الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1984 / عدد يوليو 1984 : قصة قصيرة: اختطـاف

عدد يوليو 1984 : قصة قصيرة: اختطـاف

عدد يوليو 1984

قصة قصيرة

اختطـاف

رجب سعد السيد

تلاشت حدة المطر. قالت:

– “فرصة.. هيا بنا..”

كان يرقب التماع الأضواء فى دوائر الماء الصغيرة تحت الرصيف مباشرة. كانت ملامح وجهه وعادت تقول:

– “هل المطر هو السبب؟ ..تشاؤم لا محل له..”

أطلقت ضحكة صغيرة. فتح مظلة المطر السوداء الكبيرة. كان بخار الماء ينطلق مدخنا كثيفا من فمه وفتحتى أنفه. انطلقا تحت المظلة مبتعدين عن مخبأها. اشتدت الرياح قليلا تقذف وجهيهما – تحت المظلة – برذاذ المطر المتساقط. اشتد تمسكها بذراعه.. ضغطتها أكثر بين أعلى ذراعيها وثديها. رن صوتها فى أذنه مرحا:

– “لا أطيق تكشيرتكما معا. اما أنت وأما السماء!”

نطلق الكلمات كشئ زائد:

– “من أين يأتى الابتسام؟”

افلتت ذراعه من حضن أبطها. قفزت خارجه من تحت المظلة. واجهته بدلال محتجة:

– “هكذا؟”

بنفس النبرة التى تفقد الكلمات حياتها:

– “ليست لى موهبتك فى التجاوز!”

تجاهلت كلماته بشكل يشى بخبرتها به. انتقلت الى جانبه ثانية. أخذت ذراعه ومددتها فوق كتفها. صارت مندسة فى جنبه. مسحت برأسها أعلى كتفه وأسفل ذقنه. همست:

– “أحب رائحتك! سأحتفظ بها دوما فى ذاكرتى!”

اعتصرت قبضته نهاية ذراعها. قالت:

– “أنشد لى بعضا من أنشودة حب جدك القديم لجدتى القديمة!”

أطلقت حنجرته – على الفور – صوتا مشروخا ساخرا. خبطت صدره برأسها:

– “لا تدع دمك يثقل أكثر!.. قل ..

تحسس شعرها بخده. علقت شعرات من رأسها بشفتيه، وتشابكت عندما فتح فمه قليلا لتخرج كلماته الخامدة الأنفاس:

– “اكتشفت أنهما لم يكونا جدينا!”

– “ماذا؟.. وملامحى التى ينطبق عليها وصف جدك لجدتى؟!”

– “لم يكن جدى أنا على الأقل!

– “وأنا لا أرضى لجدتى بحبيب غير جدك!”

تركت ذراعه اليسرى كتفها. تمتم:

– “سأدخن سيجارة..”

حملت المظلة، بينما انشغلت يداه باستخراج السيجارة واشعالها. سأل:

– “أشعل لك واحدة..؟”

– “دخنت الليلة بما فيه الكفاية..”

قبضت كفه اليسرى على يد المظلة. انتقلت الى جانبه الأيمن. سارا صامتين.. كانت تحتض صدرها بذراعيها. فجأة، تساءل صوتها منغوما بالدلال:

– “هل تعرف أننى كنت الى وقت قريب رياضية عظيمة!”

فكت ذراعيها ودارت من خلفه منتقلة الى جانبه الأيسر. استطردت:

– “كنت بطلة قفز حواجز..”

أرجحت ذراعيها فى الهواء، وعلت نبرة صوتها من خلال ضحكة عصبية:

– “ولكنى أفشل دائما فى تخطى الحاجز الذى تقيمه أحيانا بينى وبينك، بصمتك الحجرى!”

نظرت الى جانب وجهه. كان مستمرا فى صمته، مثبتا عينيه فى فراغ الشارع الشبه مظلم. ارتعشت ملامح وجهها فى ابتسامة اشراق:

– “ومع ذلك أحبك. وأحبك أكثر وأنت صامت جامد كأبى الهول!”

توقفت عن السير. تقدم عنها ثلاث خطوات، فلما فطن الى توقفها توقف ينتظرها. أتته. وقفت أمامه تنظر فى عينيه:

– “أتعرف؟ أريد أن أقبلك الآن!”

انطلق على الفور معنفا:

– “كفى عن هذا الهذر السخيف!”

أرخى ذراعه. أقفل المظلة. استمرت فيما يشبه الضحكك

– “والأن. الليلة بالذات. تضيف قلة الذوق الى الصمت والاكتئاب!”

صاح فيها:

– “وماذا يفيد تفاؤلك الظاهرى الساذج؟!”

قذف بالسيجارة المشتعلة. وأصل كالمختنق:

– “مكتئب؟!.. نعم تعرفيننى منذ البداية. ولكنى ضيق النفس. لا أرى الا طريقا مجهولا يدفعنى الجميع الى السير فيه.. وحدى.. بعيدا عنك”.

صاحت أيضا:

– “يا حبيبى. درسنا كل شئ.. ورتبنا خطواتنا. ماذا تفيد الآن تثنيات جبهتك الغبية؟!”

وخطفت – فى منتصف السؤال – المظلة المقفلة من يده، وخبطت بها الهواء وهى تنهك سؤالها بصوت فيه رعشت البكاء. أخرجت منديلها وجففت بعض قطرات المطر على جبهتها، ثم خطين من الدموع تسللا فى صمت. لم يرها تجفف الدموع لأنه كان يهم بمواصلة السير، فلما سمعها تنشج بصوت خافت التفت اليها. فلما ارتفع صوت بكائها سارعت يداه الى كتفيها فتزايد وقع النشيج يهز جسمها. فلما احتواها حضنه كانت حدة البكاء قد وصلت ذروتها. ضغطها فى صدره، وارتفعت أصابع يده تعبث بمياه الدموع فى خديها وشفتيها.

فاجأهما الصوت الخشن:

– “لم يبق فى العالم رجال يجيدون معاملة السيدات!”

أحاط رأسها بذراعه. التفت إلى مصدر الصوت. رأى عربة تتهادى ورجلين يتعقبانهما. رفعت رأسها مستطلعة. أفلتها من حضنه. التفتت ورأت الرجلين. انكمشت إليه ثانية. استمر الثانى كأنما يهذى:

– “أما نحن، فمتخصصون فى هذا العمل ..”.

وواصل الأول أداء دوره:

– “لذلك قررنا إنقاذ هذا الحمل الوديع من هذا الجلف الشرس!”

صاح بهما وقد حوصراً بينهما:

– “ماذا تريدان؟”

ورأى ثالثا يخرج من العربة متلفتا. اقترب منه الأول مستخفا:

– “ألم تسمع ما قلناه؟ نريدها .. أتركها وأهرب”.

انتزع المظلة من يد صاحبته وهو بها على وجه الرجل فترنح ساقطا. تأهب الآخران للقتال. أسرع إليهما، خارجا من العربة التى توقفت رابع مشرعاً مديه. صرخت الفتاة انقض أحدهم فوقها. التفت لنجدتها. عاجلة آخر بضربة هراوة على رأسه من الخلف. تهاوى إلى الأرض. حمل اثنان الفتاة إلى العربة وقد أخرسها الرعب. أسرع ذو المدية إلى زميله الصريع يساعده على القيام. وقف مهتزاً يئن. سحبه ذو المدية من يده إلى العربة. توقف المصاب ينظر إلى غريمه ملقى على الأرض والمظلة فى قبضته. احتج واحد فى العربة:

– “أسرعا .. قد تمر عربة ..”

صاح الرجل الذى كان يتحسس الدماء فى جبهته:

– “سنأخذ ابن الكلب هذا معنا .. أريد أن أرى وجهه جيداً ..”

وجره وحده إلى العربة، وألقاه بداخلها.

* * *

كان الفزع يطل من عينى الفتاة وهى تحاول أن تتبين ملامح الوجوه الأربعة فى ظلام السيارة. انتفضت حين لمحت جسم رفيقها ممدداً إلى جانبها ورأسه ملقى إلى الخلف، غارقاً فى الظلام. انتبهت إلى الذراع القوية التى تحاصرها وتضغط جسمها. جاءها من جانبها صوت يتصنع الرقة:

– “اطمئنى .. أنه بخير”.

أضاف صوت خشن من الجانب الآخر:

– “للأسف ..”

تساءلت بصوت مرتعش:

– “ماذا فعلنا لكم؟”

أجابها صوت فى المقدمة:

– لا شىء ..”

– “إذن ..”

ولم تكمل . أخرسها هول الموقف مرة ثانية وأحست بعد جدوى تساؤلاتها. انهمرت دموعها. كانت تحاول أن تخنق صوت بكائها، غير أنه أفلت منها خافتا. فلم يعلق أحد، فلما ارتفع الصوت، صاح السائق :

– “كفى عنى هذا النجيب. لن يجديك شيئا”

ارتفع الصوت الرقيق بجانبها:

– “نحن لم نؤذك . وهو مسافر غدا. لم نؤذكم فى شىء!”

صاح صوت من المقدمة:

– “اغلقى فمك”.

استمرت تبكى متحدية:

– “دعونا . دعونا. لن اصمت. سأصرخ وأفضحكم”.

وأخذتها موجة بكاء هستيرية فاجأتهم. انتفضت فى محاولة للمقاومة فأثارت الاضطراب داخل السيارة المسرعة. تشبثت بها جاراها. لم تكف عن التملص بينهما. التفت الجالس السائق.. تمتم فى ضيق :

– “هذه اللبؤة .. هذه اللبؤة..!”

وارتفعت ذراعه وهوت كالمطرقة فوق وجهها، فخمدت مقاومتها. أشعل الرجال الأربعة السجائر وراحوا يدخنون. جلست الفتاة منكوشة، والدخان يملأ جو العربة. كانت تحاول التقاط علامات الطريق، ولكن العربة كانت تغوص فى بحر من الظلام. انتبهت إلى صوت غليظ:

– “لا أدرى كيف خبطنى هذا الثور؟”

ضج الآخرون ضحكا. قال السائق.

– “لم نأخذ حذرنا بما فيه الكفاية هذه المرة..”

مال جار الفتاة الأيمن بوجهه قرب وجهها.

– “مجرد إدعاء رجولة!”

قبل وجهها بصوت حاد. انتفضت مبتعدة. عاد يناوشها. صرخت حين قبضت كفه على ثديها. قهقه بجنون. نهره السائق:

– أصبر يا ابن المجنونة!”.

مرت فترة صمت. طال تخبط السيارة، ودخلها غبار كثيف بما يؤكد ابتعادها عن الطريق المعبدة. عاد السائق يقترح:

– ” لا أجد مبررا لوجود الرجل معنا . لنقذفه هنا”.

سارع الصوت الغليظ:

– “لا . لا. أنا أريده”.

نصحه السائق:

– “لا تكن أبله. سيفسد علينا متعتنا”.

ازداد إصرار طالب الثأر. ازدادت رجفة الفتاة، وكانت العربة تتهادى فى سرعة متناقصة وهى تقترب من بيت وحيد شاحب الملامح غارق فى الظلام.

* * *

– “هل مات ابن الكلب؟!”.

تساءل طالب الثأر متلهلفا. راح يفحص ضحيته ويتحسس مكان القلب مع زميله. كانت أنفاس الضحية تتردد ضعيفة خافتة لا تكاد تحس، وكانت رقبته وياقة قميصه ملوثتين بالدماء، والوجه شمعيا مرتعب السمات. أحضر طالب الثأر كوب ماء وزجاجة عطر وأخذ يبلل وجه ضحيته، بينما أخذ أحد زميليه يتحسس الرأس المجروح قال:

– “كان يجب أن نتخلص منه. جرحه غائر ونزف دما كثيراً”.

قال طالب الثأر:

– “لا تنح كالنساء. أنه قوى كثور. وسينهض الآن ..”.

–     وراح يهز ضحيته بعنف. أبعده زميلاه . صاح أحدهما:

– “كف عن هذا الهوس ! لا نريد أن نقلب التسلية إلى وجع دماغ!”

دخل السائق ساخطا. أطل على الجريح الممدد فوق أرض القاعة شبه العارية. تساءل:

– “ماذا جرى له. أخشى أن يموت . كانت دماؤه تغطى مقعد السيارة!”

قال أحدهم:

– “سأبحث عن ضمادات لنربط الجرح”.

وخرج. تلفت السائق، وتساءل فى دهشة:

– “أين الفتاة؟.

غمغم طالب الثأر:

– “ملقاة فى الحجرة المجاورة كقطعة قماش”

– “ماذا؟ هل حاولت؟”.

ضرب ذراعيه فى الهواء حانقا:

– “أفهم . أنهم لا تكاد تفيق حتى تصرخ وتتشنج”.

تراجع السائق إلى مقعده بالقرب من الجريح وهو يردد:

– “يا لهذه الليلة السوداء!”.

حاول ثالثهما فى الحجرة أن يتفكه:

– “الواقع أننا اختطفنا الليلة جثتين!”.

وضحك هو وحده . قطع السائق تأمله لوجه الشاب الجريح بملاحظة حادة جعلت الآخرين ومعهم رابعهم الذى دخل الحجرة فى نفس اللحظة يلتفتون إليه:

– “أعتقد أننى أعرفه!”.

وصمت قليلا، ثم راح يشد الاسم من ذاكراته:

–    “حضرة الضابط محيى!”

–    “ضابط!”

رددها بعده طالب الثأر فى شك وترقب. حاول الأخران أن يهونا الأمر على أنه مجرد تشابه فى الملامح.

–    “انتظروا!”

سارع الذى كان يقود العربة يفتش جيوب الضحية باهتمام مفاجئ.

أفرغ كل جيوب السترة. نثر الأوراق أمامه. انتقى البطاقة الشخصية والتقطها. نظر فيها وصاح:

–    “ليس مجرد تشابه. انه هو. الضابط محيى الدين سالم يوسف!!”.

عاد الثلاثة إلى احتمال أن يكون التشابه فى الأسماء أيضا. انصب هم طالب الثأر فى سؤال:

–   “أهو ضابط شرطة؟”

خطف أحدهم الأوراق الشخصية يتفحصها. صاح يؤكد:

–   “لا ضابط، ولا حتى جندى! المهنة : مهندس ! . .”

خبط طالب الثأر كتف السائق يعاتبه :

–   “أفزعتنى يا ملعون”.

وكان السائق يقلب جسم محيى . عرى كتفه الأيمن من جهة الظهر يواجههم ببرهانه القوى:

–  “انه هو. انظروا . دفعة (الف يكرز) فى الكتف الأيمن . حملته بنفسى إلى البر الغربى .. حملته بنفسى !”

تركه وانتفض واقفا . ابتعد منكسا رأسه ووقف أمام باب شرفة مغلق يردد كلمات غير واضحة. صاح طالب الثأر بصبر نافد:

–   “وماذا بعدى؟ حدث التعارف . . تشرفنا بمعرفة البطل والأن . ماذا نفعل؟”

كان أحدهم يلملم الأوراق المتناثرة. توقف قليلا محدقا فى واحدة:

– “معه تذكرة طائرة . . “

التفتوا إليه . أخذها طالب الثأر. وفتش صفحاتها:

– “فعلا . وصالحة .. للرياض.. غدا .. الثامنة مساء..”.

انكب الثلاثة على الأوراق يفتحصونها:

– “جواز سفر”.

– “وهذا عقد عمل. مهندس معمارى”.

– “مسكين! يجب أن نفعل شيئا”.

– “بدأت تنوح ويستقيظ ضميرك أنت أيضا!”.

– “أنه إصرارك على سحبه معنا. أنت السبب!”.

– “وهل كنت أعلم أنها ليلة وداع الحبيبة؟ ثم أننا كلنا اتفقنا على أخذ البنت!”.

وأضاف طالب الثأر مستنكرا:

– “أنت تتحدث عن قائد أول فصيلة فتحت ثغرة فى بارليف. أنت لا تعرفه . أنا أعرفه .. أنا أعرفه!”

فجأة، ملأ المكان صراخ هستيرى قادم من خارج القاعة . انتفضوا جميعا. تمتم أحدهم مهرولا إلى الخارج:

– “غافلتنا البنت وهربت”.

أسرع وراءه اثنان. بقى السائق راكما أمام المصاب يتحسس جرحه.

كان يتمتم وهو شبه ذاهل:

– “.. هل يمكن أن تكون أنت .. حقا ..؟”.

وكانت الدماء تغطى يديه .. وكانت دموعه تسيل. وكان الهدوء ذو الأغوار السحيقة يبتلع كل شىء.

****

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *