الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يناير 1986 / عدد يناير1986-استمرار الحوار الإنسان والمخ لماذا الفصام ؟

عدد يناير1986-استمرار الحوار الإنسان والمخ لماذا الفصام ؟

استمرار الحوار

الإنسان والمخ

لماذا الفصام ؟

كان علينا ان نتوقف قليلا او كثيرا قبل الاستمرار فى حوارنا حول السلوك فى الصحة والمرض وعلاقته بالتركيب البيولوجى للمخ داخلين من مدخل الفصام بوجه خاص، فما هو الفصام؟ ولماذا ؟

ولقد تجنبنا منذ بداية صدور هذه المجلة (ورغم أن الذى يصدرها هى جمعية للطب النفسى) أن ندخل فى تفاصيل تعريفات وحدود لماهية مرض بذاته له اسم بذاته شائع أو غريب، ذلك لأن أزمة المرض والصحة  كانت  – وما زالت  – بالنسبة لنا هى أزمة أكبر من تلك المسميات التى حبستها فيها تعريفات وشائعات، نعم وشائعات .

ومرض الفصام بالذات، قد شاعت لتعريفه شائعات  جعلته لغز الألغاز، وما زالت مجلة متخصصة فيه هى “نشرة الفصام “(1) تنشر مقالا افتتاحيا فى كل عدد تقريبا تناقش موضوع “ ما هو الفصام “، ولكن الشائعات فى الصحف السيارة، والمسلسلات التليفزيونية، وعلى المقاهى ، وبعض الجامعات!! تقول بحسم عجيب :

(أ) ان الفصام هو “ ازدواج” الشخصية، ويصل هذا التبسيط المخل الى تصوير ان الذى تنتابه نزعات شريرة أحيانا، ويبدو طيبا جدا فى أحيانا اخرى، هو مزدوج الشخصية، أى أنه فصامى … ياسلام!!

ويشير البعض من هذا المنطلق الى ان وجهى “ دكتور جيكل”و “ مستر هايد “    هما الصورة الرمزية لماهية الفصام !!

(ب) وشائعة اخرى تعتبر ان الفصام هو الجنون بلا تمييز، أى انه اللفظ المرادف لكلمة اكثر غموضا ، أو أنه سلة مهملات نلقى فيها كل شذوذ فى السلوك، اذا لم نتمكن من وصفه بصفة أخرى .

(ج) وشائعة ثالثة تؤكد ان الفصام هو “عته” بمعنى تدهور فى القدرات العقلية (لا رجعة فيه فى وهم الكثيرين ) ـ – وترجع هذه الشائعة الى بداية وصف الفصام فى أواخر القرن الماضى “ موريل” ثم” كريبلين” باعتباره العته المبكر Dementia Praecox

وهذه الشائعة، رغم تكرار نفيها منذ”بلوير”، ثم بنتائج العلاجات الأحدث وشفاء جمهرة من المرضى، رغم ذلك فهى ما زالت راسخة فى وجدان الناس، وبعض العلماء، والأطباء على حد سواء

(د) وشائعة رابعة تصور الفصام باعتبار أنه “ …. مرض يصيب المريض” مثل مرض التيفود أو تسوس العظام، وهذا الفهم يختزل ما هو موقف كينونى خطير ( وهذه هى حقيقة الفصام) الى اصابة (تلحق” بكيان قائم، وكأنها فى الأصل خارجة عنه، وكأن الأمر ليس اعادة تنظيم  – أو قل : اعادة سوء تنظيم للكيان نفسه “ منه فيه” أن صح التعبير .

(هـ) وشائعة خامسة تركز على الفصام من ناحية أسبابه بدلا من أن تنظر فيه ( فى ذاته)،

 فمرة هو نتاج فيروس( مثل الأنفلونزا) ومرة هو نتاج”عقدة” قديمة، ومرة هو نتاج اضطراب كميائى محدد أومتعدد، وقد يتمادى الأمر حتى نظل نتكلم فى ما الذى وراءه، وكأننا نعرفه ( وهذه بعض المخاوف التى أوحت بها بعض قراءات المقال محل المناقشة : انظر بعد : ) .

***

فاذا انتقلنا الى محاولات تحديد الفصام فى نظم التشخيص الأحدث فاننا نجد أن المسألة لم تحل حلا حقيقيا، ففى حين قد صور التقسيم الأمريكى الثالث(1980) الفصام باعتباره مجموعة أعراض يمكن أن ترص بجوار بعضها بعد وفاء بعض منها بالاستمرار لفترة طويلة( لا تقل عن ستة اشهر)  – نجد ان الدليل المصرى قد صور الفصام باعتباره مظهرا لعملية تفسخية لها مراحل متعاقبة، ونتائج سلبية، وأن كل فئة من فئات الفصام هى جماع بعض مظاهر مرحلة بذاتهان وملامح بعض سلبيات نتاجها  – ورغم انه اقتراب تطورى شجاع الاأنه  فى نهاية النهاية يحتاج الى وقفة من منطلق وصفى تحدد لنا ماهية الفصام

ونحن فى هذه المجلة نتبنى النظرة المصرية ، ونتجاوز بهما ذلك الاختزال الخائب الذى رضى عنه الأمريكيون وفرضوه على العالم، وعلى زملائنا فى مصر، ولكن دون أن يقتحموا به حس العامة، ونحن نتجاوز النظرة الوصفية الى تبنى متواصل “ تطورى/ تدهورى “ من ناحية، والى تناول بعد “غائى / ابداعى” من ناحية اخرى، كل ذلك من منطلق “ بيولوجى فلسفى” أن صح التعبير. فالفصام عندنا :

  • هو اعلان تغير نوعى فى الوجود البشرى.. كبداية محتملة لتدهور متراجع نحو البدائى، والكلى الفج .
  • وهو تفسخ لنظام جمع مستويات العقل والوجود فى وحدة فاعلة فى وقت بذاته .

(جـ) وهو: ( نتاج هذا وذاك) عودة بالفرد( الواحد / الوحدة) الى تعدد فى الوجود، متنافس ثم متباعد، مع سلب لقدرات ضامة، وفاعلة، ومنطقية ،واحلال محلها قدرات أقدم، مع ما يشمل ذلك من ضمور فى المنطق العادى، وتفكك فى سلسلة (2)الأفكار، وانسحاب فى العواطف .

(د) وهو تحقيق غائى لانسحاب من المواقع ومن التأليف الأعلى، لأنه يتضمن تنشيط حفز الموت (أو غريزة الموت) بالغاء الفاعلية، وقتل الآخر بالترك والانسحاب والجمود .

(هـ) وكل ذلك يتم من خلال حركة “ تنظيم/ لا تنظيم” خلايا المخ، التى هى(خلايا المخ)

التحقيق العيانى لتنظيم “ معلوماتى /كيميائى / حيوى” يجسد الوجود البشرى فى أبعاده المتداخلة المعقدة بما يحقق استحالة الفصل بين الظاهرة ومحتواها .

***

فاذا كان الأمر كذلك ، فان دراسة هذا التحدى الخطير للمسيرة البشرية (الفصام) وخاصة فيما يتعلق بأسس العملية البيولوجية، هو البداية التى يمكن من خلالها ان نرى نقيضها، كما أن هذه الدراسة أيضا قد تظهر لنا” الخلل” الذى يضطر” الانسان الواحد الفاعل” أن يتفكك الى تعدداته الأسبق هكذا، وأن يرتد على عقبيه مرجحا ما هو” موت” على ماهو حياة .

ونحن اذ نرى الوجود الفردى متفسخا فندرس المقابل أو الأصل البيولوجى لهذا التفسخ، انما نستعيد الأرض التى توحد بين الجسد والروح، بين المادة وزعم اللامادة، وكذلك نكاد نتحسس جسد” المعلومة” اذ هى كيان مرتب( أو لا مرتب) فى تنظيم المخ، وكيف أنها  – كذلك  – قادرة حتى على الانتقال عبر الأجيال مع تقدير فرص علاقة ارتباط تنظيم الخلية الجسدية بالخلية التناسلية (مما قد نتطرق اليه فى تفاصيل الحوار ) .

واذا صدق ذلك على الفرد، فلم لا يصدق على المجتمع مع كل التحفظات التى تميز بين كيان الفرد وكيان المجتمع ؟

ومن هذا المنطلق، نجد المبرر الذى ندعو معه الناس الى مشاركتنا فى الاقتراب من هذا المرض باعتباره “ التدهور المتحدى “ .

ونجد أنفسنا ملزمين بايضاح أكثر لاصرارنا على وضع الفروض المخية المتعلقة بالفصام فى المقام الأول، وهى أبعد ما يكون عن تفكير ولغة الشخص العادى ؟

وفى ذلك نعود ونقول :

أولا : اننا بذلك نقتحم موضوع العلاقة بين الوظيفة والتركيب، بين النفس والجسم، بين المادة وزعم اللامادة، بين الفيزيقى ووهم الميتافيزيقى (الفيزيقى الأعمق)

ثانيا : اننا بذلك نؤكد على طبيعة الوجود البشرى المعقد، المواكبة لطبيعة البشرى المعقد .

ثالثا : اننا نامل فى أن نجد “ الوصلة” الهامة التى تربط بالتغيرات التى تحدث فى البيئة بالتغيرلت التى تحدث فى خلايا المخ(3)

رابعا : اننا بذلك نؤكد على مسئوليتنا نحو أمخاخنا وما نوصله اليها ثم ما تتحور من خلال ذلك به الى ما هو تطور، أو ما هو تدهور .

خامسا : اننا بذلك ننبه على أنه بتحوير المخ هكذا، نتيجة لتحوير البيئة، فاننا نفتح ملف وراثة العادات المكتسبة وبذلك نضاعف من مسئوليتنا نحو امخاخنا وأولادنا ونوعنا جميعا

…………………………….

……………………………

فنحن نطرق باب الفصام التدهور ، حتى نحفز التكامل التطور، ونحن نفهمنا من أشلائنا قبل ان تضمر وتختفى، فنختفى ونحن نرفض التهويم فيما يلهينا عن مسئوليتها نحو ما هو نحن وما هو بعد……، ولكننا فى نفس الوقت لا نبالغ فى قيمة هذه المعطيات المتواضعة، ونحذر دائما من اختزال الانسان الى ما هو وحدته الأولية أو جزء منه دون كليته، سواء كانت هذه الوحدة هى الخلية الحيوية بجزئياتها العظيمة،ـ أم كانت وحدة المخ ككل، المخ البالغ التعقيد، ( المخ التاريخ البشرى المجسد فى كيان عضوى متصاعد التنظيم).

والآن : الى الحوار مذكرين  القارئ بأصل الذى تناوله مقال فاينبرج فى العدد قبل الماضى :

[1] –  Schizophrenia Bulletin التى تصدرها المؤسسة القومية الأمريكية للصحة النفسية.

[2] – بفتح السنين .

[3]- (وهذا هو الموضوع الذى سيطرح فى تقديم مقال تال خاص بـــ طواعية أو مرونة المخ، أو ما يسمى المطاوعة العصبية Neural Plasticity)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *