الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1985 / اكتوبر1985- الفصل الخامس: الغول والعنقاء

اكتوبر1985- الفصل الخامس: الغول والعنقاء

 

عدد اكتوبر 1985

الفصل الخامس

الغول ….. والعنقاء(1)

يحيى الرخاوى

“هات شومه يا جدع 

واه، وه، يا بوى

ونا أدلع الجدع

واه، وه، يا بوى

تتاويهم يا جدع

واه، وه، يا بوى

أنا قلت لأبويا حسنين

أنا عندى فكرة زين ….

وتصدر الفكرة الزين من أى من أفراد المجموعة، فنستجيب لها، أو لا نستجيب، ولكننا نتمتع بحرية التفكير، وحرية الحركة، ما دامت الخطط المسبقة غير محكمة الالزام، وتستمر الأغنية تصدح من داخل حافلتنا الصغيرة، تحكى أفكار الصعيدى الذى يحلم بالقفزة الى المدنية(أو المدينة)، أو الى ما ليس “كذلك” أو ما ليس “هنالك” وذلك بأن بزرع : “الخمس قراريط، بيضا وجبنا وسميطا، ويبذرها دقة، ويرويها بالزيت .. الخ(2)ويعلو صوت الأغنية من داخل العربة – رغم أن ذلك ممنوع أصلا – لكننا نواصل فى الممنوع، وكأننا نعلن بذلك وجودنا المتميز وسط “أيها خواجات”، فخورين بالنغمة واللغة والروح التى تدفعنا، فنعلن هويتنا دون استئذان، وفى الممنوع، وقد كان الأتوبيس الصغير قد اعتاد الطريق من “المدينة الجديدة” (فيل نوف ville Neuve الى نيس، وبالعكس، وكأنه يتجول فى طريق صلاح سالم، (آسف…، فقد احتج وهمس بى أنه تشبيه سخيف، وأولى بى أن أقول ما بين شاطئ أبو هيف والمنتزة (قبل التلوث)، فنحن بحذاء الشاطئ أبدا، وأرجع بهذه الفكرة (فكرة أن يحفظ الأتوبيس الطريق متى الفه) الى أيام كنت أذهب مع أبى الى الحقل، وأصر على البقاء معه طول النهار، ويصر هو على أن أعود قبله لعمل “الواجب”، أو “لسبب لا أعرفه”، فأدعى، ثم أؤكد : أنى لا أعرف الطريق الى البيت، فيضعنى على الحمار ويقول لى ألا أحاول أن أوجهه الى أى اتجاه، وسوف يوصلنى تلقائيا الى البيت، وأمتلئ غيظا من هذا الحمار المفسد لخططى نتيجة ثقة والدى به، أكثر منى، ثم ينتقل شعورى باستقلالية وسائل المواصلات جميعا، وقدراتها الذاتية مع تطور علاقتى بقطار الدلتا ذى الخط المنفرد والشخصية المتميزة، حيث بلغت بى أوهامى الاحيائية أنى تصورت أنه يأكل الذرة المشوية، والخيار، والعنب، التى كنا نهديها الى محصليه وسائقيه فى مواسم حصادها، (لا تصدقوا حكاية عزومة الشراقوة للقطار فلابد أنهم كانوا مثلى، لا أكثر)، وقد ظل هذا القطار يمثل علامة خاصة فى أرضية وعيى بالحركة والناس بما يتميز به من صفتين خاصتين : بطؤه المتبختر، وعدم انتظام مواعيده اطلاقا، نعم، كان قطارا ذا مزاج خاص تماما، تفرق مواعيد رحلاته احيانا عدة ساعات تأخير (أو تقديم اذا اقتربت الساعة من اليوم التالى)، ومرة تأخر قطار العودة من زفتا الى بلدتنا من الثانية الى السادسة بعد الظهر، وترتب على ذلك اتهامات من اخى الأكبر ما زالت ترعبنى وتثيرنى،  رغم أنى تبينت بعد سنوات أنه كان يمزح (!!!) اى والله، يمزح !! أى مزاح هذا الذى يبقى أثره سنوات وسنوات؟؟، وكان التفاهم وثيقا بين هذا القطار ووالدى ، حتى أنه كان يرسلنا قبله أحيانا لينتظره حتى ينهى ما هو فيه بالمنزل أو بالحقل، ثم يلحقنا، وكان السائق والكمسارى يستجيبان لمثل ذلك بترحيب، ودى سلس، ومرة طلبت من السائق أن يطيل انتظاره فى محطة “كفر الجنيدى” حتى أذهب الى منزل احد الزملاء أحضر طربوشا “زيادة” حين تبينت أنى نسيت طربوشى حيث لم أجده قابعا فى الحقيبة المهلهلة لزوم الاستعمال الرسمى لدخول المدرسة، (والاستعمال الاستثنائى فى لعب الكرة اذا لم نجد غيره نتقاذفه بأرجلنا ونحن عائدون)، وقد عدت من رحلة ذكرياتى هذه الى أتوبيسنا الصغير وقد سارت معه المسألة حتى أعتاد الطريق، وأنس الى العربات الخوجاتى، واضواء المرور المنضبطة، وخفة ظل الشاطئ ومن عليه، وسعادة الناس بالناس، وقد زاد انطلاقه وخفته، وألفته، بعد أن عملت له الخدمة الدورية (الصيانة) فى محطة قريبة، فاذا به أساس قيادا، واخف خطوا، وأكثر تلقائية، فأعلم أن نصف صعوبات الجبل كانت نتيجة لاغفالى حاجته العميقة لهذه اللمسة الضابطة للتوازن، والدافعة للانسياب السهل، ويلومنى على هذا  الاهمال من أحبوه أكثر، زوجتى وابنتى الكبرى، فأعتذر له ولهم، فيقبل هو، ولا يقبلون هم.

المهم أننا بعد أربع وعشرين ساعة من وصولنا الى مقر المخيم على هذا الشاطئ اعتبرنا أنفسنا فى بيتنا رغم أنف زعم احتكار الناس الفوقيين لهذا “الكوت دازير” – والذى أسميناه شاطئ الزير (“سالم” حتى …) – نعم، آنسناه بما نعرف، فسمح لنا بما نحن، فأين كل هذا الوهم الشائع بتميز رواده الى “فوق الفوق”؟

السبت أول سبتمبر 1984

لكن حادثا حدث، لابد أن يحكى، لدلالاته المتعددة، فقد فرض نفسه على بداية الاقامة على هذا الشاطئ بحيث جعل هذه البداية لا تخلو من غصة لها مذاقها المربثقل خاص، ذلك أنى كنت قد اتفقت مع ابنتى فى الليلة الماضية، أن تمر على فى الصباح الباكر لنذهب الى المطار القريب نستبدل العملة، حيث البنوك العادية مغلقة يوم السبت، واستيقظت كعادتى فى الصباح الباكر جدا، وسحبت أوراقى وكتبى وجلست فى الحديقة الخلفية للموتيل، والمذياع الصغير يؤنسنى بما لا أفهم، والأراجيح الصغيرة البيضاء “الخاصة” تتحرك بهدوء أمام دفع نسيم الصباح الحانى، والدنيا فى أشد حالات الطيبة والتمام، فأجدنى فى أرحب تجليات الحمد والحفز، وحمد الله عندى له طعم خاص، ومقياس خاص، وناتج خاص، اذ لابد أن أجد به ومعه توجها الى فعل مرتبط بكلمة لها حضور واقعى يعد بأثر باق، الى الناس وفى الناس، وحين اتعثر أو أتراخى .. أعرف أنى لست فى حالة حمد حقيقى، بل استرخاء مشبوه، اذ تبطؤ الكتابة – مثلا – حتى أكاد أتوقف، وباستعمال هذا “الترمومتر” الدقيق، يتم الاعتذار وتصدق المراجعة، فيعود القلم يفرز ما ينساب فى مجراه الدقيق، ثم أصبح أنا والقلم والورق واحدا، فتتجه “الأمانة” الى مستقرها، فأقول لنفسى – اقتناعا أو تبريرا – لا شك أنك يا ولد تستأهل “هذا”، ما دمت لا تنسى “هكذا”، ما دمت لا تتوقف للراحة أو تتجنب المخاطرة، فأرضى عنه فيرضى عنى، ويتجسد لى معنى ذلك “الرضا” فيما حمانى – حتى الآن – من العاب الحسابات لغبية والأطماع الخفية، فالغلبة عندى هى شعورى طول الوقت أنى فى “رضا” يجعلنى أغنى الناس قاطبة، بغض النظر عن الامكانيات الحقيقية، ذلك أنى عودت نفسى – مثل المصرى المتمرس على خبطات الزمن – الا “أرجو” ما لا أقدر عليه، والا أحسب أكثر مما فى يدى، وكم كان طيبا يوما ما، بعد تخرجى وزواجى المبكر والحالة شديدة الشدة، أن أذهب كل مساء الى مستوصف شعبى ملحق بجمعية مسجد سيدى نصر ببولاق أمارس فيه التطبيب العام – رغم تخصصى – حديث الكشف شلنا كاملا، لا أنال منه الا ثلاثة قروش (أو أقل)، لتصل الحسبة فى نهاية الليلة الى خمسة عشر قرشا بالتمام (بعد المواصلات والقهوة) – فأفرح بها فرحة المنتصر الكسيب، وأشترى أثناء عودتى رغيفين “ملدنين” من الحجم الكبير، بنصف فرنك، ثم بثلاثة قروش باذنجان مخلل بالشطة، ويتبقى معى عشرة قروش أعود بها الى زوجتى، فنتناول عشاءنا بذلك “الرضا” الخاص، وأشعر أنى قد كسبت فى هذا المشوار ما هو كاف لهذا المطلب .. و … وزيادة، صحيح أنى كنت محتاجا آنئذ لكل دقيقة وأنا أحضر رسالة الدكتوراه، ولكن صحيح أيضا أنى كنت محتاجا للعشرة قروش، ولأن نتناول عشاء ما، وظللت هكذا أتحرك فى منطقة الأمان هذه ما بين امكانياتى واحتياجى المنضبط حتى يومنا هذا، مهما كانت الظروف، وأرجع تاريخ اكتسابى لهذه “الحسبة” الراضية المرضية الى عهد سحيق حين كنت أتدبر أمر التعريفة، مصروفى اليومى، فأشترى من عم جمعة (بجوار المسجد الكبير بزفتا) بمليم دومة وبمليم لب، وبمليم حب العزيز، ليتبقى معى مليمين للظروف والأدوات المكتبية الترفيهية الزائدة، وعندما انتقلنا الى مصر الجديدة، أدخلت نفسى بعد توفير خمسة أشهر متتالية تجربة سرية – وكنت حول الرابعة عشر – لاختبر قدرتى على “ذلك”، فقررت فى هذه السنة (سنة ثالثة ثانوى نظام قديم) أن آكل طول الشهر بذلك المبلغ الذى اقتصدته خلال خمس شهور (كان مائة وخمسين قرشا بالتمام) آكل به لمدة شهر كامل، ثلاثين يوما، وفعلتها دون تفسير، ممتنعا عن الأكل فى منزلنا تحت عجب أمى التى تصورت أنى “زعلان” من شئ ما، أو أحد ما، والدى، أو اخوتى .. الخ، ولا هذا، ولا ذاك كان واردا، ولكنه التجريب والتحدى، ولم أصرح لها ولا لغيرها بطبيعة ما أفعل حتى انقضى الشهر، ونجحت التجربة، وتعمقت معانى الرضا والقدرة معا، ثم يتكرر الموقف بعد ذلك فى فرنسا (“عمرى 35 عاما” سنة 1969) حين أعلم أن بعض العمال الجزائريين قد لا يتحصل آنذاك الا على ثمانمائة فرنك شهريا، يسكن منها، ويرسل بعضها الى ذويه، ويعيش بالباقى، فقلت : كيف ذلك؟ ولم لا أجرب حتى أشارك، وأفهم؟ فقررت أن أعيش شهرا كاملا بمائتى فرنك بما فى ذلك المواصلات (عدا السكن)، وتعلمت من خلال هذه التجربة أن كيلو البطاطس أبا ثلاثين سنتيما لا يفرق عن ذاك أبى اثنين فرنك وستين (وان كنت لم أفهم سر الفرق حتى الآن)، وكان هذا الكيلو (30 سنتيم) يكفينى مسلوقا الوجبتين كاملتين مع بعض الملح والزيت الذين يعتبران من الرصيد الشهرى الدائم – ومن هذا، ومثله، تأكدت قناعتى بأنى أغنى (من الاستغناء) انسان طول الوقت، لأنى أعرف كيف “أترك” وماذا “أرجو”، بالضبط، وحين سترها الله فتوارت المشكلة المادية فى خلفية حياتى (رغم ما ينقض على وعيى أحيانا من عمق آخر، دون أسباب، من تهديد بالموت جوعا، كما ذكرت قبلا) أصبحت مسألة الرضا هذه لا تقتصر على ضبط احتياجاتى فى حدود أدنى من قدراتى الآنية، ذلك أن قدراتى المادية قد تخطت – والحمد الله – كل احتياجاتى الشخصية فى أفق تصورى، فتحورت الحسبة الى البحث عن تناسب يبرر حقى فى هذه المتع التى لا ينالها غيرى، هل هى (المتع) تساعدنى على الاتجاه اليهم لتعميق حقهم فى الرؤية وقدرتهم على السعى ونصيبهم فى العدل؟ أم أنها (المتع) تبعدنى عنهم أتفرج، وأفتى، وأنظر، وأنسى أو أدعى؟ وأجيب مرة بالايجاب على النصف الأول، ومرة بالاعتراف بترجيح النصف الثانى، وثالثة لا أجيب أصلا .. عجزا وترددا … ولكنى لا أنسى أبدا .. للأسف!! .. أو للحذر الواجب!!!

كنت وحدى فى الحديقة الخلفية للموتي : أقرأ، وأخطط، وأعلق، وأكتب، وأحمد، راضيا (بالمعنى السابق) حتى جاءت ابنتى وابنى حسب الميعاد، فوجدانى مستغرقا – كما تعودا – فجلسا الى نفس المائدة وأنا لا أكاد أشعر بهما، ثم أفقت، فلملمت اشيائى بسرعة، واستأذنت أتركها فى الحجرة حيث زوجتى لم تخرج بعد، وعدت مخفيا سخطى من مقاطعتهم لى لما كنت فيه “بالذات” (رغم أنهم حضروا بناء على موعد سابق)، وانطلقنا سراعا فى اتجاه المطار، وهو لا يبعد سوى ثلاثة أو أربعة كيلومترات وما أن قطعنا ما لا يزيد عن مائتى متر حتى تذكرت ابنتى أن كيسها (حافظتها) ليست معها، وكان بها ما جمعت من كل أفراد الرحلة من عملات يريدون تغييرها (ما يربو على الف دولار)، فسألت أخاها معنا ان كان قد أحضر الحافظة (الكيس) من على المنضدة حيث كنت أجلس حالة كونى كاتبا حامدا، فنفى أنه لاحظها أو التقطها أصلا، فطمأنتها أنى أحمل حافظتى الخاصة، وبها ما يكفى للتغيير المطلوب، وأن المشوار لن يستغرق سوى دقائق معدودات، وأننا حتى لو حاولنا الرجوع، ولا سبيل للدوران للخلف، فسوف نستغرق نفس الوقت مارين بالمطار، ومع امتقاع وجهها قلت لها أننا فى بلاد “الامانة” و “الحضارة” (وكنت أعنى ما أقول رغم تجارب نيويورك)(3) ولا أحد سيمد يده لما ليس له فى حديقة خلفية لموتيل محترم، وأنى (هكذا سحبت من لسانى كالعادة) مسئول عن ذلك.

رحنا، وعدنا، عدوا وفرط سرعة، وكأن الأتوبيس وفتاة البنك قد تفهما موقفنا دون أن ننبس ببنت شفة، فتم كل شئ بسرعة رائعة، لكن مائدة أخذت الكيس مع كتبى وأوراقى، اذ لماذا أتركه دون سواه؟ فنبهتنى زوجتى – وأنا أبحث فى الحجرة وأسألها – أنى عادة لا أهتم الا بهذه الكتب والاوراق دون غيرها، مهما كان مهما، وفى كل الظروف، فأظهرت رفضى لهذا الاتهام، لكننى صدقتها من عمق آخر، المهم أننا لم نجد الحافظة، وهنا بدأت سلسلة من الأحداث والمعلومات أفهمتنى ما لم يكن ليخطر على بالى :

فقد ذهبنا الى صاحبة الموتيل (النمرة العانس) فسألتها، ففزعت فزعا مهينا مناسبا، وبرأت نفسها وادارتها ابتداء، وأن هذه مسئوليتنا وما شابه، وبعد أن أطمأنت الى فهمنا حدود حقوقنا، وأننا “نسأل” لا “نطالب”، سألتنا : هل معنا بوليصة التأمين؟ أو نحفظ رقمها؟، وقلت لنفسى فى تعجب: تأمين؟ تأمين ماذا؟ على ماذا؟ ولم أكن قد نسيت بعد حكاية تأمين السيارة وملحقاتها فى سان فرانسيسكو(4)، نؤمن بنقود على نقود؟ ما أصعب هذه المدنية واجراءاتها، ولم أحاول أن أرد، ولم تحاول أن تسمع، وبدأنا رحلة البحث والتقصى والتعلم والدهشة، جاءت الخادم التونسية (وقد كنت احسبها جزائرية حسب العادة، ولا فرق فى هذه الظروف فى هذه المهن) جاءت، وانزعجت، وأقسمت بطريقة مصرية مألوفه فقفز الشك الى عقلى بطريقة بشعة (وقلت “أقسمت؟ جاءها الفرج!”) ثم تمادت فظلت تبكى (قلت : احتياطيا!!)، ثم راحت تجرى الى حجرتها تجلب اشياءها، وملابسها الأخرى بما فى ذلك الملابس الداخلية والروافع والجوارب، وتنثرها أمامنا بطريقة متشنجة، وتطلب منا تفتيشها، فرجحت يقينا بعد هذه المسرحية (هكذا متحمسة أبلغ الحماس، مقسمة أغلظ الأيمان، نائحة اعلى النواح، بريئة حتى الشعور بكل هذا الذنب!!، وأخذت أؤكد لزوجتى أنى أقبل أن تأخذ ما أخذت، لكنى أعترض على محاولتها استغفالنا “هكذا”، اذ لو أنها سرقت الحافظة، فكيف ستحضرها لنا ضمن أشيائها وملابسها هذه تعرضها علينا بنفسها لنفتشها (فنجدها!!)، أنها ليست فقط سارقة، وانما هى متذاكية تثير الغيظ والنفور معا، قلت ذلك وأنا أعد نفسى للاستسلام لما حدث اذ لا جدوى من اضاعة الوقت فى ما لا طائل وراءه مما أعرف نتيجته مقدما، وتذكرت انسحاب لسانى حين أعلنت مسئوليتى لابنتى عن هذا الاهمال الذى لا ذنب لى فيه، اعتمادا على ثقتى بأمانة المكان والخواجات، فبادرت باعطائها قيمة المبلغ الضائع الا قليلا، وخاصة وأنه لم يكن مبلغها وحدها بل حصيلة ما أراد بقية الأولاد أن يستبدلوه، وحسبت أنى بذلك أختصر الحادث الى خسارة مادية لحقت بى شخصيا، محاولا بذلك تجنب افساد الرحلة وتعكير الجو العام، لكن الغريب بعد كل ذلك أن ابنتى زادت – بالتعويض – ضيقا وخجلا، وجعلت تساومنى أن تتحمل النصف أو حول ذلك (مع أن هذا النصف هو كل ميزانيتها المستقلة طول الرحلة)، وكلما رفضت، تكثف أساها أكثر…

يا لهذه النقود مرتبطة بهذه المشاعر، أعوذ بالله، المهم عدت الى اتهامى للمرأة التونسية (حول الثلاثين، شديدة النشاط، وابنتها الوحيدة فى الخامسة تلعب فى الحديقة)، وأخذت أبحث فى نفسى عن سبب اصرارى على موقفى هذا بهذه الصورة، فاكتشفت أنه ينبع من خبرتى حول ما سمعته عن الجزائريين فى باريس، ولكنى اكتشفت أكثر من ذلك، أن هذا يرجع الى احتقارى – ضمنيا – لذاتى وأهلى دون أن أدرى، وهذا وذاك متضمن فى حماسى الاسبق لتبرئة الخواجات أصلا وتماما، وملأنى هذا الاكتشاف غيظا، سواء صدق تفسيرى (أى دونية!!) أم أخطأ (أى غباء!!)!! وظلت المرأة التونسية تروح وتجئ، وشكى يزداد فيها فأقول لزوجتى المترددة فى موافقتى على طول الخط “ابعدى عنى هذه المرأة بكلامها العربى المكسر، حتى لا أكره نفسى أكثر”، ولا فائدة، ويكاد المريب يقول خذونى، فتحضر لنا ابنتها، وان شا الله أعدمها ان كنت أخذت حاجة، ثم تعود بعد دقائق تسألنا هيه؟ هل وجدتموها؟” وكأننا سنجدها فى خلال هذه الدقائق “هكذا”، ويزداد غيظى حتى أقدم على ما كنت أفضل الا أقدم عليه، ذلك أنى كنت حريصا على ستر هذه الخادم حتى لو كانت هى السارقة، فمهما كانت الخسارة، فهى من دمى، وربما هى أولى بالنقود حقيقة وفعلا من أولادى، لكن أصرارها واستفزازها وتذاكيها أثارونى حتى اندفعت الى صاحبة الموتيل استفسر عن سلوك هذه الخادم، فجعلت المرأة تجزم بأمانتا طوال مدة خدمتها، وأ، صفحتها بيضاء من غير سوء، بل أنها تثق فيها أكثر من زميلتها الانجليزية، “زميلتها من؟” “الانجليزية؟!” أين هى، ولم أكن قد لاحظت أن لها زميلة انجليزية، صحيح أن ثمة فتاة شقراء رقيقة نحيفة، حول الخامسة والعشرين، تفعل مثلما تفعل التونسية، تذهب، وتجئ، وتنظف، وتسوى، نعم هو هو، نفس العمل، لكنى لم أتصور أنها خادم أصلا، فضلا عن أن تكون انجليزية (!!) واكتشف فى نفسى أنى مقهور من داخل الداخل، لأن نفس العمل (نفس العمل!!) اذا قامت به امرأة عربية سمى “خدمة”، وسميت هى خادما، فاذا قامت به انجليزية سمى “رعاية” أو “مشاركة” أو ما شابه من أسماء جديدة رقيقة، ثم من أين لى أن أعرف انجليزية، وكيف أفترض ذلك، لقد رجحت – على أحسن الفروض – أنها فرنسية، وأنها – لست أدرى لماذا – قريبة صاحبة الفندق، وكأنى بذلك أوهم نفسى أنها ليست خادمة مرتزقة وانما هى تساعد قريبتها شهامة (جدعنة)، ثم لماذا انجليزية؟ وما الذى يجعل امرأة انجليزية “محترمة” و … ، وشقراء، تتكلم بالانجليزية دون أن تخطى فى الاجرومية، ما الذى يجعلها تأتى لتخدم امرأة فرنسية فى أقصى الجنوب هكذا؟ أهى آثار بطالة مسز تاتشر؟ أم أن الحال انقلب دون أن أدرى؟ … الخ، المهم انى فرحت بشهادة صاحبة الموتيل لصالح التونسية بالمقارنة بأمانة الانجليزية، ورغم ذلك فلم تنتقل شكوكى الى الأخرى، ولو لتؤكد تلك الفرحة المزعومة، وتحتار زوجتى فى منطقى هذا، ويظهر فى الصورة زوج صاحبة الموتيل وبسبب اصرارى على انها عانس، أتصوره زوجا مع ايقاف التنفيذ، فيمارس دورا جديدا لم أفهمه الا بعد مدة، فقد نادانى، وأخذ منى تفاصيل التفاصيل باهتمام بالغ، تعجبت له حتى أحسست أنى أمام هواة التقصى البوليس السرى، وذكرتنى نظراته وما يسجله فى مفكرة صغيرة معه بالمخبر هيركيول بوارو صديق أجاثا كريستى شخصيا، والذى تعرفت عليه مؤخرا بمحض الصدفة، ففى ذات صيف، منذ حوالى أربع سنوات، تأخرت الصحف، فصعب على قضاء حاجتى الروتينية الصباحية، وكان أحد أولادى قد ترك “هناك” قصة لأجاثا كريستى حيث تساعد القراءة حركة الوظائف البيولوجية، فأمسكتها مضطرا فاستغرقتنى حتى “سهلها” الله على، وكان قد مضى على آخر قصة بوليسية قرأتها أكثر من ربع قرن، واذا بى اكتشف أن فى مثل هذه القصص شيئا آخر غير التفاهة، وألعاب الحذق واعلان أن الجريمة لا تفيد، ومضيت فى التجربة ملتهما القصة وراء الأخرى عالما بنهاية بعضها مثل بدايتها، حتى تعرفت على ذلك المستوى الآخر من النشاط العقلى الضرورى لكل من يدعى الجدية والعمق، اكتشفت أن عقلى يحتاج الى قدر من ذلك “الكريستى” باعتباره “ما ليس كذلك”، عقلى يحتاج الى قدر من ذلك “الكريستى” باعتباره، “ما ليس كذلك”، ما ليس جادا محكما، أو عميقا منضبطا، نعم اكتشفت حاجتنا الى ما نسميه “الكلام الفارغ” أو “السطحى” أو “التافه”، ليوازن تلك الجرعة الأعمق من الابداع القلق، حيث اعتبرته نوعا من الاسترخاء العقلى النشط، كما آنسنى أن أشارك عددا هائلا من البشر فى مستوى آخر من متعة القراءة العابرة، التافهة حتما، وفيا لعظم التفاهة وضرورة المشاركة، وأنا أحب أن أؤكد على كلمة “المشاركة” هنا فى مقابل كلمة “الفرجة”، حيث أنى أنتمى الى منهج فى المعرفة لما هو انسان، وما هو أنا، لا يعلى كثيرا من قيمة الرصد الخارجى للسلوك، ولا يوجد عمل تصورت أنى أعرفه، ثم اختبرته، الا وأكتشف أنى لم أكن أعرفه، يستوى فى ذلك وقفتى أتناول أفطارى (5) (حتى الآن) علىعربة يد محاطة بعمال يومية فى طريقهم الى عملهم، (يا عم حسن، شوية بعشرة، شوية حار، يا بوعلى : خمسة فلافل، زود الشطة وحياة والدك، “والخبز مؤخرا لم يعد يحسب بالرغيف”) يستوى ذلك مع محاولتى الامساك بالفأس عددا من الساعات المتصلة، (وليس لمجرد وضع حجر الأساس!!) – أقول أنى دائما أخرج بطعم آخر من المشاركة دون الفرجة، وأتصور أن المثقف سيظل “مثقفا جدا”، وفقط، بالمعنى المغترب أبدا، ما لم يعرق أياما متتالية، فى علاقة مباشرة مع عمل جسدى (لا يدوى)(6) ، وحين قرأت أجاثا كريستى مؤخرا، وشعرت بهذا المستوى المشارك مع عقول سريعة ذكية ومحددة الهدف أنست حتى لم أعد “أتهم”، وتمتعت بحقى فى التفاهة الرائعة، بقدر متعتى بحقى فى العمق القلق، وبين حصافة هوكيول بواردو، وأضحك فى سرى، وينصحنى الزوج المخبر السرى بألا يثنينى ابلاغ البوليس واستلام المبلغ عن مواصلة السعى لاكتشاف السارق وتعرية الحقيقة (يا سلام!!!)، استلام ماذا؟ المبلغ؟ دون ضبط السارق؟ كيف؟ هل السارق هنا فى بلاد الخوجات يوصل ما يسرق الى البوليس أولا بأول، ويأخذ نسبته، وينصرف؟ وحين استفسرت فهمت، ثم تيقنت فى قسم البوليس، أن ذلك أنما يعنى أن رجال الشرطة – بموجب بوليصة التأمين على الرحلة – عليهم أن يعوضونى فورا، ثم يحاسبون هم شركة التأمين حتى لا ينغص الحادث رحلتى أو يعوقها، كذا؟ كذا؟ لكنى ياعم “بوارو” أنا لم أؤمن على الرحلة، ولا على شئ، ولن أفعل الا مجبرا، بل أن نصيحة أصدقائى السابقين بأن استبدل بنقودى شيكات سياحية لم ترق لى أصلا، فأنا لا أفهم هذه المعاملات الحديثة أبدا، مهما بدت منطقية، بل أن استعمال الشيكات لا يدخل فى حياتى أصلا من باب أنى لا أحترم الا النقود الصاحية، وحين علمت قديما أن ما نحمل من جنيهات ليست الا سندا على البنك أو الحكومة فزعت حتى رفع هذا الشعار والحمد الله، فاعتبرت النقود نقودا، وكثيرا ما تصورت – حتى الآن – أن ملعوبا ما يتم حتى يفصلنا عن القيمة الحقيقية للنقود والأشياء فننسى، فنظل عبيدا لأوراق وهمية، قال ورقة قال : أكتب عليها رقما، وأوقع، فتصير نقودا، لا ياعم، هذا ملعوب لن أستدرج اليه لأظل أعرف حقيقة ما أفعل، وهدفه، ومقابله، بقدر ما يمكن، أما حكاية التأمين فقد أوضحت موقفى منها فى الفصل السابق، لكنى أظن أنى تبينت عمقا آخر فى هذه اللعبة – لعبة التأمين – بعد هذا الحادث، اذ تيقنت أن وظيفة التأمين “هكذا” قد تساعد بشكل ما على السرقة، فالكل مستفيد بشكل أو بآخر، أولا : من سرق النقود سيصرفها بأقل درجة من الشعور بالذنب، لأنه ضامن أن شركة التأمين ستعوض صاحبها، وفورا،وثانيا : ومن فقد النقود سيستردها بمجرد محضر بوليس وثالثا والبوليس سيرتاح باله لأنه لن يشعر بالتزام ملح للبحث عن السارق ما دامت النقود قد عادت الى محافظها سالمة ورابعا : وشركات التأمين تكسب فى كل الأحوال، اذ أن عدد السرقات (حتى وادعاء السرقة) لن يفوق بحال من الأحوال مجموع المبالغ المؤمن بها من الكافة، وحين يفوق، بسيطة، ترفع الشركات فئة التأمين من واقع الاحصاء والمستندات، (يا حلاوة!!) تشجيع هو على السرقة اذن!! تحت عنوان التأمين والذى منه، بل أنه قد خطر ببالى أن من مصلحة هذه الشركات أن نزيد السرقات قليلا، وأن يتحدث عنها الناس كثيرا، فيزيد عدد المؤمنين حتما، “…. فأزداد أنا تمسكا بموقفى يا كل هؤلاء”، فأنا لا أعرف لى تأمبنا الا فى استمرارى فى العمل، وفى قدرتى على اليقظة، وكل ما عدا ذلك، باطل ..، وفى حوزة قوى لا أدركها، فاذا هددنى العجز – وهو قادم لا محالة – فلابد أن ثمة قانونا – طبيعيا – سيحمينى حتى أقضى، واذا لم يحمنى هذا القانون الطبيعى، فلابد أن عدم الحماية هذا هو من طبيعة هذا القانون (الا يحمينى أحد أو شئ حين يحل دورى) – وقد يكون لزاما على من يريد أن تكتمل دوائره أن يمر بخبرة العجز هذه!! وأنا أعلم علم اليقين أن هذا التفكير خاطئ خاطئ بلغة العصر والحسابات الدنيا، ومستعد أن أدبج فى ذلك المقال تلو المقال أهاجم فيه هذه القدرية والتخلف، ورغم ذلك فهذا هو وجدانى حتى الآن، “كلام فارغ؟” طبعا -، “شخصى؟” جدا -، “غير حضارى”؟ جائز، ولكن هذا هو أنا يا أخى، اذ كيف يكون للحياة طعمها المتجدد المدهش اذا أصبح كل شئ محسوبا ومؤمنا عليه يا خلق هوه، طبعا أنا أتكلم فى خلو بلادى، وأعتمد فى قرارة نفسى على “تلقائية ضمان التواج البشرى معا”، أكثر من اعتمادى على الاحصاء والتخطيط وحسابات الكمبيوتر وتباعد المسافات بين البشر فى التعامل المباشر، وأعلم أنى أعارض ببدائيتى هذه كل انجازات العلم الحسابى فى تنظيم هذا “التواجد معا” بالتأمين والقانون وما شابه، لكن كل ذلك لا يسمح لى بأن أتصور الا أن هذه التنظيمات الخارجية (مثل التأمين والقانون) لا ينبغى أن تكون أكثر من عوامل مساعدة لتأمين طبيعى وقوانين داخلية أعمق، لكن أن يحل الخارج الملموس – مهما بلغت دقته – محل الداخل المتوكل، مهما بلغت عشوائيته، فهذا هو الخطر الأكبر، نعم، لم يمنعنى اقتناعى الحسابى بأهمية التعاملات العصرية من أن أتصور أنه : حين حلت الادارات واللوائح محل العلاقات المباشرة والعقود غير المكتوبة بين الناس : بين صاحب المال والعامل، بين الرئيس والشعب، بين البنك والعميل حين تم هذا الاحلال فى درجته القصوى،فسدت الطبيعة البشرية فتوارت الشهامة اعتمادا على بوليس النجدة، وتضاءل حق ابن السبيل اعتمادا على الشيكات السياحية، وتوارى واجبنا نحو المسن اعتمادا على بيوت الشيخوخة، وكثرت الحوادت والسرقات اعتمادا على شركات التأمين، وأجدنى وحيدا أتخبط فى انحناءات مقاومتى لانجازات العصر، مع يقينى بهزيمتى الحتمية فى النهاية، فنتيجة هذه المقاومة هى دائما فى غير صالح أفكارى، حيث انساق فى النهاية، مثل كل فرد متخلف (ولو بارادته)، الى أن يرمينى لى المر (المعاملات العصرية) ما هو أمر منه (الخوف والوحدة وضعف الأخلاق)، أين السبب؟ وأين النتيجة؟ ويزداد يقينى من أن صاحب المال، وصاحب السلطة هو الذى فسد أولا، فاضطر العامل والتابع والمستخدم أن يحموا أنفسهم من فساده بهذا الفساد اللوائحى التأميناتى، ولا سبيل لعدل الأوضاع بالنصح والارشاد، أو بالأمان لمن لم يعد يأمن على نفسه حتى من نفسه، ولكن ليس معنى كل هذا أن اضطر للموافقة على الجارى حتى أساهم فى التصفيق لميزات نظم لا تعلن الا مدى تدهورنا الخلقى والانسانى، حتى لا يعود يحمينا من بعضنا البعض الا دخول شركات التأمين المرتزقة طرفا ثالثا، ويا ليته طرف يرسى العدل، لكنه طرف يوزع التعويضات كالمخدرات حتى نلتفت الى ما فقدنا من مال، أكثر مما نلتفت الى ما فقدنا من خلاق، وكأنى بهذه الشركات توحى لنا بأن “اكسر .. ولا يهمك” “اكسر ونحن (الشركات) نصلح”، فيختفى العامل المشترك الأعظم الذى يشتمل النغمة البشرية جمعاء فى توجيهها اليه، يختفى “روح منك لله” الى “روح منك الشركات التأمين”، ويختفى “من أخذ الأجرة حاسب الله على العمل” ليحل محله “من أخذ الأجرة حاسب المعاشات على نسبة الخصم”، نظم أحدث وأضمن (هكذا يقولون)، ولكن على حساب ماذا؟ وحساب من؟.

وسوف تعلمون نبأه بعد حين.

والذين يعلون من شأن الحضارة الغربية أو الشرقية المادية بما تعنيه التأمينات الاجتماعية أو الانضباط القوانينى الاشتراكى، لابد وأنهم يئسوا من الطبيعة البشرية لدرجة أنهم أكتفوا بأن تحل الدولة والشركات محل الضمير والبصيرة والله ولكنى أظن أن هذا الحل الأسلم ظاهريا (القانون والتأمين) اذا ما أعفى الانسان من مسئوليته الفردية الداخلية فانه حل مؤقت لا عمر له مهما بدا علاجا ناجعا أو مسكنا طيبا، ذلك أنه متى تأكد وترسخ الردع من الخارج تماما، بدأ التحليل عليه يتصاعد حتى يفشله، وكل مظاهر الارهاب الآن على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول هى انذارات متلاحقة تعلن فشل هذا “الحل الخارجى” ان آجلا أو عاجلا، وعندما كنت أسير فى شوارع نيويورك غير آمن على أى شئ، أى شئ، كنت أشعر أنى فى بلد متخلف قبيح بالمقارنة الى الرقى الرائع فى بلدى الفقير المنهك، حيث تسير ابنتى ليلا فى شوارع المقطم(7) دون هذا الرعب المشل، حتى بعد حكايات الخطف الأخيرة فهى نادرة رغم أنف كل الصحف، وقد شعرت هناك (فى نيويورك) أن العلاقات قد تدهورت حتى ساد قانون حيوانى يخضع للفعل المنعكس المباشر بلا ردع أو ترابط مانع أصلا، فقد دعوت أحد طلبتى على سندوتش “ماك الكبير” وكنت سأسافر فى صباح اليوم التالى، وعند الدفع لم أجد معى الا ورقة بمائة دولار -، ولم يكن فى المحل فكة، والساعة الحادية عشر، فبادر زميلى الأصغر بالدفع رغم أنه هو المدعو، فخجلت خجلا كبيرا، فأصررت أثناء عودتنا أن أعطيه المائة دولار – يبقيها معه ويصبح هو مدينا بالباقى بدلا من العكس، وكنا فى الشارع، وكانت الساعة بعد الحادية عشرة مساء، فاذا به يفزع ويقول لى وهو يخفى الورقة فى جيبى بسرعة أن هذا تصرف خطير، لأن مجرد “رؤية” منظر “نقود ما” فى يد أحد، يستهوى القناصة من أى زاوية أو ناصية أو مدخل بيت، يا خبر!! 1984، فى بلاد الفن والحضارة والفضاء والتأمين والتكنولوجيا، يختفى الأمان منها متى ظهر “منظر النقود” فى مرمى البصر، ثم يقولون قانون وتأمين وادخار؟… بل و … و…..، وحضارة؟ وفى بوسطن نزلت فى فندق متوسط (هوليداى ان) بالقرب من أشهر وأقدر مستشفى أمريكى عام “ماس جنرال”، ولأن الداعى كان من عائلة “شمج” (اختصار “شخص” “مهم” “جدا”، ويقولون عنه بالانجليزية V.I.P. اختصار لــ (Very Important Person) ، فقد اعتبرونى وزوجتى شمجيين أيضا، فنزلنا فى دور خاص، لا يصعد اليه المصعد الا بمفتاح خاص، قلت يا سلام على الأمان، وأخذت أشفق على غير “الشمجيين” ممن قد ينعرضون فى الفندق للسرقة والسطو، أما نحن؟ فايش أوصل اللص لسر المفتاح؟، وكنت اذا صعدت المصعد وضغط “العامة” على أزرارهم، فأخرج مفتاحى الخاص لألوى به الزر الخاص، ينظر الى العامة فى ما يشبه الاحترام الخاص (ولا أقول الحقد الخاص، لأنى لم أكن قد تعرفت على معنى الحقد الخوجانى على أمثالى) – وكان من ضمن الحفاوة بالشمجيين فى هذا الدور، أن ثمة بوفيه مركزى وسط الدور، فيه خدمة مجانية دائمة طول الوقت وتليفزيون كبير ثابت راسخ (قطعة موبيليا فخيمة)، وأشياء صعبة على فهمى كنت أخشى استعمالها كذا أو كذا، وان كنت أسعد بتأمل زملائى الشمجيين وهم يتعاملون معها برقة ومهارة فائقتين، وذات صباح، ذهبت أتناول بعض العصير قبل استيقاظ علية الشمجيين، فاذا بى أفتقد التليفزيون، فحسبت أنه ذهب للصيانة أو الاصلاح، وخجلت من السؤال فتكفى الموسيقى الداخلية، والوجه الحسن، ولكنى علمت بعد قليل أن التليفزيون (الموبيليا) الضخم الفخم قد سرق شخصيا رغم أنف كل الاحتياطات والمفاتيح الخاصة .. الخ.

يا صلاة النبى !! تعيش أمريكا العليا.

ثم أذكر أول يوم نزلت فيه نيويورك (أحد أيام أغسطس 83) اذ رحت أنطلق سيرا على الأقدام – كالعادة – مع اثنين من قاطنيها من زملائى الأصغر، لنرى كل ما ليس كذلك، خلال جولة جاوزت الست ساعات، رأينا فيها كل المدينة وكل تحدياتها من بائعى الهيرويين على الأرصفة، الى لاعبى الثلاث ورقات، الى رجال البوليس يرقبون من بعيد، ولا أفهم سلبيتهم، وأفترض وأفترض، وأسمع عن نظام الأتاوات الشهرية وحمايات المافيا، ووظيفة الناضورجية، ونقترب من شارع برودواى وشارع 42 الشهير، واذا بهرج كبير، وجرى كثير، وسواد ضاغط، فأسأل مضيفى ومرشدى ما هذا، فيقول لست أدرى، لم أعتد مثل ذلك، حتى فى هذا الحى الشهير، وان كنت لا أستبعد شيئا، تذكر عنادى الا أتعامل مع الأوراق وانما مع النقود الصاحية)، ويتدفق النهر الأسود كفيضان بماغت، فتهدينى قرون استشعارى أن أخطف الحقيبة من زوجتى وأنتقل بسرعة وهدوء الى الجانب الآخر تاركا زميلينا وسط الفيضان الأسود، ويتجنبنى التيار بالصدفة على بعد أمتار، ولكنى المح الجارى على الوجوه التى كانت الأيدى التابعة لها تحمل أشياء قبل الاغارة، ثم أنحسر عنها الفيضان الأسود، فاذا بها خالية الوفاض، اذن فقد نفذت بجلدى بالصدفة البحتة، ثم اسمع أصوات النجدة والبوليس وكأنها تحيى الزفة الفيضانية السوداء، لا تواجهها، والاسم: “أمن واجب”، ولا نعرف تماما ما هىالحكاية؟ ولكننا نقرأ فى اليوم التالى فى الصحف أن نيويورك قد تم “احتياجها” بما لم يتكرر منذ انقطاع الكهرباء فى الستينات ذات ليلة، ذلك أن المغنية الزنجية ديانا روس كانت تحيى حفلة (مجانية علىما أظن) فى الحديقة المركزية central Parkفى نيويورك، وكان بنو جنسها من السود يحيونها اطيب التحية بالشرب والرقص والتصفيق، فامتلأت الحديقة (فدادين عددا) بهذا السواد الأعظم، حتى اذا ما انتهى الحفل وكانت الجموع قد انتشت تماما، فالتحمت فى كتلة واحدة هادرة، ثم انطلق الفيضان يجتاح الشوارع اجتياحا ليخطف، ويصدم، ويؤذى بلا تمييز، انتقاما لظلم وقع، أو ظلم واقع لم يرفعه القانون ولا التأمين، .. ولا شئ، يا سلام سلم!! اذن “فهذا هو”.

غير ان هذا لا يعنى أنى أنكر اطلاقا شهامة كثيرين من الخواجات ومبادراتهم الطيبة التى أشرت اليها فى أكثر من موقع فى هذه الرحلة، لكن ثمة فئة فاض بها الكيل، وثمة نظاما ينسحب يكاد يعفى الانسان من انسانيته بفضل الاعتماد المطلق على قوانين الخارج، ولابد من الانتباه انى الدلالات السلبية لهذا النظام الخارجى، وتلك الدلالات التى نعلنها فى هذه الصور من العنف والنهب والاغارة، أما الشهامة والطيبة والنخوة الخوجاتى فهى دائما فى متناول من يريد ألا يسرع بتعميم الأحكام.

ومن ذلك أن أحد نزلاء الموتيل حيث فقدنا الكيس ظهر فجأة ليتبرع مشكورا بشهادة مفصلة، ويتبرع أن يذهب مع ابنتى الى البوليس فيضيع ساعات بأكملها، لعلها هى كل ما أعده للفسحة هو وزوجته فى هذا اليوم فى هذا المكان، فيذكر أنه رأى ابنة نزيلين غادرا الموتيل هذا الصباح، رآها (5 سنوات) وهى تتناول الكيس الجلدى من على المنضدة، وأنه عليه وصفا دقيقا لم نكن نعلمه لا أنا ولا صاحبته (ابنتى) شخصيا، رغم أن رؤيته لكل ذلك قد تمت من شرفة الدور الثانى، وكان شابا طيبا رائع الملاحظة واضح المنطق سلس الترابط، وأحسست لتوى بالدش البارد يكاد يغطينى من خارج ومن داخل حتى لا أكاد أرى أو أفكر، بل أن صدرى ضاق بى حتى ثقل تنفسى خجلا وخزيا من سابق أفكارى نحو التونسية بالذات، وحاولت أن أتجنب نظرات زوجتى العاتبة تؤاخذنى على حماسى العدوانى الذى أصر على اتهام المرأة التونسية، ولم أستطع أن أفصل فرحتى ببراءة مظلوم من اختلاطها بهذا الكم من الخزى والشعور بالذنب صحيح أنى تجنبت أن أوجه أى اتهام مباشر لبنت العم، لكن داخلى أنا أدرى به، ولا جدوى من أنكار دلالات ظنى وحدته ويقينه، وقد طردت كل فكرة أعتذار أو هدية تعويض لأنى أحسست أنها ستزيد من الاهانة، لكن عندك، لقد شاركتنى هذه المرأة اتهامها لنفسها بفرط دفاعها العصبى الغريب، اذن فأنا لم أتهمها وانما أتهمت نفسى، بنفس القدر الذى اتهمت هى به نفسها، والا فلماذا لم نفعل زميلتها “الانجليزية” مثلها؟، اذن، فأنا، وهى، والاستعمار، والدونية شركاء فى “احتقارنا”، فأخذت أمسح وجهى وأنفض سروالى(8)

وقد حركت هذه الشهامة التلقائية شهية المخبر الهاوى السيد بوارو، فأخذ يعيد سلسلة الأحداث، واستشارة الأوراق، فيكتشف ان والدى الطفلة من مارسيليا، وأن سيارتهما فولكس فاجن، وأنه لا يعرف رقمها (!! اذن ماذا؟) ثم يسب أهل مارسيليا مرة، والنزلاء الطيارى مرة، وبدأت أضيق حين جاءنى يتسحب وعينيه تتلفتان يمينا ويسارا ثم يهمس لى، وكان احدا سوف يسمعنا، قائلا : أنه أحيانا ما يجد الأطفال شيئا ثم يلقونه هنا أو هناك، اهمالا أو خوفا من قادم، وان ذلك يعنى أن الكيس قد يكون ملقى فى أحد جوانب الحديقة، وامتلأت غيظا على غيظ، فقد كنت قد أنست الى اليأس، ورضيت بالاعتذار لما ألحقه فكرى ببرئ، وقلبت الصفحة نهائيا، وحين قلت له – ردا على اغاظته – أن يقوم عنى بهذا البحث فى الحديقة، مط شفتيه، وجعل ينبهنى ألا أسكت!! فجعلت أسأله : أليسا فرنسيين هذين المارسيليين؟ أم أن مارسيليا فى قارة أخرى؟ قال، نعم هما كذلك، فأبديت عجبى من مستوى الخلق الفرنسى الذى يسمح لعائلة فى سياحة أو أجازة أن تأخذ ما ليس لها بما يفسد خلق طفلتهما فى هذه السن، وكان أولى بهما أن يسلماها لربة الدار، أو يكتشفا من النقوش الفرعونية أو الأوراق العربية أن صاحبها نزيل مصرى أو عربى، واذا بالسيد بوارو العجيب يضحك حتى يكاد يستلقى، ثم ينفخ الهواء من بين شفتين مضمومتين، ويحرك حاجبيه فى امتعاض ساخر ليقول بكل هذه اللغات أنه “كان زمان” “بلا فرنسى بلا دياولو”!! كلهم لصوص، قالها وكأنه يوصينى ألا أثق فى خواجه، والا أحمل نقودا، ولا أصدق زميل طريق، وألا … وألا…، ما هذا يا سيدى؟ سياحة هذه أم لعبة عسس ولصوص (عسكر وحرامية)؟ ملعون أبو هذه حضارة وتقدم اذا كانت نهايتها أن نسير نتلفت حولنا هكذا، وأن نودع ضمائرنا وعلاقاتنا فى أدراج البنوك وملفات شركات التأمين، رفضت كل هذا، وأخذت أسترجع من جديد ما سبق أن خبرته من ضروب الشهامة الخوجاتية، من ارشاد هادئ، الى تعاون مخيماتى..، الى بسمة حقيقية، فمنعت نفسى أن أتمادى – مثل بوارو – فى السخط والتعميم لمجرد حادث سرقة عابر، شاركت شخصيا باهمالى فىحدوثه، ولكن الغصة ظلت تذكرنى وأنا أبلعها بأنه .. “ولو”.

…………….

……………

وفى المساء يفاجئنا الأولاد بدعوة تعويضية على العشاء حيث يخيمون، وقد أعدوا الحساء بطريقة أخرى، ثم “سبكوا”  المكرونة، وصنفوا سلاطة الفواكه، ويصرون ألا ندفع نصيبنا فى العشاء، لا زوجتى ولا شخصى (كان نصيب كل منا ثلاثة دولارات لا أكثر) وكفى ما دفعناه بعد الحادث، وسررنا بهذه المبادرة الدالة سرورا خاصا وحمدنا الله حمدا كثيرا، ثم أفاجأ بابنتى – صاحبة الكيس – تقول وكأنها تعلن قرارا حاسما أنها : “… لا … لن أهاجر”، ولم أستطع أن أتذكر لأول وهلة متى حدثتنى ابنة العشرين هذه عن هجرتها، ولا أين، قلت لها أن “الطيب أحسن”، ولكن ماذا غير رأيك؟ (بحسب أنها أعلنت قرارها بالنفى)، قالت “هذه السفالة، أولاد الــ “ماذا” ألا يشعرون ..؟ لنفرض أن حضرتك لم تكن معنا .. أو أنك لم يكن معك .. ألا يتصورون ماذا يعنى أخذ أكثر من ألف دولار من حافظة صغيرة لمجموعة صغيرة مثلنا؟ فشعرت بألمها، وفرحت له أن نبهها لخطورة استسهال القرارات والأحكام، وتذكرت حينذاك فقط متى ذكرت ابنتى هذه موضوع الهجرة من قبل، كان ذلك حين اشتدت بنا النظافة ومظاهر الاحترام والانضباط فى أكثر من مكان ومناسبة، وقارنت هى ذلك بعكسه عندنا، فى أكثر من مكان ومناسبة أيضا، وقد كان ردى دائما على هذا الشباب المتحفز لترك الجمل بما حمل “أنه اذا كانت بلدنا سيئة، فلنبق لنصلحها، أم أننا سنقوم باستيراد مواطنين صالحين جاهزين لذلك، واذا كانت حسنة، فلماذا نتركها؟”

ويبدو منطقى سليما، لكنى لا أتحمس له، وأهمس لنفسى متعمدا ألا أسمعنى، حتى أنا، أهمس فى تسحب : وأنت؟ متى تتركها؟ فأجيب : حين يخنقون الكلمة فى صدرى فلا أستطيع أن أساهم بما أدرى، ويلسعنى كسوط خفى ذلك الجواب السريع، لأعترف مرغما أن هذا استسهال أخبث، فأتوقف عن النصح والارشاد، وأحمد الله على السرقة وآثارها.

وأعود أختبر قدراتى فى مواجهة كل هذا، وكأنى مسئول وحدى عن تعديل الكون، وارساء قواعد حضارة جديدة تستوعب كل هذه الحضارة المادية وتتجاوزها، لكن هذه الحضارة (المادية : شرقا وغربا) قد شاخت واستتبت فى نفس الوقت، فأتعجب لتراخينا فى مواجهتها، والألعن أن نواجهها بأن نكون الوجه الأقبح لها .. تحت عناوين دينية خالية من كل تكامل متجاوز، نعم، لقد نفخت هذه الحضارة فيما هو انسان “فردى”، أو انسان “نظام مستقل”، حتى امتلأ غرورا فانفصل عن تاريخه من ناحية، وعن الكون المحيط من ناحية أخرى، ثم انتبه جزئيا الى موقفه المهدد من بنى جنسه، فذهب “يفبرك” القواعد التى ظن أنها تحميه من نفسه، ومن أخيه الانسان، فظهر ما يسمى حقوق الانسان، والقانون، والتأمين، ولم يعد أحد يستطيع أن “يقول”، وأن “يتصاعد”، وأن “يتجاوز” مطمئنا الى مسيرته المعرفية الذاتية الملهمة، اللهم الا كنغمات غير متصلة فى مجالات الابداع الفنى والأدبى، نغمات متباعدة لا تنتظم فى لحن حياتى شامل، ويزداد يقينى أن ما فعلته شركات التأمين من حفر الى السرقة (بضمان تعويض المسروق ومكسب السارق) وما فعلته القوانين بالحفز الى خرقها بالعنف الدموى.. الخ ما هو الا الصورة الأخرى لما فعلته مناهج البحث العلمى الجزئى يتأكيد الاغتراب عن جوهر المعرفة، وهو هو ما فعلته قوانين السياسة الأحدث بتبرير الحروب والقتل عن بعد!! اشياء كلها تبدو لأول وهلة : تنظيمية حديثة، ولكنها فى واقعها تعلن أن الانسان لم يعد يثق فى نفسه، ولا فى بنى جنسه، ولا فى شئ، فوضع كلاما على ورق، يتصور به أنه بديل عن الانتماء للحقيقة المطلقة، القاسم المشترك الأعظم، للحن الأساسى، لله، لتبصيرة اليقظة، ذلك أن الكلام على الورق مهما بدا جميلا ومنمقا فان المكلف بتنفيذه ليس كذلك، لأنه هو هو نفس الانسان فاقد الثقة، والنتيجة أننا نهاجر ..، ونهاجر، ونظل نهاجر منا الينا .. و ..، دمتم، ولكن ماذا لو عدنا ولم نهاجر، ونظل نهاجر منا الينا … و ..، دمتم، ولكن ماذا لو عدنا ولم نهاجر فنكتشف أننا لم نعد، لو عدنا كما ذهبنا وأسوأ بالتبعية والاستيراد (استيراد الأفكار والاشياء جميعا) أم بالتشنج والتعصب، فما فائدة الذهاب، وما وجدوى العودة، ويلوح فى مخيلتى وجه المخبر الهاوى السيد بوارو العجيب وهو يضرط بشفتيه، ولا أجرؤ أن أقلده، فهى مسئوليتى شخصيا .. طبعا!! أما كيف؟

الأحد 2 سبتمبر 1984

كنا قبل السفر قد استخرجنا تأشيرة دخول الى أسبانيا، لكننا عدلنا حسما حتى لا تنقلب الرحلة الى خطف نظر، أو فرط عدو، فليست المسألة : كم بلدا زرنا، وكم كيلو مترا قطعنا دون أن نزور أو نقطع ما يقابلهما من طبقات الداخل ومساحات الناس، وكان ترتيبنا فى هذ1 اليوم أن نتجه غربا الى كان وما بعدها (سان رافائيل، وسان دييجو)، ولم أكن قد تذكرت بوضوح أن كان هذه : هى هى “كان” التى يتردد اسمها كل عام مع أسماء أفلام ومؤتمرات ومناورات فنية لا أفهمها، أنها هى هى التى يتباهى بالاقامة فيها أو زيارتها أثرياء العرب ومغامروهم، وكنت قد زرتها أمس مع ابنى “الصغير” فى عجالة من أمرى لنقابل (المرحوم) د. شاهين فى بعض أمر ولدى، فوجدته يجلس على الكراسى المرصوصة على الشاطئ فى تراخ حر، يجلس وحيدا وكأنه راض أو سعيد، وفهمت معان أخرى للرضا، مثل تناسب المراد مع المتاح، أو قصور التميز والاستقلال …، أو أى معنى لا يخطر على بالى، المهم أن “الرضا” ليس هو فقط ما أعرفه بهذا الاسم، أو كما شرحته، وقد بدا هذا الشيخ الطيب فى أهدأ حالاته وهو يحكى، وهو يشكو، وهو يصر، وهو يفخر، وقد أخذ يصف لى تغير أحوال “كان” عما كان، وكيف أن الفندق – مثلا – أصبح مليئا باللبنانيين بحيث لا يجد فيه المناخ الذى يشعره بالنقلة، ومن ثم بالأجازة أو السياحة، اذ ما فائدة أن تشد الرحال لتتكلم نفس لغتك، وتنكت نفس نكتك، وأسخف، وتتلقى نفس المقالب واسطح …، وتغتاب، وتنم، وتقارن، وتزن، على نفس الموجة المعتادة؟؟ وأنت لا تملك الا أن تفعل نفس الشئ اذا كنت محاطا بنفس الناس.

ولكننى رحت  أقارن رفضى لهذه الجرعة العربية التى كادت تشعره أنه فى مصر أو فى لبنان (قبل المصيبة) بذلك الالتحام الذى الاحظه بين أفراد الجنس الأصفر الغازى لهذه الحضارة الغربية، يغزوها معه لغته وأطعمته وتقاليده، وأقارن بين انزعاجى (الداخلى) اذا سمعت صوت مصرى أو عربى يصيح أو يغنى، وبين حدبهم على بعضهم واصرارهم على الالتصاق والتميز والتمسك بكل ما هم، فألوم نفسى ولا أملك أن أكذب فأدعى غير ذلك، وأتصور أننى لشدة رغبتى فى استعمال الرحلات لاستكشاف والتعرى، أريد أن أعرض كيانى بأكبر مساحة ممكنة على أرضية مختلفة، على أن أتعرف عليه ضوء آخر، لكنى لا أقتنع بهذا التبرير، وتقول لى زوجتى تفسيرا أقسى: وهو أنى أحب مصر الأرض، ومصر الأم، ومصر الأمل، ومصر القبر، ومصر المعنى، ومصر الرمز، ولكنى لا أحب المصريين اللحم الدم، فأنزعج انزعاجا بالغا لاحتمال صدق هذا التفسير، وأحاول أن أفهمها – ونفسى – أنه لا يوجد شئ اسمه “مصر” دون “مصريين”، لكنها لا تقتنع ، ولا أنا، فأدارى خجلى من عريى وأعترف بضرورة أن أجاهد نفسى فى هذه المنطقة لعلى زوجتى متلبسا بتوسيعها بتجنبى المتواصل لكل ما هو “كذلك”، كمثلى، وقد حاولت أن أنقل أزمتى هذه الى هذا الكهل الوطنى الحكيم (د. شاهين) بمناسبة احتجاجه على غلبة العرب فى المطعم والكافتريا والاستقبال بحيث أفقدوه شعوره بالسفر، ولكنى أجد فكره بعيدا عن تصورى، عزوفا عن المواجهة، راضيا بالأحكام والاحتجاج والتسليم فى آن، وأراجع قدرة هذا الجيل (حول 80 سنة) على التمسك بوطنيته بكل عنف (ربما فى مواجهة الاستعمار) وفى نفس الوقت على سهولة التاثر والانبهار بهم .. والى آخر مدى، وأحسده على أحادية النظرة مع ذلك، وكأنه – شخصيا – خارج اللعبة، فلماذا أورط نفسى بكل هذه المراجعات والمواجهات؟

 كان ذلك أمس، وقد استفدت من هذه الزيارة الخاطفة انى استطعت أن أقوم بدور المرشد لصحبتى فى هذا الجزء من الرحلة حتى “كان”، وقد وصلناها فى الضحى، وبعد لفة سريعة، قررنا ان نمضى بعض الوقت حول اللسان أو المرفأ، فأخذنا نشاهد رياضة القوارب الشراعية التى تمارس هنا أكثر بكثير من السباحة (والبلبطة)، ويجذب نظرنا بوجه خاص عجوز وحيد، لا تقل سنه (حسب نظرنا) عن تسعين عاما، وهو يمتطى صهوة قارب صغير، قطعة خشب ملساء، فى مقدمتها شراع متواضع، وهو يمسك بحبال الشراع قرب المؤخرة فى اصرار وعناد عجيبين، وينقلب القارب فيعوم الكهل فى نشاط ويعود يقفز ليمتطى صهوته، ثم ينقلب، ثم يعاود، ثم يتمكن لبضع عشرات الأمتار، ثم يتمايل فنتمايل معه، ثم يسيطر وينتظر، فنفرح له وبه مشفقين آملين أن نمضى قبل أن ينقلب من جديد، ويخفف عنى كل ذلك بعض آثار صورة الأمس عن هذه الحضارة وما آلت اليه، وأتساءل عن علاقتنا نحن – حتى المشى، وأتساءل أكثر عن معنى التقدم فىالسن لدينا، وما الذى يدفع هذا الكهل لأن يقوم بكل هذا وحيدا عنيدا، ولماذا يتركه الناس هكذا بكل سماح وثقة ، بلا نصيحة معوقة أو شفقة معجزة، وكيف يتمسك بهذه الحياة بما تبقى له من قدرة كما يمسك بحبال الشراع الرقيقة فوق هذا اللوح فى مهب الموج والريح؟ وماذا بعد مثابرته هذه وعناده فانتصاره؟ أين سيصب ناتج انتصاره فى فعله اليومى الذى لا أكاد اتخيل معالمه؟ ولا أجد إجابات مقنعة أو حتى تقريبية، فأتوقف عند هذ الاختلاف، وأتمنى أن أذكر كل ذلك، أو بعض ذلك فى حينه.

ونمضى بعد “كان” فى إتجاه سان رافئيل، وما أن نتجه إلى الشمال الغربى حتى نجدنا نصاعد فى السماء (تانى؟)، ويتململ الركب خوفا من أن تنقلب الفسحة الترويحية (حسب توقعاتهم) إلى مغامرة جديدة (غير محسوبة) ذاكرين جبال يوغسلافيا المتواضعة، إذ يبدو أننا مقبلون على ماهو أشد وأعتى، فنواصل الصعود دون أخذ الرأى، ونظل كذلك حتى ترى سيارتنا زميلات لها وقد تلكأن حتى توقف بعضهم هنا وهناك على الجانبين، وكالعادة، تتباطأ حتى تقف بجوارهن فنجد أنفسنا على مشارف بلدة اسمها ثيو Theol، ونترجل للنظر من أعلى الجبل، فنرى ما يشبه الخيلج الصغير شبه المغلق، وكأن البحر قد استأذن الجبل ليرتاح بعضه فى حضنه، فصار هذا البعض مثل حمام سباحة هادئ مفتوح على الموج الأكبر فى إتجاه واحد، أو كأن الجبل قد قضم قضمة من البحر فاستطعمها فلم يبلعها، فوقفت فى حلقه يلوكها بمتعة خاصة واختياى متجدد، ولم نكن قد ابتعدنا عن كان سوى بضع وعشرين كيلو مترا، ونقرر أن ننزل إلى هذا الخليج، نتصنت على هذا الهمس بين البحر والجبل، وقد يأخذ الأطفال منا (طفلاى الأصغر وشخصى) غطسا، لعلنا نتذوق مباشرة ذلك الطعم الشهى الذى منع الجبل أن يتعجل فى إبتلاع قضمة البحر، نعم حمام سباحة “خلقة ربنا”، ونجد المهبط معدا بدقة شديدة، سلالم حجرية، ثم منحدرات شبه مستوية، ثم سلالم، وعدد بلا حصر من اللغات الرائحة الطبيعية فيقلبونها طريقا، وأما أنهم يحاولون التخفيف من حدة الصعود بكل هذه التعاريج، ونكشف خداع النظر، فالخليج الذى بدا لنا من أعلى مثل حمام سباحة صغير هادئ ثبت أنه غائر فى قاع القاع، وأن نبضه قوى؟! هو طبيعة حية رغم حماية الجبل من كل جانب، ونقابل فى طريقنا على المهبط ذلك السنغالى الطويل الرفيع الأسود، وهو يمسك بيده عدة مشغولات جلدية، ومن الخرز، يعرضها للبيع بأثمان زهيدة فعلا، ويتعرف على جنسيتنا، ويتكرر الحوار “مسلم؟” مسلم! “لا إله إلا الله” “أهلا” “متى العيد الكبير؟” ياه!!، ونكتشف أن العيد – وكنا بصراحة قد نسيناه فى زحمة الترحال وضياع معالم الزمن – هو بعد يومين أو ثلاثة ولكن ما الذى أتى بهذا السنغالى إلى هذا البلد، فى هذا الجبل؟ وما هذا الذى دفعه إلى أن ينزل إلى هذا القاع يعرض بضاعته على عدد من الزبائن لا يزيد عن عشرة وليس عند أى منهم – فى الأغلب – نية الشراء؟ فما “لها” قدموا “هنا”؟. وهذا السنغالى؟ ماذا فى ذهنه؟ كم يكسب؟ وكيف أتى؟ ولماذا هنا بالذات حيث لا تجمعات ولا فرص؟ وأتأكد من أن هذه الدنيا تسير وفق حسابات أعقد وأخفى مما يبدو على ظاهرها، يقال عن بعضها مما يناسب المقام “أرزاق”، هذا المعنى الذى اختفى تماما وراء النظام التأمينى للحياة، فطالب الرزق الآن لا يسير فى مناكبها، ولا يقف على “باب الله”، ولا يحسب نفسه وجهده “سببا”، (فهو متسبب) يجرى “من خلاله” ما يتجلى به فضل الذكى جدا فهو انتظار قرار القوى العاملة، أو الوقوف فى طابور معاش مثلى – هذه القوانين الجديدة بالدرجة التى تقعده فى بيته، وسألته (بعد المساومة، والتخفيض إلى النصف، والشراء، والرفض من بقية الرفقاء)، سألته: لماذا؟ هنا بالذات؟ وكيف؟، وقال أنه طالب يدرس، ويريد أن “يصيف”، فيحاول أن يخرج مصاريف رحلته بهذه التجارة (السبوبة) المتواضعة، وصدقته نصف نصف، وبعد ذلك لما رأيت مواطنيه من مختلف الأعمار يحملون نفس البضاعة بالعشرات فى البيجال وحول الساكركير فى باريس، لم أستطع أن أستسلم لروايته “هكذا” تماما، ولكن ذلك لم يمنعنى أن أخرج بهذا الرحالة الشاب المتواضع ولمعة سواده تبرق تحت الشمس وكأنها أقرب ما فينا إلى الطبيعة الحية القوية حولنا، وأنا شديد الضعف أمام ذلك الأسود الرفيع الطويل، وهو عندى غير الزنجى، وغير السودانى (مثلا)، فالزنجى عندى هو صاحب الأنف الأفطس والشفاه الغليظة والشهية المفتوحة لكل ما هو أولى قوى شبقى متقد، والسودانى هو أنا وأنت وكل صاحب ملامح عربية “غامقة” أما رفيق الطريق هذا ذو الملامح المنمنمة، والسواد اللامع، والجذع الممتد مثل شجرة الصفصاف، فهو يشعرنى برهافة الطبيعة بدرجة الطبيعة بدرجة تحرك فى داخل داخلى كل ما هو حمأ مسنون وقد تشكل بلمسات فنية رائقة، وقد ثار داخلى يوما فى هذا الاتجاه حين رحت أتحدث بالإشارة مع فتى – مثل هذا – كان يقوم بتنظيف حجرة إلا منحنيا، وكانت له بسمة رائقة رائعة تنفرج عن ذلك البياض الناصع الذى الذى يذكرنى باللبن الحليب الطازج فى طاجن محروق، دون أن يغلى، ثم يذكرنى بما هو قلب طفل لم يختبر، وكان يوجد بطول خديه وعلى جبهته عقد منتظم من بروزات دقيقة مرتبة، علمت منه (بالإشارة الإنجليزية أساسا فهو لا يعرف العربية ولا يجيد الإنجليزية) أنها وشم منذ الطفولة يميز أبناء قبيلته من البوير فى الجنوب، وقد أثارنى كل هذا حتى كتبت فيه شعرا، وإن كنت أنهيت القصيدة برفض هذا النوع من الاستجابة الفنية التى تخف من نبض إيقاع الوعى. حين تقلب الإنسان إلى رمز فنى مغترب: (رمزا قليلا بين أصداء النغم – حرفا تقلب داميا من وخز هزات القلم).

تذكرت فتى البوير هذا وأنا أتطلع إلى الفتى السنغالى على الدرج الحجرى الهابط إلى قضمة البحر عند ثيو، وجعلت أقول لنفسى “أفريقيا”، هذه الأفريقيا، يستحيل أن أكتمل أو أعرف ماذا أنا إلا إذا غرقت هناك فى محيط سوادها مباشرة، أين لى هذه الفرصة شريطة ألا تكون سياحة للفرجة؟ إذن، ماذا تكون؟ تكون شيئا يعرضنى للموت حبا فى حضن أصلى الطيب المرعب، ثم لا أكتب عن كل ذلك حرفا …. ولماذا الكتابة حينذاك؟

ونواصل النزول إلى الشاطئ المحدود فى جوف الجبل، ويذكرنى سان أسباستيان فى شمال أسبانيا حيث اقتطع جبلها – خلسة – جزءا من المحيط بنفس الطريقة، ولكن على نطاق أوسع، وحين نصل إلى حيث البضعة نفر من الناس فى حمام السباحة الطبيعى هذا، أجد ما توقعت من العرى والطفولة والطبيعة والحرية والسماح بما يليق بالمكان والزمان، ولم أنبه زوجتى (متذكرا غثيانها) ولا أولادى (متذكرا عزوفهم المبدئى) إلى شئ، وإن كنت أحسب أن العرى هنا فى هذا المكان المغلق كان أقل نشازا وتحديا من العرى على الشواطى المفتوحة، كما أنه يبدو أن التنبيه إلى الشذوذ – بحسب مقاييسنا – هو الذى يجعل الشذوذ شاذا، ويستأذن الصغيران فى غطس عابر، وأتمنى لو أشاركهما، فقضمة البحر هذه وسط الجبل قد تكون أكثر إنعاشا لما أحتاج لإنعاشه من حمام مخيم “البادورو” على مشارف فينسيا، ولكنى أخجل من إظهار هذه الرغبة وحولى الشباب الرزين والعياذ بالله، فتصنعت الحكمة وانتحيت جانبا أجلس على صخرة كبيرة مطلقا خيالى يعوم بطولى الخط الفاصل بين الأفق والبحر، وقد يختفى خلف السحاب المتشكل بما يوحى بكل ما يمكن .. وغيره، وأضطجع الباقون – حتى ينتهى الصغيران من غطسهما – كل بجوار صخرة تماثله، أو تكلمة، وصورنا، وصمتنا، وكاد بعضنا أن يغفو، وانتظرنا الصغيرين حتى يشبعا، فلم يشبعا، فاضطررنا لتوقيت ميعاد للرحيل القسرى، وعاودنا الصعود راضين متعجبين من كل هذه الفرص لكل الناس، يكفى أن تكون عندك سيارة، (وفى فرنسا توجد سيارة لكل ثلاثة مواطنين بما فى ذلك الأطفال)، أو أشغال سنغالية وتذكرة أتوبيس، و “سنودتشا”  لتتمتع بكل هذا، يارب لا اعتراض، ولكننا أحوج ما نكون إلى أن نتصالح مع الطبيعة ثم أنفسنا وبالعكس، حتى لبنان، ذلك السحر الواعد، ماذا فعلنا به بما هو إسلام وشيعة ومارون وإسرائيل، كل هؤلاء إسرائيليون أهل التعصب والتشرذم والقسوة والإدعاء.

ويصل إلى مسامعى تداولا يجرى فى أروقة السلالم الحجرية الصاعدة: أن هذا يكفى، لأنه – فى الأغلب – لن يكون فى سان رافائيل، أو سان دييجو إلا جبل وبحر وعرى وطفولة وحمد ومقارنة وغيظ ورضا، وأعلم أنى سأخسر لو أصررت على مواصلة السير لمائة وخمسين كيلو آخرين لأثبت لهم أن كلامهم غير صحيح، فرضيت مكرها، رغم يقينى أنه لا يوجد جمال مثل جمال آخر، وأتصور أن للطبيعة بصمات مثل بصمات البشر، يستحيل أن تتماثل، أرنى الف ألف صخرة، ومثلها من الموجات، والسحب، والورود، وسأريك فيها ألف ألف جما بنفس العدد، مضروبا فى حالتك، فى عدد زوايا رؤيتك، ملونا بحدة إنبهارك، نابضا بدرجة إنفتاح مسام وعيك، فلا يفسد الجمال إلا أن تشعر أنه “مكرر” أو “مقرر”، أما أن تكتشف فيه دائما ذلك التفرد، وأن تأتى ذلك مختارا، فقد ملكت نواصى الداخل والخارج مبدعا فى كل آن، فلو سمحتم لا داعى لعلب السلمون الفارغة، وقشر البطيخ، وأكياس البلاستيك، وبقايا البقايا!! لو سمحتم، ولكن ما هو تفسير حرصنا الشديد – فى بلدنا – على هذا التشويه المثابر لكل ما خلق الله من تناسق وتناغم؟ إجابة واحدة تقفز إلى وعيى فورا تقول “.. هو العمى”، فحين تنطمس العين التى تميز بين وجه طفلة وهى تهم بالنوم أثناء الرى من ثدى أمها، وبين سائل النابالم وهو يلتصق بنفس الوجه ونفس الثدى (لأن دينى أحسن، وعرقى آصل من دينك وعرقك يا من لست أنا) حينئذ تنطمس هذه العين القادرة على التمييز، ووداعا لكل حياة فى ظلمة التعصب والقسوة، ولكن عندك،، فنحن فى مصر (حتى الىن) لسنا هؤلاء المتعصبين “جدا” من مصاصى الدماء (إيمانا واحتسابا!!) فلماذا لا نفهم؟ لا نحس بالجمال كما هو وكما ينبغى أن نكون؟ أهو تفاعلنا ضد هؤلاء الظلمة يدفعنا للانتقام من أنفسنا لا منهم؟ أهو الفقر؟ بصراحة أنا لا أوافق كثيرا على هذا الرد الجاهز، فما زلت أذكر نظرات ذلك الفلاح الصديق الذى يعزمنى على غدائه على رأس الغيط، وهو “يدش” فحل البص ويتأمل منه شاكرا مشاركا، يتبادل ذلك مع لف عود الكرات حول كسرة الخبز دون الإسراع بالتهامها، وهذا لس من قبيل “ما أحلاها عيشة الفلاح” ولا هو يتم بوعى ظاهر، لكنى على يقين أن هذه العلاقة الوثيقة الهادئة بين الداخل والخارج هى من مكونات صلابة هؤلاء الناس وأصالتهم، وهى الجمال ذاته حتى لو لم يعلن، وبديهى أن هذه ليست دعوة للرضا بالفقر، فهو على المدى طويل كفر مشوه، لكنها تذكرة تنبه إلى عدم التسرع بالتماس أسباب عمانا عن الجميل بلوم الفقر ورفع شعارات جاهزة مبررة.

ثم إن هؤلاء الذين اغتنوا منا لم يزدادوا إلا ذهولا وتخديرا، ثمة شئ قد حدث جعلنا نتخاصم – فقراء وأغنياء – مع أنفسنا فى الداخل، فنخاصم الخارج، شئ ما قد سد مسامنا حتى لم نعد نستطيع أن نستنشق الطبيعة، وحتى الدين الذى نزل أصلا ليساهم فى “تسليك” المسالك بين الإنسان والطبيعة إلى ما بعد المدى، انتهى إلى أن يصبح – فى الأغلب – عجينة من الأسمنت والجبس تجثم على مرونة الحركة وتسد المسارات الجمالية الحرة بين الداخل والخارج، ورغم وصية الأديان جميعا بالنظر فى أنفسنا، وفى السماء والأرض والنجوم، فإننا لا نطيع ربنا فى ذلك، أن نشكل الناس والأفكار فى النمط “الصحيح” الجاهز الواحد، فى حين أن الوعى الفطرى لا يمكن إلا أن يرى تجليات الواحد الأحد فى كل الصور المتعددة التواجد بلا نهاية، يجمعها ذلك النبض المشترك الأعظم فى وحدة النغم الكونى من اختلاف الحضور والشهود والوجود باختلاف الزمان والمكان، نعم ليست أى صخرة مثل غيرها، والجمال هنا فى ثيو غيره فى سان سباستيان، غيره فى شاطئ عجيبة فى مطروح ولابد أن يكون غيره فى سان رافائيل لو رزناها، ولكن: ما نام الأمر كذلك، والعمر قصير، ورغم أنه لا يغنى جمال عن جمال، فقد انتبهت إلى إستحالة الإحاطة بكل إبداع الحق المتناغم فى صور الطبيعة المتنوعة، فرجعت راضيا دون أن أعلن إحتجاجى على استسهالهم وتقاعسهم.

* * *

رجعنا من طريق غير الذى أتينا منه بين “كان” وحيث نقيم، ليقابلنا مسيو بوارو بسؤالنا عن ماذا فعلنا فى أمر السرقة، ما هذا الرجل؟ وهات يا أفكار، واقتراحات، واستنتاجات، ونهرب منه ساخطين بكل معنى، ولم أكن أتصور أن عقل مثل هؤلاء الناس فارغ كل هذا الفراغ حتى يلف مكانه هكذا بلا طائل حتما، تسلية هى أم ماذا؟ وفى محاولة الهرب من ضياع الليلة فى إجترار الأحداث التى نسيناها والحمد لله يذكرنا الأولاد بتلك الإشارات التى كانت تدعونا لزيارة ملاهى “لآنتيب” وهى بلدة جميلة وسط بين كان ونيس، فنعتذر أنا وزوجتى رغم خبرتنا الناجحة فى العام الماضى هناك فى ضاحية لوس أنجلوس، بفشل محتمل فى ظروف مختلفة، ثم أن مسألة ذهابنا إلى الملاهى مع الأولاد غيرها إذا كنا وحدنا – حسب ما جربنا صدفة – وبصراحة فأنا ما عدت مقتنعا بالإكتفاء بأن من “أطعم صغيرى بلحة، نزلت حلاوتها بطنى”، قد يكون هذا طبيب مرحليا، أما أن نظل نتمتع من خلال متعتهم فهذا ظلم لنا، ولهم، هذا استعمال خفى لا يصلح طول العمر، ولا يصلح عذرا إلا للتوقف وربما الإدعاء، نعم .. لم يكن عندى استعداد أن أذهب معهم ليفرحوا فأفرح، وفى نفس الوقت لم اطمئن إلى قدرتى على النكوص الشخصى طفلا يلعب بنفسه لنفسه، ويغامر لنفسه، ويشارك بنفسه، فهذا أمر أحتاج فى العام الماضى إلى كل تكتيكات والتديزنى التكنولوجية والطبيعية حتى نجح فى اختراق طبقات حزنى، وفى ترويض بعض خجلى، وفى تحجيم معظم حساباتى، وفى تأجيل أغلب مسئولياتى، فعل كل ذلك دون استئذان، فهل يا ترى ستقدر أى ملاه أخرى أن تعيد لعبة سرقتى إلى طفلى – أنا بعد أن فقست حركاتها، وفى وجود أولادى؟ لا أظن، وما زلت أذكر تلك الخبرة التى علمتنى كيف أن بعض أذكياء الخواجات يعرفون من هم مثلى، يعرفون همومه الأزلية بقدر ما يعرفون مفاتيح طفولته السرية، فيستدرجونه تحت أى عنوان، ثم يظلون يرددون كلمة السر، وينوعونها حتى تفتح الأبواب الخفية إلى الطفولة الكامنة، أو المقهورة، أو الخائفة، أو المنزوية، أو المنسية، أو المهملة، قصدا، أو بالصدفةن وهذا ما حدث فى أرض ديزنى (ديزنى لاند) فى لوس أنجلوس.

كان ذلك فى العام الماضى خلال رحلتى الاضطرارية إلى أمريكا، لم يكن عندنا – زوجتى وأنا – غير ما يقارب أربعين ساعة نقضيها فى لوس أنجلوس، فقد وصلنا مطارها قادمين من سان فرانسيسكو حول الواحدة ظهرا، وقررنا – دون أدنى داع للعجلة – أن نغادرها صباح اليوم بعد التالى (لست أدرى لماذا؟)، وكنا قد سألنا صاحب الفندق فى سان فرانسيسكو ونحن نتجه إلى لوس انجلوس عن أى المعالم أولى بالزيارة فى هذا الوقت القصير، فدلنا على معلمين: الاستوديوهات العالمية ( ما نسميه نحن: هوليود) (9) وأرض ديزنى (ديزنى لاند) – ولم يكن عندنا خيار كبير، فاتجهنا فور وصولنا بعد الظهر إلى الاستديوهات محتفظين باليوم التالى للملاهى، لكننا وصلنا تلك الاستديوهات محتفظين بعد قيام آخر فوج فى آخر جولة، فجعلنا نتجول حولها من خارج، ونحاول أن نرى من خلال وجوه الناس العائدين من الجولة – بالإضافة إلى ما سمعته ممن سبقت له زيارتها – كل ما يمكن تصوره، فرأيت الخدع السينمائية العملاقة، والمدن الكاملة المعدة للانهيار – مثلا – والكبارى التى تقام فى ثوان وتنتقل فى ثوان والمطر الصناعى، وغير ذلك كثير كثير مما صوره لى خيالى، وقدرت أن هذه الزيارة الخيالية من خارج السور، من خلال قراءة وجوه الخارجين قد تكون أرحب من الزيارة الحقيقية، حيث سمح لى خيالى أن أقارن بين ما يجرى فى الخارج وما يجرى فى الداخل، فحسبت أننا نعيش فى الواقع فى سلسلة من هذه الخدع العملاقة: حروب غير مفهومة، ورؤساء غير مسئولين، وسرعة غير هادفة، ومكاسب بلا عائد، وأفكار بلا مسئولية، وديانات بلا إيمان، فكدت أتيقن أن كل ذلك أكثر إدهاشا مما كنت سأراه لو أنى دخلت الاستديوهات، بل إن الزلزال الحقيقى – مثلا – كثيرا ما يبدو لى أكثر عبثية ولا منطقيا من أضخم عرض لإغارات “موبى ديك” أو “الفك المفترس” ..، ما علينا كان هذا نصيبنا من الاستوديوهات فزاد حماسنا لقضاء اليوم التالى بطوله فى أرض ديزنى شخصيا.

وصلنا “هناك” حول الساعة العاشرة صباحا، والسائق “المحترم” يوصينا بأنفسنا خيرا، ويعطينا اسمه ورقم سيارته وميعاد اللقاء واختيارات العودة، وكأننا أطفال يحفظوننا أسماءنا بالكامل وعنوان بيتنا حتى إذا تهنا (زحمة يا ولداه!!) ذكرنا اسمنا فى قسم البوليس بالوضوح الذى يعيدنا لأهلنا بأسرع ما يمكن، فأحسست ببداية تحريك الطفل القابع هناك منذ لم يكن أصلا – ربما -، ودخلنا إلى أرض العجائب صنع الإنسان العجيب، فبدأت فروق الأعمار تتضاءل رويدا رويدا حتى لم يبق إلا العمر الموحد الذى ليس له رقم فى شهادة ميلاد أو أى أوراق رسمية، وهو العمر الذى يستطيع دون إستذان أو حرج – أن يصادق ميكى ماوس شخصيا صداقة تسمح له بالطلب، والعتاب، والمشاركة، والاستزادة، والاعادة، والاستغماية، فتلفت حولى وأنا أنسلخ من نفسى خشية أن يرانى أحدهم متلبسا بطفولة لم أعهدها، فلاح وجهى فى مرآة ما، أثناء استبدالى آلة التصوير الفورى (دون مقابل)، فوجدت وجهى كما هو مليئا بما يشبه الحزن وادعاء الحكمة، فتمنيت أن أمضى بقية يومى دون أن أراه ثانية حتى لا أشعر الا بما أشعر به، ونما هذا الشعور الحر السهل حتى كدت أنسى، لكننى كنت أسمع بين الحين والحين حديثا بالعربية، فأرتد الى عمرى الحالى، وأكثر، فى لمح البصر، فأجدنى لبست أول ما لبست مهنتى، مهددا أن يستشيرنى هذا الصوت العربى (أو المصرى خاصة) فى صداعه أو خلافاته أو رسوب ابنه أو اضطهاد رئيسه، والعن هذه المهنة التى تفرض على طول الوقت أن أكون مستشارا طول الوقت، وكأنى أملك بها (بهذه المهنة) مفاتيح السعادة (والبلادة) وأسرار العواطف وترياق الفشل، والعن ما يشاع عن مقدرة الطبيب النفسى، وأراجع اتهامات زوجتى بأنى لا أحب المصريين (بل مصر) لذلك اتجنبهم، وقلت لعلى أبالغ فى تجنبهم بسبب هذه المهنة التى لصقت باسمى وظاهرى حتى كادت تخنقنى، وكأنى بتجنبى أبناء بلدى انما اتخلص من هذا الدور مؤقتا بعناد واصرار، ربما، ونشترك فى اللعبة تلو اللعبة، والمركبة تلو المركبة، حتى ننسى أو نكاد، ولا يبقى أمامنا وحولنا الا الأطفال الأطفال ذوى الشعر الأبيض، والكروش المتهدلة، والعصا التى تسند الظهر المنحنى، والسروال “الجينز”، والقفزة المرحة، والشعر الأجعد، أو المرسل، أعمار والوان وأجناس انصهرت فى أرض واحدة لتتمازج فى كتلة طفلية واحدة، وكلما كان الطابور طويلا، كانت اللعبة أدعى للمشاركة، “هل سنعرف أكثر من الخواجات؟”، نحن ضيوف، وهم أدرى، ولكن من هم؟ ان الغالبية العظمى مثلنا، وربما يسير الناس خلفنا كما نسير نحن خلفهم، ما علينا، وجدنا طابورا ملتويا الى غير آخر، وقدرنا أن طوله قد يزيد عن كيلو متر مثلا، فرجحا “أنها” شئ يستأهل، ومن كثرة الالتواء لم نستطع أن نتبين الى أى لعبة يؤدى فى النهاية.

قلنا : مثلنا مثل غيرنا، ومن ينتظر يرى، وتمر نصف ساعة ونحن نتحرك فى كتلة ممتزجة كمثل طابور نمل يجر قالب سكر بأكمله، وكلما تقدمنا تجاه مكان قطع التذاكر فالدخول، واجهتنا اللافتة تلو الأخرى “تحذر” “ان الادارة غير مسئولة”، عن ماذا؟ يحملونا المسئولية ونحن اطفال فى أطفال!، ثم “على السادة مرضى القلب أن يعدلوا راجعين”، الله!! تبدو الحكاية جدا ، ثم من أدرانا بقلوبنا ونحن لسنا من أهل الفحص الدورى، وأقول لزوجتى التى تركب أى مصعد بالكاد أن المسألة ليست سهلة، فأظن أنها تكاد ترجح عنادى، فتسكت علامة الرضا الذى هو والرفض المطلق سواء، وحين نصل الى ما هى اللعبة، نفاجأ بأنها “رحلة فى الفضاء”، أهكذا؟ ونتذكر متحف سفن الفضاء فى واشنطن، وكيف دخلنا “الكابسولة” فى طابور طويل مماثل، وكيف أخذنا نتحسس جسمها وأماكن الرواد، وكأننا نحصل على البركة اذ نلصق ظهرنا بانحناءاتها، تماما مثلما كنا نفعل صغارا فى قبلة السيد البدوى الملساء، أو قبلة مريديه المحيطين بضريحه، وقد تصورت هناك أن النقلة من رحلة الفضاء العامر التى كان يقوم بها السيد البدوى فى مجاهدته للكشف والتجلى، الى رحلة الفضاءالخالى داخل كبسولة مغلقة محكمة، هى الرمز لما حدث ويحدث للانسان المعاصر،المهم، وصلنا الى مدخل رحلة الفضاء “اللعبة” فى أرض ديزنى، وجعلت أنظر الى وجه زوجتى فلم ألاحظ ارتياعا أو امتقاعا، ربما من فرط التسليم، أو بسبب يقين اليأس من التراجع، وربما من فرط شجاعة تفاجئنى بها عادة فى الأزمات، فواصلنا السير الى مقعدينا فى احدى المركبات، ورغم التعليمات بأن يمسك كل منا بكلتا يديه العمود الصلب المستعرض أمامنا، فقد أمسكته بيد واحدة، وأمسكت زوجتى باليد الأخرى متصورا أن فى ذلك بعض الشهامة ونوعا من الاعتذار عما أعرضها له بسبب عنادى والحاحى فى تجريب ما لا أدرى، لكن هذا الوضع قد الحق بى ما لم أحسب، فأن يدا واحدة لم تسعف حفظ توازنى، واليد الأخرى لم تساهم فى طمأنتها، ونحن ننطلق بسرعة هائلة بين نجوم صناعية، وشموس باهرة، وسقوط غير متوقع، وكانت النتيجة أن شعورى بالذنب أو بالمسئولية من جانب، وبعدم الأ/ان والتهديد من جانب آخر، تضاعفا كل من ناحية الذراع المختص بالمهمة الفاشلة، وهات يا نجوم سابحة، ونيازك ساقطة، وبراكين ثاثرة، ومطبات غائرة، وعينك لا ترى الا النور، وتعلمت كيف أن “الحداقة” المصرية التى سمحت لى بتجاوز التعليمات “لا تفيد”، كما حاولت أن انتبه كيف ينبغى أن أحاول أن أكف نفسى عن التفكير نيابة عن الآخرين تحت زعم حمايتهم، أو تحت محاولة الاستغفار أو الاعتذار عما اضطررتهم اليه، وخاصة وأننا بمجرد انتهاء رحلة الفضاء الوهمية وجدت زوجتى أثبت جنانا وأهدأ بالا منى، ليس فقط لأنها أنهت الرحلة، ولكن لأنها لم تتكلف كل هذه الحسابات والادعاءات والوصاية، وتصورت أن مثل هذا الموقف يقع فيه كثير من رؤسائنا الفراعنة القدامى والمعاصرين، فهم يفرضون علينا قهرا والدياتحت مختلف العناوين، ثم يعوضوننا – أو هكذا يتصورون – بحماية مشبوهة لا ترحمهم ولا تنضجنا، وهكذا، ولم يخفف من آثار رعب هذه التكنولوجيا اللعبة الا رحلة وهمية أخرى فى قارب يخترق أدغالا وبحيرات مصطنعة فيها نماذج بالحجم الطبيعى لحيوانات معاصرة ومنقرضة وقبائل بدائية برقصاتها وأدواتها، وتصورت أن وظيفتها أنها تنشط فى داخلنا تاريخنا الحيوى بشكل أو بآخر، وكأن هذه الرحلة الأخرى تقول لنا أن نتذكر – ان نفعت الذكرى – وأن نتحمل مسئولية ما وصلنا اليه من بشرية، وألا ننسى جذورنا حتى تمتد فروعنا وتثمر، ثم أوقفت هذا السخف التفسيرى الممنطق، والا … ففيم اللعب؟ قد يكون كل هذا الذى أقوله وأستنتجه صحيحا، ولكن الأصح أن “يصل” دون أن أدرى به أو أعقلنه، نعم لابد أن تصل الرسائل تلقائيا عبر كل تحفظاتنا، ومن خلالها، وبالرغم منها.. الى نبض طفولتنا، ولا أعنى بالطفولة تلك المرحلة الأولى من تطورنا البشرى، ولكنى أشير أيضا الى المراحل الأولى من طفولة البشرية وما قبلها، وكأن وظيفة هذه الملاهى العملاقة هى أن تنزعك انتزاعا من المستوى الآنى المحافظ، اذا تحرك جذور تاريخك فى اتجاه مستقبلى غامض، وأحاول أن أكف عقلى من جديد عن الاستنتاج والحسابات، ولا اطمئن الى نجاح المحاولة الا حين أضبط نفسى متلبسا بنسيان المعنى، والدلالة، والأصل، والمصير، والفائدة والعائد، والسبب، والهدف، فأقول “هذه هى”، وبمجرد أن أنتبه الى كل هذا أو بعضه أفقد اللحظة، واتمنى أن ترجع، وهى لا ترجع الا اذا نسيتها وهكذا …..

ويتصادف وجودنا فى أرض ديزنى هذا اليوم مرور لست أدرى كم عاما على اختراع شخصية “ميكى ماوس”، ويعلن ذلك فى المكبر، وتمتلئ شوارع الملهى العملاق بكل شخصيات الكارتون التى ابتدعها والت ديزنى، تسير بيننا تصافحنا وتداعبنا، ثم تنتظم “الزفة” مثل زفة مولد النبى التى أشرت لها قبلا فى “زفتا”، ولكنها زفة موسيقية تكنولوجية، حديثة، ورائعة، ولا يستطيع أى من زوار هذه الأرض مهما بلغت رزانته ودفاعاته الا أن يجد نفسه نغمة، وليدة، وسط مهرجان اللحن البهيج، وأكاد أنسى كل مآسى العالم، وبالذات تلك التى يتسبب فيها هؤلاء الأمريكيون فى كل أنحاء العالم، وأنجح جزئيا حتى تنتهى الزفة وسط زخم النسيان والنشوة، ولكنى أعود فى طريق العودة أقول لنفسى : كيف؟؟ كيف أفهم هذه القدرة العجيبة على الانشقاق، كيف ينجح هؤلاء الناس فى أن يسحبوا من هو مثلى سحبا الى ما هو طفل بهيج فى داخلى، ثم لا يتورعون عن قتل أطفالى بالنابالم فى المخيمات، أو بالجوع فى أكواخ القحط؟ أو بالذل فى تدابير القهر المعوناتى؟ هل هذا التناقض المريع هو من طبيعة الحياة الحرة وحسابات الديمقراطية الغربية؟

وهل نجحت هذه الحضارة فى أن تفصل بين احياء وجدان الأفراد “فرادى”، لتسهل سحق هذا الوجدان بسلطة مركزية خفية تتحكم فى مصائر الجماعات والمؤسسات بآلات الدمار وشروط الاطعام؟ وأستبعد هذه المنظومة الاضطهادية المحبوكة حين أتذكر أن سرقتى الى ما هو طفل بهيج لم تتم فقط فى هذا الملهى العملاق، بل انى خبرت تجربتين تلقائيتين لم يكونا من صنع الأمريكان بالضرورة، فقبل هذه التجربة بأيام، كنت فى سان فرانسيسكو، وكان يوم أحد، ولاحظت بجوار الفندق، وفى ساحة متسعة أمام مكتب استعلامات حكومى على ما أذكر أن ثمة فرقة كبيرة، كأنها اسرة كبيرة، قد تجمعت بآلاتها الموسيقية البدائية، وخيل الى انهم من جزر هاواى أو ما شابه، بملابسهم الملونة والممزقة فى أشرطة جميلة هفهافة، ووجوهم الملوحة بسمرة رائعة، لا تخفى الملامح الأسيوية عموما، وقد تزينوا بريش جميل الألوان وأشياء كثيرة لابد أن ترى حيث لا أسماء عندى لوصفها، وقد تجمع حولهم المواطنون والسياح على حد سواء فى مشاركة مجانية رائعة، ولأمر ما … التقطتنى فتاة منهن، لا احسب أنها تتعدى الثالثة عشر من عمرها وسحبتنى الى وسط الحلقة، فحاولت أن أتملص منها لكنى خجلت من اصرارها وتلقائيتها وعدم اعتبارها لفارق السن، وأخذت تشير الى أن أرقص معهم جماعيا، فأفهمها انى لا أعرف أى رقص بأى شكل، فتصر أن هذا افضل، وكأنها لا تريد منى ما أعرف، ولكن ما لا أعرف، وأنه ما على الا أن أفعل مثلما تفعل هى، أو مثلما أستطيع، أو مثلما أى شئ، وأحسست أنى أمام أم طيبة (13 سنة) تصبر على وتشجعنى بكل ما أوتيت من أمومة صبورة متحملة، فخجلت من التمادى فى الدلال، أو ما يبدو أنه كذلك، وشعرت – ربما فجآة – انى فى أشد الحاجة الى ما تدعونى اليه، ودقت الطبول، وقفزت، فقفزت، ودرت، وشاركت، ونسيت – أو كدت، ثم ….. ثم انسحبت، ثم يا ويلى : تذكرت، فما نسيت: لا هذا، ولا ما قبله، ولا ما معه … يا ساتر!! لم ذاك؟

ومرة أخرى، ذات مساء، فى سان فرانسيسكو أيضا، ولعله اليوم السابق مباشرة، لاحظنا ونحن نتمشى مساء نبحث عن مكان هادئ أن شابا ألمانيا عملاقا يقف أمام مطعم شديد التواضع، وقد لبس “شورتا” وهو يعزف على عوده أنغاما رائعة ونظرنا فاذا مقاعد المطعم لا تتعدى بضع عشر مقعدا نصفها فى ممر ضيق، فدخلنا آملين فى الهدوء والطيبة، والصحبة المحدودة، واذا بالفتاة المسئولة عن الخدمة، ذات العشرين ربيعا، ترعانى وزوجتى نفس الرعاية التى تدفعنى الى أن أدعها – ومثلها – تتبنانى فورا دون استئذان، ثم يدخل الشاب العملاق “ذو الشورت” فينضم اليه زميلاه ومعهم آلتين وسيقيتين لا أعرفهما، وتصدح الأنغام، ويبدو أن الأغنية كانت تتطلب المشاركة بطبيعتها، فأخذ الجميع يصفقون معها، الا نحن، (زوجتى وأنا) فلاحظت الفتاة الأم أننا كذلك، فدعتنا بالاشارة فبدأنا نقدم يدا ونؤخر أخرى، ثم اندمجنا ونحن مطمئنين الى حالة كوننا جلوسا محترمين الا أن الرواد السبعة والمغنين الثلاثة انتشوا أكثر فأكثر، واذا بالراعية الأم تضع على رأسى ما أظن أنه كان قبعة أو ما شابه، كذلك على رأس – ولا مؤاخذة – زوجتنا، فيزيد تصفيقنا علوا متشبثين بالكراسى أكثر فأكثر وكأنى أقول لهم كفاية كذا، ربنا يخليكم، ولكن أبدا، ودهشت لأننا لم نكن لا فى عيد ميلاد، ولا فى عيد فقط، ولا شئ، يوم عادى، وناس لا يعرفون بعضهم، موسيقى، وطيبة، وعلانية، وبدا لى أننا أصبحنا – فجأة – أسرة واحدة لا تجد اى مبرر للتعرف الشكلى أو اجراءات الشهر العقارى، مجرد”ناس معا”، ويقوم الجميع، فلم أستطع الاعتذار أو حتى التلكؤ، فقمت مع القائمين، وأنا نصفى فرح فرحة غير محسوبة، والنصف الآخر يدعو بالستر، واذا بنا ننتظم متماسكين فى طابور صغير متماسك يقطع الممر الى خارج المطعم، فيلف لفة صغيرة فى حدود مترين على الطوار، والمارة يحيوننا، وبعضهم يشارك الموسيقى، ثم نعود ونكررها مرة أخرى ثم نجلس، دون أن تنهد الدنيا، وتفرح بنا الأم الشابة وترفع من على رؤسنا هديتها مشجعة أن “برافو”، وكأنها قد احست بالصعوبة التى عانيناها فاجتزناها بفضل أمومتها، وكأنها تشكرنا أننا لم نستسلم لعنادنا، وبالتالى شاركنا، فتجنبنا أن نكون نشازا منفردا فى خضم أسرة التلقائية والصدفة والموسيقى والعالمية والود الطيب، وكدت أبكى حزنا فرحا (بكسر الراء)، أين معنى هذا (هذا؟!!) من كل ما يجرى فى أروقة التعصب وميادين الحروب، لا … بل أين لنا نحن فى مصر من بعض “هذا”، أو بديل “هذا”، أو مثل “هذا” أو فى اتجاه “هذا”، لا .. ليست بدعة غربية ولا هو لهو غبى، كما أنه ليس اغترابا ذاهلا أو خفة مرذولة، بل انه من حق الانسان أن يتواجد مع انسان آخر دون شروط، ودون صفقات من اياها، ودون اذن، ودون اضرار، هذا حق كل انسان ما دام انسانا شريفا معلنا ملتزما غير ضار، وهذا ما حدث فى ساحة الاستعلامات، وهو ما حدث فى المطعم الصغير، لكن عندك، ان هذا ومثله وأطيب منه يحدث عندنا فى الموالد النبى فى زفتا، ثم أشرت الى مخيمات الموالد حول السيد البدوى أو سيدى عبد الرحيم القناوى، ولكن يبدو أن هذا كله مهدد بالانقراض حاليا، فهو يكاد يتوارى بالازاحة التليفزيونية تارة، وبالوصاية الوعظار شادية تارة أخرى، تحت اشاعات الوقار الخائف والرزانة المصطنعة، وأتذكر النشاط الرائع الذى يتمثل فى حلقات الذكر التى يعقدها بعض الصوفية البسطاء فى الموالد التلقائية المتواضعة، والتى شاركت فيها سرا، ثم علانية، ثم سرا حتى أكون أمينا مع ما أرى من خلال منهج البحث الذى التزمت به من حيث ضرورة أن أتعلم بالمشاركة، لا بالفرجة ولا بالحكم من بعيد، وأخشى ما أخشاه أن نواصل الحكم على الحدس الشعبى، سواء فى تلقائية غنائه (المواويل .. وخاصة بعد أن سجلت فى كاسيت) أو تلقائية نشاطه الحركى الجماعى البنائى (فى الذكر خاصة) .. أن نحكم على هذا وذاك بما نتصور عنه، لا بما هو، وبنصوص الفاظ نتعرف على مدلولاتها من معاجم لم ترقص، ولم تشارك، ولم تتمايل، لكن المعاجم لم تقيدنا بألفاظها، بل نحن الذين اختبانا فى الفاظها، نعم .. أشعر أننا نسير تجاه حضارة (أو : لا حضارة) “اللفظ والوصاية”، بدلا من أن نغامر باقتحام حضارة “الحركة والتكامل”، وأغلب المفسرين والوصاة المربين، يصدرون أحكامهم التربوية والاخلاقية من فوق مكاتبهم، لا من جوهر فطرتهم، وحتى هذا البديل الغربى المسمى “الديسكو”، والذى لا أجرؤ أن أقترب منه لفرط علو صوته، يبدو لى بديلا شائها لا يستطيع القيام بوظيفة احياء الطفولة لتنمو، ويشتد عندى التخوف مما نسير نحوه حين أتصور أنه حتى أعيادنا التقليدية كادت تخلو رويدا رويدا من نصب الأراجيح لصالح التيبس التخديرى أمام التليفزيون، كنا ننتظر الأراجيح من العيد للعيد، ونتنافس فى علوها أعلى القائم المستعرض، ويتحدى بعضنا بعضا : من الذى يمكن أن “ينطر” زميله الراكب قبالته وهو فى فمة ارتفاع الأرجوحة …، والآن … لست أدرى، وأكاد أصيح : “الفطرة – سيداتى وسادتى – ليست وقارا على حساب التكامل، والله من ورائهم محيط”.

خطر ببالى كل ذلك بعد أن غادرنا الأولاد وقبلوا عذرنا مقدرين ما يمكن أن نمر به من مثل هذا أو غير هذا، وقد تصورت أنى لا أستطيع ثانية أن أسمح بسرقتى بنفس الطريقة التى تمت فى الملاهى العملاقة فى ارض ديزنى، أو ساحة الاستعلامات فى سان فرانسيسكو مع أسره هاواى وصغيراتها، أو أمام المطعم الألمانى الصغير، وكأنها كانت خطة مدبرة متلاحقى خلال أسبوع واحد، تهدف لاحياء هذا الجانب من وجودى رغم انفى، نعم، نجحوا – هناك – أن يسرقونى الى ما أحببت، والى ما كنت أبدا أتوقاه، ولكن السرقة لا تتم بنفس الطريقة مرتين، فأين السبيل الذى لا أعرفه الى ما أحتاج الى تنشيطه مرة ثانية، ومائة؟ ولكن هل لابد من سرقة؟ وألا يجوز أن أسرق نفسى الى نفسى دون هذا الاستسلام المتغافل لمحركات خارجية تعرف الطريق الى قوى الطفولة بداخلى؟ أهو حقى؟ أهو عدل؟ أهو ممكن؟ والآخرون؟ يا ذى الآخرين؟ حجة هى، أم أدعاء، أم عجز عن التلقائية الحرة الرحبة؟ ليكن، وليذهب الأولاد ليسهلوا من الآن طريق الداخل ؟ الخارج، وليتمتعوا بما قد لا يضطرهم الى التماس لص شريف مستقبلا يساعدهم على أنفسهم مثلى، ولكن كيف يمكن أن تضبط الجرعة، كيف يمكن ألا ينسوا، وشريطة أن …..، ان ماذا يا أخى؟ مالك أنت؟ وهل يمكن؟ .. وأمنع نفسى فأنجح بالكاد.

ذهبوا، وعادوا، وحكوا وضحكوا، ونسوا، وحبذوا، ونمنا، فأصبحنا.

الاثنين 3 سبتمبر 1984 

اليوم نشد الرحال شرقا الى مونت كارلو، مونت كارلو “البلد” هذه المرة، فقد أشرت فى الفصل الثالث الى مونت كارلو المحطة، حين مررنا على مشارفها ليس الا، وقد كان من أكبر محمسات هذه الرحلة أنها ستتيح لنا الفرصة لنمر على نفس الأماكن التى سبق أن عبرناها وأحببناها، وحين عبرنا بلدة “البقعة الجميلة فوق البحر” (بوليو، سيرمير) ولمح الأولاد الفندق ذا الستائر الزرقاء الذى قضينا فيه أول ذيلة وصولنا، جعلوا يحيونه وكأنهم يحنون الى جزء من وطن عابر، وكما تعلمت مؤخرا من ندوات جمعيتنا هذه أن العمل الأدبى، الروائى خاصة، لا يصاحب الا فى المرة الثانية، فقد تعلمت من تجوالى أن المرة الثانية (لا الثالثة) هى أثرى ما يثرى الوعى اليقظ بما يحيط به، وما يصل اليه، فى الأولى تتلاحق الرؤى، وتقتحم “المعلومات” كيانك بايقاع “الاستكشاف” و “البلاغ”، وفى الثانية تستقبل من جديد ما كدت تعرف، فيلتقى، الداخل بالخارج فى عناق ابداعى منعش، وتستطيع أن تنتقى أعمق، وأن تؤلف أعلى، وأن تترك اختيارا، ثم لعلك تحذر – معى – من المرة الثالثة الى ما لا عدد له .. حيث قد يتوارى كل ذلك فى أرضية وعيك لحسابات اللهفة والرتابة و “الوصول”، اذ قد تكتفى حتى “تنسى” أو “تذهل”، يا لذا الانسان وقدرته على التنشيط، أو التقفيل !!

ودخلنا مونت كارلو، هكذا، نعم “هكذا” وأكثر، لا شئ الا علامة ولافتة، وغلية لكافة الاجناس فى كل مكان جنبا الى جنب مع ما هو فرنسى (أ, مونت كارلوى) ياناس، هذه هى فرنسا بالتمام والكمال، العملة، واللغة، والطباع، والمحلات، وكل شئ، كل شئ، اذن ماذا؟ وأحاول أن أصدق أن هذا بلد مستقل له سيادة، وأمير، وأميرة، وشعب، واقتصاد، وصدقت مرة، وكذبت مرة، وحين صدقت قلت لنفسى، ولماذا لا تكون بلدان العالم كلها كذلك، لا جيش، ولا حرب، ولا يحزنون، ما الذى يحمى هذا البلد القرية من الغيلان المحيطة؟ كلمة شرف؟ مجتمع عالمى؟ لماذا لا تجتاحها فرنسا، أو ايطاليا، أو اسرائيل، أو جنوب افريقيا؟ وحين كنت أكذب، كنت أفترض أنى فى جزء من فرنسا، لا أكثر ولا أقل، وما هذه المونت كارلو الا بور سعيد فرنسا (بور سعيد التى لا أعرفها، فأنا لم أذهب اليها – عمدا – منذ 1962، فى البداية : احتجاجا على الاحتلال، ثم بعد ذلك: احتجاجا على الحرية المشبوهة، فكيف أقارن بما لا أعرف، المهم أنى أشير الى المبدأ) وقلت أكف عن مقارنة عاجزة، وأكتفى بأن “أرى” وأتمعن، وجدنا مكانا لانتظار السيارة (تصور؟!) واشترينا شيئا ما، ومن محل ما، لنختبر الأثمان (وهذه وسيلة نستعملها لدراسة مقارنة للأسعار، نحدد صنفا بالذات، ثم نتابع ثمنه فى مختلف البلاد بعد تحويل العملة، والمسألة هنا سهلة اذ انها نفس العملة الفرنسية) ولم نجد الفرق كبيرا، ومضينا دون خريطة، هكذا مع الناس، وأغلب الناس هنا مثلنا، يذهبون حيث يذهب الناس!!، وفى نهاية الشارع الرئيسى (هكذا خيل الينا) وجدنا مدخلا الى مصعد، تصورناه قصرا من قصور أمير موناكو، فتلفتنا حولنا لنرى أى حارس، أو موجه، أو مرشد، أو مانع، أو بصاص، فلم نجد، فقرأنا اللافتة الموضحة لما هو، أو مانع، أو بصاص، فلم نجد، فقرأنا اللافتة الموضحة لما هو، فاذا به مصعد عام، ينقلنا الى أعلى حيث يمكن أن نتوجه الى “الكازينو” أو “حديقة النباتات الغريبة Jardin Exotique ، وتصورنا أنه علينا أن نقطع “تذاكر ..ما” اذ من غير المعقول أن يكون كل هذا الرخام والجمال والنظافة، هكذا، لاستعمال أمثالنا مجانا، لكن أبدا، وأخذنا نمشى فى الممر الرخامى أرضا وحوائط، ونحن لا نصدق، فنلمسها لنتأكد، ولم يكن فى الممر – على طوله – سوى اثنان أو أربعة، غيرنا حتى كدنا نشك فى صحة طريقنا، ونحن بلا خريطة ولا دليل، نعتمد على الناس، فأين الناس؟ ولم نتراجع فاللافتة واضحة، ونحن فى حالة استكشاف دائم، وخاصة وأن الهدف الأول قد أصبح – الآن – هو التأكد من أن استعمال هذه الفخفخة الملوكية هو من حق عامة الناس أمثالنا، ممن هم ليسوا كذلك (أو بتعبير أدق : ليسوا وجه ذلك (مش وش ذلك) ووجدنا أنفسنا داخل المصعد الذى هو مثل مقصورة الأحلام، وعجبنا – للمرة بعد الألف – من فرط النظافة، والتقطت احدى بناتى قصاصة لا تزيد عن عدة سنتميمترات، وكادت تخفيها فى حقيبتها حتى لا تشوه المنظر، وفهمت كيف أن النظافة تولد النظافة، والعكس صحيح، وصعدنا، وهدتنا اللافتات الى اتجاه “حديقة النباتات الغريبة” فقابلنا شابا يهبط شارعا صاعدا وحقيبة ظهره تلهث وراءه، ولكنه سعيد بالنزول الطروب، فسألناه – لنتأكد – عن تلك الحديقة، فأشار الى أعلى وهو يمضى فى طريقه، لكنى استزدته استفسارا: “هل تستأهل؟”، فابتسم متعجبا، ثم أكد شيئا ما، فى الأغلب يعنى أنها تستأهل، وجعلت أتعجب من سؤالى، ما هو الذى لا يستأهل؟ وبأى مقياس؟ ولمن؟ ما أسخفنى، فشكرت الشاب على تعجبه واجابته المفتوحة، فتوكلنا على الله وجعلنا نصعد، ونصعد، ولا يبدو للطريق نهاية فنصعد، ولا يصبرنا على الصعود الا يقيننا من أننا كما صعدنا سنهبط، ثم نصل الى حيث ينبغى بلا بديل، ويفضل بعضنا عدم الدخول، ربما لارتفاع رسم الدخول نسبيا، وربما لأن كله مثل كله، فينتظروننا فى الخارج يملؤون العين بأبعاد مونت كارلو من أعلى، ويدخل الآخرون معنا الى هذه الحديقة الرائعة، فتكلمنا الطبيعة بلغة متميزة أخرى، لغة تشعر فيها بالتحدى الجميل، ويختلط عندك التاريخ بالحياة الآنية، فهذه “الآثار” الحية تنعش وجدانى أكثر من حكايات مومياءات الملوك ومدافنهم، فأنا حين أشاهد آثار بلد ما أشعر أنى أشهد قدرة الانسان على مجرد الخربشة على جدار الزمن، أما حين أشاهد فعل الطبيعة الحى المتحدى، فانى أشعر أنى أمام نموذج مكثف مختصر (ماكيت) لتجليات المبدع الأعظم فيما هو مازال حيا ينبض، وقد جمع الانسان فى هذه الحديقة مجموعة من نبض النغم الأخضير، فنجح أن يتلاءم مع الخالق المبدع الأعظم، اذ اتقن تلحين هذه الصورة التى تعلن بعض تجليات الله فى أرضه، فنصلى فرحا وحمدا اذا نقترب أكثر مما “هو” “هكذا” – وأبحث عن ذلك أو بعض ذلك فى أوجوه صحبتى، فأجده قليلا أو كثيرا، وأتيقن من صدق رسائل الطبيعة الى طبيعتنا، حتى لو عجزنا عن ترجمتها الى مثل هذا الكلام الذى أكتبه الآن، شريطة أن نحتفظ بمسام وجودنا “سالكة” وكيف ذلك؟ وأتذكر حديقة النباتات فى أسوان، وأقارن بين أول زيارة لها (حول سنة 1970) وآخر زيارة لها (حول سنة 1980) فاصاب بغصة توقف هذا السيل المتدفق من التسبيح والنشوة، ولا أستطيع – هنا والآن – أن أسمح بفتح نيران اللوم، لوم مسئولينا وأعلنا، أو لبس غطاء الخزى والشعور بالذنب لما نفعله بأنفسنا وطبيعتنا، ولا أستطيع فى نفس الوقت أن اتخلص من غصة المقارنة وأنا أتذكر أكوام انقمامة، وانحطاط الخدمات، وتشويه الملابس، ونشاز أصوات الباعة والرواد والحراس جميعا، وبقايا الانسان الحيوية والاستهلاكية فى كل مكان، ماذا حدث فى هذه السنوات العشر فى ذلك المكان الرائع (حديقة نباتات أسوان!!)، أو ماذا حدث فى داخلنا فانعكس على ذاك المكان الرائع، لا … ليست الحكومة فقط، ولكن لا .. هى الحكومة أولا، لا .. بل .. هى علاقتنا بربنا / الجمال / والتناسق، وعندى تفسير خاص للحديث الشريف عن ازاحة الأذى عن الطريق حيث لا يقتصر تفسيره عندى على تجنيب حجر يتوسط الطريق أو التقاط زجاجة مكسورة فى حارة يلعب فيها الأولاد حفاة الأقدام، ولكنه يمتد الى كل ما يؤذى العين ويخل بالجمال، وقد امتد هذا التفسير الى ضرورة ازالة العمارة النشاز من حى جميل، ولكن كيف الحال وقد أصبحت العمارة الجميلة هى النشاز فى أحيائنا الجديدة الــ “كيفما اتفق”، وما احزننى أكثر فى هذا التدهور أن يكون ذلك فى أسوان، حيث الجنس النوبى الطيب، والآثار العريقة، وقد كنت أتعجب من شعب بلا تاريخ مثل أمريكا وهو يتمحك حتى فى تاريخ البشرية أو الحياة، وما زلت أذكر متحف الأحياء فى واشنطن والأرقام بآلاف السنين تحدد عمر هياكل الدينصور بالذات، وما زال منظر دينصور طفل عالق فى ذهنى حيث لم أكن أحسب أن الدينصور يمكن أن يكون طفلا أصلا – فى أمريكا ناس تبحث عن تاريخا فى تاريخ الحياة، وهنا فى مونت كارلو يواكبون التاريخ مع نبات غريب أو عريق، ونحن أصحاب التاريخ نغطية بما لا يليق .. ولكن : أليس لكل شئ نهاية فلم اليأس والسخط والنعابة؟ قف!!

وحين انتهت زيارتنا لهذا المتحف الحى، ورجعنا الى بقيتنا خارج الحديقة ينظرون من أعلى الى كل شئ فى مونت كارلو البلد، أشارت ابنتى تورينى حمام سباحة ضخم يجاور ميدانا قريبا، وسألتنى هل يا ترى هذا حمام عام مثل المصعد التحفة والممر الرخامى؟ ولم أستطع أن أجيب، ولم استبعد ذلك، ولم أخف عليه من القذارة أو سوء الاستعمال، اليست النظافة تجلب النظافة؟

رجعنا من حيث أتينا فرحين بالنزول الذى كنا نحلم به صاعدين، فنوجهنا الى نفس المصعد وفى نفس بعضنا أننا ركبناه فى المرة السابقة عن طريق الخطأ، ولكننا تأكدنا – من جديد – أنه مرفق عام، يا حلاوة (تأتى!!) توجهنا الى الكازينو (وهذا هو اسمه، هكذا : فقط casino) وهو نادى القمار الشهير جدا، وكنت عزوفا عن الدخول، فما لى أنا بهذا؟ وماذا هناك يرى؟ ولكنى ما أن علمت أن الدخول ممنوع لمن هو أقل من 31 سنة حتى انتعظت قرون استشعارى، فدخلت، وجعلت انظر لوجوه الناس فى صالة الاستقبال فلم أجد شيئا، وما أن دلفت الى الصالات الأخرى، وقد وقف كل زائر أمم آلة ما، يضع أشياء ويعيد الكرة، وكلما كسب (وقد كنت أعرف ذلك من بعض تعبيرات الوجه) خسر، اذ لا تتركه الآلة حتى تبتلع فى النهاية كل ما تبقى، فيذهب ويستبدل، أو يفك، ويرجع، أو لا يرجع حسب ما يحمل من نقود أو آمال، وبقدر ما يتمتع من ارادة أو أحلام، ولكن ما بال القوم لا يلاعبون الا الآلات، وقد كنت أحسب أن الميسر (القمار) مثل أى لعبة فيه كاسب وخاسر من البشر، ولم أتصور أبدا أن اللعبة قد أصبحت بين شخص فرد، وبين آلة ملتهمة، وتصورت أن هذه هى نفس النقلة التى حدثت فى تطورنا المعاصر، فنحن فى الحياة العامة، وبالذات فى لعبة الحرب الحديثة، لم نعد نواجه بعضنا البعض، ولكن كلا منا يواجه آلة الحرب على حدة، حتى أن هذا التعبير “آلة الحرب” أصبح يطلق على الفريق المسئول عن ادارة عملية الحرب: من أول خبراء تكنولوجيا رحلات الكواكب حتى جهاز المخابرات (المركزية)، أى تدهور وأى خطر أن يلاعب الانسان (ويصارع ويحارب) آلة “ما”، لا يعرف تحديدا من يديرها، وأتذكر هذه اللعبات التى كادت تنتشر عندنا بعض الوقت، ثم الغيت والحمد الله، والتى ما زالت تملأ مقاهى وبارات ونوادى العالم الغربى، والتى يلاعب فيها الفرد نفسه، حتى أن بعض الموائد المعدة لنجلوس وعليها الطلبات ليست سوى هذه اللعبة الملتهمة أو تلك، وكم فزعت حين دخلت مقهى فى لوس انجلوس فوجدت به أربعة رواد وأنا خامسهم، وقد جلس كل منهم على مائدته وحده يحرك ازرارا ما فى جنب المائدة، فحسبت أنى دخلت المكان عن طريق الخطأ، لولا أن جاءنى النادل وسألنى عن ماذا أطلب، فطلبت ما تيسر، لكنه عاد يسألنى وكم من “الماركات”، ولم أفهم بداية ثم اعت      ذرت أنى لا أعرف هذه اللعبة، ولا أريدها، فانصرف مندهشا، تصور، هو الذى يدهش، ونحن عندنا فى طبنا النفسى نقول على الشخص الذى يكلم نفسه، أو يضحك وحده أنه الشئ الفلانى، فما هذا الذى يجرى من حولى بالله عليكم؟ وحزنت آنذاك على اختفاء معنى “المقهى” الذى كنت دائما أتصور أنه “علاج جمعى وقائى” بالمعنى التلقائى، اذ أن الناس اذ يجتمعون ويتكلمون وبختلفون ويتفقون، لابد وأن يتقاربوا فيتواكبوا، فلا يمرضوا، لكن يبدو أن الحال قد انقلب حتى أصبح الواحد يذهب الى المقهى، ليضع أمامه كأسا يغيب به عن نفسه، وعمن حوله، أو يقترب بما هو ليس هو، ثم يلاعب نفسه أو منضدته، ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.

فأخذت أتأمل استغراق الناس من حولى فى هذه الألعاب الذاتوية الملتهمة، فتقفز الى هامش عقلى اجابة لذلك السؤال الملح الذى ما زال يطاردنى “ماذا يفعل الناس الأثرياء بفائض نقودهم؟” (وذلك بخلاف شراء السلطة وادعاءات التضحية)، أعنى ماذا يفعلون “شخصيا” بها “شخصيا”؟ فجاءنى الجواب : “يلقونها فى هذه البالوعة الدوامة التى يمكن أن تبلع أى عدد من الأصفار بجوار أى رقم ضاق صاحبه بمنظره المتراكم، وأتصور أن أموال أغلب هؤلاء الأثرياء قد “انفصلت” عنهم بشكل أو بآخر، فهو يضطر أن يأتى الى هذه الأماكن ليحرك قوانين التهديد والتحدى، فيتذكر أنه يكسب ويخسر، فيوقظ انتماءه الى ما عنده واحساسه به بشكل أو بآخر، وربما كانت الخسارة هنا هدفا خفيا أقوى من المكسب باعتبارها انتحارا تدريجيا بديلا، لكن من ذلك الغول الذى يقف وراء آلة الميسر هذه، (أو أى آلة: آلة الحرب، وآلة الاستغلال المطلق) أهو شخص رمزى، أم مؤسسة تدميرية، أم قانون الانقراض، ولكن ما هى الفائدة المحددة التى يمكن أن تعود على هذا الغول الخفى؟ وأنا لا أميل الى استعمال كلمات لا أحسن فهمها مثل الامبريالية والشمولية والاستعمارية وما شابه، ولكنى أظن أن قوى الدمار فى العالم قد استشرت ولبست أثوابا متعددة، ومماثلة، بحيث يصعب تمييزها، وأحسب أن ميل الميزان – مرحليا – الى جانب قوى التدمير والانقراض، انما يرجع أساسا الى ما تم تجميعه من تكتلات معرفية متفرقة تحت عناوين العلم والصناعة وأوهام الحرية، مما أدى الى انفصال جوهرى بين ما هو انسان السلوك الفردى اليومى، وما هو لحن الوجود البشرى الأشمل، وما هذه الآلات الملتهمة (آلة الميسر، وآلة الحرب، وآلة الاغتراب المعرفى .. الخ) الا التجسيد الحى للانفصال والاغتراب جميعا، فمن يلحق الناس؟ هممت أن أقترب من أحد المستغرقين فى التحدى أمام الة لاحظت أنها تخرج له لسانها المرة تلو المرة وهو لا يشعر، فاذا شعر وهم بالاحتجاج لوحت له بمكسب تافه يترنح أمامه معتذرا، فاذا به يرتد أغبى من فراشة حول نار حامية، وهكذا .. حتى تأتى عليه، ثم عدلت، وقلت لنفسى .. هذه هى الحياة بتركيز شديد، وهذا – ومثله – هو ما يجعل الناس تكسب بلا حساب، وقس على ذلك، وأنصرف الى غيره، وغيره، حتى أقترب من قاعة أكثر ذهبا وثريات وزخارف، وأجد فئة معينة هى التى تخطو اليها شاهرة السيجار أو الغليون، مرتدية أوجها تاريخية أو سينمائية، مألوفة لى رغم أنى لا أعرف اسماءها طبعا، فأقول هأنت يا ولد بين علية القوم، وخاصة وأن القوم هنا تعود على العالم أجمع، فأدخل يا فتى هذه القاعة أيضا تكتمل رؤيتك، لكن زفاقى فى الداخل لا يوافقون نظرا لانتظار أغلبنا (أقل من 21 سنة) فى خارج الكازينو، ورجحت أن الأنسب كان أن يمنعوا من لا يزيد دخله عن كذا، ولا تقل درجاته فى اختبارات الارادة والانتماء عن كيت، ولا تزيد قوة بصره أو بصيرته عن الشئ الفلانى، لابد للعصر من مقاييس معاصرة، أما حكاية السن هذه فبدعة قديمة، ثم تمنيت وأنا فى طريقى الى الخارج لو أن من وراء هذه الآلة التى تكسب دائما، أولا وأخيرا، أن من ورائها حكومة عالمية، أو على أضعف الفروض يونسكو ذكى، اذن فسوف يمتص الفائض من هؤلاء الأثرياء الحائرين به (مثل حيرة أمريكا بقمحها)، فندفع به قوى الابداع والخلق جميعا ولكن ما اليونسكو فى نهاية النهاية؟ اليس هو موظفون وأوهام وسلطة ووصاية؟ أيضا؟ يا ساتر..!!

ماذا فعلت بى هذه الآلات بهذه السرعة دون أن أقربها؟ لقد أوصلتنى الى بؤرة اليأس المركزى الذى لا أطيقه أصلا، والذى أشعر أنى لو استسلمت له فأنا لا أستحق أن أختلس نفحة اكسجين أو لقمة عيش أو شربة ماء يستحقها أكثر منى كل من أحب الحياة رغم هذه الآلات وهذه الحسابات، فأنتزعنى من تلك البؤرة الساكنة الى الدوائر المتحركة، فأنظر الى صحبتى فأجدهم يشاركونى بعض مشاعرى دون هذا اليأس القبيح، فأطمئن نفسى، وأفرح بهذه  ونخرج من الكازينو لنكتفى باللف حول المعلم الثالث فى مونت كارلو “قصر الأمير، زوج جريس كيلى … أو العكس” ونكتفى بالنظر اليه من الخارج اذ أننا لم نتصور أن يكون أفخم من ذلك المصعد العام ذى الممر الرخامى، ثم هذا قصر أمير أبن أمير، ولعله الآن فى قيلولة ناعمة، فلماذا نزعجه بزيارتنا، أليس عيبا كل ذلك، فأن لم يكن هناك سموه، فلا داعى لزيارة الحوائط، ويقول أحد الأولاد : اذن، هذه هى مونت كارلو، فنقول نعم، فيرد آخر، انها ليست الا حديقة وكازينو وقصر؟ فأضيف وناس، ومصعد، وحكمة ملقاة لمن يلتقطها، فلا يفهمنى ويمضى يسأل عن الاذاعة فأسخر وأشير الى أحد المارة أنه أميجو حكمت وهبى، ثم أتذكر فجآة حوارى مع جاد الرب(10) حول اتهامة اذاعة مونت كارلو بالتجسس عليه واطلاق اشاعات سافلة تعوق مشاريعه الأخناتونية الموحدة، وأقارن ذلك بما انتهيت اليه من افتراض ذلك الغول المجهول القابع وراء الآلات المتهمة، وأقول أين أنت يا جاد الرب فقد شاركتك أفكارك أخيرا من مدخل آخر، وهأنذا أتمادى فى تصور عبادة هؤلاء الناس لهذه الآلات ضد كل أخناتون وكل “لا اله الا الله”، أليست هذه كلها أصنام؟ ألا يحق لى أن أتصور احتمال تعليق لافتة على كل آلة (فى الكازينو أو فى الحياة) باسمها الأحدث “اللات 85” – (العزى 2000) – وهكذا، والذى نفسى بيده ليست سوى أصناما عصرية تكنولوجية خبيثة.

وأخذنا فى طريق عودتنا نودع كل شبر نمر عليه، لأننا نعلم أن هذه هى آخر ليلة، وآخر لفة، ولم يكن ينقصنا إلا أن نمد أيدينا من السيارة نلامس أديم الأرض الذى هو من أعين ساحرة الاحورار: يا طائر الحرية رغم المحبسين يا أستاذنا يا سيد المعرة، ونكاد نوصى الأرض خيرا بنا من بعدنا فى أى صورة بشرية طيبة، وترد علينا الأرض والأبنية والشجر والاسوجة أن : بالسلامة، فنشكرها ونمضى لنصل نيس، فالمدينمة الجديدة، ونوصل الأولاد إلى معسكرهم لأعود أنا وزوجتى إلى الموتيل الجديد الذى انتقلنا إليه مضطرين، وهو احدث وأرحب، اتفقت فيه على على استقبال من أشاء كيف أشاء، حتى الأولاد ليستحموا حمام الوداع، فالرحيل غدا، ومن يدرى أين ومتى سنجد الماء الساخن مرة ثانية، وأتذكر – فى حركة غير مفهومة – معنى أن يكون الحمام من العيد إلى العيد عند من لايستحم (أو يأكل اللحم) إلا فى المناسبات!

ونتفق على الاستيقاظ المبكر لشد الرحال إلى باريس، فتهف على روائحها . نداؤها خاص، ورائحتها نافذة. . .

 

[1]- لظروف خاصة عابرة أن شاء الله، أعيقت طفولة الزميل عصمت داوستاشى عن مشاركتنا هذا الفصل، فاكتفى بصورة واحدة صدرنا بها الفصل، فعذرا، وانتظارا.

[2]-  أنا عندى خمس قراريط

أنا رايح أزرعهم بيض

أو جبنة أو سميط

وزرعنا الأرض دقه

وروينا الأرض بزيت

ويا حسرة ف آخر الموسم

حصدنا أعواد كبريت… الخ.

[3] – أنظر بعد    

[4] – انظر الفصل الرابع

[5] – حين ذكرت بعض ذلك لأحد طلبتى من صغار الأطباء، انزعج انزعاجا بالغا خوفا من أن يصدق اتهام زملائنا لنا، أن بنا من الشذوذ متن ما امرضانا (فلا قوة الا بالله).

[6] –  وقد أعود لهذا فى موقع آخر اذا سمح الاستطراد بالحديث عن الفرق.

[7] – كتبت هذا الفصل قبل حادث مرعب فى المقطم حيث أسكن، يدل على تقدمنا السريع نحو الحضارة النيويوركية، ولا عزاء للأبرياء.

[8] – متذكرا مثلا قاسيا يقول على من يهاجم ناسه اذ يبصق عليهم “أن تفتها لفوق نزلت على وشك، أو تفتها لتحت نزلت فى حجرك”.

[9] – هوليود، قرية متواضعة من ضواحى لوس إنجلوس، وهذه الاستديوهات تكاد تكون مدينة مستقلة تماما. ولا يطلقون عليها اسم هوليود هكذا كما نفعل.

[10] – الانسان والتطور عدد ابريل 1980 ص 151 وما حولها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *