الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يناير 1986 / عدد يناير1986-مثل (…. بلا موال) المـثـل

عدد يناير1986-مثل (…. بلا موال) المـثـل

مثل (…. بلا موال)

المـثـل

يكتب لنا د. أحمد حربى – أيضا هذه المرة  – يقول:

ابعد عن الشر وغنى له

أو :

ابعد عن الشر وغنى له

***

ثم يقـول :

أيبتعد المرء عن الشر ثم يقنى له ، بمعنى أن يجعل بينه وبين الشر قناة وحاجزا؟ أم كما جاء فى القاموس فى مادة ” قنأ” : قنأ فلانا أى قتله

( القاموس المحيط ) .

أم يبتعد المرء عن الشر ثم يغنى له، وهنا الطامة الكبرى : السلبية وتشجيع الظلم فى آن .

ولعل مثلا كهذا يدعو للجبن الذى هو سوءة مثل التهور، بل هو أشد سوءا من التهور .

 ولعل أول من قال بهذا المثل حاكم عربى، وكثيرا قالوا: ” الزم بيتك وأمسك عليك لسانك تسلم” .

ولكن : أى سلامة؟ انها سلامة مخلوق وسط، لا هو انسان قبل التكليف وحمل الرسالة والأمانة، ولا هو حيوان خلت حياته من هموم لم يعرفها ……….

ونقــول :

ومنذ بدانا هذا الباب ونحن ننبه الى وجود المثل ونقيضه فى التراث الشعبى، وتتوقف دلالة المثل على توقيت استعماله وحسن توظيفه ، ولا ينفع تحليل مضمونه، بأثر رجعى، للدلالة على ما وراءه، وانما يلزم رؤيته فى اطار نشأته تاريخا، وتواتره استعمالا، وضبطه توقيتا .

والبعد عن الشر – ان أمكن – ليس دائما جبنا وسلبية، بل قد يكون حذقا وروية، وعندى أن الغناء للشر هو نوع من التشفى فيه اذ نكاد نقول له : ” أنى بمناورة البعد، جعلتك أعجز من أن تنالنى ، فأصبحت المبادرة فى يدى ” أما معنى قتله أو أن تجعل بينك وبينه قناة فهما معينان غير متواترين مثل تواتر ” غنى له”، وهذا يحتاج الى بحث ميدانى لمعرفة حقيقة المثل وأشكال وروده، والمعنيان عموما لا يشملان الانسحاب أو الجبن، بل الحذر والحمية ،أو الكر بعد الفر .

على ان المثل قد أورده” أحمد تيمور”(1) بشكل حوار شمل المعنيين هكذا:

” قال ابعد عن الشر وقنى له، قال وأغنى له ” وفى شرحه له، ربط بين المعنيين فى اتجاه واحد حيث جاء “…… اى قيل لشخص تباعد عن الشر واجعل بينك وبينه قناة من الماء تحول بينكما، فقال لا أفعل ذلك فقط ، بل أغنى له أيضا حتى يمر بسلام ” وقد استشهد فى تأكيد معنى الفرار من الشر بما قاله الميدانى ” أجر ما استمسكت ” أى لا تفتر من الهرب وبالغ فيه وما أورده جعفر بن شمس الخلافة فى كتاب الآداب ” أترك والشر ما تركك“.

ومع كل ذلك، فقد يكون فى  كلمة” ابعد” ما لا يعنى الهرب المتواصل كما ذهب اليه د. حربى أو أحمد تيمور، وقد يكون فى الرد بالغناء ما لا يعنى تأكيد مواصلة الهرب من الشر، ونفاقه حتى يمر بعيدا دون أن يلحقنى بأذى – وأظن أن من حقنا أن نتصور هذا يمر بعيدا دون أن يلحقنى بأذى – و أظن أن من حقنا أن نتصور هذا البعد الايجابى، والصبر الواعى ، والفخر الشادى بالسلامة نتيجة لحسن التبصر والثقة بكسب الجولة الأخيرة، كل ذلك قد يبطن هذا المثل بشكل أو بآخر .

ذلك لأن لعبة المناورة بالانسحاب المدروس ، أو بالصبر الواعى” على الجار السوء (أو الحاكم الظالم) …. يا يرحل يا تجيله مصيبة تاخده” هى لعبة أشتهر بها الشعب المصرى بصفته الحضارية، وعلاقته بالدورة الزراعية البطيئة الحركة، وعلاقته بفيضان النيل، وانفصال تيار الحضارة الانتاجى عن ألعاب السياسية القشرية، وقد ظل الشعب المصرى يحتوى حتى غزاته بهذا التمثل الصبور، (هذا الموقف الواثق: حاتروح منى فين) هو الأصل فى استيعاب كثير من الأحداث البادية الشر، ومع ذلك القابلة للذوبان فى الكل الأبقى … فى وحدة زمنية أطول .

ولا يوجد فى هذا المثل فى ذاته تبرير للانسحاب الجبان، كما استحليناها منذ 1956 متصورين اننا بالانسحاب ” هكذا ” جعلنا بينه وبيننا قناة السويس “وقنى له” وذهبنا نغنى له “ثلاث دول ما تقدموش ولا قدم”، فكان من نتائج هذا العمى الحيسى أن كررنا الانسحاب الذليل سنة1967 تكرار النص الخائب، وما زلنا – رغم عظمة 1973- نجتر مرارته، فالانسحاب السلبى المستعجل الدال على خيبة حسابات لاهية غير مسئولة، ليس بعدا عن الشر من البداية بل هو استغراق فيما هو أشر من كل شر، أما البعد عن الشر فقد يكون حكمة القادر أحيانا، والغناء له قد يكون ثقة المتمكن.

وقد يكمل هذا المثل أو يواكبه أنه حين يكون الأمر ملزما بالاقتحام والمبادرة، فلا حساب ولا تراجع بغض النظر عن النتيجة :

أن كان خير عجل به

وان كان شر: لابد منه .

فهنا ليس ثمة بعد عن الشر، الذى لابد منه، وبالتالى لابد من احتمال عواقبه مادام القرار بهذا الوضوح ، والاختيار واع بنتائجه، وبنفس حسم المواجهة، نعيد فهم ما يقال عنه انه ” قدرية “، فاذا به ليس كذلك تماما، حين نسلم الأمر لله .

” كله منه “

ثم نستسلم لقضائه ،

“واللى منه لابد عنه “

وبنظرة تتجاوز الاسراع بالاتهام بالاتكال و الاستسلام يمكن أن نرى ما يقال:

“ان كان شر لابد منه” بمعنى أن القدرية هنا ليست تسليما بواقع وانما هى مواجهة للنتائج الناجمة عن قرار المبادرة، من باب ” قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا ” فلماذا القعود؟ ولماذا الجبن ؟ – وما دام الذى “منه” مجهولا، وما دمنا قادرين على استيعاب النتائج أيا كانت، فهو دعوة للاقدام وليس العكس .

ومرة أخرى فان نظرة أشمل للأمثال مع بعضها، تكمل استيعاب حكمتها، ففى مجال الشر أيضا ، حين يحذر الحدس الشعبى من انكار الجميل، ومقابلة الخير بالشر قائلا :

” خير تعمل ….. شر تلقى ”

لا يوصى بذلك ضمنا بأن نكف – اذن – عن فعل الخير ، حتى نتجنب أن نلقى الشر ، بل هو يقرر حقيقة مؤلمة ، قد تكتمل بأنه ومع ذلك :

” اعمل الطيب وارميه فى البحر “ (2) .

وهذا السلوك هو من أرقى أنواع تجنب الشر ( ابعد عن الشر )

وهو ألا تنتظر جزاء الخير الذى تقدمه ، حتى اذا قوبلت بنكرانه ، أو بعكسه ، فأنت مستعد له بحيث لا يؤثر فيك ، فلا يصبح باستغنائك شرا أصلا .

***

(ونعتذر أيضا هذا العدد لأسباب حقيقة فى أننا لم نوف المال حقه …… لكن حرصنا على استمرار الباب، هو الذى جعلنا نقدمه فى هذه العجالة ……).

[1] – أحمد تيمور ، الأمثال العامية: لجنة نشر المؤلفات التيمورية، الطبعة الثالثة 1970 ص 364 .

[2]- راجع الموال : ” خسيس عمل مقبحة رايد بها عندى ” – الانسان والتطور ، عدد أبريل سنة 1985 ص : 104 – 112 .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *