الرئيسية / الأعمال الأدبية / كتب أدبية / كتاب رباعيات ورباعيات

كتاب رباعيات ورباعيات

 

 

رباعيات.. و..رباعيات

صلاح جاهين  – عمر الخيام – نجيب سرور

 roba3yat1

د. يحيى الرخاوى  

الطبعة الثانية

2017

إهـــداء الطبعة الأولى (1979)

إلى صـلاح جـاهين

(الـ” مازال معنا أبدا”)

إهـــداء الطبعة الثانية

إلى صـلاح جـاهين أيضا

استهلال:

هذه المحاولة هى من باكورة الأعمال النقدية التى قدّمتها فى ندوات ثقافية (الجمعية المصرية للنقد الأدبى، جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى)، أو قمت بنشرها فى دوريات .

وأحب فى البداية أن أشير إلى أنه على تعدد محاولاتى فى النقد، فإننى دأبت على أن أنفى عن قراءاتى هذه، أنها تنتمى إلى ما يسمّى “النقد النفسي”، وهأنذا أعلن أننى فشلت فى مواصلة هذا الزعم، ولن أعود إلى مناقشة هذه الإشكالة مكتفياً بأن أبين حدود ما أمارسه من نقد على الوجه التالي:

أولا: إن ما أمارسه من نقد لا ينتمى مباشرة أو كثيرا، إلى ما يسمّى التحليل النفسى للأدب([1]).

ثانيا: إن أية معلومات نفسية، مهما بلغت مصداقيتها، لا تصلح أن تُعامل باعتبارها المرجعية التى يقاس بها العمل الإبداعى، بل إنها تأخذ منه، علما ومعرفة عن النفس، أكثر مما تضيف إليه، ولهذا حاولت استعمال مصطلح التعبير الأدبى “للنفس”  وقمت بنشر مجموعة من دراساتى النقدية بهذا الاسم.([2])

ثالثا: إن اتفاق مصدرين للمعارف (الأدب وعلم النفس هنا كمثال) فى كشف معلومة أو إضافة معرفة، هو نوع من “المصداقية بالاتفاق”، أى أن المصدرين قد يدعمان ما وصلا إليه من إضاءة،  وإن اختلفت الأداة وزوايا الرؤية.

الفصل الأول

صلاح جاهين

وشخصيته الفرحانقباضية

(من رباعياته أساسا)

 

أولاً: الشخصية الفرحانقباضية([3])

تكاد تكون رباعيات جاهين نوعا من السيرة الذاتية، دون أن يعلن ذلك، لهذا سوف أبدأ بما قرره هو عن شخصيته واسماها “الشخصية الفرحانقباضية” مستشهدا بما جاء فى الرباعيات أساسا، قبل الانتقال فى الفصل الثانى إلى بعض الدراسة المقارنة مع رباعيات عمر الخيام ونجيب سرور.

1/

مقدمة

لقد أعفانا الشاعر الأديب الرسام الإنسان متعدد المواهب “صلاح جاهين”، من تسمية حالته النفسية، التى تكمن وراء كتاباته ونشاطاته المترامية الخلاقة، فقد طلع علينا فى مجلة “صباح الخير” بوصف حالته تلك بهذه الصفة التى استعرتـُها منه هنا، وقد كان صلاح أدق تعبيراً وأشجع موقفا وأكثر صراحة من كثير من المختصين، فقد ذكر أنها حالة “عقلية”، ونحن كثيرا ما نخلط بين “العقلية” و”النفسية”، ولعل الفرق لا يتجاوز جرأة بعضنا، وتحفظ الآخرين من المشتغلين بهذه العلوم، أى أن جوهر الحقائق لا يختلف كثيرا([4])، لكنه الفرق بين الشجاعة والتخفى، بين المواجهة والتسويف، المهم أن صلاح جاهين أعفانا من كل هذا، وسمى الحالة بالاسم الأكثر صدقا وصراحة.

ووصف صلاح لشخصيته على أنها “حالة”، وليست “مرضا”، يؤكد مرة أخرى  عمق بصيرته؛ إذ أن هذه التسمية تشير ضمنا أننا نتحرك فى دائرة السواء مهما استعمل صفة “العقلية” ومهما تراوح السلوك الظاهرى لما يسمى “الشخصية النوابية” Cycloid([5])  تلك الشخصية التى يتمثل حضورها فى تجليات الإيقاع الحيوى فى الإبداع.

والإيقاعحيوى هو الصفة الأساسية للوجود البشرى، بل للوجود كله، وبالتالى فهو ليس مرضا أصلا، أما لماذا يظهر سلوكيا عند البعض فى شكل دورات نوبات المزاج العادية، فى حين أنه يصبح مرضا عند آخرين فى شكل نوبات دورية لعديد من الأمراض العضوية (مثل قرحة المعدة، وتقرح القولون، وكثير من الأمراض الجلدية) والنفسية (مثل كل الأمراض النفسية الدورية وخاصة الهوس والاكتئاب)، ثم أخيرا قد يظهر فى شكل نوبات إبداع فائق عند فريق ثالث؟ فذلك يتوقف على فرص استيعاب طاقة النبض الحيوى التى تشمل كلا من: (1) السماح و(2) المجال و(3) الأداة، فبقدر ما تجد نبضات الإيقاع الحيوى مساحة للطلاقة، وسماحاً بالمحاولة، ومجالا للتشكيل، وأداة للتعبير، يكون تجليها إبداعا وحيوية وصحة، وبقدر تواضع أو ضيق أو انتفاء بعض أو كل هذا، يكون المرض.

وهذا ما ستحاول أن تبينه هذه الدراسة.

2/

عمق الحزن، وقمة الفرح، ولاَ مرض:

يعيش صلاح جاهين عمق الحزن وقمة الفرح فى نوبات معبِّرة دالة، وهو يمارس هذه المشاعر فى أوج الصحة.. والفرق بين إطلاق الطاقة دون مرض، وانطلاقها عشوائيا دون حدود أو ضابط هو الفرق بين الإبداع والمرض، ففى طور الهوس مثلا نجد أن الاهتمامات المتعددة لا تصل أبدا إلى أى هدف، أما فى حالة الصحة فهى اهتمامات وملكات تعيد تخليق الواقع وتمتلك قدرة إعادة التنظيم فى مثابرة غائية مبدعة.

وعلى الجانب الآخر فإن ثمَّ فرقاً هائلاً حتى التناقض، بين معايشة الألم مع الاستمرار فى مواجهة الحياة واختراق الصعوبات وبين الاستسلام للحزن مع الانهباط ([6]) الأول يمكن أن يكون قمة الصحة المتمثلة فى اختراق الصعوبات دون إلغاء معايشة الألم الخلاّق، والثانى هو الهزيمة المنسحبة (المسماة الاكتئاب عادة).

ظهر هذا التناوب فى إبداع صلاح جاهين عامة، لكنه يظهر بوجه خاص فى “رباعياته” التى تُمَثل جرعة مكثفة من فكر نابض، تكاد تقترب فى تكاملها من فلسفة حياة بأكملها، وهى تفى بإيضاح هذا التناوب، بين الإقبال والإدبار، أو بين الفرح والانقباض، أو بين الهوس والاكتئاب. وهذا ما التزمتْ به هذه القراءة التى لا تكتمل إلا بالعودة إلى بقية إنتاجه.

وقبل أن نعرض مباشرة لهذا التناوب الخلاق عند صلاح، بين الفرح والاكتئاب، سوف نقدم خلفية عن موقفه الوجودى اليقظ، وحيرته المبدعة المتسائلة بصفة عامّة، مع تركيز خاص على الرباعيات؛ باعتبارها جُمّاع فلسفته فعلا، وهذه الخلفية تـُعتبر، بشكل ما، بمثابة التركيب الأساس وراء تناوب الفرح والانقباض؛ مما سوف نتناوله فى الجزء الثانى من هذا الفصل.

3/

3/1

صلاح: السؤال الحائر والوجود الباحث:

يعلن صلاح جاهين موقفه الوجودى الحائر بشكل مباشر، فى كثير من إبداعاته، فيبدو وهو يدافع عن قضية وجوده، بكل الصور، وكأنه يدفع تهمة لا يعرفها، فنراه فى “قصاقيص ورق” فى موقف الاتهام، يطلق غناءه وأنينه وهو يدافع عن جريمة لا يعرف أبعادها ولا دوره فيها، وكأنه مسئول عن ذنب وجوده الذى لم يخترْه، وهو لا يجد تفسيرا لهذا “الشعور بالذنب” الذى يدفعه إلى “المرافعة”.. الباكية مرة:

مؤيد بكل أنين الكمنجات فى كل الوجود

العذبة البريئة حيناً:

بتهنينة الأمهات للعيال فى المهود

المَرِحة المنطلقة تارة أخرى:

بصوت القـُـبل.. وكل ابتسامة بحق وحقيق

فهو يحس أنه فى حياته مهاجَم بغير ذنب، متهم بغير تهمة، أمام أسياد وهميين يريدون نهش لحمه:

سيادى الحدَادِى اللى حايمهْ على رمِّتي

ولعل هذا الموقف هو الدافع الأصيل وراء انطلاقه فى كل هذا الإنتاج الفنى الوفير؛ ليواصل معركة الوجود، فهو إما أن يعبر عن صراعاته بهذا الأسلوب، وإما المرض، لذلك نجده يؤكد أهمية التنفيث بالكلام.. وإلا.

ده اللى ما يتكلمش ياكتر همه

وهو يحذّرنا من ترددنا عن الإفصاح عن نشيجنا الداخلى بالغناء

ياعندليب ما تخافش من غنوتك

كتم الغنا هوه اللى حيموتك

هذا هو ما فعله صلاح، وإن كان يبدو أنه لم يـُـغنه بدرجة كافية، إن ما يعنيه صلاح هنا بالغناء، إنما يشمل التعبير والإبداع والتناغم معا، وهذا هو المَخرج الحقيقى السليم لزخم الطاقة الذى تتفجر به النفس، ونكرر من جديد أننا ما لم نجد أسلوبا مناسبا ومجالا كافيا ومتلقيا معايشا لتشكيلات هذه الطاقة الحيوية المتدفقة التى تتجمّع فى أروع صورها فى الإبداع، وكأنها تجمع خصلات الإشعاع فى بؤرة هذا التخلّق الجديد، فإن مصير هذه النوبات هو  التشتت بغير نظام، والضغط بغير توجيه فهو المرض.

3/2

واختزال الإبداع باعتباره حلاّ لصراع نفسى، هو تسطيح لا يقدّم تفسيرا مناسبا لزخم الإبداع ودوره فى إعادة تشكيل الحياة، وصلاح، ـمثلا، لا يستعمل إبداعه لمجرد حل الصراع، أو تفريغ طاقة محبوسة، وهو لا يهدف بإبداعه أن يقوم بوظيفة التطهير التى بالغ فى وصف أهميتها أرسطو؛ ذلك أن الإبداع ليس مسألة تفريغ أو تنفيث مثل صمام إناء البخار، وإنما هناك حاجة أصيلة فى الكيان البشرى يمكن أن نطلق عليها: الحاجة إلى الإبداع، حاجة تلح فى التعبير فى أية صورة من الصور بالأداة المتاحة، وإبداع صلاح، فى الرباعيات بوجه خاص، يسرى عميقا، رصينا رائقا فى آن، حتى يبدو أنه يروى وجودنا مثلما تذوب الثلوج فى عروق الماء المنساب بين صخور الجبال؛ لتكون السيل المتجمع فى نهير جميل، يصبح مصدرا لرِيـِّـنـَا، فنبدع بدورنا ما نستطيع، ونحن نتلقاه.

 نسمعه معا وهو يشير إلى القصيدة التى ينوى أن يكتبها،القصيدة  التى تلوّح له حتى يكتبها، التى تلح عليه أن يكتبها؛ ثم إنه بكل سلاسة الوجود، يكتفى بإعلان هذا التهيؤ الجاهز، ثم يعفى نفسه من قهر الالتزام بكتابتها  :

ح اكتبها وان ما كتبتهاش أنا حر

الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة.

والقصيدة تقول من البداية:

فى يوم من الأيام راح اكتب قصيدة

عن قطتى، عن الكمنجة الشريدة

عن نخلتين فوق العلالى السعيدة

عن العـنب عن الهدوم الجديدة

عن طفل بقميص نوم

عن قوس بعد الصلا فى العيد

عن طرطشات البحر ح اكتب يوم

ح اكتب قصيدة

ح أكتبها وإن ما كتبتهاش أنا حر

 الطير ما هوش ملزوم بالزقزقة

هنا تفرقة واضحة بين “كتم الغنا هو اللى حيموتك” وبين “الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة“، وكلاهما يشير إلى وظيفة تدفق الإبداع بشكل يتجاوز مجرد التفريغ والتطهير، حتى لو لم يظهر مباشرة فى الشكل الواعِدِ به.

3/3

صلاح هو رباعياته: سيرة ذاتية:

وإذا أردنا أن نحسن قراءة مثل هذا الإبداع، فلا بد أن نحسن النظر من أكثر من زاوية معا؛ فهذا النوع من التدفق الإبداعى لا يرفض حلا لصراع، ولا يتعالى على غناء للتطهير، لكنه ينساب أبدا فى أصالة مستقلة بذاتها لذاتها، قبل وبعد هذا كله.

و صلاح جاهين يكاد، فى كثير من الأحيان، يتجاوز ذاته وهو يتقمص تاريخ البشرية، فيعلن – من خلال ذلك – روعة جدل التطور عبر خبرات الأجيال السابقة، حين تتكثف فى ذات متفردة لا تدّعى “الواحدية ” المختزلة فيما هو “أنا أكون”، وإنما تصبح نموذجا لتاريخ البشرية فى اللحظة الراهنة، وهى ممتلئة بكل حركية الوجود متعدد المستويات والوسائل واللغات:

أنا شاب لكن عمرى ولا ألف عام

وحيد ولكن بين ضلوعى زحام

 

خايف ولكن خوفى منى أنا

أخرس، ولكن قلبى مليان كلام

3/4

تساؤلات، بلا إجابة حاسمة:

وهو إذْ يطلب الجواب المحدد لتساؤلاته، يحاول أن يجد مفهوما كاملا واضحا متصلا لكل علامات الاستفهام التى حيـَّـرَته وأقلقته، ولكنه لا يجد الجواب شافيا، وكثيرا ما لا يجد جوابا ـ أصلا ـ فيقول:

أسأل سؤال والرد يرجع سؤال..؟

واخرج وحيرتى أشد مما دخلت؟

أو:

ده ياما فيه سؤالات من غير ردود؟

وهو يتساءل عن أصل الوجود:

الأصل هوّه الموت ولا الحياة ؟

وعن الإيمان:

قلبى ارتجف وسألنى أأمن بايه؟

أأمن بإيه محتار بقالى زمان؟

وعن ذاته:

دقيت سنين والرد يرجع لى: مين؟

لو كنت عارف مين أنا، كنت أقول؟

وعن حقيقة أعماقه، وما يختفى وراء ظاهره يتساءل:

يامرايتى ياللى بترسمى ضحكتي

ياهلترى دا وش ولا قناع؟

وحين تحتد أزمة المواجهة بحثا عن إجابات محددة لترجح كفة من كفتى صراع ما، ينتبه صلاح إلى أنه زودها “حبتين”؛ فيحاول أن يقنع نفسه بأن “يفوِّت”.. فالحياة لاينبغى أن تقاس بهذه المقاييس الحادة، فما بهذا الاستقطاب تحل الصراعات، وليس ثمَّ فاصل محدد -مثلا – بين الصواب والخطأ، بين الصدق والكذب، فيكتب:

وقفت بين شطين على قنطرة

الكذب فين والصدق فين ياتري؟.

محتار حاموت، الحوت طـِلعْـلِى وقال

هوّه الكلام يتقاس بالمسطرة ؟

إلا أن هذا “التفويت” لا يحضره بهذه السهولة، إن كان يحضره أصلا، فموقفه الغالب، إن لم يكن الدائم هو موقف المصارع الذى يشق طريق بقائه فى مواجهة حاسمة لحظة بلحظة، فهو يستقبل نهارا جديدا بهذا الموقف:

نهار جديد أنا، قوم نشوف تعمل إيه؟.

أنا قلت ياحتقتلنى.. ياح اقتلك

3/5

فهو ثائر فى البداية، ثائر فى النهاية، ولو بالتحطيم:

إقلع غُمـَاكْ ياتور وارفض تلف..

إكسر تروس الساقية واشتم وِتـِفْ

إلا أن ثورته ليست طفلية أو مثالية، تتمادى فى إنكار الواقع، والمغالاة فى إمكان المستحيل، فهو ينبه نفسه إلى أنه يستحيل أن يحصل على شئ إلا إذا دفع ثمنه، إلا إذا تنازل عن شيء بالمقابل:

جالك أوان ووقفت موقف وجود

ياتجود بِدَهْ ياقلبى، يابْدَه تجود

وهو يدرك تماما أن المسألة لا تنتهى بمجرد وضوح الرؤية، فحتم الاختيار لا يقتصر على التفضيل بين الغايات، بل إنه لازم-  أيضا –  فى انتقاء الوسيلة التى توصل إلى الهدف.. فالحيرة لا تنتهى حتى لو وضحت معالم الطرق، فالاختيار ممتد أبدا:

ولما ييجى النور..واشوف الدروب

أحتار زيادة… أيهم أسلكه..؟

3/6

صراع وتحدٍّ وثورة:

هذا القلق الوجودى المُلِـحّ، هو الثقل المتذبذب الذى يظل يحرك كفتى الميزان، لتميل إحداهما إما إلى الفرح وإما إلى الانقباض، إما إلى الانطلاق والامتداد، وإما إلى الانهباط والارتداد، وهذا هو البعد الذى سوف تركز عليه هذه الدراسة، بما لا يعنى أنه البعد الأوحد، ولكنّه الأظهر فى هذه الشخصية بوجه خاص، وفى هذا الإبداع (الرباعيات) بوجه أخص.

4/

4/1

تجليات “الحالة الفرحِانْقباضية” على الجانبين.

حتم التناوب:

تتكرر نوبات الوجود بشكل منتظم، لكن النوبات فى  مثل هذه الحالة ليس لها نمط محدد يلزم بالانتظام أو التناوب، فمرة ترجح هذه الكفة وأخرى ترجح تلك، والحزن ينتهى ويحل محله الفرح، والعكس صحيح، أو هو ينتهى من حزن إلى حزن إلى حزن أكبر، ثم إلى فرح يقصر أو يطول، يتكرر، لكن ما يميز هذه الحالات، هى أنها موقوتة، لها عمر افتراضى محدود عادة، (اللهم إلا إذا أزمنت حتى يتكلسُ الوجود برمـّته)، وصلاح جاهين يعرف ذلك بحدسه الفائق، وهو يلتقط إنذارات الاكتئاب، فيحذر من الاستغراق فيه، ثم يذكـِّر نفسه أنه حتى لو لم يستطع أن يتجنب حتميته، فنوبته قصيرة العمر بالضرورة:

حاسب من الأحزان وحاسب لها

حاسب على رقابيك من حبلها

راح تنتهى، ولابد راح تنتهي

مش انتهت أحزان من قبلها؟

4/2

وعلاقة هذا التناوب بفصول السنة وثيقة ([7])، ولكنها غير منتظمة، فليس هناك فصل بذاته عند صلاح جاهين يغلب فيه نوع على الآخر، ولكنّا نلاحظ أن ثَمَّ تغييرا يحدث مع قدوم الربيع أو الشتاء، ولكنه لايحدث فى اتجاه واحد، أى أنه ليس هناك تلازم واضح بين فصل بذاته ودور بذاته، فالمسألة ليست فى أن يدب النشاط –  مثلا – فى فصل الشتاء، ويسود الهمود فى فصل الصيف، أو تتفتح النفس فى الربيع، وتظلم فى الشتاء أو الخريف، بل إن صلاح يحدد أن التناسق الأعلى فى لحن الوجود، هو التناسب المتناغم الممتلئ بما هو أهل للامتلاء به، نسمع هذا الحوار:

الدنيا من غير الربيع ميــّتة

ورقة شجر ضعفانة ومفتفتة

لا ياجدع غلطان تأمل وشوف

زهر الشتا طالع فى عِزّ الشتا

4/3

وهو يحس أن الشتاء فصل مفترى عليه، فعلى الرغم مما يتساقط فيه من مظاهر الحياة، فإن هذا لا يعنى أنه فصل الموت، ففى عمق تناسقه مع دورات الطبيعة، لا يمثل الشتاء إلا إحدى دورات الإيقاع الذى لا يكتمل إلا باستمرارية دوراته، فالذى لا يموت فى الشتاء هو هذا الوجود الأعمق للمسيرة الدورية، بغض النظر عمّا يهمد من سلوك ظاهر:

دا حاجات كتير بتموت فى ليل الشتا

لكن حاجات أكثر بترفض تموت

4/4

والتناقض بين نبض الطبيعة الحيوى، ونبض الإنسان المواكب هو الذى يزيد حدة المواجهة، حتى تبدو صارخة دالة منذرة.

 وجاهين يحاور الربيع تلو الربيع حوارا حيا، متنوعا، دالا:

دخل الربيع يضحك لقانى حزين

نده الربيع على إسمى لم قلت مين؟

حط الربيع أزهاره جنبى وراح

وايش تعمل الأزهار للميتين؟

4/5

وهو يحدد مضاعفات التناقض بين طبيعة كونية تواصل دوراتها المنتظمة، وبين طبيعة بشرية لا تواكب هذا التفتّح المتولّد، فتبدو هامدة ميتة، أو هى  كالمتجمّدة، فى مواجهة نبض الكون الحيوي. يجسد صلاح هذه المواجهة فى قوله:

وانا ليه بيمضى ربيع وييجى ربيع

ولسه برضه قلبى حتة خشب

ويستقبل صلاح ربيعاً آخر، فإذا بنسمته “تكوي” بدلا من أن “تـُنـْعِش”، وبهذا الإلحاح على إظهار عدم الالتزام بما شاع – مثلا – أن الربيع فصل الحب، وأن الصيف فصل الخمول، وأن الشتاء فصل الكمون.. إلخ تتنقّل الرباعيات بإبداع خاص، لتصف تجليات المزاج المختلفة حتى التناقض مع كل ربيع بشكلٍ مغاير، نسمع معا:

نسمة ربيع لكن بتكوى الوشوش

…………………………..

هيه الحياة كده كلها فى الفاشوش؟

4/6

الربيع يكوى، والحياة فى الفاشوش إذا دارت دورته ولم  تواكب دورة الكون، أما إذا اتسقت دورته مع دورة الكون، فإن اللحن يصدح فى كل منهما فى رقصة لا مثيل لها، هذا ما يعلنه صلاح وهو يستقبل الربيع بالهتاف والصياح والفرح والأمل، يستقبله طفلا يولد منتعشا مثيرا لكل ما هو فرحة، وكل ما هو أمل، فيتوحّد به (يا طفل ياللى ف دمّى) ليصبحا طفلا واحدا يناغى بعضه بعضا، حتى ترقص بهما السعادة، فتفيض منه وبه إلى درجة أن يحب دود الأرض والغربان:

مرحب ربيع مرحب ربيع مـَرْحـَبـَا

يا طفل ياللى فى قلبى ناغى وْحـَبـَا

عشان عيونك ياصغنن هويتْ

حتى ديدان الأرض واللــّـغْرِبَا

4/7

وهكذا نخلُصُ إلى أن نرى كيف أن صلاح، فى رباعياته خاصة، قد عرّى بحدسه المبدع، الطبيعة الدورية (الإيقاعحيوية) لكل من الإنسان والكون، كما أنه قد غاص فى أطوارها إذ تتناسق وتتناغم، وإذ تتحاور وتتجادل، وإذ تتناقض ويواجه بعضها بعضاً، كل ذلك بإيجاز رائع.

ثم ننتقل لنقرأ معا كيف صوّر كلاً من طورى النبض الحيوى الدورى فى رباعياته. نبدأ بالاكتئاب:

5/

5/1

طور الاكتئاب:

فى رباعيات جاهين، تكاد تظهر كل أعراض الاكتئاب بلا استثناء، من أول عدم الاكتراث والملل، إلى الشعور بالضياع وفقدان المعنى، إلى الإحساس بتغير الكون وتغير الذات، ثم الميل إلى الانتحار أو العجز عن الانتحار، كل ذلك يتتابع فى صور – برغم مرارتها- جميلة، جميلة، حتى تجعلنا نحب ما لا يحَب، أو على الأقل نقترب من صدق معاناة من يعايشها، فى تعاطف متألم قد يُخفف عنه، وقد يشجعنا على خوض ما نخشى.

5/2

وصلاح يعايش ما آل إليه امتهان الحزن بتسميته باسم مرض (الاكتئاب). وهو يرفض هذا المنطق ويسخر منه؛ لما فيه من مساس بجلال الحزن، فحين تـُختزل الآلام البشرية إلى “لافتة تشخيصية”، تعلّق على “حالة” المريض، دون تمييز لجوانبها الإيجابية، تستأهل المسألة أن يقول فيها صلاح:

ياحزين ياقمقم جـّوه بحر الضياع

حزين أنا زيك وإيه مستطاع

الحزن مابقالهوش جلال ياجدع

الحزن زى البرد زى الصداع!

وهو فى هذه الفقرة لا يحتج فقط على اختزال الحزن الجليل ليصبح عـَرَضـا عابرا مثل البرد أوالصداع، وإنما يشير ضمنا إلى أن الحزن الحقيقى ليس فى متناول الفاحص النمطى (الطبيب عادة) فهو يشبهه مثل حزن القمقم فى عمق بحر الضياع، وهو يعلن فى الوقت ذاته ما يفرضه هذا الحزن الجاثم من شلل عاجز: “وإيه مستطاع”؟

5/3

ثم ننتقل إلى مزيد من عينات أعراض الاكتئاب المتنوعة، كما وردت بأبعادها وتفاصيلها فى الرباعيات، فنرى السلبية والتسليم، وهو يعبر عنهما بتجسيد موقف التسيير حتى يكاد يختفى الاختيار تماما، ونلاحظ أن هذا ليس موقفه الوجودى على إطلاقه، وأيضا قد يتراءى وجه شبه فى هذا الموقف التسليمى، مع أبى العلاء أو الخيام، ولكنه لا يقلدهما([8]) فهو لا يحتج على المسئولين عن وجوده (هذا جناه أبى)، كما أنه لا يهرب من واقعه بالاغتراف من لذة يعرف زيفها، ولكنه يواجه حقيقة الوجود العارية؛ فيسلم نفسه لها غير راض ولا ثائر؛ حتى يبدو سلبيا لأول وهلة.

لكن عمق الرسالة التى يبلغنا إياها تقول غير ذلك، حين نتذكر أن تحديد جانب من الرؤية حتى غاية أعماقه (من منظور جشطالتى)، هو الخطوة اللازمة للتبادل مع نقيضه (تبادل الشكل مع الأرضية)، حتى يمكن أن يكون تمهيدا لأن يقفز هذا النقيض إلى مقدمة الاختيار، فصلاح  إذ يعلن الاستسلام بهذه الصورة القصوى، يكاد يمهد للإيحاء برفضه:

مـُرغم عليك ياصبح مغصوب ياليل

لادخلتها برجليَّه، ولا كان لى ميلْ

شايلنِّى شيل دخلت أنا فى الحياة

وبكره حاخرج منها شايلنى شيلْ

5/4

فى حدة الاكتئاب يوجد عرض يسمّى “الشعور بتغير العالم من حول المكتئب”، حيث يشعر بتغير إدراك الكون والناس ([9]) وصلاح يقول فى ذلك:

والناس مهمّاش ناس بحق وحقيق

5/5

كذلك هو يرى، فى نوبة الاكتئاب: كيف أن كل شىء، مهما تنوعت صور جماله وتجليات لغاته – قد صار إلى سواد – وهو إذ يحس بالحزن فى كل ما حوله، فى الناس جميعا، فعيون الناس هى الحزينة، على الرغم من جمالها، أو ترحيبها أو شقائها، ولا يـَخْـفَى ما فى هذا من “إسقاط” شامل:

أعرف عيون هى الجمال والحسن

واعرف عيون تاخذ القلوب بالحضن

وعيون شقية وقاسية وعيون كئيبة

وباحس فيهم كلهم بالحزن

5/6

بل إنه قد يعزو (أو يـُسْـقِط بلغة الدينامية النفسية) ضيقَه وضجره إلى ما يراه من حزن فى عيون الناس الذين ينظرون إليه، والرائع فى هذا الحدس الفنى أنه قد جمع بين ما يسمّى أفكار الإشارة (التى تصل أحيانا إلى ضلالات الإشارة) ([10]) وبين إسقاط الحزن. بمعنى أن المكتئب – عادة – ما يكون شديد الحساسية فيتصوّر أن الناس يشيرون إليه، فى حين أنهم لا يفعلون، ولكنّه لا يعزو ذلك إلى حزنهم، أما صلاح فقد كثّـف إسقاط الحزن، حتى يشعر هو أن الناس تشير إليه إشفاقا، أو  مشاركة.

إيش تطلبى يا نفس فوق كل ده

حظك بيضحك وانتى متنكده

ردِّت قالت لى النفس: قول للبشر

ما يبصوليش بعيون حزينه كده

وهو يشرح، أيضا، فى هذه الرباعية، كيف أن الاكتئاب يحيطه، دون أى مبرر ظاهر، فحظه يضحك له، وأمانيه قد تحققت جميعا أكثر مما تمنّى، لكن الحزن لا يتركه، وهو فى قمّة ما يبرر سعادته ورضاه،  وعادة ما يزعم الأطباء أن هذا من ضمن المحكات التى تدل على أن الاكتئاب قد وصل إلى درجة مرَضية، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فانقضاض الاكتئاب فى قمة لحظة السعادة -هو من ناحية – إشارة إلى عمق العلاقة بين هذا وذاك، ومن ناحية أخرى، هو مألوف من منظور ثقافى حين يحرم السعيد نفسه من التمادى فى الضحك أو الفرحة، وهو على قمتهما قائلا: “اللهم اجعله خيرا”.

ثم إن فى هذه الرباعية إضافة تشير إلى احتمال أنها تتضمن جانبا ثالثا (غير الإسقاط، وغير إظهار انقضاض الاكتئاب فى قمة الفرح)، وهو أن الإنسان لا يمكن أن يسعد حقيقة وفعلا، إذا ما حقق كل أمانيه، وسعد بحظه من الحياة، فى حين أن الناس فى هـَمٍّ مقيم، إذ لا يمكن أن تكون سعادة الفرد أصيلة ومطلقة فى حين أن من حوله يعايشون الألم أو الحرمان أوالقهر، فعيون الناس الحزينة هنا ليست كذلك نتيجة لإسقاط اكتئاب صلاح عليها فقط، وإنما – أيضا – لأن فى الحياة ما يستحق الحزن، فهو فى قمة فرحته، لا يستطيع أن ينسى ذلك.

5/7

ويزيد الاكتئاب، وتصبح الحياة بلا مبرر ولا معنى، ويرى أن الهم والملل مشترك بين الحيوان والإنسان، لأنها الحياة هكذا، وهو لا يجد مبررا حتى للانتحار، وهذا من أعمق درجات الاكتئاب؛ حيث يستسلم الإنسان، ولايقدر على أى شيء بما فى ذلك إنهاء حياته.. ولا يجد معنى لأى شىء حتى للتخلص من اللامعنى، فيقول: 

الدنيا أوضة كبيرة للانتظار

فيها ابن آدم زيُّهْ زى الحمار

الهم واحد والملل مشترك

ومفيش حمار بيحاول الانتحار

5/8

وأحد أشكال الاكتئاب، يظهر فى شكل الإفراط فى السخرية اللاذعة التى تكون عدمية (أوإعدامية)،  نرى ذلك حين يسخـَر صلاح حتى من الطير فى السماء، ويذكّــره بالموت والعفن اللذين ينتظرانه، وكأن صلاح من فرط اكتئابه يرفض أن يرى كائنا حيا مخدوعا بالحياة؛ فالطير مهما طار مزهوا باختراقه السماء، وبالسباحة فى الأعالى، هو كائن له نهاية لو أدركها لهبط إلى جاهين، وإلينا، يشاركنا أحزاننا فى انتظار المصير المحتوم: فى الطين طعاما للدود، وإن كان الأمر لم يقتصر على التخويف المألوف من أن يأكلنا الدود فى القبر، بل إنه رسم صورة أبشع. حين جعل الطير – وجعلنا ضمنا- نمص الدود كما يمصّنا الدود، هذا تصوير أقسى وأرعب، فمن ناحية هو ينبهنا إلى ما يمكن أن يسمى وعى الموت (وليس فقط الوعى بالموت)، حتى فى القبر. ومن ناحية أخرى، فإنها تذكرة ضمنية ساخرة بأن هذا الطير المغرور لن يجد فى القبر إلا الدود ينتظره ليعرف قيمته.

ياطير ياطاير فى السما طظ فيك

ما تــفــتكرش ربنا مِصْطفيك

برضك بتاكل دود وللطين تعود

تمصّ فيه ياحلو، ويمصّ فيك

وهنا، أيضا، إشارة إلى وهم غرور الإنسان بالتفوق؛ حين يصل الأمر إلى أن يتصوّر أنه يقف على قمة هرم الأحياء جميعا، فى كل أنحاء الكون، بل إن الكون مخلوق من أجله، وإذا كان كوبرنيكس قد كسر هذا الوهم من حيث إعادة تحديد موقع الأرض كوكبا تابعا متواضعا، فإن الإنسان لم يستطع بعدُ أن يمارس فضيلة التواضع بشأن نفسه واصطفائه ومركزيته فى الكون عامة، وصلاح جاهين ـ هنا ـ يبشر أيضا، ولو بطريق ضمنى، بثورة كوبرنيكسية بشرية، من خلال هذا الإبداع الجميل.

5/9

كيف الخلاص؟

فإذا كان طور الاكتئاب بكل هذه المرارة الجاثمة، والسواد المحيط، فكيف الخلاص؟ هل هو فى إحياء الأمل؟ قد ينفع هذا مرة؛ إذا كانت الحالة هينة، ولكن إذا تكرر الاكتئاب واحتد، فإن ضياع الأمل هو من أخطر مراحله وأقساها، وعلى ذلك، فالجرعات العابرة حتى الأمل، ليست إلا مُسَكِّنًا مؤقتا.

شاف الطبيب جرحى وصف لى الأمل

وعطانى منه مقام يادوب ما اندمل

مجروح جديد يا طبيب وجرحى لهيب

ودواك فِرِغ منّى وإيه العمل؟

وصلاح ينبهنا هنا إلى خطأ شائع بين الأهل، وأحيانا كثيرة بين الأطباء، حين يتطوعون بكل حماسة بالمبادرة بالنصح، والتلويح بالأمل، والحديث عن الغد، ولا فائدة إلا التسكين المؤقت الذى- عادة – يزيد من الوحدة، فالغوص فى أعماقٍ أخطر من الاكتئاب.

ويرى صلاح أنه إذا كانت “وصفة الأمل” المسكـَّنة، لا تفيد إلا لتسكين مؤقت، فإن لمسة حب حانٍ قد تكون هى الدواء الناجع، فصلاح إذ يسأل الطبيب عن حالة قلبه، يردّ الطبيب مشخّصا مداويا:

قالى لقيته مختنق بالدموع

ومالوش دوا غير لمسة من إيد حبيب

ولا أريد أن أدخل فى مزيد من التفاصيل التى تفسد حتى هذا الدواء،  لكن ينبغى أن أشير – أيضا- إلى أن المكتئب وهو فى شدة الحاجة إلى من يشعر به، ويحنو عليه، ويراه، ويشاركه، قد لا يستقبل ذلك بترحاب كاف، بل إنه قد يمسخه، ويـُفشله، وليس معنى أن “صلاح” – هنا- قد ذكر وصفاً لهذا الطبيب الأحذق الذى لم يكتف بالتلويح بالأمل، بل تمادى إلى الإشارة إلى فاعلية الحب الحقيقى، ليس معنى ذلك أنه قد أقر هذا العلاج دون تردد، فالشروط الواجب توافرها فى هذه “اللمسة من إيد حبيب”؛ حتى تعين على الاكتئاب وتخفف منه أو تزيله، هى شروط بالغة الدقة وأيضا الصعوبة، تبدأ من موضوعية الرؤية، لا مجرد الملاحظة، وعمق التعاطف لا مجرد الشفقة، وصدق المعايشة وعمقها،لا مجرد ظاهر المشاركة، بل إن من يغامر بممارسة ذلك الحب المشارِك مع مكتئب صادق، قد يصاب هو معه بالاكتئاب، وهذا وارد لأن هذا النوع من الاكتئاب مـُعـْدٍ فعلا، فالمسألة تحتاج إلى مزيد من التعاطف والمشاركة الإنسانية، وأحيانا إلى دعم تسكين كيميائى مساعد؛ حتى يمكن أن نجتاز الأزمة بقدر الإمكان.

6/

6/1

طور الفرح

يتبادل طور الفرح مع طور الاكتئاب – كما أشرنا-  بلا انتظام ملزم، وفى أحيان كثيرة، تكون النقلة مفاجأة قصوى، وغير مبررة بالواقع المحيط أو الأحداث الجارية، وهذا ما يؤكده “صلاح” حين يعلن أنه، فجأة، وبدون مقدمات يصحو من النوم ذات يوم؛ ليجد نفسه فجأة بلا هموم  يجد نفسه وقد غمرها الصفاء، أو أحاطت بها راحة شاملة غير مفَسَّــرَة، يغمره شعور رائق، وتمتلئ نفسه بالبهجة والرغبة فى الحياة، والإقبال عليها فيقول:

فى يوم صحيت شاعر براحة وصفا

الهم زال والحزن راح واختفي

ومرة أخرى يصف كيف يأتيه الفرح غامرا، دون مقدمات، مثل لسعة كرباج:

كرباج سعادة وقلبى منه انجلد

رَمَح كأنه حصان ولفّ البلد

ورجع لى نصِّ الليل وسألنى ..ليه

خجلان تقول إنك سعيد يا ولد

وهكذا يذكرنا صلاح أولا بطعبية هذه النقلات ومفاجأتها وثانيا ربما نتذكر أيضا كيف نخاف – حتى فى الأحوال العادية – من إعلان فرحنا (اللهم اجعله خيراً) وكيف نخجل من الاعتراف بحقّنا فى السعادة؛ حتى نحتاج إلى سوط يذكّرنا أن السعادة هى انطلاقة إلى الناس، ومعهم “نلفّ البلد”، فليس فيها ما يستأهل الخجل أو الإنكار.

6/2

 وهو – فى حالة الفرح – يرى الطبيعة مبتهجة مسرورة، حتى يرى فوران صدور الصبايا، نوعا من دلعها الظريف، فيذكرنا كيف كان فى طور الاكتئاب يـُسقط حزنه على عيون الناس من حوله، ثم يأتى – هنا – ليسقط فرحته على الطبيعة ودلعها، الذى يبرر انطلاقة البنت فى رحابها:

ياللى نهيت البنت عن فعلها

قول للطبيعة كمان تبطل دلع.

وهو يمضى فى وصف هذا التناغم الرائق، بين الطبيعة الجذلة والنفس المنطلقة، بأكثر من صورة، فى أكثر من موقع :

غمّض عنيك وارقص بخفّة ودلع

الدنيا هية الشابة وانت الجدع

وتغمره السعادة وتصبح أصوات الطبيعة متسقة رائعة، يجتمع فى رحابها شمل الأحبة، ثم يمتد الإسقاط والتعميم حتى يتساءل: هل كل الناس هكذا سعداء:

مزيكة هادية الكون فيها انغمر

وصيف وليل وعقد فل وسمر

يا هلترى الناس كلهم مبسوطين

ويا هلترى شايفين جمال القمر

ثم هو يمضى يغنى للجمال، ويناشد قلبه أن يرفرف بين ضلوعه، يستبعد احتمالات الهم، بل يئدها قبل أن تولد، وهو يقول:

انْشِدْ يا قلبى غنوتك للجمال

وارقص فى صدرى من اليمين للشمال

ماهوش بعيد تفضل لبكره سعيد

دا كل يوم فيه ألف ألف احتمال

6/3

وهو ينبهنا هنا إلى عمق “الآن”، وأهمية “اللحظة”، فى طور الفرح، وأن الأخذ بالمبادرة فى تعميقها، هو من أهم ما يمكن أنْ يطلق ما بها من ثراء واعد، وكأنه بهذا يرد على ما سبق أن أشرنا إليه، فى شرح خطابه لنفسه التى تلغى حقها فى التمتع بنعم الله عليها، قائلا:  “حظـَّك بيضحك، وانتِ متنكّدة”، وكأنه يدعونا إلى أنه بدل أن ننتظر هجوم الغم علينا، ونحن فى قمة فرحتنا (اللهم اجعله خير) علينا أن نسمح بانطلاق احتمالات الحياة بكل زخمها ووعودها، وليس فقط بالتسكين والتطمين الزائف “دا كل يوم فيه ألف ألف احتمال”.

وهو يشير إلى أن هذا الصدر المفتوح لاحتمالات بلا حصر، هو قادر على أن يقصـَّر عمر الغم حتى يلغيه قبل أن يبدأ:

والـْهـَمّ قبل ما ييجى يبقى مَضَى

6/4

وهذه الحال من غلبة الفرحة، والأمل، والانطلاق، لا تلغى الأمل الحقيقى، وإنما تخترقه، حتى لو لاح هذا الألم، وألحّ ليعلن عنه بالتعبير والتوجع مثلا، أو حتى بالإبداع، فإنه قد يقابـَـلُ بغلبة الأمل، وفرحة الطفولة الطازجة؛ فينهزم أمامها دون أن يُنـْكَر أو يختفى.

غمست سنك فى السواد يا قلم

عشان ماتكتب شعر يقطر ألم

مالك جرالك إيه يا مجنون وليه

رسمت وردة وبيت وقلب وعلم؟

وهو يردد هذا المعنى من جديد؛ حين لا يطاوعه قلبه أن يشكو:

وفتحت قلبى عشان أبوح بالألم

ما خرجش منه غير محبة وسماح

وهنا تجدر الإشارة إلى وعى صلاح بخطأ آخر يرتكبه الأطباء والمعالجون والأهل (مثلما ذكرنا عن تخديره بمجرد التسكين بالأمل)، وهذا الخطأ هو فى المبالغة فى فائدة تشجيع المكتئب على أن يعبّر عن اكتئابه، وأن يصف أعراضه، وكأنه بهذا يفرّج عن نفسه؛ فالبوح بالألم، ليس دائما هو الحل، بل إنه كثيرا ما يضاعف الحالة، حتى أن تجاوز البوح بالألم لصالح معايشة الفرحة، وإطلاق الأمل وتفريعات الاحتمالات يتم تلقائيا مع النقلة إلى الجانب الآخر(جانب الفرح)، كما أشار صلاح هنا “ما خرجشى منه غير محبة وسماح”.

6/5

وتستمر السعادة غامرة وهو بين الناس، ولكنها – أيضا- سعادة داخلية تنمو وتزدهر حتى فى وحدته وبدون سبب، سعادة تخترق حاجز الزمان والمكان، وكأنه يعيش فى بؤرة وعى الكون، إذ يقول:

إيديّا فى جيوبى وقلبى طِرِبْ

سارح فى غربهْ، بس مش مغْتِربْ

وحدى ولكن وَنْسَانْ وماشى كده

وبابتعــد ماعرفش أو بـاقترب

6/6

ويدفعه الفرح إلى محاولة التحليق فى سماوات الأمل، وليس المهم فى هذه الأحوال أن يكون تحقيق الأمل بعيد المنال، ولا أن يصل إلى غاية المراد؛ ولكن المهم أن يرتوى بنشوة المحاولة، وكأن السعى حتى إلى المحال فى ذاته وهو مصدر للسعادة، بغض النظر عن تحقيقه:

أنا اللى بالأمر المحال اغتوى

شفت القمر نطيت لفوق فى الهوى

طـُلته ما طلتوش إيه أنا يهمنى

وليه.. مادام بالنشوة قلبى ارتوى

6/7

كما ينتهى الاكتئاب بالزهد فى الحياة، والتفكير فى التخلص منها والانتحار؛ يتصف الهوس فى قمته بحب الحياة فى أى مكان، وفى أية صورة؛ لأنه حب غالب غامر فياض، ينطلق إلى لب الحياة فى أى شىء، وكل شئ، فيصور ذلك لنا بقوله:

أحب أعيش ولو أعيش فى الغابات

أصحى كما ولدتنى أمى وَبـَات

طائر، حـِوان، حشرة، بَــشَرْ، بس اعيش

ما احلى الحياة حتى فى هيئة نبات

7/

خلاصة القول:

هذا هو صلاح ينبض بالحياة، وهو يصف لنا أعماق أعماق وجوده، وهو يترنح بين الحزن والفرح؛ فيكاد يغرى الناس أن يحزنوا مثل هذا الحزن، حتى بمغامرة المرض، ثم هو يكاد يصوّر لنا أن مكافأة من يجرؤ فيحزن، هى أن يغمره فرحٌ رائع ليس كمثله شىء، هذا هو الحزن الأصيل بكل جلاله، ثم هو الفرح الطاغى بكل زخمه، فى شخص واحد بكل حيرته وثورته وفنه ونبوغه .

مرة أخرى نتذكر كيف أن صلاح يعلّمنا، أو هو يحذّرنا، أن يكون هدفنا الأول من  وصف الحالات النفسية، هو أن ننتهى إلى تعليق لافتة لها اسم لاتينى؛ إذ إنه لا يترتب على ذلك، إلا ما هو تجريد للمشاعر الإنسانية من روعتها وجلالها، لتصبح فعلا مثل البرد أو الصداع.

هذا هو صلاح: وجهٌ رائع يفيض أصالة وإبداعا،  وفى الوقت ذاته، فهو وجه فرحانقباضى، نابض مبدع، يعلمنا كيف نحرص على التناغم مع الإيقاع الحيوى الذى لا يكون مرضا إلا إذا كان الحزن مقيتا ومُشلا أو كان الفرح هيجة زائطة مشتِّتَة.

الفصل الثانى

بداية الدراسة المقارنة

  • رباعيات جاهين
  • عمر الخيام
  • نجيب سرور

 

تمهيد:

هذه المحاولة هى مجرد لمحات دالة، لعلها تمهيد لدراسة شاملة، فالمسألة تستحق.

سوف تبدأ برباعيات جاهين انطلاقا مما جاء فى الفصل الأول، وسوف نحاول أن نقلل من التكرار ما أمكن ذلك، ثم ننتقل إلى رباعيات الخيام وهو يدعونا إلى ما لم يعينَهُ لنختم برباعيات سرور وعلينا أن نرتدى دروع الوقاية من صواريخها العابرة لكل معدات الأمان.

أولاً: رباعيات جاهين

صلاح جاهين

مقدمة:

لا مفر من بعض الإعادة، حيث كما ذكرنا: صلاح هو رباعياته ورباعياته هى شخصه، وأنت تجد نفسك مع رباعيات جاهين طول الوقت وسط جوقة من الأنغام الحانية على الرغم من عمق الألم، وسوف يصلنا النبض الصادق على الرغم من تكاثف الحيرة، وقد تظل هذه الرباعيات أحد المراجع الأساسية لفهم الإنسان والكشف عن طبيعة النفس البشرية، وهنا لابد من الإشارة ابتداء إلى أننا إذا بالغنا فى الخلاف حول قضية العربية والعامية (وأنا مع الأولى دون تردد) فإن ذلك، فى مجال الإبداع، ينبغى أن يقتصر على أعمالٍ بذاتها، وأن ينتفى تماما من مجال النقد، خاصة ما يسمى بالنقد النفسى؛ ذلك لأن دراسة النفس تهتم بالعينات الأصلية التلقائية، والعامية هى الأصل فى طلاقة الفكر، وتلقائية التعبير، نحن نحب بالعامية، ونضحك بالعامية، ونحلم بالعامية،  ولهذا لا بد أن نعاملها معاملة اللغة النابضة الأصل، وخاصّة ونحن نحاول أن نعرف ما هو نحن، وكيف نحن، فالدعوة إلى احترام الإنتاج العامى الصادق والجاد يبرره، على الأقل ، أن النـقاد يتعاملون مع النص بلغة أجنبية، كما هى، أو كما ترجمت إلى العربية، أفلا يجدر بنا أن نعطى  النص بالعامية  نفس قدر الاهتمام؟ وحتى لا نبالغ فإن كل ذلك لا يعنى تفضيل العامية على الفصحى، ولا يعنى كذلك العكس، كل ما فى الأمر هو احترام معنى ما هو “لغة”، واستعمال كل لغة فى مجالها، ولأغراض بذاتها، والعامية فى هذا السياق، النقد، ودراسة النفس، لها قيمة في ذاتها بذاتها.

الفرض:

 تناسب جرعة الأمان مع جرعة التوجس الإيجابى:

جاهين يصحبنا فى أمانة مع رحلته بين الداخل والخارج، وهو لا يقف موقف الناصح  الواعد، ولا يلوّح بحل بذاته (اللهم إلا الائتناس والاقتراب من الناس أحيانا..)، كما أنه لا يهاجم أحدا مقاتلا (مبادئا أو مدافعا)، بل يبدو أنه قرَّر ألا يهاجم، لا عجزا، ولكن رحمةً، ورقّةً، وتألما مشارِكاً.

والفرض الذى نبدأ به هو أن صلاح جاهين يبدو كما ظهر فى الرباعيات، أنه قد عايش جرعة حقيقية وأصيلة من الأمان (منذ الطفولة فى الأغلب)، تمتع بها بلا خوف، ولكنه لم يرتو تماما، ولم يؤلف ابتداء بينها وبين نقيضها، ولم يستغرق فيها. وفى الوقت ذاته لم ينكرها أو يتنكر لها، فجاءت رحلته (فى الرباعيات أساسا وفى غيرها) تعلن حيويتها، وتستنشق هواء رياضها، وتقطف أحيانا من ثمارها. ويبدو أن توازن هذه الجرعة وحركيتها قد اكتملا بالحصول أيضا على جرعة مناسبة، ربما أقل، من التوجس “الصحى الإيجابى”.

ولم يكن هذا التوازن تسوية ساكنة، ولا هو ولاف  نموى  منطلق فى ذاته، بل يبدو أنه كان حركية إيقاعية دؤوب جعلت الاستعانة بفعل الإنتاج الإبداعى بمختلف أدواته، إلحاحا لا يهمد، وهكذا واصل صلاح توازنه وهو يمشى على حبل الوعى الوجودى الحاد الذى من بعض عطاياه ما  تركه لنا فى هذا العمل الفذ “الرباعيات” بما فيها من دلائل دوام  الحركة والتناوب والحيوية.. وفى الوقت ذاته بما تعلن من أن ثم افتقارا مازال يلح طول الوقت، افتقاراً إلى شىء ما، ثم جوع طيّب متجدد، لا هو يرتوى، ولا هو يتمادى فى سعار جشع،  ولا هو ينخدع بتسكين مخدّر.

ولكى يسمح هذا التوازن الحركىّ بهذا التناوب الخلاق، فإننا نتوقع أن تكون جرعة الأمن (مع وجود جرعة التوجس) حقيقية وعميقة، وفى الوقت ذاته، ناقصة وواعدة.

وبتعبير أصعب: إن مصدر نبض الوجدان الفرحِـانـْقباضى هو نوع من الأمان المسنود بدعم  إيجابية التوجس.

 وهذا النوع من الوجود يتجه طول الوقت إلى موضوع “حقيقى”، (الآخر/الناس)، بما يحمل من مخاطر الألم، ومكابدة العلاقة الصعبة الموضوعية الحيّة، لكنه يستمر ومن ثَمَّ الإبداع النابض.

لم يقف صلاح خطيبا فينا أصلا، بل أخذ يناجى نفسه على مسمع منا، يهدهدها ويهدهدنا، لم يدْعُ إلى اللذة كحل سحرى (الخيام)، ولم يقدس “الآن” شكا فى كل احتمال آخر، وفى الوقت ذاته هو لم يلهب ظهر أحد، أو يبصق فى وجه عابر(سرور) مهما عاش وحدة مرارة الهجر أو القسوة أو التغافل، كذلك مهما طالت عليه حيرته، وأحاطته مخاوفه، جملة مفيدة، وصلتنى منه من خلال رباعياته جعلتهُاَ فرض هذه القراءة، هذه الجملة تقول:

محتار بحق، وأحبكم مهما فعلتم، والموت ثقيل الظل، ولست قادرا على الكره أو القسوة أو القتل، مهما غمرنى الحزن.. قلت لكم: أحبكم .. وسأموت وسطكم فهل تسمحون أن أحيا بينكم؟ بكم؟ حزينا فرحا مثل الطقس والفصول ودورات الليل والنهار؟! أستأذنكم أن تقبلونى؛ حتى يحين حينى.. ولنفرح معاً، ونحزن معا ما أمكن ذلك، ويبدو أنه ممكن..، ولكن.. لماذا كل هذا؟ ومع ذلك فيمكن أن نعيش،… لِـمَ لا؟

من المنبع إلى المصب:

هكذا يمكن أن نواصل قراءتنا لرباعيات جاهين بدءًا بهذا  الفرض الذى يشير كيف أن جاهين يعلمنا، إذ يعايش صدق وعيه، أن فرحه واكتئابه ينبعان من هذا المصدر المشترك الواحد، وهو: تلقى جرعة طيبة من الأمان الأساس، دون إلغاء التوجس، وهذا يعد ـبالتالى، بإمكان عمل علاقة حقيقية بالآخرين.

هى رحلة حيرة صادقة، وتساؤل متكرر، ومواقف متبادَلَة، ونقائض مواجهة ومشاركة (وإلى درجة أقل: مصارعة شريفة معلنة)، وجاهين يقبل ويستطيع أن يقف متواضعا أمام “السؤال” دون الإسراع بالإجابة، فهو لا يهرب من السؤال ولا يستعجل الإجابة باعتبار أن السؤال هو  فعلٌ وجودىُّ فى ذاته، كذلك هو لا يلغى أحد شِقَّىِ السؤال بالاندفاع الهجومى (مثلما سوف ترى فى رباعيات سرور)، أو حتى الغزل فى التسكين اللّذى (كما عند الخيام)، جاهين يحتمل الغموض دون سخط رافض، ويقف أمام التناقض بصبر يقظ، وهذا هو ما يميز هذا النوع من الوجود الدورى النابض.

يا باب أيا مقفول إمتى الدخول

صبرت يا ما واللى يصبر ينول

 (12/211) ([11])

من هنا البداية:”من أنا؟“.

وكأن الإبداع عند جاهين – فى هذا العمل تحديدا: الرباعيات – هو محاولة معرفية ذاتية مجاهدة صابرة مثابرة (سنين) لا تتخطى الذات، بل تبدأ بها، فجاهين يحسم الأمر إذ يعلن صراحة محاولاته الدؤوب نحو  تحديد “من هو؟” بل “ما ليس هو” أيضا، وجاهين لا يقتصر فى محاولته تحديد معالمه على جانب ظاهر من ذاته، بل هو يغوص فى طبقاتها مهما كان الثمن، ثم إنه لا ينسى أن يعرُج على  جسده بموقعه المحورى كذات بدنية عيانية لوجوده، ولعل ممارسته لإحدى صور الفن التشكيلى (الكاريكاتير) قد ساعدته فى ذلك بشكل مباشر، وصورة “العبد لله” (التى تمثله شخصيا) ظلّت تحضر فى رسومه بشكل دال، كما أن علاقته بجسده لم تكن غير مباشرة فى شعره، دون استثناء الرباعيات، نسمعه وهو يـَقـْبَـلُ جسده فى سخرية حانية:

إزاى أنا يا تخين بقيت بهلوان!!

(22/216)

وهو لا يقدّم لنا ماهيته فخورا بها هاجيا الآخرين (قارن سرور فيما بعد) بل يتساءل فى صدق مباشر عن معنى ظاهره، وما يتبدّى له :

يا مرايتى يا للى بترسمى ضحكتى

يا هلــترى دا وش ولا قـــــناع([12])

(25/218)

وهو إذ يتعرف على نفسه، يحد من غلوائها، (عكس فخر سرور)، ويعلن ذلك من خلال الإسقاط حينا، والتعميم حينا:

إنسان أيا انسان ما أجهلك

(42/226)

حُقرا وفوق كوكب حقير محتقر

(107/259)

وهو بذلك لا يحقر نفسه؛ ولا يحقّرنا بالتالى تبريرا للعجز؛ أو تشريعا لليأس، بل هو يفعل ذلك فيما يبدو تواضعا حافِزا، على طريق حفز لانطلاق ليس له حدود:

أنا اللى بالأمر المحال اغتوى

(102/256)

وهو فى بحثه عن ذاته يتفلسف بالمعنى المعايِشى الفعلى، على الرغم من نقده لسوء فهمٍ ما شاع عن الفلاسفة.

ما تعرفوش إن الفلاسفة يا هوه

اللــى يقولوه بيرجعوا يكدِّبوه

(40/225)

وهو فى معايشته فعل الفلسفة، يتجاوز ويعلو، حتى ينظر إلى عالمنا، وإلى مسارنا، وإلى نفسه، من موقف مترفع، لكنه ليس متعاليا على كل حال:

على بعد مليون ميل من أرضنا

(41/226)

وهو يعلن ـ على الرغم من كل ذلك ومعه، محورية وجود الإنسان فى الكون، وكذلك موقفه من طبيعة المعرفة وكأنه يلخص الفلسفة فى شطر بيت واحد من رباعياته:

والكون دا كله جوه عقل البشر

(107/259)

الحركة والتغيير (فى الإنسان، والطبيعة)

نستطيع القول مباشرة إن الحركة والتغيير هما أهم ما تقدمه رباعيات جاهين. وذلك فى مقابل الألم واللذة عند الخيام، والكر والفر عند سرور، ورباعيات جاهين تعلن ذلك أحيانا بشكل مباشر، كما يمكن أن نستنتجه من خلال حيويتها الغامرة، والمغامرة، من بعد غير مباشر.

وتقفز الصورة المباشرة  إلى وعينا وكأنها الحق النابض طول الوقت، وهى تعلن عن فكرة نفسية قال بها أتورانك، وإريك إريكسون، وبيرلز، والرخاوى،([13]) وغيرهم كثير، وهى حتم استمرار الحياة من خلال تكرار الموت والولادة؛ بحيث لا يتوقف النمو والتوليد إلا بدخول القبر.

أنا كنت شىء وصبحت شىء ثم شىء

……

لا بد ما يموت شىء عشان يحيا شىء

(66/228)

 والمهم هنا استقبال كيف أن الكيان نفسه الذى يبدو وكأنه يموت، هو هو الكيان الذى يـُنتج المولود الجديد، فإعادة الولادة، إنما تعنى خروج الجديد الطازج من جوف القديم الزائل، ولكن محتوِيًا إياه (الجديد يحتوى القديم، لا يلغيه، ولا يحل محلّه).

وهذه الصورة المباشرة تظهر واضحة فى مُواكبة الرباعيات لتغيرات الطبيعة، وهى مواكبة جدلية وليست مشاركة مُسْتسلِمة، فالصور تتلاحق بين فصل وفصل، وبين نهار وليل، وبين نبض ونبض. وجاهين يصدم اللذين اعتادوا رؤية حركة العالم فى استقطاب مسطح، وكأن الربيع دون الشتاء، مثلا، هو فصل الحياة، وكأن هذه الفصول لا تكمِّـلُ بعضها بعضا، بل تقابل بعضها بعضا استقطابا، وهو، إذ يؤكد هذا البعد الجديد الذى يرفض هذا التسطيح والاستقطاب الخطِّى، يذكـّرنا بأنه “مثل الطبيعة مثل الإنسان”، فلنتعلم منه وهو يقول:

وحاجات  كتير بتموت فى ليل الشتا

لكن حاجــات أكتر بترفـض تموت.

(60/235)

فوظيفة الشتاء، ومكافئاته داخلنا، ليست الكمون الميت، كما يبدو ظاهرا ـ وإنما الانتظار المستوعِب، وهو الحمل الضرورى للولادة المتكاملة، وما يموت في الشتاء، هو ما ينبغى أن يموت، وهو ما يلائم هذا الطور من الدورة، وليس الأمر مجرد إعلان موت أشياء، بذاتها دون أخرى، وإنما هو تأكيد أن كفة الحياة (رفض الموت) هى الأرجح دائماً(لاحظ لفظ “أكثر”: لكن حاجات أكثر بترفض تموت)، لاحظ الفرق بين تعبير “بترفض تموت”، والتعبير السلبى الذى لم يقله صلاح “لا تموت” (ما بتمتش) فرفض الموت يولدّ حياة أكثر زخما وإقداماً.

 ثم إن المسألة ليست  كما شاع من اختزال قبيح يشير إلى أن الشتاء يعنى الموت، فى حين أن الربيع  يعنى الولادة، (أنظر الفصل الأول)،  وإنما تكون الحياة فى أروع صورها؛ حين تتناسب مع مكوّناتها، “زهر الشتا طالع فى عز الشتا”.

والشتاء قد يكون حَمْلا لما سوف تنجبه الحياة فى الربيع، فإذا كان الربيع هو فصل الولادة، فالشتاء هو الرحم الحانى الذى أدّى إلى هذه الولادة، كما أشرنا فى الفصل الأول.

والالتقاء بين ولادتنا من داخلنا، وولادة الطبيعة (إعادة تفتحها وبسطها)، تظهر فى هذه الرباعية فى تكاثف لا يحتاج إلى شرح.

والولادة… ليست دائما بهجة وفرحة، نذكر فى ذلك مثلا: أوتورانك وهو يتكلم عن صدمة الولادة، وحين تغلب الصدمة (ربما الواقعية) على المناغاة (الطفلية)، يعلن جاهين أنه: “نسمة ربيع لكن بتكوى الوشوش” (50/220)

ومع أن جاهين قد صدمنا أحيانا فى الربيع نفسه، إلا أن صدمته لم تسلب من الربيع بهجته، وإنما أعلنت أن الولادة تصبح هى التغيير المتجدد، إذا تواصل الاتصال بين الأم (الرحم ـ الطبيعة) والمخلوق الجديد، أما إذا كانت الولادة هى انفصال الطفل قسرا عن الأم، وليست امتداد الأم طوعا فى الطفل، نتجت  هذه المضاعفات التى التقطها حدس الشاعر وأعلنها، فنسمة الربيع يفترض أن تكون نـَـفـَس (بفتح الفاء) الأم الهادىء، وقد انتقل طفلها إلى حضنها (العش الجديد: بديل الرحم المرحلى)، وهى إذا لم تكن كذلك فإنها النار الكاوية؛ لأن هذا الطفل يولد فلا يجد إلا ريحا تصفع وتكوى، ما دام الطير بدون عش حقيقى: رحم الدفء الأموى.

ومن واقع  إفاقتنا للوجه الآخر للشتاء ثم صدمتنا المحتملة([14]) فى الربيع ،يتم  الحفز لنرى  الشتاء والربيع داخلنا أيضا، وليسا مجرّد فصلين فى الطبيعة؛ فجاهين بما فعل لم ينتقص من الربيع بهجته، ولم يسلب من الشتاء وقاره وجديته (ورهبته) – كما أشرنا فى الفصل الأول – بل إنه أتاح لنا أن نرى نبض الحياة ممتدا بلا انقطاع، سواء بتصحيح فكرتنا عن السكون الذى قد لا يكون موتا بل كمون الحمل (الشتاء)، أم بالولادة الجديدة (الربيع) التى تحتاج منا إلى وعى وامتداد متصل.

هكذا يعلمنا جاهين بعدا مهما يضيف إلى مفهوم ما هو سعادة، أو ما نتصوره كذلك، فهو يعلمنا أن المهم فى نغم الحياة المتكامل، هو تناسب الشىء مع أصله وطبيعته، فـَرَوْعةُ الحياة تظهر فى تلازم زهر الشتاء مع الشتاء، وتناغم طفل الربيع مع زهر الربيع. وحوار الإنسان مع الطبيعة لا يعنى الاتفاق فقط، بل يعنى التكامل أيضا، وأساسا.

نبض الطبيعة.. وتفتح الحياة

يؤكد جاهين كيف أن الإيقاعحيوى للطبيعة يجعل الغصن الجاف مثل عود الحطب يتفتح زهورا عجبا مع قدوم الربيع

تِسْلم يا غصن الخوخ يا عود الحطب

ييجـى الربيع.. تطلع زهورك عجب

 (69/240)

وهو يواصل كما ذكرنا التأكيد على علاقة “حركة” الطبيعة فى فصولها المتعاقبة، مع حركة الإنسان فى فصوله (أطواره) المتتابعة، وأن تناقض الحركتين أو اختلافهما يـُحدث تناقضا مؤلما يثير جدلا خلاّقا حتميا لمسيرة النمو (وقد يحتدّ حتى يصل إلى درجة المرض).

تعالوْا نرى الاختلاف حتى المواجهة فى تناقض يعرّى الموت حتى تشعر أنه لا مفر من الإحياء.

دخل الربيـع يضحــك لقانى حزين

نده الربيع على إسمى لم قلت مين

حــط الربيـع أزهــاره جنبى وراح

وايـش تعمـل الأزهــار للميتين؟!

(24/217)

هنا نقف احتراما لهذا الموت الذى يستقبل الربيع، ويستمع لندائه ويلمس أزهاره، ثم يعلن عجزه (كنقطة انطلاق جديدة غالبا)، لكنه ليس النهاية، ذلك أننا نلاحظ أن صلاح جاهين وهو يعلن موت  قلبه المرحلى، وعجزه عن مواكبة حركة الطبيعة النابضة، لا يستسلم، وما دامت الحركة حتما، فالانتظار صعب، واليأس أيضا كذلك، والنصر فى النهاية لمواصلة النبض، والتجديد، والنمو، الإبداع.

يأسك وصبرك بين إيديك وانت حر

تيـأس ما تيـأس الحياة راح تمر

أنا دقت مندا ومندا عجبى لقيت

الصبـر مـر، وبرضك اليأس مـر

(95/253)

الحركة والتناقض والديالكتيك:

الحركة هى الحياة، والحركة الحياة هى نتاج الجدل الصعب، الذى لا يُفهم إلا بتحمّل الغموض المعلَن، وكأنه الحيرة، لكنها حيرة الدهشة وليست حيرة العجز، وجاهين إذ يدرك ذلك كأساس للمعرفة، يكاد يتعالى على العقل السطحى الذى يلف حول مشكلة جانبية، مثل مشكلة الجبر والاختيار.

لا تـُـجبر الإنسان ولا تخيره

يكفيه ما فيه من عقل بيحيره

(108/259)

وتكاد القراءة الأولى، ترفض نفى الاحتمالين معا، ولكن الرؤية الثانية تقول إن العقل يحمل نبض الحركة التى تحدد الخطوة التالية، وفى الحركة يتداخل الجبر والاختيار؛ بحيث يصبح الفصل بينهما، بوصفهما ضدين، غير ذى موضوع.

وحتى تستمر رحلة الجدل، فلابد من عمق يـُظهر تعقد التوليف وكثافته، فنرى التناقض فى نبضه الجدلى، يعرض فى صورة صريحة، حين يتداخل الموت فى الحياة.

بحر الحياة مليان بغرقى الحياة

(70/240)

فإذا أكملنا الرباعية، رأينا غريقا لا يستطيع أن يصرخ، يلتمس النجاة فى قارب نجاة، فلا يجد إلا الحب قاربا منقذا.

صرخت خش الموج فى حلقى ملاه

قـارب نجاة! صـرخت قالوا مفيش

غـير بـس هـو الحب قـارب نجاة

(70/240)

والمعنى السطحى قد يـُعْــلى للوهلة الأولى من قيمة “الحب” كما هو مفهوم شائع كمنقذ من الوحدة، ومهدىء للقلق، ولكننى لا أستطيع أن ألتقط هذا المعنى ليحل محل التداخل الولافى الرائع فى أول شطر (غرقى الحياة!!)، وفى الوقت ذاته لا أستطيع أن أهمل هذا التتابع الصريح البسيط، وعموما.. فإن الحب قد يُنظر إليه من أكثر من مستوى؛ فجرعة “الأمن الأساسية” التى تبدأ بها الحياة، أحيانا ما يطلق عليها فى اللغة غير العلمية لفظ الحب والمفهوم الأعمق والعلمى قد يعنى مواصفات فى هذه الجرعة، تفيد إعطاء الغذاء (النفسى) الملائم فى اللحظة الملائمة للحاجة النشطة. فإذا كان هذا هو الأمان من ناحية، وهو هو الحب من ناحية أخرى، اتضح الأمر وتقارب الفهم من المحور الذى ندور حوله، ونحاول تأكيده، فالمسألة هنا مسألة “نوع” الحب الباعث على الثقة، وليس لصْقة (لزقة) الحب الدالة على الجوع والعجز، يؤكد ذلك جاهين فى رباعية أخرى، يتكلم فيها مباشرة هكذا:

ياللى عـرفت الحب يوم وانطوى

حسك تقول مشتاق لنبع الهوى

حسك تقول مشتاق لنبع الغرام

دا الحب مين داق منه قطره ارتوى

(81/246)

انظر هنا كيف يحذر من الهوى والغرام فى حين يعلى من قيمة ودوام أى قطرة من قطرة الحبة الداعم الرائى الحقيقى، ولا أحسب أن أى عالم نفس يستطيع أن يصف أفضلية وفاعلية نوع “جرعة الأمن الأساسية”، وثبات أثرها، أفضل من هذا الوصف الدقيق. فالمهم هو “النوع” و “الكفاية”، لا الحماسة ولا الكمية، ولعل قدرة صلاح على وصف هذه القطرة، تؤكد ما ذهبنا إليه من افتراض ارتوائه نسبيا منها فى يوم ما، وهو ارتواء باعث على استمرار الحركة الفاعلة المغيـّرة، التى تبدو فى كل موقع من رباعياته.

وحتى الصور الطبيعية شبه الساكنة؛ التى تصل إلى الشخص العادى، تصل إلى صلاح مختلفة؛ فيوصلها إلينا فى حركتها الخلاقة المبدعة، انظر إليه وهو يرى النيل، لا كمرآة ساكنة تعكس شمس الأصيل المذهبة(!!)، ولكن وهو “شغال” ينحت الصخر فيضانا بعد فيضان، وهو لم ينس أن يتقمصه هو الآخر، ما دام الأمر “حركة وطبيعة”!! وهو لم يتقمصه ليغرق فيه، أى يختبىء؛ إذ يحتويه، ولكنه يوازى حركته، وهو ذاته من صلبه، فيلتقط صعوبة النحت والتغيير، ويدمى راضيا بشوك الصبر والإصرار.

كام اشتغلت يا نيل فى نحت الصخور

مــليون بئـونة وألـف مليون هاتور

يا نيـــل أنا ابن حلال ومن خلفتك

وليــه صعـــيبة علىّ بس الأمور

(99/255)

فالحركة عند صلاح جاهين أبدية، وفعلها مؤكد، ونتيجتها الإيجابية محسومة، ومن فرط تقديسه لها، ومساواتها بالحياة ذاتها، كاد يعجز عن التوقف، حتى لو كان ثورا يدور فى فراغ، إنه يؤمن بأن مجرد الحركة، هى الضمان الحقيقى لدفع الحياة، حتى أنه يرفض الرفض المتشنج، ويتحمّل الاستمرار الواثق من غلبة الحياة (قال بس خطوة كمان وخطوة كمان) فيبدو مطمئنا إلى “اتجاه الحركة وضمان نتاجها”، فإذا جف بئر الحياة فليكن خارجا عن تقاعسه فى دفع عجلتها بالتوقف عن الدوران.

إقلــع غـُـماك يا تور  وارفض تلف

إكسر تروس الساقية واشتم وتف

قال بـس خطوة كمان وخطوة كمان

يا اوصل نهاية السكة، يالْبير يجف

(37/224)

والبير لا يجف ما دام الثور قد خلع الغُمَى واستمر برغم كل شىء!!!

المصارع الطيب:

نهل صلاح من”جرعة الأمن الأولية”، وفى نفس الوقت لم يُحرم من جرعة التوجس اللازم للتوازن المرحلى، وغلبت عليه فى الرباعيات على الأقل جرعة الأمن، حتى كانت هى الصبغة السائدة طول الوقت (بعكس سرور الواقف على سنّه طول الخط: انظر بعد)، وهذه الصبغة السائدة يمكن أن أطلق عليها” الطيبة النابضة”، تلك التى أعجزته (أكرر: أعجزته) عن القتل، وعن الكره المر، وعن اليأس، وعن الوحدة برغم وجودها جميعا بكل ثقلها وحجمها.

ما هى معركة جاهين فى الرباعيات؟

 كيف ومتى يطل القتل إن فعل (قارن فيما بعد سيف سرور المُسْلَطْ، وسوطه المسموم)؟

 معركة جاهين هى جهاد السعى إلى الهارمونى والاتساق مع الأنغام([15]) فهو يقاتل التنافر مع الزمن، فى طيبة الذى يقدس الحركة والنبض والمسيرة؛ فهو مُناِزل” اليوم الجديد”، بإعلان حرب شريفة، هى حركة الحياة ذاتها بلا نقصان:

من بين شقوق الشيش وشقشقت لك

مع شهــقة العصافير وزقـزقـت لك

نهار جديد أنا.. قـوم نـشوف نِعْمِليِهْ

أنـا قـلت: ياح تقتـلنى.. يا ح اقتلك

(58/234)

 فهو مصارع طيب؛ لم يحاول أن يهرب من عدوانه فى كأس، ولم يسطِّح وجوده بإنكار العدوان أصلا (مثل الخيام انظر بعد:)؛ بل لعله أدرى الناس بالطبيعة البشرية الدموية، وهذا مايجعلنا نحترم طيبته أكثر؛ فهو واعٍ بالطبيعة الدموية للحياة؛ لكنه يرفض أن يُستدرج ليشارك فى معركة دائرة طاحنة حوله؛ لأنه شخصياً  كله دم فما الداعى إلى خلق أوهام تـَنَاقُضٍ يبرر عدوانا قبيحا؟

على رِجْلى دم.. نظرت له ما احتملت

على إيدى دم.. سألت ليه؟ لمْ وصلت

على كتفى دم وحتى على راسى دم

أنـا كـلى دم.. قتـلت، ولا اتقتلت

(30/220)

فهو يعترف بعدوانيته وعدوانية الآخرين؛ بصفتها طبيعة بشرية؛ ومع ذلك، ولذلك، لايستطيع أن يتصور صلاح الأذى التعذيب الفوقى بلا علاقة لأى مخلوق، فها هو لا يفهم كيف يسمح آخر لنفسه أن يعذب آخر.

ما اعجبش م اللى يطيق بجسمه العذاب

أعـجب من اللى يطيـق يعـذب أخـوه

(31/221)

رؤيته للدم، كانت رؤية داخلية أمينة، حدد بها طبيعة البشر الدامية، ولم يستثن نفسه منها، لم يسقطها كلها بالخارج، مثلما فعل سرور ولم يهرب منها فى الكأس (بعد وضعها أيضا فى الخارج، مثلما دعا الخيام) ولكنه واجهها، ثم استوعبها، ثم عاش لمستواها فحوّرها ووالف بين تناقضاتها؛ ليرفض الإيذاء، دون أن يسطح الطبيعة البشرية بإنكار العدوان أصلا، وقدرة صلاح على عرض هذا الولاف، ظهرت قبلا ونحن نرى “بحر الحياة مليان  بغرقى الحياة”، ثم تظهر فى أكثر من موضع آخر، فهو يشرب من ينبوع الأمن أو الحياة، فى وسط “لهاليب” العدوان، وهو لم يقصر غرقى الحياة على البشر، بل امتد بحدسه إلى كل الأحياء حتى الخنازير والكلاب، فلِزم الفارس يخترق اللهيب ويواصل، وقد فعلها صلاح كما نرى، دون تجزىء سطحى، أو شطح هروبى.

ينبوع وفى الحواديت أنا سمعت عنه

إنه عجيب.. وف وسط لهاليب لكنه

شقّيت كما الفرسان طريقى… لقيت

حــتى الخنازير والكلاب شربوا منه

(32/221)

لاحظ كيف لم يحدد بوجه خاص أى ينبوع هذا، وتركها للقارىء يُسقط ما يشاء.

وبالطيبة القوية نفسها يستطيع أن يقولها.. “آه”، دون مظنة ضعف أو استجداء أو استكانة؛ أليس للأسد أن يزأر؟

يوم قلت آه سمعونى قالوا فسد

ده كان جدع قلبه حديد واتحسد

رديت علـى اللايمين أنا وقلت.. آه

لو تـعرفوا مــعنى زئير الأسد

(21/216)

إن من القوة أن يسمح الواحد لنفسه أن يقول: آه.. على مسؤوليته، وشتان بين آه الشكوى، وآه الاستجداء، وآه الوله، وآه السخط، وآه اليأس، وهذه الآه الزئير!!..

الكلمة الصوت.. والكلمة الفعل (استيعاب العدوان)

إذا كان صلاح جاهين قد رأى عدوانه، وتحسس الدم بيديه، وحال دون أن يطلقه على آخر؛ عجزا عن الإيذاء؛ واستيعابا لجرعة الأمان الأولى، فكيف السبيل إلى توجيه طاقة عدوانه الطبيعية، دون كبتها، وقد تأكد عجزه عن القتل (الذى لم يتردد سرور فى الإعلان عنه، وكأنه قاب قوسين من الإمكان الفعلى؟) عجز جاهين عن القتل، نتيجة لجرعة الأمن؛ فكيف استوعب تلك الطاقة؟

وصلنى أن “الكلمة” أصبحت عند جاهين من القوة والحضور، بحيث استوعبت كل طاقة العدوان تقريبا.

 فالكلمة ما زالت عنده هى الكائن الحى محدد المعالم، قوى التحدى، القادر على كل شىء، وكأنها الفعل ذاته، ليست بديلا عن الفعل، أو رمزا  مبدَعا؛ بل هى هى الفعل من عظم حملها للمعنى، كأنها “اللوجوس” الذى كان فى البدء، كأنها الحياة فى ذاتها، كأنها كافية لتغيير الكون، متى أصبحت هى هى.

وصلاح يفرق بين الكلمة الصليل، والكلمة الثورة النذير البشير، ويرى أثر الأخيرة على الشر أثرا قاتلا مغيرا بالضرورة :

أنا قلبى كان شخشيخة أصبح جرس

جَــلْجـِلْت به صحيوا الخـدم والـحرس

أنــا المـهرج.. قمتو  ليه خفتو ليه

لا فْ إيدى سيف ولا تحت منى فرس

(23/217)

فما دامت الكلمة تحمل معناها وقدرتها على الاختراق، فهى أقوى وأقدر من السيف والفرس؟

إن ما أود إبلاغه هو رسالة تقول:

 إن صلاح جاهين قد حمل قلمه سيفا فاعلا، ربما يرد به على صلاح عبد الصبور وهو يكاد يرفض أن يحمل الفارس قلما([16])، مفضلا الفارس الذى يحمل سيفا، فيرد جاهين هنا ليؤكد بصراحة ومباشرة: أن الكلمة عنده هى سيف من حيث هى بذاتها: قوة وقدرة ومسئولية، فى آن:

عجـبتنى كـلمة من كـلام الورق

النـور شـرق من بين حروفها وبرق

حبيت أشيلها ف قلبى، قالت حرام

دا انا كل قلـب دخلـت فيه اتحرق

(17/214)

وعدم تحديده لكلمة بذاتها كما فهمها أحدهم أنها ” الحب” جعل وصفه هذا يعود على أية “كلمة” ذات معنى فعلا، “الكلمة المعنى هى “الكلمة الفعل” أيا كانت، مادامت تحمل معناها بحق، وصلاح هكذا يعلن قوة الكلمة ورحمتها ومسئوليتها وفعلها فى آن، وهو يعرف أمانة حملها حتى ليكاد يموت من إصراره على ألا يُطـَنـْبـِل([17])

وقد رسم الكلمة فى رباعية بالغة الروعة، تشعرنا – برغم اختلاف المقام- كيف كان يرى الكلام كائنا عيانِيَّاً حيا بحق:

صـوتِك يا بـنت الإيـه كإنه بدن

يـرقص يزيح الهم يمحى الشجن

يا حـلوتى وبـــدنك كإنه كلام

كلام فلاسْفه، سكروا ونسيوا الزمن

(73/242)

ونقف وقفة ثانية لنقول إن “الكلام” قد استوعبَ خلال تطور الكائن البشرى كثيرا من طاقة غريزة العدوان.. قد ذكرتُ فى دراسة سابقة علاقة “العدوان بالإبداع”([18])، ولم يخطر ببالى أن الكلمة “اللوجوس”، هى فى ذاتها إبداع نابض، حتى رأيت علاقة جاهين بالكلمة، وتذكرت فى خبرتى فى العلاج الجمعى كيف أن الكلام هو  – من ناحية – بديل للعدوان، إذ يغنى عنه، وكيف أنه هو هو فى ظروف أكثر صحة حاوى طاقة العدوان، وكأنه نما منها وبها فاستوعبها، واتضحت لى الرؤية حين أعلن صلاح جاهين عمق هذا الاحتمال، من خلال حدس إبداعه الفائق فى هذا العمل، ويبدو أن ما ذهب إليه هو من أصح الصحيح لو ظلت الكلمة هى التى كانت فى البدء وليست الكلمة التى اغتربت وانفصلت وأصبحت صوتا خاويا، أحس أن هذه النقطة تحتاج إلى توضيح، حتى لو اضطررت إلى نوع من التكرار، فأقول:

العدوان الفج طاقة دافعة، تحفظ مجرد بقاء البدائيين فى الصورة البدائية، فلما اكتسب الكائن البشرى القدرة على الكلام، احتوت الكلمة قدرا من طاقة هذا العدوان الفج، فقامت (الكلمة) جزئيا بالحفاظ على التواصل بين البشر، وحركية الإبداع هى من أرقى تجليات التواصل، ويبدو أن الكلمة أصبحت عند جاهين كائنا مسئولا سائلا فاعلا بالضرورة، فارتقى عن العدوان الفج واستوعبت كلماته طاقته، دون كبته أو إغفاله.

وصلاح يعامل الكلمة باعتبارها كائنا حيا: يراها متألمة، لعبية (بتشديد الياء)، فائرة، حائرة، قادرة، منذرة. وأخيرا يعلن رؤيته للكلمة من عمق جدلى جديد، حين يحتضن الخير فيها الشر، وبالعكس وهو يعلن خطورة الاكتفاء بهيكلها الظاهرى، دون محتوى رحمها التوأم النقيض.

أنا قلت كلمة وكان لها معنيين

كما بطن واحد وتوأمين زين وشين

لو دنيـا شر.. التوأم  الخير يموت

ولو دنيا خير.. الشر حايعيش منين؟

(101/256)

إن احتواء الخير للشر، بالمعنى الجدلى، يحافظ على الحركة فى داخل الكلمة الفعل، وهذا ما تظهره  هذه المقابلة الذكية الجدلية المتداخلة المتحركة، وهى ليست أبدا  مجرد توازن تسوياتى.

وكنت قد عنيت فى دراستى السابقة للرباعيات (الفصل الأول) برؤية جاهين لوظيفة الكلام التسكينية التى لا ينبغى الإقلال من أهميتها، ولكنى قد عـَبـَرْتُ فى هذه القراءة الحالية إلى ما بعدها؛ فالكلام حين يكون إزاحة هم وفضفضة([19])، إنما يقوم بوظيفة التنفيث دون الثورة، وصلاح لم يغفل هذا المعنى التنفيثى (الذى كان وما زال موضع اهتمام التفريغ النفسى والعلاج النفسى فترة من الزمان ـ والذى شاركتُ طويلا فى تمجيده أكثر مما يستحق)، يقول جاهين:

عينى رأت مولود على كتف أمه

يصرخ تهنن فيه، يصرخ تضمه

يصرخ تقول يابنى ما تنطق كلام

ده اللى ما يتكلمش يا كتر همه.

(104/257)

يقول صلاح – كما ذكرنا-  فى المعنى التنفيثى نفسه:

يا عندليب ما تخافش من غنوتك

قول شكوتك واحكى على بلوتك

الغـنوه مـش ح تموّتـك إنمــا

كتــم الغنا هو ا اللى حايموتك

(105/258)

إذن: فقد قامت الكلمة الفعل عند جاهين، باستيعاب طاقة العدوان، دون أن يغفل طبيعتنا الدموية، ودون أن يتغافل عن العدوان المحيط من كل جانب؛ لكن اطمئنانه لجرعة الأمن، وثقته بقدرة الحياة، جعلاه يرى الواقع ولا يُستدرج إلى معركة دموية بدائية؛ فهو قادر على العيش وسط المخالب دون إلغائها، أو تمضية حياته فى صراعها الجانبى، بديلا عن الحركة الأمامية.

عجبى عليك حواليك مخالب كبار

ومالكش غير منقار وقادر تعيش

(62/236)

الاختيار.. والرؤية

نقول ونعيد إنه لما قامت الكلمة بالواجب لتستوعب طاقة العدوان استغنى صلاح بها عن العدوان الفج، ولكنه لم يَجْبُنُ عنه؛ فكما أن طيبته اختيار، فإن كلمته الفاعلة اختيار والفرق بين الاستغناء عن العدوان والجبن عنه، وكذلك بين الطيبة الاختيار، والطيبة، الهروب، فرق صعب التحديد. والبحث عن الرؤية المصاحبة والقدرة الحقيقية، هو الذى يعرفنا الفرق بين الاختيار والهرب، وجاهين رأى وحدد قدرته، رأى الدم ورأى المخالب.. ثم ها هو يرى الخوف، ويحدد ضرورته وحواره معه، وهو يؤكد حرصه عليه، جنبا إلي جنب مع امتلاك القدرة فى تفاعل مستمر (جدل جديد)، وهو يحدد قدرته المتواضعة فى مواجة هذا الواقع الحى المخيف.

سـهِّــير ليـالى وياما لفيت وطفت

وف ليلة راجع فى الضلام قمت شفت

الخـــوف كأنـه كلب سد الطريق

وكـنـت عاوز أقـــتله بـس خفت

(15/213)

هذه رؤية مكثفة تطمئننا إلى اختيارات جاهين، من موقع حجم الواقع بالداخل والخارج!!. فهو  إذ يكشف عن خوفه، يعلن أنه أيضا يعرف أن الخوف ضد الانطلاق (سد الطريق)، ثم إن خوفه من الخوف هو أيضا أكثر واقعية من إنكاره، ومن التسليم له معا.

وهكذا لم أمنع نفسى من تصور أن جاهين قد حافظ على الخوف، ورفض قتله حرصا عليه، وفى الوقت ذاته خوفا منه، أى أنه حفاظ ضمنى على استمراره، باعتباره جزءا من طبيعتنا، وتأكيدا لذلك فإنه يرى الخوف ما زال قائما، حتى بعد اختفاء مبرراته التاريخية النابعة من ضخامة حجم المجاهيل.

كان فيه زمان سحلية طول فرسخين

كهـفين عـيونها وخشمها بربخين

ماتـت…لكين الرعـب لم عمره مات

مــع إنه فـات بدل التاريخ تاريخين

(16/213)

ومع هذه الرؤية، نستطيع أن نأمن لاختياره الكلمة الفاعلة، دون العدوان المباشر، والطيبة المشارِكة برغم فداحة الثمن وهو يؤكد هذا الاختيار، ويرضى بثمنه: وحدة واردة وألما مفيقا، دون انسحاب دائم حتى لو تخلى عنه الجميع، فى غيبوبة جنون نكوصى، وهو يحذرنا من تبادل القتل وسيلة للحوار، وذلك حتى لا يموت الحنان الخلاّق فيما بيننا.

كل اللى فى الخماره صابهم جنون

صبحوا  الرجال يتبادلوا كأس المنون

وبــدم ونـبيت انكـتب عالجــدار

ياميت ندامه على اللى”قلبه حنون”

(19/215)

نعم: أن تختار الطيبة، وأنت تعلم كل هذا، فياميت ندامة على ماستلاقى من ألم الرقة، وشوك الوحدة، ولكن يبدو أن الاختيار الواعى، يساوى، وهو يستحق أن يـُدفع منـِه أى ثمن، ويبدو أن صلاح كما عجز (واستغنى) عن العدوان، عجز أيضا عن البلادة، مما يؤكد نوع طيبته المشارِكة، لا الغافـِلة:

قالوا الشقيق بيمص دم الشقيق

والناس ما هياش ناس بحق وحقيق

قــلبى رمـيته وجبت غيره حجر

داب الـحجر… ورجعت قلبى رقيق

(20/215)

العجز عن الألم العدمى، وعن الإيلام

خلاصة القول إن طيبة صلاح، مع رؤيته، مع ألمه الناتج عن اختياره، مع استمراره، تؤكد جميعا أننا أمام عاشق للحياة بتناقضاتها النابضة المؤلمة البهيجة، وعلاقة صلاح بالألم، علاقة خاصة؛ فهو ليس داعيا إلى الهرب منه على طول الخط، ولا هو يستدعيه ابتداء، وفى الوقت ذاته، هو لا يطيق أن يُلحق الألم بغيره، ولكنه لاينكره أبدا أو يتغافل عنه، وهو يطلب الشفاء منه “بلمسة من إيد حبيب”، وأخشى أن أقول إنه يكاد يعجز أيضا عن أن يتألم، حتى لا تبدو كل اختياراته عجزا عن.. وليست فعلا لــ…. ومع ذلك، فإن داخله الذى جرع الأمان يوما، فأيقن بغلبة الخير فى الحياة، يطغى دائما أبدا حتى على قراره بالتألم أو الإيلام، دعونا نتذكر رباعية جاءت فى الفصل الأول تؤكد ذلك:

غمست سنك فى السواد يا قلم

علشان ما تكتب شعر يقطر ألم

مالك جرالك إيه يا مجنون وليه

رسمـت ورده وبيت وقلب وعلم

(87/249)

صلاح جاهين يعجز عن استعمال الكره (الأسود)، لإعلان الألم حتى شعرا، بل إنه لو أراد أن يجرح نفسه دون الآخرين لما استطاع؛ إذ يغلب حلو الداخل (الذى ذاق الأمان) على قرار الخارج الذى أدرك الواقع، فالضياع العدمى والحزن الاعتمادى لم يتغلغلا أبدا إلى عمق وجوده، ولم يستطيعا أبدا أن يفسدا مفعول جرعة الأمان المبدئية، مهما كانت غير كافية.

أنا الذى عشت الزمان مضيعه

بِرُوح حزينه معفنه مضعضعه

زرعت شجرة سنط لجل انجرح

لقيتها شعر البنت ومفرعة

(89/250)

ثانياً: رباعيات الخيام

صورة 2

رباعيات الخيام([20]) هى أشهر الرباعيات وأقدمها (بالنسبة لهذه الدراسة على الأقل)، وهى رباعيات مليئة بالتكرار والإصرار.

وقد وضعتُ فرضا شاملا لقراءتها، يقول على لسان الخيام:

(الفرض):

إنى أتقلب على جمر الألم، واليقين أقرب إلى المستحيل، الحيرة مؤلمة شريفة، والموت ذو وجه قبيح، ولكنه حقيقة راسخة، والخمر غسيل الروح، وما دام الأمر كذلك، فاللذة واجبة إذا كان عندكم، يا خلق الله: نظر، فافعلوا ما لم أستطعْه، والله غفور رحيم على الرغم من أنف الكاس والطاس والكُهـّان، والوصاة جميعا“.

هذه الرباعيات أعلنت لى أن “جرعة الأمان الأولى عند الخيام كانت ناقصة منذ البداية (بداية النمو)، فأصبح ذلك دافعاً ملحاً لتعويضٍ واعدٍ باللذة والراحة، كما ظهر فى شكل هرب متواصل، تجنبا لألم مواجهة الواقع، مما يلهب السعى من جديد إلى الاستزادة من اللذة (الأمان)؛ فتتجلى من خلال هذا وذاك مظاهر ذلك  الجوع الملِحّ إلى طلب أمان اعتمادى نسبيا، يسمى أحيانا “الحب”، كما يتجلى فى مظاهر الجوع العاطفى فى صوره المختلفة، وكذا تتبدّى فى القبول بالهرب بالتسكين المتاح غالبا، وهذا قد استدعى، غلبة الميل إلى “إلغاء الموضوع”، وذلك بالانسحاب المُلحّ بعيدا عن عمل علاقة أصلا، وذلك  بـالتـثبيت على الموقف الذاتوى المنسحب من، والمتجنّب لـ “الموضوع”، وهو ما يسمى بموقف “اللاموضوع”، أو الموقف الشيزيدى الذى حضر بجانبه النرجسى هنا أكثر من جانبه الانسحابى، مترتب على ذلك السعى المتصل إلى موضوع خيالى بديل، ليكون موضوعا أسهل، باعتباره تحت أمر وإذن خيال واعد باللذة، مغلف بأحلام النكوص (العودة إلى الرحم، الجنّة الذاتية). 

نار الألم وأمل الغيبوبة

هكذا يبدو: أن الخيام  (بما فى رباعياته لا أكثر) لم يجرع من كأس الأمان الأّولى، ما طمأنه إلى قدرته على الاستمرار، وفى الوقت ذاته، لم يلجأ إلى سيف التوجس العدوانى كبديل يعلن به حرمانه؛ فظل يلح فى”الرجوع” لإعادة المحاولة وأخـْذِ حقه مما أسماه  وصوّره على أنه اللذة، فلم يستطع دائما (أو: لم يستطع أصلا)، فراح يدعونا إلى ذلك بالنيابة، ثم تحمس حتى كاد يرى أن  اللذة هى الترياق والحل.

يقف الخيام وهو يمسك بكأس الخمر كأنه مصنوع من جمجمة الشاة، وساق الفقير، وهو يطلب أن يرتوى من اللذة (الخمر) قبل أن يحل أجله.

1 ـ رأيت خزافا رحاه تدور

يجد ّفى صوغ دنان الخمور

كأنه يخلط فى طينها

جمجمة الشاة بساق الفقير.

(54/58)[21]

2 ـ أفق وهات الكأس أنعم بها
واكشف خفايا النفس من حجبها
وروّ أوصالى بها قبلما
يصاغ دنّ الخمر من تربها 

(3/35)

(وهو موقف متكرر  فى رباعياته بشكل لحوح)

يقف الخيام على منبره “البار” المصنوع من شوك الألم، وخلاصة الأحزان ليخطب فى الناس ألا يضيعوا وقتهم فى الحصول على ما هو زائل، بل  هو يكاد ينصحهم ألا يتألموا أصلا (إن أمكن). فإن فعلوا أو هـُدِّدُوا، فليشربوا لينسوا، وليشربوا ليفيقوا، وليشربوا لينطلقوا، وهنا يجدر بنا أن نلاحظ ابتداءً:

أولا: إن الدعوة إلى اللذة لا تعلن أن صاحبها يعرفها أو يعايشها بالضرورة، ولكنها قد تعلن أنه يتمناها ويرجوها، وتكرار مثل هذه الدعوة كما هى الحال فى رباعيات الخيام؛ قد يؤكد أن هذه الأمنية لم تتحقق، وربما لن تتحقق له (على الرغم من فرط اشتياقه لها)

 ثانيا: إن الخيام لم يدعُ نفسه إلى اللذة بقدر ما دعا الناس إليها فى شكل الواعظ النديم، وكأنه يئس – شخصيا- من الحصول عليها، فأمـِل أن يتعظ غيره من عجزه عن التمتع بها؛ ربما نتيجة لفرط حزنه وتراكم آلامه، بل إن دعوته لنفسه بدت لى وكأنها – أساسا- دعوة لنا دون نفسه.

ثالثا: نظراً إلى أن الخيام لم يخاطب نفسه بقدر ما خاطبنا نحن، فهو لم يعلن أبعاد وعمق داخله (مثل جاهين)، وإنما راح يعلن استقباله للواقع كما يبدو فى الخارج أساساً، كذلك هو لم يحم ذاته وصورتها بالاستغراق فى الفخر بها (مثل سرور)، فجاء حديث النفس إما تبريرا للذة، وإما استغفارا لذنب، وإما إعلانا لحزن، وإما تململا من حيرة، وكأن “الألم” من هذه المواجهة كان أكبر من السماح بمواجهتها أو اختراقها. كما أن “الخوف من الألم” كان أضخم من السماح بالفخر بالذات.

رابعا: إن الخيام كان يسابق الزمن، وبالذات يسابق الموت، فهو يريد أن يعبَّ قدر ما يستطيع، مما يتصور أنه يستطيعه، قبل فوات الأوان:

1 ـ إشرب فهذا اليوم إن أدبرتْ

به الليالى لم يُعِدْه القدر.

(30/48)

2 ـ الموت حق لست أخشى الردى

وإنما أخشى فوات الأوان.

(102/72)

خامسا: إن الدافع الآخر بعد الهرب من الألم لدعوته إلى النهل من نهر اللذة هو الجهل (الشريف) بالمصير، فما دمنا لا نعرف، فلننهل مما نعرف من هنا تضخمت عنده قيمة ” الهنا والآن” النرجسية، بما يفيد اللذة الأضمن.

فرط الألم، والخوف من زيادته

إن الملاحَظ فى رباعيات الخيام، أنها تكاد تعلن أن فرط الألم، والخوف منه، هما نتيجة مباشرة لنقص جرعة الأمن الأساسية، كما نلاحظ أن أيا من طلب اللذة أو الدعوة إليها، يبدو باعتباره التصور النابع من هذا الافتراض المبدئى، وأحسب أن انتشار هذه الرباعيات على مساحة العالم، وكذا خلودها طول هذا الزمن إنما يرجع جزئىا إلى احتمال غلبة هذا الموقف الدفاعى الذاتوى الذى يبرر الهرب المؤقت، والنكوص الآمِل عند معظم الناس.

المتجول فى بستان الخيام، بعنبه وحصرمه، إن صدقت المحاولة، وأحسن صحبته ولم يكتف بظاهر قوله، سوف يضرس من حصرمه المرّ، قبل أن ينتشى من عصير عنبه المُخمـّر، فألم الخيام وحزنه هما الأساس، بل إننا نكاد ندرك أنهما الأساس والفروع جميعا على الرغم من دعوته المتكررة إلى عكس ذلك.

1- ـ … ولم أصِب فى العيش إلا الشقاء

(2/35)

2- …ولم أذق فى العيش طعم الهناء

(48/54)

ويعمم أساه على كل الناس مخاطبا الدهر

3-… وسـُمـْتُ كل الناس سوء العذاب

(18/42)

4- ـ… يا نفس قد آذاكِ حمل الحزن

(33/49)

إلى آخر هذه المحزنة المؤلمة التى لا فكاك منها، إلا إذا: حقق اللذة التى يحلم بها، ولكن مهلا، فهذه “اللذة”، لم تثبت أنها “ذات فاعلية” بحق، إلا فى أقل القليل، فالأمل بابه مسدود، بل إن “السعى” نفسه هو فى سبيل اليأس.

الدهر لا يعطى الذى نأملُ

وفى سبيل اليأس ما نعملُ

(14/14)

وكأن اللذة التى ينادى بها الخيام، هى راحة أو رفاهية اليأس، أكثر منها نشوة الأمن.

قارن جاهين وهو يقول:

تيأس ما تيأس الحياه راح تمر

 لقَيَتَ الصبر مرّ و برضك اليأس مرّ

 ويبلغ تصوير الخيام قمة أساه حين يتصور أن الهم – شخصيا- قد يشفق عليه منه:

ولو درى الهم الذى لم يجىء

دنيا الأسى لاختار دار الغيوب

(135/87)

الألم.. والسر الغامض

هذه هى الأرضية الحزينة التى تنطلق منها آهاته، وتـُملأ بسببها كاساته، أما السيف المسلط فى وجهه، والعدو الواجب تجنبه، فهو الألم الذى هو عنده أقسى وأرعب من الموت نفسه (العدم):

ولست مهما عشت أخشى العدم

وإنما أخشى حياة الألم

(154/103)

وعلى الرغم من هذا الوضوح والإعلان المحدد؛ حيث الأرضية هى الحزن، والألم هو العدو اللدود، فإنه يبدو أن ما خفى كان أعظم:

حالِىَ لا أقوى على شرحها

وفى حنايا الصدر سر دفين

(96/70)

والربط بين الألم والحزن، وبين عدم الرضا والسر الذى لم يعلن من ناحية ولم يـُعرف من ناحية أخرى، هو ربط شديد الوثاق، فكأنه يريد شيئا لا يعرفه، والخمر وسيلة بديلة لهذا الشىء، بلا طائل؛ طالما هو جوعان هكذا إليه، والسر لا يصعد ولا يُدرك، فوجوده هو الألم (اللئيم) بلا حل، وليتجرّع من الهموم ما  لا يروى ولا ينطفىء.

لم يخلُ قلبى من دواعى الهموم

أو ترضَ نفسى عن وجود اللئيم

وكم تأدبت بأحداثه

ولم أزل فى ليل جهل بهيم

(124/82)

الوحدة والرضا بالشقاء والنزيف

وإذْ تتراكم الهموم، ويجأر صاحبها بطلب اللذة، ولا يجدها، يكاد يرضى بالشقاء فى صمت، بل فى وحدة كريمة مُرَّةٍ فى آن، بل كأنه المسيح يحمل الألم عنا، لينفرد بالصلب من أجل خلاصنا، هذا ما كان يخاطب به نفسه:

تحمّل الداء ولا تلتمس

له دواءً وانفردْ بالشقاء

(105/73)

وكأنه بهذا يؤكد أنه يلتمس لنا الدواء بالشراب والبهجة دون نفسه، بعد يأسه من كل مَخْرج ممكن؛ فهو إذ يقدِّم لنا كأس اللذة، يتجرع خمره من دِنّ ينزف وهو يسيل من قلبه المفعم بالشقاء.

قـلبى كدن الخمر يجرى دما

ومقلتى بالدمع كأس تسيل

(130/86)

اكتئاب المواجهة

وهكذا تحمِلُنا هذه الرؤية الأعمق التى تخترق نداء اللذة، إلى حقيقة معايشته للألم، وهو  يصارعه،  وهو يستسلم له،  وهو يرحب به، وهو يكاد يعلن أن سبب هذا المأزق:  هو أن  وعيه “رأى” أكثر مما يحتمل، وهذا هو ما سميـُته ” اكتئاب المواجهة”، يقول فى هذا مباشرة:

والصحو باب الحزن فاشرب تكنْ

عن حالـــة الأيام فى غـفـلة

(119/80)

وهو يحل هذه المواجهة بالغفلة وليس بمواصلة الحركة وتحمل التناقض، وهو لا ينجح فى الطنبلة تماما، فيظل اللهيب يحتمل بداخله.

…. وسار فى روحى لهيب الشقاء

(39/51)

خمر الخيام لا تجعله يغفل عن نفسه بل عن حالة الأيام، أما هو شخصيا فيسعى (على الرغم من كل شىء) إلى مزيد من الوعى عن طريق الشراب الذى يمكن أن يحقق هذه التعتعة بإطلاق الداخل وتحريكه وفى هذا يقول:

لم أشرب الخمر ابتغاء الطرب

… …

إطلاق نفسى كان كل السبب([22])

(41/52)

فالخيام نتيجة لجرعة “الأمن” الضئيلة التى عاشها باكرا – كما افترضنا – يستطيع أن يعايش الألم، دون هروب غبى مطلق، أى دون تعتيم للوعى، ولكنه يقطر إشفاقا علينا منه (وهو على مسافة منا)، ويهرب إلى وحدته مهما دفع ثمنها شيزيدية تبدو نرجسية فهو يكاد ييأس من هذه الدنيا، كما يبدو يائسا من هؤلاء الخلق الذين تورث معرفتهم مزيدا من الهم، مما يشير إلى وحدته الحقيقية، على الرغم من حضور النديم، والوجه الصبوح المأمول، الخيام يهرب من “الموضوع” من “الآخر” تجنبا لدفع ثمن العلاقة، التى تستلزم المواجهة والاستمرار وتحمل التناقض (بعكس ما أشرنا إليه عن جاهين).

فجانِب الناس ولا تلتمس

معرفةً تَورث حمل الهموم

(59/107)

وموقف وحدته الحذرة من رياء الأصدقاء والناس كافة، لا ينفيه موقفه المتسامح  إزاء الأعداء والأصدقاء، فهذا التسامح يحمل قدرا من اليأس (وأحيانا التعالى كما يبدو هنا)، كما يحمل كثيرا من تأكيد الوحدة، وخاصة إذا كان تسامحا فسيحا مطلقا:

واغفر لأصحابك زلاتـهم

وسامح الأعداء تمحُ العداء

(26/47)

وقد وصلنى – ربما مخطئا – أن هذا السماح ربما يحمل جرعة من إلغاء واستعلاء أكثر منه تحملا واستمرارا.

الحلم.. والخمر

وكأن الخمر مع كل هذا التقديس ليست سوى تسكين مؤقت إلى حين يحقق حلم خياله فى:

دنيا يعيش الحر فيها سعيد

(158/107)

ثَمَّ تعارض بين الحرية الحقيقية، والسعادة الموعودة، والخيام هنا يحلم بأن يحل – ولو بالخمر – هذا التعارض، وكأننا نستطيع أن نضيف سببا آخر لشقاء الخيام المؤلم هذا، وهو بُعد مسئولية “الحرية”، فنتصور أن إلحاحه على الهرب إلى اللذة، بالتخفيف من حدة الوعى، هو أحد المسكنات التى يلجأ إليها، ويوصى بها لتخفيف ألم هذا المأزق، ولعلنا نلاحظ ما يحمل هذا الشقاء من شرف الوجود، وتحمّل الاستمرار، حتى لو لم يطقه صاحبه، فأشفق علينا منه، ودعانا إلى أن ننساه فى الكأس وبالكأس.

جرعة الأمن.. ويقين المغفرة

على أن هذا الألم الذى ينشأ نتيجة للافتقار إلى جرعة الثقة الأساسية (أو الأمن الأولى)، هو نفسه قد يكون الدافع إلى دفاع آخر من خلال المبالغة فى ثقته بالمغفرة وحسن الختام، ولكنها ثقة فيها جرعة من الغرور والأنانية، بل والعتاب والمؤاخذة، فهو يخاطب ربه مطالبا بحقه فى المغفرة، ماذا وإلا!!:

إن كنتَ لا تغفر ذنبى فما

فضلك يا ربى على العالمين؟

(159/97)

بل إنه قد وصلنى موقفه، وكأنه احتلّ موقعه فى الجنة “بوضع اليد”، وهو يكاد يهدد أنه لم يدخلها فإنها قد تحتاج إلى “لافتة للإيجار”.

لو كانت النار لمثلى خلت

جنات عدن من جميع الأنام

(160/107)

وبالتالى هو يفرض شروطه حتى فى الآخرة مستبعدا دخول النار بكل غرور.

إيقاف وهامش عن الحيرة

وإذ نصل إلى نهاية الممر الرئيس فى بستان الخيام، نوقف أنفسنا قسرا دون التجوال تحت الكروم، وفى الدروب الجانبية، وفاء لهذا الفرض المحدود فى هذه المقدمة، فالبستان متكاثفةٌ أوراقه، مظلمةٌ جوانبه، والتوهان فيه مطروح بقدر تيه صاحبه، فنحن لم نطرق باب حيرته الأولى بالقدر الكافى.

لبست ثوب العيش لم أستشر

ولا بمساره الحائر دوما

وعشت فيه بين شتى الفكر

ولا بمصيره المقلق

“..أين المفر،

وأيضا:

 ” ماذا اشتعال الروح كيف الخمود

ولا فى شكه فى الشك نفسه

وأمعـِنوا فى الشك أو فى اليقين

 ولا حين يدعوهم منادى الورى (يدعو كلا الفريقين أنه)

ليس الحق ما تسلكون

كل هذا ينتظر عودة ونظرا ووقتا… وقد نجد كل ذلك أو بعضه فنعود، ولكن لنعلن هنا ابتداء أن أهم ما يميز موقف الخيام، هو هو هذا الاصرار على أن الحل هو اللذة، وأنه الأوْلى بها من فرط ما يكابد من آلام،

 وليكن ما يكون.

ثالثاً: رباعيات نجيب سرور

الهجوم الدفاعى..ومرارة المعركةصورة 3

مقدمة:

وصلتنى رباعيات نجيب سرور([23]) مثل السوط الصلب المخشوشن المحمى طرفه بالنار، حتى احمرّ جمرا، وقد غـُمس فى سُمٍّ ناجع، يلهب ويُدمى ويُوقظنا ويفزعنا بتلاحق لا يسمح حتى باستيعاب الألم، ثم يتركنا ليسرى السم فى موتنا لعلنا نستيقظ (باعتباره “ناجعا”) ([24])، أو فلندفع الثمن ونحن نستنشق ترابَ، وعفن وجودنا القبيح القذر.

جمعتُ رباعيات سرور فى هذه الجملة أيضا، التى مثلت عندى بمثابة “الفرضْ”

يقول سرور من خلال رباعياته:

أنا وحيد يا أولاد القحبة، وأنتم عميان قساة وكل منكم مشروع خائن، إن لم يكن قد خان بعد وأخص بالذكر اليهود والأغنياء، أولاد الكلب السفاحين، القتل والصمت والجنون هو جزاؤكم العادل، لو أنكم تهاونتم معهم، أو نسيتم ما هو أنتم، وأبو العلاء المعرّى أحكم كل حكماء العصور، وحتى القبر لن يرحمكم. خذوها الجلدة تلو الُجْلدة، الرباعية تلو الرباعية، أنا لست محتارا أصلا؛ فقضيتى ساطعة كالشمس: إنكم أغبياء سفاحين وأنا وحيد مكلوم أنزف قيحا، ليتناثر قذى فى عيونكم“.

نجيب سرور فى رباعياته أساسا، وربما فى حياته لم يعرف الأمان أصلا، اللهم إلا “تلويحاً عابراً” طمّعه وخانه، فانطلق يضاعف من جرعة التوجس؛ باعتبار أن الهجوم خير وسيلة للدفاع، فامتطى جواد شعره الجامح، وذهب يلهب ظهر العالم بسوط مسموم الطرف، تساعده فى استمرار عدوانه أغانى الفخر، وأهازيج الفتونة؛ يحمى بذلك نفسه وحيدا فى مواجهة العالم الكاذب اللعين.

وقد خَلَتْ رباعياته بعكس رباعيات الخيام من الشكوى المباشرة، والتألم الصادق البسيط، إلا أن هذا لا ينفى وجود الألم، بل لعله يؤكد عمق حدته إلى درجة لا تسمح بمواجهته، أو إعلانه، أو مجرد الحديث عنه، أو الإشارة إليه إلا مُسْقطا فينا وعلينا، وهو يقف فينا (مثل الخيام) خطيبا، ولكن شتان بين خطيب وخطيب، فمنبر نجيب سرور هو ظهر جواده الجامح، فى حين كان الخيام يقف خلف منبره (مقصف خمره أيضا = البار) بائعا أوهام أو كؤوس السعادة الذاتوية.

والحل الذى يطرحه سرور، هو القتل بلا إبطاء، وحتى احتجاجه الانسحابى الداعى إلى الصمت، لم يكن إلا سيفا بتارا، يشهرهُ فى وجه القدر.

الصمت المتكلم

وعلى الرغم من البداية الشاكة فى جدوى الكلمات، كما وردت فى أول رباعية، وهى هى وردت فى آخر رباعية:

فليكن صمت جميع الشعراء

قـدرا يُشـهر فى وجـه القدر

(1/6)، (525/86) ([25])

على الرغم من ذلك  فهو لا يسكت، بل يعلم تماما ماذا يمكن أن تُحدث كلماته من أثر:

إنهم يخشَوْنَنَا فالشعر سحر

هبـة اللـه لكــل الأنبيـاء

(193/74)

وهو يعلن صراحة ما يدعونا لقراءة الصمت:

اكتبوا الصمت إذن فالصمت حرف

(49/22)

الكلمة والإيقاع

والفرس الجامح الذى يركبه سرور، هو “الكلمة”، والسوط مسموم الطرف، هو “الكلمة”، وفاعلية كلماته تتضاعف، من خلال لُهاث إيقاعه المحموم.

ويكاد القارىء يراه رأى العين، فى رباعياته، وقد أمسك بالكلمة، ففكها، وركَّبها. وصقلها، وسنّها، وأحكم مقودها، ثم غمسها في منقوع المر المسموم، ثم نراه وقد تلـفّع بها، ثم راح يجول ويصول وهو يفرقع ويلطمنا بها فى كل موقع؛ حتى أوجعنا وأنزفنا، ولعله أيقظنا، ولكنه أبدا لا يدعها (الكلمة) تسكن بين أيدينا خشية أن نمتهنها، أو نزيِّن بها عقولنا كما اعتدنا.

اعتقدت وأنا أعيش هذه الرباعيات أنه يكاد لا يستطيع قارىء يقظ أن يتلقى كلمات سرور هذه مسترخيا أبدا، ويبدو أن من صفات إبداع سرور أنه يسيطر على الكلمة بعدوانه، ولا يكتفى بأن يستعملها أداة لعدوانه المغير، (قارن الكلمة عند صلاح جاهين). أنظر إليه وهو يفكها ويقطعها ويلمها وينطـقها (بتشديد الطاء)

كلماتٌ كلماتٌ كلماتْ

إنه يونس ياسين يسوع

(40/19)

ثم:

كلماتٌ فى اشتقاق وانعكاس

مثلما موسى.. وماس؟.. ثم سام

ثم سمٌ.. لنرى النسناس ناس

ويظل الصـَّل ([26]) يسعى فى الظلام

(41/19)

لاحِظ جرأته على تقسيم كلمة النسناس ولعبه الحـُر بحرفَىْ السين والميم بحيث تراه وهو يفعل ذلك وقد امتلك ناصية الكلمات بل والحروف بإبداعية مخترقة.. (أنظر بعد) وهو يلعب بها وبمقاطعها كما شاء له اللعب، دون أن يفقد القيادة أبدا:

إعكسوا اللص فإن اللص صـل

واعكسوا العكس فإن الصل لص

يا ظلال الكهف ما صِلُّ وظل

ها هو الصقر وبالمعكوس رقص

(42/19)

ومن هذه البداية العدوانية بالكلمات، وعلى الكلمات ذاتها، نستطيع أن نمسك بالخيط الأساس الذى تنتظم من خلاله أغلب، أو كل الرباعيات، وهو:

القتل هو الأصل،… والحل هو القتل.

نجيب سرور (نجيب الرباعيات.. وربما نجيب الشخص دون إلزام) لا يعرف الأمان، ذاقه فأثاره واختفى، فأنكره، بل رفضه أصلا وتماما:

لا تقولوا ” وعلى الأرض السلام

إنـها من غيظ موتانــا تُقات

(6/7)

كُتب القتل علينا والقتال

(217/84)

فالقتل الأصل، والقتل الحل، هو القانون الأوحد للوجود؛ ذلك لأن المسيرة البشرية تبدأ بالقتل قبل البداية، وتضع الرباط تلو الرباط، حتى إذا نجا الواحد من أولها، لحقه آخرها. فالجنين هو أول ضحايا الاغتيال مع سبق الإصرار:

فى بطون الناس تُغتال الأجنــّة

(9/8)

فإذا نجا بالصدفة أو بالعناد، وولد – لاسمح الله – فإن الموت يولد على رأسه، وكأنه التوأم الملاحِـق:

يولد الموت على رأس الوليد

(10/9)

فإذا نجا الوليد يوما أو عاما أو يزيد، فعليه أن يكفِّر عن هربه بأن يفعلها هو “نفسه”… وإلاّ:

ما الذى يبقى سوى أن ننتحر

(10/9)

فإذا حدث أنْ أبَىَ الواحد منا أن ينتحر، وراح يحاول الحياة ليعيد صياغتها، فقد وقع – كما يقرر سرور – فى شر أعماله، وعليه أن يدفع الثمن، الحصار فالانفجار، والحصار قد يشمل أن يـُرمى الواحد بالجنون، أو أن يتلفت مذعوراً مدافعا طول الوقت؛ خشية أن يرمَى بالجنون، والانفجار هو أن يجن فعلا  وكأنه قد حقّقَ الموت بصورة متحدية:

ما الذى يَلزم كى يُقتل شاعر

إن تأَبَّـى فأبـى أن ينتـحر

الذى يلـزم أن يحيا محاصر

واخنقوا البركان حتى ينفجر

(12/9)

إذن لا مفر، ولا خيار:

والذى يُفلت منا بعد سجن

بعد شنقٍ: سوف يُرمى بالجنون

(18/11)

أصل القتل بالداخل: (غريزة الموت)

بعد عرض هذه الملاحقة بالقتل بكل أنواعه، وقبل عرض دعوة سرور إلى القتل بكل صوره، سوف نتتبع جذورَ المسألة: فسرور يرى، ربما دون قصد، بل لعله يرى برغم قصده كما خطر لى، أن أصْل كل هذه “المقتلة” (وليس المعركة) هو دمار داخلى، لعله هو هو غريزة الموت، وهذه الغريزة التى قال بها فرويد (ثم يقال إنه أنكرها فى آخر أيامه، ولكن المؤكد أن أغلب أتباعه أنكروها)، هى الوجه السلبى التحطيمى لغريزة العدوان([27]) وسرور لا يقول ولا يعلن موقفه من غريزة الموت هذه، إلا أنها تطل من بين ثناياه قوية واضحة ولكن سرعان ما تختفى وراء أكوام الأشلاء ودخان النتن المتصاعد من عفن الجثث. وقد ظهر سرور متلبسا بالإفصاح عنها مباشرة ذات مرة:

ها هى الرحلة مذ كان الزمان

لكأن الطيـر يهوى مصرعه

(3/6)

وهو يعطى للموت نفسه إرادة مستقلة تكاد تغلب أصل” إرادة الموت” لدى الإنسان، الموت قدرٌ حين يقررُ يقدرْ؛ أما إذا أراد أحدنا الموت، فالمسألة ليست جاهزة تحت الطلب!! الموت هنا عند سرور ليس مثل موت الخيام؛ بمعنى نهاية الحياة، إنه الموت الداخلى العنيد.

عندما أختار موتى لا أموت

لا يمـوت المرء إلا مـُقسرا

(8/8)

فالموت هنا كائن مجسد غريزى، وهو كائن قادر فاعل، وهو الذى له اليد العليا حتى يقهَرُ ويقسر:

عندما يختارنى موتى أموت

آه.. من يختار لى أن أجْبَرا

(8/8)

وتعبير.. “يختارنى موتى” له دلالة خاصة؛ ليفرق بين تعبير الخيام مثلا عن الموت، فموتى (بياء المتكلم)، غير ذلك الموت الذى هو على رقاب العباد، وروعة الشطر الثانى، تشير إلى الحتمية الغريزية لهذا الكيان (الموت) الذى تحرك فى الداخل؛ وتلك هى الحقيقة التى التقطها سرور بحدسه، فكأن غريزة الموت قد رجحت كفتها عنده نتيجة “للافتقار” إلى الأمن الأولى”وأيضاً نتيجة  لهياج” التوجس الأولى وحين حدث ذلك.. حين انفصلت غريزة الموت عن الكيان الكلى، ثم أُسقطت فى كل صور القتل، فى مواجهة العالم، أصبحت قدرا لا مفر منه، فإذا بها هى هو، فكأنه “أُجبر” على سلوك هذا السبيل التحطيمى نتيجة “لاختيار” أعمق وأخطر وأسبق.

وغريزة الموت هذه، تبدو نقيض غريزة العدوان بمعناه الاقتحامى والدفاعى، وقد ميزتُ فى بحثى السابق عن “العدوان والإبداع”، بين العدوانية التحطيمية Destructiveness، والعدوان Aggression  كخطوة جسورة للأمام، ميزت بينهما باعتبار أن الغريزة إذا انفصلت عن الكل، فإننا نلقاها وقد ارتدت للداخل، أو انطلقت منفصلة إلى الخارج، أو شوَّهت المسيرة وعوقت الخطى، أو حدث كل ذلك معا، وهذه هى العدوانية، أما إذا ظلّت غريزة العدوان ملتحمة  بالكل، فى جدل حى مقتربٍ مقتحمٍ مع الموضوع وهو يتضفّر فى كلية مسئولة، فهو الإقدام لا العدوانية، وهو الإسهام فى التفكيك تمهيدا لإعادة التشكيل = “الإبداع” .

والعدوان فى رباعيات سرور كما نرى قد انفصل فعلا، فأصبح قوة جامحة واضحة الهدف، أحادية النظر، أصبح جسما غريبا: نيزكا منفصلا خطيرا، لكنه لحقه بشعره وإبداعه كما نرى.

السر المستحيل، والسر البديل

ولو كان هذا الحل هو الحل فعلا: بمعنى أن الموت هو الأصل، أو  أنه لا خلاص من الاستسلام إلا بالقتل، لـَمـَا كان ثَمَّ سر يحتاج إلى التساؤل، ولا سعى يبرر كل هذه النقلات بعنفها المنذِر، وإلى درجةٍ ما نلاحظ أن سرورا لا يعلن حيرته أمام القدر أو الحظ مثل الخيام، ولا أمام الغموض الواقعى أو الذاتى مثل جاهين، فهو أبعد ما يكون عن حيرة جاهين أمام التناقضات المتواضعة المتداخلة، فالأمور عنده محلولةٌ حَسْماً كما أسلفنا، لكنه يُضبط متلبسا وهو عاجز أمام السر الأعظم، ثم، وهو لا يستطيع احتمال هذا العجز.

 ومع الاستسلام المطلق لاستحالة الكشف عن هذا السر الدفين، ينطلق إلى الناحية الأخرى تماما بكل “اليقين التعويضى”، أى أن سروراً لا يحتمل رحلة السعى المُعانى الذى يضع ذاته فى بؤرة المحاولة، بل هو يصفق أبواب الداخل (حاوى المستحيل) وراءه لينطلق إلى معركة الخارج دون تردد، حتى لو اكتشف أنه قد أغلق أبواب القبر نفسه، وأنه لم يعد إلا “قدرا” (قتيلا) يُشْهَرُ فى وجه القدر (موتا):

نحن أقدار تحدينا القدر

بقتيل قام فى إثر قتيل

(54/23)

ومع ذلك ـ أو قل لذلك ـ فقد ضبطناه متلبسا يقول:

يُدفن السر اقتسارا حين نُدفن

كان قبلا مستكنـًّا فى الصدور

آه مــن قبرين كيف السر يُعلن

إن يــكن يوءَد فى كل العصور

(5/7)

فلو أنه سرٌّ فى متناول السعى، ولو أن ذاته كانت قد “أمِـنت” يوما حتى أصبحت “رحلة الداخل والخارج”([28]) ممكنة، لكان للأمر وجه آخر، فهل هذا السر هو هو الذى وراء القَـتْلة الشنعاء الدائرة على رقاب العباد؟. وكلنا سيصيبه الدور!!.

عندما يَقْتُلُ زيدٌ أىَّ عمرو

ونرى زيداً كما عمرو قتيلا

فوراءَ القتلة الشنعاء أمر

هـو سرٌ سيعنَّينا طويلا

(7/8)

ما هو سر سرور؟ أهو واحد أم أكثر ؟

لا أحسب أن سروراً استطاع أن يقف طويلا أمام أى سر، ومع ذلك ففى المرات النادرة التى تكلم فيها عن هذا السر أو ذاك، بدا حاسما يائسا من أية معرفة له، أو سعى تجاهه، وهو ليس سرا واحدا؛ فالسر الأعظم من وجهة نظره هو الذى انتقل من قبر إلى قبر (آه من قبرين كيف السرُّ يعلن)، وما يريده بالقبرين غير واضح، لكن الأرجح أنه يشير إلى الرحم من ناحية، والقبر من ناحية أخرى، أما السر الآخر الذى يحافظ على الاستمرار حسب قانون البقاء فأحسب أنه احتمال “تكامل الحياة المتناغم حتى أعلى مراتب الأكوان المفتوحة”، وهذا ما يئس منه سرور أصلا وأبدا، أو لعله لم يبدأه أصلا، أو ربما هو لا يعرفه ولا يريد أن يعرفه، بل يصر على رفضه ابتداء؛ جزاء خيانة الآخرين له، وربما يكون سرور قد اندفع وهو يعلن وجود هذا السر بهذا الحسم، إلا أن مسيرة رباعياته لا تدل على أنه كانت له أية فاعلية حقيقية فى تهدئة المعركة أو فتح باب المراجعة؛ بل إنى تصورت أن هذا هو السر الذى يئس حتى من أمل أن يتحقق فى أجيال تالية، بعد أن عجزنا أمامه؛ فالسرقة ممتدة الأثر أبدا.

سرقوا حتى أغانىّ لطفلى

ربما أودعتها “السر” ([29]) المصون

(204/79)

ولكن ما شأن السر الآخر؟ لعله عكس هذا تماما، لعله نابع من العجز، ذلك السر الآخر الكامن وراء القتل المتلاحق من زيد إلى عَمْرٍو، إلى نجيب إلى غيره… !!. ذلك السر ” وراء القتلة الشنعاء”، هو الذى “سيعنـَّينا كثيرا”. أقول مرة أخرى فى ذلك: إنه وصلنى أن هذا السر هو “غريزة الموت” التى انطلقت لتعلن عجز الحياة، وانفصال العدوان عن الكل المتناغم ليصبح تحطيما متلاحِقا، لا يستطيع أحدنا أن يفر منه؛ فالكل منا سيصيبه الدور لا محالة، والمسألة مسألة وقت.

نجيب سرور إذن يرفض ابتداء محاولة كشف سرٍّ مستحيل التناول (السر الأول أمل تكامل الحياة). وهو يضعه بعيدا عن متناول البحث ابتداءً، وبالتالى فلا معنى للاقتراب منه أصلا، ولا جدوى من الدوران حوله؛ ثم هو يمارس نتائج السر الثانى (حتم الموت)، دون النظر فى طبيعته، أو علاقته بالأول.

وهكذا يختلف سرور عن الخيام وجاهين فى “ماهية السر” والموقف منه.

السر عند جاهين يدور حول بحثه الوجودى الحى؛ لتحديد معالم ذاته، وأبعادها ومراميها وعلاقاتها، فالسر عند الخيام يتعلق بتناقضات الاختيار، وخبايا القدر ومفاجآته، وإيقاع حركية الحياة داخله وخارجه، أما سرور فهو يعلن استحالة الرؤية، ولاجدوى السعى لكشف السر أو تحقيقه، فيمضى يحطم القِدْر بما حوى، جاهين يكاد يفرح بسره كأن هذا السر هو وجودٌ فى ذاته، أو هو من طبيعة الوجود، أو هو متمم للوجود، وهو يتجول فى سراديبه دون خوف معوِّق، وكلما اكتشف سردابا أناره بالقبول الواعى؛ ولكنه سرعان ما يكتشف أن النور كشف له عن سراديب جدد، وماذا يهم؟ بل لعل هذا من طبيعة مبررات دوام الحركة عند جاهين.

الخيام يقف حائرا أمام سره، يعلن عجزا نسبيا وضمنيا، ويمضى نحوه متواضعا، ثم يهرب منه فى وهم اللذة، ما أمكن ذلك، ويدعونا لمشاركته.

أما سرور فهو يعجّزنا ويعجّز نفسه من البداية، فيظل سرا مصونا عنه وهو يخفيه عنا، وما دام كَشْفُ السر مستحيل، فالتدمير مبَرَّرٌ، والهجوم متواصل.

وراء سر سرور القاتل: حفز التحطيم والتدمير.

ووراء سر الخيام الحائر: صرخة الألم والجوع للذة .

ووراء سر جاهين الدائر: دفع الحركة ودوامية النبض.

الشقاء .. والألم.. والغيظ

إذا كان الخيام قد أعلن الشقاء تجنبا للألم، وتبريرا لطلب اللذة، فإن سروراً لم يطق إعلان الشقاء أو الألم أصلا.. واستبدل بهما غيظا حانقا (من غيظ موتانا تُـقات)؛ فى حين أن جاهين واجه ألمه، الذى أفرز طيبته، وأورق زهوره.

وعلى الرغم من أن سروراً لا يعلن ألمه مباشرة، فإنه يستحيل على أى قارىء لرباعياته أن ينسى هذا الألم الذى يعانيه سرور، ولو للحظة واحدة؛ فالقارىء يرى هذا الألم فى إغارة سرور وانسحابه (كرّه وفرّه)، وفى صمته وكلامه، فى كمونه وانفجاره، هو ألم رفيع يأبى أن يعرض نفسه أصلا من فرط يأسه من أى مشاركة، وعجزه عن أى حل حقيقى، هل يمكن أن نخطىء ألمه وهو يقول:   

1- ـ قد ولدنا بين أظفار القوابر

ويوارينــا غـرابٌ بالأظافر !

(30/15)

أو  2-  صوَّبوا للظهر آلاف الخناجر

ثم ساقونا وقالوا: شهداء

(33/16)

أو 3-  كلنا فى مربط الخيل قنابل

(51/22)

أو 4- ها أنا كالطعم فى دار الجنون

فاخنقوا الأشواق.. كونوا كالحجارة

(219/84)

أو 5-  يا إمامى ليس للإنسان عورة

إنه الصيـد مباحا للنسور

(205/79)

أو 6- جرَّبوا الثكل فكم جاء عتيا

يعصر التحنان فى دمع الضروع

(167/68)

أحسب أنه يكفى هذا (أو بعض بعضه) لتبيان نوع الألم الدفين الذى لم يهدأ أبدا، والذى يكمن وراء هذه الإغارات القاتلة بكل أشكالها.

ولقد صاحَبْنَا الخيام وهو يتلوى، بإرادة نسبية، فى مجمر الألم، وبالتالى فقد تحملنا إلى درجة ما شرره المتطاير، بعد أن احترمنا وقفته المضطرة – جزئيا – داخل النار المقدسة، ولكننا نحتاج إلى جهد خاص حتى نستطيع مشاركة سرور ألمه الأبلغ والأقسى، وهو يخفيه فى ثنيات مرارة وجوده، وهو لا يكاد يعلن معاناته بتلميح أو إسقاط أو تعميم؛ حتى يلحقها بالحكم الدامغ والحل القاتل. فكم رأيتـُه يشحن بألمه – دون إبطاء- مدفعيته الثقيلة، ويتوكل على الذى قتله، وهات يا قتل.

الفخر.. والهجاء

وسرور يصبـِّر نفسه بين المعارك، وبعضها وهو يستعد ويشحن ذاته للجولة القادمة، يصبر نفسه بقصائد الفخر التى تُخفى جروح الألم؛ فهو لا يتحدث عن نفسه كما يراها، وهو لا يشكو، ولا يحتار علانية؛ فإذا اضطر أن يتحدث عن نفسه، فهو يبالغ فى الفخر حتى لنتذكر الشعراء العرب الأقدمين مثل المتنبى، وهو لا يخفى بهذا الفخر ألمه فحسب، ولكنه ينكر وحدته بإعلان استغنائه عن أى آخر، وأية مساعدة، ونلاحظ أن فخره، هو من النوع الذى يعبىء “للحرب المقدسة”.

ولكنه أبدا لم يستطع أن يخفى عنا – من بعدٍ نفسى- احتمالات جذور هذا الفخر، تلك الاحتمالات التى لا تستبعد العكس؛ فعادة ما يتناسب علو الصوت،  وحدَّة النبرة مع احتمالات مناقـِضـَة لظاهر القول، وقد وجه انتباهنا إلى هذا الاحتمال، استعماله المتكرر والـُمـِلحّ لصيغة النفى فى فخره:

لم أقف يوما بأعتاب الملوك

(106/46)

لم ألـُذْ يوما بباب الرؤساء

(107/46)

لم أكن يوما لسلطان نديم

لا ولم أقصد بأشعارى الحريم

(108/47)

لم أسل كالكلب رفد الأغنياء

لم أكن كالبوق فى رهط الرياء

(109/47)

لم أخف فى رحلة الأهوال حاكم

(110/47)

والمقابل للفخر هو الهجاء، ولا يكاد سرور يكف عن الهجاء طوال الرباعيات، بل إنه يدعو إليه مباشرة، ويعتبره المَنْجَاة الحقيقية من أى هجوم مضاد أو ابتدائى.

وتهاجوْا أخطأ السيف جرير

بالتهاجى مثلما عدى الفرزدق

(221/85)

الوحدة.. والانتماء

وحدة سرور مُرَّةْ.. لعلها أكثر عمقا وقسوة من ألمه الدفين، وهى مثل ألمه، لا تعلن مباشرة، ولكنها تُطل طوال الوقت من السطور، ومن بين السطور، والهجوم الدفاعى هو أحد أساليب كسر الوحدة، وإن كان كسرا مكسورا، فهو يؤكد وجود الآخر بهذه المَقْتَـلَـة. فالقتل فعلٌ موجّه تجاه “آخر”، وهو يختلف عن الإلغاء  ابتداء، فى  القتلِ  ثَمَّ آخر “يهاجَم”، وها أنذا أدافِع فى مواجهة هذا “الآخر”، ومن دفاعى أن أهاجِم هذا  الآخر، حتى القتل، ومشاعر الشك وفرط “التوجس” هى مشاعر نحو “آخر” وهذا هو ما يبرر التفسير الذى وضعناه  لرباعيات سرور التى تصوّرنا أنها ليست إلا تعبيرا ملاحِقا عن: علاقة شاكة، وشائكة، بمن هو “آخر”،  وهى ما يسمّى  عادة بقدْر من الاختزال، علاقة “الكر والفر”، وهى علاقة تَحْفَظُ مجرد البقاء، لكنها لا تثرى أو تُرضى أو تؤنس.

وحين يحاول سرور أن ينتمى إلى آخر؟ يفعلها بطريقته؛ فلننظر  لمن يمكن أن ينتمى؟. وكيف؟. وهو شديد الحذر من أى اقتراب، ومن أية مهادنة، ومن أية ثلة، نبدأ بهذا الإعلان المبدئى:

حـزَّبوا الأحزاب حتى فى الرياضة

مذهبوا الشمس ليصطادوا القمر

فاحذروا التمساح فى قاع المخاضة

إنـــه يقعـــى خداعـا للنظر

(211/81)

فماذا هو فاعل؟

سرور ينتمى وبمنتهى الاندماج حتى التقمص أو التلاشى إلى حزبٍ خاص، حزبٍ كل أعضائه فى ذمة التاريخ، وهذا هو أسلم أنواع الانتماء؛ لأنه انتماء من جانب واحد، الأشخاص تحددت هويتهم بما قاله عنهم التاريخ (وليس ما يقوله التاريخ مطابقاً بالضرورة لما كانوه)، وهم لم يعودوا يملكون أن يكونوا إلا ما كانوه، وهناك يصبحون بعيدا عن أى احتمال يجعلهم مصدرا للخطر، وخطر الانتماء لمن هو مثل سرور ليس فى الانتماء ذاته، وإنما فى مفاجآت المنتمـَى إليهم (خوفا من خيانة الهجر، أو جرح الإهمال.. بوجه خاص)، حزب سرور أعلنه وسماه، ويكاد يكون سجَّـله فى محضر رسمى

جاءنى الضابط إجراء ” تحرى

أنا يا ضابط من ” حزب المعرى

(99/43)

وهذا الحزب: “حزب المِعَرِّى” حائز على كل الشروط القانونية !! وسرور يكاد يحدد أسماء أعضائه المؤسسين ولجنته المركزية… إلخ (من بينهم: الجبرتى ولينين وغاندى وامرؤ القيس ولومومبا ولوركا وعمر بن الخطاب وتولستوى وفردى وجيفارا وشيلدر وإخناتون وهوميروس وبوشكن وابن سينا وأرسطو وابن الهيثم وجاليليو وأبو ذر وإبسن.. إلخ إلخ).

ولكن سروراً لم يكتف بالانتماء إلى حزب المعرى التاريخى هذا، فهو ظاهر الانتماء إلى الجغرافيا (الأرض)، وهو يعلن بوضوح مصريته وانتماءه، بل يكاد يجعل مصر رمزا للأرض كافة (أو للرحم أصلا ) وانتماؤه لوطنه بهذا الوضوح يسهل له تحديد عدوه، عدو وطنه، كيانا جغرافيا وبشريا محددا.

كل حرب هى من أجل الهرم

إنها مصــر.. حرامٌ.. وحرم

(74/33)

وقد فعل، وتوجهت مدافعه فى أوقات كثيرة نحو اليهود بالذات، فَعَلَ ذلك بوضوح حتى وصل إلى إعلان شجاع عن عنصريته؛ باعتبارها الحل الوحيد الذى يواجه به عنصريتهم، فهذه هى القاعدة عنده. وبالتالى لا يفل العنصرية إلا العنصرية؛ ليقضى فى النهاية عليها:

عنصرى أنا.. حقا يا زعيمى

طالما نحفر قبر العنصرية

(145/59)

ولكن هذا الانتماء “الجغرافى” يبدو- أيضا- بديلا عن العلاقة المغامِرة بالآخر المحدد لحما ودما، الآخذ العاطى دون تقديس أو ضمان.

أما علاقته بزعيم الحزب (المعرى)، فهى علاقة تقديسية تقمصية اعتمادية بشكل مباشر، إلى درجة أنه كاد يوحى أن المعرى، شخصيا، هو الذى كتب هذه الرباعيات؛ فكلمة الكتاب تقول:

هـذا جناه أبو العلاء

وما جنيت على أحد

(بدلا من الإهداء: ص 3)

أما خطابه ونداؤه ومناجاته لأبى العلاء طوال الرباعيات، فهى لا تحتاج إلى تعليق، والأمر يأخذ أحيانا شكل التحية الرقيقة:

عـِمْ صباحا يا إمامى يا ضرير

(91/40)

وشكل الاستغاثة والاستشهاد فى أحيان أخرى:

يا إمامى كيف فى لدغ الضمير

يهــنأ النـوم لمن خان الأمانة

(93/41)

ويصل إلى التأليه أحيانا:

يا إمامى ثُمَّ مجـَّدتك بعده

(94/42)

وسرور بهذا الانتماء قد انفصل عن “الآن”، وانتمى إلى التاريخ والجغرافيا بديلا عن الواقع الحالىّ.

وذلك بعكس الخيام الذى حاول أن يستغرق فى “الآن”، والذى، بالرغم من توجسه من الناس والأصدقاء، كان يحلم طول الوقت بالساقى الطيب والنديم السمح، والوجه الصبوح،

 لكن “الآن” عند سرور كانت مصنوعة من حلمه القتالىّ المستِعر أو على الأقل مغلّفة به،  أكثر منها معيشةَ بنبضها الحىّ الحالى المواجِه.

أما جاهين فقد كان يعيش “الآن” بنبضها المتمثل فى مرونة  المسافة ” بينه وبين آخر حقيقى، كما كان دائب المحاولة  للتقليل من هذه المسافة، وأيضا لمخاطرة اجتيازها، فى اتجاه الآخر بموضوعية مؤلمة  نتيجة لحدة الرؤية طول الوقت.

التعميم والوثقانية (الدوجما)

وإذا كنا قد أشرنا فى عجالة إلى حيرة الخيام وشكه وما صاحبهما من حلول عدمية وأحلام الهرب واللذة، كما أشرنا أكثر إلى حيرة جاهين، وشكه  بما يصاحبهما من تحمل الغموض والألم الخلاّق للحفاظ على الآخر، فإننا إذا نظرنا بإمعان فى موقف سرور لا نجد أثرا لمثل شك الخيام أو حيرة جاهين.

إن رباعيات سرور تكاد تخلو من الشك الصريح تماما، وتفسير ذلك يمكن أن يكون كالتالى: إن سرور لا يتحمّل أن يعيش الشك، من فرط شكّه، وبالتالى فإنه حين يلوح له أى شك فى أى قضية يسارع بحلّه بالحسم اليقينى، فهو يصدر فرمانات الوثقانية والحكم الفوقى الذى لا يقبل المراجعة،  فالموقف الذى يقفه سرور من أغلب القضايا التى تعرض له، وجودية  أو تكيفية أو علاقاتية، هو  موقف حاسم جازم، فهو يبدو وكأنه لا يشك فى شىء، ولذلك فما أسهل عليه أن يـُصدر أحكامه وهو  يعمم ويجزم بشكل  يخيل معه للسامع أنه أمام ” قانون دامغ لتفسير الظواهر”. نسمعه يقول:

كل خضر خلفه موسى اللئيم

كل موسى هو فرعون المشبه

كل فرعون هو الكبش العظيم

(74/33)

وهو لا يهمد من فرط استعمال”كل” هذه:

كل حكم كان حكما للقرود

كل قرد هو من جنس اليهود

(73/32)

كل حرب هى من أجل الهرم

كل غزو هو من أجل السفينة

(74/32)

*****

 مـلاحـق الفصل الأول

ترددت كثيرا فى إلحاق هذه الملاحق بهذا العمل، لكننى تراجعت عن ترددى ربما لأعود بالقارئ إلى سلاسة الحكى، ورقة العلاقات بعد هذه الرحلة الغائرة والمغامرة، وأيضا احتراما للتاريخ، فقد كتبت هذه الملاحق مواكبة لأحداثها.

1- رثاء

2- عديد

ملحق الفصل الأول (1)

أولاً: الرثـــــاء ([30])

نبضة حياة مكثفة.. فى طفرة إبداع سهلة

لا يستطيع أى منا، يعيش هذه الحياة بمقاييسها العاجزة، وبأدواتها المحدودة، أن يلم بهذه الظاهرة الفريدة (صلاح جاهين)، ومهما حاول أحدنا، فكتب، ووصف، ومدح، وغاص، وراجع، ورثى مهما حاول وحاولنا… فلن تسعفنا الكلمات ولو صدقت، كلمات مثل “الوطنية” و”المصرية” و”الفن” و”الإبداع” و”الحب” و”الطفولة”… لن تسعفنا كل هذه الكلمات ومشتقاتها، فى الإلمام بحقيقة إيقاع تلك النبضة الحيوية التى عبرت سماء حياتنا الغائمة، فى سرعة ثائرة لاهثة، فيما يشبه الطفرة المكثفة لكل حلاوة وصدق وعمق “ما هو إنسان” فينا.

كنت أعرفه من كلماته، أعرفه أستاذاً لى فى صلب تخصصى النفسى، وكنت أحبه من بعيد لبعيد، وكنت دائماً أحاوره فوق أوراقه، وأعابث كلماته، وأمشى محاذياً خطوط رسومه، وأردد همس أنغامه.. مثلى مثل أغلب مواطنـّى المصريين البسطاء، وغير البسطاء: كلَّ بطريقته.

ثم حدث أن قابلته مصادفة، حين كنا نشترك فى العناية بقريبة عزيزة على كلينا ولم أسمح (ولم يسمح) بأن تتخطى لقاءاتنا هذه الحدود، لكنها كانت فرصة أتسحب فى رحابها؛ لأتعرف عليه من حضوره العيانى، كشخص من لحم ودم، مثله مثل الناس، مثلنا.

وحين ذهبت لـلقائه أول مرة، كنت فرحا فرح التلميذ، وهو يتلمس مصافحة أستاذه برغم تقارب عمرينا  وإذابه يفاجئنى جالساً داخل جسده (وكان فى نوبة بدانة مفرطة!!)  وقد غاص وجدانه فى بؤرة نابضة، اجتهدتُ حتى لا تهرب منى فرصة التعرف عليه تحت ظاهر محاولاته لـلتعامل بسطح ظاهرِهِ؛ حيث كان يتكلم بحكمة هادئة، وصوت رتيب، جعلانى أفزع إلى درجة أن أقول فى نفسى: “لا ليس هو”، لكن الدقائق مضت، فبدا لى أنه ترك نفسه يطمئن، فجعلت أترقب منتظراً، فسمح لطفله – هو هو-  أن يقفز فى عينيه، فاستطاب الحضور، فأطلقه يعلن “القفشة”، أو “يغمز الغمزة”، وراح يقفز من موضوع إلى موضوع، وكأنه يقلب الكراسى أثناء لعبة المحاورة؛ ففرحت حتى رحت أغترف أكثر فأكثر من هذا الوجود الحلو، لكنى ما إن اقتربت أكثر؛ حتى غاص منى إلى مخبئه فى طيات جسده، وقد مسح عن وجهه آثار اللعبة.. فأتراجع مقدرا، منتظراً، مكتفياً.

وهكذا تعرفت عليه شخصيا.

ياه!! لقد كنت أحبه، جدا، فعلا!!!.

أحببته إلى درجة أنى لم أكن أريد الاقتراب أكثر ـ أو لمدة أطول،  كنت أريد دائما أن أحتفظ بصورته معى، فى جوف وعيى، فى بؤرة حسى. أحتفظ بها، لأستمد منها ما تعد به، وأكثر، حتى أنى قلتها له مباشرة ذات مرة: “… لستُ حريصاً على لقائك…، لأنى حريص على أن تظل تفصلنى عنك مساجة ما؛ ينمو فيها كل ما أريده منك”، وما أتصوّره عنك؛  فينظر إلىّ فى موافقة غامضة، ويبدو لى أنه تصنع أنه لم يفهم.

كان فيضا يثرى وعيى بما لا يتطلب منى شد الرحال إلى منبعه، وسط صخور الجنادل، وحين أتذكر ذلك تماما أتساءل:

فلم الجزع لفقد شخصه؟  فأجيب: لعله جزع لتوقف فيضه.

وذات مرة، لمحت ألمه يطل من وراء ظهره، وقد كان يعرف شخصيا أن تقلبات مزاجه قد تصل إلى ما أسماه “الحالة الفرحانقباضية” (بل المرض).  لمحتُ مأزقه فلمحنى أراه،  فأعـلننى أنه: كم هو وحيد، وسط كل هؤلاء الأحباب والأصدقاء والزوجة والأولاد، وكم هو متألم، علي الرغم من الضحكة والنكتة وتواصل الإبداع، وقلت كم أظلمه بإصرارى على رؤية صورته دونه، أليس من حقه كشخص عادى أن “يهمد” قليلا، ولو على حساب إبداعه أحياناً؟. فقلت فى نفسى: “ياحبذا لو أخذ فرصة علاجية من نوع آخر، أصبر وأدوم، بدلا من هذا التسكين، طول الوقت والتأجيل بالكيمياء، ومضادات الأمزجة المتقلبة (فى الأغلب)، لكنى سرعان ما رعبت من الفكرة؛ إذْ ماذا لو “شفى تماما”؟!!. فكفّ عن الإبداع، والعياذ بالله!!. ويبدو أنه ضبطنى متلبساً بهذه الأمنية العلاجية البديلة، قبل أن أتراجع عنها، فراح يؤكد لى أن المسألة كلها “كيمياء فى كيمياء”، وأن العلاج النفسى ما هو إلا تحصيل حاصل، وأنه يضبط جرعة الكيمياء اللازمة بإرشادات طبيب زميل طيب، ولم أملك إلا إعلان موافقة ما، لكنى ظللت شاعرا بالتقصير والعجز، واضعاً يدى على قلبى، منتظراً ما لا أحب له، أو لى، حتى حدث ما قدر الله، هكذا “فجأة”، وبقرار صاعق، من مجهول… أو معلوم.

ومرة أخرى: حدثنى هاتفياً يوصينى بصديقه وحبيبه “فؤاد حداد”، أستاذى الآخر الذى تمثل لى حين قابلته: “ألما خالصا صاغ نفسه فى قالب من الروعه الصابرة المتفجرة فى نبض دافق، فقلت فى نفسى: إذا كان “صلاح” يثق فى علمى وخبرتى حتى يعهد إلى بتخفيف ألم/آلام، الصديق الجميل هذا “فؤاد”، فلماذا تجنب أن يكلمنى بشأن نفسه؟ فاحترمت ذكاءه بعيد النظر، وحمدت له أن جنبنى الوقوع فى مأزق محاولة إطفاء نار هى وقود إبداعه، وضياء حياتنا فى آن

كان وما زال أستاذاً لى: فى صلب حرفتى، وصميم تخصصى، وحين كتبت عن رباعياته مرتين، مرة فيما يتعلق بحالته الفرحانقباضية، والأخرى فى مقارنة نقدية مع رباعيات الخيام، ونجيب سرور، حين فعلت ذلك، كنت أستلهم ما كتب لأتزود بمعارف جديدة، أكثر من محاولتى ترجمة ما كتب، إلى مصطلحات علمية أعرفها، وقد كنت وما زلت، وأنا أدرس لطلبتى الأطباء خاصة، أعلمهم أن يحترموا روعة الحزن وشرف الآلام؛ حتى لا نقع فيما حذرنا “صلاح” منه حين قال: “الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع، الحزن زى البرد، زى الصداع”.

وحين كان يصعب على طلبتى، تفهم كيف يتضفر الحزن مع المحبة، وكيف يتفجر السماح من جوف الألم (فى حالات تكثيف المزاج المختلطة)، كنت أستشهد بقول أستاذى صلاح: وفتحت قلبى عشان أبوح بالألم، ماخرجش منه غير محبة وسماح.

وحين كنت أريد أن أنبه طلبتى إلى أن “المراهقة” تبدو فى نظر الأهل (فى مصر وما شابهها) كأنها مرض يصيب الأولاد والبنات، وبالتالى “ربنا يشفيهم منه”، كنت  أستشهد بقوله:

البنت فارت والولد خنشر، ياميت ندامه، ألف بعد الشر،

يا ريتها كانت نزلة معوية، ولاّ وجع فى البطن يتدبر

كان سهلا..، كانت سهولته تخرج لى لسانها، وتلّعب لى حواجبها، حين أحاول أن أتقمصه فأعجز، وحين أحاول أن أتصور النقلة التالية فى “فزورة” منسابة.

كنت أتصور قبله أن هذه الكلمات العادية، لا يمكن أن تعبر إلا عن معان عادية؟ فإذا بالفكرة الجديدة التى تحمـلها كلماته العادية تجعلنى أفيق نشطا طازجا على الرغم من صياغتها بألفاظ ليس أسهل منها ولا أبسط؛ ذلك أنها إذ توضع فى سياقها الشعرى توقظ طبقات خامدة من وجود المتلقى (وجودى)، وكأن صبياً ظريفاً يسرق منى ما حرصت على إخفائه عنى؛ خوفاً أو تردداً أو استهانة، يسرقه لى ويعطينى إياه، باستعمال “طفاشة” بسيطة من سلك (عادى) مثنى فى ذكاء.

ولا يتركنا “صلاح” إلا وقد فرض علينا – بهذه السهولة –  معجمه الجديد، فلا نذكر “الباشمهندس”، إلا ونخاف على بيت قديم أن ينهار يوم فرح “نيللى”، ولا نذكر “النجار” إلا ونحن نتصور أن “معزة شقية” يمكن أن تأكل البيت (يا حللى)  ولا نتلقى برقية من وكالات الأنباء، إلا وتعبر خلفية وعينا مكتوبة بـ “خط منمنم لولى”.

 معجم صلاح السهل الممتنع، كان يتحسب إلى عمق وجودنا ليثرينا، بنا، بلا استئذان.

كان شجاعاً. قالها، ومضى، كان يمد يده داخل وجودنا ووجداننا، ليأخذ عينة من نبضنا اليومى، فيرسمها، أو يكتبها، وفى ذلك لم يكن يعتنى أن يعمل “حسابا” لأحد يمكن أن يعوقه؛ فضرب فى كل اتجاه، مصيباً الهدف فى أغلب الأحيان، ولم ينج ظالم، أو متعصب، أو حاكم، أو ريجان، أو قذافى، أو خومينى، أو عقائدى، أو ديماجوجى، من صفعة على قفاه، أو مسلة فى ظهره، أو قرصة أذنه، وفى القليل: دغدغة فى باطن قدمه. وقد ظل مبارزاً شجاعاً (طيباً) فى كل اتجاه، مخترقاً مجاملة الأصدقاء، مخلخلاً إيديولوجية المتجمدين، غير هياب بتهديد بالاغتيال، أو بغضب السلطة / إلا قليلاً. وما زلت أذكر لوحة “انتباه”! وهى تصور انفجار جهاز الأمن المركزى، أبلغ من ألف مقال، وأكثر فائدة من كل قرار وتفسير لما كان.

ثم إنه قد  استطاع – أخيرا – أن يبدع خرجته (في الأغلب!)

ولكنه لم يستطع أن يموت، فمازال يغنى داخلنا طول الوقت.

ومن أراد أن يعرف ما هو الإبداع صورةً مكثفةً، وما هوالإبداع تنظيماً متضفـّراً، وما هو الإبداع سهلاً ممتنعاً، وما هو الإبداع تنويعا على لحن قائم، فليعد إلى إبداع ما أبدع صلاح، وسيجد جديداً فى كل زاوية، جديدا متجددا، أبدا. فكيف تقولون مات؟

نوع واحد من محاولاته رفضته حتى العتاب (بينى وبين نفسى)؛ حين حاول أن “يمثل” أو أن يقدم شخصيا برامج وكأنه “يمثل”، فرحت أقول له (فى نفسى): ما هكذا يا رجل، فما جسدك وتعبير وجهك الماسح “هنا”، إلا محاولة طيبة من خالقك أن يحد من وهج إبداعك، حتى لا نعشى فيه إذا فاجأنا إبداعك من خلاله دون حجاب، لماذا تستعمل غطاءك الجسدى، وكأنه أنت؟؟ لماذا التمثيل بالله عليك؟

وبدا لى أنه سمع همستى، فلم يتمادَ فيما ليس هو.

(انتهى المقال)

وبعد

فهل مات صلاح جاهين؟.

لا أظن أن هذه الأحرف الثلاثة (الميم والألف والتاء) يمكن أن تعلن شيئاً نفهمه معاً  الفهم ذاته.

فماذا؟

أحسب أن ما بلغنى من خلال غيابه، هو أنه “توقف”، ولم ينته.

توقّف عن غمس سنّه فى سواد القلم، ولكنّ لم ينته من تجديد حياتنا كل يوم، ونحن نتذكره،

 ونحن نقرأه،

 ونحن ندرسه،

 ونحن نعاتبه،

 ونحن نحن إلى سماع شدوه.

ملحق (2)

ثانياً: عـديد

العديد فى بلدنا، خصوصا إذاكان الموت قد اختطف الوالد، يوجّه كثيرا إلى الميت، يعاتبه مثلا لأنه ترك ابنه يتسكع عند خاله، أو  يعوله عمه، وهكذا.

وصلاح، على الرغم من جرعة طفولته الغالبة، كان قيمة حياتية والدية داعمة لمن يجرؤ أن ينبض بالحياة كما خلقها الله فيه.

وقد حمدتُ الـله أن هذا العديد لم يُنشر، على المستوى العام فى حينه، فلا هو شعر عامى، ولا هو زجل، هو عديد مصرى عاتب، فقط.

فانتهزت فرصة صدور هذا العمل الذى يبدأ به وينتهى به، لألحق به هذا العديد، حيث شعرت أنى مازلت ألومه على رحيله، كم أنا أنانىّ، هل كان يمكن أن يحتمل أكثر؟ لماذا؟

يا صلاح ْ: كانْ لسَّــــهْ ([31])

ماقْدِرْتِشْ تشرب شفطَه كَمَان مِنْ أَلَم الوِحَده؟

طبْ واحـــْــنا؟

يا صــــــلاحْ:

ليه إنتَ؟!  بالذاتْ؟!  دلوقتِى؟!

مشْ بدرِى ؟

طبْ حِـــــتَّهْ

طبْ حَـــــبَّهْ

طبْ لأَّه

قال يعنى(!!)

الطفل، الحلوْ، النغمهْ، السَّـكتــهْ، الهمسهْ،

الراجل، الدّرش،ْ الدايرهْ، الهمزهْ، الحكمهْ،

“كِـــدَهُـــْه ؟؟؟!”

يا صلاحْ:

طبْ بُصْ

طبْ ثانيــِهْ

طـبْ دا انتَ:

يامَا شـــفتْ

يامــــَا قُلْتْ

….طبْ ليـــه؟.

“كِـــدَهُـــْه؟؟!”.

“آه يانــِــى”

طــبْ روحْ،

لأْ.. لأَّهْ

ما تْروحشِى.

إزاىْ؟؟؟؟.

ما اعرفْشِى.!!!.

يحيى الرخاوى

roba3yat2

[1] – يمكن الرجوع إلى هذا الرأى بالتفصيل فى أطروحة للكاتب بعنوان “العلوم النفسية والنقد الأدبى” مجلة فصول المجلد التاسع، العدد 3، 4، سنة 1991

[2] – إلا أن أ.د مصطفى الضبع فى هيئة قصور الثقافة اقترح عنوان “تبادل الأقنعة” ووجدته عنوانا جميلا  دالا، فوافقت عليه ونشرت المجموعة التى تضمنت نقد لبعض أعمال ديستويفسكى أساسا بتاريخ 2006  من منشورات قصور الثقافة باسم “تبادل الأقنعة”.

[3] – نشرت فى صورتها الأولى فى كتاب:  “حياتنا والطب النفسي”، دار الغد للثقافة والنشر، القاهرة، 1972- للمؤلف – بعنوان “صلاح جاهين وشخصيته الفرحانقباضية” وقد أجريت تعديلات ليست قليلة فى النسخة الحالية.

[4] –  كتبت هذه الفقرة فى فترة حماسة باكرة، منذ نصف قرن، وأظن أننى كنت ـ حينذاك ـ أحاول تقريب كلمة “العقلية” من الناس؛ حتى لا تظل تصنيفاً منفـِّرا، لكننى الآن أتراجع لأن التفرقة واجبة، وباختصار:  فإن ما يسمى الأمراض النفسية (أو العصاب) هو نوع من فرط العادية، حتى المعاناة، فالإعاقة النسبية، أما ما يسمى الأمراض العقلية (أو الذهان) فهو فشل كل من النموذج العادى للحياة مع إجهاض محاولات التجاوز (الإبداع) فى آن واحد

[5] –  لا تقتصر النوابية على الهوس والاكتئاب وقد أضفت نوعين موازين: النوع الأول الشخصية “المُغيرانسحابية“؛ حيث تتراوح نوابيتها بين الإغارة والإقدام، فى مقابل الانسحاب والهرب، أما النوع الثانى فهو الشخصية “الشكّاحتوائية”، وتفصيلهما فى كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” 1979 ص 477.

[6]  –  الانهباط: هى الكلمة التى اقترحها الأستاذ المرحوم أ.د. عبد العزيز القوصي؛ لتكون بديلاً عن كلمة الاكتئاب؛ حتى لا نستعمل الكلمة نفسها فى السواء والمرض، بمعنى أنه إذا وصل الاكتئاب إلى درجة مرضية، سمى انهباطاً، وهكذا نحفظ للاكتئاب حقه فى التواجد كحالة سوية.

[7]  – وقد وضعتُ لذلك فرضا يفترض أن هذه الاضطرابات تنشأ، حين لا تتوافق دورات الإنسان الفـَصـْلية، مع دورات الكون الطقسية، وبتعبير أدبى: “حين تتفتّح الزهور فى الربيع، ولا يتفتّح الإنسان معها، أو لا يتفتح بسرعتها، أو لعله يزداد انغلاقا فى مواجهتها”، يحدث الاضطراب وخاصّة النوع الوجدانى منه.

[8] –  انظر الفصل الثانى، وقارن بالخيام.

[9]  –  من أعراض هذا النوع من الاكتئاب، عرض يسمّى “الإحساس بتغير الذات” depersonalization أو “تغير الواقع المحيط “derealization.

[10] –  عـَرَض أفكار الإشارة Ideas of Reference   يعنى شعور المريض أنه محطّ أنظار الناس، بدرجة أكبر من الواقع، ولكن قد يصل الأمر إلى اعتقاد راسخ بأن ذلك يحدث فعلا، وأنه يترتب عليه مترتبات أخرى، مما لا يمكن تصحيحه أصلا، ويسمّى حينئذ ضلالات الإشارة Delusions of Reference..

[11] – رقم الصفحة عموما  يشير إلى طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977.

[12] – من هنا لابد أن استسمح القارئ فى إعادة بعض مقاطع من رباعيات سبق الاستشهاد بها فى الفصل الأول، فهو تكرار يبدو حتمى للإبانة.

[13] –  “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” 1979.

[14]  –  أستعمل كلمة صدمة بمعنى وظيفتها الإبداعية. أى تلك الرسالة التى تفاجىء ما تعودنا، فتهزه بإضافة بعد جديد إليه، أو إلزام إعادة رؤيته

[15] –  قارن  أنغام  التكية ورقص الطبيعة،  وإيقاعها فى ملحمة  حرافيش نجيب  محفوظ، كما وردت فى نقد المؤلف الملحمة: قراءات فى نجيب محفوظ،  (فصل دورات الحياة وضلال الخلود، ملحمة الموت والتخلق “فى الحرافيش”،  صــ19 ـ 651)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992.

[16] – صلاح عبد الصبور “يوميات نبى يحمل قلما، ينتظر نبيا يحمل سيفا” فى مسرحية (ليلى والمجنون).

[17] –  طنبل: تحامق (الوسيط)، وكنت أودّ أن أستعمل الكلمة العامية طنّش، ولكن…

[18]  –  يحيى الرخاوى “العدوان والإبداع” “مجلة الإنسان والتطور” عدد يوليو 1980،     ص 94 ـ 28.

[19]  – فضفض الشئ: اتسع، وفضفض الثوب: وسَعه، واستعمال هذه الكلمة بالعامية، قد يعنى توسيع الصدر بالتنفيث عن مخزون من الهم. لهذا استعملتها فى هذا المعنى داعيا إلى مثل ذلك

[20]  –  نسبة رباعيات الخيام إلى هذا العالم الرياضى الفذ ” غياث الدين أبو الفتح عمر بن إبراهيم الخيام”، أمر حوله نقاش كثير. ولما كانت أول نسخة مخطوطة قد كتبت بعد وفاته بخمسين وثلاثمائة سنة، فإن نقاء الرباعيات وحتمية نسبتها إليه شخصيا أمر تحوطه الشكوك.

[21] الترقيم  /      /    9999999999   / 

[22]  –  كما يقول الحسن بن هانئ

وما الغُبنُ إلا أن تراني صاحياً … وما الغُنمُ إلا أن يُتعتعني السُكرُ

[23]  –  فى النسخة التى بين يدى: رباعيات نجيب سرور (الطبعة الأولى 1978) منشورات مدبولى، كتب المؤلف فى آخر صفحة: السبت الأول من يونيو سنة 1974 مستشفى الدكتور النبوى المهندس للأمراض العقلية. ولا أتصور أنه كتب هذه الرباعيات جميعا فى ذلك المستشفى العقلى، أثناء تلك النوبة. لعله فقط أنهاها أو سوّدها هناك، ثم أعاد تنظيمها وصياغتها فيما بعد. وإن كان لا يمكن نفى الاحتمال الأول احتراما لشجاعته.

[24]  –  نجع الشىء نجوعا: نفع وظهر أثره.

[25]  –  نهج الترقيم ذاته (رقم الرباعية ـ شرطة مائلة ـ رقم الصفحة) نسخة منشورات مدبولى، 1978 (قمت بترقيم الرباعيات شخصيا).

[26]  – الصل (بكسر الصاد وتشديدها): الحية من أخبث الحيات

[27]  –  أنظر هامش رقم (18).

[28]  –  رحلة الداخل والخارج ”   in and out programهى الرحلة التى أشار بها ” جانترب ” (مدرسة العلاقة بالموضوع) شرحا لحركة الإنسان نحو الموضوع فى الخارج، ثم انسحابه إلى الذات، وكذلك تعبيرا عن حركة النمو النبضية، التى تشمل نكوصا أقل، واندفاعة أكبر باستمرار، وهذه الحركة طبيعية وضرورية لتحقيق النمو المرن المستمر طالما أن ذراع التقدم أطول من ذراع التأخر (الانسحاب) مع كل نبضة نمو.

[29]  –  علامتا التنصيص فى الأصل الشعرى لسرور

[30] – لا أذكر أين نشرت هذا الرثاء وقد بحثت عنه فى أوراقى وحاسوبى، ورجحت إنها مجلة صباح الخير فى حدود ذاكرتى، ولم أستطع أن أحدد الموقع والتاريخ، فكان حافزا لنشره هنا ربما لم ينشر أصلا!!

[31] – نفس الموقف تكرر معى حين رحل عنا نجيب محفوظ وتذكرت الآن أننى وصفت رحيله فى رثاء عاتب بقصيدة “لِمَ قُـلتَها شيخِى: “كَفى”!! وقد نشرت فى الأهرام، ثم فى عدة مناسبات أخرى ويمكن الرجوع إليها فى موقعى www.rakhawy.net ، واجتمع علىّ هذا الاحتجاج “لماذا” عندهما معا، فقد كان جاهين حرفوشا ـ أيضا – بعض الوقت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *