الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1983 / أكتوبر 1983 – قصة قصيرة – الاعتــلاء

أكتوبر 1983 – قصة قصيرة – الاعتــلاء

مجلة الإنسان والتطور

عدد أكتوبر 1983

قصة قصيرة

الاعتــلاء

محمد عبد المطلب

…………:

للوهلة الأولى – بدأ الحديث فذا ونادرا وشاذا، جعل الناس فى المدينة ينسلخون عن اهتماماتهم اليومية، ويتحلقون حول الرجل الذى عاين الحدث بنفسه، حملقوا كثيرا فى عينيه السوداوين وقد بدتا كنافذتين للقلق وقال أحد التجار البسطاء بارتياب:

– هل رأيتهم بنفسك.. بعينك هاتين؟؟.

اكتفى الرجل بهزة بسيطة للرأس المذهول وهومت عيناه بعيدا.

لكن أيدى كثيرة هبطت على كتفيه – تلح وتطلب المزيد من الاجابات، وانفسح ممر فى قلب الزحام وأطل رجل شديد الاناقة وبلهجة حديدية قال له:

– كم عددهم على وجه التحديد؟؟.

– ثلاثة أو أربعة.

تغير لون الرجل الأنيق وسيطر عليه الارتباك، صاح بصوت مبحوح: غير ممكن أنت كاذب… أنت كاذب.

أرتعش الرجل الذى عاين الحدث بنفسه وتبادل نظرات خوف مع عيون الحشد الذى أحاط به لكن عادت عيناه ترحل بعيدا عن الزحام والوجوه التى اكتست بملامح الخوف… وتمتم: فى بداية الأمر لم أصدق عينى – واعتقد أن المسألة تهويمة من تهويمات الحواس التى تبقى من سهرة كل مساء ومرت بى لحظات شك عميقة، لكنى اقتربت من موضعهم، وفتحت عينى كفنجان القهوة ورأيتهم يحركون ذيولهم فى شبه نشوة، وبدا أنهم تخلصوا من خوفهم وحذرهم الطبيعى وهم يرفعون رؤسهم الصغيرة المدببة والشوارب الشهيرة ويتطلعون الى المدينة والبيوت ويرمون نظرات محددة الى الأضواء العديدة والناس الذين يغنون ويرقصون وتطفح السعادة على وجوهم والناس الذين يتبادلون النكات السرية المثيرة للضحك والناس الذين يسترخون فى مقاعد وثيرة وقد أغمضت جفونهم  على أحلام وردية والذين يعقدون الصفقات والذين ينظرون فى وجوم وينتظرون الفرصة للانطلاق، وبعد أن هبطت رؤوسهم  بتؤدة وتقاربت شعت أعينهم بنظرات مخيفة لكنها بدت كنظرات السرور والنشوة وقلت لنفسى لو أن الأمر خداع بصرى، فماذا أقول فى الصوت الذى تغلغل فى أذنى وجعل الدم يوشك أن يغير مساره فى عروقى، لأنى شعرت بهم – يوشكون أن يقفزوا الى ما تحت سترتى وصرخت وجريت والتقت نظراتى بنظراتهم المشعة فى لحظة  خاطفة وقد أيقنت أنهم لمسوا خوفى الشديد منهم وصرت أردد:

– يا الهى فئران فى مدينتنا.

عصر الفـئران:

لم يعد فينا مواطن يسأل عن الفئران فى لهفة وذهول مثل الأيام الماضية، وأفتقد الرجل الذى يعد أول من أكتشفها أهميته الوقتية والتى أوشكت أن تجعله يشغل مقعدا عظيما فى تاريخ مدينتنا وذاكرتنا، فقد صار مألوفا لدى كل مواطن أن يرى الفئران وهى تقفز من أماكن مجهولة، لم نعرفها على وجه الدقة وتواجهنا بأعينها المشعة والتى تحوى نظرات غامضة وتهز أذيلها فى أطمئنان عجيب وتمرق تحت اقدامنا وأطراف أصابعنا فى نشرة مجنونة، غير عابئة بمخاوفنا وهروبنا المتكرر منها  ومن الطرق التى سيطرت عليها وتتجمع فيها وفى لحظات صمتنا الشديد نسمع صوتا متشنجا محتجا يرتفع: الشوراع الأنيقة لم تنج من الفئران والشوراع القذرة بالطبع توفر لها مناخا طيبا – أى كارثة؟؟.

ويقتحمنا خوف مبهم، ويجتاحنا  فضول شديد عن الايام المقبلة فى تاريخ مدينتنا بأى شكل ستمضى وأى مصير سنلقى وينطلق رجل غريب فى لهجة لا تخلو من البعث: أبشروا – بعد قليل سنسمع من يقول أولا جف اللبن فى صدور الأمهات وثانيا فقد الرجال ذكورتهم وثالثا توقف نمو الأطفال ورابعا فقدت الفتيات العذراوات أحلامهن الوردية وخامسا أعلنت القابلات أن عصرهن قد انتهى وسادسا صرخت النساء فى وجوه الرجال لابد من حل.

ويغرق الرجل فى ضحكه أشبه بالعواء وتتقلص ملامح وجهه وتظفر عيناه المنطفئتان بالدموع فيصمت فجأة مستشعرا وقع نظرات نارية عليه وتغرقنا لحظة صمت طويلة وثقيلة، نتبادل فيها نظرات الدهشة والذهول والحيرة ثم نهز أكتافنا فى محاولة مستميتة للتخلص من شبح الفئران لكن صوت أحد الرجال يرتفع: لقد قمت من النوم مذعورا وفوجئت بالفئران تشاركنى الفراش أنا وزوجتى فوق الوسادة وتحت الاغطية وفوق الكومدينو أيضا. يقترب شخص جديد لا يعرف الرجل الأول يقول:

ـ اما أنا فماساتى أشد واعمق، تخليوا انى وجدت الفئران تحت سترتى التى أرتديها خمس عشرة ساعة فى اليوم وفى جيوبها الداخلية( ثم بعد تردد) الحقيقة أنى خجل مما اقول هل تصدقون أنها تحاول أن تفتح جفونى وتتحسس رأسى وتحاول قراءة ما أخبئه من أفكار- الحقيقة أنى أوشك على الجنون ما من مكان أهرب اليه إلا وأجدها قد سبقتنى بمراحل – حتى عندما أقضى حاجتى أشعر أنها تنزل من أمعائى…. تنزل من أمعائى ويبدأ أمثال هؤلاء الرجال فى البكاء الشديد فور الانتهاء من سرد حكاياتهم ويأتى رجال جدد وينغمسون فى البكاء معهم لأن لهم حكايات مماثلة ويتسلل الينا حزن شديد ثم يصرخ رجل بدين: ماذا نفعل ؟؟.

ـ هل سنظل داخل جدران الصمت؟؟ لقد هربنا من الفئران بالبقاء داخل بيوتنا لكنها صارت تقاسمنا كل شئ حتى أخص الخصوصيات (ثم بصوت منخفض وخجول) اخشى أن تنجب زوجتى فئرانا وبذلك تضيع آدميتى تماماً لحظتها يكون الموت المؤكد.

وتأتى لحظات صمت طويلة تضاهى القرون فى ثقلها وامتدادها، تتخللها ارتعاشات خوف مبهم، فنفر نحن الرجال الى البيوت، الى فئران أقل… أقل نواجه خوف النساء بعجز وحيرة….. نهرب من عيون الأطفال الفزعة.. وقد تجمدت الدماء البكر فى عروقهم الصغيرة.

ويجذبنا وجه وسيم على الشاشة الصغيرة فى أحدى تلك الأمسيات ـ التى فقدت تميزها كما فقد ذلك الوجه كثيرا من  وسامته – وقد خضع لسمات الخوف ويعلن بصوت خافت مستمد من بئر الرعب: ان الفئران قد توصلت الى المخابئ التى نخزن فيها القمح وانها الآن بصدد انهاء كل أغذية المواطنين حتى الملح لم يسلم من السنتها الساخنة وتمر دقائق بسيطة ثم يعلن الصوت القادم من بئر الرعب ان الفئران قد تسللت الى كل مرافق المدينة ـ حتى مكاتب الموظفين الكبار والصغار ـ وصارت تقضم الأوراق والمستندات الهامة وغير الهامة، ثم يأتى المشهد المروع فيتلاشى وجه الحسناء فتجثم ظلمة كثيفة مرعبة ويصيح رجل مجهول الهوية. حتى النور التهمته الفئران ولحظتها….. تصير شوراع المدينة مهجورة تماما من البشر ومفتوحة الصدر للفئران تمرح فيها وترقص رقصاتها البشعة وتصدر أصواتها التى توشك أن تسبب لنا الجنون ويهتف أحد المواطنين منهارا خلف شيش نافذته الضيقة:

ـ حقا….. نحن فى عصر الفئران……. نحن فى عصر الفئران.

رجل الفئـران:

…………. استقبلتنا ظلمة كثيفة مثل ظلمة العصور السحقية وبدأنا فى استخدام المشاعل والشموع التى تجعلنا لا نرى الأشياء بوضوح كاف ـ مما جعلنا نلجأ الى ذاكراتنا للبحث عن الأشياء وخواصها التى اكتسبناها قبل عصر الفئران وتحت ظلال الضوء الضعيف استطعنا أن نميز صورة رجل ما ـ مطبوعة فى ذاكرتنا لكنها تسربت فى فجوات الخوف، بدا بملامحه الوقورة وذقنه البيضاء الصغيرة وسمات وجهه التى اكتست بصفات الجدية التى تميز رجال العلم وسمعنا الرجل يقول بصوت منخفض وهادئ – وهو يحاول أن يطغى به على صوت الفئران الذى يحاصرنا من كل جانب:

– أننى قاومت الخوف الذى يقبع داخلكم واقتربت من عالم الفئران وقد لا تصدقون اذا قلت لكم انى تفرغت شهورا طويلة ومضئية لمعرفة لغة الفئران، ألا تصدقون؟؟ الفئران لها لغتها الخاصة وطموحها المميز وخططها البعيدة والعميقة – الحقيقة التى يجب أن نواجهها جميعا – رجال الشوارع الأنيقة والأقل اناقة والشوارع غير الأنيقة على الاطلاق – هى أن الفئران  قد عقدت العزم على ابادتكم (لحظة صمت بسيطة) وهى تعمل بشكل منظم ومدروس وتجند فأرا لكل مواطن فى المدينة فهى بعدد البشر هنا ولها قيادات ذات نظر بعيد ولها آذان مرهفة تسمع الآراء من أبسط الفئران شأنا تلك التى انكبت على دراسة حياتنا بوعى شديد فشملت عادتنا وتاريخنا وبواعث سرورنا وحزننا حتى أشهى الأطعمة التى يحبها المواطن العادى – صارت على علم بها وأيضا الرغبات المطنة والرغبات غير المعلنة صارت تحمل لها تصورا يقترب من صدق الرؤية والاستيعاب، والفئران أعدت العدة لامتصاص الدماء التى تجرى فى عروقكم القضاء على كل أثر لكم – ولا أخفى عليكم أمرا لقد بنت الفئران لنفسها قلاعا فى أعماق سحيقة من الأرض وزودتها بكل ما تحتاجه فى معركتها الطويلة الأمد للقضاء عليكم – وهذه القلاع فى مكان ما داخل وخارج مدينتكم هى الآن تتدرب تدريبا عالى المستوى على أفضل الوسائل لامتصاص الدماء – دماء كل مواطن منكم وقد أيقنت أن ذلك يتأتى لها باحداث ثقب فى رأس كل مواطن وبعدها تصير فريستها هيكلا عظيما أو عدما وقدت عاينت ينفسى حالات تؤكد ما اقول وجدتها فى الأماكن المهجورة من مدينتنا – وقد بدت مثل معسكر تدريب للفئران أو معمل اختبار لكنه ملئ ببقع الدم وأكوام العظام الجافة ومن خلال اتقانى للغة الفئران الخاصة علمت أنها ترى أنكم غير جديرين بالعيش داخل جدران هذه المدينة.

وسكت الرجل الذى بدأت تتغير ملامح وجهه الهادئة ثم اختفى داخل الحشود الذاهلة وذاب – كذكرى الأيام الماضية وارتفعت الصيحات المرتعبة من داخل الحشود مستنكرة ومستميتة فى تمسكها بأهداب الحياة وزحفت الظلمة العميقة الى قلوبنا وتوترت انفاس المحتشدين وتحت ظلال الضوء الشحيح قال رجل أنيف فى شبه بكاء.

– هذا ما جنيناه من الأحياء القذرة.

تحركت أعين كثيرة من المحتشدين تبحث عن الرجل الذى القى قنبلته وذاب مثل الثلح محاولة أن تتخلص من ثقل العديد من التساؤلات التى نبتت فى الأذهان رغم امتلائها بالخوف والرعب لكن صوتا حادا ارتفع فى لحظة الحوار مع النفس رافضا كل ما قبل من رجل العلم وأضاف بلهجة رسمية وقائمة على دعامة كبيرة من الثقة:

– أعلن أمامكم الآن أنى سأبيد كل الفئران وأعلن أن كل مواطن فى المدينة مدعو لعقد مؤتمر علنى ليعلن عن رأية بحرية تامة ومطلقة عن أفضل الوسائل التى يراها كفيلة بالقضاء على الفئران.

وصمت الرجل واختفى بملامحه المتوترة وتسلل الينا بصيص ضعيف من الأمل رغم الظلمة الكثيفة التى تسللت الى قلوبنا لكن كلمات الرجل الوثور لم ترحل من أذهاننا ولم تنمح صورته من ذاكرتنا فصاح افراد عديدون:

– أين رجل الفئران.. أين رجل الفئران؟؟.

وبحركة تخلو من الارادة تحسس كل منا رأسه.

مؤتمر الفئران:

تحت ضوء المشاعل الأصفر، شهدت مدينتنا حشودا ليس لها مثيل تحيط بها أعداد كثيرة من الرجال الذين يرتدون البذل الرسمية ويمسكون بمعدات لامعة يصوبونها الى اتجاهات عديدة، فى اللحظات الأولى تبادلت الحشود نظرات الخوف وعدم الثقة واليأس، لكن بعض الحناجر انفجرت لتسكب الحماس فى عروقنا المغمورة تحت ثلج الخوف فى نفس الوقت الذى صعد فيه رجل شديد الاناقة فوق المنصة الرئيسية للمؤتمر وقال:

– يا أبناء مدينتى العظيمة سنحارب الفئران.. سنبيدها وسوف تصير مدينتنا لنا وحدنا ولن تشاركنا كائنات اخرى فيها، سوف نستخدم أرقى منجزات العصر فى ابادتها، لا بل سنستخدم كل الوسائل، المهم أن نبيدها.. أن نبيدها توفق الرجل الأنيق قليلا ليدرس انفعالاتنا ويقرأ وجوهنا التى انطفأت من الخوف والرعب (تحت ضوء المشاعل التى تقاوم الذبول والانطفاء) ثم واصل: اننى هنا لأسمع أفكاركم حول الحفاظ على حياة مدينتنا العريقة ومعنا رجال عظماء سوف يقترحون الحلول التى تصنع المعجزة.

صمت الرجل الأنيق ثم جلس على مقعد قريب فى اعياء لكنه أشار الى رجل بدين بالقرب منه فانتصب فى قوة وتقدم خطوات قليلة الى الأمام وبدا اكثر أناقة من الرجل الأول وصاح بصوت متحمس يشبه الصراخ:

– سوف نبنى سورا حول المدينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *