الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1984 / اكتوبر1984- خواطر وملاحظات حول “دليل المسلم الحزين”

اكتوبر1984- خواطر وملاحظات حول “دليل المسلم الحزين”

خواطر وملاحظات حول “دليل المسلم الحزين”[1]

د. رفعت محفوظ

ما أقدمة فى هذا المقال – اساسا – هو من قبيل الخواطر والتساؤلات التى أثارتها بعض الأفكار التى وردت فى الكتاب، ولن اتطرق كثيرا الى تلخيص محتويات الكتاب الا اذا دعت الضرورة الى ذلك.

وابتداء احب أن أسجل ملاحظاتى الخاصة بمنهج الكاتب الذى التزم به فى تناوله لموضوعات كتابه … فالمنهج يتسم بالعرض ثم التحليل واخيرا محاولة الوصول الى بعض الاستنتاجات فيحاول الكاتب فى تناوله لقضايا الدين الاسلامى التى أثارها فى كتابه أن يبحث فى الجذور والمتغيرات سواء ما كان موجودا منها فى البيئة المحيطة عند ظهور الاسلام، وكذلك المتغيرات التاريخية والحضارية السابقة على ظهور الاسلام, ولا ينسى – فى كثير من الاحيان – التطرق الى المتغيرات النفسية الكامنة فى تركيبة الأفراد.. ثم يحاول تتبع ما نشأ من تطور فى هذه القضايا خلال العصور المتعاقبة حتى وصل الحال الى ما نعيشه الآن.. وفى النهاية يحاول الكاتب اتخاذ موقف واضح ومعلن من هذه القضايا .. وباختصار نرى الكاتب ينتقل من تحليل المقدمات الى النتائج التى لزمت عنها، ثم يحاول النظر الى مقدمات جديدة لمحاولة الوصول الى نتائج جديدة، وهكذا … وهذه الخصائص فى طريقة التناول هى من أهم معالم المنهج العلمى.

ولقد رأيت الكاتب من خلال عرضه لأفكاره جريئا ومتحررا من النظرة الضيقة والجمود والسطحية مع الالتزام والاخلاص للدين وقضاياه… وكل ذلك قد يحفز على التفكير، ويهز الجمود الفكرى والتحجر العقلى فى فهم أمور الدين، كما أنه يسمح باقامة حوار بناء .. وهذا قد يخالف الكثير مما نقرأه ونسمعه فى أمور الدين من الوقوف عند نتائج معينة ومحاولة فرضها على العقول فرضا، مع عدم محاولة البحث فى عللها وأسبابها، وبالتالى عدم محاولة تطويرها أو تخطيها، لعدم رؤية ما حدث من تغير فى العلل والأسباب.

بقيت كلمة واحدة عن المنهج، وهى متعلقة بصاحب المنهج، فقد تمنيت أن يكون صاحب هذه الطريقة فى التفكير والنظر الى الأمور واسع الصدر والأفق لتقبل الحوار، وأخذ ما يستحق من الرأى الآخر محلا للنظر والتفكير.

وننتقل الآن الى أهم القضايا التى تعرض لها الكتاب

أولا: الأزمة الدينية التى نعيشها الآن:

يلخص الكاتب فى الفصل الأول الأزمة الدينية التى يعيشها العالم الاسلامى فيقول: “أزمة روحية فى الغرب ترددت أصداؤها لدى من أخذ عنه حضارته، وولاء كلامى كاذب للاسلام من جانب أولى أمر المسلمين وهم يسيرون قدما على نهج أنظمة الحكم فى الغرب؛ وموقف من “علماء” الاسلام ظاهرة اخلاص وباطنة رياء؛ وشباب فقد دينه وازدرى تراثه ولم يملأ عنده الفراغ الروحى الناجم شئ؛ واقبال جشع على تحصيل المال فى غير غرض نافع، وعلى الاستهلاك دون أدنى ميل الى انتاج، واذعان من معظم رجال الدين لسلطة استخدمت هذا الاذعان فى تشويه سمعتهم لدى العامة… وسلوك فى الطريق والبيت والعمل لا سبيل للعين المجردة أن تحكم على صاحبه أمسلم هو أم غير مسلم؛ ثم فوق هذا كله مشاكل فى الحياة اليومية أرهقت كاهل الغالبية فلم تدع طاقة لتحصيل علم، أو فضلا للتحلى بكريم الخلق”.. ويرجع الكاتب بداية الأزمة الى أننا أخذنا من الحضارة الغربية فى الوقت الذى تزعزعت فيه ثقتنا بتراثنا وديننا ولم نصل الى صبغ هذه الحضارة صبغة اسلامية.

هذه هى الأزمة كما عبر عنها الكاتب، والآن ماذا نفعل بعد أن فاتتنا الوقاية فى زمن كانت تصح فيه، وفاتنا علاج المرض عند بدايته، وأصبح الآن متفشيا ومستفحلا فى الواقع الاسلامى … ولكن لكل شئ بداية .. وهذا الكتاب الذى بين أيدينا هو من نوع البدايات الصحيحة … ولكننا نجد أن الكاتب يهتم فيما يقترحه من حل بمراجعة التراث واعمال الفكر فيه مع الحفاظ على جوهر الدين وروحه .. ولكننا نرى أن هناك خطوة هامة يجب أن تسير جنبا الى جنب مع عملية المراجعة والتنقية ..وهذه الخطوة متعلقة بتركيبة المسلم النفسية وما حاق بها من التشويه كنتيجة للمفاهم الدينية والممارسات الدينية الخاطئة التى تشربها وتشبع بها.

أن علاقتنا الداخلية بالدين، والتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من تركيبتنا النفسية قد لحق بها كل التشويه الذى لحق بالفهم الصحيح للدين وممارسته، واصبح ذلك يمثل عقبة هائلة – قد تكون من أهم العقبات – أمام الاصلاح الدينى وتطوير الدعوة .. أن تصوراتنا الخاطئة عن الدين عملت فى أنفسنا عكس ما تتطلبه الروح الصحيحة للدين .. فوطأة ثقل هذه التصورات هى التى بعدت بنا عن طاقاتنا الخلاقة والمبدعة وعن نبضنا الداخلى الحى .. والمغامرة الآن لتقبل مفاهيم صحيحة وصحية عن الدين هى مغامرة داخل النفس .. والصراع الآن هو صراع داخلى … ومن هنا فان لكل ابداع انسانى اصيل القدرة على تحريك الكيانات الداخلية للانسان وأثارة وتنشيط مستويات وعيه المختلفة ومن ثم اعادة تنظيمها وتعميق الرؤية له بالضرورة دور هام وأساسى فى اصلاح النفس وتهيئتها لتقبل المفاهيم الصحيحة عن الدين … أى أن الاصلاح الدينى لا يقتصر على من يهمهم الأمر مباشرة وانما مسئوليته تقع على عاتق كل محب للانسان له القدرة على أن  يبدع الوسيلة التى تجعله أكثر اقترابا من نفسه ومن ثم الكون المحيط وخالق النفس والكون …

ثانيا: التصوف:

بخصوص هذا الموضوع فان الكاتب يعرض المراحل والتطورات المختلفة التى مر بها التصوف .. ولقد اهتم الكاتب بعرض السلبيات وكيف أن هذا الفكر قد امتهن ونتج عنه تشويه ليس للتصوف كطريق وانما للدين الاسلامى ككل، ومن ناحية أخرى فان الكاتب لم يهتم بوضوح وصراحة بجوهر التصوف وكيفية الحفاظ عليه وتنميته، وكأنه يخاف الانزلاق فى الخوض فى ذلك الجانب قبل اتقان شكل متصل بالمضمون الحى للدين … وأحب هنا أن أورد بعض الخواطر حول هذا الموضوع ..

أولا: الدعوة الى العودة بالاسلام الى صورته الأولى النقية مع تطوير الدعوة حتى تتمشى مع الاحتياجات المتغيرة للعصور، والتى تبناها الكاتب بصورة واضحة فى كتابه، هى بالضرورة دعوة متضمنة احياء البعد الباطنى (أو الداخلى) للدين، وهو البعد الذى نبهت اليه واهتمت به الصوفية عندما رأت ما طرأ على الدين من نقص وتشويه نتيجة لاهمال هذا البعد.

ثانيا: الفهم السليم للدين الاسلامى، والممارسة الصحيحة له كما كان الحال فى عهد رسول الله وصحابته، ويشيران الى التكامل بين الشعائر الدينية والشريعة (أو ظاهر الحقيقة)، وبين البعد الروحى الداخلى (أو باطن الحقيقة)، والاهتمام بجانب على حساب الآخر يخل بالدين ويبعده عن صورته المكتملة.

ثالثا: عملية الاصلاح الدينى وتطوير الدعوة لمواجهة تحديات العصر لن تؤتى ثمارها فى التطوير مع الحفاظ على روح الاسلام وجوهره الا من خلال استيعاب ذلك البعد.

رابعا: أن الوسائل أو الطقوس التى لجأت اليها الطرق الصوفية يجب ألا ترفضها دعوة الاصلاح الدينى جملة وتفصيلا نتيجة لما طرأ عليها من تشويه وسوء استعمال، وانما يجب اعادة النظر فى الأسس التى بنيت عليها وأسبابها ودواعيها والهدف من ورائها، ثم وضعها فى الاطار الصحيح الذى يخدم الممارسة الدينية ويحقق الفائدة الأصلية من ورائها … فمثلا مبدأ “تحريك الجسم” عن طريق الحركات والطقوس وذلك كوسيلة لكسر اغترابه عن ما يسمى “بالعقل” هو من المبادئ الهامة التى تستعمل فى علاج أمراض النفس،  وتساعد على تحريك الطاقات والعواطف الكامنة، ومن ثم اقتراب الانسان من نفسه ..

أن الدين الاسلامى يهدف الى قمة تكامل الوجود البشرى، وهذا لن يتأتى الا من خلال تحريك كل طاقاته وامكانياته  وكياناته المتعددة، متضمنة بالضرورة ما بداخله من متناقضات، وبذلك كخطوة أولى لعمل ذلك التكامل الوجودى … والكثير من أقوال المتصوفة، والتى كانت تؤخذ عليهم، كانت نموذجا فريدا فى التوليف بين متناقضات الوجود البشرى بوعى عميق فائق… أن الخبرات الدينية الخاصة التى يمر بها الفرد الساعى فى علاقته بالله تعتبر من العوامل الهامة التى تقربه من جوهر نفسه، وتزيد من مساحة وعيه، وتساعده على الفهم الصحيح للدين، وتقوم علاقته بالحياة والناس …

اذن فالتصوف ليس مستقلا عن الدين وانما هو بعد أساسى وجوهرى للدين … يثرى الوجود البشرى ويجعل الممارسة الدينية علاقة حية ومتجددة بالكون وخالقه ..

ثالثا: تأملات فى حقيقة أولياء الله الصالحين

يفسر الكاتب ظاهرة أولياء الله الصالحين وتقديس العامة لهم، وانتشارها فى الدين الاسلامى بالرغم من بعدها عن جوهر الدين، بوجود حاجة نفسية لدى العامة الى المحسوس وصعوبة تقبلهم للمفهوم المجرد للرب، وبوجود حاجة نفسية أخرى الى الشفيع أو الوسيط … ويقول الكاتب أن الشعوب التى دخلت الاسلام أوجدت أساسا دينيا لاستمرار تمسكها بالمعتقدات القديمة، واعادت تفسير المعتقدات الوثنية فى اطار الاسلام، وبذلك احتفظت بمزاراتها القديمة وأماكنها المقدسة وتقاليدها المحلية.

ويقول الكاتب أن ثلاثة نفر من أعظم مفكرى الاسلام طرا وهم : ابن سينا، والغزالى، وابن خلدون قد ايدوا تقديس الأولياء .. وهذه المقولة تستحق التوقف والنظر والتساؤل عن العلة والسبب وراء هذا التأييد .. هل هو ادراكهم لمدى تأصل هذه الحاجة الى المحسوس فى تركيبة النفس البشرية وأن الحل لا يأتى عن طريق رفضها رفضا مطلقا وانما الحل يأتى عن طريق آخر؟ وهل عدم وضوح هذا الطريق الآخر عندهم هو الذى جعلهم يقبلون هذه الظاهرة ابتداء الى أن يأتى غيرهم بالحل الصحيح؟ هل كانوا يعطون الفرصة للزمن حتى تستطيع الأجيال المتعاقبة هضم واستيعاب المفاهيم الاسلامية الجديدة؟

كما أننا نتساءل: هل هذه الحاجة النفسية لها صور أخرى فى حياتنا المعاصرة وطريقة تفكيرنا حتى لو لم تعلن عن نفسها صراحة فى الاعتقاد وممارسة تقديس الأولياء والزارات؟ كيف يواجه الاصلاح الدينى أمثال هذه الظواهر وهى بهذا التشعب والرسوخ فى أعماق النفس البشرية؟

نحن فى حاجة الى المزيد من البحث والتعمق فيها وراء هذه الظاهرة، والنظر اليها ليس فقط نظرة مستعرضة ثم الحكم .. ولكنها تحتاج الى نظرة طولية ببعديها الفيلوجينى (تطور البشرية) والانتوجونى (تطور الانسان الفرد) وذلك حتى نستطيع وضع تصور لحل يهدف الى استيعابها فى الكيان البشرى لحسابه، وليس محاولة بترها على حساب ذلك الكيان ..

هذه بعض الخواطر التى أثارتها عندى بعض القضايا التى ناقشها الكتاب .. وهذا لا يعنى أنه أقتصر على تناول هذه القضايا فقط، فهو ملئ بالأفكار التى تستحق المناقشة، ولكننى اخترت من بينها ما ورد ذكره سابقا نظرا لعلاقته الشديدة بالطب النفسى الذى هو منطلقى الأساسى فى فهم ما فهمته والتساؤلات التى طرحتها.

[1] –  كتاب “دليل المسلم الحزين الى مقتضى السلوك فى القرن العشرين” من تأليف الاستاذ حسين أحمد أمين – بيروت: دار الشروق، 1983.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *