الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1984 / اكتوبر1984- الناس والطريق (خواطر ابن سبيل)

اكتوبر1984- الناس والطريق (خواطر ابن سبيل)

(كنظام: أدب الرحلات)

الناس والطريق

د. يحيى الرخاوى

(خواطر ابن سبيل)

“… وأفتح وعيى للانهائى، فأتلاشى بارادة أعمق، وتتضاءل الأفكار والطموحات، ويخفت الغرور ليرفرف الشك على كل ما فات، ولم لا؟؟ وإلا فما فائدة السفر….؟!”

قبل البداية:

لظروف شديدة الخصوصية – لا داعى للاشارة إليها أصلا – قمت بهذه الرحلة المحدودة (الأسابيع الأربعة) فالتمست لها هدفين علهما يخفيان – ولو عنى – الدافع الأصلى: أولهما: استكشاف امكانية امكانية ومعطيات مثل هذه الرحلة بهذه الوسيلة، وثانيهما:  التعرف على أولادى أكثر، فى محاولة جديدة لكسر الوحدة، وقبل أن تبدأ الرحلة أصلا، تيقنت من فشل الهدف الثانى، حيث أجهض فى محاولات تمهيدية، وذلك حين تبين لى أن المسافة بينى وبينهم شاسعة، وأن هذا الهدف الثانى هو نوع من الحلم الخاص المكرر، الذى يطفو على السطح فى أوقات الضعف القهرى، حين أكون أقرب إلى اهتزازى، وفى نفس الوقت أكثر يقينا بطبيعة نهايتى كفرد، أعنى: حتمية الموت الشخصى، حينذاك أندفع إلى الآخرين بعنف أكثر، وحاجة أشد، وفى هذه المرة، تصورت أن الفرصة متاحة للاختلاء بأولادى بعيدا عن رتابة العلاقة الفوقية من جانب، الاعتمادية من جانب آخر، الا أنى أدركت – للمرة المائة بعد المليون – ان محاولة عبور مثل هذه المسافة – بينى وبينهم – قفزا أو قسرا ليس وراءها الا أوخم العواقب، فتراجعت قبل أن أبدأ.

لم يبق – اذن – الا الهدف الأول: الاستكشاف.

– 2 –

ولكن، قبل أن استطر، لابد أن استأذن القارى، وزملاء التحرير، فى تبرير هذا الحديث، فى هذه المجلة، فى هذا العدد، فانى لم أعتد، ولم أعود القارئ، أن أكتب مثل هذا الحديث الخاص فى هذه المجلة، (أو فى غيرها)، وما دعانى إلى ذلك الا ورطة جديدة تتعلق بمسئوليتى تجاه هذا العدد فقد كلفنا – زملاء التحرير وشخصى- الزميل ابراهيم عادل بالقيام بمسئولية اعداد عدد أكتوبر جملة وتفصيلا، فكلفنى بدوره أن أكمل موضوع “ماهية الوجدان” (أحسن عيب)[1]، وقد وافقت متصورا أن فى هذا السفر فرصة للنظر الأعمق والترتيب والمراجعة، وذلك بفضل بعدى عن العمل اليومى (المزدحم بالروشتات، والتليفونات، والالحاح، والعد، والمشورة والمجاملة، والأهداف الصغيرة المتلاحقة)، نعم، تصورت أنى قادر على الوفاء بهذا الوعد، وتذكرت طه حسين وهو يكتب كتابه الضخم الهام –رغم تخفظات استاذنا محمود شاكر عليه- عن أبى العلاء فى أعلى جبال الألب “شامونى”[2]، وقلت إذا كان طه حسين قد اقترب من أبى العلاء كل هذا القرب حين ابتعد عن كل ما هو منه عيانا بيانا كل هذا البعد، فلم لايكون السفر فرصة جادة للكتابة الجادة، ومن ثم للوفاء بما وعدت به زملاء التحرير، حتى لو كان هذا الموضوع الذى وعدت به هو ذاك الموضوع الجاف الصعب؟

وتذكرت علاقتى بالكتب والسفر، فأنا أشعر أنى بغير كتاب فى صحبتى – مسافرا – كالذى يمشى عاريا فى شارع مأهول بالغرباء ودائما آخذ معى من الكتب ما يثقل الوزن حتى يهدد المسموح به بالطائرة، وقد تضيق بذلك زوجتى “سرا” وقد تتوقع أن ذلك قد يكون على حساب ما تتوقعه من شراء – رغم وعودها بغير ذلك -، الا أنى لا أطمئن الا إذا اخذت عددا متنوعا من الأصدقاء الكتب، ثم ان السفر هذه المرة كان بالباخرة، ومعى حافلة (أتوبيس) صغير، فلا مشكلة حول الوزن أو الحجم ذهابا وعودة، ولا تنافس بين كتبى ومشترياتها، فأعددت حقيبة مستقلة للكتب بها من المراجع ما يلزم لاكمال هذا الموضوع عن “الوجدان”، ولكنى، ولأول مرة: وجدت نفسى أفتحها عنوة ليلة السفر، لأوقن – من خبرتى السابقة وطبيعة المسافة التى تنتظرنى لأقطعها قائدا سيارتى – أنى لن أستطيع أن أمس هذه الكتب فى هذه الرحلة، وفى حسم مغامر: تركت الحقيبة بما فيها مغلقة، واستدرت فمددت يدى الى حرافيش محفوظ، وجمعت البطاقات التى كنت قد سجلت عليها ملاحظاتى على هذه الملحمة، وقدرت أنه من الأوفق فى هذه الرحلة أن أرحل فى زمان هذه الملحمة، مثلما أنا مرتحل فى مكان تلك الأرض، وخاصة بعد أن أكتشفت مؤخرا ملحمة جارثيا (مائة عام من العزلة)، فضممت الملحمتين الى بعضهما، وقلت لعلى واجد فيهما ما يلصح للمقارنة أو الالهام بالتبادل، تذكرت علاقة نجيب محفوظ بالسفر،ففهمتها أكثر فأكثر، اذ يبدو أن أستاذنا يقنع ويثرى “بالسفر الداخلى” المتصل، الذى نصاحبه فيه أطول وأعمق، عن ذلك السفر الظاهرى الذى قد يكشف أو لا يكشف، ولكننى تذكرت حديثا له يقول فيه أنه لا يميل الى السفر، ولا يسعى اليه، ولكنه اذا فرض عليه لظرف أو لآخر، فأنه: بعد رهبة البداية: يجد نفسه فيه متطهرا متجددا أو مثل ذلك، تذكرته وفهمته أكثر فأكثر وأنا فى نفسى، فأنا “أقيم” حتى أشعر أنه ليس ثمة داع لأى حركة “أخرى“، فكل بشئ “هنا“، فاذا سافرت ([3]) تقلبت حتى فزعت من نظرتى الاكنة السابقة لمكا كنت أظنه “الدنيا” (داخليا – وخارجيا)، ذلك النتاج الطبيعى لعمليات: القعود، وقلة الحوار، أوهام التفوق، ورتابة المشكلات، وخبث التنافس، وأحلام التطور (الخاصة والعامة)، مما (كان) يجعل للحياة ايقاعا شبه ثابت، بل يعرضنى إلى الحد من التصور “الآخر”، والى احتمال التعصب المعلن أو الخفى، ولكن ما أن أرمى بنفسى فى الطريق حتى تضطرنى حركة الخارج الى الاستسلام لاقتحامها، فيتحرك كل شئ.

ومع تضاؤل احتمال الوفاء بوعدى الأول بالكتابة عن “ماهية الوجدان”، وأملى البديل فى الكتابة عن ملحمتى “محفوظ” و”جارثيا”، قفز اقتراح يقول: ولم لا أكتب هذه الخبرة الخاصة عن الرحلة نفسها كبديل واعتذار معا؟ ولتكن الكتابة اشبه بما يسمى أدب الرحلات.

***

وأدب الرحلات أدب حديث قديم، وصورته الحديثة آخذة فى التقدم بين صفوف الأدب حتى لتصبح نشاطا أدبيا مستقلا، ومنذ رفاعة الطهطاوى حتى خيرى شلبى، وأوربا بالذات تحظى بنصيب وافر من انبهار واعتراض من كتبوا هذا النوع من الأدب من أدباء مصر، وفى تصورى أن كتابة الرحلة بصفتها أدبا هو من قبيل “السيرة الذاتية” أكثر منه نوعا م وصف المدائن والناس، وبالتالى يسرى عليه كل ما يسرى على السير الذاتية من تحفظات:

فكتابة السيرة الذاتية – عندى – مستحلية أصلا، على عدة مستويات، فالشخص الذى يجرؤ على هذه المحاولة هو محكوم برؤيته أولا، ورؤيته ليست مرادفة لما” هو” وحتى صورته التى غامر فرآها ليست دائما صالحة “للاذاعة” والنشر، فهو يخضع فى هذه المحاولة لأحكام المجتمع وقيود الفكر ومرحلة التاريخ، فضلا عن قيود النشر (فى بلادنا خاصة) هذا، لو انه وهب الشجاعة لقول ما رأى، ووهب البصيرة لرؤية ما هو كائن فعلا، وليس مجرد تصوره عن نفسه، ومن هنا ينبغى أن نعتبر أن أية سيرة ذاتية، ليست الا “وجهة نظر معلنة فى حدود” لا أكثر ولا أقل.

وكتابة السيرة الذاتية فى بلادنا العربية بشكل خاص أكر غريب على طبيعتنا، وعلى عاداتنا، حيث لا يظهر الكاتب – أى كاتب – من نفسه الا مواضع الفخر والتفوق، فاذا أظهر ضعفا أو خطأ أو تشها أو أنحرافا.. فأنه أنما يفعل ذلك ليعلن بعده مباشرة أنه أنما ” عرف الشر لا للشر لكن لتوقيه!!” (ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه !!! الخ)، فمصطفى محمود يعلن الحاده حين يصل الى بر الأمان، والايمان، وأنور السادات يكتب قصة حياة خيالية يبحث فيها عن ذاته، فيشتط به الخيال حتى يصدقه، ويفرضه علينا، وجمال عبد الناصر (يرحمهما الله) لا يشتط الى هذا المدى وأن كان ما كتبه عن نفسه قليل وسطحى، فأنه يبدو أن ما كتبوه عنه قد أرضاه حيا وميتا بحيث نسى، فنسينا، حيا وميتا ماذا هو وكيف، وطه حسين،و العقاد، وتوفيق الحكيم، ومصطفى أمين حتى حسنين هيكل، كل أولئك كتبوا صدقا وأمانة وخيالا وأحلاما معا، وبعضهم وثق ما يقول بوثائق تقرأ بالطريقة التى يريدها كاتبها، ولكنهم فى نظرى كانوا دائما – على أحسن الفروض – أدباء أولا وأخيرا.

وأديب السفر، ليس ألا أديبا، لا مؤرخا ولا رحالة مسجلا، هو يكتب نفسه ابتداء، وينجح – مثل كل أديب – بقدر ما يستطيع أن يعرض نفسه لنتجارب، وبقدر ما تسمح له مسام وجوده باستنشاق الآخرين، وبقدر ما تتيح له مرونة أفكاره بإعادة النظر وتفجير شرارات التغيير من خلال تصادم الاحتكاك.

أما السفر الذى يسجل الأحداث العابرة وكأنها العادة المتأصلة، ثم يبالغ فى تعميم الأحكام وكأن كل من قابله هو “ممثل نموذجى” لبلده، فهو أدعى أن يسمى بادب التسلية والخيال الخفيف، وذلك أنى عجزت عن أن أفهم اصلا كيف يحكم كاتب رحلة على شعب بأكمله لأنه التقى بنادل صفته كذا، أو صاحبة فندق شكلها كيت، أو بائع تحف، أو فتاة هوى، التقى بهم بضعة دقائق أو بضعة ايام ثم يذهب يقول: أما الرجل الفلبينى أو السويدى فهو كذا وكيت… الخ، كما أنى عجزت عن أن أفهم كيف يتبر كاتب ما أن قطرا ما هو عاصمته، أو هو أكبر مدنه، أو هو أشهر آثاره، فى حين أن نبض الشعوب واصالة الفروق بين ناس وناس لا تظهر الا كلما ابتعدنا عن المدن عامة، والعواصم خاصة، ويمكن أن يتصور مواطن مصرى من منشأة الجمال مركز طامية أو أم قمص مركز ملوى أو كفر عليم مركز بركة السبع، أن يتصور ايا من هؤلاء: كاتبا من زوارنا العرب وهو يكتب عن ” الرجل المصرى” وطبيعة الشعب المصرىن وهو لا يعرف من مصر الا حى المهندسين وشارع الهرم ومصر الجديدة على أحسن الفروض.

***

ومع علمى بكل ذلك، وبسببه، أقدمت على هذه المغامرة بالكتابة فى هذا النوع من الأدب، وأنا خائف من كل ذلك، مشفق على قارئى من أخذ كلامى مأخذا لم أقصد إليه، فأنا أتصور أنى لا اكتب الا استجابتى الشخصية المحدودة لمؤثرات جديدة، ومتلاحقة، لا أكثر ولا أقل، وما الأحكام والآراء والرؤى الا زواية محدودة لرؤية كاتب يحاول أن يكون يقظا فى استيعابه وتمثله لما رأى من ناس وطبيعة واشياء.

***

وهذا النوع من السفر، هو النوع الوحيد الذى انتزع نفسى إليه، أو يرغمنى غيرى عليه، وقد أكتشفت بمراجعة بالصدفة أن حوالى نصف ما كتبته شعرا، كتبته وأنا فى ” حالة السفر” ([4]) واستطعت أن أرجح من خلال ذلك أننى بمجرد أن اتخلص م الأغارة المستمرة على وعيى بالمؤثرات الرتيبة، تنفجر من داخلى الرؤى المؤجلة والمهملة، والكامنة والعنيدة وأعيد تنظيمها بالصورة الأدبية المتاحة.

وانتبهت من خلال ذلك الى وظيفة السفر عندى، وقلت لعل سفرتى هذه، وماتورطت فيه بهذه الكتابة، وأن يكونا فرصة جديدة أتعرف من خلالها على بعد جديد فى طبيعة وجودى ومدى رؤيتى، وأدوات تعبيرى.

أما أغلب أنواع السفر الأخرى فأنى شديد النفور منها، أو نتعبير أدق لا أكاد أعرف لها معنى – يهمنى – رغم حماس أصحابها لها أشد الحماس وأبلغه، فأنا لست أفهم اسفار المشتريات الاستهلاكية، ولا حتى اسفار المؤتمرات العلمية (التى اصبحت وسيلة سياحية تجارية دعائية فى المقام الأول)، بل ولا اسفار السياحة بمعنى زيارة التاريخ والآثار حيث يصبح التجوال “حول الأطلال” و “داخل المتاحف” هو هدف الرحلة الأول، وكم مرة مازحت مرافقى فى بعض اسفارى ونحن نزور الأماكن “المقررة” (عمارة الامبايرستيت أو تمثال الحرية مثلا) فأقول: وهكذا تم التوقيع فى سجل تشريفات هذا الأثر أو ذاك، فلزم التنويه، حتى أذا سألنا سائل عند العودة عن هذه الأماكن، أو اذا ذكرت بانبهار امامنا شاركنا بايماءة رأس أو نظرة ألفة، شأن من يعرف هذه الأسماء المشهورة التى يدور حولها الأكابر المسافرون فى فخر فوقى، نعم.. كل هذه الأسفار لا تساوى عندى شد الرحال، ومع ذلك فأنه حتى لو شاركت فى مثلها لبضعة أيام أم أكثر أو أقل فانى امارس خبرة تفجير الداخل وتفتح المسام بطريقة تجعلنى اعود – حتى رغما عنى – مهزوزا منتعشا مفكرا ابجث عن بدايات جديدة، اذا أعيد وزن  أفكار قديمة.

…………..

…………..

لكل هذا، فقد حق لى أن أتقدم لهذه المجلة بهذه الأفكار، باعتبارها المجلة التى “تنشر الخبرات الذاتية الخاصة ما حوت إضافة إبداعية” وأنها “تفضل المعاناة الفكرية الخلاقة عن الاستعراض الموسوعى”[5] حقا من حق القراء باعتبارى أحدهم، وتذكرت أنى حين كتبت فى العام الماضى (بعد رحلة الشهر واليوم) عن التفسير الدوائى للفكر الطبنفسى الحديث[6] كان ذلك من وحى السفر، وما سمعت عنه من ضغوط “لوبى” الدواء على السياسة الأمريكية.. الخ، فشجعنى كل ذلك أن أمسك قلما لم أمسك به من قبل، وأن أخوض التجربة.

***

وحين كنت فى باريس (1968 /1969)، تعلمت من الفاقة والنشاط، أنه لا يعرف المرء بلدا اذا مشاها على قدميه، شارعا شارعا (ما أمكن!) جالسا على مقاهيها (بالذات) ما طال له الجلوس، متأملا – مشاركا- فى كل حين بقدر ما يستطيع، حتى أنى كنت أرحب بالضياع وفقد المعالم، وأتكأ فى اخراج الخريطة لأصحح نفسى أو أتبين أين قادتنى قدماى، ما دمت اسير حيث لا أدرى، فأعيش كما لم أحسب، وألاقى من لم أتوقع، وقد كدت اصبح فى نهاية العام شيخ حارة هذه الدينة البديعة، وكان من بين ما يستهوينى أن أذهب من أقصى الشمال حيث اسكن فى المونمارتر الى أقصى الجنوب حيث أعمل فى مستشفى سانت آن، مخترقا ميدان الأوبرا عابرا السين ثم محاذيا له ثم مخترقا الحى اللاتينى حتى أصل الى محطة جلاسيير، يستغرق ذلك ما هو حول الساعتين فى المطر والبرد، أعيد اثناءه تأمل كل شئ، وكأنى أراه من جديد كل يوم، واشعر من خلاله بالدفء، والقدرة، وكانت نشوتى تزداد فى أيام الشتاء وأنا أواجه الصقيع فأتحسس أنفى فلا أجده، وكنت أتساْل من أين جاءنى هذا الحب العارم للشتاء والمطر والصقيع وأنا ابن التراب والحر والعرق، وأتذكر كيف كان جارثيا يكتب رواياته فى باريس فى نفس درجة حرارة بلده القائظ، واعجب لاصراره على العرق والأنفاس الثقلية، ثم أحتضن اللفحات الباردة المثيرة، وامضى أحسد هؤلاء الناس فى جميع الأحوال وأقول لنفسى أن الكسل الذى يثقل خطانا وتفكيرنا – بلدنا – قد يرجع قليلا أو كثيرا للمناخ الذى يخدرنا – ضمن بقية المخدرات الحديثة والقديمة -، ولكن سرعان ما أراجع نفسى – دون أن يخف حقدى عليهم – فاقول “ولو: فنحجن قادرون، أو ينبغى أن نقدر أن نخترق أجواءنا اذا أحسسنا تحديد الهدف وضبط الايقاع ومواصلة التحدى، ولكن….

أقول انى لم اعرف باريس – أو غيرها – الا على قدمى، وماضحكت ملء عقلى الا من هذه الجولات السياحية التى اضطررت فيما بعد الى المشاركة فيها حين كنت ازور بعض البلاد فى عجالة، تلك الجولات التى يسمونها “الرؤية السياحية العابرة”Sight seeing حيث تجلس فى حافلة (اتوبيس) مكيفة الهواء ويحكى لك السائق، أو المرشد، أسماء الأماكن والشوراع والمعارك والقواد وقد تيقنت من موقفى هذا فى أحدى الجولات حول مدينة بوسطن فى صيف العام الماضى حيث شعرت انى اشاهد فيلما تسجيليا رديئا لا أكثر، لولا أن انقذنا السائق بوقفة فى “ركن الشاى” فى سفينة تاريخية تؤرخ لبدء تحرير الولايات المتحدة من الشمال، باعلان الثورة على زيادة الضرائب على الشاى من قبل الحكومة البريطانية المستعمرة، ونفس الشعور راودنى بدرجة أقل فى سان فرانسيسكو لولا تنوع الطبيعة، وخفة ظل المرشد، وركن الشاى اليابانى (مع الفارق فى الجو والتاريخ)، وقد خرجت دائما من المقارنة بين الجولة على الأقدام ضائعا داخل المدينة، والجولة بالسيارة مع مرشد، أنه لا سبيل لمعرفة الناس من وراء زجاج داخل حافلة مكيفة، وأنه لا سبيل لمغامرة معرفة النفس – بالسفر- وأنت تتلقى معلومات جاهزة، وفكاهات محفوظة مكررة، من مرشد مرتزق، لذلك فأنى رجحت دائما – او كلما امكن ذلك – أن “الايقاع البطئ فى السفر” هو أساس لا غنى عنه لمن يريد أن يعرف المكان والناس، تمشى وتسأل، تمشى وتتوه، تمشى وتتعب فتجلس فى المقهى الأقرب أو البستان الأجمل، أو محطة المترو الأدفأ أو الأبرد، تمرء ببائع الزهور والصحف والفاكهة واللحوم والدجاج المشوى و”الآيس كريم” وألعاب الحظ، فلا يفوتك تعبير الوجه، ومساومات الشراء، واغراءات الجذب الصغيرة، وطباع الناس البسطاء، يدخل كل ذلك اليك عبر أرضية وعيك حتى وقد اتجهت بؤرة الانتباه الى شئ آخر، أكثر تفاهة – فى العادة – رغم ظاهر أهميته.

……….

……….

هذا، بالنسبة لداخل المدينة، أما بالنسبة للتنقل بين البلاد وبعضها، فما أعظم الطائرات وأسخفها، هذه الثورة التى جعلت العالم قرية صغيرة، هى هى التى حرمت المسافر (ابن السبيل) من الاستيعاب البطئ للنقلة الجغرافية/ الحضارية/ الثقافية، التى هى ثروته وحصيلته الحقيقية من أى سفر، لأن هذه النقلة هى المسئولية الحقيقية عن نقلات الوعى وتقلب المشاعر، ومن ثم تجدد الأفكار واتساع الأفق، أما أن تضع نفسك فى طائرة حديثة ثم تجدك بعد ساعات تقل أو تكثر فى بلد غير البلد، مع تشابه الخدمة والمطارات والاجراءات فى “العواصم”، فهذا ليس سفراكما أتصور، وأتذكر أول قصة قرأتها فى حياتى وكنت لم أبلغ العاشرة، وجدتها فى مكتبة والدى باسم “الشيخ الصالح” ولا أذكر لا مؤلفها ولا تفاصيلها حتى الآن، وقد كانت عن رجل “شيخ” ظاهر الصلاح ينتقل من بلد الى بلد على بغلة، ويجرى وراءه طول القصة “عبد” حافى القدمين، ونكتشف فى النهاية أنه قاطع طريق أو ما شابه، وقد اقتحمت هذه الذكرى وعيى بشكل غير متوقع، وكانت الصورة شديدة الوضوح، حتى انى تذكرت أنى لم أختر من أتقمص الا ذلك العبد دائم العدو وراء سيده! وكم أحسست بحبات كالعرق يتفصد بها جبينى وهو لا يكف عن الجرى وراء سيده “الشيخ النصاب” لحراسته وخدمته دون شكوى أو تعب، ثم يقفز فكرى الى تداع آخر، فأفهم أكثر فأكثر لماذا كان “ابن السبيل” (فى الاسلام) أهلا للصدقة والزكاة والبر، مهما كان موسرا فى الأصل قادرا فى موطنه وبين أهله، وفهمت أيضا تلك العادات القديمة التى كانت تلزم جدى لأبى بارسال رجال له حول كل الطرق بالقرب من قريتنا، يدعون المسافرين (ابناء السبيل)، (وخاصة بعد عصر أيام شهر رمضان) الى النزول ضيوفا للافطار والنوم، ولا يجوز البدء فى الأكل الا بعد عودة هؤلاء المندوبين بالضيوف أو بدونهم، فيطمئن جدى وصحبه انهم يأكلون بعد تيقنهم من أن أحدا لا يعبر منطقتهم وهو جائع أو مجهد بلا مأوى، فهمت كل ذلك من جديد، وعرفت كم كان السفر القديم قاسيا ومرعبا، ولكنى ما رضيت تماما عن أن نستبدل به كل هذه الرفاهية بهذه التكنولوجيا الفائقة، لأن ثمن ذلك هو أن ننسى الطريق أصلا، فطريق الخارج لو صحت معايشته لكان سبيلا حيا لطرق الداخل المتعبة، شريطة أن يضبط الايقاع بما يلائم الاستيعاب، لهذا ومثله جاء قدرى هذه المرة أن تكون رحلتى هذه بالباخرة والسيارة مع صحبة خاصة سيأتى ذكرها بعد قليل.

* * *

وان كان حديثى الطليق هذا هو خاص بهذه الرحلة اساسا، فإنى – كما فعلت حالا – قد اضطر الى أن استطرد منه الى بعض جولاتى السابقة فيما يمكن أن يوضح الرؤية اذ يحدد أبعاد الصورة وتطور الفكرة، وقد سبق لى أن قمت برحلات قصيرة (أسبوعين فى المتوسط) أثناء وجودى فى أوربا، بعضها بالسيارة وفى الفنادق شديدة التواضع، والأخرى بالسيارة والخيمة فى المخيمات Camping، هذا فضلا عن الرحلات الجماعية بالحافلة الكبيرة مع زملاء المنح من العالم الثالث ضيوف فرنسا آنذاك (68/1969) – ووجدت من كل ذلك أنه: اذا كان المشى هو السبيل الأمثل لمعرفة داخل المدن، فانه لا بديل عن السيارة كوسيلة أمثل لمعرفة الطبيعة، والقرى، وناس الطريق بعيدا عن العواصم والحوانيت العملاقة التى تلتهم الوقت والوعى والنقود فى آن، فاذا كنت أنت قائدا للسيارة الساعات الطوال لوجدت نفسك حتما فى حالة من الانتباه تفرض على بصرك ووعيك ووجودك فى نهاية الأمر تفاصيل مناظر الطبيعة المتلاحقة، بما فى ذلك سباق الناس على الطريق، وأنواع حمولاتهم، وحوارهم بالأضواء والاشارات، وأماكن انتظارهم، ثم دعوات الراحة فى الموتيلات والمطاعم والمطاعم والمعسكرات، كل ذلك يعيد اليك معنى “ابن السبيل” وان اختلفت الوسائل واللغات.

وهذا بعض ما كان:

21 أغسطس 1984:

وهكذا رحت أستقل الباخرة بحافلتى الصغيرة [7]، ومعى زوجتى دون بقية أفراد الرحلة من أولادى[8] الذين سبقونا بالطائرة الى بيريه، وقد كانت الاجراءات غير معقدة، رغم أن بعضها لم يكن ذكيا تماما، ورحت وأنا أنتظر دورى للدخول بالسيارة الى المركب أتعرف على زملائى من المسافرين بوسائل انتقالهم الخاصة مثلى، فوجدتنى لا أشبه ايا منهم فى شئ:

فثمة رجل أشقر فى غاية الأناقة والرقة، قد تخطى وسط العمر بصحب زوجته (أو ما شابه) كما يصحب كلبه فى عربة مجهزة للرحلات (كارافان) هى والقصر المتنقل سواء

وثمة عربة جيب (أو كالجيب) قوية الملامح جسيمة التواجد واثقة من نفسها كأنها تقود راكبها وليس هو الذى يقودها، يمتطى صهوتها فتى وفتاة بلغ من تراكم التراب المختلط بالعرق بالبقايا مما لا أعرف ما يوحى بأنهما خاصما الماء والصابون طوال رحلتهما التى لا يبدو لها بداية أو نهاية، وأكاد أحك جلدى نيابة عنهما، وأقول: لا، ولا أنا مثل هؤلاء

وثمة مجموعة من “الموتوسيكلات” تربو على العشرة، أصحابها بين فتيان وفتيات، كلهم فى فتوة الفرسان، وعلى من يستكثر على المرأة الفروسية أن يلبس عينى فى تلك اللحظة، ليدرك معى أن هاتيك الفارسات بعضلاتهن التى لم تنتقص من أنوثتهن شيئا، وبوجوههن الحاسمة الرافضة لكل سلبية أو اعتمادية، هن فارسات بكل ما تعنى الكلمة، وأنظر فى نفسى فلا أجدنى مثل هؤلاء ولا أولئك، لا: لست منهم بأى مقياس، فما أنا الا شخص يطرق أبواب الكهولة (أو العقد السادس)، ويجرب من جديد بعض ما يمكنن ببعض ما توحيه اليه افكاره التى أتعبته بقدر ما صدقها، فبعض ما ورطنى فى هذه الورطة كان وعدا قديما لأولادى ظللت أؤجل الوفاء به تسع سنوات حتى خطر ببالى أن الظروف قد سمحت، وبهذه الصورة، وحين اكتملت الامكانية بدأ التنفيذ بغض النظر عن لياقتى الحالية وما طرأ من تغيرات بمرور السنين، ومن أصعب المآزق أن يعيش شخص مع أفكاره باعتبارها واقعا ممكنا ما دامت تبدو مفيدة أو واضحة، فهو بذلك كثيرا ما يخاصم المنطق العام أو المألوف، فمشكلتى أنى اصدق نفسى، وأتصور دائما احتمال تحقيق “الكلام” فى “الواقع” وأتذكر كيف تورط فى مثل ذلك جوزيه أركاديو الكبير فى مائه عام من العزلة، فكان الاختراع والاكتشاف والضياع والمضاعفات، ثم أرجع الى نفسى وأقول.. ولو: الحمد لله لم أصل الى هذه المرحلة القصوى ولا الى علاقة سارتر “بالكلمات”، وربنا يستر.

مازلنا 21 أغسطس1984:

وفى الباخرة الايطالية، وأثناء تغيير بعض العملات، يقف أمامى رجل أسود فى منتصف العمر، يتكلم الانجليزية بلكنه أمريكية ويمسك بيده رزمة كبيرة من الأوراق المالية المصرية يحاول تغييرها، فيحاول المسئول فى الباخرة أن يفهمه استحالة التعامل بالنقد المصرى خارج مصر، وأفهم من الحوار أن ثمة تعليمات غير واضحة قد وصلت للأمريكى، فأحاول بنورى أن أدافع عن الاتهامات التى تبادلها مساعد الربان مع الأمريكى بأن هذه سرقة وابتزاز الخ الخ، اذ أن التعامل – كما فهمت – كان مع أحد البنوك الرسمية، وقد فهم الأمريكى أنه يستطيع استبدال ما يتبقى لديه من نقود مصرية فى نهاية اقامته، طالما عنده ما يثبت تغييرها بالطريق الرسمى، ولعل هذا صحيح، الا أن غموض التعليمات ربما أوحت اليه بأن ذلك ممكن فى الباخرة أو فى أى بلد، ولعل عذر ما معه، لكن الاندفاع الى اتهامنا بكل هذه التهم والتصديق عليها من أمريكى وايطالى معا، أغاطنى حتى التدخل، وقلت له أن ثمة وقتا للعودة الى البنك فى الميناء ومحاولة استيضاح ما غمض عليه، فيذهب ويعود ماطا شفتيه، فأسأله بالحاح مشفق، فيقول: لا فائدة، لقد “أكلتها”، وتتم القصة فصولا بأن يبدل له مساعد القبطان قيمة ما يحمل من نقود مصرية بأقل من نصف قيمتها الرسمية بلا أوراق ولا يحزنون، وهكذا: أشهد تجارة فى سوق سوداء من مسئول رسمى بالسفينة، وهو لا يلام وحده فى النهاية، وانما يقع اللوم أساسا علينا، وتصاب سمعتنا نحن بما لا نستحقه، وتلعب المصافة أن تجمعنى بهذا الأمريكى الاسود على مائدة العشاء، وأحاول – من جديد- أن أوضح له تقصيره نحو نفسه، ولكنه فى ثقة (وغباء) الأمريكى المتفوق !!! يقول أن هذه ليست الا وسيلة “رسمية” للحصول على أكبر قدر من العملة الصعبة، وأنه سوف يبلغ سفارتنا ووزارة خارجيته فور وصوله بما حدث.. وانه.. وأنه، وارفضه بنفس القدر الذى ألوم فيه المسئولين عندنا على غموض التعليمات، اذ ينبغى أن تكون التعليمات مكتوبة بأكثر من لغة، مادام عندنا نظام نقدى خاص، وينبغى أن يسلم كل سائح وزائر ورقة صغيرة بها خطوات تصرفه النقدية منذ دخوله وحتى خروجه، فنرحم أنفسنا من مثل هذا الذى لحق بسمعتنا، ونرحم زائرينا من سوء الفهم والهجوم علينا بلا مبرر، وأنا لم أذكر هذا الاستطراد العابر الا لأكمل حوارى مع هذا الأمريكى فى السياسة والحياة، فقد لاحظت – والعهدة على رؤيتى – أن الرجل الأمريكى عامة هو شديد الثقة بما يقول، وخاصة اذا تحدث مع من يتصوره دونه، وهو يتكلم وكأنه “يفتى”، وقد وجدتنى رافضا لهذه الأحكام والفتاوى فى الكبيرة والصغيرة، فالحرية عندى (وهم مدعوها) مقرونة أبدا بالتواضع والحيرة المسئولة، واستدرجت ذلك الأمريكى الاسود ليحدثنى عن نفسه وبلده بعد أن حكيت له عن زيارتى الأخيرة لبوسطن ونيويورك وواشنطن وسان فرانسسكو ولوس انجلوس، فنبهنى أن هذا خطأ من يزور الولايات المتحدة، فمن لم يزر ولاية واشنطن State فى أقصى الشمال (لا مدينة واشنطن D.C. العاصمة)، ومن لم يزر فلوريدا فى أقصى الجنوب فهو لم يعرف الولايات المتحدة، ولعله صادق، ولكنى بعد قليل تبينت أنه من فلوريدا ورجحت أن كل فرد من ولاية هناك يعتبر نفسه وولايته هما الممثل الشرعى لهذه القارة غير المتجانسة، ثم راح يحكى لى عن نفسه: فقال لى انه لم يبلغ الخمسين، وانه متقاعد من سنوات!! وأنه كان يعمل بالجيش، وأمضى بعض خدمته فى السعودية (ولم أذر أين ولماذا ؟؟ !! ولم أسأله أكثر خوفا من قطع الحديث أو اثاره الشك)، وأنه الآن يسيح فى العالم هو وزوجته بعد أن استقل أولاده، فابنه البكر فى التاسعة والعشرين من عمره (ّ!!)، وبنتيه مستقلتين من سنين، وعجبت واستوضحته مقارنا: متى تزوج؟ وقد كنت أحسب أنى فعلتها مبكرا مغامرا (27 سنة) ولكنه أوضح لى كيف بدا حياته الزوجية الكاملة وهو حول السابعة عشر، بدأ مبكرا لينتهى مبكرا، وكنت أعلم من قبل أن هدف التقاعد المبكر جدا اصبح من معالم دورة حياة الرجل الامريكى، حتى أنى تصورت أن الشخص هناك انما يعمل ليحصل على ما يمكنه من التقاعد المبكر، ثم ماذا؟، لست أدرى، لكن هذا الامريكى قال لى أنه يمضى بقية حياته فى السياحة، وغيره يمضيها فى التأمل فى كوخ بالجبل، وثالث خلف سنارة صيد فى مكان منعزل هادئ، وحسدته ورفضته، فتصورى دائما أن تفجر وسط العمر وابداع الكهولة هو النتاج الأبقى للبشرية، ومن غير المعقول أن نربى أشجار البشر حتى تتطاول فروعها وتطيب ثمارها ثم نأتى نحيلها الى التقاعد مكتفين بالظل وعينات مجففة من طرحها القديم – وبرنارد شو، وبرتراند راسل، ونجيب محفوظ، متى نضج عطاؤهم، وماذا لو كانوا تقاعدوا فى مثل سن هؤلاء المتحضرين الجدد، المهم، حسدته: رغم كل ذلك، وحسدته أكثر حين شاهدته بعد ذلك مع زوجته فتية نضرة شقراء دمثة، لا يفتأ – فى رقة غير سوداء – يعدل من ياقة “بلوزتها” ويمسح لها بعض بقايا الأكل المتناثرة خطأ حول فمها، ويلثم اطراف أصابعها، متى تزوجت هذه السنيورة من هذا الرجل، ولماذا؟ ليس العجب لمجرد أن شقراء تزوجت رجلا أسود، وانما لأن هذا الرجل بالذات لم أجد فيه قوة السواد ونبض ارضى فى افريقيا، ولم أتصور فيه فحولة الفطرة وجاذبية البداءة، وهى الصفات التى أتصورها تميز هذا الجنس الأصيل، المهم، ارجع الى بقية الحوار معه فأنكشه عن انتخابات الرئاسة، فيفتى – دون تردد – أنها دائما ابدا لعبة نقود لا أكثر ولا أقل

ويسألنى: هل تعرف مغزى “لعبة البدال”، ولم أفهم ماذا يعنى، قال “خدعة البدال” تلك التى علمونا اياها صغارا، وقلت له أنى لا أعرف عن ماذا يحكى، فقال لى أن راكب الدراجة يضع قدمه فوق البدال، والبدال يرتفع ولكن القدم دائما ترتفع أعلى منه مهما ارتفع او انخفض فقدم الراكب فوقه ابدا، هكذا السياسة، هم فوق ونحن تحت، دائما، مهما حاولنا ومهما ارتفعنا، فأقدامهم فوق رؤؤسنا بلا خلاص، واعجبت بفكرته أيما اعجاب رغم ما تحمل من يأس لا نهائى، وفرحت لالتقاء ظنونى بفتواه، لكنى سرعان ما سألته، اذا ماذا؟ اذا كانت المسألة دائما واحدة على كلا الجانبين مع اختلاف الأحزاب والمرشحين؟ ويتعجب لسؤالى ويرفع حاجبيه ويمط شفتيه معلنا أنه “… وأنا مالى؟” وكأنى به يقول: لم يعد لنا فى الأمر شئ، وتقاعدى ليس تقاعدا من عملى فقط، ولكنه تقاعد من مسئوليتى تجاه ما يحدث مما ليس لى فيه يد، ولا رأى لى رغم أوهام الديمقراطية وتكرار الانتخابات، ومع ترجمتى هذه للسان حاله، أصررت على مواصلة الحوار، واصر على انه “لا حل”، ومع ذلك – ولعجبى الذى لا ينتهى رغم علمى المسبق بهذا الطبع – بدا لى جليسى مطمئن البال قرير العين لهذا “اللاحل”، ولم أحاول أن استمر أكثر من ذلك، فقد تعلمت أن هؤلاء الناس استقروا “بشكل ما”، على “شئ ما”، هم لا يدرونه فى الأغلبن فقد رسم لهم بدقة بالغة، من نظام عالمى (غربى أساسا) شديد التعقيد، لا أظن أن احدا يعلم من الذى يديره، ومن أهم أهداف هذا النظام – على ما أظن – هو تحييد رجل الشارعن ليصبح “الحكيم السلبى” بلا فاعلية، وبالتالى لا خوف منه.

والحق أنى أشعر فى كثير من الأحيان بنفس هذا الموقف، من أن لعبة السلطة المادية قد فاقت قدرة الشخص العادى على متابعة الأحداث، فضلا عن الاسهام فى صنع القرار، ومع ذلك لا أمنح نفسى – لذلك- حق  الانسحاب الحكيم، ولكنى أتصور فورا، – بطريقة خاطئة حتما – أنى “شخصيا” مسئول عن تعديل كل ذلك، وكلما كان هذا الأمر واقعا أكثر، كانت مسئوليتى الابداعية أعمق وأخطر، وإذا كنت لا أملك بديلا واضحا، فلا أقل من أن أعيش حيرتى مهما طالت وآلمت لعلها تولد قلقا خلاقا، أما أن أقف ساخرا راضيا عالما متفرجا فهذا ما لم أنجح فيه حتى تاريخه، وقد كنت ومازلت أحسبها رفاهية، لاحق لى فيها، وأواصل الحديث – فأنكشه – مرة أخرى مديرا الحديث إلى دور القس الأسود جاكسون مرشح الرئاسة السابق الذى فشل فى تعضيد حزبه له، وكان فشله معروفا مسبقا، ولكنه أدى دورا وقال كلمة، فيتحمس جليسى بغير روح، ويقول أن جاكسون كان سيفعل “شيئا آخر”، ولكنه لا يقول لى – وربما ولا لنفسه – كيف كان سيواجه الحاكم السرى المطلق والدائم (الدولار والمصالح الخفية)،

وأشعر فى نهاية الحوار، أننى أمام “أمريكى فقط” وليس أسورا كما افهم أو أتصور، فلا هو بالرافض الشرير الذى يرغم العالم الآخر على دفع ثمن نظرتهم إلى لونه “من أعلى”، ولا هو بالثائر الواعى الذى يتعصب للونه مرحليا سعيا إلى مقياس عدل أدق وأصدق، ولا هو بالمنسحب الفنان المبدع الذى يرى رؤية مستقبلية فيذهب يخطها رمزا فى انتظار مستقبل أقدر على تحقيقها، لكنه مجرد أمريكى، تصادف أنه أسود، فتزوج من البيضاء الجميلة، فرضى بهذه النقلة “السرية” إلى الجنس الأرقى، وماتت قضيته قبل أن تبدأ.

ومع ذلك (أو: ولذلك) فليس هذا هو أمريكا، وليس هذا هو الأمريكى الأسود، فليحذر القارئ المسارعة إلى التعميم (كما سبق التنويه).

22أغسطس 1984:

وأمضى يوما واحدا وليلتين فى هذا المجتمع الصغير المتحرك، والتقى بندرة من المصريين، فهم يركبون البحر عادة فى رحلة العودة بالعربة والأشياء وليس فى رحلة الذهاب هذه، وأحس أنه من مزايا السفر المنفرد أن تتاح الفرصة أكثر فأكثر للقاء “من ليس كذلك”، ولعل هذا ما نفرنى منذ بدأت أفكر فى ضرورة اتساع دائرة رؤيتى للعالم فى السنوات الأخيرة، أقول هذا هو ما نفرنى (ربما مؤقتا، وربما خطأ) من الرحلات الجماعية التى تنظمها شركات السياحة عندنا، إذا كنت أخشى – ومازلت – ألا تعدو رحلة “المجاميع” هذه أن تكون انتقالا فى المكان فحسب، فتمضى الرحلة بين المصريين فى عمليات تنافس الشراء، وهمز المقارنات، وحذق التوفير، ومباهاة الذوق التجارى وأساليب الشطارة، دون أن أنفصل عنهم أو ينفصلوا عنى، فما جدوى الانتقال؟ هذا فضلا عن ما قد سيفرضونه على من أسئلة وشكاوى باعتبارى طبيبا نفسيا والعياذ بالله.

أقول: فرحت بالغربة والأغراب، وتقمصت رجال السفينة فعلمت معنى أن تكون بحارا، وأن تظل الأرض التى تعيش عليها تتأرجح فوق الماء طوال حياتك، فيتأرجح معها وجودك، ويصبح انتماؤك إلى العالم أرحب وأكثر مرونه من ذلك المقيم فوق الرمال أو أعلى الجبل أو حتى فى شقة بايجار قديم وسط العاصمة، وأقارن حركة الباخرة وايقاعها الهادئ، وتعليمات مساعدى الربان المتوالية والدعوة تلو الدعوة لتناول الوجبات “بشهية طيبة”، وبالمشاركة فى ديسكو المساء، أو قداس الصباح للكاثولوكيين فقط (!!)، ولا أتعرف على أحد خلال يوم واحد، ولكنى أخرج مؤكدا لفكرتى القديمة التى ذكرتها فى مقدمة هذا الحديث من أن الطائرات على عظم عطائها هى وسيلة رائعة، حرمتنا من فرص أروع ذات ايقاع أهدأ، وأخرج بين الحين والحين وحدى إلى سطح السفينة، لأجد البحر العظيم، أصل كل شئ، وقد احتوانى من كل جانب، وأفتح وعيى للانهائى، فأتلاشى بارادة أعمق، وتتضاءل الأفكار والطموحات، وينطفئ الغرور، ويرفرف الشك فى كل ما فات، ولم لا ؟

وإلا…، فما فائدة السفر.

مساء‏ 22 ‏أغسطس‏84:

‏ ‏وتصل‏ ‏الباخرة‏ ‏الى ‏ميناء‏ ‏بيريه‏، ‏وهو‏ ‏جزء‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏من‏ ‏أثينا‏ ‏العاصمة‏، ‏وأن‏ ‏كان‏ ‏الفصل‏ ‏بينهما‏ ‏فى ‏الاجراءات‏ ‏والكلام‏ ‏والروح‏ ‏العامة‏ ‏شديد‏ ‏الوضوح‏، ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏واعدت‏ ‏أولادى – ‏وقد‏ ‏وصلوا‏ ‏قبلى ‏بساعات‏ ‏بالطائرة‏ – ‏بلقاء‏ ‏فى ‏ميدان‏ ‏عام‏ ‏فى ‏أثينا‏ ‏خشية‏ ‏ألا‏ ‏يعرفوا‏ ‏طريقهم‏ ‏ليلا‏ ‏الى ‏الميناء‏، ‏ولكني‏، ‏أجدهم‏ ‏فى ‏انتظارنا‏ ‏بالميناء‏، ‏فأفرح‏ ‏وكآنهم‏ ‏غائبون‏ ‏عنى ‏من‏ ‏سنين‏، ‏وكأنى ‏قد‏ ‏اشتقت‏ ‏اليهم‏ ‏دهرا‏ ‏وكآنهم‏ ‏لم‏ ‏يوصلونى ‏الى ‏ميناء‏ ‏الاسكندرية‏ ‏صباح‏ ‏أمس‏، ‏وأنا‏ ‏الذى ‏تمضى ‏على ‏الاسابيع‏ ‏أحيانا‏ ‏فى ‏القاهرة‏ ‏لا‏ ‏أرى ‏بعضهم‏ ‏لاعتكافى ‏المتصل‏ – ‏بعد‏ ‏العمل‏ ‏الضروري‏- ‏فى ‏استراحة‏ ‏ريفية‏ ‏خاصة‏، ‏وأعجب‏ ‏لتدخل‏ ‏ايقاع‏ ‏الحركة‏، ‏بالسفر‏ ‏وما‏ ‏فيه‏، ‏فى ‏الاحساس‏ ‏بالزمن‏، ‏وبالتالى ‏فى ‏تلوين‏ ‏المشاعر‏ ‏وتحريك‏ ‏الوجدان‏، ‏وأجد‏ ‏فى ‏صحبتهم‏ ‏سيدة‏ ‏سورية‏ ‏تحتصنهم‏ ‏كأم‏ ‏رؤوم‏، ‏فأهتف‏ ‏فى ‏سرى ‏غصبا‏ ‏عنى (‏تحيا‏ ‏الوحدة‏ ‏العربية‏)، ‏ويعرف‏،‏نى ‏بها‏، ‏وأنها‏ ‏أم‏ ‏أحد‏ ‏أصحاب‏ ‏الفندق‏ ‏الذى ‏نزلوا‏ ‏به‏ ‏فى ‏جليفادا‏، ‏وأنها‏ ‏تفضلت‏ ‏مشكورة‏ ‏باصطحابهم‏ ‏حتى ‏الميناء‏ ‏بما‏ ‏ترتب‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏فرحة‏ ‏ذكرتها‏، ‏وأخجل‏ ‏من‏ ‏نفسى ‏ومن‏ ‏أفكارى ‏العنيدة‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏هذا‏ ‏التقديس‏ ‏الذى ‏اعتبرته‏ ‏دائما‏ ‏مفتعلا‏ ‏لما هو‏  (‏وحدة‏ ‏عربية‏)، ‏ولكنى ‏لا‏ ‏أستسلم‏ ‏لتغيير‏ ‏مفاجئ‏، ‏فقط‏ ‏أضع‏ ‏معنى ‏هذا‏ ‏اللقاء‏ ‏مع‏ (‏عربي‏) ‏فى ‏الخارج‏، ‏ومعنى ‏فضل‏ ‏هذه‏ ‏السيدة‏ – ،‏مثلها‏ – ‏فى ‏حساباتى ‏مستقبلا‏، ‏وتنطلق‏ ‏سيارتنا‏ ‏بأرقامها‏ ‏المصرية‏ ‏تتهادى ‏فى ‏جو‏ ‏أثينا‏ ‏المنعش‏، ‏ويقول‏ ‏لى ‏بعض‏ ‏أولادى ‏فى ‏تأكيد‏ ‏مندهش‏ ‏أن‏ ‏أثينا‏ (‏اليونان‏) ‏هى ‏هى ‏أوربا‏، ‏وكأنهم‏ ‏اكتشفوا‏ ‏حقيقة‏ ‏جغرافية‏ ‏جديدة‏، ‏فأضحك‏ ‏وأقول‏ ‏فماذا‏ ‏كنتم‏ ‏تحسبون‏، ‏فيفهمون‏ ‏ما‏ ‏أعنى ‏وتذهب‏ ‏ابنتى ‏تؤكد‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏تحسبها‏ (‏قذزة‏) (‏زحمة‏) ‏مثلما‏ ‏الحال‏ ‏عندنا‏، ‏فأنبهها‏ ‏بحدة‏ ‏على ‏خطورة‏ ‏ما‏ ‏تقول‏، ‏فتعتذر‏ – ‏فى ‏ألم‏ ‏واضح‏ – ‏لتعدل‏ ‏كلامها‏ ‏بما‏ ‏تقصد‏ ‏أصلا‏، ‏ويشترك‏ ‏معها‏ ‏بقية‏ ‏الأولاد‏ ‏فى ‏شرح‏ ‏وجهة‏ ‏نظرهم‏: ‏أنهم‏ ‏كانوا‏ ‏يسمعون‏ ‏كثيرا‏ ‏أن‏ ‏اليونان‏ ‏هى ‏مصر‏ ‏وبالعكس‏، ‏وأن‏ ‏اليونانيين‏ ‏كانوا‏ ‏بمصر‏ ‏كثرة‏ ‏عاملة‏ ‏مهاجرة‏، ‏ثم‏ ‏أصبح‏ ‏المصريون‏ ‏باليونان‏ ‏وخاصة‏ ‏أثينا‏ ‏كثرة‏ ‏مهاجرة‏ ‏عاملة‏، ‏وأن‏ ‏اللغة‏ ‏الثانية‏ ‏فى ‏أثينا‏ ‏وبيريه‏ – ‏وهذا‏ ‏صحيح‏ – ‏هى ‏العربية‏، ‏فغلب‏ ‏على ‏خاطرهم‏ ‏أنهم‏ ‏لن‏ ‏يجدوا‏ ‏فرقا‏ ‏يذكر‏ ‏بين‏ ‏الشارع‏ ‏المصرى ‏ودرجة‏ ‏نظافته‏ ‏وازدحامه‏، ‏وانضباطه‏ ‏قسرا‏، ‏وقبة‏ ‏انضباطه‏ ‏أساس‏، ‏وبين‏ ‏الشارع‏ ‏اليونانى ‏فى ‏زثينا‏، ‏فاذا‏ ‏بهم‏ – ‏وخاصة‏ ‏وقد‏ ‏نزلوا‏ ‏فى ‏ضاحية‏ ‏جنوبية‏ ‏لأثينا‏ ‏شديدة‏ ‏الجمال‏ ‏قليلة‏ ‏الناس‏ ‏طاغية‏ ‏الخضرة‏ ‏هى ‏جليفادا‏، ‏اذا‏ ‏بهم‏ ‏يجدونها‏ ‏أقرب‏ ‏الى ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏رؤيته‏ ‏فى ‏أوربا‏، ‏وعلى ‏حد‏ ‏قولهم‏ ‏لا‏ ‏تقل‏ ‏عن‏ ‏جنيف‏ ‏جمالا‏ ‏ولا‏ ‏نظافة‏، ‏ولم‏ ‏أعرف‏ ‏كيف‏ ‏أرد‏ ‏عليهم‏ ‏وأنا‏ ‏أقود‏ ‏السيارة‏ ‏ولا‏ ‏أعرف‏ ‏شيئا‏ ‏مما‏ ‏يقولون‏، ‏فما‏ ‏سبق‏ ‏لى ‏أن‏ ‏زرتها‏ ‏الا‏ ‏لبضع‏ ‏ساعات‏ ‏أثناء‏ ‏رسو‏ ‏مركب‏ ‏العودة‏ ‏سنة‏ 1969 ‏شاهدت‏ ‏فيه‏ ‏المقرر‏ (‏الأكربول‏) ‏مشاهدة‏ ‏السائح‏ ‏الروتينى‏، ‏وأنتظرت‏ ‏لأستوعب‏ ‏كلامهم‏ ‏حين‏ ‏أشاهد‏ ‏ما‏ ‏يحكون‏ ‏عنه‏ ‏صباح‏ ‏اليوم‏ ‏التالي‏، ‏وقد‏ ‏كنت‏ ‏أحسب‏ ‏أننا‏ ‏سنسافر‏ ‏فجره‏، ‏الا‏ ‏أنه‏ ‏بناء‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الصدمة‏ ‏الجمالية‏ ‏الحضارية‏، ‏استجبت‏ ‏لرجائهم‏ ‏وقلنا‏ ‏نمضى ‏يوما‏ ‏آخر‏ – ‏على ‏الأقل‏ – ‏فى ‏هذا‏ ‏البلد‏ ‏الجميل‏.‏

وفى ‏الفندق‏، ‏وجدت‏ ‏الحديث‏ ‏بالعربية‏ ‏أساسا‏، ‏ولم‏ ‏أرتح‏ ‏كثيرا‏ ‏رغم‏ ‏فرحة‏ ‏داخلية‏، ‏وفخر‏ ‏خفي‏، ‏ووجدت‏ ‏السيدة‏ ‏السورية‏ ‏السالفة‏ ‏الذكر‏ ‏وهى ‏ترحب‏ ‏بنا‏ ‏بالطريقة‏ ‏العربية‏، ‏فكادت‏ ‏تحرمنى ‏من‏ ‏الحاجة‏ ‏الى ‏الشعور‏ (‏بالنقلة‏) ‏اللازمة‏ ‏لاعلان‏ ‏بداية‏ ‏الرحلة‏، ‏وفهمت‏ ‏من‏ ‏الحديث‏ ‏معها‏، ‏ومما‏ ‏وصلنى ‏من‏ ‏بعض‏ ‏المعاملات‏ ‏حولى ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏بداية‏ ‏هجةمة‏ ‏سورية‏ ‏على ‏اليونان‏، ‏أغلبها‏ ‏تجارية‏ ‏استثمارية‏، ‏وهى ‏تبدو‏ ‏أنها‏ ‏من‏ ‏الوفرة‏ ‏والنجاح‏ ‏بحيث‏ ‏تضارع‏ ‏الهجمة‏ ‏اللبنانية‏ ‏على (‏نيس‏) ‏و‏(‏كان‏) ‏وتصورت‏ ‏أن‏ ‏السوريين‏ ‏من‏ ‏الثراة‏ ‏ورجال‏ ‏الأعمال‏ ‏والصموحين‏ ‏قد‏ ‏تحايلوا‏ ‏على ‏النظام‏ ‏الاقتصادى ‏هناك‏ ‏بمد‏ ‏نشاطهم‏ ‏الى ‏الخارج‏، ‏وتحويل‏ ‏نقودهم‏، ‏وما‏ ‏الى ‏ذلك‏ ‏مما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏خبرناه‏، ‏ونعرف‏ ‏عنه‏، ‏فألمحت‏ ‏للسيسدة‏ ‏بسؤال‏ ‏عن‏ ‏سبب‏ ‏أقامتها‏ ‏هنا‏، ‏ووجدت‏ ‏منها‏ ‏عزوفا‏ ‏عن‏ ‏التفاصيل‏، ‏بل‏ ‏أنها‏ ‏زفهمتنى ‏أن‏ ‏ابنها‏ ‏ليس‏ ‏شريكا‏ ‏فى ‏الفندق‏ ‏كما‏ ‏سمعت‏، ‏وأنه‏ ‏يدرس‏ ‏الهندسة‏، ‏وأنها‏ ‏تقيم‏ ‏فى ‏الفند‏ ‏ق‏ ‏بصفة‏ ‏مؤقتة‏ ‏فى ‏فصل‏ ‏الصيف‏، ‏وقبلت‏ ‏كل‏ ‏كلامها‏ ‏مرغما‏، ‏وحين‏ ‏سألتها‏ ‏عن‏ ‏الأحوال‏ ‏فى ‏سوريا‏، ‏ردت‏ ‏ردا‏ ‏اشتراكيا‏ ‏تقليديا‏ ‏بأنها‏ (‏عال‏ ‏العال‏) ‏وحولت‏ ‏الحديث‏ ‏بسرعة‏، ‏ورضيت‏ ‏بهذا‏ ‏القدر‏ ‏من‏ ‏الحديث‏، ‏الا‏ ‏أنى ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏التقيت‏ ‏بعدد‏ ‏من‏ ‏السوريين‏ ‏مصادفة‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏لاحظت‏ ‏عددا‏ ‏من‏ ‏المطاعم‏ ‏الشامية‏ ‏الفاخرة‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏كنت‏ ‏أسال‏ ‏أحد‏ ‏كبار‏ ‏السن‏ ‏من‏ ‏اليونانيين‏ ‏عن‏ ‏أسم‏ ‏الأتوبيس‏ ‏أو‏ ‏شارع‏ ‏فيسألنى ‏بالعربية‏ ‏أم‏ ‏كنت‏ ‏قادما‏ ‏من‏ ‏سوريا‏، ‏تأكد‏ ‏عندى ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏متنفس‏ ‏رحب‏ ‏قد‏ ‏وجده‏ ‏أخواننا‏ ‏السوريون‏ ‏فى ‏اليونان‏، ‏وفرحت‏ ‏بحركة‏ ‏المد‏ ‏والجزر‏، ‏وبالتبادل‏ ‏الشرعى ‏بين‏ ‏البلاد‏ ‏بالهجرة‏، ‏وبقدرة‏ ‏انسان‏ ‏العصر‏ ‏على ‏تخطى ‏الحدود‏ ‏ومحاولة‏ ‏التأقلم‏ ‏السريع‏ ‏حسب‏ ‏نظرته‏ ‏وطموحه‏ ‏وقدراته‏، ‏ولكنى ‏أملت‏ ‏أكثر‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏دافع‏ ‏الهجرة‏ ‏الاقتصادى ‏يواكب‏ ‏دافعا‏ ‏آخر‏ ‏لهجرة‏ ‏حضارية‏، ‏مع‏ ‏الالتزام‏ ‏بالانتماء‏ ‏للأرص‏ ‏الأم‏، ‏أو‏ ‏مع‏ ‏استمرار‏ ‏رحلات‏ (‏المكوك‏) ‏الواعية‏ ‏والمنتظمة‏، ‏وبدأت‏ ‏أراجع‏ ‏نقدى ‏المستمر‏ ‏والقاسى ‏لما‏ ‏هو‏ ‏حضارة‏ ‏غربية‏، ‏لم‏ ‏أتراجع‏ ‏عنه‏ ‏بعد‏، ‏ولكنى ‏فتحت‏ ‏بابا‏ ‏جانبيا‏ ‏لاعادة‏ ‏النظر‏، ‏ولست‏ ‏آدرى ‏ماذا‏ ‏يعنى ‏تعبير‏ (‏الجوع‏ ‏الحضاري‏) ‏الذى ‏خطر‏ ‏ببالى ‏حالا‏، ‏ولا‏ ‏تعبير‏ (‏الاختناق‏ ‏التخلفي‏)، ‏ولكنى ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أكون‏ ‏جملة‏ ‏مفيدة‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الكلمات‏ ‏المتقاطعة‏ ‏فأقول‏: ‏ياحبذا‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏الدافع‏ ‏الى ‏السفر‏ – ‏فالهجرة‏ ‏عند‏ ‏بعضنا‏ – ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏علاج‏ ‏لمرض‏ (‏الاختناق‏ ‏التخلفي‏) ‏ولاشباع‏ (‏الجوع‏ ‏الحضاري‏) ‏أن‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏، ‏لكنى ‏لا‏ ‏أحسب‏ – ‏حتى ‏الآن‏ – ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏، ‏وأكف‏ ‏قسرا‏ ‏عن‏ ‏مواصلة‏ ‏حديث‏ ‏رحلة‏ (‏الداخل‏) ‏لأخرج‏ ‏الى ‏ما‏ ‏كان‏.‏

23 ‏أغسطس‏ 1984:‏

انطلقنا‏ ‏فى ‏الصباح‏ ‏الى ‏أثينا‏ ‏دون‏ ‏سيارة‏ ‏لاتفاقنا‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏المشى ‏داخل‏ ‏المدن‏ ‏هو‏ ‏وسيلة‏ ‏الانتقال‏ (‏الأولي‏)، ‏وكان‏ ‏الأولاد‏ ‏هم‏ (‏المرشد‏) ‏لنا‏ ‏لسبقهم‏ ‏لنا‏ ‏بساعات‏ ‏أتاحت‏ ‏لهم‏ ‏استعمال‏ ‏الأتوبيس‏ ‏ومعرفة‏ ‏بعض‏ ‏أسماء‏ ‏الأماكن‏ ‏والسوراع‏، ‏وكان‏ ‏عجبهم‏ ‏أن‏ ‏الراكب‏ ‏يضع‏ ‏أمام‏ ‏السائق‏ – ‏فى ‏صندوق‏ ‏بجواره‏ – ‏بعض‏ ‏الفكة‏ ‏مما‏ ‏يعرف‏ ‏أنه‏ ‏تعريفة‏ ‏الركوب‏، ‏بلا‏ ‏تذاكر‏ ‏ولا‏ ‏كمسارى ‏ولا‏ ‏يحزنون‏، ‏فمن‏ ‏أين‏ ‏للسائق‏ ‏أن‏ ‏يعرف‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏وضع‏ (‏وشخشخ‏) ‏هو‏ ‏المبلغ‏ ‏المضبوط؟‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏افتراض‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الأمانة‏، ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏هؤلاء‏ ‏الركاب‏ – ‏أو‏ ‏أغلبهم‏ – ‏أمناء‏، ‏وهذه‏ ‏حقيقة‏ ‏أخري‏، ‏وصدمة‏ ‏أخرى ‏ذكرتنا‏ ‏ببديهيات‏ ‏تقول‏: ‏أن‏ ‏الأصل‏ ‏فى ‏المعاملات‏ ‏الأمانة‏، ‏لا‏ ‏الشطارة‏ (‏أو‏ ‏الحداقة‏)، ‏والأصل‏ ‏فى ‏الحق‏ ‏أن‏ ‏يصل‏ ‏الى ‏صاحبه‏،  ‏ليس‏ ‏أنه‏ (‏اللى ‏بيجى ‏منه‏ ‏أحسن‏ ‏منه‏)، ‏وقد‏ ‏تدهورت‏ ‏عندنا‏ ‏القيمة‏ ‏العامة‏، ‏والانتماء‏ ‏الى ‏الدولة‏ ‏الواحدة‏، ‏والحق‏ ‏المطلق‏ ‏لدرجة‏ ‏بات‏ ‏معها‏ ‏كل‏ ‏واحد‏ ‏منا‏ ( ‏زو‏ ‏كل‏ ‏أسرة‏ ‏أو‏ ‏كل‏ ‏فئة‏) ‏دولة‏ ‏قائمة‏ ‏بذاتها‏، ‏وأصبح‏ ‏التعامل‏ ‏بيننا‏ ‏لا‏ ‏يربطه‏ ‏قاسم‏ ‏مشترك‏ ‏أعظم‏ ‏هو‏ ‏حق‏ ‏الله‏ ‏أو‏ ‏حق‏ ‏الناس‏ ‏أو‏ ‏حق‏ ‏الواجب‏، ‏ومن‏ ‏هنا‏ ‏جاء‏ ‏عجب‏ ‏الأولاد‏.‏

‏و‏بالقرب‏ ‏من‏ (‏سينتاجما‏) ‏وجدنا‏ ‏الحمام‏ ‏والتاريخ‏ ‏فى ‏انتظارنا‏ ‏كالعادة‏، ‏وقد‏ ‏أصبح‏ ‏منظر‏ ‏الحمام‏ ‏وهو‏ ‏يلتقط‏ ‏الحب‏ ‏وفتات‏ ‏الخبز‏ ‏من‏ ‏أيدي

الناس والحمام

السواح‏ ‏منظرا‏ ‏مقررا‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏بلدان‏ ‏العالم‏، ‏فأنت‏ ‏تجده‏ ‏هنا‏ ‏كما‏ ‏تجده‏ ‏فى ‏ميدان‏ ‏سان‏ ‏ماركو‏ ‏بفينيسيا‏، ‏وأمام‏ ‏الساكركير‏ ‏فى ‏باريس‏ ‏ولا‏ ‏أقول‏ ‏فى ‏الكعبة‏ ‏المقدسة‏ (‏حيث‏ ‏لا‏ ‏سياحة‏ ‏وأنما‏ ‏عبادة‏ ‏وابتهالا‏)، ‏وأن‏ ‏كنت‏ ‏لا‏ ‏أستبعد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏فكرة‏ ‏الأشهر‏ ‏الحرم‏ ‏ومنع‏ ‏الصيد‏ ‏فى ‏أماكن‏ ‏بذاتها‏ ‏هى ‏فكرة‏ ‏كامنة‏ ‏فى ‏وجدان‏ ‏التكوين‏ ‏البشرى ‏يصالح‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏أخوانه‏ ‏الأحياء‏ ‏الذين‏ ‏استحل‏ ‏قتلهم‏ – ‏بلا‏ ‏مبرر‏ ‏فى ‏الأغلب‏ – ‏فى ‏غير‏ ‏هذه‏ ‏الأماكن‏، ‏فى ‏غير‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏، ‏أما‏ ‏منظر‏ ‏الجندين‏ ‏ذوى ‏الزى ‏التاريخي‏، ‏والخطورة‏ ‏المرتفعة‏ ‏وهم‏ ‏يقومون‏ ‏بدورهم‏ (‏كديكور‏) ‏بشرى (‏للفرجة‏) ‏والتذكرة‏، ‏فهو‏ ‏منظر‏ ‏جميل‏ ‏يتكرر‏ ‏فى ‏المنشية‏ ‏عندنا‏ ‏بالاسكندرية‏، ‏كما‏ ‏يتكرر‏ ‏أمام‏ ‏قصر‏ ‏الملكة‏ ‏فى ‏لندن‏، ‏وغير‏ ‏ذلك‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏بلاد‏ ‏الله‏، ‏لكن‏ ‏المعنى ‏فى ‏استعمال‏ ‏كائن‏ ‏بشرى ‏حتى ‏الفرجة‏ ‏هو‏ ‏معنى ‏يقلقنى ‏كثيرا‏، ‏حتى ‏المهرج‏ ‏فى ‏السيرك‏، ‏وعو‏ ‏يقوم‏ ‏بنفس‏ ‏الدور‏ ‏له‏ ‏عندى ‏قبول‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الديكور‏ ‏البشري‏، ‏ويقترب‏ ‏السواح‏ ‏من‏ ‏الجندى ‏وهى ‏واقف‏ (‏زنهار‏) ‏قبل‏ ‏معاودة‏ ‏السير‏ ‏ويلمسونه‏ ‏برقة

الجندى.. “الديكور” و (التاريخ)

فلا‏ ‏يتحرك‏، ‏ويلتقطون‏ ‏الصور‏ ‏بجواره‏ ‏وتحت‏ ‏قدميه‏، ‏ثم‏ ‏يعاود‏ ‏السير‏ ‏والاستعراض‏، ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏الجندى ‏راض‏، ‏وأنه‏ ‏يكافأ‏ ‏مكافأة‏ ‏كبيرة‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الدور‏ ، ‏وأنه‏ ‏لا‏ ‏يستمر‏ ‏فيه‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ساعات‏ ‏قليلة‏ ‏دون‏ ‏الانهاك‏، ‏بل‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏فخورا‏ ‏بتمثيل‏ ‏دور‏ ‏تاريخى ‏يذكره‏ ‏بفخر‏ ‏أبناء‏ ‏بلده‏، ‏ولكن‏ ، ‏ولكن‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏يمنع‏ ‏الغصة‏ ‏التى ‏وقفت‏ ‏فى ‏حلقى ‏وتسحبت‏ ‏منى ‏حتى ‏أصبحت‏ ‏قبضة‏ ‏تضغط‏ ‏على ‏قلبي‏، ‏وحاولت‏ ‏أن‏ ‏أقلد‏ ‏مشيته‏ ‏لأتقمص‏ ‏شعوره‏، ‏وقلت‏ (‏ولو‏)‏

تقمص.. ولو.. (!!)

فالانسان‏ ‏ليس‏ ( ‏ديكورا‏) ‏متحركا‏ ‏وما‏ ‏عاد‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏كذلك‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏الثمن‏، ‏والمعني‏، ‏والرمز‏.‏

وافترقنا‏: ‏أولادى ‏وزوجتى ‏فى ‏مجموعة‏، ‏وأنا‏ ‏وحدي‏، ‏على ‏أن‏ ‏نلتقى ‏ظهرا‏، ‏فعلت‏ ‏ذلك‏ ‏لأعفيهم‏ ‏من‏ ‏وجودى ‏المرهق‏ ‏الثقيل‏ ‏أحيانا‏، ‏ولأعفى ‏نفسى ‏من‏ ‏التطلع‏ ‏بلا‏ ‏نهاية‏ ‏فى (‏فترينات‏) ‏الشراء‏ ‏للمفاضل‏ ‏والمقارنة‏، ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏وضعت‏ ‏نظاما‏ ‏نقديا‏، ‏بحيث‏ ‏يحمل‏ ‏كل‏ ‏فرد‏ ‏فى ‏الرحلة‏ ‏مبلغا‏ ‏محدودا‏ ‏يتصرف‏ ‏فيه‏ ‏باستقلال‏، ‏فيأكل‏ ‏على ‏حساب‏ ‏راحة‏ ‏النوم‏، ‏أو‏ ‏ينام‏ ‏عليى ‏حساب‏ ‏ما‏ ‏يشتري‏، ‏أو‏ ‏يشترى ‏على ‏حساب‏ ‏النوم‏ ‏والأكل‏… ‏الخ‏ ‏هو‏ ‏حر‏… ‏يتصرف‏ ‏فى ‏حدوده‏، ‏وكان‏ ‏ترتيب‏ ‏الرحلة‏ ‏هى ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏رحلة‏ ‏كشفية‏ ‏معسكرية‏ ‏مخيمية‏ ‏أساس‏، ‏لا‏ ‏سياحية‏ ‏أو‏ ‏استهلاكية‏، ‏معنا‏ ‏الخيمتين‏ ‏والمواقد‏ ‏والأغطية‏ ‏وأحذية‏ ‏المشى ‏والنقود‏ ‏المحدودة‏، ‏ولا‏ ‏أسبق‏ ‏الأحداث‏ ‏فأقول‏ ‏ماذا‏ ‏حققنا‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏وماذا‏ ‏لم‏ ‏نحقق‏، ‏ولكنى ‏أرجع‏ ‏الى ‏حيث‏ ‏افترقنا‏ ‏بجوار‏ (‏سينتاجما‏)، ‏وأنظر‏ ‏فيمن‏ ‏حولى ‏فأجد‏ ‏أن‏ ‏عدد‏ ‏الناس‏ ‏أقل‏، ‏وعدد‏ ‏الخدمات‏ ‏أكبر‏، ‏وعدد‏ ‏الأصوات‏ ‏أقل‏، ‏وعدد‏ ‏الزهور‏ ‏والخضرة‏ ‏فى ‏الشارع‏ ‏والشرفات‏ ‏أكثر‏، ‏وعدد‏ ‏العربات‏ ‏أكثر‏، ‏لكن‏ ‏عدد‏ ‏الشوراع‏ ‏وسعتها‏ ‏أكثر‏ ‏فزكثر‏ (‏أقل‏) ‏و‏ (‏أكثر‏) ‏مما‏ ‏عندنا‏ ‏طبعا‏) ‏وأعذر‏ ‏أولادى ‏فى ‏صدمتهم‏ ‏وهم‏ ‏يخطرونى ‏أن‏ ‏اليونان‏ ‏هى ‏من‏ ‏أوربا‏، ‏وأننا‏ ‏لسنا‏ ‏مثلهم‏، ‏وأذهب‏ ‏أبحث‏ ‏أولا‏ ‏عن‏ ‏خرائط‏ ‏للطرق‏ ‏التى ‏سزقطعها‏، ‏وخرائط‏ ‏المدن‏ ‏التى ‏سزرورها‏، ‏فأنا‏ ‏لا‏ ‏أهتدى ‏الى ‏طريقى – ‏حتى ‏سائرا‏ – ‏الا‏ ‏بالخريطة‏ ‏والبوصلة‏، ‏ويقابلنى ‏مكتب‏ ‏يوجسلافيا‏ ‏بترحيب‏ ‏جيد‏، ‏يذكرنى ‏بأنها‏ ‏البلد‏ ‏الوحيد‏ ‏الذى ‏منحنا‏ ‏تأشيرة‏ ‏الدخول‏ ‏بلا‏ ‏مقابل‏، ‏ولا‏ ‏أظن‏ ‏زن‏ ‏هذا‏ ‏فقط‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏تشجيع‏ ‏السياحة‏ ‏والدعاية‏،‏و‏ ‏أنما‏ ‏أعتقد‏ ‏أنه‏ ‏مبدأ‏ ‏أساسى ‏من‏ ‏مبادئ‏ ‏الفكر‏ ‏الاشتراكي‏، ‏وأحصل‏ ‏على ‏ما‏ ‏أريد‏ ‏بصعوبة‏، ‏وأفرح‏ ‏بحاجز‏ ‏اللغة‏ ‏رغم‏ ‏أنه‏ ‏شديد‏، ‏فما‏ ‏أحوجنا‏ ‏أحيانا‏ ‏للحديث‏ ‏بالوجه‏ ‏والاشارة‏ ‏باليدين‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أغازت‏ ‏الكلمات‏ ‏القديمة‏ ‏الجوفاء‏ ‏على ‏عمق‏ ‏نبضنا‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏أفرغت‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏ألفاظ‏ ‏الود‏ ‏والتواصل‏ ‏من‏ ‏صدق‏ ‏وظيفتها‏، ‏وأفرح‏ ‏حين‏ ‏أجد‏ ‏الحروف‏ ‏اليونانية‏ ‏ذات‏ ‏الرسم‏ ‏الاتينى ‏الواحد‏ ‏تنطق‏ ‏بطريقة‏ ‏أخري‏، ‏وحين‏ ‏تقرأ‏ ‏كلمة‏ ‏يونانية‏ ‏وكأنها‏ ‏انجليزية‏ ( ‏أو‏ ‏فرنسية‏) ‏قد‏ ‏تنطق‏ ‏كلمة‏ ‏أخرى ‏تماما‏، ‏وقد‏ ‏أدركت‏ ‏ذلك‏ ‏أكثر‏ ‏وأنا‏ ‏أقارن‏ ‏بيم‏ ‏زسماء‏ ‏البلاد‏ ‏خلال‏ ‏الرحلة‏ ‏وهى ‏مكتوبة‏ ‏باللغتين‏ ‏اليونانية‏ ‏والانجليزية‏ (‏أو‏ ‏ما‏ ‏شابه‏) ‏فأجد‏ ‏حروفا‏ ‏غربية‏ ‏على (‏وهى ‏قليلة‏) ‏والأهم‏ ‏أنى ‏زجد‏ ‏حروفا‏ ‏واحدة‏ ‏لها‏ ‏نطق‏ ‏مختلف‏ ‏عما‏ ‏تعودنا‏، ‏ثم‏ ‏تقودنى ‏قدمى ‏الى ‏الاكروبول‏ ‏كعلامة‏ ‏فى ‏الخريطة‏ ‏واحياء‏ ‏لذكرى ‏قديمة‏، ‏وأختار‏ ‏اليه‏ – ‏كالعادة‏ – ‏زضيق‏ ‏الشوراع‏، ‏فمنذ‏ ‏أقامتى ‏قرب‏ ‏المونماتر‏ ‏فى ‏باريس‏ ‏ذلك‏ ‏العام‏، ‏وقبل‏ ‏ذلك‏ ‏منذ‏ ‏تعودى ‏على ‏الوصول‏ ‏الى ‏منزلنا‏ ‏فى ‏قريتى ‏من‏ (‏درب‏ ‏الوسط‏) (‏الملتوى ‏كالثعبان‏، ‏الضيق‏ ‏كنفق‏ ‏سري‏) ‏وليس‏ ‏من‏ (‏داير‏ ‏الناحية‏)، ‏منذ‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏: ‏وأنا‏ ‏أعرف‏ ‏أن‏ ‏تاريخ‏ ‏البيوت‏ ‏بدأ‏ ‏متقاربا‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏حميمة‏، ‏وأن‏ ‏الشوارع‏ ‏هى ‏ممرات‏ ‏قسرية‏ ‏شقت‏ ‏للضرورة‏، ‏وما‏ ‏أصبحت‏ ‏الشوارع‏ ‏ميادين‏ ‏ولا‏ ‏حلقات‏ ‏سباق‏ ‏الا‏ ‏حديثا‏، ‏لذلك‏ ‏فأنى ‏أهتدى ‏بحدسى ‏وخبرتى ‏أول‏ ‏ما‏ ‏أتجول‏ ‏فى ‏أى ‏مدينة‏ ‏جديدة‏ ‏الى ‏هذه‏ ‏الشوارع‏ ‏الضيقة‏، ‏ويا‏ ‏حبذا‏ ‏تلك‏ ‏الشوارع‏ ‏التى ‏يبلغ‏ ‏من‏ ‏ضيقها‏ ‏استحالة‏ ‏مرور‏ ‏العربات‏ ‏بها‏، ‏وما‏ ‏زلت‏ ‏أذكر‏ ‏زيارتى ‏لخالتى – ‏رحمها‏ ‏الله‏ – ‏فى ‏سوق‏ ‏السلاح‏ ‏بالقلعة‏ ‏وأنا‏ ‏حول‏ ‏العاشرة‏، ‏وما‏ ‏زلت‏ ‏زذكر‏ ‏الشوارع‏ ‏هناك‏ ‏بسلالمها‏ ‏المتآكلة‏ ‏وما‏ ‏انطبع‏ ‏فى ‏داخلى ‏منها‏، ‏وما‏ ‏يتدعم‏ ‏كل‏ ‏يوم‏ ‏وأنا‏ ‏أمر‏ ‏بها‏ ‏فى ‏طريقتى ‏الى ‏بيتى ‏بالمقطم‏، ‏المهم‏ ‏زمسكت‏ ‏بالخريطة‏ ‏وبدأت‏ ‏رحلة‏ ‏المشى ‏حتى ‏وصلت‏ ‏الى ‏ما‏ ‏أردت‏، ‏أو‏ ‏ما‏ ‏توقعت‏، ‏وهناك‏ ‏حول‏ ‏المرتفعات‏ ‏المؤدية‏ ‏الى ‏الاكربول‏، ‏تقع‏ ‏المقاهى ‏على ‏الأرصفة‏ ‏فى ‏جمال‏ ‏طبيعي‏، ‏والمقهى ‏فى (‏بلاد‏ ‏بره‏) ‏عامة‏ ‏هو‏ ‏مطعم‏ ‏ومقهى ‏وبار‏ ‏وخدمات‏ ‏نظامية‏ (‏للاخراج‏ ‏والغسيل‏)، ‏وهى ‏تحت‏ ‏أمر‏ ‏وأذن‏ ‏الرواد‏ ‏دائما‏ – ‏بل‏ ‏والمارة‏ ‏أيضا‏ – ‏أما‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المككان‏ ‏فقد‏ ‏زاد‏ ‏الكرم‏ ‏دعوة‏ ‏حارة‏ ‏من‏ ‏النادل‏ ‏للمارة‏ ‏أن‏ (‏يتفضلوا‏) ‏بالهناء‏ ‏والشفاء‏، ‏ورغم‏ ‏أنك‏ ‏ستدفع‏ ‏الثمن‏ ‏الا‏ ‏أن‏ ‏الدعوة‏ ‏تبدو‏ (‏عزومة‏) ‏صادقة‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏وتستطيع‏ ‏أن‏ ‏تقرأ‏ ‏خاترج‏ ‏كل‏ ‏قهوة‏ ‏ومطعم‏ ‏أسعار‏ ‏المشروبات‏ ‏والوجبات‏ ‏الكاملة‏، ‏والطلبات‏ ‏المنفردة‏، ‏تقرأها‏ ‏بالتفصيل‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تتورط‏، ‏ورغم‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏ملايين‏ ‏السياح‏ ‏فى ‏اليونان‏، ‏فأتت‏ ‏لا‏ ‏تشعر‏ ‏لا‏ ‏بزحمة‏ ‏ولا‏ ‏باستغلال‏، ‏فالأسعار‏ ‏بالمطاعم‏ ‏تقل‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏يقابلها‏ ‏فى ‏مصر‏ (‏أن‏ ‏وجد‏ ‏ما‏ ‏يقابلها‏) ‏بمقدار‏ ‏النصف‏ ‏أو‏ ‏يزيد‏، ‏و‏(‏البقشيش‏) ‏ليس‏ ‏ابتزاز‏ ‏مقررا‏، ‏ولا‏ ‏فرق‏ ‏فى ‏الترحاب‏ ‏والوداع‏ ‏بين‏ ‏من‏ ‏يعطى ‏أكثر‏ ‏ومن‏ ‏يعطى ‏أثل‏، ‏ومن‏ ‏لا‏ ‏يعطى ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏، ‏بل‏ ‏أنى ‏حين‏ ‏اطمأننت‏ ‏الى ‏أسعاأ‏ ‏أحد‏ ‏هذه‏ ‏المقاهى ‏ونوع‏ ‏المأكولات‏ ‏الحريفة‏ ‏من‏ (‏محشى ‏باذنجان‏) ‏و‏( ‏مسقعة‏ ‏باللحم‏ ‏المفروم‏) ‏قررت‏ ‏دعوة‏ ‏زملاء‏ ‏الرحلة‏ ‏للغداء‏ ‏كنوع‏ ‏من‏ ‏البداية‏ ‏السمحة‏، ‏وتناولت‏ ‏مشروبا‏ ‏خفيفا‏ ‏ولم‏ ‏أعطه‏ ‏بقشيشا‏ ‏لأري‏، ‏ورأيت‏ ‏ما‏ ‏ذكرت‏ ‏من‏ ‏ترحيب‏ ‏تحت‏ ‏كل‏ ‏الظروف‏، ‏وبلا‏ ‏شروط‏ (‏بقشيشية‏) ‏وبعد‏ ‏لقائنا‏ ‏فى ‏الميعاد‏ ‏ظهرا‏ ‏جعل‏ ‏أولادى ‏يتحدثون‏ ‏عن‏ ‏شدة‏ ‏الرخص‏ ‏هنا‏ (‏بالمقارنة‏) ‏لأسعار‏ ‏الملبوسات‏ ‏مع‏ ‏ارتفاع‏ ‏الذوق‏ ‏وجمال‏ ‏التنويعات‏، ‏فتألمت‏ ‏لأن‏ ‏مصر‏ ‏كانت‏ ‏دائما‏ ‏مضرب‏ ‏الأمثال‏ ‏فى ‏الرخص‏ ‏والذوق‏، ‏ودخل‏ ‏الفرد‏ ‏عندنا‏ ‏هو‏ ‏أقل‏ ‏حتما‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏البلد‏، ‏فما‏ ‏هى ‏الحكاية؟

ومن‏ ‏هو‏ ‏المستهلك‏ ‏عندنا‏ ‏الذى ‏رفع‏ ‏الأسعار‏ ‏هكذا؟‏ ‏اذ‏ ‏أنه‏ ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يوجد‏ ‏من‏ ‏يدفع‏ ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏تنخفض‏ ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏تنخفض‏ ‏الأسعار‏، ‏المهم‏: ‏تحدثوا‏ ‏عن‏ ‏ذلك‏، ‏وحدثتهم‏ ‏عن‏ ‏جولتى ‏وعن‏ ‏دعوتى ‏لهم‏ ‏للغداء‏، ‏وفرح‏ ‏الجميع‏ ‏لأن‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏وفر‏ ‏لثمن‏ ‏وجبة‏ ‏مماثلة‏، ‏أو‏ ‏تحرر‏ ‏من‏ ‏وجبة‏ ‏بديلة‏ ‏من‏ ‏العيش‏ (‏الحاف‏) ‏والحلو‏ (‏بسكويت‏)!!!، ‏وحين‏ ‏ذهبنا‏ ‏الى ‏نفس‏ ‏المكان‏ ‏قرب‏ ‏الاكربول‏ ‏عبر‏ ‏السوارع‏ ‏الضيقة‏ ‏والمثيرة‏ ‏شرحت‏ ‏لهم‏ ‏كيف‏ ‏اكتشفته‏، ‏وكيف‏ ‏هدتنى ‏هذه‏ ‏الشوارع‏ ‏الى ‏الطابع‏ ‏الخاص‏ ‏بالبلد‏ ‏نزوره‏، ‏وضحك‏ ‏أولادى ‏الذين‏ ‏صحبونى ‏فى ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏الى ‏جنيف‏ ‏القديمة‏، ‏وتذكروا‏ ‏حين‏ ‏فرجتهم‏ ‏سابقا‏ ‏على ‏سكنى ‏بالمونمارتر‏، ‏المهم‏ ‏أننا‏ ‏لم‏ ‏نعرف‏ ‏زسماء‏ ‏الأطعمة‏ (‏طبعا‏)، ‏فدخلنا‏ ‏الى (‏الفترينة‏) ‏وأشار‏ ‏كل‏ ‏منهم‏ ‏الى ‏النوع‏ ‏الذى ‏يحبه‏، ‏وحين‏ ‏سألنى ‏النادل‏ ‏هل‏ (‏هؤلاء‏ ‏كلهم‏) ‏هم‏ ‏عائلتى ‏أجبت‏ ‏بالايجاب‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أشعر‏ ‏أنى ‏أكذب‏، ‏وحين‏ ‏جاء‏ ‏وقت‏ ‏الحساب‏ ‏مال‏ ‏على ‏وقال‏ ‏أنه‏ ‏مجرد‏ ‏عامل‏ ‏وليس‏ ‏صاحب‏ ‏المقهي‏، ‏وكدت‏ ‏أقول‏: ‏إذن‏ ‏لم‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الحماس‏ ‏والاخلاص‏ ‏والدعوة‏ ‏والدعاية‏ ‏والود‏ ‏والحرارة‏ – ‏ناسيا‏ ‏أن‏ (‏من‏ ‏أخذ‏ ‏الأجرة‏ ‏حاسب‏ ‏الله‏ ‏على ‏العمل‏) ‏كما‏ ‏كان‏ ‏عندنا‏ ‏زمان‏، ‏وأن‏ ‏من‏ ‏أكل‏ ‏عيش‏ (‏اليوناني‏) ‏يضرب‏ ‏بسيفه‏) ‏بعد‏ ‏التحوير‏)، ‏قال‏ ‏الرجل‏ ‏ذلك‏ ‏ليعتذر‏ ‏عن‏ ‏عدم‏ ‏استطاعته‏ ‏أن‏ ‏يعمل‏ ‏تخفيضا‏ ‏لى ‏بسبب‏ ‏هذا‏ ‏العدد‏ ‏الهائل‏ ‏من‏ ‏الأولاد‏ ‏والبنات‏، ‏وتنازل‏ ‏عن‏ ‏بقشيشه‏ ‏باصرار‏، ‏بل‏ ‏أنه‏ ‏ورغم‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏المقمات‏ ‏تبرع‏ ‏فعمل‏ ‏تخفيضا‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏الأمر‏ ‏دون‏ ‏طلب‏ ‏مني‏، ‏وتكلف‏ ‏الفرد‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏أتصوره‏ ‏فى ‏بلد‏ ‏سياحى ‏فى ‏مكان‏ ‏سياحي‏، ‏ليس‏ ‏ثمة‏ ‏افتراض‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏السائح‏ ‏هو‏ ‏ثرى ‏بالضرورة‏، ‏وليس‏ ‏ثمة‏ ‏اتجاه‏ ‏لأخذ‏ (‏أكبر‏) ‏قدر‏ ‏من‏ ‏المال‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الغريب‏ ‏الذى ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يقابله‏ ‏الداعى ‏الا‏ ‏مرة‏ ‏واحدة‏ ‏طول‏ ‏العمر‏، ‏فالمسألة‏ ‏ليست‏ ‏تخفيضا‏ ‏لتكوين‏ ‏زبون‏، ‏زو‏ ‏لكسب‏ ‏لاحق‏ ‏منتظر‏ ‏من‏ ‏نفس‏ ‏الشخص‏، ‏وأنما‏ ‏عى ‏علاقات‏ ‏انسانية‏ ‏مضبوطة‏ ‏بجوهر‏ ‏مصالح‏ ‏أعمق‏ ‏فى ‏أطار‏ ‏من‏ ‏حرارة‏ ‏ود‏ ‏البحر‏ ‏الأبيض‏، ‏والتزام‏ ‏خلقى ‏هو‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏مكسب‏ ‏للجميع‏، ‏الزبون‏ ‏والعامل‏ ‏وصاحب‏ ‏المحل‏ ‏والبلد‏ ‏المضيف‏ ‏والدعاية‏ ‏المستقبلية‏، ‏نعم‏ ‏ليست‏ ‏المسألة‏ ‏حذقا‏ ‏وشطارة‏ ‏عاجلة‏ ‏ما‏ ‏هى ‏بعد‏ ‏نظر‏ ‏وانتماء‏.‏

 مرة‏ ‏أخرى ‏حملت‏ ‏مشتريات‏ ‏أفراد‏ ‏الرحلة‏ ‏معى ‘‏وحدي‏’ ‏عائدا‏ ‏إلى ‏الفندق‏ ‏قبلهم‏ ‏لأرتب‏ ‏خط‏ ‏سيرى ‏غدا‏، ‏وأعيد‏ ‏تنظيم‏ ‏أفكارى ‏تاركا‏ ‏لهم‏ ‘‏بعد‏ ‏الظهر‏’ ‏لاستكمال‏ ‏ما‏ ‏يشاؤون‏ ‏من‏ ‏مشاهدة‏ ‏ومقارنة‏ ‏وتعلم‏ ‏وانبهار‏، ‏وكان‏ ‏الحمل‏ ‏ثقيلا‏ ‏لأنه‏ ‏حوى ‏بعض‏ ‏مهمات‏ ‏التخيم‏ ‏فى ‏المعسكر‏، ‏وسألنا‏ – ‏بالإنجليزية‏ – ‏أحد‏ ‏المسنين‏ ‏الواقفين‏ ‏بمحطة‏ ‏الأتوبيس‏ ‏عن‏ ‏رقم‏ ‏الأتوبيس‏ ‏الذاهب‏ ‏إلى ‘‏المطار‏’، (‏حيث‏ ‏الفندق‏ ‏قريب‏)، ‏وأجاب‏ ‏بالعربية‏ ‏كما‏ ‏توقعت‏، ‏وكان‏ ‏أولادى ‏قد‏ ‏حدثونى ‏عن‏ ‏أصحاب‏ ‏محلات‏ ‏جعلوا‏ ‏يحدثونهم‏ ‏عن‏ ‏ذكرياتهم‏ ‏فى ‏الاسكندرية‏، ‏ويذكرون‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏ذكرا‏ ‏غير‏ ‏حسن‏، ‏وتمادوا‏ ‏فى ‏تفسير‏ ‏طردهم‏ (‏هكذا‏ ‏صوروه‏) ‏بأنه‏ – ‏رحمه‏ ‏الله‏ – ‏يكره‏ ‏المسيحيين‏، ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏معهم‏ ‏حق‏ ‏فى ‏تفسير‏ ‏تضييق‏ ‏الخناق‏ ‏عليهم‏ ‏حتى ‏تفضيلهم‏ ‏المغادرة‏ ‏مما‏ ‏أسموه‏ ‏طردا‏، ‏فإن‏ ‏تهمة‏ ‏التعصب‏ ‏الدينى ‏ليس‏ ‏لها‏ ‏ما‏ ‏يبررها‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فقد‏ ‏ترحم‏ ‏الجميع‏ ‏على ‘‏أيام‏’، ‏وأملوا‏ ‏فى ‘‏أيام‏’، ‏وبقى ‏الود‏ ‏والذكري‏، ‏قال‏ ‏لى ‏العجوز‏ ‏اليونانى ‏كيف‏ ‏حال‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏مصر‏، ‏قالها‏ ‏وكأنه‏ ‏يسأل‏ ‏عن‏ ‏أهله‏ ‏لا‏ ‏عن‏ ‏أهلي‏* ‏قلت‏ ‏له‏ ‏بخير‏ ‘‏يجتهدون‏’ ‏ولكنهم‏ ‏كثيد‏، ‏قال‏: ‏نعم‏ ‏أعلم‏ ‏ذلك‏، ‏قضيت‏ ‏هناك‏ ‏كل‏ ‏عمرى (‏لم‏ ‏يقل‏ ‏نصفه‏ ‏أو‏ ‏أغلبه‏، ‏وكأنه‏ ‏يعتبر‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ (‏بعد‏ ‏عودته‏) ‏ليس‏ ‏من‏ ‏عمره‏ ‏أو‏ ‏هو‏ ‏شيءجديد‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏جمعه‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏سبقه‏)، ‏سألته‏: ‏من‏ ‏الاسكندرية؟‏ ‏قال‏: ‏الكاهرة‏، ‏ولم‏ ‏يقل‏ ‘‏مصر‏’ ‏مثلما‏ ‏نسمى ‏نحن‏ ‏القاهرة‏، ‏وهو‏ ‏يميز‏ ‏بدقة‏ ‏أصح‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏كلمتى ‏مصر‏ (‏القطر‏)، ‏والقاهرة‏ (‏العاصمة‏)، ‏وظل‏ ‏يسألنى ‏عن‏ ‏اسم‏ ‏الفندق‏ ‏الذى ‏أريده‏، ‏وأحاول‏ ‏أن‏ ‏أفهمه‏ ‏أنى ‏أعرفه‏ (‏بعد‏ ‏المطار‏) ‏دون‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يتعب‏ ‏نفسه‏ ‏بمحاولة‏ ‏افهام‏ ‏السائق‏ ‏أن‏ ‏ينزلنى ‏حيث‏ ‏ينبغي‏، ‏ولكنه‏ ‏يذهب‏ ‏للسائق‏ ‏ويرطن‏ ‏ويأتى ‏ليطمئنني‏، ‏وينظر‏ ‏إلى ‏حمولاتى ‏المخيمية‏ ‏الثقيل‏، ‏ثم‏ ‏يشفق‏ ‏على ‏وكأنه‏ ‏أبى ‏مسئول‏ ‏عني‏، ‏ولم‏ ‏يبق‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يواصل‏ ‏الركوب‏ ‏حتى ‏يوصلنى ‏إلى ‏الفندق‏ ‏ويحمل‏ ‏عنى ‏بعض‏ ‏أشيائي‏، ‏وتساءلت‏ – ‏كما‏ ‏تساءل‏ ‏أولادى ‏قبلى – ‏لم‏ ‏يعاملنا‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الرقة‏ ‏والدماثة؟‏ ‏هل‏ ‏لأنهم‏ ‏كانوا‏ ‏عندنا؟‏ ‏هل‏ ‏لأننا‏ ‏نذكرهم‏ ‏بأيام‏ ‏حلوة؟‏ ‏هل‏ ‏لأننا‏ ‏أكرمناهم‏ ‏فهم‏ ‏يكرموننا؟‏ ‏هل‏ ‏لأنهم‏ ‏هكذا؟‏ ‏وهل‏ ‏يا‏ ‏ترى ‏نحن‏ ‏أيضا‏ ‏هكذا؟‏ ‏أعنى ‏هل‏ ‏مازال‏ ‏أغلبنا‏ ‏هكذا؟‏ ‏أم‏ ‏حدث‏ ‏شيء؟‏ ‏بل‏ ‏حدث‏ ‏شيء‏ ‏وأشياء‏: ‏عنف‏ ‏النقلات‏ ‏تأتى (‏من‏ ‏أعلي‏)، ‏بلا‏ ‏إعداد‏ (‏تحتي‏) ‏أعم‏، ‏مع‏ ‏قلة‏ ‏حزم‏ ‏الحكومات‏ ‏وقلة‏ ‏خدماتها‏، ‏مع‏ ‏استيراد‏ ‏مظهر‏ ‏الحضارة‏ ‏دون‏ ‏روحها‏، ‏مع‏ ‏تغير‏ ‏فئة‏ ‏القادرين‏ ‏ماديا‏ ‏بسرعة‏ ‏يصعب‏ ‏معها‏ ‏تغير‏ ‏الأخلاق‏ ‏إيجابيا‏ ‏أولا‏ ‏بأول‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فالطريق‏ ‏طويل‏ ‏ولا‏ ‏محل‏ ‏للتسرع‏ ‏بالحكم‏، ‏فلولا‏ ‏أننا‏ ‏كرام‏ ‏بررة‏ ‏لما‏ ‏تركنا‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الأثر‏ ‏على ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏، ‏وأتساءل‏ – ‏كما‏ ‏تساءلت‏ ‏عن‏ ‏لبنان‏ ‏من‏ ‏قبل‏: ‏هذا‏ ‏بلد‏ ‏غني‏: ‏زراعى – ‏صناعى (‏إلى ‏حد‏ ‏ما‏) ‏سياحى – ‏تاريخى – ‏عريق‏، ‏فلماذا‏ ‏كانوا‏ ‏يهاجرون‏ ‏إلينا‏، ‏ليست‏ ‏الحاجة‏ ‏المادية‏ ‏هى ‏السبب‏ ‏الأصلي‏، ‏ولم‏ ‏يهاجر‏ ‏اللبنانيون‏ ‏لسبب‏ ‏مادى ‏قح‏، ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏المصريون‏ ‏حاليا‏ ‏يهاجرون‏ ‏لأسباب‏ ‏مادية‏ ‏فى ‏الظاهر‏، ‏فقد‏ ‏يثبت‏ ‏بالتاريخ‏ ‏القادم‏ ‏أن‏ ‏وراء‏ ‏الهجرة‏ ‏شيئا‏ ‏آخر‏ ‏وأشياء‏، ‏على ‏كل‏ ‏حال‏، ‏فقد‏ ‏عادوا‏ ‏إلى ‏بلادهم‏، ‏ورحلنا‏ ‏وراءهم‏ ‏وعرفت‏ ‏فى ‏رحلتى ‏هذه‏ ‏مدخلا‏ ‏إلى ‏اليونان‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏مصري‏/ ‏سوري‏،‏وهأنذا‏ ‏أقيم‏ ‏فى ‏فندق‏ ‏سورى ‏وقد‏ ‏لاحظت‏ ‏أن‏ ‏ايجار‏ ‏الحجرة‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الفندق‏ ‏رغم‏ ‏تواضع‏ ‏إمكانياته‏ ‏بالمقارنة‏ ‏بمثيله‏ ‏فى ‏سان‏ ‏فرانسيسكو‏ ‏وباريس‏ ‏وبوسطون‏ ‏ونيويورك‏ ‏هو‏ ‏أعلى ‏من‏ ‏توقعي‏، ‏ورغم‏ ‏أنهم‏ ‏لم‏ ‏يحسبوا‏ ‏علينا‏ ‏ثمن‏ ‏الشاى ‏وبعض‏ ‏الكوكاكولا‏ ‏حبا‏ ‏وكرامة‏، ‏وشكرتهم‏ ‏فى ‏جميع‏ ‏الأحوال‏، ‏فقد‏ ‏رعوا‏ ‏أولادى ‏حتى ‏صحبوهم‏ ‏إلى ‏الميناء‏ ‏متطوعين‏، ‏ولكنى ‏قارنت‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏المتعجل‏ ‏للكسب‏، ‏وبين‏ ‏موقف‏ ‏الصينيين‏ ‏وأولاد‏ ‏عمومتهم‏ (‏من‏ ‏كوريين‏ ‏ويابانيين‏… ‏الخ‏) ‏حيث‏ ‏يبالغون‏ ‏فى ‏الرخص‏ ‏بالمقارنة‏ ‏بالأسعار‏ ‏المحلية‏ ‏حتى ‏يخيل‏ ‏إليك‏ ‏أنهم‏ ‏يخسرون‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏يستمرون‏ ‏وينجحون‏، ‏وهممت‏ ‏أن‏ ‏أنبهم‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏اللاهث‏ ‏نحو‏ ‏مكسب‏ ‏سريع‏ ‏فيه‏ ‏قصر‏ ‏نظر‏ ‏على ‏المدى ‏الطويل‏، ‏ولكنى ‏خفت‏ ‏من‏ ‏سوء‏ ‏تفسير‏ ‏نصيحتي‏، ‏فالفندق‏ ‏نزلاؤه‏ ‏قليلون‏، ‏والأعمال‏ ‏حولى ‏تدل‏ ‏على ‏أنها‏ ‏أعمال‏ ‏صفقات‏ ‏واتفاقات‏ ‏كبيرة‏ ‏لا‏ ‏أفهم‏ ‏فيها‏ ‏كثيرا‏، ‏فما‏ ‏أدرانى ‏أنا‏ ‏بما‏ ‏هم‏ ‏أنجح‏ ‏فيه‏ ‏وأقدر‏، ‏ولكن‏ ‏شهور‏ ‏عابر‏ ‏سبيل‏ ‏مثلى ‏يرى ‏ويقارن‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏إهماله‏ ‏على ‏كل‏ ‏حال‏، ‏وأؤجل‏ ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏لحين‏ ‏الرجوع‏ ‏إلى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الإغارة‏ ‏الصفراء‏ ‏على ‏الحضارة‏ ‏الغربية‏.‏

  الجمعة‏ 24 ‏أغسطس‏ 1984:‏

   بدأنا‏ ‏السفر‏ ‏فى ‏ساعة‏ ‏مبكرة‏، ‏الجو‏ ‏شديد‏ ‏النقاء‏ ‏والانعاش‏، ‏وكانت‏ ‏المشكلة‏ ‏هى ‏فى ‏الخروج‏ ‏إلى ‏الطريق‏ ‏السريع‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نتوه‏ ‏داخل‏ ‏أثينا‏، ‏ونصحنا‏ ‏أحدهم‏ ‏أن‏ ‏نخرج‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏بيريه‏، ‏وبعد‏ ‏تردد‏ ‏اضطررت‏ ‏للموافقة‏ ‏فخريطة‏ ‏أثينا‏ ‏خريطة‏ ‏داخلية‏ ‏ليس‏ ‏فيها‏ ‏ما‏ ‏يبين‏ ‏السبيل‏ ‏إلى ‏الطرق‏ ‏الخارجية‏، ‏وبدأنا‏ ‏السفر‏، ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏اتفقت‏ ‏مع‏ ‏أولادى ‏أن‏ ‏يتناوب‏ ‏كل‏ ‏منهم‏ ‏الجلوس‏ ‏بجوارى ‏كمرشد‏، ‏أعطيه‏ ‏خريطة‏ ‏أوربا‏، ‏وخريطة‏ ‏البلدين‏ ‏اللذين‏ ‏سنعبرهما‏، ‏ونتفق‏ ‏على ‏الطريق‏، ‏وعلى ‏أسماء‏ ‏البلاد‏ ‏وبالتالي‏، ‏ونحدد‏ ‏المسافات‏ ‏بمقياس‏ ‏الرسم‏، ‏ونعدل‏ ‏عداد‏ ‏الكيلومترات‏ ‏على ‏الصفر‏، ‏وننطلق‏، ‏واعترض‏ ‏أغلبهم‏ ‏فهذا‏ ‏لا‏ ‏يميل‏ ‏إلى ‏الجغرافيا‏، ‏وذلك‏ ‏لم‏ ‏يمسك‏ ‏خريطة‏ ‏من‏ ‏زمن‏، ‏وهذه‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تنام‏، ‏وكان‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يصدر‏ ‏أمر‏ ‏بالتناوب‏، ‏وإلا‏ ‏فلا‏ ‏فائدة‏، ‏ومن‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏شيئا‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يتعلمه‏، ‏لأن‏ ‏ذلك‏ ‏جزء‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏مما‏ ‏اتفقنا‏ ‏عليه‏، ‏وبمجرد‏ ‏بداية‏ ‏التجربة‏، ‏وجدت‏ ‏المرشدة‏ ‏الأولى ‏متعة‏ ‏واثارة‏ ‏فى ‏قراءة‏ ‏اللافتات‏، ‏والسؤال‏ ‏أحيانا‏ ‏بالانجليزية‏ ‏وأخرى ‏بالفرنسية‏، ‏لكننا‏ ‏نتلقى ‏الاجابة‏ ‏باليونانية‏ ‏دائما‏، ‏وينهمك‏ ‏المسئول‏ ‏باخلاص‏ ‏متفان‏، ‏فى ‏شرح‏ ‏الطريق‏ ‏باليونانية‏، ‏رغم‏ ‏وضوح‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏نفهم‏ ‏شيئا‏ ‏ولا‏ ‏يربط‏ ‏بيننا‏ ‏وبينه‏ ‏إلا‏ ‏نطق‏ ‏اسم‏ ‏البلد‏، ‏وربنا‏ ‏يستر‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏النطق‏ ‏صحيحا‏، ‏وإلا‏ ‏فاحتمالات‏ ‏الضياع‏ ‏تتزايد‏، ‏والحقيقة‏ ‏أن‏ ‏علامات‏ ‏الطريق‏ ‏شديدة‏ ‏الوضوح‏ ‏شديدة‏ ‏الدقة‏، ‏ولست‏ ‏أدرى ‏لم‏ ‏تخلو‏ ‏طرقنا‏ (‏تقريبا‏) ‏من‏ ‏أية‏ ‏علامة‏ ‏تشعرك‏ ‏باحترام‏ ‏الدولة‏ ‏لسائقى ‏السيارات‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏تحذير‏ ‏السرعة‏، ‏وأنه‏ ‏على ‏الأجانب‏ ‏ألا‏ ‏يخرجوا‏ ‏من‏ ‏الطريق‏ ‏الرئيسي‏!!! ‏أن‏ ‏العلاقة‏ ‏الحقيقية‏ ‏من‏ ‏الحكومة‏ ‏إلى ‏الناس‏، ‏لا‏ ‏تبدأ‏ ‏بالضبط‏ ‏والعقاب‏، ‏وإنما‏ ‏تبدأ‏ ‏بالخدمات‏ ‏والارشاد‏، ‏وبعد‏ ‏ذلك‏ ‏يأتى ‏الحساب‏، ‏ولا‏ ‏أظن‏ ‏أن‏ ‏كتابة‏ ‏لافتات‏ ‏عندنا‏ ‏بالعربية‏ ‏والانجليزية‏ ‏مثلا‏ ‏ستكلف‏ ‏الدولة‏ ‏كثيرا‏، ‏بل‏ ‏أنها‏ ‏ستعلن‏ ‏احترام‏ ‏الحكومة‏ ‏للناس‏، ‏فتدعو‏ ‏الناس‏ ‏ضمنا‏ ‏لاحترام‏ ‏الحكومة‏ ‏وتعليماتها‏، ‏ونمضى ‏فى ‏طريق‏ ‏متسع‏ ‏بعض‏ ‏الوقت‏ ‏ثم‏ ‏يضيق‏ ‏رويدا‏ ‏رويدا‏ ‏حتى ‏يصبح‏ ‏طريقا‏ ‏مزدوجا‏ ‏عاديا‏، ‏لكننا‏ ‏ندفع‏ ‏دائما‏ ‏ثمن‏ ‏المرور‏ ‏فيه‏ ‏عند‏ ‏بوابات‏ ‏تحسب‏ ‏المسافات‏، ‏وهى ‏مبالغ‏ ‏ليست‏ ‏قليلة‏، ‏وأتذكر‏ ‏البوابات‏ ‏التابعة‏ ‏فى ‏أول‏ ‏وآخر‏ ‏طريق‏ ‏الاسكندرية‏ ‏الصحراوى ‏ساكنة‏ ‏بلا‏ ‏عمل‏، ‏وأتساءل‏ ‏لماذا‏ ‏رفض‏ ‏مجلس‏ ‏الشعب‏ ‏أن‏ ‏يحصل‏ ‏ما‏ ‏يصون‏ ‏به‏ ‏الطريق‏ ‏ويسترجع‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏أتفق‏ ‏عليه‏)[9](، ‏وهو‏ ‏طريق‏ ‏أرحب‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الطرق‏ ‏باليونان‏ ‏بالذات‏، ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏كان‏ ‏يتعلق‏ ‏بتوقيت‏ ‏الانتخابات‏، ‏لا‏ ‏بمصلحة‏ ‏الطريق‏ ‏ودوام‏ ‏صيانته‏، ‏ولا‏ ‏بمستقبل‏ ‏السيارات‏ ‏وحمايتها‏، ‏وأرجع‏ ‏أن‏ ‏أعضاء‏ ‏مجلس‏ ‏الشعب‏ ‏عندنا‏ (‏وخاصة‏ ‏قبل‏ ‏الانتخابات‏) ‏يهمهم‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ ‏ألا‏ (‏تظهر‏) ‏على ‏سطح‏ ‏نشاطهم‏ ‏زيادات‏ ‏صريحة‏، ‏ولكنهم‏ ‏ينسون‏ ‏أن‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏خطرا‏ ‏على ‏المدى ‏البعيد‏، ‏ثم‏ ‏تعال‏ ‏ننظر‏ ‏فى ‏ثمن‏ ‏البنزين‏، ‏ففى ‏اليونان‏ ‏يقارب‏ ‏اللتر‏ ‏الواحد‏ ‏ما‏ ‏يعادل‏ ‏ستين‏ ‏قرشا‏ ‏مصريا‏ ‏وفى ‏إيطاليا‏ ‏يقارب‏ ‏الخمس‏ ‏وسبعين‏ ‏وكذا‏ ‏فى ‏فرنسا‏ ‏وسويسرا‏، ‏فلماذا‏ ‏يبقى ‏الثمن‏ ‏عندنا‏ ‏تدفع‏ ‏فيه‏ ‏الحكومة‏ ‏أكثر‏ ‏دخل‏ ‏البترول؟‏ ‏لمصلحة‏ ‏من؟‏ ‏أن‏ ‏كان‏ ‏لمصلحة‏ ‏أصحاب‏ ‏السيارات‏ ‏مثلي‏، ‏فلابد‏ ‏أنهم‏ ‏قادرون‏ ‏وإلا‏ ‏ما‏ ‏اشتروا‏ ‏سيارة‏ ‏أصلا‏، ‏وأن‏ ‏كان‏ ‏خوفا‏ ‏على ‏زيادة‏ ‏سعر‏ ‏نقل‏ ‏البضائع‏ ‏والمأكولات‏ ‏وبالتالى ‏تحميل‏ ‏المستهلك‏ ‏زيادة‏ ‏غير‏ ‏مباشرة‏، ‏فلتعط‏ ‏عربات‏ ‏النقل‏ ‏كوبونات‏ ‏مخفضة‏، ‏شريطة‏ ‏أن‏ ‏يتناسب‏ ‏ما‏ ‏يدفع‏ ‏سائق‏ ‏النقل‏ ‏من‏ ‏ضريبة‏ ‏مع‏ ‏كمية‏ ‏الكوبونات‏، ‏فنضمن‏ ‏بذلك‏ ‏عدم‏ ‏استعمالها‏ ‏فى ‏السوق‏ ‏السوداء‏)[10](، ‏وليدفع‏ ‏أصحاب‏ ‏العربات‏ ‏الخاصة‏ ‏ثمن‏ ‏وقودهم‏ ‏والا‏ ‏فلا‏ ‏يركبونها‏!! ‏ولكن‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نقول‏ ‏هذا‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏تقدم‏ ‏الحكومة‏ ‏خدمات‏ ‏المواصلات‏ ‏مثل‏ ‏أى ‏بلد‏ ‏متحضر‏، ‏يا‏ ‏ساتر‏ ‏استر‏: ‏حلقة‏ ‏مفرغة‏، ‏سوف‏ ‏تخرجنى ‏من‏ ‏الرحلة‏ ‏ومن‏ ‏الطريق‏، ‏ما‏ ‏أصعب‏ ‏المقارنات‏ ‏وأكبر‏ ‏الهم‏، ‏فأعود‏ ‏بسرعة‏ ‏إلى ‏المرشدة‏ ‏الصغيرة‏، ‏وبقية‏ ‏أفراة‏ ‏الرحلة‏ ‏فى ‏نوم‏ ‏عميق‏، ‏أعلق‏ ‏معها‏ ‏على ‏الجمال‏ ‏والخضرة‏ ‏من‏ ‏حولنا‏، ‏الخضرة‏ ‏فى ‏المرتفعات‏ ‏والسهول‏ ‏وكل‏ ‏مكان‏، ‏وأكاد‏ ‏أقول‏ ‏لها‏ ‏أننا‏ ‏أخطأنا‏ ‏ونحن‏ ‏نقول‏ ‏أن‏ ‏مصر‏ ‏بلد‏ ‏زراعية‏، ‏وأنها‏ ‏هبة‏ ‏النيل‏، ‏لأن‏ ‏هذه‏ ‏البلاد‏ (‏هنا‏) ‏هبة‏ ‏الله‏ ‏مباشرة‏ ‏دون‏ ‏وساطة‏ ‏لنهر‏ ‏أو‏ ‏دورات‏ ‏فيضان‏، ‏نعم‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نزرع‏ ‏الوادى ‏ونزيده‏، ‏ولكن‏ ‏القدر‏ ‏الزمنا‏ ‏بتحدى ‏طبيعتنا‏ ‏الصحراوية‏ ‏بأكثر‏ ‏من‏ ‏سبيل‏، ‏ماذا‏ ‏والا‏، ‏ولكن‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يجري‏، ‏وتكاد‏ ‏ترفض‏ ‏الصغيرة‏ ‏أن‏ ‏أحرمها‏ ‏من‏ ‏التمتع‏ ‏بالجمال‏ ‏بالاستمرار‏ ‏فى ‏ألم‏ ‏المقارنة‏، ‏وأعترف‏ ‏بينى ‏وبين‏ ‏نفسى ‏أنى ‏أحرم‏ ‏نفسى ‏كذلك‏ ‏من‏ ‏حقها‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏هذه‏ ‏الطبيعة‏ ‏الرائعة‏ ‏بكل‏ ‏ثرائها‏، ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏أعترف‏ ‏أنى ‏عاجز‏ ‏عن‏ ‏المتعة‏ ‏الصرب‏، ‏حتى ‏أنى ‏اعتبرت‏ ‏نفسى ‏أحيانا‏ ‏ممن‏ ‏يفتقرون‏ ‏إلى ‏قدرة‏ ‏اللذة‏ ‏المجردة‏ ‏مما‏ ‏يسمى ‏عندنا‏Anhedonia ، ‏ولكن‏ ‏الجمال‏ ‏والتناغم‏ ‏يدخلنى ‏بلا‏ ‏استئذان‏، ‏ويطفو‏ ‏على ‏انتاجى ‏وتوجهى ‏فى ‏كل‏ ‏حين‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏إلا‏ ‏أنى ‏أتصور‏ ‏أنه‏ ‏ينبغى ‏على ‏ألا‏ ‏يكون‏ (‏ذلك‏) (‏بعد‏ ‏ذلك‏)، ‏فالمتعة‏ ‏بأثر‏ ‏رجعى ‏أمر‏ ‏سيئ‏، ‏فلأحاول‏ ‏الآن‏: ‏أليست‏ ‏الفرصة‏ ‏الجديدة‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏جديدة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏شيء؟

   ويمرق‏ ‏منا‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏والحين‏ ‏موتوسيكلا‏)[11]( ‏يركبه‏ ‏فارس‏ ‏وأحيانا‏ ‏كوكبة‏ ‏من‏ ‏الفرسان‏ ‏وكأنهم‏ ‏يتسابقون‏، ‏وأقدر‏ – ‏بالمقارنة‏ ‏بسرعتنا‏ ‏أن‏ ‏سرعة‏ ‏هؤلاء‏ ‏الفرسان‏ ‏لا‏ ‏تقل‏ ‏عن‏ ‏مائة‏ ‏وخمسين‏ ‏كيلومترا‏ ‏فى ‏الساعة‏ ‏بل‏ ‏تكاد‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مائتى ‏كيلو‏، ‏وأتساءل‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الوسيلة‏ ‏التى ‏بدأت‏ ‏تتزايد‏ ‏بشكل‏ ‏يدعو‏ ‏للدهشة‏، ‏أهو‏ ‏وفر‏ ‏فى ‏الوقود؟‏ ‏أبدا‏، ‏فهذه‏ ‏الموتوسيكلات‏ ‏السريعة‏ ‏تصل‏ ‏سلندراتها‏ ‏إلى ‏أربعة‏، ‏وسعتها‏ (‏السلندرات‏) ‏لا‏ ‏تقل‏ ‏عن‏ ‏سيارة‏ ‏صغيرة‏، ‏فما‏ ‏هى ‏الحكاية؟‏ ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الاتجاه‏ ‏الأحدث‏ ‏هو‏ ‏بمثابة‏ ‏عودة‏ ‏إلى ‏الفروسية‏ ‏الفردية‏، ‏فهذه‏ ‏السرعة‏، ‏وهذا‏ ‏الانطلاق‏، ‏وهذا‏ ‏الملبس‏ ‏القوى ‏ضد‏ ‏الهواء‏ ‏والمطر‏ ‏وغيرهما‏، ‏يشعر‏ ‏الراكب‏ ‏لا‏ ‏محالة‏ ‏بعلاقة‏ ‏اختراق‏ ‏حاسم‏، ‏وقدرة‏ ‏فائقة‏ ‏على ‏مواجهة‏ ‏الأخطار‏ ‏واثبات‏ ‏التفوق‏، ‏وهى ‏وسيلة‏ ‏تستعمل‏ ‏القوة‏ ‏المحركة‏ ‏فى ‏التكنولوجيا‏، ‏دون‏ ‏رفاهية‏ ‏الدعة‏ (‏التكنولوجية‏ ‏أيضا‏)، ‏وكلما‏ ‏مرق‏ ‏منا‏ ‏فارس‏ (‏أو‏ ‏فارسة‏: ‏والتفرقة‏ ‏صعبة‏) ‏أدعو‏ ‏لهم‏ ‏بالسلامة‏، ‏وكلما‏ ‏مرق‏ ‏منا‏ ‏فارس‏ (‏أو‏ ‏فارسة‏: ‏والتفرقة‏ ‏صعبة‏) ‏أدعو‏ ‏لهم‏ ‏بالسلامة‏، ‏وكأنهم‏ ‏أولادي‏، ‏فتبتسم‏ (‏أو‏ ‏هكذا‏ ‏يخيل‏ ‏لي‏) ‏مرشدتى ‏الصغيرة‏، ‏وأتذكر‏ ‏نوعا‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏رفض‏ (‏دعة‏) ‏التكنولوجيا‏ ‏دون‏ ‏قوتها‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏رأيت‏ ‏داخل‏ ‏المدن‏ ‏كمقابل‏ ‏للموتوسيكلات‏ ‏خارجها‏، ‏ألا‏ ‏وهو‏ ‏استعمال‏ (‏قبقاب‏ ‏التزحلق‏ ‏ذى ‏العجلات‏) ‏فى ‏المواصلات‏ ‏داخل‏ ‏المدينة‏، ‏فقد‏ ‏لاحظت‏ ‏فيما‏ ‏سبق‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏لجأ‏ ‏شبان‏ ‏وشابات‏ ‏أصغر‏ ‏إلى ‏ركوب‏ ‏القباقيب‏ ‏والانطلاق‏ ‏بها‏ ‏فى ‏الشوارع‏، ‏وشنطة‏ ‏الظهر‏ ‏معلقة‏ ‏بحبالها‏ ‏إلى ‏تحت‏ ‏الابطين‏، ‏ينطلقون‏ ‏بين‏ ‏السيارات‏ ‏فى ‏سرعة‏ ‏ورشاقة‏، ‏وكأنهم‏ ‏يرقصون‏ ‏البالية‏ ‏بفخر‏ ‏وجمال‏، ‏نعم‏: ‏الأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏شوارع‏ ‏كالحرير‏ ‏وأخلاق‏ ‏كالفولاذ‏، ‏ولا‏ ‏سبيل‏ ‏إلى ‏المقارنة‏ ‏بما‏ ‏عندنا‏، ‏ولكن‏ ‏ما‏ ‏يهمنى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏هو‏ ‏الروح‏ ‏الكامنة‏ ‏وراء‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏روح‏ ‏الفتوة‏ ‏ورفض‏ ‏الدعة‏، ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏وسائل‏ ‏التكنولوجيا‏ ‏الرفاهية‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏الأيدى ‏وللجميع‏، ‏وهذه‏ ‏الروح‏ ‏إذا‏ ‏وجدت‏ ‏استعملت‏ ‏المتاح‏ ‏ولاءمت‏ ‏نفسها‏ ‏بالطبيعة‏ ‏والممكن‏ ‏من‏ ‏حولها‏، ‏ولكن‏ ‏شائعة‏ ‏انتشرت‏ ‏عندنا‏ ‏تقول‏ ‏أن‏ ‏الهدف‏ ‏دائما‏ ‏هو‏ (‏الرفاهية‏)، ‏الهدف‏ ‏من‏ ‏الشهادة‏، ‏ومن‏ ‏الانتخابات‏، ‏ومن‏ ‏المكسب‏، ‏بل‏ ‏ومن‏ (‏التدين‏) ‏أحيانا‏، ‏والرفاهية‏ ‏عندنا‏ ‏لا‏ ‏تعنى ‏إلا‏ ‏الدعة‏، ‏والطريق‏ ‏الأقرب‏، ‏والجهد‏ ‏الأقل‏، ‏فطالب‏ ‏الجامعة‏ ‏عندنا‏ ‏لا‏ ‏يركب‏ ‏دراجة‏ ‏ولا‏ ‏يمشي‏، ‏وإنما‏ ‏ينتظر‏ ‏الأتوبيس‏ ‏مهما‏ ‏تأخر‏ ‏ومهما‏ ‏انحشر‏، ‏ومحطة‏ ‏الأتوبيس‏ ‏الأقرب‏ ‏هى ‏أصلح‏ ‏المحطات‏ ‏حتى ‏ولو‏ ‏كنا‏ ‏سوف‏ ‏نغير‏ ‏الأتوبيس‏ ‏إلى ‏آخر‏ ‏بعد‏ ‏عشرات‏ ‏الأمتار‏، ‏والنوم‏ ‏أفضل‏ ‏وسيلة‏ ‏للرؤية‏ ‏الصادقة‏ (!!) – ‏ويمرق‏ ‏بجوارى ‏فارس‏ ‏وفارسة‏ ‏على ‏نفس‏ (‏الموتوسيكل‏)، ‏وأعلم‏ ‏أنها‏ ‏فارسة‏ ‏بالصدفة‏، ‏ولا‏ ‏أقول‏ ‏كيف؟‏ ‏وأنا‏ ‏أقول‏ ‏الموتوسيكلات‏ ‏أحيانا‏، ‏وأفهم‏ ‏كيف‏ ‏يضبط‏ ‏فارس‏ ‏توازنه‏ ‏على ‏هذه‏ ‏السرعة‏ ‏الفائقة‏، ‏ولكن‏ ‏أن‏ ‏يحمل‏ ‏وراءه‏ ‏آخر‏، ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏أخري‏، ‏وينطلق‏ ‏هكذا‏، ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏يلتحما‏ ‏ويتفاهما‏ ‏ويتناغما‏ ‏حتى ‏يصيرا‏ ‏واحدا‏، ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏أروع‏ ‏الفروسية‏ ‏الجديدة‏ ‏وما‏ ‏أصعبها‏…، ‏وأضيق‏ ‏بهؤلاء‏ ‏النيام‏ ‏خلفى ‏داخل‏ ‏حافلتنا‏ – ‏عدا‏ ‏المرشدة‏ ‏الصغيرة‏ ‏التى ‏هى ‏مضطرة‏ ‏لليقظة‏ ‏حسب‏ ‏الاتفاق‏ – ‏وأسال‏ ‏أليس‏ ‏السفر‏ ‏نفسه‏ ‏هو‏ ‏صلب‏ ‏هذه‏ ‏الرحلة‏، ‏أم‏ ‏أن‏ ‏الوصول‏ ‏إلى ‏المحطة‏ ‏القادمة‏ ‏هو‏ ‏هدفنا‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏، ‏وأرفض‏ ‏هذا‏ ‏المنطق‏ ‏القديم‏، ‏لأنى ‏أتصور‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏أن‏ ‏السفر‏ ‏نفسه‏ (‏دون‏ ‏وصول‏) ‏هو‏ ‏خبرة‏ ‏رائة‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تفوت‏ ‏أيا‏ ‏منا‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏التبرير‏، ‏وأنتهز‏ ‏أول‏ ‏تجمع‏ ‏للسيارات‏ ‏فى ‏مكان‏ ‏شديد‏ ‏الجمال‏ ‏مرتفع‏ ‏يوحى ‏بوجود‏ ‏شيء‏ ‏خاص‏، ‏فأتوقف‏، ‏ويستيقظ‏ ‏النيام‏ ‏لننزل‏ ‏فنري‏.‏

   وفى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الرحلات‏ ‏بلا‏ ‏دليل‏ ‏ولا‏ ‏خطة‏ ‏محكمة‏ ‏مسبقة‏، ‏دع‏ ‏رجليك‏ ‏تقودك‏ ‏إلى ‏التجمعات‏ ‏الصغيرة‏ (‏والكبيرة‏ ‏أحيانا‏) ‏ودع‏ ‏سيارتك‏ ‏تأتنس‏ ‏بأخوتها‏ ‏فى ‏الطريق‏ ‏وتتوقف‏ ‏حيث‏ ‏تجمعوا‏، ‏وسوف‏ ‏تجد‏ – ‏بالصدفة‏ – ‏ما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تراه‏، ‏فالناس‏: ‏إذا‏ ‏أطلقوا‏ ‏طبيعتهم‏ ‏النقية‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏مشتروات‏ ‏المدن‏ ‏والحوانيت‏ ‏العملاقة‏، ‏لا‏ ‏يتجمعون‏ ‏إلا‏ ‏على ‏جمال‏ ‏وخير‏.‏

   الجمعة‏ 24 ‏أغسطس‏ 1984-2: ‏

   ولاحت‏ ‏الحدود‏ ‏عن‏ ‏بعد‏، ‏وتوقفنا‏ ‏عند‏ ‏آخر‏ ‏محطة‏ ‏بنزين‏، ‏نمون‏، ‏ومحطات‏ ‏البنزين‏ ‏مثل‏ ‏المقاهي‏، ‏هى ‏لخدمة‏ ‏الناس‏ ‏والسيارات‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏، ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏خدمات‏ (‏النظافة‏) (‏البشرية‏) ‏و‏ (‏الإخراج‏) ‏هى ‏حتمية‏ ‏بحكم‏ ‏القانون‏، ‏ونظافة‏ ‏هذه‏ ‏الأماكن‏، ‏وخاصة‏ ‏منها‏ ‏الأماكن‏ ‏العامة‏، ‏هى ‏المقياس‏ ‏الدقيق‏ ‏لشعور‏ ‏الناس‏ ‏بالناس‏، ‏فأنت‏ ‏تقضى ‏حاجتك‏ ‏وراء‏ ‏باب‏ ‏مغلق‏ ‏ستتركه‏ ‏لغيرك‏ ‏حتما‏، ‏فهل‏ ‏تتركه‏ ‏كما‏ ‏وجدته؟‏ ‏أم‏ ‏أفضل‏ ‏مما‏ ‏وجدته‏، ‏أم‏ ‏كما‏ ‏تعرف‏ ‏وأعرف؟‏ ‏وكنت‏ ‏كلما‏ ‏ثرت‏ ‏على ‏هذا‏ ‏النموذج‏ ‏الغربى ‏من‏ ‏النظافة‏ ‏الجافة‏ ‏والمادية‏ ‏القح‏، ‏أحاول‏ ‏أن‏ (‏أشكم‏) ‏نفسى ‏بأن‏ ‏أدخل‏ ‏إلى ‏مراحيض‏ ‏عامة‏ ‏توجد‏ ‏فى ‏أول‏ ‏المنيل‏ ‏بالقرب‏ ‏من‏ ‏السنترال‏ ‏هناك‏، ‏أمام‏ ‏محل‏ ‏المرحوم‏ ‏عم‏ ‏محمد‏ ‏حسن‏ ‏سمكرى ‏العربات‏، ‏وأقول‏ ‏لنفسي‏، ‏فليبق‏ ‏هذا‏ ‏التحدى ‏ماثلا‏ ‏أمامى ‏حتى ‏أعرف‏ ‏ماذا‏ ‏أهاجم‏ ‏وعن‏ ‏من‏ ‏أدافع‏، ‏ولكنى ‏أظل‏ ‏على ‏يقين‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تدهورنا‏ ‏هذا‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏الايمان‏، ‏وأن‏ ‏النظافة‏ ‏وازاحة‏ ‏الأذى ‏عن‏ ‏الطريق‏ ‏يحملان‏ ‏معنى ‏فى ‏ديني‏، ‏وبالتالى ‏فى ‏حياتي‏، ‏لم‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏أهلى ‏لا‏ ‏بالطريقة‏ ‏المناسبة‏، ‏ولا‏ ‏بالجرعة‏ ‏المناسبة‏، ‏بل‏ ‏لم‏ ‏أذهب‏ ‏بعيدا‏، ‏وأنا‏ ‏أهتدى ‏فى ‏بعض‏ ‏المساجد‏ ‏إلى ‏الميضة‏ ‏بحاسة‏ ‏الشم‏ ‏والعياذ‏ ‏بالله‏، ‏وأرفض‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏نظافتنا‏ ‏الظاهرية‏، ‏حتى ‏بالوضوء‏، ‏هى ‏على ‏حساب‏ ‏نظافة‏ ‏المكغان‏، ‏وحق‏ ‏الآخرين‏ ‏المجهولين‏ ‏الآتين‏ ‏من‏ ‏بعد‏، ‏ليس‏ ‏الذنب‏ ‏ذنب‏ ‏ديني‏، ‏ولكنه‏ ‏التخلف‏، ‏واللا‏ ‏آخر‏، ‏أقول‏ ‏دخلنا‏ ‏محطة‏ ‏البنزين‏ ‏وعملنا‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏تتصوره‏، ‏واشترينا‏ ‏ما‏ ‏قد‏ ‏نحتاج‏ ‏فى ‏أول‏ ‏بلد‏ ‏شيوعى ‏سندخله‏ ‏فى ‏رحلتنا‏ (‏وبصفة‏ ‏عامة‏ ‏فى ‏تجوالى ‏مذ‏ ‏كان‏) ‏ووجدنا‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏متوفرا‏، ‏حتى ‏ملء‏ ‏أسطوانة‏ ‏بوتاجاز‏ ‏المخيم‏ ‏الصغيرة‏، ‏وحين‏ ‏اتجهنا‏ ‏إلى ‏الحدود‏ ‏بعد‏ ‏حوالى ‏نصف‏ ‏ساعة‏ ‏وجدنا‏ ‏الصف‏ ‏قد‏ ‏امتد‏ ‏إلى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏كيلومتر‏، ‏وانتظمنا‏ ‏فيه‏، ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏انتظم‏ ‏وراءنا‏ ‏من‏ ‏العربات‏ ‏مثلما‏ ‏هو‏ ‏أمامنا‏ – ‏على ‏حد‏ ‏الشوف‏ – ‏وقالت‏ ‏ابنتاى ‏اللتان‏ ‏زارتا‏ ‏روسيا‏ ‏فى ‏العام‏ ‏قبل‏ ‏الماضي‏، ‏أننا‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نخطرهم‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏معنا‏، ‏وأن‏ ‏نحتفظ‏ ‏بورق‏ ‏تغيير‏ ‏العملة‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏و‏.. ‏و‏… ‏الخ‏، ‏وفهمت‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏واستعددنا‏ ‏له‏ ‏بكل‏ ‏أمانة‏، ‏فما‏ ‏نحن‏ ‏إلا‏ ‏عابروا‏ ‏سبيل‏، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏فى ‏خطتنا‏ ‏البقاء‏ ‏فى ‏يوغسلافيا‏ ‏طويلا‏. ‏ويطول‏ ‏الانتظار‏ ‏حتى ‏تضطرب‏ ‏حساباتنا‏ ‏فقد‏ ‏صرنا‏ ‏بين‏ ‏العصر‏ ‏والمغرب‏، ‏ويتبين‏ ‏أولادى ‏معنى ‏رخصة‏ ‏الجمع‏ ‏والقصر‏ ‏فى ‏الصلوات‏، ‏ويتناقشون‏ ‏هل‏ ‏هى ‏المسافة‏ ‏التى ‏تعطى ‏هذه‏ ‏الرخصة‏ ‏أم‏ ‏ظروف‏ ‏السفر‏، ‏ويكاد‏ ‏يفتى ‏بعضهم‏ ‏أنه‏ (‏لا‏ ‏جمع‏ ‏ولا‏ ‏قصر‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏مخيم‏)، ‏ويقول‏ ‏آخر‏.. (‏بل‏ ‏على ‏قارعة‏ ‏طريق‏)، ‏وكان‏ ‏فى ‏تصورنا‏ ‏أننا‏ ‏سنصل‏ ‏بلغراد‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏اليوم‏، ‏واكتشفت‏ ‏منذ‏ ‏هذا‏ ‏اليوم‏ ‏الأول‏، ‏أن‏ ‏مسافة‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الرحلات‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تقاس‏ ‏بالكيلومترات‏ ‏مقسومة‏ ‏على ‏سرعة‏ ‏العربة‏، ‏وإلا‏ ‏أصبحت‏ ‏سخيفة‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏خطئها‏ ‏الأكيد‏، ‏وأذكر‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏طريق‏ ‏العودة‏ ‏حين‏ ‏كنت‏ ‏فى ‏كوخ‏ ‏مقهى ‏فى ‏أعلى ‏جبال‏ ‏سان‏ ‏كلودبرنار‏ ‏فى ‏سويسرا‏ (‏على ‏حدود‏ ‏ايطاليا‏) ‏أن‏ ‏سألت‏ ‏النادل‏ ‏عن‏ ‏المسافة‏ ‏بيننا‏ ‏وبين‏ ‏أيوستا‏ (‏أول‏ ‏الطريق‏ ‏السريع‏) ‏فابتسم‏ ‏وقال‏ ‏ساعة‏ ‏ونصف‏، ‏أو‏ ‏أقل‏ ‏قليلا‏، ‏وقلت‏ ‏أنى ‏أتسأل‏ ‏عن‏ ‏الكيلومترات‏، ‏فابتسم‏ ‏وصمت‏، ‏وحين‏ ‏غادرت‏ ‏المقهى ‏وجدت‏ ‏علامة‏ ‏قريبة‏ ‏تقول‏ ‏أن‏ ‏المسافة‏ 55 ‏كيلومترا‏ ‏فعجبت‏ ‏كيف‏ ‏نقطع‏ ‏هذا‏ ‏القدر‏ ‏الضئيل‏ ‏فى ‏ساعة‏ ‏ونصف‏، ‏ولكنى ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏تبينت‏ ‏دلالة‏ ‏الاجابة‏ ‏بالساعات‏ ‏لا‏ ‏بالكيلومترات‏، ‏وذلك‏ ‏حين‏ ‏وصلت‏ ‏أيوستا‏ – ‏دون‏ ‏توقف‏ – ‏فيما‏ ‏يزيد‏ ‏عن‏ ‏ساعتين‏ ‏حيث‏ ‏كان‏ ‏الطريق‏ ‏ثعبانا‏ ‏يتلوى ‏بين‏ ‏القمم‏، ‏وتذكرت‏ ‏بعض‏ ‏أهل‏ ‏بلدى ‏حين‏ ‏أسأل‏ ‏أحدهم‏ ‏عن‏ (‏كم‏ ‏بينك‏ ‏وبين‏ ‏المركز‏) ‏فيجيبون‏، ‏أثنى ‏عشر‏ ‏قرشا‏، ‏وكنت‏ ‏أعنى ‏المسافة‏، ‏وهم‏ ‏بالصبع‏ ‏يستقبلون‏ ‏سؤال‏ (‏الكم‏) ‏حسب‏ ‏أولوية‏ ‏الأهمية‏، ‏فالقرش‏ ‏عندهم‏ ‏أهم‏ ‏من‏ ‏الوقت‏، ‏وطبيعة‏ ‏الطريق‏ ‏هنا‏ ‏أهم‏ ‏من‏ ‏عدد‏ ‏الكيلومترات‏ ‏بداهة‏.‏

   وتتقدم‏ ‏قافلة‏ ‏العربات‏ ‏رويدا‏ ‏رويدا‏ ‏حتى ‏نصل‏ ‏إلى ‏الحدود‏، ‏وثمة‏ ‏شعور‏ ‏غريب‏ ‏حين‏ ‏تنقل‏ ‏قدمك‏ ‏على ‏خط‏ (‏وهمى ‏فى ‏الحقيقة‏ ‏رغم‏ ‏عناد‏ ‏الحكومات‏ ‏وسخف‏ ‏الأمم‏ ‏المتحدة‏) ‏فتكون‏ ‏فى ‏البلد‏ ‏الفلاني‏، ‏ثم‏ ‏تنقلها‏ ‏التكون‏ ‏فى ‏بلد‏ ‏آخر‏، ‏وكنا‏ ‏نلعب‏ ‏هذه‏ ‏اللعبة‏ ‏سنة‏ 1969 ‏ونحن‏ ‏فى ‏جنوب‏ ‏فرنسا‏ ‏ألباسك‏ ‏الفرنسى ‏قرب‏ (‏بيارتر‏)، ‏حيث‏ ‏كان‏ (‏الأوبرج‏) (‏الاسبانيولي‏) ‏على ‏الحدود‏ ‏داخل‏ ‏الأراضى ‏الأسبانية‏، ‏وثمة‏ ‏طريق‏ ‏شبه‏ ‏جبلى ‏نصله‏ ‏على ‏الأقدام‏ ‏لنشترى – ‏رموزا‏ ‏سياحية‏ – ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏فاتنا‏ ‏شراؤه‏ ‏أثناء‏ ‏زيارتنا‏ (‏لسان‏ ‏سباستيان‏) ‏فى ‏أسبانيا‏، ‏ويقول‏ ‏لنا‏ ‏صاحب‏ ‏الأوبرج‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الصخرة‏ ‏الصغيرة‏ – ‏مشيرا‏ ‏بيده‏ – ‏هى ‏الحدود‏، ‏فيقف‏ ‏أحدنا‏ ‏وكل‏ ‏قدم‏ ‏من‏ ‏قدميه‏ ‏فى ‏ناحية‏ ‏من‏ ‏الصخرة‏ ‏ليعلن‏ ‏أنه‏ ‏وضع‏ ‏قدما‏ ‏فى ‏أسبانيا‏ ‏وقدما‏ ‏فى ‏فرنسا‏، ‏وأفهم‏ ‏أكثر‏ ‏لماذا‏ ‏تصر‏ ‏مقاطعات‏ ‏الباسك‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏فرنسا‏ ‏وأسبانيا‏ (‏بلغتها‏ ‏الخاصة‏ ‏ولهجتها‏ ‏الخاصة‏ ‏وطباعها‏ ‏الخاصة‏) ‏على ‏أن‏ ‏تصبح‏ ‏دولة‏ ‏مستقلة‏ ‏ولكن‏ ‏مهما‏ ‏استقلت‏ ‏الدول‏ ‏عن‏ ‏بعضها‏ ‏بسبب‏ ‏اللغة‏ ‏والتاريخ‏ ‏والمصالح‏، ‏فسوف‏ ‏تظل‏ ‏هذه‏ ‏الخطوة‏ ‏البشرية‏ ‏البسيطة‏ ‏تعبر‏ ‏ذلك‏ ‏الخط‏ ‏الموهوم‏ ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏وبعضهم‏ ‏وبين‏ ‏البلاد‏ ‏وبعضها‏.‏

   وبعد‏ ‏اجراءات‏ ‏الخروج‏ ‏الشديدة‏ ‏البساطة‏ ‏بواسطة‏ ‏السلطات‏ ‏اليونانية‏ ‏اقتربنا‏ ‏من‏ ‏السلطات‏ ‏اليوغسلافية‏، ‏فإذا‏ ‏بالاجراءات‏ ‏أبسط‏، ‏وحتى ‏لم‏ ‏يطلب‏ ‏منا‏ ‏إعلان‏ ‏ما‏ ‏معنا‏ ‏من‏ ‏نقود‏ ‏إذا‏ ‏زادت‏ ‏عن‏ ‏قيمة‏ ‏معينة‏، ‏كما‏ ‏طلبوا‏ ‏منا‏ ‏حين‏ ‏دخلنا‏ ‏اليونان‏، (‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏هذا‏ ‏الاجراء‏ ‏أبدا‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏ولكن‏ ‏كل‏ ‏حكومة‏ ‏ولها‏ ‏طريقة‏) ‏وأنت‏ ‏لا‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تميز‏ ‏على ‏الحدود‏ – ‏فى ‏الأحوال‏ ‏العادية‏ – ‏بين‏ ‏بلد‏ ‏وبلد‏، ‏والناس‏ ‏على ‏جانبى ‏حدود‏ ‏الدول‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏بعضهم‏ ‏البعض‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الدولة‏ ‏إذا‏ ‏اختلفت‏ ‏اللغة‏ ‏والطبيعة‏ ‏الجبلية‏ ‏والزراعية‏ ‏ووسائل‏ ‏العيش‏، ‏فأناس‏ ‏اليوغسلاف‏ ‏على ‏الحدود‏ ‏اليونانية‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏اليونانيين‏ ‏وبالعكس‏، ‏كذلك‏ ‏الإيطاليون‏ ‏على ‏حدود‏ ‏يوغسلافيا‏، ‏وبالعكس‏، ‏وجنيف‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏فرنسا‏ ‏المجاورة‏ (‏الجيرا‏).. ‏وهكذا‏ – ‏ألا‏ ‏يحق‏ ‏لى ‏أن‏ ‏أقول‏: ‏خط‏ ‏الحدود‏ ‏الوهمي؟

   المهم‏ ‏قال‏ ‏لى ‏جندى (‏أو‏ ‏مسئول‏) ‏الحدود‏ ‏اليوغسلافية‏ ‏وهو‏ ‏ينظر‏ ‏فى ‏جوازات‏ ‏السفر‏، (‏مصر؟‏) ‏وضحك‏ ‏ضحكة‏ ‏ترحيب‏ ‏على ‏ما‏ ‏أعتقد‏، ‏وربما‏ ‏تعجب‏ ‏للأرقام‏ ‏العربية‏ ‏على ‏السيارة‏، ‏وقلت‏ ‏له‏: (‏مصر‏) ‏فعند‏ ‏اختلاف‏ ‏اللغات‏ ‏لا‏ ‏يتبقى ‏فى ‏الحوار‏ ‏إلا‏ ‏أسماء‏ ‏البلدان‏ (‏والأعلام‏)، ‏هذا‏ ‏لو‏ ‏سهل‏ ‏الله‏ ‏بنطقها‏ ‏سليمة‏، ‏ثم‏ ‏أردف‏ ‏الجندى (‏مبارك‏)‏؟‏!! ‏وكان‏ ‏الرئيس‏ ‏قد‏ ‏أنهى ‏رحلته‏ ‏إلى ‏يوغسلافيا‏ ‏منذ‏ ‏أيام‏ ‏قليلة‏، ‏قلت‏ ‏له‏ (‏نعم‏) (‏مبارك‏)، ‏وأحسست‏ ‏بأن‏ ‏الرباط‏ ‏القديم‏ ‏بين‏ ‏تيتو‏ ‏وعبد‏ ‏الناصر‏ ‏مازال‏ ‏قائما‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏مجددة‏، ‏وفرحت‏ ‏رغم‏ ‏تحفظات‏ ‏سابقة‏ ‏على ‏هذ‏ ‏العلاقة‏ ‏وعلى ‏الشخصين‏، ‏ثم‏ ‏أكل‏ ‏الجندى ‏بنفس‏ ‏الحماس‏ ‏الفرح‏ ‏قائلا‏ (‏مبارك‏.. ‏حسن‏)Mobarak Good ‏ورفع‏ ‏أصبعه‏ ‏الابهام‏ ‏وهو‏ ‏قابض‏ ‏يده‏، ‏علامة‏ ‏التأييد‏ ‏والتكريم‏ ‏والتشجيع‏، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏بفخر‏ ‏المغترب‏، (‏نعم‏)، ‏ولكنه‏ ‏أردف‏: (‏سادت‏، ‏وغمز‏ ‏بعينه‏، ‏وقهقهه‏، ‏فقلت‏ ‏له‏، ‏مبارك‏ (‏حسن‏)، ‏سادات‏ (‏حسن‏)، ‏ثم‏ ‏سكت‏ ‏قليلا‏ ‏لأردف‏ (‏ناصر‏: ‏حسن‏)، ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏أكثر‏، ‏فكل‏ ‏رؤسائى ‏لهم‏ ‏أوجه‏ ‏الحسن‏ ‏وخاصة‏ ‏حين‏ ‏أكون‏ ‏خارج‏ ‏بلدي‏، ‏أما‏ ‏داخل‏ ‏بلدى ‏فحسابنا‏ ‏بيننا‏ ‏وبينهم‏ – ‏أن‏ ‏أمكن‏ – ‏هو‏ ‏خاص‏ ‏بنا‏، ‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏كلامى ‏لم‏ ‏يعجبه‏، ‏ولكنه‏ ‏لم‏ ‏يفقد‏ ‏ضحكة‏ ‏الترحيب‏، ‏ولا‏ ‏التعجب‏ ‏من‏ ‏الأرقام‏ ‏العربية‏، ‏ولا‏ ‏سماحة‏ ‏التواضع‏، ‏وتذكرت‏ ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نحكم‏ ‏على ‏رؤسائنا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏رأى ‏الناس‏ ‏بالخارج‏، ‏حين‏ ‏مات‏ ‏السادات‏، ‏ودعه‏ ‏العالم‏ ‏الغربى ‏كبطل‏ ‏للديمقراطية‏ ‏والسلام‏، ‏ونحن‏ – ‏برغم‏ ‏فضله‏ – ‏ننفرج‏، ‏وكم‏ ‏كتب‏ ‏بعض‏ ‏صحفيينا‏ ‏عن‏ ‏شعبية‏ ‏السادات‏ ‏فى ‏الولايات‏ ‏المتحدة‏، ‏ولم‏ ‏يكتب‏ ‏لنا‏ ‏عن‏ ‏شعبيته‏ ‏فى ‏يوغسلافيا‏ ‏أو‏ ‏كوريا‏ ‏الشمالية‏، ‏وعبد‏ ‏الناص‏، ‏كان‏ ‏بطلا‏ ‏عربيا‏ ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏بطلا‏ ‏مصريا‏، ‏وكانت‏ ‏صورته‏ ‏العربية‏ ‏وهو‏ ‏يحقق‏ ‏حلمهم‏ ‏فى ‏بطل‏ ‏أسطورى ‏تفرض‏ ‏نفسها‏ ‏علينا‏ ‏فى ‏الداخل‏، ‏فيعيشون‏ ‏هم‏ ‏الأمل‏ ‏والحلم‏ ‏واعتمادية‏ ‏الحل‏ ‏السحرى ‏فى ‏شخص‏ ‏بعيد‏ ‏يقدسونه‏ ‏كبديل‏ ‏عما‏ ‏هم‏ ‏فيه‏، ‏وندفع‏ ‏نحن‏ ‏الثمن‏ ‏من‏ ‏رزوح‏ ‏تحت‏ ‏أهواء‏ ‏فرد‏، ‏مخلص‏ ‏أحيانا‏ ‏مخطيء‏ ‏أحيانا‏، ‏مشتط‏ ‏عادة‏، ‏طاغ‏ ‏دائما‏، ‏ندفع‏ ‏ثمنا‏ ‏يعطل‏ ‏خطانا‏ ‏على ‏طريق‏ ‏الحضارة‏ ‏الحقيقية‏.‏

   وأتأكد‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏على ‏من‏ ‏يتحمس‏ ‏لرئيس‏ ‏من‏ ‏الرؤساء‏ ‏أن‏ ‏يواجهه‏ ‏كإنسان‏، ‏فى ‏داخل‏ ‏بلده‏، ‏يخطيء‏ ‏ويصيب‏، ‏ولا‏ ‏يستعير‏ ‏رأى ‏الآخرين‏ ‏الذين‏ ‏لا‏ ‏يرون‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يريدون‏، ‏ومن‏ ‏بعيد‏، ‏حتى ‏يقيمه‏ ‏به‏ ‏علينا‏، ‏رفضت‏ ‏رأى ‏الجندى ‏اليوغسلافى ‏فى ‏السادات‏ (‏كما‏ ‏هى ‏صورته‏ ‏فى ‏يوغسلافيا‏)، ‏كما‏ ‏رفضت‏ ‏رأى ‏الصحفى ‏المصرى ‏عندنا‏ ‏فى ‏السادات‏ (‏كما‏ ‏كانت‏ ‏صورته‏ ‏فى ‏أمريكا‏) ‏أيام‏ (‏كان‏)، ‏واحتفظت‏ ‏برأيى ‏فى ‏رؤسائى ‏لي‏، ‏مع‏ ‏محاولة‏ ‏الاستفادة‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الشهادة‏ ‏الجديدة‏.‏

   وعبرنا‏ ‏الحدود‏، ‏وغيرنا‏ ‏ما‏ ‏شئنا‏ ‏من‏ ‏النقود‏ ‏دون‏ ‏سؤال‏ ‏أو‏ ‏اقرار‏، ‏وأعطونا‏ ‏كوبونات‏ ‏للبنزين‏، ‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏حينذاك‏ ‏لماذا‏ ‏هذا‏ ‏الاجراء‏ ‏وتصورت‏ ‏أنه‏ ‏أمر‏ ‏اختياري‏، ‏ولمت‏ ‏ابنتى ‏على ‏شرائها‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الكوبونات‏، ‏فمن‏ ‏يدرى ‏كم‏ ‏سنصرف‏ ‏أو‏ ‏متي‏، ‏ولكن‏ ‏ثبت‏ ‏خطئى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏كما‏ ‏سيأتي‏.‏

   وعبرنا‏ ‏الحدود‏.‏

   وما‏ ‏كدنا‏ ‏نمضى ‏نصف‏ ‏ساعة‏ ‏أو‏ ‏يزيد‏ ‏حتى ‏فوجئنا‏ ‏بالطريق‏ ‏يضيق‏ ‏والجبال‏ ‏تظهر‏، ‏ومن‏ ‏أسف‏ ‏أنى ‏اهتممت‏ ‏فى ‏رحلتى ‏هذه‏ ‏بخريطة‏ ‏طريق‏ ‏المواصلات‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏اهتمامى ‏بخريطة‏ ‏التضاريس‏ ‏الجغرافية‏، ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏الاثنين‏ ‏لازمتين‏ ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏كانت‏ ‏خريطة‏ ‏التضاريس‏ ‏واضحة‏ ‏الألوان‏ ‏محددة‏ ‏الدلالات‏ ‏وخاصة‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏كم‏ ‏الارتفاع‏ ‏فى ‏مختلف‏ ‏البقاع‏، ‏ولم‏ ‏تكن‏ ‏مسألة‏ ‏الارتفاع‏ ‏مجردة‏ ‏مفاجأة‏ ‏غير‏ ‏محسوبة‏، ‏ولكنى ‏واجهت‏ ‏صعوبة‏ ‏ما‏ ‏فى ‏سيولة‏ ‏انطلاق‏ ‏السيارة‏، ‏ليس‏ ‏بسبب‏ ‏عدد‏ ‏الذين‏ ‏يركبونها‏، ‏فاثنان‏ ‏منا‏ ‏أطفالا‏، ‏والباقى ‏فى ‏أوزان‏ ‏حول‏ ‏المتوسط‏، ‏ورجحت‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ارتفاع‏ ‏الحمل‏ ‏موق‏ ‏السيارة‏ ‏دون‏ ‏تناسق‏ ‏جانبيه‏ ‏هو‏ ‏السبب‏ ‏فى (‏عدم‏ ‏السحب‏)، ‏وربما‏ (‏عدم‏ ‏الاتزان‏)، ‏كما‏ ‏رجحت‏ ‏أيضا‏، ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏السائق‏ ‏هو‏ ‏السبب‏، (‏والسائق‏ ‏هو‏ ‏شخصى ‏كما‏ ‏لا‏ ‏يخفى ‏عن‏ ‏القاريء‏)، ‏علما‏ ‏بأنى ‏قد‏ ‏سبق‏ ‏لى ‏القيادة‏ ‏فى ‏المرتفعات‏ ‏فى ‏أوربا‏ ‏ليلا‏ ‏ونهارا‏ ‏دون‏ ‏مشاكل‏، ‏عدت‏ ‏مرة‏ ‏من‏ ‏فرانكفورت‏ ‏إلى ‏باريس‏ ‏فى ‏طريق‏ (‏وطني‏) (NATIONAL) ‏بدءا‏ ‏من‏ ‏بعد‏ ‏العشاء‏ ‏وصولا‏ ‏قبيل‏ ‏الفجر‏، ‏ومرة‏ ‏أخرى ‏دخلت‏ ‏إلى ‏جبال‏ ‏شامونى ‏بعد‏ ‏لفة‏ ‏كاملة‏ ‏حول‏ ‏بحيرة‏ ‏لومان‏ ‏فى ‏سويسرا‏ ‏مخترقا‏ ‏طريقا‏ ‏شديد‏ ‏الضيق‏ ‏شديد‏ ‏الصعود‏، ‏ولم‏ ‏أكن‏ ‏أخاف‏ ‏شيئا‏ ‏ولا‏ ‏شعرت‏ ‏بأدنى ‏صعوبة‏، ‏وقلت‏ ‏لعل‏ ‏العربة‏ ‏الصغيرة‏، ‏فى ‏الطرق‏ ‏الجبلية‏ ‏تختلف‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الحافلة‏ ‏الصغيرة‏ (‏ميكروباس‏).‏

   وقلت‏ ‏أيضا‏: ‏لعله‏ ‏الزمن‏ ‏الطويل‏ ‏بين‏ ‏الرحلة‏ ‏الأولى ‏والثانية‏ (‏خمسة‏ ‏عشر‏ ‏عاما‏) ‏مع‏ ‏زيادة‏ ‏الوزن‏ ‏وزيادة‏ ‏الأطماع‏ ‏واحتمال‏ ‏خراب‏ ‏الداخل‏ ‏أو‏ ‏هموده‏، ‏وجمود‏ ‏التحدى ‏المرن‏، ‏وتمادى ‏التصلب‏، ‏وقلت‏ ‏ببساطة‏: ‏لعله‏ ‏السن‏، ‏وكانت‏ ‏مسئوليتى ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏مضاعفة‏ ‏لكثرة‏ ‏العدد‏ ‏وثقل‏ ‏الأمانة‏، ‏ولم‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أعلن‏ ‏الصعوبة‏ ‏لمن‏ ‏حولى ‏إلا‏ ‏قليلا‏ ‏وفيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالعربة‏ ‏دون‏ ‏داخلي‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ابنتى ‏الثانية‏ ‏التى ‏أخذت‏ ‏دور‏ ‏المرشدة‏ ‏بعد‏ ‏الأولى ‏لاحظت‏ ‏بعض‏ ‏داخلي‏، ‏وحكت‏ ‏لى ‏أن‏ ‏نفس‏ ‏العربة‏ (‏هذه‏) ‏قد‏ ‏حسبتها‏ ‏تعوم‏ ‏منها‏ ‏ذات‏ ‏مرة‏ ‏وهى ‏فى ‏طريقها‏ ‏إلى ‏القاهرة‏ ‏من‏ ‏الاسكندرية‏، ‏ثم‏ ‏نسيت‏ ‏ما‏ ‏حسبت‏ ‏فجأة‏، ‏فثبتت‏ ‏العربة‏ ‏بلا‏ ‏تدخل‏ ‏فني‏!!، ‏وكانت‏ ‏تعنى ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏بداخلى ‏وليست‏ ‏بالعربة‏ – ‏وأعطتنى (‏لبانا‏)، ‏وأنا‏ ‏لا‏ ‏أحبه‏، ‏ولا‏ ‏أحتمله‏ ‏فى ‏فمى (‏أو‏ ‏فم‏ ‏أى ‏رجل‏) ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏دقيقة‏، ‏فطاوعتها‏ ‏وبدأت‏ ‏المضغ‏ ‏فاعتدلت‏ ‏العربة‏ ‏وانتظم‏ ‏توازنها‏، ‏وقالت‏ ‏لى – ‏أو‏ ‏قلت‏ ‏لها‏ ‏صارخا‏ – ‏أن‏ ‏العربة‏ ‏كان‏ ‏ينقصها‏ (‏لبانا‏) ‏لا‏ ‏ضبطا‏ ‏ولا‏ ‏زيتا‏، ‏ولكنى ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏ألقيت‏ ‏ما‏ ‏فى ‏فمى ‏بعيدا‏، ‏لم‏ ‏أطقه‏، ‏ونام‏ ‏الجميع‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏وكان‏ ‏الليل‏ ‏قد‏ ‏اقترب‏، ‏ولم‏ ‏تعد‏ ‏ثمة‏ ‏مناظر‏ ‏إلا‏ ‏أضواء‏ ‏العربات‏ ‏التى ‏لم‏ ‏تقلل‏ ‏من‏ ‏سرعتها‏، ‏وكنت‏ ‏كلما‏ ‏عبرت‏ ‏جسرا‏ ‏طويلا‏ ‏بين‏ ‏جبلين‏، ‏أشعر‏ ‏بخوف‏ ‏كنت‏ ‏أعيب‏ ‏مثله‏ ‏على ‏زوجتى ‏قديما‏، ‏وأعتبر‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏يخاف‏ ‏على ‏نفسه‏ (‏هكذا‏) ‏ومعه‏ ‏آخرون‏، ‏فهو‏ ‏أنانى ‏يعمل‏ ‏حسابا‏ ‏لقيمة‏ ‏حياته‏ ‏أكثر‏ ‏منا‏، ‏ولكنى ‏حين‏ ‏واجهت‏ – ‏الآن‏ – ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏النظر‏ ‏من‏ ‏الأماكن‏ ‏العالية‏، ‏عذرتها‏، ‏وفهمت‏ ‏أكثر‏ ‏ما‏ ‏نسميه‏ ‏عندنا‏ ‏رهاب‏ ‏الارتفاع‏ ACROPHOBIA، ‏فقد‏ ‏كنت‏ ‏حتى ‏هذه‏ ‏اللحظة‏، ‏وطوال‏ ‏الرحلة‏ ‏قد‏ ‏ألجمت‏ ‏داخلى ‏بحزم‏ ‏شديد‏، ‏حتى ‏لا‏ ‏أضيع‏ ‏قيمة‏ ‏الرحلة‏ ‏وبهجتها‏ ‏فى ‏التشتت‏ ‏إلى ‏قضايا‏ ‏شخصية‏ ‏داخلية‏ ‏لم‏.. ‏ولن‏ ‏تنتهي‏، ‏وحتى ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أقوم‏ ‏بمسؤلياتى ‏نحو‏ ‏أسرتى ‏وصحبتى ‏على ‏خير‏ ‏وجه‏ ‏ممكن‏، ‏على ‏أن‏ ‏أسمح‏ ‏لنفسى ‏الآن‏ ‏وأنا‏ ‏أكتب‏ ‏هذه‏ ‏الخواطر‏ ‏أن‏ ‏أعبر‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الداخل‏ ‏بعض‏ ‏الشيء‏، ‏فأنا‏ ‏أحب‏ ‏الحياة‏ ‏بقدر‏ ‏أكثر‏ ‏قليلا‏ ‏من‏ ‏القدر‏ ‏الذى ‏يتحرك‏ ‏به‏ ‏فى ‏داخلى ‏الموت‏، ‏وأحس‏ ‏أنه‏ ‏كلما‏ ‏زادت‏ ‏حدة‏ ‏الموت‏ ‏وارادته‏ ‏كنت‏ ‏ملزما‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏بالاندفاع‏ ‏إلى ‏الحياة‏ ‏والناس‏، ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏أملك‏ ‏وما‏ ‏أواصل‏ ‏تنميته‏ ‏من‏ ‏قدرات‏ ‏وعناد‏، ‏وحين‏ ‏أصاب‏ ‏بأحباط‏ ‏غير‏ ‏محسوب‏، ‏أو‏ ‏اهمال‏ ‏مقصود‏، ‏أو‏ ‏أفشل‏ ‏فى ‏تنافس‏ ‏لا‏ ‏أملك‏ ‏أدواته‏، ‏ولم‏ ‏أختر‏ ‏معركته‏، ‏أشعر‏ ‏برغبة‏ ‏شديدة‏ ‏فى ‏التوقف‏ ‏حتى ‏أهديء‏ ‏شماته‏ ‏داخلي‏، ‏وأفوت‏ ‏عليه‏ ‏الحاحه‏، ‏وقد‏ ‏جاءت‏ ‏هذه‏ ‏الرحلة‏ ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏حاضر‏ ‏حاد‏ ‏نشط‏ ‏عندي‏، ‏لا‏ ‏يعلمه‏ ‏غيري‏، ‏وان‏ ‏اطلعت‏ ‏على ‏بعضه‏ – ‏رغما‏ ‏عنى – ‏زوجتي‏، ‏ولم‏ ‏أكن‏ ‏أملك‏ ‏أن‏ ‏أتراجع‏ ‏عنها‏ (‏الرحلة‏) – ‏وفاء‏ ‏بوعدى ‏وحرجا‏ ‏اجتماعيا‏ -، ‏ولم‏ ‏أكن‏ ‏أملك‏ ‏أن‏ ‏أؤجل‏ ‏أى ‏خطوة‏ ‏من‏ ‏خطواتها‏، ‏فايقاعها‏ ‏سريع‏، ‏وأبنائى ‏ينتظرون‏ ‏منها‏ ‏الكثير‏، ‏ومنى ‏السدد‏ ‏والاصرار‏، ‏وهذا‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏تصورت‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏يعود‏ ‏عليهم‏ ‏من‏ ‏فوائد‏، ‏فكان‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏مما‏ ‏ذكرت‏ ‏وسأذكر‏، ‏وتراءى ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏أمامى ‏وأنا‏ ‏أرى ‏الجبل‏ ‏من‏ ‏جانبي‏، ‏وعلامة‏ ‏أن‏ ‏هنا‏ (‏منطقة‏ ‏تساقط‏ ‏صخور‏) ‏وشبكة‏ ‏من‏ ‏الصلب‏ ‏على ‏بعض‏ ‏جوانب‏ ‏الجبل‏ ‏لمنع‏ ‏التساقط‏!! ‏وعلى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏الهوة‏ ‏السحيقة‏، ‏ويدفعنى ‏اللعين‏ ‏فأدافعه‏، ‏والعربة‏ ‏بيننا‏ ‏فى ‏حرج‏، ‏وتهدأ‏ ‏السرعة‏، ‏وأبتعد‏ ‏عن‏ ‏الجانبين‏ ‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏فى ‏كل‏ ‏انحناء‏، ‏فأعطل‏ ‏الطريق‏ ‏لا‏ ‏محالة‏، ‏وما‏ ‏أن‏ ‏يعتدل‏ ‏حتى ‏يمرق‏ ‏منى ‏سيل‏ ‏من‏ ‏العربات‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏معركتى ‏مع‏ ‏داخلي‏، ‏وضبطى ‏لحركة‏ ‏عربتي‏، ‏تعوق‏ ‏انطلاقهم‏، ‏بعضهم‏ ‏ينظر‏، ‏وبعضهم‏ ‏يعذر‏، ‏وجميع‏ ‏من‏ ‏معى ‏فى ‏طمأنينة‏ ‏قصوى ‏إلى ‘‏مهارتي‏’، ‏حتى ‏زوجتى ‏التى ‏كانت‏ ‏تقوم‏ ‏عنى ‏بمهمة‏ ‏الخوف‏ ‏فيما‏ ‏سبق‏، ‏فأنطلق‏ ‏فى ‏الاستهانة‏ ‏بضعفها‏، ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏مطمئنة‏ ‏بلا‏ ‏مبرر‏ (!!)، ‏وفى ‏وسط‏ ‏هذه‏ ‏المحاولات‏ ‏المصرة‏ ‏على ‏الاستمرار‏، ‏والضبط‏، ‏والتحكم‏، ‏والاخفاء‏، ‏أسمع‏ ‏بوقا‏ ‏غير‏ ‏مألوف‏ ‏فى ‏القيادة‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏أصلا‏، ‏فأتصور‏ ‏أن‏ ‏احتلالى ‏لمنتصف‏ ‏الطريق‏ ‏قد‏ ‏ضاق‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏خلفي‏، ‏ولكن‏ ‏البوق‏ ‏جاء‏ ‏منغما‏ ‏نغمة‏ ‏ليست‏ ‏غريبة‏ ‏على ‏أذني‏، ‏فأنتحى ‏جانبا‏، ‏فإذا‏ ‏بسيارة‏ ‏تمرق‏ ‏فى ‏هدوء‏ ‏نسبي‏، ‏وترتفع‏ ‏أيد‏ ‏من‏ ‏داخلها‏ ‏تلوح‏ ‏لنا‏ ‏فى ‏الهواء‏، ‏بالتحية‏ ‏لا‏ ‏بالتحذير‏، ‏ولا‏ ‏باللوم‏ ‏هكذا‏، ‏هل‏ ‏أشفقوا‏ ‏علينا‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الدرجة‏، ‏ولكنى ‏ألمح‏ ‏أرقاما‏ ‏عربية‏، (‏سوريا‏ 1، 2.. ‏الخ‏) ‏وأعرف‏ ‏أنهم‏ ‏أبناء‏ ‏العم‏، ‏لمحوا‏ ‏أرقام‏ ‏العربية‏ ‏ففرحوا‏ ‏بنا‏ ‏كما‏ ‏فرحنا‏ ‏بهم‏، ‏فانطلقت‏ ‏أبواق‏ ‏التعارف‏ ‏فتلويحات‏ ‏الترحيب‏، ‏وأقول‏ ‏معاندا‏ ‏كل‏ ‏موقف‏ ‏سابق‏ (‏تحيا‏ ‏الوحدة‏ ‏العربية‏)!! ‏وأنحى ‏كل‏ (‏لكن‏) ‏وكل‏ (‏شرط‏) ‏جانبا‏، ‏فما‏ ‏كان‏ ‏أحوجنى ‏فى ‏هذا‏ ‏الوقت‏ ‏بالذات‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏البوق‏ ‏وهذا‏ ‏التلويح‏، ‏وأعود‏ ‏لزملاء‏ ‏الرحلة‏ ‏وقد‏ ‏غلبهم‏ ‏النوم‏ ‏فى ‏طمأنينة‏ ‏لا‏ ‏مبرر‏ ‏لها‏ ‏كما‏ ‏أتصور‏، ‏فأزداد‏ ‏مسئولية‏ ‏وعزما‏، ‏ولكن‏ ‏الظلام‏ ‏يشتد‏، ‏وأستعين‏ ‏بمرشدتى ‏الصغيرة‏ ‏أن‏ ‏ننتقى ‏سيارة‏ ‏نقل‏، ‏تسير‏ ‏قريبا‏ ‏من‏ ‏سرعتنا‏ (‏حول‏ ‏التسعين‏)، ‏فنركز‏ ‏أبعادنا‏ ‏على ‏أنوارها‏ ‏الخلفية‏ ‏ونحتفظ‏ ‏بالمسافة‏ ‏بيننا‏ ‏وبينها‏ ‏وننسى ‏أين‏ ‏تسير‏، ‏وماذا‏ ‏حولنا‏، ‏ومن‏ ‏خلفنا‏، ‏وكل‏ ‏ما‏ ‏تفعله‏ ‏نفعله‏ ‏حرفيا‏، ‏ومن‏ ‏اقتدى ‏بالخواجة‏ ‏فى ‏أرضه‏ ‏فلا‏ ‏لوم‏ ‏عليه‏، ‏وتنجح‏ ‏الخطة‏ ‏وتختفى ‏الجبال‏ ‏والهوات‏ ‏فى ‏عباءة‏ ‏الظلام‏ ‏ولا‏ ‏يبقى ‏إلا‏ ‏مصباحان‏ ‏مضيئان‏، ‏وفجأة‏ ‏يقرر‏ ‏سائق‏ ‏النقل‏ ‏على ‏ثقل‏ ‏حمولته‏ ‏أن‏ ‏ينطلق‏، ‏ربما‏ ‏لأنه‏ ‏يحفظ‏ ‏الطريق‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏وقد‏ ‏عرف‏ ‏أن‏ ‏صعوبته‏ ‏خفت‏، ‏أو‏ ‏ستخف‏ ‏حالا‏، ‏وتزداد‏ ‏المسافة‏ ‏بيننا‏، ‏ولا‏ ‏أساير‏ ‏انطلاقة‏، ‏بل‏ ‏انتظر‏ ‏فرجا‏ ‏جديدا‏ (‏عربة‏ ‏نقل‏) ‏تعيننى ‏على ‏ما‏ ‏أنا‏ ‏فيه‏، ‏ووسط‏ ‏الظلام‏ ‏الحالك‏ ‏لا‏ ‏أدرى ‏أن‏ ‏كنت‏ ‏أسير‏ ‏فى ‏جبل‏ ‏أم‏ ‏فى ‏سهل‏، ‏وان‏ ‏كان‏ ‏بجوارى ‏هوة‏ ‏سحيقة‏ ‏أم‏ ‏حقل‏ ‏أذرة‏، ‏وأغتاظ‏ ‏من‏ ‏النائمين‏ ‏فخورا‏ ‏فخرا‏ ‏سريا‏ ‏بثقتهم‏ ‏فى ‏مهارتى ‏المزعومة‏، ‏وأزداد‏ ‏بهذه‏ ‏الثقة‏ ‏مسئولية‏، ‏وبالتالى ‏أزداد‏ ‏قبضا‏ ‏على ‏الداخل‏، ‏وحين‏ ‏يزيد‏ ‏غيظى ‏على ‏فرحى ‏وعزمى ‏أتوقف‏ ‏عند‏ ‏محطة‏ ‏بنزين‏ ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏شعرت‏ ‏أنى ‏قد‏ ‏سرت‏ ‏لبضعة‏ ‏كيلومترات‏ ‏فى ‏طريق‏ ‏مستقيم‏، ‏حسبت‏ ‏أنه‏ ‏يعلن‏ ‏باستقامته‏ ‏نهاية‏ ‏المنطقة‏ ‏الجبلية‏، ‏وكانت‏ ‏الساعة‏ ‏قد‏ ‏جاوزت‏ ‏الحادية‏ ‏عشرة‏، ‏وتستيقظ‏ ‏القافلة‏، ‏وأسأل‏ ‏الرجل‏ ‏قائلا‏ (‏كونون؟‏) ‏فيقول‏ ‏لى (‏لا‏)‏؟‏، ‏وكنت‏ ‏أعنى ‏هل‏ ‏يبيع‏ ‏البنزين‏ ‏بالكوبون‏، ‏فحسبت‏ – ‏من‏ ‏اجابته‏ – ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الكوبونات‏ ‏لها‏ ‏محطات‏ ‏بالذات‏ ‏قطاع‏ ‏عام‏ (‏مثلا‏) ‏تمون‏ ‏بها‏، ‏أما‏ ‏بقية‏ ‏المحطات‏ ‏فتمون‏ ‏بالدينارات‏ (‏وما‏ ‏أحلى ‏وقع‏ ‏اسم‏ ‏العملة‏ ‏اليوجسلافية‏ ‏الخوجاتي‏: ‏دينار‏!!)، ‏وأستخسر‏ ‏الدينارات‏ ‏فى ‏البنزين‏ ‏عازما‏ ‏على (‏التخلص‏) ‏من‏ ‏الكوبونات‏ ‏التى ‏تورطت‏ ‏فيها‏ ‏بنتي‏، ‏ويشير‏ ‏علينا‏ ‏رجل‏ ‏محطة‏ ‏البنزين‏ ‏بالمحطة‏ ‏التالية‏، ‏على ‏بعد‏ ‏عشرين‏ ‏كيلومترا‏ ‏ويقول‏ (‏كوبون‏) ‏ثم‏ ‏ينظر‏ ‏فى ‏ساعته‏ ‏ويمط‏ ‏شفتيه‏، ‏وأفهم‏ ‏أن‏ ‏المحطة‏ ‏التى ‏تتعامل‏ ‏بالكوبونات‏ ‏تقع‏ ‏على ‏هذه‏ ‏المسافة‏، ‏وتحاول‏ ‏أن‏ ‏تفهمنى ‏احدى ‏بناتى ‏غير‏ ‏ذلك‏ ‏فلا‏ ‏أسمع‏ ‏لها‏، ‏وحين‏ ‏نصل‏ ‏إلى ‏المحطة‏ ‏التالية‏ ‏أخرج‏ ‏الكوبونات‏ ‏مباشرة‏، ‏دون‏ ‏سؤال‏ ‏فيصرف‏ ‏لى ‏البنزين‏ ‏مباشرة‏، ‏وأحسب‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏على ‏صوات‏ ‏فى ‏ظني‏، ‏إلا‏ ‏أنى ‏أتبين‏ ‏بعد‏ ‏يوم‏ ‏وبعض‏ ‏يوم‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏فهمته‏ ‏ابنتى ‏كان‏ ‏هو‏ ‏الأصح‏، ‏وأن‏ ‏الرجل‏ ‏الأول‏ ‏كان‏ ‏يتصور‏ ‏أنى ‏أسأله‏ (‏هل‏ ‏عندك‏ ‏كوبونات‏) ‏فيقول‏ (‏لا‏)، ‏ويشير‏ ‏لى ‏بمحطة‏ ‏رئيسية‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏اشترى ‏منها‏ ‏كوبونات‏، ‏والكوبونات‏ ‏لا‏ ‏تباع‏ ‏للأجانب‏ ‏إلا‏ ‏بالعملة‏ ‏الصعبة‏، ‏ولا‏ ‏تباع‏ ‏فى ‏كل‏ ‏محطة‏ ‏بل‏ ‏فى ‏محطات‏ ‏رئيسية‏ ‏محدودة‏، ‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏المواطن‏ ‏اليوغسلافى ‏يصرف‏ ‏له‏ ‏تموين‏ ‏البنزين‏ ‏الشهرى ‏أو‏ ‏الأسبوعى ‏بطريقة‏ ‏ما‏ ‏تحد‏ ‏من‏ ‏الاستهلاك‏ ‏أو‏ ‏تلزم‏ ‏بعدالة‏ ‏معينة‏، ‏وأضحك‏ ‏من‏ ‏نفسي‏، ‏ومن‏ ‏مقال‏ ‏لغة‏ ‏اللفظ‏ ‏الواحد‏ ‏والاشارة‏، ‏ومن‏ ‏سوء‏ ‏فهمي‏، ‏ويزداد‏ ‏الليل‏ ‏ظلمة‏، ‏وتقل‏ ‏عربات‏ ‏النقل‏ ‏القابلة‏ ‏للمتابعة‏، ‏وأسأل‏ ‏الركاب‏ ‏أثناء‏ ‏فترات‏ ‏الصحو‏ ‏فى ‏محطتى ‏البنزين‏ ‏هل‏ ‏نستمر‏ ‏حتى ‏بلجراد‏ ‏ونحن‏ ‏على ‏سفر‏ ‏منذ‏ ‏ستة‏ ‏عشر‏ ‏ساعة‏ ‏منتصلة‏ ‏تقريبا؟‏ ‏فيقولون‏ (‏نعم‏) ‏توكل‏، ‏يقولونها‏ ‏وهم‏ ‏يستعدون‏ ‏للنوم‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏ويشتد‏ ‏غيظي‏، ‏فأنا‏ ‏لم‏ ‏أتعب‏ ‏من‏ ‏القيادة‏، ‏ولكنهم‏ ‏لا‏ ‏يعرفون‏ ‏كل‏ ‏شيء‏، ‏ونقف‏ ‏فى ‏أول‏ ‏استراحة‏ ‏جانبية‏، ‏ونفكر‏ ‏فى ‏أن‏ ‏نخرج‏ ‏بوتاجاز‏ ‏المخيم‏، ‏ونعمل‏ ‏شايا‏ ‏ساخنا‏ ‏وندرس‏ ‏الموقف‏، ‏فما‏ ‏زال‏ ‏أمامنا‏ ‏إلى ‏بلجراد‏ ‏ما‏ ‏يزيد‏ ‏عن‏ ‏الثلاثمائة‏ ‏كيلومتر‏، ‏والمسألة‏ ‏أن‏ ‏يوغسلافيا‏ ‏كانت‏ ‏فى ‏الرحلة‏ ‏مجرد‏ ‏طريق‏، ‏ورؤية‏ ‏استطلاعية‏ ‏عابرة‏، ‏ولم‏ ‏نكن‏ ‏قد‏ ‏قررنا‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏محل‏ ‏إقامة‏ ‏أو‏ ‏تخييم‏ ‏لصغوبة‏ ‏اللغة‏ ‏وقلة‏ ‏المعلومات‏ ‏عنها‏، ‏وأقول‏ ‏لهم‏، ‏ليكن‏، ‏ولنصل‏ ‏بلجراد‏ ‏وجه‏ ‏الصباح‏، ‏ولكنى ‏سأقود‏ ‏فى ‏اليوم‏ ‏التالى ‏مباشرة‏ ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏وربما‏ ‏نفس‏ ‏المسافة‏ ‏حتى ‏تريستا‏ (‏ايطاليا‏) ‏ففينيسيا‏، ‏فيقولون‏ ‏هذا‏ ‏متروك‏ ‏لك‏، ‏إذا‏ ‏تعبت‏، ‏وأنا‏ ‏فى ‏الحقيقة‏ ‏لم‏ ‏أتعب‏، ‏ولكن‏ ‏حسابات‏ ‏الطاقة‏ ‏البشرية‏ ‏تخيفني‏، ‏ويسلمون‏ ‏الأمر‏ ‏لى ‏فى ‏عجلة‏ ‏من‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏ينام‏، ‏وكنا‏ ‏قد‏ ‏فشلنا‏ ‏فى ‏اخراج‏ ‏البوتاجاز‏ ‏لعمل‏ ‏الشاى ‏الذى ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يدفيء‏ ‏اليدين‏ ‏والصدر‏ ‏فيحسن‏ ‏التفكير‏، ‏وما‏ ‏أن‏ ‏أنطلق‏ ‏مرة‏ ‏أخرى ‏بالعربة‏ ‏لمدة‏ ‏نصف‏ ‏ساعة‏ ‏حتى ‏يفتح‏ ‏الله‏ ‏علينا‏ ‏بتجمع‏ ‏متوسط‏ ‏لعديد‏ ‏من‏ ‏العربات‏ ‏أغلبها‏ ‏نقل‏، ‏وتكتسب‏ ‏عربتنا‏ ‏استقلاليتها‏ ‏مرة‏ ‏أخرى ‏فتميل‏ ‏إلى ‏زميلاتها‏ ‏فى ‏دفء‏ ‏مؤتنسة‏ ‏بالأضواء‏ ‏المنبعثة‏ ‏من‏ ‏مبنى ‏قريب‏ ‏جميل‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏أسفل‏ ‏الطريق‏ ‏بعدة‏ ‏أمتار‏ ‏على ‏وهدة‏ ‏منبسطة‏، ‏فأستجيب‏ ‏لها‏ ‏اتباعا‏ ‏لقاعدة‏ ‏سبق‏ ‏ذكرها‏، ‏وهى ‏أن‏ ‏الناس‏ – (‏والعربات‏) ‏فى (‏حضن‏ ‏الطبيعة‏) ‏لا‏ ‏يجتمعون‏ ‏إلا‏ ‏على ‏خير‏ ‏وجمال‏، ‏وأتوقف‏ ‏وأنا‏ ‏أهدهد‏ ‏العربة‏ ‏وأمسح‏ ‏عجلة‏ ‏قيادتها‏ ‏فى ‏رفق‏ ‏كما‏ ‏كان‏ ‏يمسح‏ ‏الفارس‏ ‏على ‏شعر‏ ‏رقبة‏ ‏الحصان‏ ‏وهم‏ ‏يغيرون‏ ‏الخيل‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏كل‏ ‏خان‏ ‏وخان‏ ‏على ‏الطريق‏ ‏فى ‏روايات‏ ‏الجيب‏ ‏القديمة‏، ‏ومنذ‏ ‏بداية‏ ‏الرحلة‏، ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏العربة‏ ‏قد‏ ‏بدأت‏ ‏تأخذ‏ ‏شخصيتها‏، ‏وتتلقى ‏عواطف‏ ‏من‏ ‏حولى ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أصاحبها‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏ظلت‏ ‏الوحيدة‏ – ‏القيظة‏ ‏معى ‏طول‏ ‏الرحلة‏، ‏فمنذ‏ ‏ركبنا‏ ‏المركب‏، ‏ونحن‏ ‏فى ‏القاعة‏ ‏الكبيرة‏ ‏قالت‏ ‏لى ‏زوجتى (‏أنى ‏أحس‏ ‏بشفقة‏ ‏حانية‏ ‏على ‏عربتنا‏) ‏وظننت‏ ‏أنها‏ ‏تشفق‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏عددنا‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏الحمولة‏، ‏فسألتها‏ ‏أيضاحا‏، ‏فقالت‏: ‏ها‏ ‏نحن‏ ‏نجلس‏ ‏وسط‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏النور‏ ‏والمؤانسة‏ ‏وهى – ‏يا‏ ‏حبيبتى – ‏وحيدة‏ (‏تحت‏) ‏فى ‏البرد‏ ‏والظلام‏، ‏وضحكت‏ ‏رغم‏ ‏صدق‏ ‏نبرتها‏، ‏ونسيت‏ ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏حتى ‏بدأت‏ ‏هذه‏ ‏الصداقة‏ ‏تنمو‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏يقظتنا‏ – ‏العربة‏ ‏وأنا‏ – ‏فى ‏الطريق‏ ‏الطويل‏، ‏وكان‏ ‏عندها‏ – ‏العربة‏ – ‏كل‏ ‏الحق‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الوقفة‏، ‏إذ‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏تبينا‏ ‏أن‏ ‏المكان‏ ‏هو‏ ‘‏موتيل‏’ ‏ومقهى ‏ومطعم‏ ‏فى ‏جوف‏ ‏الجبل‏، ‏وأنه‏ ‏متوسط‏ ‏فى ‏الطريق‏ ‏بين‏ ‏الحدود‏ ‏ومدينة‏ (‏نيش‏) (‏أكبر‏ ‏بلدة‏ ‏تالية‏ ‏على ‏الخط‏ ‏الرأسي‏)، ‏وأنه‏ ‏ملتقى ‏قائدى ‏الليل‏ ‏وخاصة‏ ‏من‏ ‏سائقى ‏النقل‏ ‏سواء‏ ‏كانوا‏ ‏سيواصلون‏ ‏السير‏ ‏ليلا‏ ‏أم‏ ‏يستريحون‏ ‏حتى ‏الصباح‏، ‏وقررنا‏ ‏المبيت‏، ‏وكانت‏ ‏الحجرة‏ ‏أنظف‏ ‏ما‏ ‏رأيت‏، ‏بها‏ ‏الماء‏ ‏الساخن‏ ‏والبارد‏ ‏والحمام‏ ‏الكامل‏ ‏المستقل‏، ‏وسعرها‏ ‏زهيد‏ ‏زهيد‏، ‏وكان‏ ‏أول‏ ‏موتيل‏ ‏نبيت‏ ‏فيه‏، ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أدرك‏ ‏حينذاك‏ ‏هل‏ ‏هو‏ ‏زهيد‏ ‏لأنه‏ ‏فى ‏بلد‏ ‏اشتراكى ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏كذلك‏ ‏لأن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏نظام‏ ‏الموتيلات‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏استقر‏ ‏الحال‏ ‏فى ‏الحجرات‏ ‏واطمأننا‏ ‏إلى ‏نومة‏ ‏مريحة‏ ‏وأفطار‏ ‏معد‏، ‏نام‏ ‏الأولاد‏ ‏أو‏ ‏ظلوا‏ ‏يتسامرون‏ ‏ونزلت‏ ‏وزوجتى ‏إلى ‏الصالة‏ ‏الكبيرة‏، ‏وأخذنا‏ ‏نتأمل‏ ‏قادة‏ ‏قوافل‏ ‏الليل‏ ‏وصخبهم‏ ‏وشربهم‏ ‏وضحكهم‏ ‏وانطلاق‏ ‏وبساطتهم‏ ‏وقوتهم‏، ‏وقالت‏ ‏زوجتى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الجو‏ ‏يذكرها‏ ‏بشيء‏ ‏ما‏ ‏فى ‏فيلم‏ ‏زوربا‏ ‏اليوناني‏، ‏ولم‏ ‏أذكر‏ ‏ما‏ ‏تقصده‏ ‏وأن‏ ‏كنت‏ ‏فهمت‏ ‏ما‏ ‏تعنيه‏، ‏وأحسست‏ ‏بأن‏ ‏هذا‏ ‏وجه‏ ‏آخر‏ (‏غير‏ ‏العواصم‏ ‏والمدن‏) ‏شديد‏ ‏الأهمية‏ ‏لما‏ ‏هو‏ (‏أوربا‏) ‏الجبل‏، ‏أوربا‏ ‏القهوة‏ ‏الدوار‏ ‏المرحبة‏ ‏على ‏الطريق‏، ‏السائقون‏ ‏على ‏الفطرة‏، ‏الضحكة‏ ‏المجلجلة‏ ‏دون‏ ‏غيبوبة‏ ‏السكر‏ ‏أو‏ ‏سجن‏ ‏المخافظة‏، ‏العالم‏ ‏الصغير‏ ‏المتغير‏ ‏أبدا‏، ‏وأحسست‏ ‏بصاحب‏ ‏الموتيل‏ ‏وكأنه‏ ‏فرح‏ ‏بنا‏ ‏لأننا‏ ‏لسنا‏ ‏من‏ ‏زبائنه‏ ‏المعتادين‏، ‏وعلى ‏السلالم‏ ‏قابلت‏ ‏بعض‏ ‏أطفال‏ ‏الأسرة‏ ‏السورية‏ ‏التى ‏حيتنا‏ ‏فى ‏الطريق‏، ‏وحين‏ ‏خرجت‏ ‏أحضر‏ ‏بعض‏ ‏حاجاتى ‏من‏ ‏العربة‏ ‏كان‏ ‏الرذاذ‏ ‏قد‏ ‏بدأ‏ ‏يتساقط‏ ‏وابتدأت‏ ‏أتبين‏ ‏المعالم‏ ‏الجبلية‏ ‏من‏ ‏حولي‏، ‏وقلت‏ ‏فى ‏فرحة‏ ‏فطرية‏: (‏هذا‏ ‏هو‏)، ‏نعم‏ (‏هذا‏ ‏هو‏).‏

 وبعد‏…‏

   فهذه‏ ‏خواطر‏ ‏أول‏ ‏يومين‏ ‏من‏ ‏رحلتنا‏ ‏هذه‏، ‏فهل‏ ‏أكمل‏ ‏سيدى ‏القارئ؟‏ ‏وهل‏ ‏تسمح‏ ‏سيدى ‏المحرر‏ ‏الزميل؟‏.‏

الباخرة‏ ‏اسبسيو‏ ‏ايجكو

   أدرياتيكا‏ 17 ‏سبتمبر‏ 1984

[1] – حيث تكرر وعدى للقارئ بمواصلة الكتابة فى مواضيع معينة وتكرر عجزى عن الوفاء بهذه الوعود من أول سلسلة “حالات وأحوال”، حتى موضوع “ماهية الوجدان”.

[2] – من أحب الأماكن الى نفسى قرية تدعى فالورسين وهى احدى قرى نفس الجبل، وخبرتى فيها منذ خمسة عشر عاما أفهمتنى كيف تفجر الطبيعة الخارجية – مع أقل عدد من الناس – الطبيعة الداخلية مع أكبر عدد من الأفكار، وهكذا اقتربت أكثر من حالة أستاذنا طه حسين وهو يكتب أبا العلاء هناك.

[3] –  وما أندر ما أفعل رغم كثرة حديثى عن هذه الخبرات.

[4] –  أنظر الملاحق فى نهاية الرحلة:لو تم العمل.

[5] – هذا هو ما تنص عليه شروط النشر المنشورة فى أخر صفحة من كل عدد.

[6] – الإنسان والتطور، عدد يناير المجلد الخامس سنة 1984.

[7] –  ميكروباس

[8] – هم بعض أولادى من ظهرى، ثلاثة، وأولادى من الجيرة والتاريخ والود والأمل المشترك، وكانوا جيلين: خمسة منهم بين السابعة عشر والواحد والعشرين واثنين حول الثامنة.

[9]- كتبت هذه المعلومات قبل عودتى ومشاهدتى بعض محاولات الانضباط، وصدور قانون الطرق بمقابل ولم أحاول تغيير النص بعد عودتى.

[10] – علمت فيما بعد أنه يمكن تلوين بنزين النقل بلون آخر، إذا ضبط فى بنزين سيارة خاصة يعتبر جريمة سرقة صريحة (لا مخالفة).

[11] – تعمدت عدم ترجمتها إلى “دراجة بخارية” والسبب واضح، والسرعة غير محدودة فى الطرق السريعة إلا فى المناطق الخطرة من منحنيات واصلاح ومرتفعات وما شابه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *