا” وانه ليس من حقى أن أنظم لهم اقامتهم ما داموا لن يطلبوا أية معونة اضافية، فأوافق من حيث المبدأ، ولكنى أصر على التعرف على المخيم ابتداء وقبل الدخول إلى باريس المدينة .

دخلنا من الباب الجنوبى لباريس، باب أورليانز، والتقينا قبيلة بأفواج السيارات الداخلة إلى المدينة الحنون، فالروعة هناك  أن الضواحى تمتد إلى سبعين ومائة كيلو، وكأن باريس للعمل فقط، أما السكن فأمر آخر، واتبعنا الاشارات إلى الطريق الدائرى حول باريس متجهين الى غابة بولونيا حيث أشار كتاب دليل المخيمات الذى معنا الى وجود مخيم هناك على نهر السين، وما أن تخلصت من الطريق السريع وزحام السيارات حتى هبت على روائح كنت قد كدت أنساها منذ ستة عشر عاما بالتمام، وابتسمت حتى تخللت ابتسامتى كل خلاياى  الى نخاع عظمى، فابتسمت الأشجار والخضرة الكثيفة والشوارع النظيفة والرجل العجوز الذى دلنا على الطريق الى شاطئ السين حيث يخترق بولونيا وحيث سوف نجد المخيم فى الأغلب، وقد عدت أأتنس بهذه الحضارة  الدمثة التى تجعل هذا الكهل يتوقف ويستمع ويلتفت ويشرح، ويخطط، ويشير، بكل اخلاص وتواضع، لا يبغى جزاء الا احترام الآخر وبذل ما عنده طالما لايعيقه، وكلما سألت عن المخيم باصرار مطلق، سمعت الهمهمة تتعالى من ورائى تصك أذنى فى تصاعد يكاد يصل إلى الزئير المكتوم، ولسان حالهم يقول ما يعلنه بعضهم: “أنت وأمنا ستذهبون للفندق حتما كما تعودنا منذ البداية، ومادمنا قد قررنا ألا نخيم فى هذا البرد مهما كان الاغراء، فلماذا تبحث عن مخيم أيا كان؟ ولمن؟ ولكنى أصر على أنه ليس من حقهم أن يقرروا “الرفض” قبل أن يروا بأعينهم “ماذا يرفضون” و”لماذا”، وليس يكفى أن يكون الطقس باردا، بل دعونا نرى كيف يتغلب المخيمون غيرنا – ان وجدوا – على هذا البرد ، فنفعل مثلهم، أو نرفض من واقع محدد، ويعلمون أنى لن أحيد، وأنهم لا يملكون الا الهمهمة أو حتى الزئير المكتوم، ويتصاعد غيظى  منهم اذ أنى لا أرتاح لهذا الموقف السلطوى من جانب واحد، وكنت أتمنى أن يشاركنى اصرارى ولو واحد فقط، أو حتى أن يلتقطوا الفكرة التى وراء اصرارى هذا، ولكن : لافائدة وأواصل السير فى بولونيا، وكنت أحسب أن غابة بولونيا هذه هى اسم الغابة قائما بذاته، واذا ببولونيا هى الضاحية التى تحتوى الغابة، وأواصل السير فألمح شيئا أشبه بالخيمة الكبيرة ولكنها على الجانب الآخر وليست على الشاطئ مباشرة ، وحين نقترب منها أجدها أكثر من واحدة، ومساحة كل منها عشرات الأمتار، فأتعجب لهذا المخيم الغريب، وأتصور أنه هو وأنه معد هكذا اتقاء للبرد حيث لابد أن الخيمة الأصغر تقع فى داخل هذه الخيمة الكبيرة، ويرتعد الأولاد خوفا من أن أفرض عليهم التخييم هنا حيث لا عربات ولا كرافانات ولا خدمات، ولا ناس، اللهم لا بضعة عمال يقومون بما يشبه الزراعة حول هذه الخيم العملاقة ، وأتوقف بالسيارة – وأكاد أسمع قلوبهم تخفق خوفا وتوجسا، وأرى نظرات العدوان تطل من عينى ابنى الأكبر (فى الرحلة) غريمى المتحفز، وكأنه يعلن أن “للصبر حدود” فأتغافل وأنزل من السيارة وأنادى على أحد العمال فلا يجيب ، فألف حتى أقترب أكثر وأعاود النداء باصرارى المعتاد، والجميع فى السيارة يستعدون لمعركتهم معى فى الأغلب – فيرد العامل ، فأسأله “أليس هذا مخيما للرحالة والمصيفين” فيبتسم فى شفقة، ويقول بالفرنسية السرريعة التى ألاحقها بالكاد ما أفهم منه أن هذا مشتل زهور أو ما شابه، وأن هذه الخيم تحمى الزرع الصغير من الصقيع والتقلبات، وأرجع بخفى، وتنفرج اسارير الجميع فيما يشبه الشماته حين يقرؤون فى وجهى – قبل أن أخبرهم- خيبة أملى ، ويتصورون أنى همدت ولكن : “أبدا” وأعاود المسير بحذاء السين، وأكرر السؤال بالحاح، حتى تبدو لى من بعد الألوان الدالة على خيم الرحل

وسياراتهم ومقطوراتهم ، وأقول فى نفسى متوعدا، “ولسوف أريهم هؤلاء المرفهين المدعين”، وينتقل الغيظ اليهم مع اقترابى المنتصر من ضالتى، ولا أفهم كيف يتصورون أنى سأفرض عليهم رأيى فى نهاية النهاية، ومع ذلك فكل شئ جائز، وأنا لا أضمن نفسى، فكيف يضمنوننى هم؟ وندهل المخيم، ونجده يكاد يكون شاغرا الا من خيمة هنا وخيمة هناك، وينظر الواقف على البوابة الى أراقام سياراتنا العربية، فيبتسم ابتسامة نعرفها، ويشير صائحا “أهلا” بالسلامة، ثم كلاما كثيرا بنفس اللهجة لا نفهمه .

ونعلم طبعا أننا أمام أحد أبناء العم من الشمال الأفريقى أو المغرب العربى (حسب الهدف من التسمية) ونسأل ويجيبون وأستعلم بالذات عن طريقة التدفئة فى هذا البرد وأفهم أنها قد تتم بدفايا البوتاجاز أو الكهرباء داخل الخمية اذا لزم الأمر، (وكيف لا يلزم؟) وأعرف الأسعار وأرجع الى العربة لأسمع الخلاص صادرة من كل الأولاد، ولكنى أصر على تسجيل العنوان والتليفون إذ أنه من يدرى ؟ فقد نرجع اليه – مثلنا مثل من فيه – اذا لم نجد فندقا مناسبا أو لم نجد السعر المناسب، وخاصة وأنا ما زلت أتذكر سعر الموتيل الفخيم على أبواب باريس‏ ‏فى ‏الليلة‏ ‏الماضية‏، ‏أليس‏ ‏من‏ ‏المحتمل‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الأسعار‏ ‏قد‏ ‏تضاعفت‏ ‏خلال‏ ‏عام؟‏.‏

وفى ‏الطريق‏ ‏إلى ‏باريس‏ ‏المدنية‏ ‏أتعجب‏ ‏لصلابة‏ ‏هؤلاء‏ ‏الخواجات‏ ‏بالقباس‏ ‏إلى ‏ميلنا‏ ‏الى ‏الدفء‏ ‏والاستكانة؟‏ ‏أليس‏ ‏هؤلاء‏ ‏مصيفون‏ ‏مثلنا؟‏ ‏أليسوا‏ ‏أغنى ‏منا؟‏ ‏فلم‏ ‏يقبلون‏ ‏التخييم‏ ‏هكذا‏ ‏بهذه‏ ‏البساطة؟‏ ‏وأولادى ‏ما‏ ‏زالوا‏ ‏أكثر‏ ‏شبابا‏ ‏وأوفر‏ ‏حركة‏، ‏فما‏ ‏بالهم‏ ‏يتلكئون‏ ‏هكذا؟‏ ‏أهى ‏العادة‏ ‏أم‏ ‏خطأ‏ ‏التربية‏ ‏الأساسى ‏فى ‏علاقتنا‏ ‏بمعنى ‏النعيم‏ ‏ودغدغة‏ ‏الدعة؟‏ ‏وفجأة‏ ‏تقفز‏ ‏الى ‏عقلى ‏ثلاث‏ ‏صور‏ ‏متلاحقة‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏جبل‏ ‏عتقاة‏ ‏فى ‏شتاء‏ 1954، ‏وأنا‏ ‏فى ‘‏نوبة‏ ‏حراسة‏’ ‏مع‏ ‏مخيم‏ ‏الجوالة‏، ‏والعاصفة‏ ‏الرملية‏ ‏لا‏ ‏تهدز‏، ‏وأنا‏ ‏لا‏ ‏أشكو‏ ‏ولا‏ ‏أغفو‏، ‏أما‏ ‏الرؤية‏ ‏الثانية‏ ‏فجاءتنى ‏من‏ ‏جبال‏ ‏الآرز‏ ‏فى ‏لبنان‏ ‏قرب‏ ‏طرابلس‏ ‏فى ‏صيف‏ ‏نفس‏ ‏السنة‏ ‏مع‏ ‏نفس‏ ‏الجوالة‏‏ أ‏يضا‏، ‏والصقيع‏ ‏العربى ‏الرائع‏ ‏يذكرنى ‏بالتقشف‏ ‏الحقيقى ‏الذى ‏أنا‏ ‏فيه‏ ‏ثم‏ ‏ذلك‏ ‏الأتوبيس‏ ‏الذى ‏يكاد‏ ‏يسقط‏ ‏وهو‏ ‏يلف‏ (‏ماذا‏ ‏دهاك‏ ‏يا‏ ‏لبنان‏ !!! ‏ماذا‏ ‏دهاك‏ ‏الآن؟‏)، ‏أما‏ ‏الرؤية‏ ‏الثالثة‏ ‏فهى ‏صورتى ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أوصلت‏ ‏زوجتى ‏وأبنى ‏سنة‏ 1969 ‏فحبسنى ‏المطر‏ ‏ثمانية‏ ‏وأربعين‏ ‏ساعة‏ ‏فى ‏خيمة‏ ‏قرأت‏ ‏فيها‏ – ‏مضطرا‏ – ‏ما‏ ‏غير‏ ‏موقفى ‏من‏ ‏مهنتى ‏ونفسي‏، ‏تقشف‏، ‏وعناد‏، ‏واصرار‏، ‏فلماذا‏ ‏لا‏ ‏يشعر‏ ‏الأولاد‏ ‏بقيمة‏ ‏المشقة‏ ‏ويقبلون‏ ‏التحدى ‏طوعا‏ ‏أو‏ ‏كرها‏، ‏لا‏ … ‏بل‏ ‏كرها‏، ‏فما‏ ‏يفجد‏ ‏الطاقة‏ ‏الا‏ ‏الاضطرار‏، ‏أما‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏أحاوله‏ ‘‏كنظام‏: ‏الحرمان‏’ ‏فهو‏ ‏يذكرنى ‏بالكرارس‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نستعملها‏ ‏كناشة‏ ‏فى ‏الابتدائي‏، ‏وقد‏ ‏كانت‏ ‏غامقة‏ ‏اللون‏ ‏سيئة‏ ‏التغليف‏ ‏رغم‏ ‏ما‏ ‏كتب‏ ‏على ‏وجهها‏ ‏أنها‏ ‘ ‏كنظام‏’ ‏وزارة‏ ‏المعارف‏ ‏العمومية‏، ‏وجدول‏ ‏الضرب‏ ‏يقبع‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏الآخر‏ ( ‏وياتحدى ‏جدول‏ ‏الضرب‏ ‏الكبير‏!!!) ‏فهذا‏ ‏الذى ‏زحاول‏ ‏أن‏ ‏أعلمه‏ ‏للأولاد‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‘‏كنظام‏’ ‏الفقر‏ ‏والحرمان‏ – ‏لذلك‏ ‏فهم‏ ‏يفقسون‏ ‏الادعاء‏ ‏ويكادون‏ ‏يقولون‏ ‘‏كبر‏ ‏عقلك‏ .. ‏حين‏ ‏نفتقر‏ ‏ينتصرف‏’، ‏لكن‏ ‏مالى ‏أنا‏، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏أفعل‏ ‏ما‏ ‏آتصوره‏ ‏مناسبا‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏بدا‏ ‏مزيفا‏ ‏أو‏’ ‏كنظام‏’، ‏أم‏ ‏ينبغى ‏على ‏أن‏ ‏أموت‏ ‏فعلا‏ ‏أو‏ ‏أعلن‏ ‏الفلس‏ ‏الحقيقى ‏حتى ‏يرتدعون؟‏ ‏وتلتقط‏ ‏ابنتى ‏حالتى ‏وأزمتى ‏فتحاول‏ ‏أن‏ ‏ترضيني‏، ‏فتعرض‏ ‏حلا‏ ‏وسطا‏، ‏وكنا‏ ‏قد‏ ‏دخلنا‏ ‏باريس‏ ‏فعلا‏، ‏تقترح‏ ‏أن‏ ‏تذهب‏ ‏مع‏ ‏أخيها‏ ‏إلى ‏المدنية‏ ‏الجامعية‏ ‏حيث‏ ‏سمعت‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏أنها‏ ‏قد‏ ‏تستقبل‏ ‏نزلاء‏ ‏من‏ ‏الطلبة‏ ‏بأجر‏ ‏زهيد‏، ‏فأطمئن‏ ‏أخيرا‏ ‏الى ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏من‏ ‏يشاركنى ‏موقفى ‏ولو‏ ‏بدرجة‏ ‏أقل‏، ‏وتنزل‏ ‏ابنتى ‏فى ‏قبره‏، ‏ونواصل‏ ‏السير‏ ‏وقد‏ ‏تواعدنا‏ ‏على ‏اللقاء‏ ‏أمام‏ ‏الفندق‏ ‏المتواضع‏ ‏الذى ‏ننزل‏ ‏فيه‏ ‏فى ‏الجوبلان‏ (‏الحى ‏اللاتيني‏).‏

ونصل‏ ‏الى ‏الحى ‏اللاتينى ‏مارين‏ ‏بميدان‏ ‏ايطاليا‏ – ‏بلا‏ ‏مبرر‏ – ‏وكان‏ ‏السيارة‏ ‏كانت‏ ‏تعرف‏ ‏أنى ‏أحتاج‏ ‏لاستنشاق‏ ‏هواء‏ ‏نفس‏ ‏الأماكن‏ ‏التى ‏صاحبتها‏ ‏أثناء‏ ‏مهمتى ‏العلمية‏ ‏فى ‏مستشفى ‏سانت‏ ‏آن‏ ‏بالقرب‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الميدان‏، ‏وأجدنى ‏أعيش‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏تلك‏ ‏الفترة‏ ‏البالغة‏ ‏الثراء‏ ‏التى ‏أميتها‏ ‏فى ‏باريس‏ ‏حين‏ ‘‏تعريت‏’ ‏فيها‏ ‘ ‏وحدي‏’ ‏أمامي‏’ ‏حتى ‏حققت‏ ‏الانقلاب‏ ‏الجذرى ‏الذى ‏ما‏ ‏زلت‏ ‏أواصل‏ ‏تعميقه‏ ‏منذ‏ ‏ذلك‏ ‏الحين‏.‏

وأكتشفت‏ ‏أن‏ ‏باريس‏ ‏قد‏ ‏استقرت‏ ‏تحت‏ ‏جلدى ‏منذ‏ ‏حدث‏ ‏ما‏ ‏حدث‏ ‏خلال‏ ‏ذلك‏ ‏العام‏ (68 / 1969)، ‏فماذا‏ ‏حدث؟‏ ‏لست‏ ‏أدرى ‏تماما‏، ‏لكنى ‏عشت‏ ‏تلك‏ ‏الفترة‏  ‏بكل‏ ‏ثقل‏ ‏المواجهة‏، ‏مواجهة‏ ‏مع‏ ‏الناس‏ ‏والحجارة‏، ‏مع‏ ‏القديم‏ ‏والمجهول‏، ‏مع‏ ‏الوحدة‏ ‏والتساؤل‏، ‏فكان‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏مما‏  ‏استيقظ‏ ‏فى ‏الآن‏، ‏وهو‏ ‏لم‏ ‏ينم‏ ‏أبدا‏ ‏تماما‏ ‏منذ‏ ‏اليقظة‏ ‏الأولي‏.‏

مازلنا‏ : 5 ‏سبتمبر‏ 1985:

فندق‏ ‏جوبلان‏ ‏وفندق‏ ‏الإقامة‏ ‏السعيدة‏ (!!)، ‏يفصلهما‏ ‏ممر‏ ‏صغير‏، ‏يقعان‏ ‏على ‏تقاطع‏ ‏طريق‏ ‏جوبلان‏ ‏وطريق‏ ‏راسباي‏، ‏وأمام‏ ‏أحدهما‏ ‏مطعم‏ ‏جميل‏ ‏ذو‏ ‏ستائر‏ ‏حمراء‏  ‏رقيقة‏، ‏وأمام‏ ‏الآخر‏ ‏مطعم‏ ‏صينى ‏متواضع‏ – ‏نعم‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏مكاننا‏ ‏المفضل‏ – ‏ويستقبلنا‏ ‏صاحب‏ ‏فندق‏ ‏جوبلان‏ – ‏ويتذكرنا‏، ‏عام‏ ‏قد‏ ‏مضى ‏منذ‏ ‏كنا‏ ‏عنده‏، ‏ولكنه‏ ‏يذكرنا‏ ‏بأولادنا‏، ‏ويصفهم‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يحضروا‏، ‏ونجد‏ ‏عنده‏ ‏حجرة‏ ‏واحدة‏ ‏خالية‏ ‏وكأنها‏ ‏كانت‏ ‏تنتظرنا‏، ‏ونجد‏ ‏فى ‏الفندق النجمة الواحدة حجرة من داخل حجرة بحمام خاص (ياحلاوة) وحجرة أخرى للابن الأكبر، وبحسبة سريعة يتبين أن الثمن يقارب ثمن المخيم، فيهدأ بال الجميع، وخاصة أن فندق الإقامة السعيدة يتميز بكل مزعجات فنادق النجمة الواحدة، فكلب ضخم لا يقل طوله عن  متر يقبع وراء مكتب الاستقبال بجوار الموظف، ويحل محله ى حالة غيابه (!!) والفندق له رائحة يعرفها كل من لا يملك الا ثمن الإقامة فيه، واسلوب التعامل فيه من باب “ساعد نفسك..” (أن كنت جدع)، وأطمئن على الرائحة النافية لأى احتمال رفاهية، وأن كانت تختلف حتما عن رائحة فنادق أعرفها فى العتبة (الخضراْ) وعماد الدين، حيث ينزل بعض أصدقائى السودانيين، فلكل بيئة وثقافة رائحتها المميزة … والعياذ بالله، ومع ذلك فقد فرح الأولاد فرحا شديدا بكل ذلك، ولولا التهديد الملاحق بالتخييم فى الصقيع، لما تحملوا أيا من هذا بحال.

………….

…………..

أخيرا، هذه هى باريس، هى هى،  وبرغم صفعة الحر التى صفعتنى بها فى العام الماضى، فمازالت هى الغالية بشكل أو بآخر، قلت لى ماذا؟ أقول لك: ولكن يا ترى هل أنا احكى عن باريس الآن، أم باريس 68 / 69، أم “باريس / القاهرة / أنا”، – لاشك أنى أحكى عن هذا الثالثوت المتداخل فى تفاعل متل، فقد تعريت هنا، فى سن الخامسة والثلاثين، هذا التعرى الذى اعتبرته أروع ما فى السفر، بل لعله المبرر الوحيد للسفر، كما ذكرت، حين يتلقى جهاز استقبالك هذا الكم الزاخر من المعلومات([6]) الجديدة، فاذا بك جديدا، فاذا كان الأمر كذلك، فأن أى سفر قد يحمل هذا الاحتمال لمن عنده هذا الاستعداد، فلماذا باريس بالذات؟.

فأتصور أن ثمة “علاقة خاصة” بين باريس وبين المصريين المبدعين خاصة: توفيق الحكيم،  يحيى حقى، طه حسين، بل محد عبده، مصطفى كامل، الطهطاوى،و حتى الآن: عبد المعطى حجازى وحتى جمال الغيطانى تجلى فيما تجلى فى حضنها، فأول ما يشعر به المصرى اليقظ وهو ينتقل اليها، ذلك المصرى عاشق القاهرة، والنيل، والطين، والناس، والدفء، والحديث،.. يشعر ذلك المصرى أنه ” لم ينتقل” كثيرا جدا، وفى نفس الوقت أنه “انتقل” حقا وفعلا، فهو يرى النيل (السين) والكبارى، والتلقائية، والأصات العالية نسبيا، والضحكات المسموعة فى الشوراع أو محطات المترو، وغير ذلك من الارتجال الذى يعلن نظاما غير محكم تماما(جدا) بشكل أو بآخر، فلا يفزع من النقلة، لأن كل ذلك قد تعوده، (وألعن)، وهو فى بلده، وفى نفس الوقت: هو يجد ايقاع الحركة اسرع، وكم الحرية وأنواعها أكثر بهرا، وتنوع الأذواق أرق، وريح الحضارة أكثر حدة وايقاظا، ومن واقع رقة النقلة ودقة التشابه، جنبا الى جنب مع وضوح النقلة وعمق الاختلاف، تتاح لمن مثلى تلقائية الحركة وشجاعة التعرى وأحسب أن هذا هو بعض ما أصابنى وبهرنى منذ نزلتها أول مرة عام 1968، فظلت علاقتى بها هى نفس العلاقة حتى الآن، أدعمها كل عدة سنوات بجرعة منشطة لمدة عدة أيام، فأجلس على نفس المقهى، واسير فى نفس الحديقة، وأقف أمام نفس المنزل، وحيدا / جميعا، وابتسم وانا أربت على خدها الندى، فتحتضننى فى رفق مستقبلة مودعة فى آن، مطمئنة الى عودة وعودة، ثقة منها بهذا التواصل دون تواجد، لكنى لا أخفى على نفسى أنى فى كل مرة كنت ألاحظ على وجهها بثور جديدة، من مضاعفات الحقن الأمريكانى الذى اقتحمها بالواجهات الزجاجية والعمارات العملاقة ولا حول ولا قوة الا بالله، حتى مركز بدميبدو، بدا لى سبجنا زجاجيا يزحف على جداره ثعبان سام([7])، وقد كاد كل ذلك يفتر علاقتى بها حين أتصور أنها اقل ترحيبا فأصبح اخف حوارا، وحين لطمتنى لطمة حارة لم أتعودها منها فى العام الماضى، أحسست وكأنها تعلن قطيعة من جانب واحد، فخرجت منها بلا وداع ولا وعد بلقاء، وتعمدت ألا أدخلها ثانية الا شتاء، أو قرب الشتاء، وهذا هو الشتاء يلقانا قبل أوانه ليصالحنى عليها من جديد….، وما تخاصمنا أصلا.

…………

………..

وركنا الحافلة فى مكان رائع، بين رصيفين معدين لذلك، أحسن من أى “جراح”، واستاذناها لأول مرة بداية الرحلة، أن نتركها تستريح بضعة أيام، فقد قررنا – بداهة –  ألا نعود اليها الاعند شد الرحال، الى خارج باريس، فباريس عندى – وربما عندهم – هى المشى والمترو والناس، ويقترب منا ونحن ننزل أشياءنا ذلك الوجه العربى متأملا فى أرقام السيارة بالعربية، وافرح بهذا العلم المميز الجاذب للأخوة وأولاد العم، يقول “بالسلامة” فنفرح مهللين أن يسلمه الله، ونتعرف عليه “جزائريا / باريسيا” ممن اعتبرهم من معالم باريس بالذات، وسألناه – وكأننا تذكرنا فجأة – عن العيد، فقد كنا قد انقطعنا تماما عن متابعة الزمن العادى: فلا صحف، ولا متابعة أخبار اذاعات عربية، ونحن نعلم أننا بالقرب من العيد الكبير، فقال لنا “فجأة” (ايضا) أنا ليوم، وفزعنا لأول وهلة، ونظر بعضنا الى بعض فى غيظ وعتاب، ثم انفجرنا ضاحكين، سرقنا (بضم السين) ولاذى كان قد كان، هكذا وجدنا أنفسنا فى وسط العيد بلا اشعار سابق، لا … ليس هذا هو العيد، لا يمكن أن يكون اليوم، ليس هو العيد الذى نعرفه، فالعيد هو الاستعداد للعيد: يا برتقال أحمر وجديد، بكرة الوقفة وبعده العيد، يابرتقال أحمر وصغير، وبكره الوقفة وبعده نغير، فاذا أتى اليوم التالى فــ: بكرة العيد ونعيد، وندبح أبوك الشيخ سيد، ثم  يأتى العيد، فيصبح العيد هو صلاة العيد، والسلام على الناس الذين لا تعرفهم باليد، والرجوع من الطريق غير الطريق الذى ذهبت إليه، ثم قبض العيدية، أو اعطاء العيدية (حسب السن والقدرة)، وينتهى العيد مع ضحى النهار، نعم هو العيد، ولا عيد بغير هذا ، حتى أنى كنت – حت] الآن – اذا حدث – لا قدر الله – أن فاتتنى صلاة العيد، كنت اشعر نفس شعورى اليوم هنا، أنىسرقت وأن فجوة قد فتحت فى حائط الزمن بلا مبرر، فاصاب بحزن دفين أخفيه عن المعيدين حولى بكل وسيلة، وأتساءل لماذا كانت صلاة العيد وهى السنة، لها كل هذه القيمة عندى بالذات، ولماذا كانت سنة بالذات، وما كان أسهل أن تكون فرضا، وما اخف أدائه مرتين فى العام؟ وأجيب نفسى فرحا بأن هذه الصلاة ربما لم تفرض لأنها تفرض نفسها بهذه الدلالة وهذه الوظيفة فأنا أميز بها العيد تديدا، وأكتشف علاقتى بالسنة وعلاقتى بالفرض، وكيف أنى قبلت تفسير الحديث الذى أوردت معناه فى هذه الرحلة من أن طركعتى الفجر خير من الدنيا ما فيها”، قبلت تفسيرا يقول أن الحديث يشير الى ركعتا السنة وليس الفرض، وأتذكر “قيام الليل”، التى نزل بشأنها أمر مباشر “قم الليل الا قيلا”.. فهو سنة، يا لكل هذه الحرية الرحبة، وأكتشف أن الفرض هو الاطار الواجب لما يليه طواعية واختيارا، وكأن الشرع قد نظم علاقة الفرض بالنسبة نظاما يحل مشكلة الحتمية والحرية، يا سبحان الله، ولكنا سرقنا، والذى كان قد كان، فها هو العيد، وها نحن بعد الضحى، ولم تكن ثمة وقفة، ولا برتقال، لا شيخ سيد، واسال ابن العم الجزائرى: هل أنت متأكد؟ فيقول طبعا، لأنى فى أجازة بسبب عيدنا، فعدت  اسأل وهل صلوا العيد اليوم فى الجامع (أعنى جامع باريس)، فيقول لست أدرى، فأنا أعرف عيدنا بالأجازة لا أكثر، وداخلنى غيظ متوسط، وتذكرت حرصنا (مع الأولاد) فى العام الماضى على صلاة عيد الفطر فى جامع باريس حيث كنت آمل أن يتعرف الأولاد على اهل دينهم فى مناسبة عامة فى هذه الغربة الموقظة لتجمع، لكنت مازلت اذكر الانطباع السلبى الذى تركته الصلاة فى نفوسهم حين وجدوا أنفسهم فجأة أمام سلبيات المسلمين أكثر من إيجابيات الاسلام – من أول “ممنوع التصوير” حتى السماح بلاشحاذة باستعمال الأطفال الرضع نصف عرايا وسيلة لاستدرار الشفقة، ناهيك عن الخطبة المعادة، والتكبير المنغم لم نعتده، وافتقاد حرارة المعية بعد الصلاة، المهم ها نحن الآن قد سرقنا … والذى كان قد كان ..، فجعل الأولاد يذكرونى بما يشبه العتاب كيف قضوا ليلة العيد (أنستينا ..) جلوسا فى عربة منهكة.

قلنا – فى نفس واحد – ” ولو..” سوف نعيد عيدا خاصا، وسوف نأكل لحما ومرقا احتفالا – أيضا- بسلامة الوصول، وافترقنا كل الى فندقه نزيل آثار عدوان الليلة الماضية، والتقينا كما تواعدنا، وانطلقنا الى المترو متوجهين الى نطة البداية التى تعودنا أن نبدا منها “ميدان النجمة” (الاتوال) الذى تحول مؤخرا الى شارل ديجول (أو أضيف إليه اسم شارل ديجول) ومع احترامى المحدود لهذا الرجل، الا أنى أكره تغيير الأسماء لأى سبب من الأسباب ومازلت أعتبره ميدان الاتوال لا أكثر، حيث قوس النصصر يتوسط نجمة تعلن بداية تفرع الطرق الضخمة الفخمة من الميدان، وأنا أشعر أنى منجذب الى هذا الميدان فور وصولى لأنى أبدا منه استعادة ما كان بشكل جديد، فأدور حوله بدءا بطريق “فوش” مارا بالشانزلزيه حتى أكمل دائرة كاملة أو شبه كاملة، استرجع من خلالها تاريخا خاصا مثيرا، فقد كان معهد تعلم اللغة الفرنسية الذى بدأت أقامتى (68 / 69) بالالتحاق به. كان هناك فى شارع فرعى متفرع من طريق فوش، يبدو أن هذه الفترة بالذات (ثلاثة اشهر لتعلم اللغة) كانت السبب الحقيقى وراء نقلة التعرى السالفة الذكر، فقد أمضيت فى هذا المعهد الخاص Inter-Langue عزلة اجبارية رائعة، قطعتنى تماما عن كل المثيرات المعتادة، فانفصلت عن لغتى، وكل ما هو طب نفس، ومريض نفس، وعلم نفس، بل وتعمدت أن انفصل عن زملائى فى الممة العلمية من لمصريين (الا قليلا) – واحسيب أن كل ذلك من أهم مقومات التعرى بالسفر، حتى تجتمع اغارة “المعلومات” الجديدة، مع توقف كامل (اسبه كامل) عن تلقى المعلومات القديمة (لذلك فأنى أكره الاتصال الهاتفى المتكرر مع الوطن بعد تسهيل الأمر بالتكنولوجيا الحديثة، فهو يجهض النقلة أولا بأول) – أقول أنى اكتشف الآن قد انتهزتها فرصة – بنصف وعى – لكى أتخلص من ذلك السجن الفظيع الذى أعيش فيه من خلال قيود مهنتى والتزامى، نفس المثيرات والمؤاثرات: كل يوم … طول اليوم .. كل يوم.. كل ليلة .. كل ليلة .. طول الليل.. نعم، سجن (رغم تنوع المساجين والسجانين) لكنه سجن، لا يدع أية مساحة باقية لتلقى أى نوع ىخر من الوجود لمختلف، والمحاور، والمفيق، فما أن ذهبت ذلك العام (1968 / 1969) حتى عدت تلميذا يتعلم الهجاء، خمس ساعات متصلة كل صباح، بلا فسحة الا ربع ساعة بالدقيقة، تلميذا كل ما عليه هو أن يكرر، أو يجيب المدرسة، او يتبع جهاز التسجيل، او أن يغنى مثل الأطفال مع زملائه الطلبة الكهول:

أثنين وأثنين : أربعة

أربعة وأربعة : ثمانية

ثمانية وثمانية يعلمون ستة عشر

وهاك هو العصفور الصغير الذى يسبح فى السماء

الطفل يراه

الطفل يسمعه

الطفل يناديه ([8])

فأرى العصفور، واسمعه، وأناديه، فى سماء شديدة الصفاء – بسبب البرد طبعا – رغم سطوع الشمس، وأنا جالس على المقهى الصغير، أطل على هذا الميدان الكبير (الأتوال) فى الربع ساعة، الفسحة الوحيدة خلال خمس ساعات متصلة من شحن المخ بالمعلومات الجديدة، أقول ان هذه الثلاثة اشهر الأولى، فى ذلك العام الباريسى، كانت أهم مما تلاها تحت زعم ما يسمى “مهمة علمية” أو “فذلكة ثقافية”، فقد كانت هى المدخل الى النقلة التى أعيش آثارها حتى كتابة هذه السطور، وأكتشف أن تعلم لغة جديدة – وخاصة بهذه الطريقة المكثفة – لا يفيد فقط فى فتح نافذة جديدة على عالم جديد وناس آخر، وأنما هو يسحبك سحبا الى طفولة جديدة، وتهتهة جديدة، وروح جديدة، وخاصة مع هذه اللغة الرشيقة الغنائية (الفرنسية) التى اكتشفت أنها تشترك مع لغتى الحبيبة فى كثر من نبضها الداخلى، مع تفوق لغتى (حسب حدسى) فى المرونة والحركة والإيقاع المكثف ([9]) – تذكرت كل ذلك، واكتشفته اوضح وابلغ، وانا أتجه الى نقطة انطلاقى من ميدان الاتوال لأشعر أنى وصلت باريس، وفكرة تفضيلى الإقامة فى  الحى اللاتينى، مع تعلقى هذا  بميدان الاتوال تؤكد أنى عشت الحوار الذى كام – ومازال – جاريا بدرجة كافية، الحوار بين ما يمثله كل ممنهما – ذلك أنى كنت قد وصلت باريس عقب أحداث حركة الشباب (الطلبة) (ماو 1968) – وكان الأمل فى هذه الحركة – كما قال لى صديق فرنسى، أن تحيى ايجابيات الثورة الفرنسية، حتى بدا لصديقى هذا هذا أن باريسي (وفرنسا، فالعالم) على أبواب يوتوبيا حقيقية من العدل والانارة، الا أن كل هذا سرعان ما تضاءل حتى لم يبق الا الحماس وحسن النية، وأزالة المنصات المرتفعة من قاعات محاضرات الجامعة(!!) (دون ازالة الطبقات الأخفى .. بداهة) – وحين كان اليساريون يتجمعةن احتجاجا على ديجول فى الحى اللاتينى، يتجمعون بالمئات فالآلاف حتى يكاد المشاهد يتصورهم الأغلبية الغالبة كان ديجول يخرج الى التليفزيون يخطب بصوته القديم الجهورى داعيا أنصاره أن يتجمعوا – ردا من جنس العمل – فى ميدان الاتوال، وفى خلال نصف ساعة أو ساعة، تتجمع عشرات الآلاف، وعلى من يريد أن  يعرف اين الأغلبية أن يلتقط الصورتين بالهليوكوبتر (مثلا) ثم يعمل تحليل مضمون مقارن، وهكذا يتم استفاء تلقائى – خلال ساعات – بلا دماء، ولا رشاوى، ولا منظمات تحتية، ولا مفرقعات ولا دماء، ولا تكفير ولا ازدراء (يا ساتر!!، ما كل هذه الـ “ولا”… ت؟!!!) وربما لارتباط ديجول بهذا الميدان سمى باسمه بعد وفاته،

” ولو”!

……………..

المهم، أخذنا بعضنا الى هناك وقمت لاطقوس الأولية، وحين وصلت الى الشانزلزية وجعلت ظهرى لقوس النصر – كالعادة- أطلت على فى نهايته فى ميدان الكونكورد قمة مسلتننا، وترجمت – ثانية – على نابيلون، وتصورت أنه قد أدرك هذه الوصلة([10]) بيننا، فسهلها بهذا التجسيد الحى، ولكن لماذا ننتقل نحن “اليهم” لنرى هذه الوصلة، ولماذا حين ننتقل ” الينا” لا يصحبها تلك الوصلة معنا؟ ولكن هذا أمر آخر، وحديث آخر.

تشابكت أيدينا، فرحين بالبرد المنعش، مشتفين فى الحر اللاطم ذاك العام الماضى، ونظرت الى وجوه الأولاد فوجدتهم ينظرون فى وجهى، وكأنهم لم يتأكدوا بعد من أنى لن اعيدهم الى المخيم قسرا: تهذيبا واصلاحا، ويبدو أنهم قد يغفرون لى مبيت الليلة الماضية، فى مقابل أنى أعفيتهم نت عقوبة المخيم فى هذا البرد، وحين لاح لنا مدخل “برجر الملك(!!)([11]).. ذلك المطعم التحتى الذى اعتدنا ان نتناول فيه ” السندوتشات، والبطاطس المحمرة” تذكرت الوعد باللحم والمرق، فاكتشفنا –زوجتى وأنا – أن الأولاد قد بروا أنفسهم من ورائنا – بفلوسهم!!- فى فترة الظهيرة التى افترقنا فيها، فأكلوا لحما يليق بالمناسبة (عيد الأضحى)، فنظرت الى زوجتى التى لا تتعرف على العيد الا اذا ذاقت اللحم المسلوق صباحا وثنت بلافتة أن تقلية، نظرت اليها محتجا كالقائل:” علقونا العيال” ويبدو أنهم فعلوها نظرا لعدم الثقة فى وعودى، الأمر الذى أكاد أفخر به اذا أعتبره – بشكل ما – دليلا على مرونتى مع تغير الأحوال، فاكتفينا بأكل البرجر والبطاطس، وشربنا البارد، وأحسسنا بعيد خواجاتى غريب، وكان الرفض يتجمع داخلنا دون أن ندرى حتى اذا عدنا الى السير فى الشانزلزية لنقابل اجناسا وأجناسا، أنتهينا الى ثلة من الشباب يتمازحون ويمرحون ويغنون أحيانا معا أغان قصيرة سريعة بلغة لم نفهمها، فأفقنا الى حقنا المشروع فى بلاد كل الناس، واليوم عيدنا نحن يا ناس، وقلنا نجرب بما لا يؤذى، فلا عيد بلا تكبير، حتى أنى اوقظ أولادى فجر كل عيد بتكبير متصاعد، لا بمنبه يسرسع ولا بهز مزعج، وتحرج الأولاد فى البداية من الغناء بالعربية، وكأنها ليست لغة ككل اللغات،

ثم خذ عندك:

“الله أكبر، الله اكبر، الله أكبر

الله أكبر كبيرا

والحمد لله كثيرا

 وسبحان الله بكره وأصيلا

لا اله إلا الله

وحده

صدق وعده

ونصر عبده

……… “

بدأنا هامسين مترددين، وبنغمتها المصرية الرقيقة، وحين استقبلنا المارة بابتسام فاعجاب علا صوتنا رويدا رويدا وكأننا حصلنا على الأذن فى التمتع بحقنا بنفس الشروط، وأخذتنا النشوة وكأننا نستعيد مسروقاتنا من الزمن الذى تسحب من ورائنا فسرق منا العيد، فرحنا نمسك بأيدى بعضنا البعض، وجعلنا نتمايل قليلا اثناء المشى مع التكبير، ثم نشطنا أكثر ونحن نكتشف معنى جديدا للفرحة ولمشاركة الناس من كل الأجناس، يشاركوننا فى عيدنا دون استئذان، وكنا نلمح على بعض الوجوه العربية رفضا، ثم حرجا، ثم ترددا، ثم ابتساما، ويلقى بعضهم تحية العيد همسا (كل سنة وانتم طيبون) فنرد تكبيرا، وشعرنا – برغم السرقة – أننا فى عيد بحق، وأنه لابد من مراجعة حاسمة لحكاية أن العيد بما قبله وليس هوهو، أو أن يكون العيد هو تذكر الموتى دون الأحياء.

………………..

……………….

يا ساتر، ما هذه السيرة الآن؟

………………

……………..

وألملم خيطى بعد أن نجحت فى خطف خمسة ساعات من وراء ذلك الثقل الجاثم على وجودى فى مرارة غائرة، تمكنت فيها من كتابة هذه الصفحات قسرا وحسما، وارجع، أرجع مثقلا صابرا، ما أفظع الرجوع إليه، وقبل أن أنسحب تماما لا أنسى ان أترك علامة مميزة بجوار ثقب الإبرة ى مخزون وجدانى، ذلك بعد أن لصقت عليه شمعا قابلا للذوبان، لعله  يستجيب لى تحت حرارة الاستدعاء حين أعود إليه اسحب منه الخيط نم جديد ،لعلنى أكمل “الطريق” الى “الناس”.

وإلى العدد القادم …… أن أمكن.

[1]– الايقاع الحيوى ونبض الابداع : “فصول” المجلد الخامس العدد الثانى 67 – 91 (حيث أوضحت كيف أن العمل الابداعى ينبع انطلاقا من لحظة بسط Unfolding بذاتها، لا تستغرق سوى أقل القليل بحسابات الزمن العادى، لكنها تستوعب مساحة مترامية متجددة زاحفة مولدة من زمن الابداع الخاص، حتى أنى ذهبت الى القول بأنه، حتى =

[2] – حين انتبهت الى ضرورة تذكرتى لنفسى أولا بهذه  المسألة طالعتنى نكته لصلاح جاهين فيها هذه التذكرة، قصصتها، وكبرتها وعلقتها فى كل مكان يقع عليه نظرى، فى العيادة، وقصر العينى، ومنزلى ومزرعتى .. ومع ذلك!! يا ترى هل تذكرت؟ وتلكم الصورة:

[3] – سورة الكهف : الآية 86 .

[4] – حتى اصبح المكان عندى هو زمان قد تجسد فى أصغر وحدات الوجود فى جزء من لحظة بذاتها، والزمان هو علاقة تتبعية أو متداخلة بين مكانين أو أكثر بالمعنى السابق “يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل ….” (سورة فاطر الآية:13)

[5] – لمن لم يتابع هذه الحلقات، كان كل واحد من الأولاد قد أخذ مبلغا يصرف على نفسه منه اقامه وأكلا ونزهة بحسب ما يرى دون معونة منى .

[6] – استعمل كلمة “المعلومات” هنا بالمعنى العلمى الأحدث لتشمل كل ما يصل الى حواسك وعبر  حواسك، وليس مجرد المعلومات الرمزية المدرسية أو الثقافية المغتربة كما شاع استعمال الكلمة قديما.

[7] – كتبت فى ذلك ما قد يكو شعرا، بل عنونت ديوانى الذى احتوى هذه القصيدة بنفس اسم القصيدة “البيت الزجاجى والثعبان”.

[8] -Deux et deux: quatre

Quatre et quatre: huit

Huit et huit font seize

Et Voila l’oiseau lire qui passe dans le ciel

L’enfant le voit

L’enfant l’entend

L’enfant l’appele

[9]  – أكاد أستشعر من الانجليزية ( وربما الألمانية والهولندية) ايقاعا يشبه إيقاع الطبلة.

كما استشعر من الفرنسية (وربما الأسبانية والايطالية )” يشبه الكمان والناى.

أما لغتى انا – العربية.. العربية .. فأنى  أعيش فيها السيمفةنية بكل طبقاتها. “ولكن ما أدرانى بكل هذا وأنا لا أفهم لا فى الموسيقى، ولا فى اللغة؟”.

[10] – كلمة liaison بالفرنسية ادق هنا فى التعبير عما أريد.

[11] – King Burga

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *