الرئيسية / الأعمال الأدبية / كتب أدبية / تداعيات يحيى الرخاوى

تداعيات يحيى الرخاوى

  • التداعى الأول: قصة فى قطار 
  • التداعى الثانى: فى المقهى 
  • التداعى الثالث: اللعبة والملعوب 

تداعيات

يحيى الرخاوى

 

الطبعة الأولى(1)

2017

 

الإهـــداء

إلى محمد يحيى الرخاوى

 

مقدمة:

حين جمعت قصصى القصيرة التى نُشرت والتى لم تنشر، وجدت بينها قصصاً أشبه بالمقال، كما نظرت فى بعض مقالاتى فوجدتها مقالات أقرب إلى الصور القصصية وأى من ذلك فيه جرعة ذاتية واضحة.

كما لاحظت شكلا من التداعى ربما قريبا مما يسمى تيار الوعى فجمعت مرحليا جمعت مجموعة محدودة  تحت مسمى: “تداعيات” هى كالتالى:

التداعى الأول: باسم “قصة فى قطار”

و فيه شهادة كاتب يمارس النقد أحيانا، قدّمها وهو يمر بتجربة كتابة قصّة فى وقت محدد، كنوع من التجريب التأمّلى المتوازى مع فعل كلٍّ من النقد والإبداع.

التداعى الثانى: وعنوانه “فى المقهى

وهو يشمل ثلاثة أجزاء (1) مقعدان  (2)  الجريمة والناس، (3) اعتراف

التداعى الثالث: بعنوان “اللعبة والملعوب

وهو تجريب لخبرة كررتها، وأحببتها ، وهى نوع من التزاوج بين القصة والمقال، وكأنى كنت أحاول اختبار مدى نجاح التناوب بين غلبة النصفين الكرويين، حيث نشرت فى صورتها التقليدية بعنوان “ماذا بعد أن لعبنا معا لعبة الألفية” بالأهرام بتاريخ 18/1/2000، ثم جرى عليه ما جعله أقرب إلى التداعيات ونشر فى مجلة سطور عدد (40) مارس سنة 2000، وهى الصورة الماثلة فى هذه الطبعة.

فهل يا ترى تقوم هذه العينة بالوفاء بما أعنيه بما هو “تداعيات”؟

وهل تصلح مدخلا  إلى توضيح مأ أقصده بـ الأعمال المتكاملة”؟ ومن مصطلح “الأعمال الناقصة/المتكاملة؟”.

****
التداعى الأول

قصة فى قطار” (2)

شهادةٌ فى قصة ليست قصيرة!!

1 قطار

على المقهى الذى فى ميدان سيدى جابر، على شريط الترام وأنت ذاهب نحو المحطة توجد قهوة كبيرة ماسكة ناصيتين، جلس على الرصيف فى الظل ووجهته ناحية الترام، لا ناحية المحطة، مع أنه فى المرّة السابقة كان يجلس ووجهه للمحطة، وراح ينظر إلى ناحية القطار كل قليل، وكأنه سيراه وهو قادم فيجرى ليلحق به، بدا وكأنه لم يصله خبر أن الأمور تغيرت، وأن قطارات هذه الأيام لا تحتاج إلى الحدْس ومباريات الجرى، كلّه بالدقيقة، شئ فرنساوى، وشئ توربينو، وشئ أسبانى، مصلحة السكك الحديد المتحدة، ثم إنه لمّا تجوّل المرة التى فاتت اكتشف منطقة لم يكن قد تجوّل فيها من قبل، توجد هذه المنطقة على الناصية المقابلة، الناحية الثانية من شريط الترام، مطعم صغير أمامه شوّاية الفراخ بروائحها التى هى، يبدو أن هذه هى أيامها بعد حكاية جنون البقر، ثم فرن جميل نظيف تتصاعد منه رائحة الطزاجة الدافئة، هو يحب هذا الخبز هكذا دون غموس (الخبز الحاف)، فى جولة سريعة المرة السابقة، تعرف على المكان وكأنه مسافر إلى الخارج يكتشف حوارى بلد متوسط على الطريق، مثلا: من تركيا إلى اليونان، هذه المرّة  لفّ نفس اللفّة وكأنه يتأكد أنه قد أصبح له حق مواطَــنة وطن جديد اسمه “سيدى جابر” لا يحتاج الأمر إلى دخوله أية إجراءات أو تأشيرات، شوارع ضيقة نسبيا، وعمارات متوسطة قديمة منتصبة فى ثقة وهى تتحاور فى همس، ومحلات بسيطة ونظيفة وصغيرة، وانحناءات غير متوقعة، ثم إنه عرف كيف يوحّد الاتجاه رغم الانحناءات التى تصل إلى الزاوية الحادّة، يسار فى يسار فى يسار تجد نفسك ثانية على شريط الترام أمام بورصة كذا (لم يعد يهتم بالأسماء بعد أن تكرر نسيانها) والبورصة، كما خيل إليه فى لغة الإسكندرانية، تعنى القهوة، ناس يجلسون مع بعضهم البعض، ناس بحق، لا ينتظرون القطار، أى قطار، فقط يجلسون ويتصايحون ويلعبون ويتكلمون ويضحكون، والله زمان، هو ليس من رواد المقاهى أصلا، وقته لا يسمح، ومع ذلك، والله زمان، كله من هذه السيارات، وخاصّة هذه السيارة الأخيرة ذات المقعدين، فَصَلَته عن الناس، كيف يمكن أن يتربى الأولاد بلا اختناقات فى الأتوبيس، وبلا بحث عن الفكّة فى جيوبهم ثم حوار مع المحصّل (يعنى: “الكمسارى”؟!) وكان قد تعمّد، بعد أن كبر الأولاد واستقلّوا، شراء هذه السيارة الشبابى، لا ادعاءً للشباب وإنما تجنّباً أن يركّب أحداً معه، حتى من أولاده ما أمكن ذلك، ناهيك عن المارة الذين يشيرون بأيديهم أحيانا فيخجل هو من المقعد الخالى بجواره، ومع ذلك لا يقف لهم، وأيضا هو نجح أن يقاوم إلحاح أولاده وزوجته أن يوظف سائقاً خاصّا يليق بدخله ويوفر وقته، نقوده القادرة على تعيين سائق خاص كادت تحرمه حتى من الاختلاء بنفسه فى السيارة وهو يستمع إلى إذاعات لندن والإذاعات الأخرى التى تكرهها زوجتة، فهى تعتقد أنها إذاعات متخصصة فى نشرات الأخبار المليئة بالقتل والغم والحوادث، هذه السيارة، كل السيارات، أصبحت حاجزاً فوق الحواجز بينه وبين الناس، ومع ذلك فهو يحب هذه السيارة حبا جما رغم كل شئ، “اثنين صُحبة، ثلاثة زحمة”، قولٌ “خواجاتي” سخيف، أثناء جولته هذه المرّة وقف أمام الدكان الصغير على ناصية أحد الانحناءات الحادة، أمام الدكان ثلاجة بها “آيس كريم”، فتحها وتناول منها قمع البسكويت الذى يحبّه رغم قشرة الشيكولاته التى لا يحبها، دولسيكا بالبسكويت، هو لا يحب البوظة أُمّ عصا، أصبح قمع الدولسيكا بجنيه، هذا هو الشئ الذى استطاع أن يتابع أسعاره فى السنوات الأخيرة، 35 قرشا، ثم 50 قرشا، ثم 65 قرشا، ثم هُبْ قفزة إلى الجنيه الصحيح، إنه لا يشترى – شخصياً – شيئاً بنفسه، وهو لا يحتاج إلى شئ، وبالتالى لا يعرف إلى أين وصلت الأسعار هذه الأيام، ثم إنه لمح كراريس على الرف الداخلى للمحل، هذه أيضا من الأشياء التى كان يشتريها من سنوات قبل حكاية الكومبيوتر، “أرخص كرّاسة لو سمحت”، متوسطة، ورق أى كلام لو سمحت، غلاف عادى لو سمحت، ما الحكاية؟ لو سمحت لو سمحت لو سمحت، المهم، اشترى الكراسة، لماذا اشترى الكراسة؟ هذا أمر فى علم الغيب حتى هذه اللحظة، اشتراها بجنيه أيضا؟ نفس ثمن الآيس كريم، ثم إنه فرح فرحاً مناسباً، بغير سبب ظاهر، الكراسة بجنيه والـ”جيلاتي” بجنيه، مثل زمان، دومة بمليم، وعسلياية بمليم، وقرطاس لب بمليم، وتتبقى نكلة، والكراسة (زمان) 32 صفحة كنظام وزارة المعارف العمومية بنكلة، أو تعريفة حسب الورق، هو لا يحب تذكّر الماضى بحنين خاص، ولكنه لا يستطيع أن يحول دون الشعور بهذا الحنين الخاص رغم اختلاطه بمشاعر متداخلة من المذلة والضعف والحيرة والوحدة، نعم والوحدة، منذ هذه السن المبكرة، انقطعت علاقته بالتسوق تقريباً فيما عدا هذه الـ”دولسيكا ” وبعض الكشاكيل التى توقف عن شرائها بسبب صديقه الجديد، الحاسوب، ما أسخف الاسم، هو الكمبيوتر وخلاص، فحتى أسعار الكراريس والكشاكيل توقف عن تتبعها، وهو قد اكتفى بإعطاء زوجته مبالغ أكثر من المطلوب حتى يوفّر على نفسه الشكوى من الأسعار، ومع ذلك فهى لا تكف عن تذكرته، وهو يزوغ، وهى لا تكف،”فيم نـتكلم إذن إذا لم نتكلم فى الأسعار”، يا ستى خلّ الهم لأصحابه، نحن قادرون والحمد لله، فتنبرى زوجته تحاول أن تـُفَهمه أنها تتكلم من أجل المهمومين، هكذا مرة واحدة؟ طيب كيف؟”؛ إن كثرة الكلام عنهم تجعلنا ننساهم، أعنى قد تجعلنا ننساهم. نعم؟ نعم؟ خلاص، لا أقصد، بل تقصد. أستغفر الله العظيم، آخر كشكول اشتراه كان بعدّة جنيهات، أغلى من روايات نجيب محفوظ زمان، كان كبيراً ومرسوماً عليه صورة أحد المغنيين أو الراقصين (لم يعد هناك فرق)، وحين طلب غلافا سادة لم يجد، فاكتفى بغلاف عليه ميكى ماوس، مع أنه يحب أكثر توم وجيرى، وزوجته تواصل الحديث عن الأسعار، وهو لا يستطيع أن يجد ردودا مناسبة كل مرة، وهذه المرّة الأخيرة اكتفى بأن يزوم وهو يهز رأسه، فتمادت ظانّة أنه فهم ويتابع، فيتمتم، فتتمادى، فيزوم مرة أخرى بطريقة أخرى، فتتمادى وهى تحدثه عن الناس المساكين جدا، وتبدى من أنواع الشفقة ما لا يجوز، وهى تؤكد أن الحديث عن الجوعى والمساكين هو مسئولية كل متحدث، وذلك حتى لا ننساهم، يا حرام. كذا؟.!! وهكذا تلقى عن كاهلك كل شئ بمجرد أن تحكيه، هذا رأيه. يا سبحان الله، نحن نخفّض الأسعار بالكلام، نبنى مساكن للشباب بالكلام، ونروى لهم الأفدنة الصحراوية التى ضحكنا عليهم بها فتاجروا فيها ما دامت بدون ماء، بالكلام أيضا، يبدو أن الكلام مهم جدا فعلاً !! ماشى، كلام الناس هو الرأى العام؟ الرأى ماذا ولا مؤاخذة؟. الرأى العام: يعنى الرأى العام، ماذا فى هذا؟. ألم نتفق على التوقف عن المعايرة، وفارس مالبورو ينظر إليه من الإعلان الكبير الموجود على حائط العمارة المقابلة، والله هذا الفارس أرحم من تلك الراقصة على غلاف الكشكول اياه، على الأقل هو فارس يذكرنا بشهامة موقف الفرسان الذين لا يطعنون فى الخلف، ثم إن هذا الفارس بالذات يوصيك بالنكهة، حلوة النكهة هذه، وهو لم يعد يدخّن، بل إنه لم يكن مدخنا أصلا، فلماذا اشترى الكراس؟ وما علاقة هذا بذاك؟ عجيبة، عموما هو طالع فى مقدَّر جديد، منذ قرر أن يستقل القطار ذهاباً وإياباً إلى الإسكندرية التى يحبها جداً، يحبّها أكثر مما يحبها إدوارد الخرّاط وغالبا أكثر من يوسف شاهين، من أين له أن يعرف؟. من فرط حبه لها، لا يوجد أكثر من هذا، فراح يستعيد أشياء صغيرة رائعة كان قد هجرها بسبب الثراء والعربات والجرى وراء الجرى، وراء الجرى، وراء الجرى، وراء… (كفي… الله!!)، لكن هذه الكراس التى اشتراها بغير قصد تحل فى وقت غير مناسب، وكأنها تريد أن تستفرد به بعيدا عن غريمها الكمبيوتر، ذلك الصديق الجديد العظيم القادر النذل، قال اسمه الحاسوب قال!! يستأهل هذا الاسم بدلا من الكمبيوتر ما دام هو بكل هذه النذالة، لكنه مع نذالته صديق، حين تصادق نذلا وأنت تعرف ذلك لا يحبطك تخلّيه أو تصدمك أنانيته، فتطول الصداقة، وقد حال هذا الكمبيوتر بينه وبين أصحابه القدامى مثل أقلام الحبر الجاف المتعددة الألوان الرفيعة السن جدا، وكافة أنواع الكراريس، ولكنّه ظل محتفظا بصداقة الأقلام الرصاص والأساتيك (جمع أستيكة لأنى لم أعرف جمع ممحاة، هل هو ممحايات أم مَمَاحٍ)، هذا الصديق النذل (الحاسوب) شفاهُ من عشق القلم والورق معاً، واختصت الأقلام الرصاص بشخبطة الكتب التى يقرؤها، الكمبيوتر صديقٌ حقيقى له حضور، يلقى عليه تحية الصباح، وأحيانا يضغط على زرّه وهو ذاهب إلى دورة المياه ليسمع زنّة الفتح الرقيقة، ثم يغلقه دون أن يعمل عليه بعد أن ينظر فى شاشته الفضية بحنان، ومع ذلك فهو صديق نذل أيضا، ولن أقول لكم لماذا! مقالبه يحتملها بكل صبر، مع أنها أحيانا تكون باردة وغادرة، يعاتبه، أو يعاقبه، أحيانا بأن يرفض أن يغطّيه بغطائه وهو خارج بعيدا عنه، كما أنه إذا غضب منه، أو عليه، لا يمسح عنه التراب ولا يربت عليه حين يبدأ العمل، نفس الشكوى كانت تشكو منها زوجته، فهو لم يملّس على شعرها إلا مرّات قليلة فى استجابة غير عفوية لمطلب غامض أشبه بالشروط السرية فى معاهدة استسلام، أشياء كثيرة صغيرة شديدة الأهمية فى الأنس والمداعبة، لم يتعلم منذ الصغر كيف يتقنها، مع أنه على يقين من أنها ضرورية، وأنها أهم من الأشياء الكبيرة التى لا يتقنها أيضا، يعتذر لابن حزم بكل خجل لعجزه عن الألفة والإيلاف، لماذا أسمى كتابه “طوق الحمامة؟. الرقة لا تباع ولا تشترى يا أخى، يشفق على زوجته بقسوة ويتساءل: لم قبـِلَـتْه ما دام هو هكذا؟ ظلمتْ نفسها هذه السيدة.

 – تمسح يا بيه؟.

والله زمان.

 زمان، كانت الكراريس وحدها هى التى “كنظام”، وهو لم يعرف أبدا ما هو نظام وزارة المعارف العمومية التى تحذو حذوها هذه الكراريس، وكان يتصوّر أنه إذا اشترى كراسة مكتوباً عليها “وزارة المعارف العمومية” من غير “كنظام”، فإنها فى الأغلب ستكون مغشوشة؛ فالأصل فى الكراريس أنها كنظام، أما تلك الكراريس بدون”كنظام” فلا أحد يعرفها، تأكد من ذلك فيما بعد وهو يقرأ مُثُل أفلاطون، يبدو أن أفلاطون كان عنده حق حين نبّه أنه حتى السرير ليس إلا “كنظام” السرير الذى هو “فوق”، فى عالم مُثُـل سيدنا أفلاطون بالصلاة على النبي، حلوة حكاية السرير هذه، كل شئ الآن أصبح “كنظام” وخصوصا الكمبيوتر ولكنهم قلبوا كلمة كنظام إلى “كومباتِيبُل”، السبق الذى حققته جمهورية مصر العربية هى أنها نجحت أن تعيش بدون نظام أصلا، وهذا شئ مصرى شديد الخصوصية، فكل شئ يسير بنجاح غامض فى هذا البلد العجيب، لا أحد يجوع فعلاً، ولا أحد يثور، ولا أحد يتعلّم، ولا أحد يأخذها جدا، وكلّه ماشي؛ فالقطارات تسير على قضبانها، والمجارى تجرى فى مجاريها، والجسور تمتد إلى غايتها فتزداد البلد ازدحاما من باب البركة، معجزة هذه والله العظيم، قوانين هذا الشعب لم تُكتشف بعد.

  – شكراً يا ابنى شكراً، لا، شكراً.

قدّر أنه لو وافقه فإن القطار قد يفوته مع أنه مازالت أمامه عشرون دقيقة، والمسافة بين مقعده فى القهوة – كما قاسها المرة الماضية – وعتبة القطار هى دقيقتان وعشرون ثانية، ياسلام!  ما كل هذه الدقّة؟ ثم من أدراه؟ ثارت هواجسه وهذا جزء من طبعه السرى، من أدراه أن هذا الفتى سيأخذ الحذاء وُيرجعه، تبقى فضيحة أن يذهب إلى القطار بالجورب. زمان (تانى؟!) كان ماسح الأحذية يمسح الحذاء وأنت لابسه، وهات يا كلام ودود من هنا وهناك، كان له دور مسامر لطيف، أخف دما من الحلاق، لماذا يتقن ماسح الأحذية الحديث ويتفننَّ فيه أكثر من أى حلاق؛ ربما لأنه يجلس مستريحا على الأرض وهو يحكى، رأيتَ كيف يؤثر وضع الجسد فى السلوك والتفكير، يا أخى، سبحان الله، الآن ماسح الأحذية يخلع عنك حذاءك، يضع تحت قدميك ورقة كارتون مليئة بالألوان المختلفة لكنّها جافّة لا تصبغ جوربك، اطمئن، ومن لم يعتد مثل هذا التخلى عن حذائه ولو بشروط معلنة مسبقا، لا يمكن أن يطمئن إن كان حذاؤه سيرجع له أم لا، طبعا هذا كلام فارغ، فلا بد أن صاحب القهوة والعمّال بها يعرفون هذا الفتى ماسح الأحذية، وإلا لما سمحوا له.

 – لا يا ابنى، قلت شكرا، أكثر الله خيرك.

نظر إلى الكرّاس الجديد وهو قابع على المنضدة، لم يكن قد وضعه بعد فى الحقيبة الوحيدة الخفيفة التى يحملها، لماذا اشتراه؟ وماذا يمكن أن يفعل به؟ اشترى معه قلماً جافاً، رينولدز الفرنسى الصنع، حتى الأقلام نستوردها، راح الكراس يقول شيئا همسا، حنين قديم، أشبه بالعتاب، “لا مشاكل” (تعبير مستورد جديد لن أقوله لك بالإنجليزية) جلد الكراس خشن، وله رائحة مثل رائحة ورق اللحم، ترى هل مازالوا يبيعون اللحم فى ورق أثقل من وزن اللحم؟. جلدة الكراس عليها نقوش غامضة كان لونها ينوى أن يكون “بمبياً!” ثم عدَل، كان الغلاف زمان (كل حاجة زمان زمان؟! هذا الأسلوب هو من علامات الكهولة، وهو ليس كهلا بعد، والمصحف ليس كهلا)، ظهْر الغلاف كان مدرسة نصائح متحركة، دمّها خفيف، ولا أحد يطالبك بتنفيذها على أرض الواقع، قارَنَ ما كان يكتب على ظهر الكراس مثل: “اغسل يديك قبل الأكل وبعده” أو “لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد”، بتلك الفتاوى التى يطلقها هذا الطبيب النفسى جدا فى التليفزيون إثر سؤال مشكل، تذكر وهو يبتسم كيف كان يقول لا فضّ فوه، دون أى تردد أو تفكير أصلا: إن الأبحاث الأحدث أثبتت أنه على “الأم أن تحب ابنها”، أما الأبحاث الأكثر حداثة فهى تؤكد أن “الطالب وهو يذاكر لابد أن يركّز؛ لأن هذا من أهم الوظائف النفسية للعقل البشري”!!!، الله يسامحكم، لم يسارع إلى الاستجابة للنصيحة غير المكتوبة على ظهر هذا الكراس الحديث الذى لم يصادقه بعد، راح ينظر فى حقيبته فلمح ما كان مصدرا آخر للغيظ، ذلك أنه كان قد أخذ معه رواية جديدة اسمها “عطلة رضوان”، ومؤلفها اسمه “عبده جبير”، مؤلف يسمع عنه كل خير واجتهاد، وقد قرأ هو هذه الرواية بإصرار لا مثيل له، ثم قال لنفسه بالعافية، إنها رواية رائعة وتغيظ، أقولها بملء فمى حتى لا يزعل، ولكننى متأكد أن المؤلف حين يبلغه ذلك، إذا بلغه، سوف يتذكر كلمة تغيظ ولن يتذكر كلمة رائعة، كان ما يغيظه زمان أن يحل محل النصائح خفيفة الظل على ظهر بعض الكراسات جدول الضرب الصغير والكبير بأرقامهما المزدحمة وبينهما خط مائل لا يفض الاشتباك، أما جدول الضرب الصغير فنحن نحفظه عن ظهر قلب فما لزومه، جدول الضرب الكبير هو الذى يمثل التحدّى الرائع الذى يغيظ غيظا أقل من غيظه من عطلة رضوان 21×21 =441، لا لا لا، إلا هذا، وهم يعرفون تماما أن أحدا لن يحفظ مثل هذه الأرقام، فلماذا يشغلون نصف ظهر الكراس بها أرقام الميزانية فى مجلس الشعب، قال ماذا؟. زيادة الدخل القومى، والألعن أن الولايات المتحدة الأمريكية مدينة لا أدرى بكم تريليون دولار، يا صلاة النبى، مدينة لمن؟ لا تدرى، كلام، رغم حبكته، يضحكون به على الناس ويغيظونهم فى نفس الوقت مثل عطلة رضوان، ومثل جدول الضرب الكبير ثم يكمّلون عليهم بقصيدة النثر، والذى يشتم إنما يشتم نفسه، هكذا كنا نوقف مباراة التراشق بالسباب أطفالا،”كل ما تقوله على الآن هو عليك يا سعيد يا غراب الآن، هيه!!”، فيتوقف سعيد غراب خوفا من التورط فى سب نفسه، المفروض أن الأدباء ناس طيبون، وعليهم أن يرحموا الناس من جدول الضرب الكبير، ومن ديون أمريكا ولا مؤاخذة، أما أن يأتوا بكل قسوة وإخلاص ليكملوا على ما تبقى لنا من منطق وأمل بقصيدة النثر هذه، فالله يسامحهم، أنا مازلت أرجح طيبتهم، لذلك فأنا واثق كل الثقة (أقول كل الثقة) من أنهم سوف يرحموننا فى يوم من الأيام، الله يخلّيهم، استعراض عضلات هو؟ تناصّ طبعا، هو يعلم مدى تواضع معلوماته وفقر أبجديته الخاصة بهذا التخصص، موقفه محدد ومتواضع من البداية، مثل موقفه قديما من جدول الضرب الكبير، كان منظر هذا الجدول قيمة، لكن هو ماله هو؟ للمليك اهتفوا، يا نسور الحمى، للمليك اهتفوا، دائماً دائماً، زِهْ، فِهْ، تِهْ، يِهْ، زفتى زفتى زفتى، لا لم تكن أياماً سعيدة كما تحاول أن تثبت لنا سامية الإتربى ويحيى تادرس، كانت أياما فقط، حكايات المقاهى هذه (فصَّحتها بالقصد)، ليست هى، رغم أنها مليئة بالحكايات التى هى، ملآنة آهات، ودموع وأنين، الله يرحمِك يا ست الكل، يعنى، بَلاَ زمان بَلاَ كلام فارغ، من يـُرد أن يعيش يـَعش الآن، ومن لا يعجبه يذهب إلى زمان ويريحنا، حتى الآثار، سواء فى مصر أو أثناء الترحال، هو لا يحب أن يزورها، إنه لم يزر المتحف المصرى حتى الآن، أى والله العظيم، يخشى ألا يستطيع أن يتحمّل مسئولية تاريخه إذا رآه رأى العين، يخشى أن تقوم المومياء التى كانت أم نجيب محفوظ لا تكل من زيارتها وهى تصحبه معها طفلاً، يخشى إن زار هو هذه المومياء إذا زارها ووقف قبالتها أن تلتقط عدم احترامه لمن حنّطها، فتخرج له لسانها، أو قد يكتشف، ليس يدرى كيف، أن توت عنخ آمون كان شاذاً جنسياً، أو أن يرصّهُمْ له رمسيس الثانى أربعة أربعة، يعايره، وقد يحاكمه، مع أنه غير مسئول عن هزيمة 1967 إلا فيما يتعلق بفرحته وهو فى سنة تانية جامعة بالحركة المباركة، لو كان يعرف أنهم سوف يجرسونا هكذا بعد 15 عاما لمنع نفسه من ذلك الفرح حتما، هل يستطيع الآن بعد كل هذا العمر، وما جرى، وما يجرى أن يتراجع عن فرحته تلك حتى يعفى نفسه من مسئولية الهزيمة، “لا عامر ولا الغول، عبد الناصر المسئول”، بيان 30 مارس، وحسنين هيكل فجأة يكف عن ذكر عبد الناصر ونشر صوره فى الأهرام استعدادا للقادم الجديد، خيبك الله يا زكريا يا بن محيى الدين، لماذا لم تلقِ بيانك من فورك وتأمر بالقبض عليه لمحاكمته، وقد تثبـُت براءته، وقد تحدد مسئوليته بحجمها لا أكثر، وقد يكون فى ذلك بداية كلام آخر، وتاريخ آخر، كل شئ يُنسى بعد حين، لا أبدا، كلام فارغ، مازال طعم مرارة الهزيمة، وقبضة القلب تعاوده بعد أكثر من ثلاثين عاما كلما ذكر صوت أحمد سعيد، ثم إنه يرفض نغمة “العديد” هذه بكل ما أوتى من عقل وحزم، ولكن بلا فائدة، مسئول غير مسئول هو ماله، ما جرى جرى يا أخى، المصيبة أن ما جرى يجرى، ما زال يجرى، لم يمح نصر 73 مرارة الهزيمة، مع أنه كان نصرا بجد، إلا قليلا، ملعون أبو الثغرة، فيها ماذا؟ العبرة بالخاتمة، وهى زين والحمد لله على الرغم من قول الحاقدين أنه باع النصر، قال يعنى هم الذين اشتروه!!! كيف اجتمع طعم النشوة المنعشة بالنصر مع طعم المرارة الخبيث دون أن يمحو الأول الآخر؟ هذا شئ، وهذا شئ،. الذاكرة المصرية لها قوانينها الخاصة مثل اقتصاد الشعب المصرى وتاريخه.

– قرِفة من فضلك، سكّر كثير لو سمحت.

هو يشرب القهوة سادة، مزاج، ليس بسبب مرض السكرى المصاب به كل أفراد عائلته، إلا هو، إيش عرّفه؟ لطعم البن مرارة جميلة فكيف يلغيها بمذاق السكر، ثم إنه يرفض أن يحلل، نعم: كل عائلته عندهم هذا المرض، لكنه لن يحلل، هو حر، الله!!. من عاش بالحكمة مات بالمرض، مثلٌ سخيف وكاذب، كثير من الأمثال تقوم بعمليات تبرير ألطف وأتفه من بيانات الحكومة كل عام، لقد توقف عن شرب القهوة مؤخراً بدون أى سبب، هكذا والسلام، مرّت عليه تجارب كثيرة من هذا النوع لم يجد لها تفسيراً، شئ يعمله لمدة سنوات طويلة، وفجأة ينظر إليه من بعيد، ويسأل نفسه، ماذا لو كففت عنه؟. ويكف، وهو الكـففان، المنضدة أمامه تغريه، والكراس تناديه فى همس به دلال كان قد نسيه حتى أنكره، والقلم جاهز، وهو لم يقرر أبدا أن يكف عن كتابة القصة، لكنه كفّ، كفّ دون قرار.

والله فكرة.

لماذا لا يكتب قصة قصيرة ممطوطة؟. يجرّب فيها نفسه الآن بعد هذا الانقطاع، قصة ممطوطة بطول الطريق بالضبط؟ يعنى على شرط أن تنتهى قبل وصوله إلى القاهرة، هو لم يكتب إلا الرواية الوحيدة إياها، ثم راح يرسم قصصاً فى صفحة أو صفحتين هى أقرب إلى الصور الذاتية المحسومة (لا يعرف لماذا استعمل كلمة محسومة هنا بالذات، ثم إنه أبى أن يشطبها فى المراجعة كما تلاحظ). فليكتب هذه القصة الجديدة احتفاءً بالكراس الجديد، ونكاية بالصديق الحاسوب الطيب النذل القابع فى حجرته ينتظره فى لهفة، وابتسم وكأنه يبتسم لأحد، ثم اتسعت ابتسامته، هل هو أقل من هذا المسئول الكبير الذى ينشرون له هذه الأيام قصصا كتبها فى سن التاسعة عشرة (هو الذى يقول) فى صحيفة واسعة الانتشار لها طبعة دولية، لقد ظلّوا يلاحقونا بها أسابيع متتالية دون حياء، اتسعت ابتسامته رغم الملاحقة حتى كاد يضحك، نظر حوله خوفاً من أن يكون قد ضحك فعلاً بصوت عال، ولكن ما الذى أضحكه، أقول لكم: فقد حاول أن يلخّص ثلاث قصص من قصص أوراق هذا المسئول الكبير، مع أنه لم يستطع أن يقرأ إلا قصّتين وربع قصّة بالعافية، ومع ذلك فقد صرّح مصدر مسئول (مصدر ثقافى إعلامى متحدث شبه رسمى مجهول الإسم) أن هذه الصحيفة الكبرى سوف تجمع هذه القصص فى كتاب يصدر قريباً، أى والله، وفيها ماذا؟ بطلوا حقد، سوف أوجز لكم ثلاث قصص ولتحكموا بأنفسكم.

أما القصة الأولى فهى أن “واحدا أحب واحدة، ثم تقدم لأهلها ليتزوجها، فلم يرضوا به، فزعل”.

انتهت القصة الأولى.

أما القصة الثانية فهى أن “واحدة هذه المرّة هى التى أحبت الواحد، ولم تتزوجه أيضا فزعلت جداً جداً جداً”.

انتهت القصة الثانية أيضا.

وابتسم ابتسامة أخرى غير الابتسامة الأولى التى زرّ عليه فيها الضحك؛ ذلك أن الابتسامة الثانية كانت مثل ابتسامة النقاد الذين يريدون أن يجاملوا بعض الأصدقاء، ولا مانع، لأن المجاملة هذه من أساسيات التليين، حسب كلام د. حسن وجيه، من باب التليين الاجتماعي والنقد معا، ترجم ابتسامته النقديه الثانية إلى ما يلى:

إن القصة الثانية ليست تكراراً بحال (شفت بحال هذه؟) للقصة الأولى، صحيح أن تبادل الأدوار لم يفرق كثيراً حيث توحّدت النهاية (خل بالك أيضا من توحّدت)، ذلك لأن الواحدة التى أحبت الواحد فى القصة الثانية لم تتزوج هذا الواحد لأن أهله رفضوا (مقابل رفض أهل الواحدة التى فى القصة الأولى) ولا لأن أهلها هى هم الذين رفضوا، ولكنّها لم تتزوجه لأنه ببساطة لم يتقدم لأهلها أصلا، ولم يكن من المعقول فى تلك الأيام (أيام أن كان المسئول الكبير عنده 19 سنة) أن تتقدم هى لخطبته، وهذا هو سبب عدم الزواج، ثم لاحظ سيدى: أن الواحد فى القصة الأولى زعل فقط، أما فى القصة الثانية فالواحدة زعلت جداً جداً جدا (ثلاث مرّات لا مرتين ولا واحدة ولا بدون، مثل الـ “بدون” فى الكويت)، وهذه إضافة نوعية؛ لأن المسألة ليست مسألة “كم” فقط، وإن كانت لفظ “جدًّا” تفيد الكم، ولكن المؤلف أراد أن يريك كيف ينقلب الكم كيفا دون تغيير فى البنية الأساسية (أى والله)، ثم إنه، من منطلق التعمق فى اللمحات الفنية غير المقصودة علنا، ترك لخيال القارئ الفرصة لاستنتاج كل ذلك،

يا نهاراً أسودا من أوّله، لقد وعد بتلخيص (ونقد بالمرّة) ثلاث قصص، ولم يقدّم إلا قصتين، ماذا سيقول عليه القارئ، نَضِبَ معينه؟. أو رُفع قلمه، أو رُبِطَ والعياذ بالله مثلما يربط العريس فى ليلة الدخلة فى بلدنا، لا لا،  هذا لا يصح، خذ عندك: (“طيب شوف الثالثة، عظمة يا ست وردة الله).

تقول القصة الثالثة (فى الأغلب)، وضع يده على فمه يخفى ابتسامة ثالثة من النوع العادى وليست من نوع الابتسامة السابقة، ثم أردف: أما القصة الثالثة فتقول:

 إن واحدا لم يحب واحده.. وكان يتمنى أن يحبها، لكنّها تزوجت غيره، مع أنها أيضا لم تحبّه أصلاً (لم تحب الواحد وليس زوجها)، وخلاص.

وقبل أن ترتقى الابتسامة إلى ضحكة معلنة وتبقى فضيحة، وماسح الأحذية لا ييأس من تكرار المحاولة، وربنا يستر، أحلّ ابتسامة الناقد محل ابتسامة الحاقد هذه الكلمة (الحاقد) وردت من قبيل الاحتياط، من يدرى ماذا يحمل اللاشعور من بلاوٍ، وخاصة أننا لم ندخل بعد فى منطقة تيار الوعى العميق الذى يمكن أن يكشف عن خفايا هذا الحقد وغيره من دناءات النفس البشرية، وربنا يستر على الوَلاَيا من تأويلات سيجموند فرويد البهلوانية التى كان يخفى بها جوعه الذى لا ينتهى للتقدير والحريم الأقرب، نجح فعلا أن يُحل ابتسامة الناقد محل ابتسامة الحاقد، وهو لم يقل حلّت ابتسامة كذا محل كيت، فانتبِهْ، لأن “ثَمَّ” فرقاً بين أحلّ، وحلّتْ، ثم إنه راح ينقد وينقد:

إن هذه القصة (الثالثة) أكثر تعقيدا من سابقتيها، وهى أكبر من قدرات المسئول الكبير فى سن 19 سنة لأنها تثير فى المتلقى قدرا من الدهشة وإعمال (الهمزة تحت الألف) الفكر، وهذا مما لا يتناسب مع ما يتميز به قلم الكاتب الشاب الموهوب من بساطة ومباشرة، هذه القصة الثالثة لا بد أنها تنتمى إلى الموجة الجديدة التى أصبحت قديمة، والتى يسمّونها الحداثة، وهى ليست مجرد ماهو “قبل” ما “بعد الحداثة”، لأن بعد هنا لا تفيد التتابع وإنما التعديل والتجاوز، ما بعد الحداثة هو تجاوز الحداثة، الحداثة معدّلة، مثل العربات التى هى، وأيضا التى ليست هى، إيش عرّفه هو فى هذه الأمور الخاصة بأصحابها جدا، لا الحداثة ولا ما بعد الحداثة من الأمور التى يسمح للعامة أمثاله أن يخوضوا فيها، ليست أى منهما بدعة، ولا ضلالة، لكننا نحن الذين لا نستأهل الخير، ليس إلى هذه الدرجة، فنحن لا ندوس الطعام الذى يوضع لنا بدل أن نأكله كما تقول آية الكتاب المقدس، نحن فقط لا نقدّر الحداثة حق قدرها، لأننا – ببساطة – لا نعرف قدرها، هذه هى الحكاية، ألم تلاحظ المؤلف وهو يستعمل تعبير “وكان يتمنى أن يحبها” والتمنى هنا غير الترجى لأنه – عادة وليس دائما – يطلق على ما يستحيل تحقيقه، ولم يقل الكاتب الشاب الذى أصبح مسئولاً كبيراً، إنه كان يتمنى أن يتزوجها كما نسمع فى القصص الأخرى التقليدية، التمنى هنا للحب وليس للزواج؛ لأنه يبدو أن هذا الفتى لا يستطيع أن يحب من أصله، وهذا تكتيك حديث لا يخرج من شاب عمره 19 سنة فى ذلك العهد البعيد الذى لم يعرف مثل هذه التقنيات(!!) فالحداثة – سيدى – لا تتطلب فقط أن تجعل المألوف معروفا، وإنما هى تستدعى أن تجعل المعروف مسفوحا (حلوة مسفوحاً هذه، خلّ اللغة “تقول”)، وسعل سعلة عالية لتخفى ضحكة كان يمكن أن تخرج هذه المرّة بصورة صريحة تفضحه بحق.

 – لا شكراً، كفاية، شكراً.

تيار الوعي؟ هذا هو، إنه يكتب الآن “بتكنيك” تيار الوعى، وهذا سيسمح له أن يتداعى، دون مشاكل، حتى يصل إلى القاهرة شخصياً، كل ذلك بجنيه وربع، الكراس بجنيه والقلم الجاف بربع جنيه، وليسرِ تيار الوعى ما شاء له السريان، بل ليفض علينا مثل النيل العظيم، قبل السد وبعده، مازال عظيما، وليذهب إلى الجحيم من لا يفهم فى هذه المسائل، ثم إن الجميع لايجُمعون على اسم هذا النوع من الكتابة، هل هو تيار الوعى، أم تيار اللاوعي؛ لأن الأسلاك قد ضَربت كلها فى بعضها، ولم يعد أحد يعنيه أن يسلـّكها من بعضها البعض (وليس من بعضها فقط)، وكل الإبر التى كان من المفروض أن نلضم فيها الأسلاك أصبحت دون ثقوب، فلماذا نسلـّك الأسلاك أصلاً ما دام ليس ثمة ثقوب للإبر نلضمها فيها، ثم إن الإبر بدون ثقوب ليس لها رؤوس جميلة مهذبة، فلا يمكن أن نطلق عليها اسم دبابيس أو أن نستعملها فى الأغراض التى نستعمل فيها الدبابيس، ثم إن الجميع لا يجمعون على شئ، ثم يبدو، (مازال يتحدث نيابة عنهم) أن “هذا” ـ هذا تعود على “أن الجميع لا يجْمعون” ـ قد أراح الحكومة جداً جداً، (غير جدا جدا التى فى القصة الثانية) هذا قد جعل الغالبية العظمى من أهل الموجة الجديدة لا يجمعَّون هم أيضا، مع أن الذين لا يجمعون هؤلاء من أهل الحداثة يعتقدون أنهم بعدم تجمِيعهم إنما يغيظون الحكومة، ولكنهم لا يقولونها صراحة، وإنما هم يتكلمون عن السلطة (بضم السين مع تشديدها وتسكين اللام هكذا ” السُّــلْطة”، وليس الكلمة الأخرى التى هى السلاطة، والتى هى غير سلاطة اللسان)، وهم يعتبرون الحكومة سُلطة، مع أن الشائع فى الثقافة المصرية لأولاد البلد أننا نسمّى السُّلطة حكومة، أفلا تسمعهم يتندرون على الذى يعود مبكرا من المقهى تاركا بقية الثلة مجتمعة: إنه خائف من “الحكومة” (التى تنتظره فى البيت)، لكن فى الأغلب هذا تعبير مجازى، أما تعبير أهل الحداثة وهو مجازى أيضاً (اكتشفت هذا فى آخر لحظة، ربنا ستر) فهو مجازى من الناحية الثانية، ما علينا، أهل الحداثة لا يـُجمـعون، أو هكذا يشاع عنهم مع أنهم يصرون على أنهم يُجمعون فى السر من وراء الحكومة ومن وراء اللغة أيضا، والمسئول الكبير يكتب قصصاً (أسماها أوراقا من باب التواضع) وتنشرها له الصحيفة الكبيرة الواسعة الانتشار، فلماذا هو “لا”، ولِمَ لا؟ (حلوة هذه)، ولم لا يكتب هو أيضا قصّة ما بين المباشرة والحداثة، شيئاً أشبه بالتدوير: دَارَ الصف لفـّوا لــفّوا، لفّ القيد، قيدى وافى، وافى العهد….، لا يذكر ماذا (تُقْرأ منغّمه من فضلك على وزن: فَعِلٌ فعِلُ، فعلٌ فعلو، أو أى وزن تراه مناسباً أنت بمعرفتك).

 ـ خلّ الباقى، شكرا.

هذه هى فائدة الكراريس أم جنيه، ملعون أبو الولايات المتحدة الأمريكية، والعربات الفارهة أم مقعدين (مثل عربته الأخيرة) وأم سبعة مقاعد، وجميع صنف سائق خصوصى ليس له لازمة، وجميع صنف قرش يحول بينك وبين الناس، يا كذاب، عيب كذا، لم يبق إلا أن تهتف بحياة الفقر، بطّل تهريج، تنظر من أعلى مرتدياً منظار الحكمة وكأنك تعظ، وكلما قرأتَ نعى أحد الزملاء، وخاصة إذا كان أصغر منك سناً، قلتَ خطبة عصماء فى الناس الذين لا يتعظون، وهات يا جرى، تدّعى أنك عامل حساب الموت فى كل لحظة، ولا عامل حسابه ولا حاجة، وتزعم أنك علّقت نتيجة العدّ التنازلى، تنازلى ماذا وأنت طالع تنهج، تذكر أنك لم تستطع أن تتذكر أنت وصديقك المخرج اسم جمال حمدان، نسيتماه وكأنكما تتذكران اسم قائد معركة ووترلو، أخذتما خمس دقائق لتتذكرا اسمه رغم أن اسمه لايوجد ما هو أسهل منه، جمال حمدان، جمال من جمال عبد الناصر، وحمدان من الحمد لله، وما سمّى الإنسان إلا لنسيه، وما القلب إلا أنه يتقلّب، يا حلاوة، داخلين على التناصّ، يا عم سيبك، الشيخ عبد العزيز فى زفتى، كان اسمه شيخ لمجرد أنه كان مصابا بمرض عصبى يجعل جسمه يترنح (علمتُ بعد ذلك أن اسم المرض هو الرقص الزنجى وأنه روماتيزم فى الجهاز العصبى) ومع ذلك كان يمسك الحديدة التى يدق بها حب البن المحمص فى الحَجَر دون أن تفلت منه الحديدة أبداً، وفى كل مرة يرفع الحديدة، أتصور أنها ستأخذه وتغوص به، وهو يترنح، داخل الحجر، أو أنه سيطوح بها بعيداً وتأتى فى أحد، سألتُه مرّة عن سبب حركاته هذه الملتوية التى لا تتوقف فقال وهو يمسك بيدى ويضغط عليها، لست أدرى لماذا، كنت فى سنة تانية ابتدائى، قال مجيبا إن السبب هو أن «المخ ساح على العقل»، إذن يبدو أن هذا – ولكن بإيجابية، أى الناحية الثانية – هو الذى يفسر مسألة الحداثة، (لاحظ الحذر الذى اتخذتُه باستعمال الجملة الاعتراضية التى تقول: ولكن بإيجابية، الاحتياط واجب)، ليس المخ فحسب الذى ساح على العقل، وإنما يبدو أن كله ساح على كله، ليس هكذا بالضبط، يا خبر!! ماذا جري؟ كل ذلك بسبب كراسة بجنيه، فلأدخل على القصه، وكفى نقداً، فالقاص لا يحاسَب إلا على قصّة، أمّا الناقد فحدّث ولا حرج (لن أقول لك أكثر من هذا)، فإلى القصّة:

الكراسة تنتظر، والوعد قائم، والوسواس يعمل: “إذا لم ينفذ هذه القصة، بالشكل الذى حدده فى الوقت الذى قرره، سوف يخسر أهم قضية ينتظر الحكم فيها هذه الأيام، طيب ما علاقة هذا بذاك؟. ألم أقل لك إنه وسواس يا أخي؟. الله! خلّ بالك معى، نعم لا بد من ضبط المسألة تحديداً، لأنه إذا كان الثواب على قدر المشقة، فلا بد أن تكون القصة على قدر المشوار، وبالضبط، انتبه:

البداية: تن تن تن، أغش هذه التيمة الصوتية، حلوة التيمة دى ولو إنها غلط، من رواية عطلة رضوان التى كانت حافزا لكتابة هذا العمل، وهى رواية رائعة بلا شك فى الأغلب، تن ترن تن، علامة البداية وليس سخرية بالرواية، مرة أخرى: البداية، هُبْ:

….. (نقط – هى كذا-  بدأت القصة بنقط، بمعنى أن البداية ليست بداية، ولكنها استمرار لحكاية بلا بداية ولا نهاية يا عم محفوظ، ثم أنت مالك؟)

 ….. ومرّت الفتاة الملظلظة (سأبحث عن هذه الكلمة فى القاموس حين أصل إلى مكتبتى بالقاهرة) وهى تمشى الهوينى، يانهار أسود، هُوَينَى مرّة واحدة، يا لغرابة النطق، يبدو أننى تقمّصت المعتدى وهو المسئول الكبير إياه، الهوينى كلمة بسيطة لكنّها لم تعد مألوفة، لذلك يبدو أنهم حرّفوها فأصبحت الهويدا، وبما أن هويدا اسم عَلَم ولا ينبغى أن يعرّف العلم بألف لام التعريف (إلا من باب السب والتحقير) فقد حُذفت كل من الألف واللام فأصبحت “هويدا”، لكن هذا بالنسبة إلى ما يتبعه الناس فى تسمية بناتهم هذه الأيام، وهم أحرار فيما يفعلون، أما أنت فلا تستطيع أن تقول إن الفتاة الملظلظة تمشى الهويدا مثلا، لا تستطيع أن تقولها وأنت تكتب قصّة، أو تزعم ذلك (هناك حلّ أسوة بالمسئول الكبير، إذا لم تنفع قصّة، فلتسمّها “أوراق” أو شيئاً كهذا، ماشي؟ خذ راحتك) نقول: لا تستطيع أن تقول تمشى الهويدا وأنت تكتب قصّة، لكن ربما تستطيع ذلك وأنت تكتب قصيدة نثر، من أين تأتى هذه الاستطاعة؟. لا تؤاخذنى، من قال لا أدرى فقد أفتى (من الفتوى وليس من الفتّة) ثم، مرة أخرى: إلى القصّة، ومضت الفتاة الملظلظة (بدون علامتى تنصيص)، تمشى “الهويني” اسمع، ما رأيك أن نـترك الكلمة هكذا كما هى دون حرج ودون محاولة تفسير، وسيخرّجها النقاد على أنها تناصّ من مقامات الحريرى مثلاً، دعها تمر، ولعل أصل التناص من النص نص (بضم النونين فى كل نص) فينطقان على بعضهما هكذا: من النُّص نُصّ، وليس من النص (بفتح النون، يعنى النَّص) نون نون نون، إلا حكاية مجلة نون أو الجمعية النسائية لصحابتها ومديرتها نون، نون والقلم وما يسطرون، إنك بنعمة ربك لمجنون، والمصحف الشريف هذا ليس استهزاء ولاحاجة، بل إن الكاتب يستعير التعبير الجميل مخاطباً نفسه منبّهاً إياها أن هذا الذى يفعله الآن يمكن أن يعتبروه جنونا بالتمام والكمال، ذلك لأنه يخرج من موضوع إلى موضوع – من غير تيار وعى ولا حاجة –  لكن والله هو يفعل ذلك قاصدا جداً وهو فى كامل قواه الحداثية ومسئول، ويعول، وأنت وذمّتك، ثم على من يشك أن ينتظر للنهاية ليرى أن المسائل ماسكة بعضها، أما كيف يكون الإنسان الذى هو الكاتب الذى يصير، بنعمة ربّه مجنوناً، فهذا وارد من باب الرحمة، من حيث إنه من لم يحتمل، ولم يجدْ، ولم يـفهم، ولم يسمَع، فقد يطلب من الله الرحمة ولو بالجنون، هذا إذا عجز عن قرض قصيدة نثر تنقذه من كل ما سبق، ومن الجنون فى آن، كيف؟. لا أعرف، ثم هو وشطارته، كنا قد وصلنا إلى أين؟. إلى تفسير الشيخ عبد العزيز لمرضه المسمى رقصة الزنجى بأن “المخ ساح على العقل”، وبتكثيف المسألة مع حكايه نُص على نُص، تجد أنك إذا وضعت نُصّا على نص، أصبحت المسألة “نص نص” (وهذا ما ألفه العامة فى القاهرة المحروسة حين يعنون نص على نص أى نص نص، يعنى بالإنجليزية. فيفْتى فيفْتى)، وهذا التفسير يناسب مسيرة السلام على كل حَال، ونحن الآن نتكلم عن ثقافة السلام، يعنى ثقافة نص على نص، شوية إسرائيل على شوية أردن، على شوية أسبانيا، على شوية برتغال، لا يا عم البرتغال الناحية التانية ليست شرق أوسطية، ولا حتى أسبانيا، فهى غرب أوسطية، ويمكن فرنسا تطلع وسط أوسطية، ما علينا، إلى القصة أو ما قبل القصة، والله الظاهر إنها كلها سوف ترسى على ما قبل القصّة، ولكننا نستدرك فنقول: إن نَصّ على نَص له معنى إيجابى آخر غير نُص على نُص، فقولك نَصّ على نصّ هو أشبه بقولهم: قول على قول (وهو برنامج مشهور فى إذاعة لندن) أو أشبه بـ”قهر على قهر هوَّا العمر فيه كام شهر”، يا للغة العربية ويا لقدرتها على احتواء العامية دون استئذان، (شفت ذى؟، الدال عليها نقطة من فضلك، ولو أنى سأحذفها فيما بعد تجديداً للغة)، ولكن إذا أردنا الأمانة فسوف نكتشف أن اللغة العربية – هكذا- غيرت المعنى، لأنها قلبت أَهْر (بالهمزة) إلى قهر (بالقاف)، مع أنك حين قرأتَها – عزيزى القارئ –  قرأتَها بالهمزة، وهى مكتوبة بالقاف، فلا احتوت العربية العامية، ولا حاجة، فالقهر باللغة العربية يعنى التسلط والقمع وأشياء من هذه، أما “أهر” بالعامية، فالمثل يقصد الحزن، والزعل، والهم، فإذا أردت أن تكتبها بالعربية فلا بد من القول “حزن على حزن”، وهنا سوف تختلف البقية حتى تلتزم بالقافية، وسوف تضطر إلى أن تكمل “هوّا الشعر فيه كام وزن”، فتصبح على بعضها هكذا: حُزن على حُزن، هو الشعر فيه كام وزن”؛ ذلك لأنه إذا كان النقاد قد سمحوا بالتجاوز عن الالتزام بالقافية، فلم يسمح إلا ندرة منهم بالتنازل عن الوزن، والوزن هو الموسيقى والشكل أهم من المضمون، ومن لا يعجبه هو حر، وجهات نظر، نحن لا نريد أن نحرج أحدا، الواحد من هؤلاء (ابحث أنت عن من تعود “هؤلاء”) يظل يكتب ويكتب ويكتب حتى تأتى لحظة الصهللة (أى صهيل بشرى) وهات يا إبداع.

–  لا شكرا، أنا أصْلى منتظر صديقا.

 ـ …..

 –  أشكرك، ممكن أدفع من غير ما أطلب.

 ـ …..

–  يا خبر، لا أقصد، أشكرك، ذا كرم شديد، أشكرك.

ولا منتظرٌ صديقا ولا حاجة، كل الحكاية أنه من باب مراسيم استعادته لحريته، (لاحظ العودة إلى الحديث “عنه” بضمير الغائب، مع أنه ينسى كثيرا ويتحدث بضمير المتكلم، وهى ليست عودة مقصودة، بقدر ما هى فنية ملعوبة، أكمِلْ) أقول: منذ أن قرر أن يستعيد حريته ما أمكن ذلك، قرر ألا يشرب حاجة ثانية، ما دام هو لا يريد أن يشرب فعلا، وكله بحسابه، الإحراج تدخُّل فى الحرية على كل حال، يا خبر، لماذا لم يمر عليه ولا واحد يبيع اليانصيب، وما الذى ذكّره باليانصيب الآن؟. المهم أنه كلما حاول أن يذكّر نفسه أنه يكتب قصّة لا مذكرات، قفزت إلى ذهنه أوراق هذا المسئول الكبير وجعلت مخّه مثل الصفحة البيضاء، ولا بد الآن أن يعترف أنه أرسل إحدى قصصه القصيرة إلى هذه الصحيفة بالذات التى ينشر فيها المسئول الكبير أوراقه الباكرة، وأنه بطول لسانه (أى بسلاطة قلمه) قدّم فى الخطاب المرفق نقدا لمستوى القصص التى تنشر فى هذه الصفحة، وكان ذلك قبل حكاية المسئول الكبير وأوراقه، والنتيجة أنهم لم ينشروا قصته التى أرسلها، فكتمها فى نفسه، حتى تذكرها الآن، مع أنه لم ينسها أبدا، وقد أثبت هذه الحادثة عملا بالأمانة المطلوبة من واحد مثله، وأيضا لأنه مطمئن أن أحداً لن يعرف سبب حقده وإحباطه، لأنه لا ينوى أن ينشر هذا الكلام اللهم إلا لو ضغطوا عليه جداً جداً، وساعتها يمكن أن يشطب هذه الفقرة خجلاً أو منظرة، ثم هاهو الآن يقع فى إشكالية جدلية (حلوة هذه): فبينما الدافع الأدبى لمحاولة كتابة القصة المزعومة حتى الآن هو أوراق هذا المسئول المنشورة، كما أن المثير المادى هو شراء كراسة بمحض الصدفة، فإن المانع الآن الذى يمنعه من الدخول إلى القصة هو نفس أوراق المسئول الكبير (على فكرة سرت إشاعهً تقول إن المسئول الكبير كتب هذه القصص هذه الأيام وليس لمّا كان عنده 19 سنة، ولم يُعرف بعد إن كانت هذه الإشاعة مدحاً أو ذمّاً، كذلك لم يعرف إن كان المدح أو الذم هذان موجهيْن إليه شخصيا أم إلى القصص، وأيضا فإن هذا المسئول لم يرفع قضية على صاحب هذا الكاريكاتير، فلا بد أنه لم يفهم اللمز، أحسن) لا، هكذا زادت جرعة النقد بادّعاء نقل إشاعة مغرضة، فإلى القصة، من الأول:

علامتا تنصيص ونقط فى الأول: “…ومرت البنت الملظلظة، مازال مصرا على أن يترك هذه الكلمة هكذا حتى لو لم يجد لها معنى فى القاموس إنه يعتقد بحدس إبداعى مشكوك فيه أنه لا توجد كلمة فى الفصحى تفيد مضمون هذه الكلمة ذات الإيقاع الممتلئ الرخو، وبالتالى فلا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها، قل بضّة، أو سمينة، أو بدينة، أو مليئة، أو ممتلئة، لكنّك لا تستطيع أن توصل ما توصله إليك ليلى علوى بلظلظتها المتوسطة، قبل مسرحية الجميلة والوحشين (بفتح الواو)، “مضت البنت الملظلظة، وهى لا تدرى أن والد خطيبها استشهد فى حرب الاستنزاف، ولذلك فإن خطيبها لم يره، كان فى الثالثة من عمره، فربّته أمه من معاش محترم، ومكافأة سخية، ولكن ارتفاع الأسعار وبرودة ليالى الشتاء معاً، جعلاها تقبل الزواج عرفيا، وحين شبَّ الفتى (حلوة شبَّ الفتى هذه لكنّها ليست من التناص مثلما ذهبنا إليه بشأن الهوينى ومقامات الحريري؛ إذ لا يوجد نص واحد معروف اختص بتعبير شبَّ الفتى، بل نصوص كثيرة متفرقة) حين شب الفتى وأصر على دخول الكلية الحربية ليكرر أمجاد أبيه، هكذا يقول التليفزيون عند الاحتفال بأعياد النصر والجلاء، وأحيانا بمناسبة الهجرة الشريفة أو التهجير الاضطرارى، الحقيقة أن أمّه لم تحكِ له شيئا عن أمجاد أبيه تلك، ليس تنكرا لذكرى أبيه، ولا حرصا على مشاعر زوجها العرفى، ولكن هذا هو الذى حصل، وقد عارضت أمّه رغبته فى دخول الكلية الحربية معارضة شديدة، وأقسمت برأس أبيها وتربته معا، وليس بذكرى زوجها الشهيد ـ أنه لو دخل الكلية الحربية فسوف تعمل وتسوى، ولكن الولد أصرّ وقدّم أوراقه من ورائها فى السر، ولولا ستر الله ورسوبه فى اختبار الثقة، لما مرّت المسألة على خير، كان يوماً أسودَا، إقفز، إقفز يا أستاذ، الحمد لله ما زال أستاذاً لم يجنّد بعد، ودّ لو تنشق الأرض وتبتلعه، واحترم بُعد نظر أمّه، ولم يقفز، فَــلَمّته كلية الحقوق على خير (قطع) ما هذا؟ إن القصة بدأت بالبنت، والمفروض أن نـقدمها إلى القارئ حتى يتعرف عليها أولاً؛ فهى البطلة، لكن القصة الحديثة ليس فيها بطل ولا بطلة، الشعب هو البطل، الشعب هو القائد. بيان 30 مارس، عندك، كما كنت، إلى القصة، القصة هى البطل، إرجع إلى القصة من فضلك فقد وصلنا دمنهور، هدّأ القطار من سرعته، الهزة زادت، والقلم لا يستقر على ورق الكراسة، من أغرب الخبرات أن تكتب قصة مهزوزة بغير قصد، لمجرد أن القطار يهتز، ولا بد أن الكلام سيتفكك من بعضه البعض ويعاد تنظيمه وحده فتصبح القصة من نوع جديد لم يقصد إليه الكاتب، ولعل صلاح جاهين كان أسبق إلى اكتشاف هذا النوع من الإبداع حين يقول “لمّا تهشّكها حبّة تلاقيها مفلفلة” آه لو ينشرون فوازيره فى كتاب مستقل، إذن لتعلّموا معنى الإبداع، مَنْ ذا الذى يتصوّر أن المِعزة، حين أكلت البيت، أن البيت كان معمولا من خشب مُصاصة القصب الله يرحمك يا صلاح ولو أنى زعلان منك، مستعجل لماذا يا رجل فها نحن جالسون، يا الَّلــه،، لكل أجلٍ كتاب، القطار يهتز، والقلم يهتز، واللظلظة تهتز فى غير رجرجرة، لأن هذه مسألة محسومة بفضل النقد الحديث، فإنما يتحقق التوازن الموضوعى فى السياق المتنامى للأحداث بمثل هذا الهارمونى الخفى الكامن وراء أية هزة أو هزهزة، الله!!!. ولمّا كان الكلام عن خطيب البنت قد أخذ أكثر من حقه، فهل ينفع أن نجعل أبا البنت هو الذى استشهد فى حرب الاستنزاف، وبالتالى ننقل كل الكلام الذى وصفنا به أبو الخطيب لصالح البنت فيتحقق التوازن الموضوعى إياه؟. طبعا، لا، لا ينفع؛ ذلك لأن الشعور الذى يتكون عند الشاب وهو لا يرى زوج أمه العرفى إلا وهو خارج من عند أمه فى الضحى العالى قُرب الظهر، هذا الشعور لا يجوز أن تمرّ به البنت، فهو خاص بشاب له مواصفات هذا الشاب بالضبط، وإلا لما أمكن أن يصل إلى القراء بنبضه الحقيقى، حالة كون الشاب يعيشه أو يعايشه، إن المسألة تحتاج فعلا إلى شاب من الذين يقال عنهم “وشبَّ الفتي”، أما البنت، الملظلظة فهى قد تحب أمها وتتقمصها، فتحب زوج أمّها وبالتالى تفرح بمبيته العملى وخروجه المتأخر، وتستفيد من ذلك فى إثراء خيالها، ثم قد يتمادى الأمر فتعتبره بديلاً طيباً للأب، حتى لو لم يعرض عليها أبوته لضيق الوقت الذى يقضيه بعيداً عن حجرة النوم، ثم إنه، والشهادة لله، عمره ما نظر لها نظرة كذا أو كذا. (قطع) ماذا حدث؟. هل نسيتَ أن التى تزوجت عرفيا هى أم خطيب البنت، الذى لم يخطبها بعد، وليست أم البنت، وأن والد البنت لم يستشهد، بل هو مازال حياً يرزق فى السعودية.

 طنطا هذه أم ماذا؟. لا ليس بعد، القطار هدّأ من سرعته فقط، منطقة إصلاح، ما رأيك لو قلبناها غما ونكتفى بهذا القدر، ونقتدى بالمسئول الكبير حالة كونه عنده 19 سنة، وننهى القصة بأن تأتى عربة مسرعة يقودها شاب متهور، ويصدم البنت وتروح فيها، وخلاص، وسوف يطلع لى فى طنطا بائع الحمص أشترى منه كيساً نظيفاً بجنيه، (نفس ثمن الكراس أو الدولسيكا) وأظل أمضغ كل واحدة على حدة (لاحظ الموسيقى: كل واحدة، على حدة) عشرين مضغة قبل أن أبلعها حتى نصل إلى القاهرة، وأكون بذلك قد أبدلتُ وسواساً بوسواس، «خالصين»، بَلا قصة بلا كلام فارغ. لم يكن جنيهاً اشتريت به كراسة، كل حاجة بجنيه، الحمص والآيس كريم زائلان بطبيعتهما إلا هذه الكراسة التى أحرجته كل هذا الإحراج (رجع يحكى بضمير الغائب، خلّ بالك) فعلا هى منطقة إصلاح، سوف يتأخر القطار عن موعد الوصول، حَسَدَ انضباطه كما حَسَدَ من قبل المسئول الكبير على نشره أوراقه التى أثبت فيها تاريخ التصنيع منذ كان سِنُّه 19 سنة، يبقى كم،  لكنه ولم يثبت مدة الصلاحية، المصيبة فى التأخير هو أن القصة سوف تطول وهو لا يدرى ماذا يفعل، ثم إن النهاية المقترحة كانت تحتاج أن تكون البنت أقل وزنا، بل إنها كانت تشترط أن تكون البنت نحيفة، ولا مانع من أن تكون مصابة بداء النحافة العصبية، أو رُهاب السمنة، مثل الأميرة ديانا التى تأكل وتتقيأ، تأكل وتتقيأ لتأكل وهكذا، ثم إن القصة هكذا ستصبح قصة قصيرة جداً، وهو  كان قد قرر أن ينتهزها فرصة ويجرّب نفسه فى هذا النوع من القصص التى هى ليست قصصاً قصيرة ولا طويلة، ثم إن المسألة ليست بالطول ولا بالقصر، المهم الفكرة، وهو كان قد سمع فى إذاعة لندن مؤخرا أن مؤلف فكرة لفيلم أمريكى كتبها فى أربع صفحات فقط وقبض مقابل ذلك مليون دولار أو أكثر، لا يذكر كم بالضبط، المسألة إبداع أو لا إبداع، فإذا كان إبداعا فأى شئ يكفى، وإذا كان لا إبداع، خلاص بقى، ما الداعى لأى شئ من أصله، ثم إن العربة التى يقودها الشاب المتهور إذا ما صدمت البنت سوف تشوهها دون أن تدشدشها؛ ذلك لأنها (البنت لا العربة) تبدو مخلية من العظام مثل الفراخ المخلية التى أصبح ثمنها ناراً بعد حكاية جنون البقر، فإذا ما حدثت الحادثة بهذه الصورة المفجعة فلن ينفعها لا المسئول الكبير ولا الكراسة أم جنيه ولا خطيبها ابن شهيد الاستنزاف، وستتحول إلى كتلة من الشحم واللحم مغطاة بـ، أو معجونة فى، قطعة جلد هنا، وقطعة قماش هناك، منظر مرعب وقبيح قد ينفع مصورا صحفيا مبتدئا لكنه لا يصلح لقصّة كهذه، والألعن لو تركوها يوماً أو بعض يوم. ناهيك(!!) عن عدة أيام مثلما يتركون الكلاب فى الطريق الزراعية، فقد تنتفخ لتصبح مثل جيفة بودلير (يا ترى هل هذا تناص أم تشبيه تمثيل أم مجاز مرسل؟. ولا يهمك سوف يجدون لها حلاًّ). قال يعنى قرأ جيفة بودلير، وهو لم يعرفه إلا أول أمس، وبفضل واحدة اسمها سلمى الخضراء الجيوشى، وحتى هو لم يلاحظ أن الذى ترجم قصيدة بودلير هذه هو أدونيس وليست سلمى الخضراء لا، هذا اقتراح سخيف حتى لو كان سينهى القصة نهاية من نوع قصص المسئول الكبير، لا بد من قصة وإن طال السفر، قصة حقيقية بالرغم من أنها لن ترى القارئ أبداً مثل قصصه السابقة التى لم تـُنشر، هى لم تنشر لسبب بسيط هو أنه لم يتقدم بأغلبها للنشر، تماما مثل فتاة القصة الثانية للمسئول الكبير التى لم تتزوج الواحد الذى كانت تحبّه لأنه لم يتقدّم لها أصلا،ً بل ربما لم يعرف عنها أى شى كان، لكن يبدو أن المسألة متعثرة، والملعوب مكشوف، فلم تكن ثمّة قصة ولا يحزنون، وإنما المسألة أنه كان يريد أن يتحدث عن نفسه بزعم أنه يكتب قصة، فكل قصصه القصيرة – التى لم تنشر- هى هكذا، لا يجرؤ أن يكتب سيرة ذاتية بشجاعة، فماذا يفعل؟. يكتب، أى يرسم، صوراً لاهثة، يطل من خلالها بذاته الحقيقية أو المتصّورة، ثم يختبئ ويدّعى، أنها قصصا، قال يعنى، ثم إن كل ما ذكره فى موضوع القصة الحالية هذه حتى الآن هو أن ثمة بنتاً ملظلظة، وأن والد خطيبها استشهد فى حرب الاستنزاف، وأن حماتها، التى لم تصبح حماتها بعُد، تزوجت زواجاً عرفياً من رجل لا يراه ابنها (مشروع خطيب الملظلظة) إلا خارجاً فى الضحى العالى من حجرة النوم، وكل ما عدا ذلك كانت أفكاراً سخيفة ومرفوضة، حتى النهاية المقترحة كانت تتعارض مع الأرجوزة اللطيفة التى كانوا ينهون بها مسلسلاً لا يذكره وهم يغنّون “تامّت، بحمد الله، تامّت، بحمد الله” صحيح الحمد لله على كل شئ ولكن كيف نستطيع أن نحمده ونحن نشم رائحة هذه الجيـفة النتنة جيفة بودلير، لا يا عم، الإبداع لابد أن يكون جميلا ولتذهب جيفة بودلير إلى الجحيم يا يوسف وهبى، ليس من الضرورى أن تكون النهاية سعيدة، ولكن لابد أن تكون ثمة نهاية، هكذا قالها الشيخ درويش فى نهاية زقاق المدق، وهو يوحوح متنهدا: أليس لكل شئ نهاية؟ بلى، لكل شئ نهاية ومعناها بالإنجليزية end وتهجيتها e,n,d… ولكن نهاية ماذا ونحن لم نبدأ، إن النهاية هنا تكاد تجئ قبل البداية، وسيقول النقاد، “لم تكد القصة تبدأ حتى انتهت” – حلوة هذه – غادر القطار طنطا دون أن يمر فى العربة بائع الحمص، درجة أولى ياعم، هل يأكل هؤلاء الباشاوات حمصاً مثلهم مثل صعاليك الموالد، لا يا سيدى، لابد أن مروره كان خطأ الأسبوع الماضى، ثم هو، يركب الدرجة الأولى مثلهم ويتصوّر أنه لا ينتمى إليهم، يضحك على نفسه أم على من؟ قالت له ابنته: لا تركب القطار الفرنساوى سوف يقف بك فى كل المحطات، ورد عليها: إن هذا أحسن لأنه يريد أن يقرأ وقتاً أطول، وأن يرى الناس وهم ينزلون ويصعدون فى كل محطة؛ فقد اشتاق إليهم ولم يكن فى حسابه أن هذا القطار الفرنساوى “هكذا” سوف يكلّـفه أن تصبح القصة القصيرة رواية “هكذا” والعياذ بالله. كيف تكون الكتابة قهرية ثم يخرج منها أى عمل إبداعى صادق؟. لقد لاحظ أنه كرر كلمة “هكذا” مرتين فى سطرين؟. هذه ركاكة سخيفة، ولكن دعها فقد يجد النقاد لها حلا، قد يسمونها “تيمة مُمَيـِّزَة” مثلا، هم أحرار، فى التكرار جمال خاص(!!)، هذا التكرار بالذات، وحتى هذا الأسلوب الذى ينتهجه الآن هو تكرار لمنهج مسبوق، فهو ليس فيه جديد، لقد قرأ قصصاً من قبل مكتوبة بهذا التكنيك (أى الأسلوب، أو المنهج أو التقنية!!) حيث يبتدع الكاتب الشخوص والأحداث أمام سمع القارئ وبصره، ثم يخرج له (للقارئ) لسانه، وهو يغيظه حين يضبطه وقد عايش الأشخاص كأنهم حقيقيون، شفت المهارة؟!. شئ أشبه بالذى يلعب بورق مكشوف ومع ذلك يكسب، زينب والعرش؟ يجوز. ولكن فتحى غانم لعب بورق مكشوف وكسب، والتقليد غير الأصل، فمن أضمنه أن القارئ سيتحمله مثلما تحمل هو عبده جبير، ولو أن عطلة رضوان ليست “كذلك”، ولا هى “ذلك” نفسه إذن هى ماذا؟. “لست أدرى” يا إيليا أبو ماضى، تناصّ هذا أم تداعٍ؟. هذا شغل النقاد، مالى أنا؟. (كانت فى الأصل أنا مالى، ثم قلبتُها فصحى قال بزعم أنها لما كانت معدولة لم تكن فصحى) فهو (أنا) لم يستحدث هذا النمط من الكتابة (عزيزى القارئ، ليس كل مرة سوف أنبهك أن تلاحظ كلمات وتعبيرات مثل “هذا النمط” أو “يستحدث” أو فنية استعمال العامية أو ما يبدو عامية بالفصحي؛ لأن المسألة زادت، والجمل والقصص الاعتراضية لا تنتهى، وهذه الطريقة – عزيزى القارئ – تحمل معنى ضمنياً لا يسرك، ما هو المعنى؟ ألم تجده بنفسك؟ تستأهل. يا سيدى معنى هذه الشروح المعترضة أن الكاتب يشك فى قدراتك (ولا مؤاخذة)!. فإذا كنت قد زعلت، فسوف أكف عن أن أنبهك هكذا على العمّال على البطال، ولكن دعنا نتفق على أن التعبير الذى هو، والذى أريد أن ألفت نظرك إليه، سوف ألحق به علامتى تعجّب بين قوسين هكذا:(!!)، لتأخذ بالك مما أريدك أن تأخذ بالك منه، وأنت وشطارتك، خلاص؟. يالله يا سيدى إلى القصّة، وربنا سوف يسهل إن شاء الله. ولكن ما رأيك ـ عزيزى القارئ ـ أن أتركك أنت تكمل القصة كما تشاء، لقد ذهب النقد الحديث إلى التأكيد على أن القراءة مثل التدخين هى مسئولية كل قارئ، وأن على المتلقى أن ينشئ القصة إن شاءً(!!) (بدأنا فى علامات التعجب، خلّ بالك من هنا ورائح) على القارى أن ينشئ القصة وأن يشارك فى تأليفها، لا لأن الكاتب حداثى، أو لأنه عجز عن تأليفها، ولكن لأن المسألة مسئولية مشتركة، فلم يعد ثَمَّ مكان للصوت الواحد، ولا للبطل الواحد، ولا للتسلسل الواحد، ولا للقصة أصلاً، وكل واحد وشطارته، فهل ستفشل أنت – عزيزى القارئ – أن تلتقط دلالات علامات التعجب، حتى لو لم أضعها أصلا مثلما فشلت أنا فى فهم علامات التعجب التى توضع على الطرق السريعة الطالعة نازلة، والتى عرفت بعد مدّة أنها تعنى “إحذر”، وكنت أحسبها تقول مثلما هو مكتوب على العربات نصف النقل ” لا تتعجب فتلك إرادة الله”، و يبدو أنه كان عندى حق، فقد كنت ألاحظ أنه بالقرب من هذه العلامات توجد عربات محطمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله،..إلخ، نرجع إلى قصتنا، وما دمت يا عزيزى القارئ لا تبدو عليك أية حماسة للتكملة فسوف أكملها أنا وأمرى إلى الله.

تذكرت للتو أننى لم أذكر من شخصيات القصة إلا البنت وخطيبها المزعوم، وحتى اسْمَاهما لم أذكرهما، وهذا نقص شديد ولعله هو السبب فى هذا التوقف، ولو أنه، بينى وبينك، القصة لم تبدأ أصلا حتى تتوقف، ولمّا كان الباقى من الزمن أكثر من ساعة يا عمّنا نجيب، فلا بد من تعداد بقية الشخصيات، ولكن كل حى باسمه، فخذ عندك: البنت الملظلظة لها أخ اسمه أحمد، وأختها اسمها عواطف، وأبوها اسمه عبد الغفار حسن عبد الغفار، وبالتالى فهى من عائلة عبد الغفار من الغربية أصلا، بلد صغيرة بين زفتى وبركة السبع اسمها” دمنهور الوحش” اسمها كذا!!، البنت اسمها مديحة، وأمها عندها حَوَل خفيف من الذى يعطى للعينين جمالا خاصا مثل “عنبر إلى الأبد”  أعنى مثل لندا دارنل،(!!)، أما خطيبها (خطيب البنت لا الأم) فله أخ اسمه عبده (قد يكون عبد الفتاح أو عبد الغفار أو عبد الله..إلخ)، ومع ذلك فقد اكتشف أنه مكتوب هكذا فى شهادة الميلاد “عبده” لأنه بالإنجليزية Abdu وهو لم يعرف أنه ليس اسم دلع إلا وهو يستخرج الأوراق للهجرة إلى كندا، إذ يبدو أن حكاية زواج أمّه العرفى لم تمر عليه بالساهل، فسافر، الطيب أحسن، وهو (تعود على الخطيب أو على أخيه عبده أيهما أقرب) كانت له أخت اسمها سلوى، وعندها شلل أطفال، ولكنها تزوجت زواجة معقولة، وهذا أمر يتكرر لكثير ممن عندهن شلل أطفال، إذ يبدو أن المسألة فيها أمور جذب وحيوية لا نعرفها نحن الذين ليس عندنا شلل أطفال ولم نتزوج واحدة عندها شلل أطفال، وهكذا يتجمّع عدد من الشخصيات فجأة، يمكن بقليل من التوافيق والتباديل والمصادفات السارة والسيئة، ثم بعض الحذف وكثير من الإضافة يمكن أن يتم نوع من الصياغة المشتبكية (!!) توصلك إلى شرم الشيخ وليس إلى القاهرة فحسب، بل إننى أستطيع أن أتحفك بالمزيد لأنها تبدو عملية أسهل من الحكى الطولى، فعندك مثلا جمهرة من أولاد العم [أولاد عم البنت لا الخطيب] يمكن تسميتهم الواحد تلو الآخر إذا احتاج الأمر، بعضهم يعمل فى العراق ويرسل خطابات ولكن بخط غير خطه، يمكن مات وزملاؤه يصّبرون أمه، وبعضهم فى إيطاليا، وبعضهم كان يعمل فى لندن شخصياً عدداً من السنين حتى أخذ الجنسية الإنجليزية، ثم توقف عن العمل بسبب مرض نفسى، ثم تمادى فى التوقف بحركات مصرية أصيلة، وهو يأخذ الآن بدل بطالة ويكتفى به ليتفرغ للأعمال “الأخري”، مع أن البنت لا يبدو عليها إطلاقا أن لها أقارب من هذا النوع، ويمكن لأى واحد من هذه المجموعة غير المتجانسة أن يرسل خطابا يقلب به الدنيا، فتحلو القصة وتمتد بلا صعوبات، أو يمكن واحد منهم يطب فجأة عائدا إلى مصر، ويحاول أن يخطب البنت شخصيا، لا من أجل لظلظتها ولكن لأسباب دينية تتعلق ببناته اللاتى سينجبهن منها فى الغربة واللاتى قد يرافقن “الصديق الولد” (Boy-Friend) إذا كانت أمهن إنجليزية (لاحظ أننى اخترت الجدع الذى يعمل فى لندن ويأخذ بدل بطالة بالذات دون غيره لأسباب لا تخفى عليك، مثل أنه لو امتدت القصة إلى لندن فسوف تجد هناك جالية عربية لا حصر لها تنفع فى حَبــْـك الأحداث)، وصاحبنا هذا – ابن العم – الذى يمكن أن يطب فجأة ليخطب البنت، يعلم علم اليقين أن زواجه منها لن يمنع بناته مستقبلاً أن يتمتعن بحرّية البنات الإنجليزيات حتى لو كانت أمهن السيدة زينب نفسها، أقول إن هذه “الفـَرْشة” من الأشخاص هنا وهناك قادرة على عمل ما لا يُعمل، فلماذا حبس نفسه من الأول فى هذه الشخوص، هذين الشخصين، اللذين لم يقدرا أن يعملا أى شئ يوصله إلى القاهرة، بل إنه على الناحية الأخرى، ناحية الخطيب، يوجد عدد آخر من الشخصيات الجاهزة للدخول إلى بؤرة الأحداث(!!) وسأضرب لك مثلاً واحداً لأن الدنيا ازدحمت بالشخصيات، فزوجة خال الخطيب اسمها إحسان، وقد راودته عن نفسه وهو بعد فى سنة ثانية ثانوى حتى صار فى كلية الحقوق، كان جسمه فائراً من يومه، وهذا مرتبط – بشكل ما- بالدور المشابه الذى قامت به معه الغسَّالة التى اسمها أمينة، والتى تناديها أمه بأم فهمى مع أن ابنها الكبير اسمه لطفى (معلومة ناقصة تستكمل: لعله ابنها الأكبر من زوجها السابق. من يدرى) وهو بعد فى سنة ثانية إعدادى، شئ أشبه بالبروفة للأحداث التى ستحدث فيما بعد، وبالذات مع زوجة خاله وليست مع البنت، فقد كانت أم فهمى تجرجر الولد فى الكلام عن ما يحدث فى الحجرة بين أمّه وزوجها العرفى (يسمّونه هذه الأيام “البيّات”) وكانت بذلك تضرب عصفورين بحجر(!)، فمن ناحية كانت توغر صدره نحو أمّه وزوجها وهو ليس ناقصاً، ومن ناحية أخرى كانت تثير فيه مشاعر دافئة ولذيذة وسلِسة وأشياء حلوة جدا جداً لايعرف لها اسماً، وهو إذا وصفها باخَتْ؛ ذلك لأنه لا يعرف كنهها(!!). فلما جاءت حكاية زوجة خاله هذه لم يستغرب الأمر، لكنه أبدا لم يغفر لزوج أمه ما يفعله مع أمه داخل الحجرة، مع أنه زوجها فعلا، ولو عرفيا.

 أظن – عزيزى القارئ –  أنا عملت ماعلىّ، ويمكنك بأية درجة من الموهبة، وبدون موهبة حتى، أن تعمل ما تريد من كل هؤلاء، ثم لا حظ أن هذه قصّة داخل قصة داخل قصة، مثل حركات ديستويفسكى الذى كان يكتب بالشبر لزوم القمار والذى منه، الآن فهمت كيف تتولد القصص من بعضها البعض لمجرد أنك مضطر، سواء كان هذا الاضطرار وعداً لمجلة أسبوعية أو بطء القطار الفرنساوى بين القاهرة والاسكندرية، وكاتبنا هنا لن يقبض شيئاً من أى أحد، هو فقط يحاول أن يفى بنذر خفى، فهو مضطر أن يكمل ما بدأه، هكذا، بسبب الارتباط الوسواسى الذى أخذه على نفسه، والبركة فيك بقى، عزيزى (بدون “القارئً، هذه المرّة)، خاصّة وأن المسألة انكشفت بعد أن اعترف الكاتب الأول أنه هو الكاتب الثانى، والآن جاء دورك لتصبح الكاتب الثالث والأخير بإذن الله، وإذا كان الكاتب قد نوّه صراحة(!) على أنه هو الذى يتحدث بضمير المتكلم ثم بضمير الغائب، فإنه لم يفعل ذلك نتيجة لضعف الثقة بذكائك، ولكن ـ ربما ـ من باب الحداثة، دون قصد طبعاً، ودون أن نسمّيها حداثة، فكما أنَّ قمّة درجات التصوف أنْ تنزع عنك رداء التصوّف فلا تستعمل صفة متصوف أصلا، فإن قمة درجات الحداثة هى ألا تكون حداثة، باختصار: إن الحداثة لا تصبح حداثة إذا سُـمّيت كذلك، فأرجوك – عزيزى – ألا تدق على مسألة الضمائر هذه وحدها، فالحكاية مهببة من أصله، المهم أن تتمسك بأية فكرة تصل إليك وتقبض عليها بيد، لا أقول من حديد، حتى تستطيع أن تكمل، ولكن تقبض عليها جداً والسلام حتى لا تفلت منّا نحن الاثنين، وأنا ما شرحت نفسى ونفسه فى مسألة الضمائر هذه إلا لأترك لك مساحة للاختيار، ضمير غائب ماشى، ضمير متكلم ماشى، ساعة كذا، وساعة كذا: ماشى، لا أحد يعرف أين الخير، الاختيار وإعادة الاختيار وإعادة صياغة النص، ونص صياغة الاستعادة هى أصل التجاوز الغائى بالصلاة على النبى.

نرجع إلى القصة التى هى فى داخل القصّة (أى القصة الوسطى) فقد آن الأوان أن أذكر اسمَى البنت وخطيبها الذى لم يخطبها بعد؛ لأنه ليس من اللائق أن أذكر أسماء كل هؤلاء حتى اسم الغسالة واسم ابنها الحقيقى وابنها المفترض، ثم لا أذكر اسم الشخصيات الأصلية، ولا أقول البطل والبطلة، أما اسمها فحميدة، صحيح أنه اسم لم تكن تنتظره – عزيزى- بعد كل هذا الوصف، كنت تنتظر – أنا عارف – أن يكون اسمها ليلى، أو لُبنى، أو حتى يُمني؛ لأن لظلظتها من النوع الحديث الذى تليق عليه هذه الأسماء، أما اسم حميدة فيوحى لك بنوع آخر من اللظلظة، حميدة اسم قديم بعض الشئ ولكن له حكاية لأن خالتها هى التى أسمت البنت “حميدة”، ليس على اسم أمها (أم خالتها أى أم أمها أيضا) وإنما على اسم المرحومة الزوجة الأولى للوالد، والتى انتقلت إلى رحمة الله قبل زواج والد البنت من أمها، ماتت دون أن تنجب والحمد لله بفضل مرض مجهول، وهذا أحسن، لأنها لو كانت قد أنجبت لتعددت الشخوص فى القصة التى كادت تصبح رواية، ونحن عندنا شخوص كفاية الآن، ينفعون لعمل مسرحية زحمة، وساعتها، لو كانت قد تركت ذرية يسمونهم أولاد البلد من “أم ثانية”، كنت لن تستطيع أن تمنع نفسك من الاستطراد إلى مسائل الغيرة القديمة، والشجار، والدسائس ثم الصلح، وأشياء لا تنتهى، والأب غائب فى السعودية، والعم (اسمه مختار، تصور!!!) ولا هو سائل، ناهيك عن النظرات التى ينظرها الأسطى مختار لزوجة أخيه وهو يعطيها النقود التى يرسلها أخوه بالحوالة كل كم شهر، هكذا أفضل، ماتت حميدة الأولى ولم تنجب، وخلاص، مثل قصص المسئول الكبير، ونحن لا ندرى ماذا كانت تقصد الخالة حين أصرّت على تسمية حميدة حميدة على اسم المرحومة، فمن المستبعد بداهةً(!!) أنها كانت تهدف إلى أن يتذكر الزوج المرحومة باستمرار كلما نادى على ابنته مثلا، فلربما (لست متأكدا أن اللام الزائدة فى “ربما” هذه عربية، لكن شكلها جميل هكذا) فلربما كانت الخالة تقصد أن تقوم بعملية إحلال تدريجى دون أن يشعر الزوج، بمعنى أنه كلما جاء ذكر حميدة  قفز إلى ذهنه اسم ابنته لا صورة المرحومة، يا ولد!!، ولا أجدع علاج سلوكى، هكذا بالسليقة، إذن البنت اسمها حميدة، وعلى فكرة أنا لم أذكر لك أن الست إحسان – زوجة خال الخطيب المزعوم التى راودته عن نفسه-  لم تفعل ذلك إلا بعد أن توفى خاله بأربع سنوات، وبالتالى فتسميتها بزوجة الخال ظلم لها وللأحداث (كيف للأحداث لا أدرى)، لأنها حين راودت الخطيب المزعوم (أنا متعمّد ألا أذكر اسمه إلا بعد فترة؛ تنشيطاً لخيال القارئ)، أقول حين فعلتها كان المرحوم خاله قد قضى نحبه منذ مدّة، أربع سنوات ليست قليلة فى عُـرف البيولوجيا الحيوية، وخصوصاً بيولوجيا الست إحسان، الأصح إذن أن نقول أرملة خاله، هناك فرق. هذه مُحصْنة (زوجة الخال) وتلك غير مُحصْنة (أرملة الخال)، هذه تُرجم حتى الموت، وتلك تـعَــذّر بكم جلدة شريطة حضور أربعة شهود بالتمام يكونون قد رأوا كل شئ رأى العين، وتأكدوا، كيف؟. لا أدرى. ياما أنت حليم ستّار يارب، وبقية الظروف تعتبر فى عرف أى واحد يفهم فى الطبيعة البشرية البيولوجية من الظروف المخفّـفة، وخاصّة إذا كانت الطبيعة البيولوجية من نوع الطبيعة التى تطل من كل فتحات ملابس الست إحسان، وحتى من وراء الفتحات، فإذا أضفت إلى ذلك أن الخطيب المزعوم كان شاباً طويلاً أسمر سابقاً سنّه، خجولاً رياضياً ممتلئاً إلا قليلاً، له حاجبان كثيفان وعيناه الواسعتان تـُظهران حاجبيه بشكل معين، وبالعكس، (يعنى حاجباه الكثيفان يظهران أيضا سعة عينيه. ليس أسهل من هذا) إذا أضفت هذا إلى ذاك، وإلى استحالة التأكد من أى شئ بحضور أربعة شهود، لابد أن تعرف أن رحمة ربنا أكبر من كل تصوّر يا أخى، وأنا لست متأكداً مما حدث بالضبط من هذه الناحية، ولا أريد أن أدخل فى التفاصيل، لأنها تحصيل حاصل، مع أننى أعرف أنك تريدنى أن أحكى لك التفاصيل، لكننى سأغيظك، وفى الوقت ذاته أحاول أن أستثير خيالك، فماذا يعنى يمكن أن يحدث بين الست إحسان التى هى كما ذكرنا إجمالا، وبين شاب بمثل تلك المواصفات السالفة الذكر، وعليكَ، ولكَ، أنت أن تتخيل ما تشاء، ولكن كل ما يتخيله خيالك هو مسئوليتك بالتمام، بما فى ذلك إذا تجرأ خيالك ورمى المحصنات، أو غير المحصنات، المسألة كلها تتوقف على نوع وسعة خيالك، أما عن “أنواع”الأخيلة فثَمَّ (!!) خيال خبيث، وخيال ملتو، وخيال نصف نصف، وخيال كسول، وخيال جامح (حلوة جامح هذه) وخيال متعثر فى طوب وزلط الواقع، أما عن “سعة” الأخيلة، فهناك الخيال بالطول والخيال بالعرض، والخيال الأسطوانى، والخيال القوْسقزحى، وما دام الأمر كذلك فما الحاجة بالله عليك إلى التصريح الذى نلقاه فى هذا النوع من الأدب الذى يقال له الأدب الصريح، أو أدب الجنس، لماذا يصرون فى هذا الأدب المكشوف على تسمية الأشياء بأسمائها، لا بد أنهم (أدباء الجنس الصريح) يظنون أنك عاجز جنسياً، أو أنك طفل فاتتك فرصة تعلّم التربية الجنسية، أو أنك تربيت مكبوتاً فى كُـتــَّاب القرية؛ وهذا لأن أغلبهم أفندية يتعاطون الأدب فى مقاهى المثقفين، ويتصورون أن القراءة عن الجنس هى بمثابة ممارسته، مع أن العكس يمكن أن يكون أصح، لأن معظم الذين تعلّموا فى كتاب القرية، على ما أذكر، ولستُ منهم بالضرورة، كانوا يتعلّمون الجنس من الحيوانات مباشرة، وكانت المباشرة عملية متاحة على مستويات متعددة، وقد رأوا التلقيح الطبيعى لمعظم أبقار البلدة، بمساعدة الكلاف الذى لا بد أنه كان يجد لذة من تقمّص هذا الثور السنافيرى، كان ثوراً أشقر فحلاً ليس عندك فكرة، وكان اسمه هكذا السنافيرى، حتى حسبتُ أنه اسم الدلع لرمسيس الثانى، إلاّ ولمّا كانت خالتك فاطمة تمسك بالبطة لدكر البط حتى ” يكسّرها”، وإلاّ لمّا ذكر الحمام يدور حول نفسه والحمامة تطأطئ رأسها وهو لا يقترب منها وإنما يواصل دوراته الاستعراضية، الآن فهمتُ لماذا سمّى ابن حزم كتابه “طوق الحمامة”، يا خبر هذه كلها من نعم الله الطبيعية على مخلوقاته وإلا انقرضت، فلماذا يستهينون بخيالك هكذا لمجرد تصورهم أنك خرجت من كتاب القرية أو أنك لم تتعلم التربية الجنسية فى المرحلة الثانوية، أما أنا فأنا أثق فى خيالك الخصب، وأتصوّر أنك تستطيع أن تنسج(!!) قصصاً لا تنتهى من مسألة “راودته عن نفسه”، بأمارة أن كل عمّاتك كنّ يطلبنَ منكَ أن تقرأ لهن سورة سيدنا يوسف للاتعاظ المرّة تلو المرّة، وبالتالى، فلن أدخل فى تفاصيل من إياها.

نرجع مرجوعنا إلى الخطيب، وقد آن الأوان أن نسميه، وفى هذا الأمر أسألك المشورة؛ لأن الأسماء التى خطرت ببالى بالنسبة إليه كانت من النوع الرمزى السخيف الذى يوائم بين الدور الذى يقوم به الشخص فى القصّة، وبين اسمه، وذلك مثل الكتاب الذين يتعمّدون هذه المقابلات كالتالى: عادل: قاض، همّام: ضابط، ونبيه: خبير كمبيوتر، ماهر: لاعب كرة، ورفيق: مرشد سياحى، ما هذا؟. تبت إلى الله بعد أن أخطأت مرّة بل مرّات أخطاء من هذا النوع، ما رأيك فى اسم سلامة، أو أشرف، أو باسِم، أو مختار؟ بصراحة، كنت قد اخترت له اسم “يوسف” بمحض الصدفة، ليس صدفة تماما ولكننى أعرف محامياً طيباً شاباً وذكياً اسمه يوسف، وكنت أريد أن أكرمه بأن أستعمل اسمه لشخص مناسب، لكننى حين تذكرت مسألة “راودته عن نفسه” هذه قلت: بـناقص يوسف، خلّها: سامى، ماشى سامي؟ لا مانع، هو اسم يصلح لكل العصور، وليس فى دوره أى سمو أو تسام، وبالتالى، لا حرج، فليكن، سامى سامى، خلّنا نخلص.

بعد إذنك، عزيزى القارئ:

 ………، القطار مازال يسير ببطء وهناك تأخير قد يقلب هذه القصة إلى رواية، وقد تـُـنـشر على حلقات، وأنا مضطر للذهاب لدورة المياة لحاجة بيولوجية لا يمكن تأجيلها، وحين أعود سوف أكتب لك، أعنى لى، ثم نستطرد.

شكرا.

(موجز ما لم ينشر)

جلس الرجل (الذى هو أنا فى الأغلب) على المقهى بعد أن اشترى كراسة بجنيه، وطلب واحد قرفة، وادعى أنه ينتظر واحدا، وقرر أن يكتب قصة أسوة بالمسئول الكبير الذى نشر قصصه عينى عينك فى صحيفة يومية آخر تمام، وذلك من فرط غيظ الرجل الجالس فى المقهى من عبده جبير، ومن المسئول الكبير معاً، وكانت الكراسة التى اشتراها بجنيه، قابعة تنتظر، وكان معه قلم حبر جاف مصادفة، فراح يكتب، وكل ما فتح الله عليه به حتى هذه اللحظة هو أن هناك بنتاً ملظلظة، لها خطيب لم يخطبها، ولم يصدمها شاب متهور يركب عربة مسرعة، وخلاص، أما الفتاة فأبوها يعمل فى السعودية، أما الخطيب المزعوم فأبوه مات فى حرب الاستنزاف، وأمه تزوجت زواجاً عرفياً، وزوجة خاله، أعنى أرملة خاله راودته عن نفسه زمان (بعد الغسالة ما علّمته اللازم)، هذا كل ما كان حتى الآن.

 وكان الكاتب قد قرر أن ينهى القصة لا قبل ولا بعد أن يدخل القطار محطة القاهرة، وقد أعطاه القطار مقلباً، أو قرصة، إذ أنه راح يسير ببطء ولا قطار الدلتا بسبب إصلاحات فى الطريق فى الأغلب، وهو الآن لا يعرف كيف يكمل، فها هو يحاول، قال:

ولمّا تأخر سامى فى التقدم لخطبة حميدة، لست أعرف لماذا (قَطْع) خطر ببالى خاطر الآن تخلّصا من الوسواس الذى ألزمنى بكتابة هذه القصة، وهو أن أحسب التحدّى بالساعات لا بعدد الكيلومترات، مضت حتى الآن ثلاث ساعات وربع، وكان المفروض أن يصل القطار فى ثلاث ساعات إلا ربع، فالنذر (الوسواسى) قد تم الوفاء به، وهو لم يكفّ عن الكتابة من ساعتها، فماذا تريد أكثر من ذلك؟ عليك أن تكمل الحكاية أنت بشهامة المبدعين، ويكفى هذا، ثم إن هناك سبباً آخر وهو أننى أشعر باقتراب حزن خفى، وأننى لو أكملتُ بعد ذلك فسوف أقلبها غمّاً، فما رأيك؟.

نعم؟ نعم؟. أنتَ مالك؟ أمّا قارئ أى كلام، ألستَ يا سيدى أنت هو نفس القارئ الذى يتحمّل كلام الحداثة حين يقولون له: إنك تقوم بدور لست أدرى ماذا، وإنك كذا، وإنك مبدع، وإنك وإنك….، فإذا جئتُ أنا أستسمحك بكل طيبة أن تساعدنى، تقوم تهز لى أكتافك هكذا، طيب أنت المسئول عن الغم الذى أشم رائحته قادماً، ثم إن والدتى كانت تكرر أنه “من عمل جميلا يتمّه، وإلا تموت أمه”، فهل معنى أن أمى ماتت فعلا وأنى لا أخاف أن تموت ثانية إذا لم أتم القصة، هل معنى ذلك أن أتحرر فلا أتم العمل الذى أقوم به؟. بالعكس، إكراما لها ولحكمتها سوف أتم هذا العمل، وسوف أعتبر أنها لم تمت، وسوف أحرص على ذلك خوفا على حياتها، ربنا يخلّيها ويطول عمرها لنا جميعا!!

خذ عندك يا سيدى:

البنت حميدة، تعمل فى شركة كمبيوتر، وسامى يعمل محاميا تحت التمرين، رغم أن أمّه كانت تصر على ألا يطلع ضابطا مثل أبيه، كانت تريده أن يكون مهندسا ضاربة عرض الحائط بأنه قِسم أدبى، المهم أنه بعُد عن الجيش، وأنهى كلية الحقوق بعد تخلف سنتين ثلاثة، ومرتبه شديد التواضع، ومعاشه انقطع ولم يبق إلا معاش أمّه التى تصرفه على زوجها العرفى الثانى، وهو زوج بـَيـّات أيضا لكن بياتة مرتاحة وليست خطفاً مثل الأول، ثم إنه يختلف عن الزوج البيات الأول فى أنه أصغر عشر سنين (أصغر من الأم وليس من الزوج الأول) ثم هو يأتى مبكراً، ويبقى فى المنزل أحيانا إلى ما بعد الظهر ورغم أمانة سامى مع حميدة إذ أنه لم يعدها أبدا أنه سوف يتقدم إليها، إلا أنها كانت ولا على بالها، والذى فى مخها فى مخها، وهذا هو الذى جعلها تخرج معه مراراً وتكراراً(!!). المشكلة فى المكان، وقد فكّر سامى ذات يوم أن يستعير عربة “الأستاذ” الذى يتمرّن عنده بعد أن قامت صداقة – ليست معتادة – بينهما، محام تحت التمرين، وصاحب مكتب مشهور فى التعاقدات، لكن المسألة صـُـدَف، وثقة متنامية (!!). والثقة التى تولّدت بينهما لم تكن بسبب إتقان كتابة المذكرات القانونية أو حسن لقاء الزبون، وإنما حدثت بمحض الصدفة، ذلك أن المحامى الكبير (سأسميه: “الأستاذ”) قد أرسل سامى ذات يوم ليحضر له لفافةً ما من أحد المعلمين الممتازين، وكان هذا المعلم الممتاز يعيش – ليس بمحض الصدفة- فى مكان يحتاج إلى خريطة تفصيلية للوصول إليه، فإذا بسامى يذهب ويرجع بالأمانة (اللفافة) فى لمح البصر(!!). [أظنك مازلت تذكر يا عزيزى مغزى علامات التعجب]. نعم رجع سامى فى لمح البصر وعرف المكان مائة فى المائة حتى لم يعد يستعمل الخريطة بعد ذلك، ومع تكرار ذهابه راحت ثقة الأستاذ فيه تتنامي(!)، بل إن دليلاً آخر قد بدأ فى الظهور وهو أن الأستاذ شخصيا هو الذى أخذ يرفع الكلفة تدريجياً بينه وبين سامى، فبعد أن كان لا يناديه إلا بـ “الأستاذ سامي” أصبح يناديه بـ “سامي”، فقط، طبعا هذا دليل على علاقة أوثق بلا شك، ولكنّ سامى لم يستطب الاسم هكذا “حاف” خاصة أمام الزبائن، خشية أن يحسبوه فرّاشاً مثلاً، لكن حين وصل الأمر إلى “يابو السّام” تأكد من رفع الكلفة بينه وبين الأستاذ، وهذا ما جعل سامى يفكر أن يستعير سيارة الأستاذ حتى يفسِّح فيها “لا خطيبته” (شئ أشبه بـ “اللا رواية”، أو كما قال) وكان يتمنى أن يوافق الأستاذ لأنه فى الأغلب سيكسب ثوابا كبيرا، لا لأن ذلك سيسهل عملية التقدم للخطبة، فالزواج، ويا بخت من وفّق رأسين.. إلخ، ولكن لأن مثل هذه الفسحة فى تلك السيارة الفسيحة يمكن أن يساعد سامى فى الهبوط بـ “لا خطيبته” إلى أرض الواقع، أو قل إلى “لحـم الواقع”، وهذا لا يعنى أن سامى كان يفكر أى تفكير كذا أو كذا، فالالتحام بالواقع فى الأغلب هو اشتقاق من حكاية “لحم الواقع” التى خطرت ببال سامى بديلا عن “أرض الواقع”، كله من مادة لحم يلحم، ثم من وفرة إخلاص سامى، أنه لم يستبعد أن يهبط هو كذلك إلى أرض الواقع، أو لحم الواقع، أو لظلظة الواقع، وقد يكون هذا دافعاً أن يجعل الذى فى مخ حميدة ليس فى مخها فقط، ولكن من أين يا حسرة، من أين يمكن له أن يتم هو الآخر ما بدأه خياله؟ أقول لك من أين: (مازال سامى يحدّث نفسه)، فقد فكر أن يعرض على المعلم أن يقوم بنفس المهمة التى يقوم بها للأستاذ، يقوم بها- فى غير أوقات العمل الرسمية – لأساتيذ غير الأستاذ؛ وذلك مقابل حسنة محسوبة، وهو محام، صحيح تحت التمرين، ولكنه فاهم كل حاجة، ويا بخت من نفع واستنفع، وهو لن يحتاج – حسب حساباته – إلى أكثر من عشرة مشاوير، بعدها، يمكن أن يتقدم إليها، وما قـُـدِّر يكون، ولكن هذا السيناريو لا يمكن أن يبدأ إلا بعد أن يكون الأستاذ قد وافق على إعارته عربته حتى يحقق قول الصوفية الأفاضل أن من ذاق عرف، وهنا فقط تذكر أنه لا يعرف قيادة السيارات أصلاً، وهو يستعمل التاكسى حين يذهب إلى هذا المشوار بالذات، مشوار المعلم واللفافة، وعلى التاكسى أن يتغير باستمرار، هكذا وصّاه الأستاذ، وقد عمل بوصيته ردحاً من الزمن(!!) ولكن تاكسياً بذاته عرف مواعيده، وأخذ ينتظره وكأن المسألة صدفة، ثم هب أن كل ما تصوّره بشأن الحلول المادية بالجهود الذاتية قد تحقق، فللأمانة هو غير متأكد إن كان سيقدم على خطبة حميدة أم لا،  فالمانع ليس فقط المادّة التى يعبّر عنها هذه الأيام الشباب بتعبير “يكوّن نفسه”، ولا هو عدم وجود عاطفة كافية، ولا هو أمّه وزوجها البيّات، ولعلّ القارئ بذكائه يحاول أن يجتهد معى لنبحث عن المانع لأنه (القارئ) فى الأغلب أصغر منى سناً، وهو أدرى بشباب هذه الأيام وموانعهم، ثم إن القطار، رغم الإصلاحات المعوّقة، ورغم تأخره عن الميعاد أكثر من ساعة، ورغم بطئه، قد اقترب من باب الحديد، ولو أننى تركت نفسى أحاول تفسير كل مانع ودافع لكان لزاما على أن أقضى الليل فى القطار، وذكريات فيلم باب الحديد ليوسف شاهين لا تسر (فيما عدا هذا الذى فعلته هند رستم بكل الرجال الذين شاهدوا الفيلم) ورواية السكة الحديد لإدوارد الخراط تخيفك دون أن تكون فيها عفاريت محددة “الهوية”(!!). أنا قلت أكتب قصّة وليس أمثّل قصة، ثم إن الخطأ خطأ حميدة لأنها تعتبر سامى خطيبها فعلا دون أى دليل أو قرينة، كلام هكذا والسلام دون بينة، والبينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر، ومع أن سامى لم ينكر، إلا أنه قد أقسم ألف يمين ويمين، وحتى دون أن يقسم فالقارئ عارف، وأنا قلت له إنه لم يلمّح ولم يصرّح بأى شئ، وأنا شاهد حتى بعيداً عن هذه القصة تماما، شاهد أن هذا لم يحدث بأية صورة من الصور، ولابد أن يصدقنى القارئ، فليس معنى أننى تركته يشاركنى الإبداع والبحث عن الحلول أن يشك فى كلامى وفى قدراتى على الخلق، فليفعل هو ما بدا له فى حدود ما سمح له النقد الحديث (وأنا شخصياً لا أعرف هذه الحدود ولست مهتماً بمعرفتها)، كل ما أعرفه هو أننى ينبغى ألا أعامله (القارئ) وكأنه مثل الإناء الأملس من الداخل، ألقى به ما يعِنّ لى (ملعوبة !!) وما عليه إلا أن يحتويه، لا، هذا كلام قديم، إن النقد الحديث يـُلزم القارئ أن يكون مثل الفخار المسامى، يمتص ما يلقى إليه، ثم يسيبه الناحية الثانية بلا أى مانع، والاسم استيعاب، وتمثّل، وكلام من هذا الكلام الجيد الذى يحترم القارئ لدرجة الاستغفال، أما أنا، فلا بد أن أعترف أننى، حتى هذه اللحظة، لم أجد مبررا كافيا يبرر أن يرتبط سامى بحميدة، ومسألة الحب التى كانت تبنى عليها قصص زمان أصبحت بعد الفيديو كلوب مسألة فيها نظر، فأنت كنت تستطيع أن تجلس أمام شادية تتملى فيها وهى تسهر طول الليل، “وسهرنا سهرنا سهرنا لحاد الفجر”، وبالتالى تصبح لديك فرصة أن تحبّها، وبالتالى تحب غيرها، مثلها أو نقيضها، المهم تتعلم الحب بإيقاعه البطئ اللذيذ وأنت سهران لحادّ الفجر، ثم بعد ذلك أنت حرّ، أما الآن بعد الفيديو كلوب، فأنت لا تكاد تبدأ فى حب أية واحدة تليفزيونية تغنى، أو تتصور أنها تغنى، حتى تظهر لك عجلة، أو واحد يكتب، أو حمار بجوار ترعة، ثم تظهر ثانية هذه الواحدة، وتحتار هل هى لطيفة أم سحر رامى أم على الحجار، فكيف بالله عليك يتعلّم شبابنا الحب، وكيف أطالب سامى وهو رائح غاد يجلب اللفافة للأستاذ ويحضّر المذكرات القانونية، كيف أطالبه أو أتوقع منه أن يتقدّم لحميدة بسبب الحب، وهو لا يعرفه أصلاً، كانت أيام! أيام مصطفى لطفى المنفلوطى كان يمكن أن تفسّر أشياء كثيرة بهذه العواطف النبيلة (هم الذين كانوا يسمونها كذلك)، أما الآن فالنبل موجود طول الوقت دون أى عواطف ولا تعب ولا خطبة ولا حاجة، هل يمكن أن يكون العائق – الذى يؤخّر الخطبة أو يمنعها- فى حميدة وليس فى سامى؛ لأننا إذا كنّا افتقدنا الدافع للخطبة، فضلا عن متطلباتها فلعل الأمر يفَسّر بفتور الشّدّ الجاذب نحو العلاقة، المسألة جهاز إرسال وجهاز استقبال، فلعل جهاز استقبال حميدة، على الرغم من لظلظتها، هو الذى به خلل، وهذا يلزمنا أن نعرف أكثر عن حميدة، وبطء سرعة القطار يسمح بذلك:

حميدة – كما قلنا-  تعمل فى شركة كمبيوتر، وهى مخلصة إخلاصاً فائقاً فى عملها لأنه عمل خاص جدا، ومهم جداً جداً، فهى لا تعمل على الكمبيوتر جامعة حروف مثل كاتبة الآلة الكاتبة، لكنّها مصمِّمة برامج، وهذا عمل لا يقوم به إلا شباب أذكياء جداً، وهم عادة من الذكور، وهو إبداع حقيقى، وفيه قدر كبير من السرقة الذكية، وهى سرقة تنهَى عنها اتفاقات الجات وحقوق الملكية فى حين تشجّعها الأمم النامية، ويرضى عنها رب العالمين (فى الأغلب)، وقد استطاعت حميدة    – بفضل الله-  أن تفك شفرة برنامج جديد شديد التعقيد، ثم إن هذا البرنامج فى صورته الأصلية ثمنه ألف ومائتان وخمسون دولاراً أمريكياً(!!)، أى أربعة آلاف وثمانية وستون جنيهاً مصرياً وكسوراً (قبل أزمة الدولار الأخيرة)، فكافأها رئيسها بمائتى جنيه مصرى(!!)، وباع نسخاً من البرنامج المفتوح شفرته كما يريد، باعها هكذا عينى عينك، كل نسخة بمبلغ ثلاثمائة وسبعين جنيهاً، وبهذا ردّ بعض ما أخذه منا الاحتلال، وحميدة لا تنظر إلى هذه المسائل، بل كل ما يهمها هو أن تسأل عن برنامج جديد مُلْغـِز، ومـُؤمَّن، لتواجهه متحدية عنيدة، مثابـِـرة حتى تفك شفرته، وهكذا، وهى تحب الشاى بلبن، وتضع فيه خمس قطع سكر مرة واحدة، وربما كان هذا ومثله من أسباب اكتسابها وصف ملظلظة، فهو لفظ مكتسب، فلظلظتها ليس لها أى جذور وراثية، بل إنهم كانوا يعايرون أمها بأن لها عرقوباً يذبح الطير، وليس معنى انشغال حميدة كل هذا الانشغال بفك شفرة البرامج، وإعداد برامج جديدة، وشرب الشاى “أبو لبن” فائق الحلاوة، أنها كانت مهملة لأنوثتها أو مستهترة بمستقبلها أو كلاماً من هذا؛ ذلك أن جاذبيتها الإنسانية والأنثوية كانتا بعيدتيْن عن أى تشكيك، وفى يوم من الأيام اقترب منها زميل أثناء انهماكها المطلق فى تحدّى مشكلة لو حلّتها ستقفز بها إلى المعادلة النهائية التى سوف تفك شفرة هذا البرنامج العنيد، وهو ليس زميلها بالضبط، لكنّها تعتبرهم كلهم زملاء، ساعياً، فراشاً، كاتباً، سكرتيرة، كلهم زملاء، المكتب مكون من زملاء ورؤساء، وخلاص، وبما أن هذا الشاب الذى حضر ليس رئيسا فهو زميل، ساع لكن زميل، وهو قد حضر كالعادة ليطلب منها شيئاً طلبه منه رئيسه، وهو لم يعلن ما جاء من أجله؛ لأنه بمجرد أن دخل الحجرة، وكانت حميدة منهمكة أشد الانهماك فيما بين يديها، و هو يتراوح فى الوقت ذاته ذهابا وجيئة بين جانبى دماغها، وربما لذلك لم يفقدها انهماكها فى فك الشفرات والبرمجة أى ذرة من جاذيتها الإنسانية أو الأنثوية، ويبدو أن زميلها هذا انبهر بكل هذا، فاقترب منها وأخذ يبحلق فى شاشة الكومبيوتر وكأنه يرى صندوق الدنيا، وهو طويل وعريض وأسمر أيضا، لكنه ـ لسبب ما ـ أخذ يبحلق دون أن يثنى جذعه، وإنما اقترب وكأنه يفهم رويداً رويداً، وزاد اقترابه رويداً رويداً أيضا، على قدر فهمه، وكلما اقترب رويداً، فَهِمَ رويدا هكذا، وهى منهمكة إلا قليلاً، ثم إلا قليلين، ثم إلا قلائل كثيرة، وكأن هناك تناسباً عكسياً بين رويداً، وقليلاً، أو قل بدقة أكبر إنه تناسب طردى بين “رويدا”، و”إلا قليلاً”، فأحسَّــتْ، واندهشتْ، وأنكرتْ، ولم أتبين بقية المشاعر، لكنها التفتت إليه، وزغرت، ثم فجأة: نعم فجأة، شعرت بغثيان كأنه نزل صعْقا من حالق، فقامت تعدو كالملسوعة خوفا من أن تنقلب معدتها على الكومبيوتر، ولم تنسَ وهى تنصرف إلى دورة المياه مسرعة أن تعتذر لزميلها هذا، بل تستأذنه أيضا، وهناك وضعت إصبعها فى حلقها، ولم تتقيأ، ولم يكن فى بطنها غير هذا الشاى بلبن الزائد السكر السالف الذكر، وحين عادت لم تجده فى الحجرة، فكادت أن تذهب تسأل عنه، أعنى تسأل عن الذى كان يريده: عن ما كان رئيسه قد طلبه منه، أى منها، أكرر أنها لا تعرف أى شئ من هذه التفاصيل التى حكيتُ عنها حالا، فهى أمور تحدث على الجانب الآخر دون إذن صاحبها، إذ كيف لها أن تعرف أنها لا تعرف ما كادت تعرفه، الخلاصة أنه لا زميلها حضر ثانية يكمل، ما طلب رئيسه، ولا سامى تقدم لخطبتها، ولا القطار وصل إلى باب الحديد، وحين رجعتْ إلى أمها ليلاً سألت أمها إن كان أحد سأل عنها، وكأن المعتاد أن يسأل عنها أحد، وهذا غير صحيح، وكانت أمها منهمكة فى إعداد تلك الحلاوة ذات الرائحة الخاصة، وجارتهم أم محمود تملأ المنزل بضحكتها المجلجلة، وأمها مبتسمة ابتسامة “غير”، فعرفت حميدة كل شئ، وسألت أمّها عن موعد عودة أبيها بالضبط، وعن طول مدة إجازته هذه المرّة لعل سامى يفكر، فابتسمت أمها ابتسامة أخرى غير الابتسامات التى تبتسمها لها وهى ذاهبة إلى العمل، وذكرت لها موعداً ومدّةً، وبعد أن غسلت حميدة وجهها، توضأت بالمرّة، ثم نادت بسرعة على إخوتها الأصغر، ثلاثة صبيان على بنت واحدة، وهى أكبرهم جميعا، فراحت تسألهم الواحد بعد الثانى عن الواجبات والدروس، وانهمكت فى المراجعة والتسميع والتصحيح، والمراجعة والتسميع والتصحيح، والمراجعة وهكذا.

مرّة أخرى ـ وربما أخيرة ـ أنذرك عزيزى القارئ أن القصة انتهت، وأن القطار الزاحف تخطى قليوب وأنهم حتى لو جرجروه جرّاً فسيصل فى أقل من نصف ساعة، فأرجوك أن تعفينى لأننى أشعر شعوراً قوياً بغمّ قادم، وأنت أقدر على الاتجاه بهذه القصّة المتعثرة إلى نهاية أخرى، ولذلك أقترح عليك أن تكملها أنت بمعرفتك، أمّا إذا أصررتَ كما أنا مضطر استجابة لوسواس لا أعرف تفاصيل مطالبه، فإن المسئولية مشتركة حتما. ليكن، عن نفسى: أنا لا أملك إلا أن أكمل طالما القطار يتحرك.

نرجع مرجوعنا إلى عمّك سامى وهو يحضِــر اللفافة للأستاذ المرة تلو المرة(!!)، وفى مرة من هذه المرات التى هى تلو الأخرى، وكان سائق تاكسى معين قد عرف مواعيده، وأصبح يتصنع التسكع فى الوقت الذى ينزل فيه سامى إلى هذا المشوار الخاص، فتكرر ركوبه معه، ثم تصارحا وتواعدا رغم تعليمات الأستاذ، فى هذا اليوم، وبعد خروج سامى من الحوارى إياها إلى الميدان، وركوبه التاكسى وجلوسه فى المقعد الخلفى كما اتفقا دائماً، لأسباب أمنية، لم يكد التاكسى ينطلق حتى أشار لهم أحد المارّة إشارة معروفة حسب التقاليد الجديدة لاتفاقيات التعاون المشترك فى مسألة التاكسيات فى القاهرة، ولكن الاتفاق المتين بين سامى والسائق كان يمنع منعاً باتاً ركوب ثالث، هذه كانت تعليمات الأستاذ، وهذا هو السبب فى ارتفاع قيمة المقاولة بشكل واضح، لكن هذه المرّة التفت السائق إلى سامى يرجوه، ويبرر رجاءه بأن “المشير” يظهر عليه أنه غلبان، وأنها المرّة هذه وفقط، ومن الذى سيجعل الأستاذ يعرف، وكلام من هذا، حنّ قلب سامى غصبا وصاحب ذلك شعور برعب خطير لم يظهر عليه بعد، ركب المشير فى الكرسى الأمامى، ولم ينظر إلى الخلف ولم يحيي سامى أصلا، وطلب بعد قليل بشئ من الصفاقة (هكذا اعتبرها سامى) أن يمروا به على مصر القديمة أولاً، قبل أن يتوجهوا إلى الجيزة، أحسن مستعجل، (سكتْـنا له…..)، فوافق السائق بعد إيماءة لسامى فى المرآة، ثم حدثت الأشياء التى تحدث وراء بعضها بتسلسل قدَرى ليس له تفسير، لم يحدث تصادم، ولكن الأشياء التى حدثت كانت داخل السيارة لا خارجها مما ينشر بطريقة مثيرة مليئة بعلامات الاستفهام فى صفحة الحوادث، ثم إن سامى وهم يستجوبونه فى المستشفى لم يستطع أن يتذكر اسم السائق ولا رقم التاكسى الذى ركبه أكثر من مائة مرة، وكان السائق مثل فص ملح وذاب، والراكب (المشير) لا أحد يعرف عنه شيئآ، ومع أن الطبيب طمأن أم سامى، كما طمأن حميدة التى زارته بالرغم من عدم وجود أى شئ رسمى بينهما، ولا حتى هى تعرف أمه شكلاً، بالرغم من أن كل هذا حدث، إلا أن اسم سامى انتقل من صفحة الحوادث إلى الصفحة قبل الأخيرة فى الصحيفة ذاتها التى نشر فيها المسئول الكبير ذو التسعة عشر “ربيعاً” قصصه الباكرة (!!)

المفروض أن أتحدث عن شعور حميدة بشئ أكثر من التفصيل، ولكن ليست عندى أية تفاصيل محددة، ثم إننى فى غمّ شديد، كل ما يمكن قوله هو أنها: سمعتْ ودهشتْ، وزارتْ، وبكتْ، ورجعتْ، وعادتْ، ودهشتْ ثانية، وسألتْ، وخافتْ وأحستْ، وتوجستْ، وصرختْ، وانهارتْ، وتماسكتْ، ولم تخجل أن تلبس السواد على شاب لا أحد يعرف عن علاقتها به شيئا، وحين جاء الزميل الساعى السالف الذكر، يعزّيها، استقبلته، فى حماس له طعم خاص، وهى تسأل وتتساءل: ماذا كان يريد رئيسه بالضبط فى ذلك اليوم، ولماذا لم يعُد؟، ولماذا أصابها الغثيان فجأة؟

وهكذا انتهت القصة فيما يتعلّق بسامى، والأحسن أن نقفلها أيضا فيما يتعلّق بحميدة، فإذا لم يتوقف القطار الآن فأنا مضطر أن أخبركم عن جانب آخر فى حياة حميدة بعيدا كل البعد عن سامى، وعن زميلها ورئيسه، وعن الكومبيوتر:

ذلك أن حميدة كانت تحب الكلاب حبا جما، وكان الذى زاد من حبها للكلاب هو أنها مضطرة أن تحبهم فى السر، من وراء أمها؛ لأن أمها تكرههم كره العمى، ناهيك عن مسألة النجاسة والحرام والحلال، وبالتالى فإن حميدة لم تعد تجرؤ أن تذكر لأمها أى شئ عن هذا الموضوع، وكانت لا تجرؤ أن تشترى للكلاب الضالة العظام وبعض بقايا اللحم وأحيانا الهامبورجر من مرتبها التى كانت تسلمه كله إلى أمها أولا بأول، لكنّها كانت تشترى هذه الأشياء من مكافآتها غير المنتظمة التى لا تعلم عنها أمها شيئا، ثم إن الصدف ساقت لحميدة فرصة نادرة حين لمحت فى فيلا بجوار الشركة التى تعمل بها كلبة صغيرة الحجم شديدة بياض الشعر المتهدل على وجهها وجسمها كلّه، فتعلّقت بها تعلقاً خاصاً جداً، وشعرت نحوها بمشاعر غير مشاعر الشفقة التى كانت تشعر بها نحو كلاب الشارع، أحبتها حباً غير مشروط، وبلا مقابل، فهى – الكلبة- لا تحتاج منها شيئاً ولا تعلم عنها شيئاً، وزاد من عمق العلاقة أن ابنة صاحب الفيللا لمحت حميدة وهى تشير إلى الكلبة فى ود، فلم تنهرها، ولم تعترض، بل تعرّفت عليها، ودعتها للدخول إلى الحديقة وتناول الشاى معها، وقد دخلت فعلا لكنّها لم تتناول الشاى، وسمحت لـ “جولي”، هذا هو اسم الكلبة، أن تجلس على حجرها، ورفعتها حميدة على صدرها حتى تجرأت جولى ولعقت خدّها فى ودّ لم يذكّرها باقتراب زميلها منها، وإن كان هناك شبه بعيد لا أحد يستطيع أن ينكره، رغم خفاء وغموض جوهره على الجميع.

لو كان القطار لا يزحف بكل هذا البطء لجنّبنا غمّا آخر يقترب، ذلك أنه فى يوم بعد ذلك اليوم، ذهبت حميدة إلى الفيلا كالعادة، لكنها لمحت نوافد الفيلا مغلقة، فتوقعت ألا تجد “جولي” أيضا، فهم يأخذونها معهم إذا سافروا، لكنها سمعت نباحا كثيرا فى الحديقة الخلفية، فاستدارت ووقفت على ركبة السور من الخارج، فإذا بها تفاجأ بجمهرة من الكلاب مختلفى الأنواع والأحجام، والألوان، وكان كلب واحد ملتصقاً بجولى من الخلف، وكان أقبحهم وأجربهم، لماذا يا جولى هذا بالذات؟، كيف رضيتِ به هكذا وأنت معلقة من مؤخرته كالمشنوقة، لا ليس كذلك، حميدة تعرف الكثير عن علاقة مختلف الحيوانات بهذه المسألة،صحيح أنها رأت بعض ذلك وهى تزور خالتها فى البلدة، ولكن هذا شئ آخر، كادت تخاصم جولى عتاباً، لماذا يا جولى؟ لماذا هذا بالذات، هكذا؟. لماذا يا حبيبتي؟ ولمّا لم تستطع أن تكمل الانتظار ولّت وكأنها تجرى، وهى لا تفهم لماذا تركوا جولى وحدها هذه المرة حتى ينتهز الفرصة ذلك النذل المسخ القزم وسط كل هؤلاء الشهود الحاقدين، ولماذا النوافذ مغلقة؟ ولماذا البواب القديم غير موجود، وتحسست خدّها وكأنها تريد أن تتذكر جولى الأخرى التى وضعتها على حجرها والتى لعقت خدّها، وكانت وهى تمسح خدّها لا تدرى إن كانت تتذكر ذلك الاقتراب أم تمحو آثاره، وفى اليوم التالى سارعت إلى الفيلا لعلها تجد بعض الإجابات على كثير من الـ”لماذات” السابقة، وإذا بها لا تجد “جولي” أصلا، وقد سألت الشخص الذى حل محل البواب، والذى بدا خفيرا أكثر منه بوّابا، سألته عن أهل البيت، وعن جولى، ولم يفهم ماذا تعنى بجولى، وحين شرحت له أنها تقصد الكلبة البيضاء الصغيرة أجاب: أما عن أهل البيت فقد سافروا، وهو لا يعرف إلى أين، ولكن الذى يعرفه أنهم لن يرجعوا لأنهم باعوا الفيلا لناس من بلاد غير البلاد التى سافروا إليها، وفى إصرار خائف حاولت أن تستزيد، فأضاف الغفير على مضض ومع شئ من الدهشة التى لا تخلو من شفقة، أن أصحاب الفيلا سافروا إلى بلاد الخواجات البعيدة وليس الخواجات الذين نعرفهم هنا ويحضرون للسياحة مثلاً، وأنهم باعوا الفيلا لناس فى السعودية لا يعرفهم رغم أنه الخفير تبعهم، قالت مقاطعة: “السعودية؟” لكنّها لم تنطق بما قالته، فقد كانت متلهفة على بقية الإجابة التى تتعلق بجولى، أكمل الخفير متعجّباً أنه أعطى الكلبة لسائق عربة القمامة وأعطاه الذى فيه القسمة ليسرّبها فى أبعد مكان ممكن، فهى عبء عليه لا تأكل ما يلقيه لها ولا تصلح للحراسة، ولا لأى شئ، ولا بد أن أصحاب الفيلا الجدد من السعوديين لا يطيقون سيرة الكلاب أصلا عملا بالسنة، بلعتها حميدة فى صمت وشكرته، لكنّها رجعت تسأل الغفير هل يعرف إلى أين اتجهت عربة القمامة، فلم يرد مشفقاً غير فاهم على ما يبدو.

لاح رصيف قطار محطة باب الحديد فى الأفق، وفى الوقت ذاته لمحتْ حميدة بجوار صندوق القمامة كلبة صغيرة بيضاء فى حجم جولى، معقول؟. هكذا بسرعة؟. هل يمكن أن تقبل جولى هذه البقايا وهى التى كانت تشمشم فى الهامبورجر الذى كانت تشتريه لها حميدة خصيصاً بعد أن عرفت أنها تحبّه رغم أنها هى شخصياً لا تأكله؟. معقول هذا؟ هل هى هذه؟ هي؟. ليست هي؟. هي؟. ليست هي!. اقتربت حميدة أكثر، هي؟. لا مستحيل!. لا بد أن تتأكد، ولن تتأكد إلا إذا أمسكتها وما يحدث يحدث، فإن عرفتها واستسلمت لها كانت هى، وإلا..، وقد حدث ما هو “وإلا….”.

 عضةٌ مثل طعنة خنجر مشرشر مسنون، ثم ماذا؟.

ستون حقنة يوميا تحت جدار البطن فى مستشفى بجوار قصر العينى، ثم يوماً بعد يوم،

 ولا فائدة.

توقف القطار تماما، وغمرنى حزن لا مثيل له، له طعم مختلف عن كل أحزانى السابقة، وما أكثرها، وكلما ذكّرت نفسى أننى أنا الذى اخترعت كل هذه الأحداث حتى لا أكف عن الكتابة إلا عندما يقف القطار، وأن المسألة كلها كراسة بجنيه حضرت بمحض الصدفة، وقلم جاف، وغيظ مزدوج، ووسواس سخيف، وأنه لا حميدة ولا سامى قد وجدا أصلا،ً كلما كررت ذلك لأطرد كل هذا الحزن، وجدته يزداد أكثر، حزن شديد شديد بحق.

 ولم أستطع أن أميز على من حزنت أكثر، على سامى أم على حميدة؟ أم على جولى أم على نفسى.

يا ساتر يارب، رحمتك.

 لِمَ هذا؟.

[1] – هذه ليست الطبعة الأولى تماما، إلا أننى حين قررت تغيير العنوان فضلت أن أعتبرها الطبعة الأولى حيث تحمل معنى آخر لهدف آخر.

[2] – كتبت فى عام  2000، وظهرت كطبعة أولى في مجموعة قصص قصيرة باسم  “ورطة قلم” الناشر “المحروسة” – القاهرة.

التداعى الثانى

“فى المقهى”

 المقهى

(1) مقعدان

(2) الجريمة والناس

  (الفصل الأول: “المرافعة” والفصل الثانى: “اعتراف” )

الجزء الأول:

مقعـدان(3)

(1)

… “كذا رضا”

قالها وكأنه يحدث نفسه…

 كانت قبضته تمسك برأس عصاه فى ثقة، مثل طمأنينة صديقين مزمنين إلى بعضهما البعض دون حاجة إلى شهادة ثالث، كان قد أسلم ظهره لشمس لا تغمر إلا نصف المساحة أمام المقهى. شمس أوحشته منذ ثلاثة أيام بالتمام، ثم هاهى قد حنّت على الكون برغم أنف مصلحة الأرصاد.

قال وهو يحدث نفسه:

“قوى.. قوى.. هو القوى، هكذا رضا، و.. زيادة”

ردّ صوت آخر آت من الجالس خلفه على بعد خطوتين (يبدو فى  السن ذاتها) محافظاً على مسافةٍ ثابتةٍ تعلن حدود الأمان:

“ربنا يقوى  إيمانك”

رد الرجل الأمامى متحفزاً، دون أن ينظر خلفه:

“ما باليد حيلة، .. ومن لا يعجبه يشرب من البحر”.

يأتى صوت “الرجل الآخر” من الخلف:

“كلام كما  الترياق. فقط لو…”

(2)

 يدق الفتى ماسح الأحذية على جنب الصندوق بالفرشاة، فيشير الرجل إلى قدميه دون كلام. يفرد الصبى تحت رجليه مساحة من الورق المقوى، يبدو أنه كان صندوقا لشىء ما، ثم فتح على مصراعيه دون عناية. ينظر الرجل الجالس إلى قدميه، ويحاول أن يتهجى الحروف المتبقية على الورق المقوى: مالــ.. مالـــر.. مالربو … هاهى. نعم. . هى سجائر الغزاة الجدد، ولكن لماذا قفز ثمنها إلى هذا الرقم الخيالى، دون زيادة حادة فى المعاشات؟. من لا يعجبه يشرب من البحر فعلاً، أو يحافظ على صحته مُـرغماً.

(3)

 تمر الصغيرة السمراء، وقد حملت كتبها فى حقيبة محظوظة، تضغط بها فوق صدرها، فيكاد ينبعج ثدياها كل إلى جانب، لولا مرونة اللحم الشاب الطازج. ينظر الرجل الجالس إلى الساعة بطرف عينه؛ ليقفز خاطر خبيث “إلى أين يتبختر الغزال الأسمر، والميعاد ليس ميعاد المدرسة، لا ذهاباً ولا إياباً؟” كم هو مشتاق إلى أن تكون له أم صغيرة مشتهاة، “نعم”. . “أم” وصغيرة لا تتجاوز الثمانية عشر، لو حدث هذا لعاد يرضع منها كما صغار العجول الرقطاء، ولزالت الآلام الروماتيزمية مرة واحدة.

(4)

يفيق على دَقة ماسح الأحذية، على جانب الصندوق، فيمد رجليه باستسلام، ويضع قدميه فى الحذاء اللامع دون رغبة واضحة. تعود أفكاره إلى داخل رأسه مختنقة، حتى ليكاد يربط بين حركة أصابع القدم الطليقة، وحركة الأفكار الحرة؛ فتتململ الأصابع داخل الحذاء اللامع.

(5)

 يتكلم “العجوز الخلفى” وكأنه قد اقترب قليلا دون استئذان، فيسأل “العجوز الأمامى” عما فعل صاحب العمارة الجديدة المقابلة التى أصبحت تحجز نصف الشمس، عن نصف المقهى.

 ـ  اللجنة عملتها بخمسة وخمسين بعد اثنين وتسعين، ومتظلم.

 ـ  معه حق، المبانى تتكلف هذه الأيام، هذا ظلم.

 ـ  ليكن، لكن من أين يأتى الشباب بالنقود؟

 ـ  لا حل إلا فى عقد عمل أو إعارة.

 ـ  البنت  سافرت  مع  زوجها، ولم  ترسل  حساً  ولا خبراً.

 ـ  الدنيا مشاغل.

 ـ  لابد أن النذل زوجها منعها خوفا من الطلبات.

 ـ  الله الغنى يا شيخ.

 ـ  “فشر”… هى وهو على “هذا”، لو كان الأمر كذلك.

(6)

 يسود صمت جديد قديم، وكأنهما لم يتكلما أصلا. يتسحب الرجل الخلفى إلى الخلف، كما لو أنه كان قد تقدم أصلا، فتعود المسافة كما كانت (بالضبط)، وبجوار كل منهما كرسى خال.. ومنضدة مستديرة من الصفيح الصدىء.

تتسلل الأفكار فى رحاب دفء الشمس، وكأنها صف كتاكيت يتبع أمّه فى نظام… “هانت، والجنة تنتظر الصالحين بعد حسن الختام، ثم إن رحمته أكبر من أخطاء البشر،  أعظم ما فى الجنة هو قلة الكلام، واختفاء الرؤساء، ووفرة الحور العين، ولكن أين ستذهب أم الأولاد؟. (ذلك لو دخلت الجنة أصلا، ألم يقولوا إن أكثر أهل النار من النساء؟) أقول لنفسى: يا ترى لو أغنانا الله عنها بالحور العين، فماذا هى صانعة فى هذه المسألة؟ حتى لو رجعت حورية، فإن نفسى تهفو إلى الأخريات ممن لا أعرف، أليس هذا أضمن؟ إذ من أدرانى ماذا ستفعل هناك ، بعد أن تزهو بنفسها وكأنها حورية فعلا، ثم إن الجنة نفسها لا يمكن أن تغيّر من  طباعها، وهى معتادة دائماً … دائماً معتادة” . . دائمًا والعياذ بالله. ومع ذلك فما يشغلنى هو احتمال وجود حور من الذكور، كله جائز، ولا خطر على قلب بشر، يا خبر!! ما هذا؟

ـ إستغفر يا غبى إيش أفهمك أنت فى أى شىء..

ـ وأنا مالى؟ تدابيره تفوق تفكير أمثالى.

(7)

نظر فى استقامة أمامه، فرأى عربة الفول الصغيرة، وقد اصطف حولها صبية المحلات يفطرون وقوفاً فى انتظار فتح الورش؛ حين تحين ساعة الانضباط. وتساءل عن هؤلاء الشباب الذين لا يركعونها، والذين لن ينالوا دنيا ولا آخرة، هل راحت عليهم بين الأرض والسماء، يا حبة عينى.

وبالرغم من هذه الشفقة الواخزة العاتبة، فقد ظل وجهه مبتسما، إذ خطر له ـ يقينا ـ أن الله سبحانه لابد سيكون أعدل، وأرحم من الحكومة، وأمريكا، وروسيا، والصين، وشيوخ الإمارات، وفاتورة الكهرباء.

الجزء الثانى:

الجريمة والناس

الفصل الأول:

المرافعة:

(1)

هو الذى اختلف، كل شىء كما هو إلا هو: ليس هو، المقهى لم يكتظ بروداه كالمعتاد، الوقت بعد العصر، هذه المجموعة المتحوطة حول بعضهم البعض، يجلسون فى الركن المظلم من المقهى، لا أستطيع أن أتبين معالمهم ولا عددهم وهم يهمسون بما لا  أسمع أو لعلهم صامتون فلا أسمع، خيل إلىّ أن أغلبهم من الشباب، أو هم كهول يتصابون، ينفجرون فى الضحك معا فجأة، ثم يعودون للصمت أو الهمس معا فجأة أيضا، وكأن زرا يحركهم مجتمعين ؟ أنا مالى، ما يهمنى هو دورهم بالنسبة لموضوعى، هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم فهم لا يصلحون محلَّـفين أصلا، المطلوب حتى يصدر الحكم سليما أن يكون العدد ثمانية على الأقل، وقيل عشرة، يدخل المقهى اثنان فى منتصف العمر واحد منهم يمسك عصا والآخر مسبحة، صاحب العصا لا يتوكأ عليها، وماسك المسبحة يدوّرها فى الهواء ولا يسبح بها، لكنهما يصلحان غالبا أعضاء عاملين فيما نحن فيه، يمكن أن ينضم إليهم المعلم صاحب المقهى والصبى الذاهب العائد بلا داع ولا زبائن جدد، لعل العدد يكتمل أسرع.

 أنا واثق من براءتى مائة بالمائة فما الداعى لأى محلفين أو قضاة أو حتى دفاع، لكن يبدو أنه لابد من إجراءات وأوراق قبل أن يصدر الحكم، لقد رفضتُ تبرع جارنا المحامى للدفاع عنى فأنا أقدَر على ذلك، إيش عرّفه هو عن ماذا يدافع أو عن من؟ حتى ممثل الاتهام لا يجد ما يقوله إلا تكرار ما يقوله، أنا أدرى الناس أنى برىء، أتبين عددا من الجلوس الناحية الأخرى لم ألحظهم إلا الآن، ربما خمسة أو ستة، وهذا طيب. وصلنا الآن إلى عدد يكفى لتنعقد الجلسة، لست متأكدا هل هو العرف أو القانون الذى يقضى أن يكون الحكام والمحلفون من نفس ثقافة ومجتمع المتهم حتى يستطيعوا أن يتقمصوه، لا أحد يمكنه أن يتقمصنى أنا بالذات لأنى أنا نفسى لم أنجح أن أتقمص نفسى.

(2)

تبدأ وقائع الجلسة  دون صيحة الحاجب أنْ “مَحْكَمَا”، لأنه إذا كان الحكم  معروف بشكل حاسم هكذا مسبقا، مثلما هو الأمر فى حالتى، فما لزوم الحاجب أو حتى القاضى نفسه بالله عليكم، ألا يُعتبران أنهما عمالة زائدة تعطل الانتاج؟

يا حضرات السادة المحترمين من كل الحاضرين والغائبين: الأمر وما فيه أنهم عقدوا العزم على التخلص من أمثالى لأننى أُفـْشِلُ خططهم باستمرارى على قيد الحياة، زيادة عدد، مع أن ربنا هو الذى خلقنى مثلما خلقهم تماما، لكن هاهم المحققون وقد عجزوا عن تحديد مكان الجريمة أو عدد الضحايا بشكل نهائى، يواصلون عملهم بمنتهى الجدية والحماس، كما أن الطبيب الشرعى قد أكد أن الوفاة كانت طبيعية مع أنه لا توجد وفاة طبيعية إلا الانتحار، ومع ذلك فهم يدعون أن الجريمة مكتملة الأركان تماما.

(3)

هذه الثمرة البكر الطازجة الناضجة ، هى غير الأخرى، تمر محتضنه حقيبة تبدو بها كتب أو أدوات رياضية، تضغط بها على صدرها الناهد فى دعة، تبدو بريئة جميلة تلمس قدماها الأرض برقة منغمة كأنها ترقص البالية، تقرِّب “المحمول” من أذنها اليسرى – فتكاد الحقيبة تسقط فتنقل حمالتيها إلى كتفيها وتواصل المكالمة وهى تبتسم له، تضع المحمول فى صدرها بحنان بالغ ثم تلتفت راجعة، تنظر إلىّ وهى تمر بى ثانية فى عكس الاتجاه، ما هذا؟ انها تنحرف ناحيتى فجأة وهى تتقدم دون تردد وأنا فى أتم دهشة، لا يا ابنتى أنا لم أشِر إليك، بالسلامة يا حبيبتى إلى حال سبيلك، درس أو صديق، أو حلم، ولا يهمك يا ابنتى بارك الله فيك وحفظك وحفظه ، ترفع يدها إلى السماء وهى تمضى، فأشعر أنها تدعو لى، فأطمئن أكثر إلى براءتى.

 تمر بعدها شابة بنت بلد قوية فتية متحفزة تحمل صحف المساء قبل المساء، تدخل إلينا مقتحمة فى ثقة، تلقى بالصحيفة على مائدتى وهى لا تكاد تنظر إلىّ، ثم تمضى تدور على الباقين، لكنها تبدو واثقة أننى سأدفع الثمن ولن أرد الصحيفة، لا أعرف من أين جاءتها هذه الثقة، لولا أنها على يقين من براءتى لما كانت على يقين من أمانتى وكرمى، عدد رواد المقهى يتزايد ببطء، وجماعة الركن المظلم تنصرف دون جلبة، أنظر إلى الصحيفة الملقاة على المائدة ولا أفتحها، أنا لا أقرأ صحف المساء، بينى وبينك ولا صحف الصباح، مع أنى اشترى اثنتين بحكم العادة، أشعر براحة لانصراف الثلة الغامضة  برغم أنى لا أكرههم ولا أشك فيهم جدا.

 بائعة الفول السودانى “بقشره” تمر على الموائد فى تردد، إلا مائدتى فأرجح أنها جاسوسة للمتآمرين، ولو…!!، برئ مائة بالمائة !

(4)

ماذا لو كان الألمان انتصروا فى الحرب العالمية إذن لأراحوانا من كل هؤلاء الطغاة الديمقراطيين، ماذا لو انطلقت حرب ذرية فأراحتنا من كل هذه الخيانات السلطوية والجماهيرية معا، إذن لما حرصوا كل هذا الحرص على إلصاق التهم بمن بقوا على قيد الحياة أمثالى؟

أسمع صوت زقزقة عصافير على الشجرة التى تظلل نصف رصيف المقهى وقد قاربت الشمس على المغيب، يبدو أنه موعد عودة العصافير إلى عشوشها، فأطمئن أكثر لأنها سوف تشهد معى.

(5)

حضرات السادة الشرفاء الأذكياء فوق العادة:

إنكم إذا أدنتمونى فلسوف تستريحون بعض الوقت؛ لأنكم سوف تتصورون أن تحديد الفاعل إنما يعنى براءة الآخرين، تحت زعم أنه يستحيل أن تتم جريمة واحدة من أكثر من فاعل فى الوقت ذاته، ولكنى أحذركم من أن تصبحوا شركاء فى مؤامرة أنتم لستم قدرها، إنها أعم من شخصى وأقوى من قوانينكم، ولتعلموا أن الحكم بإدانتى سوف يفتح الباب لاتهام أى منكم، فى أى وقت، وسوف تصدر الأحكام تباعا بالدور، أحكام تنص على أن أيا منكم قد صُـنـِّـف نهائيا أنه من فئة “بدون”، ليس “بدون” جنسّية، هذا غير موجود إلا فى الكويت، لكن “بدون لازمة”، لهذا تم التخطيط للمؤامرة فى محاولة إزالة آثار عدوان التناسل بإفراط، الأمر الذى أصبح تهديدا حقيقيا لاستمرار الآخرين الذين لا غنى عنهم، لكل هذا أنا أنصحكم لوجه العدل، سبحانه، ولصالحكم أن تتريثوا قليلا، بل كثيراً، ولا تتصوروا أن فى إدانة شخص مثلي خلاصا لكم، ولا تنسوا أنكم سوف تواجهون بعد رحيلى ورحيل أمثالى بالالتزام بضرورة إكمال المشوار وتحسين النسل بمعرفتكم، وهذا أمر خارج عن قدراتكم المعرفية والجنسية والقتالية والإلكترونية جميعا.

(6)

يدخل إلى المقهى شاب ملتح جدا وفى صحبته سيدة (أو فتاة) منتقبه ويسألنى  مباشرة – بصفتى الأقرب إلى باب المقهى- عن موقع مكتب البريد، فأتذكر الإخطار الذى تسلمته صباح أمس من “مُحضر” مهذب، وفيه طلب التوجه لقسم بوليس الحى فى أقرب وقت، وقد سألت سيادة الرائد عن سبب استدعائى فلم يوضحه، كما لم يطلب منى التوقيع  على أى إخطار رسمى، فقررت ألا أستعجل، فأنا واثق من براءتى.  

*****

الفصل الثانى:

اعتراف:

(بعد مرور ثلاث سنوات أو عشرة أو ما شئت…)

(1)

اختلفت هذه المرة عن كل مرة، ليس لأنه تغير هو كما حدث من قديم، ولكن يبدو أن المقهى هو الذى تغير مع أنه كان قد الفه لسنين طوال حتى صار وكأنه بيته، هل حدث ذلك من وراء ظهره دون أن يستأذنوه أو حتى يخطروه، لعل تغيير معالم المقهى لهذه الدرجة  يفيقه من تنويم العادة،  فيكتشف أن الاختلاف قد بدأ منذ قرون، أو أكثر، كان الوقت صباحاً والشمس لم تقترب إلا من رصيفها، ولم يكن قد حضر إلى المقهى إلا أربعة: شاب يلبس عفريتة جينس، ليست متسخة على كل حال، وعامل بناء على ما يبدو، وشيخ معمم، ولكنه ليس شيخا بالضرورة، ورجل لا يلبس طربوشا ولكنه يوحى بذلك، ولم يكن هذا العدد كافياً، وهو لا يعلم كم عدد المحكمين اللازمين هذه الأيام – بعد تعديل القوانين وزحف النظام العالمى الجديد – المسألة هذه المرة لن تستغرق وقتا، فأنا جاهز للاعتراف،  فلا مرافعات, ولا دفاع ، ولا يحزنون، ولكن الخوف إذا حضر الآخرون متأخرين أن يطلبوا منى أن أبدأ من جديد، أبدأ ماذا وهم قد يرفضون الاستماع إلى اعترافى أصلا مثل سيادة الرائد أمس؟ ذهبت إليه بعد زمن طويل من إخطار المحُضر، وتبينت أنه كان استدعاءً روتينيا للتأكد من بعض بيانات الرقم القومى، ربما جاء توقيت ذهابى بعد هذه المدة  نتيجة لهذا التغيّر المتسحب الذى لم أدرك حجمه  إلا حالا هكذا، انتهزتها فرصة وقلت أنهى ترددى وما يحدث يحدث، وبتصميم لم أعهده فى نفسى غيرت الموضوع مع سيادة الرائد إلى أهم قضية تشغلنى، تلك التى أراها أهم قضية فى الوجود، استأذنته أن أدلى بما عندى بعيدا عن سبب استدعائى الأول، واستجاب مندهشا، ربما وافق حبا فى الاستطلاع، قلت له إننى أود الادلاء باعتراف خطير، أليس الاعتراف هو سيد الأدلة!! أكدت له أننى فى كامل قواى العقلية، موفور الأهلية لتحمل مسئولية كل حرف أدلى به، وطلبت فتح المحضر باعتبار أن ذلك هو حقى مثل أى مواطن، ولكنه رفض، أو لعله أجّل ذلك برغم التأكد من صحة رقمى القومى، وأننى متزوج وأعول، ومع ذلك توقف طالبا منى أن أحدد أولا موضوع المحضر، وحين قلت له إننى أريد أن أعترف على نفسى دون شركائى، ظهرت علامات جدية أكبر، إذ يبدو أن المهمة بدت له أكثر إثارة ووعداً، فاستعد لمحضر فيه مشروع قضيه اعتراف وشركاء وكلام كبير، إلا أنه بعد ثلاثة أو أربعة أسئلة أجبت عنها بمنتهى الصدق، رفض أن يكمل، وأخطرنى بهدوء أن أصرف النظر، وأن أنام جيدا، وأعتنى بمن أعول، كان طيبا رقيقا على عكس ما يشيعون عنهم، لكنه لم يحترم مطلبى على أية حال، وحين عدت ألح عليه من جديد تغيرت ملامحه وظهر الوجه الآخر دون أن يفقد طيبته، وحذرنى من عقوبة إزعاج السلطات، وحين سألته زاد بتحذير آخر من عقوبة البلاغ الكاذب.

(2)

ها هو صبى المقهى يحضر لى طلبى الأخير ويحيينى بنفس رقه حضرة الرائد مع سماح بلدى أصيل، لماذا يبدو مرتاحا هكذا مع أنه شريك أساسى أيضا، ربما يسترضينى حتى لا أبلغ عنه، الآن فهمت، كيف أن حضرة الرائد هو شريك كذلك، ألهذا يتسامحون كل هذا السماح؟ ربما رفض حضرته أن يكمل المحضر حتى لا يأتى اسمه ضمن الشركاء مع أننى أقسمت له أننى لن أعترف إلا عن نفسى فقط نظراً لكثرة الشركاء بلا حصر، ولهذا فلن أنبس باسم أحدهم لأى مخلوق، وليدافع كل منهم عن نفسه، القانون هو القانون والاعتراف هو الاعتراف، ما زال سيد الأدلة، لكن يبدو أن الشروط تتطلب اشراك امرأة ناضجة فى منتصف العمر، تفهم فى العرف أكثر من القانون، وأيضا إلى فتاة فائرة ذكية، وإلى مدير مدرسة إعدادى على المعاش كان مدرسا للتاريخ والأحياء معا، لماذا هكذا تحديدا، لا اعرف، وكذلك إلى رائد غير هذا الرائد أو حتى مقدِّم، يكون متوسط الفهم أو متبلد الشعور أو كليهما، وبهذا وحده أستطيع أن أطمئن إلى مسار الأمور.

(3)

 ها هى السيدة فى الشرفة المقابلة تنشر الغسيل فى هذه الساعة المبكرة من الصباح، تنتهز فرصة طلوع الشمس فى مواجهة هذه الواجهة من البيت قبل أن تستدير، تنحنى بشكل “أكروباتى” مغامر فيسقط ثدياها بما يمثل خطرا حقيقيا، لأنه إذا كانت الرأس أثقل من الجسم كما تعلمنا صغارا، فهى بهاتين البطيختين تطب بهما الكفة فى الشارع دون تردد، اللهم إلا إذا كانت الثقالات الخلفية وراء سور الشرفة كافية لحفظ التوازن مقابل النهود المدلاّة، ثم هاهى الصبية بائعة الشيبسى تكمل العدد وهى بالمواصفات المطلوبة السابقة الذكر، وهى دائمة الضحك وافرة الأنوثة، وليكن الأفندى المطربش دون طربوش هو باشكاتب الجلسة، ولسوف تصل كل الأخبار إلى المسئولين فور صدور الحكم، وربما قدم لى سيادة الرائد اعتذاره بعد تأكده من جديتى، مع أننى غير محتاج إلى أى اعتذار من أى شخص كان، فقط يصدقونى لتأخذ الأمور مجراها الطبيعى، ربما نستطيع انقاذ ما يمكن إنقاذه.

يدخل إلى المقهى كهل جميل مبتسم، غير منحنى الظهر، وليس أصلعاُ، ويفرق شعره الكث الشديد البياض على اليمين، حين التقت نظراتنا اتسعت ابتسامته كأنه يعرفنى، تأكدت أننى استدعيته بحدْسى، هو هو مدير المدرسة بالمعاش أو لعله، مدرس التاريخ والأحياء الذى استقال لأسباب غامضة، أومأتُ له برأسى بعد أن التقت نظراتنا، فابتسم أوسع، ومضى بعيدا

الحمد لله اكتمل العدد.

(4)

 الأحداث أكبر من أن تـُوصف، وأظهر من أن تُخفى، المؤامرة تدبر فى الدور الأسفل بشكل سرطانى يتمادى أثره باضطراد مخيف، الأمر وما فيه، يا زملاء الرحلة والمرحلة، أنه بالرغم من أن كل أركان الجريمة متوفرة وأن الضحايا على قفا من يشيل،  إلا أن الأدوار ملتبسة ومتداخلة، حتى تصعب التفرقة بين المتهمين والحمّالين والضحايا، وبالرغم ايضا من أن كل تقارير الطب الشرعى عادت تؤكد أن كل الوفيات طبيعية، إلا أن هذا لا ينفى وقوع ما وقع بل واستمراره، وهذه التقارير نفسها تلزم أولى الأمر أن يعيدوا النظر فى تعريف ما هى الوفاة الطبيعية..

(5)

 أقبل ماسح الأحذية – ثانية – ونقر على صندوقه فى صمت، طلبت منه أن يشترى لى صحيفة من عند الفتاة قبالتنا، وتركت له الاختيار، فانصرف رافعا حاجبيه بعد أن أبلغنى أنه لا يقرأ ولا يكتب، ذهب وعاد وبيده صحيفتان واحتفظ بالباقى دون استئذان؛ فوافقت دون إذعان، وحين سألته كيف اختار الصحيفتين قال لى أنه لم يختر شيئا لأن البنت لم تسمح له بإعمال المقارنة، هى التى أعطته الصحيفتين قبل أن يفتح فمه، وحين سألته إن كان يريد أن يعرف بعض ما بالصحيفتين أجاب بالنفى شاكرا، وحين سألته لماذا؟ قال: لأنى أعرف ما بهما، وصدّقته، وحسبت أن الحوار انتهى إلا أنه أردف قبل أن ينصرف : بصراحة أنا لا أعرف لماذا حضرتك تصرف نقودك هكذا بلا داع.

(6)

طيب، إذا كانت فتاة الجرائد تبيع ما تريد دون أن تسأل الشارى، وكان الصبى ماسح الأحذية يعرف ما بالصحف دون أن يقرأها، فربما هذا يفسر لماذا رفض حضرة الرائد الطيب أن يقبل اعترافى الصريح ويريح ضميرى وهو لم يسمع تفاصيل ما كنت سأقوله أصلا، تلفتُّ حولى فإذا بالمقهى تكاد تمتلىء بزبائن بدوْا لى من هدوئهم واستقرار مجالسهم أنهم أصحابها، أو ربما كانوا هنا منذ البداية وأنا الذى لم أنتبه لوجودهم قبلا، ليكن، وليسمعوا ما رفض أن يستمع إليه الرائد:  أهلا وسهلا لو سمحتم، فلتتمعنوا فى هذا الشخص الماثل أمامكم فى حجم الإنسان العادى وتقولوا إنكم رأيتموه على حقيقته إن كنتم حقا فعلتم، فمن حقى بداهة أن يرانى الواحد منكم، قبل أن يرى فىّ رأيا يتمسك به، وإلا فعلى أى أساس سوف تستمعون إلى اعترافى وأنا أريد أن أستشهد بكم أمام حضرة الرائد السابق أو أى رائد أو حتى عقيد؟ وقسما بالله العلى العظيم إنى لا أشك لحظة فى حكمتكم أو حسن نيتكم، إلا أننى أتساءل عن قوة إبصاركم، ويمكنكم أن تستعينوا بأية عدسات مكبرة، لكن المسألة ليست مسألة تكبير، إذْ ماذا لو كبـّرت العدسات من فصاحتى، دون النظر إلى وحدتى وجوع قلبى وقصر يدى؟ وكل ذلك ليس مبررا لعدم قبول اعترافى، فأنا مسئول مسئول مسئول، ثم إن جسم الجريمة مازال ممددا فى كل موقع دون استثناء، وأنا واحد مثلكم تماما، لكن القضاء والقدر هو الذى حدد لنا أدوارنا، ومع ذلك فلسوف أسرد كل شىء، كل شىء.   

(7)

يبدو أن التيار الكهربائى هنا له آذان ترصد ما بالقلوب، ها هو قد انقطع، ثم عاد، فعدت بدورى إلى الصحيفتين اللتين لم أفتحهما، ورحت أنظر فى العناوين بسرعة: “الأرض الجديدة، حقوق الإنسان، داعش أوباما،  أساما أوباما داعش، التهاب البورصة، سوفالدي، النظام العالمى الجديد، من يحمى الشاطر، نجمة الشورت الساخن، ارتفاع ثمن طن الأرز، توصيات حديثه للرجيم غير التقليدى، أحمد عز يرفض تحليل DNA، أحمد عز الثانى يقسم أنه ليس مجنونا حتى يعود إلى السياسة.

بالله عليكم أليس فى كل هذا، بل فى أى من هذا، ما يؤيد حقى فى الإدلاء باعتراف كامل واضح يلزم المسئولين باتخاذ اللازم.

(8)

أشعر بتنميل زاحف على ساقى اليسرى، لا… ليس تنميلا، لابد أن ثمة حشرة وديعة لا تلدغ تسربت من رجل السروال وراحت تزحف فوق ساقى فى خبث ودلال، أميل وأمد يدى وأهرشها من فوق السروال فيختفى الشعور لكننى أثناء انحنائى لمحت تحت الكرسى جسما ضخما مستديرا، كتلة من السواد تتحرك ببطء، سلحفاة هذه أم ماذا؟ ما الذى أتى بها إلى هنا الآن، لكن أقدامها تمتد أطول وعددها أكثر، إذن ليست سلحفاه بل كابوريا عملاقه، لم أفزع ولم أقفز مع أننى عادة أخاف من منظر الكابوريا لدرجة أننى أنكر ما يحكونه عن طعم عضلالتها المشوية، وحين رحت أدقق النظر اختفى المنظر كلية فتأكدت أنها لم تكن سلحفاة، إذْ لا يمكن أن تختفى بهذه السرعة، ما هذا؟ هل كان هناك شىء أصلا؟ يبدو أن حضرة الرائد عنده حق.

(9)

 ماذا لو كان الإعصار قد تسارع فانتهت حياة مليارين أو ثلاثة من البشر، هل كنتم ستصدقون أنه ليس لى شركاء فى هذا أيضا؟ أم كانت الأمور ستسيح ويضيع الحق نتيجة لكثرة عدد الضحايا كالعادة؟ الآن بدأت أفهم موقف حضرة الرائد أكثر فأكثر إذْ يبدو أنه كان ينبغى أن اصطحب عددا من المعترفين بنفس عدد الضحايا حتى يمكن تحديد جريمة واحدة  لكل واحد كما ينص القانون الانجليزى، لماذا لا يعطون المتيزون الحكماء  أمثالى حق استعمال “الفيتو” ضد كل ذلك؟ على أية حال فمن البديهى أن اعتراف فاعل واحد لا يعنى براءة الآخرين، لكن يبدو أن خبرة هذا الرائد الطيب قد علمته أن اعترافى الذى لم يسمعه لن يغلق الملف، والتـُّـهَـم برغم ثبوتها عليهم، إلا أنها مختلفة جدا، كأنها مفصلة لكل واحد حسب مقاسه تماماً، لكن لها نفس العقوبة، لهذا فأنا أنصحكم لوجه العدل، سبحانه، أن تتريثوا قليلا، قبل أن تتخلوا عن الشهادة معى، لتدعموا اعترافى، فإذا رفضتم دعم اعترافى هذا  الذى أتقدم به لكل من يهمه الأمر، وأنا اتحمل نتائجه بكل صبر وفخر وألم ودون تردد، فإن ذلك سوف يحملكم مسئولية استمرار ما يجرى بنفس الوتيرة وأخطر، وقد تصدر أحكام جماعية بخـَصـْى كل الكذابين والمتقاعسين، بل وتعقيم النساء أيضا، ولن يبقى ولا واحد، ولا واحدة، فالاحتياط واجب، فكيف يمكن بعد ذلك الحفاظ على استمرار النوع؟ هذه مسألة قد حُسمت من قديم، وسُيترك الأمر كله للتاريخ بكل أبعاده.

(10)

الكهل الجميل مدرس التاريخ والأحياء يقوم من مقعده ويتقدم نحوى وكأنه تذكر شيئا أو أحدا ولعل هذا هو ما يفسر ابتسامته الأولى حين التقت أعيننا، فليكن: “صباح النور يا سيدى”، لا، لست أنا من تبحث عنه، أنا آسف، يخلق من الشبه أربعين تفضل خذ شيئا معى، ليس تماما، أنا لا أشعر بالوحدة، أنا فقط أحتاج من يصدّقنى، ثم إنك مسئول مثلى نفس المسئولية، لا أقصد….، نعم….،  أنا لا أمزح يا سيدى، تسألنى عن النوع؟ أى “نوع” تعنى؟ أنا غير مهتم إلا بنوع واحد هو النوع البشرى، هل رأيت كيف!!، ليس النوع الذى فى ذهنك، أنا  لست منهم ولا أقترب من أى صنف، العفو، أهلا وسهلا، سلام.

[1] –  نشرت فى الأهرام بتاريخ  19-12-1984

التداعى  الثالث:

 

 “اللعبة والملعوب”(4)

 

 اللعبة والملعوب

 

 (1)

وحدى تماما، مختبئ فى شقتى المتواضعة (نجمة ونصف، أو نجمتين بعد التعديل)، هناك فى أقصى الجنوب، بين جيران طيبين، مساكن شعبية جميلة، ناسها ليس لهم علاقة بهذه الحكاية، وقد زاد من اطمئنانى إلى نجاح خطة هروبى أنه ليس عندى طبق (دش) فى هذا المكان البعيد الجميل: “دهب”، الشقة، شديدة الشعبية، تقع بين البحر والجبل، رأيتَ كيف؟!!! قلبتُ المطبخ والممر الذى أمامه إلى حجرة تطل على البحر، وجعلت المطبخ الناحية الأخرى، أما الصالة فهى تقبع فى حضن الجبل، أحس بالفرق بين ما أكتبه فى الصالة فى حضن الجبل، وبين ما أكتبه فى تلك الحجرة والبحر على مرمى البصر، لا أفضّل هذا عن ذاك، لكن لكلٍّ روحه ورائحته. عبر النافذة – مع أنها مغلقة بإحكام-، أرى الشجر يتمايل فى نشوة نشطة، لو رأيتُ نفس حركته هذه فى القاهرة لحسبتُها العاصفة، ليس عندى طبق فضائى، ولو أننى كنت أنوى أن أفعلها هنا أيضا حتى أواصل مبادءاتى إلى العالم قبل أن يقتحمنى هو، زوّدوا “دهب” أخيرا بمحطة تقوية جعلت القناة الأولى والثانية متاحة لى ولجيرانى، بمجرد استعمال هوائى (إيريال) داخلى، سوف أحتفل وحدى برأس السنة، ما زلت أذكر ليلتها فى باريس، ياه !! كم هى الفرحة مُعدية شريطة ألا يفسدها السُّكْـرُ البيـِّن، ليس عندى مانع أن أحتفل بطريقتى وحدى بالسنة الجديدة، لكن عندى ألف مانع ومانع أن أحتفل ببداية ألفية لم تبدأ بعد، سوف أحتفل وحدى وسط خواجات لا أعرفهم، ولا يعرفوني.

هنا، أشعر أنى أنزل ضيفاً على ضيوف بلدي.

(2)

منذ ساعات، وأنا أتناول عشائى، (الذى هو السحور فى واقع الأمر) فى المطعم الصينى الجميل فى العسلة، جاءنى النادل الذى يعرفنى وهمس فى أذنى، وادّعى أنه متعجّب كيف يحبنى الناس هكذا من بعيد دون معرفة، وأن دليله على ذلك أن أحد الخواجات الجالسين على المائدة المقابلة يعزمنى على شرابٍ ما، صحيح أننى أبالغ فى ما أنفح هذا النادل بالذات من منح (بقشيش) زيادة عن الحساب، وكأنى أشترى صمته، أو أجهض تساؤلاتِه، أضمن بذلك أن يتركنى فى حالى، ألاحظ أنه يفهم جيِّدا ما أريد، يبدو دائما ممتنا مرحبا مجاملا، لكن ليس لدرجة أن يحبب الناس فىّ هكذا، أو أن يدّعى ذلك، نظرتُ إلى المائدة المشار إليها فوجدت مجموعة من الأجانب الشباب الذين أدعو لهم عادة بالسعادة الحقيقية، مرة لأننى أتصور أنهم يحتاجون لدعوتى هذه، ومرة لأنه يخيّل إلى أن نوع سعادتهم “ليست هي”، ومرة لأصالح من خلالهم كل ما هو خواجة، ومرة لاعتقادى أننى رجل طيب، وأن دعوتى مستجابة، لا أعرف كيف، فلا أستخسرها فيهم، لا أذكر من الذى قال من الخوجات القدامى: “كن أخى وإلا قتلتك”، أما نحن فكنا نغنى أطفالا “يا احنا ياهمّه يا كوم الريش، همّه يموتوا واحنا نعيش”، لم نكن نعنى الخوجات طبعا، كنّا نعنى أى “هُمّــه” لاحظ من فضلك الفروق الثقافية، لسنا قتلة بطبعنا، كل ما نقدر عليه من عدوان هو أمنية أن يتولى عنا سيدنا عزرائيل المهمة، أما هم، فـــ “كن أخى وإلا قتلتك”، ياه!!، كلام فارغ هذا وذاك، لا هُم قتلة، ولا نحن نتمنّى لهم الموت، التنوع البشرى الخلاق؟!! القبول بالآخر!! لا يا شيخ!!؟ والشيشان؟ أليسوا آخر؟ وأهل كوسوفو أليسوا “آخر”؟ والفلسطينى فى الداخل، والخارج أليس آخر؟

يا أخى، إلى أين أنت ذاهب، لا تذهب بعيدا هكذا إلى الناحية الأخرى، الروس والصرب والصهاينة حاجة ثانية، الدنيا فيها وفيها؟ والتاريخ ملئ بالمآسى، ولا يبقى إلا الخير، لست متأكدا من ذلك، لكن لعلّه خيراً، هذه التكنولوجيا المتسارعة ترفع الحواجز بين الناس بسرعة أكبر من تنامى حقدهم وعماهم، هل يمكن أن تعمل شيئا أكبر يذيب التعصّب ويرسى العدل؟ يزيل التعصب يمكن، لكن يرسى العدل !! كيف؟ هل يمكن أن “تخلّق” لنا آخرين بطريقة أصدق؟ الآخر موجود ونصف، ألم يقرر العالم هذه الليلة أن يتجاوز تاريخه الدموى، وأن نلعب معا نحن الناس، كل الناس، هذه اللعبة على مستوى الدنيا بأسرها؟ لعبة بداية الألفية الثالثة، الألفية التى لم تبدأ بعد، بدأتْ أو إن شا الله ما بدأت، كله واحد، لماذا بدأناها قبل أن تبدأ؟ نحن أحرار، لماذا ننتظر حتى نبدأها فى وقتها؟ وهل يعرف أحد تحديدا وقت بداية أى شئ؟. الأمور دائما تبدأ قبل أن تبدأ، وحين ندرك أنها بدأت تكون قد طابت وطلبت الأكّالة.

لم أصدّق النادل واعتبرتُ كلامه من باب المجاملة، إلا أنه عاد فأصرّ على إبلاغ الرسالة، مشيرا بتأكيد حار إلى شاب “خواجه” يبدو ظريفا وطيّبا.

(3)

 كنت عندما أحضر إلى هنا أحاول أن أنصت إلى اللهجات من حولى لأتبين الجنسيات، توقفتُ عن ذلك بعد أن اعتبرت أنهم، أننا، كلنا أولاد حواء وآدم، فلماذا البحث؟. لا بد أن التراب الذى خُلق منه سيدنا آدم كان من هذه الجبال النقية الفتية الجميلة من حولى.

(4)

أنظر إلى المائدة المشار إليها، فإذا بالشاب الذى على طرفها يومئ لى برأسه فعلا، يومئ وهو يرفع ما يشرب إلى أعلى، أرفع له يدى شاكرا، ثم أربّت على صدرى بمعنى أننى لا أستطيع أن أقبل كرمه بما عرض من شراب، فيبتسم ويحنى رأسه ثانية فى دماثة دافئة، الله!!!!، هؤلاء الناس بهم دفء خاص بعكس ما أشيعُ أنا عنهم، قلت للنادل إننى لا أعرف هذه الوجوه، فهل يعرفهم هو، قال إن الشاب هو أحد مدربى الغطس هنا، ألمانى على الأرجح، وأن الجلـساء ضيوفه أو زبائنه، (لا فرق) وأنه لا بد قد لاحظ كيف أننى آتى أجلس وحدى الأسبوع تلو الأسبوع، وسألنى النادل إن كنت أعمل هنا، ولم أرد، فلم يلح، إذن فأنا آتى وحدى، تعجبتُ لذلك مع أنى آتى وحدى فعلا، ألستُ أنا الذى أعلنت منذ قليل أننى إنما هربت إلى هنا لأحتفل وحدى، كيف لم أنتبه إلى ذلك بنفس المعنى الذى لاحظه النادل؟ لماذا أتحدّث عن وحدتى مع أننى لا أمارسها، أو لعلى لا أشعر أننى أمارسها، هل أنا وحدى فعلا؟ لا أظن، الأغلب أننى لست وحدى، كيف؟ لا بد أننى كثيرٌ، وابتسمتُ.

نظرت إلى النادل وإلى المضيف (هكذا اعتبرت-  كما أشرتُ- أنى ضيف هذا الخواجة) ودعوت ألا يكون أحدهما قد سمع ما لم أقله.

(5)

أعود إلى صديقى الحاسوب، كان ينتظرنى فى أدب وسماح لا تعرفهما الزوجات العصريات، اعترفتُ له أننى هارب وربما كاذب أدّعى الوحدة، واكتشفت كيف أن لصديقى الحاسوب هذا، فضلُ، أو وزر، خفوت وعيى بوحدتى التى لاحظها كل من الخواجة والنادل، معا!!، كنت قد اقتنيت هذا النوع من الحاسوب حديثا، وهو نوع به بطاقة تلفاز تسمح بالاستقبال على شاشة صغيرة يمكن إزاحتها إلى زاوية هامشية على ناحية، وكنت قد اعتدت أن أشغّل هذه الخلفية أثناء استغراقى فى عملى، وأن أعاود النظر للألوان الصامتة أحيانا، أو الإنصات للأصوات الهامسة أحيانا أخرى، أو إغفال هذا وذاك رغم بقاء أى منها فى الخلفية، ثم وأنا فى هذه الحال متصورا نجاح خطة الهرب المزعوم، وأنا أدعّم إصرارى على مقاومة هذه الخدعة الجماعية المسماة الاحتفالية بالألفية، إذا بى أكتشف أن القناة الثانية، التى تصل إلى هذا المكان النائى من خلال محطة تقوية حديثة، تجرنى جرا إلى العالم كله، كل الناس اتفقوا أن يلعبوا معا هذه اللعبة الجماعية هذه الليلة، ليس أمامى خيار، ورائى ورائى، أُضطر أن أتابع ما يجرى بجزء من وعيى، أجدنى أتسحّب من ورائى لأنضم إلى هذه المليارات من البشر الذين يلعبونَها، هكذا أكتشف أننى غير رافض ولا حاجة، على الأقل لست رافضا كما كنت أتصور.

(6)

مباراة كأس العالم فى كرة القدم، كان ذلك منذ أكثر من عامين، لست متأكدا، قفزتُ فرحاً بالهدف، ليس المهم مَنْ أصاب مَرْمَى مَن، المهم أننى جالس أمام التلفاز أشارك ألف مليون بنى آدم نفس الشعور، فى نفس اللحظة هل هذا هو “الحج الإلكترونى” الشامل كل الناس؟

(7)

قبل الفجر، اعتدت آنذاك، منذ عشرين عاماً، أن أقتطف بضع ساعات أكتب وأقرأ فيها قبل أن تلتقطنى عجلة الواجبات اليومية، أفتح المذياع الصغير، لم يكن إرسال البرنامج الموسيقى متصلا 24 ساعة كما هو اليوم، ألعب فى المفتاح على الموجة القصيرة، أى دندنة تكفى، تكسر صمت الليل، مع أنى لا أشبع من مناجاته، ورائى ما ينبغى إنجازه قبل وبعد مناجاة الصمت، الموسيقى الخالصة تأتينى، وهى لا تحتاج إلى فك رموزها، الأغانى الغربية ألفاظها لا تعنينى وهى لا تحتاج بدورها إلى فك شفرتها، أعتبرها ضمن الموسيقى التى لا أفهمها، الأخبار التى تأتينى برطان متدفق أتركها دقيقة، أو أكثر، لا أغيّر المحطة، أنصت إلى جَرْس رطانٍ فتحضرنى أسئلة كثيرة عن معتقدات أصحاب هذا الرطان وعن دينهم، وعن مآلهم، وعن رحمة ربنا بى وبهم، أطمئن إلى عدله طمأنينة لا قبلها ولا بعدها، من قال غير ذلك، الله يخيّبهم، هذا المذياع الصغير “الترانسستور” يساعد الناس أن تتقرب إلى الله، يقربنا من بعضنا البعض، من ذا الذى يستطيع أن يقاوم؟

أهلا !!!

 “أكتب فرِحا:

 غَصْبًا صدفةْ، لمستْ إصبَعِى المفتاحْ، فسَرَت كلماتٌ عجميّةْ،… تنتزع السيفَ من الغمدِ، تلتهم ظلام َالرؤية”.

“أكتب أيضا”

 يجتمع السامرُ من أحباب الله، البيضُ السودُ السمرُ الحمْر.

 البيذقُ والـفرزُ ورُخُّ الشاه”

 أنُهى ما كتبت بأنه:

“يتراقص سهمُ الأفق يفتّح وعيى المرتجف الأعشى، فيُرينى العالمْ.،… مذياعا مُلقَى، فى حجم الكف ْ، والناس الواحدُ كلٌّ ليس له مـِـثـْـلٌ أصلا”.

 أختم صلاتى قائلا :

“… يتصاعد كدحُ الناس إلى خالقهم جَمْعاً فى معراج الرَّحْمهْ”.

 (8)

أسير فى هذه المظاهرة العالمية وأنا وحدى هكذا فى أقصى الجنوب، أنتقل غصبا عنى من جزر “الأوكلاند” شرقاً حتى جزيرة “سماو” غرباً، أنبهر من هذه الألعاب النارية فى سيدنى، و أرقص مع الراقصين فى هاواي.

يا حلاوة!! لماذ اتفقَ العالم على الاحتفال معا هكذا بألفية لم تبدأ بعد؟

لا أقصد لماذا، بل كيف؟

كيف أقنع الناس بعضهم البعض أن يغيظوا التاريخ الحقيقى وهم يحتفلون بما اتفقوا عليه، وليس بما يفرضه عليهم هذا التاريخ الأعشي؟ هكذا حسموا الخلاف حول تحديد يوم بدء السنة الجديدة للألفية الثالثة!.

أشعر فجأة أن من حق الناس عبر العالم أن تلعب معا متى شاءت كيف شاءت، أفرح أننى واحدٌ من هؤلاء الناس.

(9)

هذه الأرقام الأربعة التى تبدأ من اليسار بواحد ثم تسعة تلحّ على منذ تعلمت القراءه والكتابة 1911- 1919 – 1933 – 1945 – 1965-  1976- 1987  1999، لابد أن كل الناس مثلى، ثم نمى إلى علمنا، جميعا، أن هذا الشكل اللحوح، سوف يتغيّر، وماذا فى ذلك؟ يتغيّر كما يشاء، أنا مالي؟ نحن مالنا، كيف سيكون منظر التاريخ وأنا أكتبه قبل بداية أى رسالة، كيف سأكتب الرقم الجديد؟ تحريرا فى كذا شهر كذا سنة 2000، يا صلاة النبى، سنة مثل كل السنين، لماذا تغمرنى هذه الدهشة البريئة وأنا أتصور منظر التاريخ الجديد؟ يبدو أن هذه التسعات اللحوح أخذت حقها وزيادة. من يدري؟ أى بُشرى! تختفى التسعات، ويختفى معها كل ما نريده أن يختفى ليحل محله ما لا بد أن يحل محله، من يدرى؟ ربنا يسهل.

 من فـَمـِكَ إلى باب السماء.

ما دامت السنون تجرى وراء بعضها، حتى وصلنا إلى سنة 2000 هكذا فلا بد أن العالم يتغيّر، لابد أن شيئا ما سوف يتغيّر، ليست المسألة فيما هو ليزر أو غير ليزر، المسألة هى نحن، ما هذا الليزر؟ طز، لا أريد أن تمتد هذه “الطز” إلى فانتوثانية زويل، نحن ما صدّقنا فرحنا به وبها، كم فانتو ثانية مرّت بنا حتى وصلنا إلى هذه السنة ذات الدم الخفيف هكذا؟

ثلاثة أصفار وبجوارها رقم “اثنين”، منظر طبعا.

أقاوم أن يسحبونى أكثر من هذا، لابد أن آخذ حذرى، ليس كل سحب مثل الآخر، ربما يسحبونى لأشارك بالمرة فى النظام العالمى الجديد أو فى بورصة نيويورك بقروشى الخائفة قليلة الخبرة، من يدري؟ حتى لو لم يكن ملعوبا أو مؤامرة، فقد ضحكنا عليهم، أنا والناس، كل الناس ضحكوا على كل الناس، فـَرِحـْنا – نحن الناس – بهذا الرسم الجديد ورحنا نلعب.

(10)

 “أخيــرْ”…

ألُقى بإحدى البليات الثلاث فتقع داخل المثلث بالكاد، فالبلية الثانية، فالبلية الثالثة، أجمعهم وأرصهم، يتقدّم الرقم اثنين فـَاِرِدًا جذعه مختالا، يميل برقة حانية، يبتسم،أطمئن إليه فأترك البلـْى بجوار بعضها فى رعايته، لعله يحرسهم.

الخواجات يلعبون بالأصفار الدوائر الكرات مثل رجل السيرك فى مولد السيد البدوى، رقمهم الاثنين بالإنجليزية يهتز على موسيقى الراى، ثم ينتظر رصّتهم أمامه وهو لا يكف عن الرقص.

فيمَ كان اعتراضى إذن على ما اتفق الناس عليه؟

آه! تذكرت، كنت معترضا أن يغالطونا وهم متجهمون يفرضون علينا حساباتهم لمجرد أنهم تورطوا فى فرحة طفلية مثلما أكتشف الآن.

 كل ما أطالب به الآن هو أن يعترفوا أنه ليس احتفالا بالألفية الثالثة، ليكن الحفل هو الحفل، لكن فلنسمه حفل وداع الألفية الثانية، وداعا يمكن أن يستغرق عاما بأكمله. لا يعنينى أن تبدأ ألفية ثالثة أو تنتهى ثانية، ما يغيظنى هو الاستعباط، يعايرونا كل رمضان وكل عيد ويقرصون أذننا أنه “عيب كذا”، وأننا لا بد أن نسمع كلام علم الفلك، يعنى كلامهم، فهم أصحاب توكيل شركات العلم الحديث، فلماذا لم يسمعوا هم الآن كلام علم حساب يحذقه طفل ذو سبعة أعوام؟ ما الفرق بين أن نحتفل اليوم بألفية لم تأت بعد أو أن نحتفل بها بعد عام أو خمسة، حتى لو أعلنوا أنهم أجّلوا الألفية الثالثة لتأتى بعد الرابعة، مسموح، كل شئ مسموح ما دمنا نلعب جميعا معا، حلوة هذه، فقط علينا وعليهم، شروط أى لعب أن تسرى القواعد “علينا وعليهم” حتى لعبة الحرب، حتى الإجراءات الأمنية على الحدود، علينا وعليهم، أليس كذلك؟.

أين الحَكَم؟

يطل علىّ فيدل كاسترو من الشاشة المظلمة، كنت قد أغلقت الحاسوب والتلفاز معه، تملأ لحيته واجهة النافذة، يمسك ورقة كبيرة يقرأ منها فرماناً سلطانياً، يختفى وجهه ليحل محله وجه فؤاد المهندس، كم هو ثقيل الظل فى الافلام رائع الحضور فى المسرحيات، يعود وجه كاسترو وهو يصيح “والله ما انا لاعب”، فيصفق له مارادونا وينتقلان معا من شاشة الكمبيوتر إلى الشاشة الصغيرة فى الركن يقفزان من النافذة دون أن تـُـفتح، لست متأكدا من الذى قفز أولا: فؤاد المهندس أم كاسترو، لم أكن أعلم أن فيدِلْ خفيف الظل هكذا، فيجدان الظلام الدامس، يـُرْعبان.

افتح التلفاز فإذا مذيع صينى يشترط سرا أو علانية، كذا وكيت وأن الرئيس الصينى قد قرر بالنسبة لاحتفال الألفية، واتفاقية الجات معاً، أنه “فيها لاخفيها”، وذلك بعد أن أملى شروطه، ولم ينتظر ليعرف إن كانوا قد قبلوها أم لا، خاف أن تنتهى اللعبة دون أن يحسبوا حسابه، سوف يشترك ويـُطـَنـْبـِل، ثم يأتى الحساب فيما بعد، ونحن؟

متى نقبض ثمن سماع الكلام؟

(11)

 سوق النخاسة لتسويق المحترفين، أجور المدربين بعشرات أو مئات الألوف، تتراءى لى حركات الشابات لاعبات القوى، وأرقام الفوز تـُحـْسـَبَ بجزء من الثانية.

 لم ذاك يا بناتى الحلوات؟ تفوز الواحدة منكن بفارق يصل إلى جزء من عشرة من الثانية؟ هذا ليس لعبا، هذه صفقات (بيزنس).

 أى قسوة يسمونها تدريبا؟ وأى منافسة يسمونها لعبا؟! “إخص”

اللعب خيال جامح، نشاط حر، فرحة فى ذاته وليس فى نتيجته، معية زائطة، إنزلى يا بنت أنت وهى حتى نرقص ونلعب معاً دون شقاوه، نحتفل معا بأى كلام، المهم نحتفل بعيدا عن سوق النخاسة ومزادات أجزاء الثانية.

 تلك الهيْجة البهيجة الراقصة المضيئة لا تعرف من الذى يديرها.

 هل يمكن أن نكون قد استطعنا أخيراً أن نلعب هذه الليلة معا، فعلا،

نلعب بجد.

هل يمكن أن يسمح السادة فى البيت الأبيض أو السراى الصفراء أن يلعب العالم دون إذنهم ودون عائد عليهم؟

 طبعا لا،

 إذن فهو “بيلي”.

 بيلى من يا جدع أنت،؟ كل حاجة كلينتون، بيلي؟ بطّل تفكير تآمري.

 يعنى تريدنى أن أصدق أن ناس العالم الطيبين، نحن، هم الذين قرروا الاحتفال بالتخلّص من هذه التسعات اللحوح “قبل الهنا بسنة” – أعنى بيوم– منهم لأنفسهم؟

والله فكرة!! لماذا ننتظر عاماً آخر؟

ثم من أدرانا أن الألفية الأولى قد بدأت فى ميعادها؟

 إن كل ما هو تاريخ هو مجرد لعبة وثائق خائبة، تُبرر عجز الإنسان أن يكون كذلك.

(12)

 أين ذهب رفضي؟ كيف ذابت مقاومتي؟ أنا لا أستطيع أن أشارك فيما ليس لنا، فيما ليس نحن، لماذا نتركهم يقررون لنا متى بدأ التاريخ، ومتى ينتهي؟ فوكوياما يعلن عن نهاية التاريخ، وهاهم يذكرونا ببدايته التى قرروها بغير استئذان من أصحابها، نعم هم الذين فرضوا علينا ما يجرى هكذا، وليس نحن ناس العالم الذين قررنا أن نلعب سويا.

(13)

أدخل مترددا إلى حجرة حضرة الناظر لآخذ إذنا أن ألعب فى الخمس دقائق التى بين الحصص، التى بين العقدين، التى بين القرنين،،التى بين الألفيتين، يصرفنى الناظر وهو يضحك دون سخرية، أسأل الفراش لماذا كان يضحك حضرة الناظر، فيخبرنى بإجابتين، الأولى: لأن اللعب لا يتطلب إذنا، والثانية: لأنه لا توجد فواصل بين أى وقت وأى وقت.

نحن الذين ابتدعنا الفصل بين أى شئ و أى شئ، كله متصل بكله، ونحن الذين نوقف الحركة اصطناعا لنتأمل، ونأمل، لعل وعسي، من يدري؟

(14)

أدرك التلفاز الصغير القابع فى زاوية الحاسوب الصباح، فسكت عن الاحتفال المباح،. فعاودتنى التساؤلات والمراجعة.

يبدو أننى سُرقتُ مثل غيرى، والذى كان قد كان. أحسن.

(15)

 الألفية الثالثة لم تبدأ بعد، والمسألة لا تحتاج إلى مناقشات وإثباتات، لكن للأمر دلالات مطـْمـِـئنْة، ذلك أننا أثبتنا نحن البشر (حلوة هذه) أننا حتى لو استُدرجنا إلى ما لم نقرره، فإن اتفاق الناس أهم من حسبة الأوصياء.

 مرّة أخرى، “علينا وعليهم”.

(16)

مدرسة رياض الأطفال بالمعادى، كى چى تو، زفتا، بركة السبع، “سلطانية مهلبية، بابا قال لى عدّ لميّة، عشرة عشرين تلاتين اربعين… سبعين تمانين تسعين ميّة”، فسنة ألفين ليست هيَّا، فلماذا يعايرونا فى مسألة تحديد رمضان والأعياد؟ لماذا نسوا أن اتفاق الناس وتوثيق العلاقة بالطبيعة أهم من أى علم للفلك أو الحساب أو المنطق؟

(17)

يرفع لى أرسطو حاجبيه فأنهره وأعايره أن منطقه هذا هو الذى أخّر مسيرتنا نحن البشر ألفيّتين بالتمام، يُـلـعِّــب لى حواجبه وهو يغمز بإحدى عينيه، فأضطر أن أخرج له لسانى، وأنا استغيث بصديقى فون دوماروس(5) الذى لا يعرفه أحد، مع أن صديقنا المشترك سلفانو أريتي(6) هو الذى أبلغنى وجهة نظره، كان أريتى وقتها يدافع عن منطق المجانين الأعمق مستشهدا بفون دوماروس الذى ليس عنده مانع أن يكون الشىء هو نفس الشىء وعكسه فى نفس الوقت!.

(18)

أقول لشيخ الأزهر التنويرى الطيب: إن الدين يا مولانا لن ينقص أو يزيد إذا نحن صُمنا يوما زيادة أو يوما ناقصا، إن المهم هو احترام اتفاق الناس وتوثيق العلاقة بالطبيعة، علينا أن نحافظ على علاقتنا مباشرة بالله سبحانه، وبالطبيعة الأم، بلا وصاية آلات، أو حسابات أو فلك، ثم ها هو العاَلَم كله يتفق على “أنه: “هو ماله”؟ (يقصدون أرسطو، أو مرصد حلوان).

 يا عم أرسطو، يا سيدنا أرسطو، الله يخرب بيتك.

 يا فضيلة المفتى، يا مصطفى يا محمود، إن الناس الطيبين البسطاء يا مولانا إذا أجمعوا على خطأ فقد يكون أصوب من أى صواب.

 لم لا؟

(19)

تنتهى الاحتفالات فى جزيرة “سماو” فيعاودنى التفكير التآمرى الذى هو ليس تآمريا:

من يا ترى هذا الذى ضحك على العالم هكذا، لتحديد هذا الوقت بالذات؟ أقصد من ذا الذى قرر ميعاد اللعب، ومكان اللعب، وطريقة اللعب؟ ليس مهما أن نجد إجابة، وليس لائقا أن نتهم أمريكا مثلا، كما اعتدنا،  بأنها وراء كل هذا الملعوب، المهم أن هذه الشائعة (أن الألفية الثالثة بدأت)، مهما كان مصدرها، قد سرت بسهولة خطرة بين بقاع العالم لمدة عام أو بعض عام (على الأقل)، حتى صدّق الناس أنهم يمكن أن يكونوا “معا”.

يا عم فهمى يا هويدى، يا دكتور عبد الوهاب يا مسيرى، هم يتحيّزون لأفكارهم، وتواريخهم، وآثارهم، وأديانهم، ليكن، لعلهم أحق بنا منا، أكثر الله خيرهم أنهم سمحوا لنا أن نفرح معهم.

(20)

تقفز الست مونيكا من الشاشة وجسمها البضّ يملأ فراغ الحجرة كله، زاد وزنها سبعة عشر كيلو جرام فظهرت معالم الزيادة داخل الملاءة اللف التى لا تعرف كيف تستعملها فتقع منها كل خطوتين وهى تتعثر، فلا أبتسم ولا أشمت، لكنى ألمح سهير البابلى وقد ضربت لخمة فى قسم اللبان حين لم تستطع أن تحكم الملاءة عليها فصاحت فيها “روحى كتك نيله وأنا مش عارفه وشك من ظهرك” لم أعرف إن كانت تخاطب، الملاءة أم تخاطب مونيكا التى رعبت منها رعباً ليس له مبرر، فاختفت رغم حجمها ولزوجتها، يا بنت يا سهير لم فعلتِ ما فعلت؟ أيرضيك أن تتركى لنا هذه الفيلة تلعق بقايانا الهامدة، وهى إنسانة خاوية مثل طاحونة مهجورة؟

طيب

الله يسامحك يا سهير يا بابلى.

أنتِ السبب.

فى ماذا؟ لا أعرف.

(21)

ماذا يا سهير لو أنهم استعملوا نفس الأداة لتسويق وترويج أفكارهم الأخرى، فراحت تسرى بين الناس، كل الناس، بهذه السرعة فصدقوها، صدقناها بنصف وعى، أو حتى بدون وعى، حتى أصبحت أى فكرة يروجونها حقيقة أكبر من أى حقيقة موضوعية.

 تقولين أن هذا هو الحادث فعلا؟ لا ياشيخة؟

يرقص الناس ويغنون معا فى توقيت ليس هو، “قبل الهنا بسنه”، – أى بيوم كامل- يمر الحال.

هذه المرّة جاءت سليمة، ولعبناها خطأً معا، لكن ما العمل والسائق مجهول، والوقود غير كاف، والأفكار ليست واضحة ولاجيّدة، وكيف نحول دون أن يسرّبوا لنا أفكارا أخرى تخرب بيوتنا وعقولنا معا؟ أنا مالى، ننقرض جـَمـْعاً كما لعبنا جمـْعاً.

 حين تهاجمنى فكرة الانقراض هذه، أتصوّر أننى أمثّل النوع البشرى كله، يا ذى الفضيحة، ألا أخجل؟ لكنها حقيقة،حين أتأمّل الأفكار المتسربة عن الرفاهية، وعن الديقراطية، وعن سيدنا العلم الفوقى، وعن الشذوذ الجنسي، أتحسس رأسى، وأهرش فى أجزاء خاصة من جسمى، وأتجرع بعض ما تبقى فى إناء “المخلل” بعد أن اختفت محتوياته الصلبة، وأمنع نفسى عن التعليق.

(22)

 أصرخ بالمخرج معتذراً أن سامحنى، وأنها آخر مرة، كومبارس كومبارس، لكننى مهم فى خلفية المشهد، أقسم له أننى لن أفعلها ثانية، يطيِّب توفيق صالح خاطرى، ويطمئننى أننى لم أخطئ فى اللقطة ولا حاجة، لأنه ليس لى دور أصلاً فى هذا الفيلم، يعدنى توفيق صالح أن يبحث لى عن دور مناسب فى الفيلم القادم، وأعلم أنه يكذب رحمة بى، أشعر أكثر يقينا باقتراب نهاية النوع البشرى كله، مع أننا نحن البشر كان دمنا خفيف ولا يصح أن ننقرض هكذا بخطأ ما فى حسبة البقاء.

 لو كان عند الديناصور وعىٌ مستقبلىّ، ربما كان مازال معنا حتى الآن، أخاف منه مثلما كنت أخاف طفلا أن يلتهمنى “وابور الزلط”.

(23)

مع تَسَحُّبِ هذه السيرة، سيرة الانقراض، ومع هذا الرعب، رعب الفناء بخطأ غبى، يتسرب منى السماح الذى عشته بالرغم منى وأنا أشارك فيما جرى هذه الليلة دون استئذان.

تصورتُنا، فَـرِحًا، عبر العالم ونحن نخرج لساننا جماعة لأى رقم فيه رسم تسعة، ثم هأنذا أتراجع عن اعتبارها لعبة فرحت أبحث عن أصل وفصل فاعلها، هل هى فعلا ملعوب وليست لعبة، ملعوب بفعل فاعل، والفاعل قوى ومجهول؟ لا بد أنه فاعل يملك السلاح، والمال، وكل وسائل الإعلام مما نعرف، وما لا نعرف.

(24)

أريد أن أذهب للخواجة الذى عزمنى أمس فى المطعم الصينى وأقبّلُ رأسه وأنا أقبل دعوته.

(25)

لو أن أمريكا وإنجلترا وفرنسا، اتفقوا منذ عام أو بعض عام أن يؤجلوا هذه الاحتفالات سنة كاملة تحت زعم أنهم يسايرون العلم والموضوعية، هل كان يجرؤ أى واحد غيرهم أن يعملها؟ هل كانت كوريا أو نيجيريا، أو حتى الهند الذرية تجرؤ أن تحتفل وقتما تشاء؟ تنضم مصر أم الدنيا إليهم، مصر جاهزة للانضمام طول الوقت “سـَنـْتـَتـْنـَضـُّم” حالا، دقيقة واحدة، هل كان سيستجيب لنا أحد إذا قلنا أننا سنحتفل مبكرا عاما لمجرد أن سنة 2000 دّمها أخف، ومنظرها أجمل، وأننا زهقنا جدا من حكاية ألف وتسعمائة وكذا هذه، لو حدث ذلك لفتحوا علينا نار السخرية والاتهام بالجهل والتخلف، واتهمونا بقلّة حقوق الإنسان، وقلّة العلم، وقلة العولمة، والسفالة لكنهم لا يستطيعون أن يتهمونا بقلة الذرية أو الضعف الجنسى.

(26)

أخرج لهم لسانى ولا أجرؤ على التصريح بما يدور فى  ذهنى مع أنى أعرف الكثير، خلّ الطابق مستور.

أقفل نافذة العالم التكنولوجية التى فـَرَضـَتَ على، وأتاحت لى، فرحة المشاركة، وفكر التآمر معا.

(27)

 أكتب مقالا للأهرام (7) أقول فيه أن المسألة كانت لعبة طريفة، وأن من حق الناس فى كل مكان أن تفرح وقتما تريد، حتى لو لم تعرف من ذا الذى يحركها، فقط علينا أن نأخذ الحذر، و أن نتدبر الأمر، وأن نؤكد على هـُويتنا المميزة، وكلام ماسخ من هذا، كلام أعلم أنه لا يقدم ولا يؤخر، كلام مثل عدمه، لكننى أكتبه، وهات يا واحد اثنين ثلاثة، إبرة الخـّياطة…

(28)

أتساءل عن عدد الذين سوف يقرأون هذا المقال، وعن جدواه، وعن لزومه،

 أتجنّب التمادى فى التساؤل، كما أتجنّب محاولة الإجابة.

 أخاف لو أننى صدَقْتُ فى الإجابة أن أمزق ما كتبت.

هل أنا أضحك على نفسي؟ أبرر وجودى بمثل هذا الذى أكتبه، فى حماس طفلى لا يهمد، وكأن أحدا، يهمه الأمر جدا،  ينتظره فعلا؟

 تصعب علىّ نفسى،

 أكتشف أنه ليس لى فى الأمر شئ.

أحسن.

تصبحون على خير

 (ما أمكن ذلك).

[1]– كتب أصل هذا النص أولاً فى شكل مقال نشر فى الأهرام باسم ” ماذا بعد ما لعبْنا معاً لُعبة الألـفية؟” بتاريخ: 18/1/2000، ثم أعدتُ صياغته بعد أن جمعت هذه المادة “هكذا” لتقول نفس المعنى مع السياق الحالى، وقد نشر لاحقا كما جاء فى هذا المتن بعنوان “اللعبة والملعوب”، فى مجلة سطور العدد 40 مارس 2000.

[2] – ظهر منطق “فون دوماروس” سنة 1947 ليتناقض مع، ويصحح منطق أرسطو ليثبت أن الشئ يكون نفس الشئ وضده فى آن… الخ.

[3] – سليفانو أريتى طبيب نفسى أمريكى مبدع، صاحب كتاب “تفسير الفصام”، والمحرر الأول للكتاب الأمريكى للطب النفسى فى السبعينيات والثمانينيات وهو الذى تبنى منطق فون دوماروس ووظفه فى فهم لغة الفصامى وغائيته ومن ثم فهم “إرادة المجنون واختياراته وموقفه”

[4] – مقتطفات من مقال الأهرام نشر بعنوان: ماذا بعد ما لعبنا معا لعبة الألفية 18 /1/2000

 ماذا بعد ما لعبْنا معاً لُعبة الألـفية ؟

 [الأهرام: 18/1/2000] 

………………

أولا: إن اتفاق العالم كله على شكلٍ ما، ورأى ما، ونظامِ سوقٍ ما، واحتفالٍ ما، وتوقيت ما، لا يعنى أن أيا من هذا هو الصواب، ولا أنه هو الأصوب.

ثانيا: يبدو أن ما يـُجمع الناس عليه له من الأهمية والجذب والدلالة ما هو فى مرتبة الحقائق الموضوعية المجردّة، أو أكثر، حتى ولو انطلقت هذه الحقائق من معامل الأبحاث أو من مراصد الفلك.

…………….

خامسا: إن صحّ أن بعض العالم كان يلعب كل هذا اللعب” معا”، والباقى يتفرْج كل هذه الفرجة، فى اتفاق مبنى على خطإ طريف كما ذكرنا، فإنه قد يلزم علينا بعد نهاية اللعبة أن نتساءل: من ذا الذى ضحك على العالم هكذا، لتحديد هذا الوقت بالذات؟ أقصد من ذا الذى قرر ميعاد اللعب، ومكان اللعب، وطريقة اللعب؟ ليس مهما أن نجد إجابة، وليس لا ئقا أن نتهم أمريكا مثلا ـ كما اعتدناـ بأنها وراء كل هذا الملعوب، المهم أن هذه الشائعة (أن الألفية الثالثة بدأت)، مهما كان مصدرها، قد سرت بسهولة خطرة بين بقاع العالم لمدة عام أو بعض عام (على الأقل)، حتى صدّق الناس أنهم يمكن أن يكونوا “معا”، إن خطورة الأمر تتمثل فى إمكان تسريب أى فكرة ـ صوابا كانت أم خطأ ـ حتى تسرى بين الناس، كل الناس، بهذه السرعة، فيصدّقونها،بنصف وعى، أو حتى بدون وعى، حتى تصبح هذه الفكرة حقيقة أكبر من أى حقيقة موضوعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *