الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1985 / عدد أكتوبر 1985 ثانيا: ماهية الفصام (فى اطار الحوار حول المخ والسلوك)

عدد أكتوبر 1985 ثانيا: ماهية الفصام (فى اطار الحوار حول المخ والسلوك)

عدد أكتوبر 1985

ثانيا: ماهية الفصام

 (فى اطار الحوار حول المخ والسلوك)

د. عماد حمدى

طالعتنا الانسان والتطور (عدد يوليو1985) بترجمة كاملة لمقال علمى حول فرض طرحه الدكتور أ.فاينبرج ويفسر بواسطته حدوث مرض الفصام(1) وقد أسبقت المجلة الترجمة بملخص واف للمقال وأتبعته برؤوس موضوعات للحوار وابداء الرأى.

وبادئ ذى بدء فقد شعرت بصعوبة خاصة فى طرق هذا الموضوع. فأنا طبيب نفسى لا أملك حرية الرجل العادى فىأن أقول ما أريد فى موضوع يتعلق بالطب النفسى. ومن ناحية أخرى فأنا لا أضع نفسى على قدم المساواة مع فاينبرج أو غيره من العلماء اللذين نذروا أنفسهم للبحث فى هذه النقطة، بمعنى أنى لا أرى أنه من حقى او حق غيرى أن أقوم بالانتقاد العلمى دون ضوابط. ومن منظور ثالث فأنا لا أعرف الى من أوجه حديثى بالتحديد؟ أللقارئ العادى الذى يعرف بالكاد أن الفصام نوع من أنواع الجنون لا يثير عنده الا مزيجا من الخوف وحب الاستطلاع. أم أكتب للزميل المتخصص الذى يقاوم بداهة أى تغيير فى مفاهيمه الثابتة.

ورغم هذه المحاذير المثبطة فقد عقدت العزم شاكرا على الا أنكفئ عن دعوة المجلة لابداء الرأى. فأنا أعتقد أن المصرى فى مسيس الحاجة لان تصله معلومات جديدة متنوعة ومغذية باستمرار، والأهم من ذلك أن تصله هذه المعلومات فى اطار أمين بدون مبالغات، سواء أكانت مبالغات الجمال اللغوى أو مبالغات الحماس الاقناعى. ونفس الدافع هو ما يجعلنى أحيى محاولة هذه المجلة عرض ومناقشة المعلومات العلمية فى اطار جاد هادف.

يطرح مقال د.فاينبرج فى خلاصته تصورا جديدا عن كيفية حدوث الفصام. والمقال الى جزأين. الجزء الأول يعرض لبعض التغيرات الوظيفية الطبيعية التى تطرأ على المخ ابان فترة المراهقة، حيث يفترض فاينبرج أن وراء هذه التغيرات تغيرا موروفولوجيا(2) فى مناطق اتصال الخلايا العصبية ببعضها (المشتبكات العصبية)

بحيث يتم التخلص من الزائد منها واعادة توزيع الباقى توزيعا منتظما يتناسب مع الأداء الوظيفى الأمثل للمخ. تتزامن هذه التغيرات التركيبية الوظيفية مع نمو القدرة على التجريد(3) ونمو التفكير التحليلى، والقدرة على ايجاد حلول للمشكلات العقلية، ويعتقد فاينبرج أن التغيرات العضوية التكوينية هى أيضا السبب فى نحو هذه القدرات العقلية فى فترة المراهقة, وفى الجزء الثانى من المقال يطرح فاينبرج فكرته أن حدوث خلل أو خطأ فى هذه العملية النموية (عملية النضج) ربما يشكل خلفية حالات الفصام التى تنشا فى فترة المراهقة(4) 

وأنا أرى انه من الصعوبة بمكان أن يستطيع شخص أن يقول بصحة أو خطأ وجهة نظر فاينبرج، اذ أن ما قال لا يخرج عن كونه فرضا عاملا لايمكن رفضه أو قبوله أبتداء، بل ينتظر التطبيق العملى فى بحوث أخرى بالاضافة لاختبار الزمن. وما يمكننا أن نقوله هنا هو مناقشة الفوائد التى نجينها بتبنى هذا الفرض أو معرفته والفوائد التى نجنيها برفضه.

أولا: هذا فرض جديد فى مجال البحث عن أسباب الفصام. وهذه ميزة فى حد ذاتها فقد ظلت فرضية واحده  تستحوذ على أغلب اهتمام ومجهود العلماء طوال الثلاثين عاما الأخيرة بدون أن يتمكن شخص من اثباتها أو نفيها نفيا قاطعا. أو حتى بدون أن يمكن ربطها ربطا ديناميا بمسار المرض أو مظاهره. وأنا أقصد هنا فرض

 “الدوبامين” Dopamine hypothesis  التى تعزو الفصام الى خلل فى الكيماويات الموصلة لاشارات المخ فى مناطق معينة منه ووجود فرض عامل جديد لا يتعارض بالضرورة مع نظرية لدوبامين بل ربما يشرحها ويساعد على زيادة التعرف على الجوانب العضوية لهذا المرض.

ثانيا: هذا المقال يعيد تنظيم مجموعة من المعلومات الجزئية فى اطار مفهوم متكامل وبالاضافة الى احتمالات صدق وجدوى هذا المفهوم الجديد فان التنظيم يشبع حاجة لدى المختص أو المهتم لتكوين كليات تامة Gestalt يسهل هضمها فى خضم فيض عظيم من المعلومات الجزئية المتناثرة والمتعارضة قى أحيان كثيرة ابتلى بها الطب النفسى فى السنوات الأخيرة

ثالثا: هذا فرض مادى يعتمد على تصور خلل عضوى بالمخ فى مرضى الفصام، ولكنه يسمح بافتراض محدثات نفسية للمرض ويفسر فى نفس الوقت العوامل النفسية والاجتماعية التى لا يمكن انكارها كجزء من تاريخ المرض. ميزة هذا الفرض أنه يؤلف ما بين العضوى والنفسى بدلا من القطيعة القديمة التى استمرت عبر التاريخ بين أولئك اللذين يقولون بالأسباب العضوية للاضطرابات النفسية (أى يعتبرونها فرضا) وأولئك الذين ينادون بالأسباب النفسية أو الاجتماعية(أى يعتبرون الأمراض النفسية فى حقيقتها اختيارا أو أسلوبا فى الحياة)

وهذه اللغة الجديدة التى تؤلف ما بين المعلومات البيولوجية المتاحة والظواهر الاكلينيكية أو النفسية هى اللغة التى تجعل تقدم الطب النفسى ممكنا فى الوقت الحالى.

رابعا: هذا الفرض يؤكد على أهمية مرحلة المراهقة فى تكوين الفصام. فالمسألة ليست مسألة تزامن عملية نمو معينة مع حقيقة تواتر المرض فى هذه الفترة. فالمراهقة مرحلة شائكة ومعقدة عضويا ونفسيا، وكثير من مشكلات الفصام النفسية تدور حول الفشل فى حل أو تجاوز المراهقة من حيث تكوين صورة ثالثة للذات، وأهداف أو ميول محددة فى الحياة، وعلاقات ثابتة مع آخرين. فهذا الفرض يطرح أساسا بيولوجيا للمرض فى مرحلة من أهم مراحل تطوره. ولا يفوت فاينبرج أن يضع احتمال أن عمليات التغير فى المشتبكات العصبية ربما تخضع لتأثيرات هورمونية تتأثر بدورها بالعوامل النفسية والعضوية التى تشكل فى مجموعها مرحلة المراهقة.

خامسا: افترض معظم الباحثين أن مشاكل التفكير والفهم والتعبير فى الفصام تنشأ من نقص معين أيا كان نوع هذا النقص. وذهبت التفسيرات العضوية دائما الى اثبات وجود تلف من أى نوع كان بجزء من أجزاء المخ. أما ميزة وجهة نظر فاينبرج فهى أنها حينما تضع أساسا عضويا للفصام لا تضع احتمال النقص فقط ولكن تضع احتمال الزيادة أيضا. وباختصار مباشر فان فاينبرج يرى أن خلل عملية التفكير والتركيز والادارة فى الفصام ربما تنشأ عن عدد أكبر من المشتبكات وليس عن عدد أقل من العادى. فهنا الموقف يسمح بأن يكون الخلط الفصامى فى الأفكار ناتجا عن فرط التداخل وتعدد الطرق بين الخلايا العصبية وزيادة المشتبكات العصبية وليس نقصا معينا أو تلف أجزاء معينة.

هذه بعض الجوانب الايجابية فى أطروحة فاينبرج كما أراها، أما احتمالات الخطأ والمحاذير التى يجب أن نضعها فى الاعتبار فهى متعددة أيضا، وهى لازمة من ناحية أخرى حتى لانخدع من خلال تقبل جانب واحد للقضية. ويمكننى أن أسوق ما يلى:

أولا: تزامن ظاهرتين لا يعنى بحال من الأحوال ارتباطهما فى علاقة سببية، وبداية الفصام فى مرحلة المراهقة قد تتصادف مع التعديل الذى يطرأ على المشتبكات العصبية فى هذه الفترة بدون أى ارتباط بينهما، أو بحيث توجد علاقة غير سببية.

ثانيا: ما زالت المسافة بعيدة جدا بين فشل عملية تشذيب المشتبكات العصبية فى فترة المراهقة ومظاهر الفصام، وبين هذا وذاك أسئلة عديدة بدون اجابات. فكيف نترجم خلل تشذيب المشتبكات العصبية الى أعراض الفصام مثل الهلاوس والضلالات واضطرابات الانفعال.. والحل يكمن بداهة فى المزيد من الفهم للأساس العضوى للنشاط العقلى.

ثالثا: لايوجد ما يدل مباشرة على أنه يوجد خلل فى المشتبكات العصبية فى مرضى الفصام. فلم يدرس هذا الأمر مباشرة. وقد دلت الأبحاث الحديثة حول معدل الأيض

 (التمثيل الغذائى) فى المخ فى المرضى الفصاميين الى نتائج متعارضة. فالبعض يصف نقصا(5)والبعض الآخر يصف زيادة(6) فى معدل استهلاك الطاقة فى أجزاء مختلفة من المخ.

رابعا: اعتمد فاينبرج فى أثبات تناقص المشتبكات العصبية فى أواخر مرحلة الطفولة وبداية المراهقة بين الأسوياء على دراسة وحيدة لهاتينلوخرHutlenlocher  ومما لا شك فيه أن نتائج بحث وحيد مباشر فى منطقة واحدة من مناطق المخ

 (التلفيف الأوسط من الفص الجبهى) لا يمكن الاعتماد عليه فى بناء نظرية، وذلك فضلا عن أشارة فاينبرج ولنقل أمانته فى الاشارة الى تحذير هاتينلوخر نفسه من أن نتائجه ليست مؤكدة.

والخلاصة أننا لو نحينا هذه العلاقة المحددة جانبا وحاولنا أعادة صياغة وجهة نظر فاينبرج بصورة أكثر عمومية لوجدنا أنه يسوق الأدلة التى تقول ما معناه أن عملية نضج المخ التى تتم فى مرحلة المراهقة قد تختل وهذا الخلل قد يؤدى بصورة أو بأخرى الى الفصام.

تعقيب على التعقيب

التحرير

ليس عندنا تعقيب على زميلنا الحكيم الا الشكر على نجاحه الواضح فى اعادة صياغة المقال (الفرض) بهذا الأسلوب العلمى الرصين (المتواضع معا) وموقفه النقدى الأمين فيما وافق عليه، وما تحفظ تجاهه على حد سواء، ولعل فى هذه الاعادة الواضحة والسليمة ما يقرب للقارئ البحث الذى صدمناه به” هكذا” فى العدد الماضى، وفى نفس الوقت يبرر لنا مغامرتنا بنشره”هكذا” – لكن ثمة تحفظ شخصى لا أحب أن أكتمه عن الزميل وهو أن فرط الحكمة العلمية الذى وصلنى من تعقيبه جعلنى أتساءل عن أن  العالم الحق المتخصص قد يعاق بما يعرف، وأن عليه ـ مع حكمته ورصانته – أن  “يستمع” الى شطحات غير المختص، الأكثر حرية…. فمغامرة، ومن هذا وذاك، ومع كل الالتزام نحفز التفكير.

ثالثا: هوامش من قراءة عامة لمقال صعب

(من خطاب من الأديب المشارك:وفاء خليل)

أرسل لنا – بعد حوار شفهى وطلب مباشر – زميلنا الأديب وفاء خليل رأيه فى خطاب مسهب، الا أننا وجدنا أن الخطاب يتعلق بالقضية العامة  (اللغة البيولوجية والمعطيات البيولوجية) أكثر مما يتعلق بالبحث ذاته، لذلك قضلنا أن نقتطف بعض ما يتعلق بمحور البحث المنشور دون سواه حتى لانبتعد عن حدود القضية مع تقديرنا البالغ لما أثاره الخطاب من قضايا أساسية أخرى حول مدى فائدة وضرورة”بيولوجية” النظرة الى السلوك وتفسيره.

(وقد شجعنا على ذلك قدر السماح الذى اتاحه لنا قوله

“… تأخذون سيادتكم منه ما ترون وتجنبون ما ترون “

مقتطف(1) أحيط سيادتكم علما بأن المقال كان بالنسبة لى بالغ الصعوبة……

– ونحن نعتذر ثانية، ولا نشك فى أنه كذلك، بل ولنا أن نستنتج أنه كان  أكثر صعوبة لمن هم أقل ألفة ومشاركة لنا فى هذه المجلة من الزميل وفاء.

مقتطف (2) اننى متفائل لخطوتكم فهى تجاوز لمقال يكتبه كاتب وقارئ يقرأ مقالا.

– وهذا تماما – رغم كل الصعوبات -ـ ما حفرنا على المغامرة فشكرا.

 مقتطف(3) اننى أرجو من سيادتكم……. أن ترسل لى  “بصفة شخصية” قائمة بأسماء6 كتب فى علم البيولوجيا لأتمكن من تأسيس قاعدة علمية لمعارفى وفهمى، وحتى يمكننى ملاحقة الحوار الذى أتصور أنه سيبدأ من العدد القادم بين المتخصصين وبعض، وبينهم وبين غير المتخصصين…

وأننى سأقرأ الكتب الستة بواقع كتاب كل شهرين.

– ونعد بالاستجابة لهذا الطلب فى العدد القادم، وليس بصفة شخصية، فرحين كل الفرح بهذه الأمانة وهذا الالتزام وهذه الجدية، مما يطمئننا بشكل أو بآخر على أننا – بهذه المغامرة – ان لم نصل الى توصيل معنى واضح، فقد أثرنا رغبة معرفية رائعة.

مقتطف(4)….. وتساءلت كيف يمكن لمنظر أن ينظر بدون جهد وعلم نساك المعامل؟

– وشكرا لتساؤلك الذى حفزنا الى بعض ما قدمنا به تعقيبات هذا العدد من أهمية العلاقة الوثيقة بين المعطيات الجزئية الأمنية وتقدم وتصاعد الفروض الجديدة.

وفى انتظار مشاركة أكثر تحديدا بعد ما نشرناه أكثر وضوحا فى هذا العدد، نشكرك بكل ما نستطيع  – وهو قليل.

وبعد….

فما زال ملف المقال مفتوحا.

وما زلنا فى انتظار مزيد من المشاركة، ومزيد من الاعتراض، ومزيد من الاثارة، ومزيد من المغامرة.

والى العدد القادم.

[1] – نشر مقال د. فاينبرج فى مجلة علمية متخصصة فى الطب النفسى عام 1982.

  1. Psychiatry Research Vol. 17 No. 4 pp. 319 – 334.

[2] – تغير فى لشكل

[3] – استنباط المعانى العامة من الأحداث والمعلومات.

[4] – يمكن الرجوع الى ملخص المقال الأصلى لمزيد من التفاصيل.

[5]- Sheppard G., Gruzelier J., Manchanda R., et al. (1983) 15-0 Positron emission tomographic scanning in predominantly never-treated acute schizophrenic patients. Lancet 31 b 1448-1452.

[6] –  Cur R.E., Cur R.C., Brett. E., et al. (1985) Brain function in Psychiatric disorders. Arch. Gen. Psychiatry. Vol. 42, 4: 329 – 334.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *