يوليو1983- شكة فى ابهامه

قصة قصيرة

شكة فى إبهامه

محمد فتحى عبد الفتاح

أقتحمه المشهد رغم المحاولات الكثيرة فى تفاديه.ككابوس داهمته صورتها. طلت الرأس فى البداية. بعدها اندفع الصدر فالوسط.تمدد الجسد العارى. الفخذان الأبيضان مفتوحان. عريهما يكتشف الاستدارة الآسرة عند بطنيهما.وهو. لماذا هو هكذا؟ جثة معرضة!

لماذا رغم اجهاد العمل فى صهد الفرن، طوال اليوم، ورغم انتهاء أصوات ما بعد التمام، والهدوء الذى لف السجن؟ لماذا لا يستطيع أن يغمض عينيه؟ لماذا الجسد العارى، وطوال الأيام الأخيرة، يصر، هكذا بلا استئذان، كطوفان. كسيل. كانهيار.  

يصر على مداهمته؟ لماذا يلح اليوم بالذات؟ أليعذبه؟ الأن باكر هو موعد زيارتها؟ الأنها ستأتى؟ آه لو يستطيع أن يخبرها، أو يأمرها، ألا تحضر معها شيئا. وأن تمتنع عن الاشتراك فى هذه اللعبة.. لو أمكنه حتى أن يرجوها، والأمر كذلك، ألا تحضر هذه المرة.وأن كان هناك بد، ألا تحضر. نعم وأبدا..

أيمكن أن تطيعه لو طلب منها ألا تأتى وأبدا؟ من يدرى؟ ربما وجدت فى ذلك فرصتها. ” بركة يا جامع. الحمد لله جاءت منه”. هل كان أحد ليصدق أن المعلم الأول سيفعلها؟! والمعلم الآخر حتى وهو سجين معه.

زميلا  زنزانة واحدة! هل يصدقها ويطمئن لمجرد كونهما أكلا معا، هو وهى، “عيش وملح”؟ لقد أكل مع المعلم أيضا! لكن هل يمكن أن تكون كالمعلم؟ لو لم تكن زوجته لصدق، ولنسته، وشبعت نسيانا، من زمان…

ألن تنساه، لمجرد كونها زوجته؟ ايمكن حقا أن تفعل ولم يكن وراء ما حدث من هدف الا اشباعها؟ أيمكن أن تنسى العشرة وضنى العشرة آمال وشوقى؟ بالقطع لا، والدليل على ذلك قاطع. فالمعلم تصرف منذ اليوم الأول وكأنه لم يعرفه ثانية واحدة. أما هى فالأيام تمضى، والشهور تدور، ولاتنسى. فى الزيارة، وكل زيارة، تأتى. أيمكن ألا تأتى باكر على الأقل؟ حتى لا تخطو بقدمها فى الخية المموهة! كى لا تطب وتقضم قطعة اللحم المسمومة. تماما مثلما حدث معه. أخذ على غرة وقضى الأمر…

أى مجنون هو حتى يفكر أن يطلب منها ألا تأتى؟ كيف وهى رابطته الوحيدة الباقية بالعالم؟ الأمل والمستقبل، أن كان هناك أمل أو مستقبل؟ كيف، والأهم، أنها الخيط الذى مازال يحفظ له اتزان دنياه؟ لو انقطع هذا الخيط “لتطربقت” وما كان هناك معنى للعشرة والزواج والنوم تحت سقف واحد. لابد أن تأتى فلا يمكن أن تكون حياته السابقة بكاملها عبثا. بكل قواه سيظل يقاوم. بالصبر. بالرجاء. بالذوق. بالانسانية. وحتى بكل بشاعة وقسوة الوحش الكامن فى كل ابن لآدم. نعم سيقاوم بوحشية، حتى تظل تجئ. لم يعرف هذه الوحشية من قبل. صحيح. لكن والأمر قد وصل إلى هذا المدى لابد أن ينجلى الصدأ، ليبقى نصلها- الوحشية- قاطعا..

ولماذا لم ينجل هذا النصل أذن فى تلك اللحظة، أو فى غيرها من اللحظات الكثيرة المفعمة بالاثم؟ لم ينجل النصل من قبل أبدا! ليكن. لم يلجأ إلى الوحشية، وحتى لم يحسها! ولو. لكن عليه الآن أن يستنفرها، فالموضوع أهم وأخطر حقيقة فى وجوده. أن تظل الدعامة الوحيدة التى ما زالت تحفظ عالمه من الانهيار قائمة. سيستخدمها حتى لا تكمتل الحلقة. الحلقة النذلة القاتلة التى شكلها المعلم والمحامى والمعلم الاخر، ليأتى التومارجى أخيرا ويشرع فى اكمالها. أين ذهبت هذه الوحشية ساعتها؟ لماذا لم تزمجر وتنفجر فى وجه مرتشى الدم المأجور فتنسفه؟ لا تنسفه وحده وأنما العصابة بأكملها. الشاويش والصول والمعلم والحلاق….

* * *

صاح  الصول بصوت متأنق هادئ، يحكى التمرس بالسلطة: ” نزل 25 من الدور الرابع ياعجوة. كل من سينزل من دور آخر مصيره التأديب”. ماهى إلا لحظة حتى تتابعت أصوات ” الدلاديل” من المساجين فجة مخنثة ” الحلاق مفيد ينزل..” يمطون فى ياء مفيد ويخطفون المقطع الأول من ينزل بسرعة “الدم يا مساجين دور4”. “مفيد والتللينى ينزلوا بالمكن علشان الدم..” ..

حين عرف أن البنك سيحضر اليوم لشراء الدم تمارض، حتى لا يذهب إلى عمله فى مخبز السجن. ضحى برغيفى العيش، الحصاد المقسوم ليوم العمل. ولما بدأت مراسم موكب بيع الدم تربص فى بهو الدور الثالث متلفتا حوله. تدافع مساجين الدور الرابع وكأنهم فى سباق جائزته الافراج.

 وحين حاذاه صفهم الطويل انسرب إليه. غمز للشاويش عجوة غمزة ألجمت حديث التأديب على لسانه. قرفص مع الجالسين فى بهو السجن كأنه فى حلم. مع بدء”الدلاديل” فى فزر رؤوسهم، بحجة أخراج من باعوا دمهم فى وقت قريب مضت يده تتحسس طاقيته. مع كل سجين أخرجوه من الجمع كانت أصابع يمناه تنفرط من حول بنصر يسراه، لتضغط الطاقية أكثر…

كالقدر، لايدرى من أين، امتدت يد أحدهم وعرت رأسه. وعزرائيل يجره إلى حيث يجلس الصول بالعرى يغطى جسده كله، تحسست اليد الخبيرة الشعر ببطء وتلذذ. أصابعه أطراف عقرب لئيم يتمادى فى “الحنجلة” بثقل وبرود، بعد أن احتل الاستسلام جسد ضحيته. أمعن الصول التشفى فى الكيان الهلع فهمس فى تأفف وازدراء: “شعرك قصير كأنك بعت دمك البارحة فقط..” صمت حتى لا يفسد حلما بيته شهرا كبيسا، عاناه الكل، ولم تشهد عتبة السجن خلاله بنك الدم مرة واحدة. نظر إلى الشاويش عجوة فاقترب من الصول وهمس فى أذنه… عاد يجلس القرفصاء والطاقية على رأسه. رغمها تعملق احساسه بالعرى، وتضخم العقرب اللزج الزرى يتربص به. داهمه جسد زوجته هى الأخرى عارية. عبثا ضاعت محاولته فى ستر عريهما وغرق فى الرعب والتوجس. اجتاحه طوفات الخوف، الذى صار ظلا يتابعه، حتى دون أن يدرى مصدرا له. فوقه خوف. وتحته خوف. يمينه ويساره.. خوف من السجان وخوف من الشاويش والصول والضابط. وأخيرا هذا الخوف الذى يزداد كلما اقترب مفيد الحلاق منه رأسا فرأسا…

تحسس البطيخة الحمراء الملتهبة: رأسه يسيل دمها بعد أن رمحت الماكينة الخشنة العوراء تأكل فى اللحم ” تحت الزيرو”، كما فى الشعر بلا تفرقة. بدأ يحسب من أصل الجنيه والبرايز الست، الثمن الذى سيتقاضاه ثمنا لدمه من البنك… يحسب ما ضاع مع الغمزات… نصف ريال أصبح بطيخا قانيا على طاولة الشاويش عجوة. ومثله أصبح “وينجز” يعدل رأس مفيد الحلاق ويرخى ضميره المتوتر بمغالطة اختلقها وتحمس لها. وريال.. ريال كامل لعلبة كبيرة يعفرها الصول الكهل وهو يجتر حلمه الأبدى بالدبابير المذهبة.

* * *

لو.. لو سارت الأمور لى ما يرام لما مر شهر آخر الا ولمع بنصره، مع الزيارة التالية لزوجته، بدبلة فضية. لو لم يكن التومارجى المرتشى القاتل لاشترى دبلتين، ولصخبت الدبلة تصيح جهارا نهارا أن هناك علاقة. أن هذه العلاقة كانت. وأنها ستبقى. لكن والتومارجى خارج طاقم السجن عليه ان ينتظر…

لكن أيمكن أن تظل زوجته هكذا كالشقة الخالية وسط خرابات مهجورة يعيش فيها وحوش، تتربص بلاعمل الا سن الأنياب، انتظارا لزلة قدم.. لابد من الاسراع بتعليق “يافطة” على بابها. دبلة تقول أن لها صاحب أنها مسكونة. وأن.. وان ماذا؟ زوج غير قادر على ثمن اللحم والخضر والفاكهة، ولا حتى الخبز! ليكن ساكن مع وقف التنفيذ، لكن ليمسك كل لعابه، والا فأى رابطة ستبقى له بهذه الدنيا. أى رابطة بقيت له بها حقا؟.

كور جسده ومد يده صوب طرف البرش غير عابئ بطوفان الشعر الذى هاجمه. كل شعرة لها شكة مثل أبرة التومارجى. مئات. آلاف. عشرات الألوف من الشكات النجسة المدنسة. عبرها ليتناول قطعة الخيط الميرى من تحت البرش. مضى يتفرس فيها، وكالعادة شدها بين أصابعه. طواها وبرمها مرات حتى اصبحت مثل شريط رفيع. لفه حول بنصر يسراه مرة وثانية. للحظة اجتاحته راحة عارمة، لما تبقى من الشريط ما يكفى لصنع عقدتين.

* * *

حين اطمأن الى أنه يجلس فى مستشفى السجن بدأ يعيد الحساب وهو فرح. رغم كل شئ سيتبقى ما يبتاع به الدبلتين. أفاق على التومارجى المأجور. أمسك عشماوى يده وشك ابهامه. أحس بالشكة تتحرك فى عروقه حتى نغزت قلبه. تعلق أمله ساعتها بشفتى التومارجى الحجريتين. لاح له من وراء الشفتين النابان المميزان لمصاص الدماء.

توقفت دقات قلبه، تماما وكما حدث ساعة النطق بالحكم. لما انفرجت الشفتان برز النابان القميئان وكان. لا لم يكن حكما بتأبيدة، فالتأبيدة على التأبيدة لا تعنى شيئا. بالاعدام جاء حكم دراكولا أشبه…

لم يسمع التومارجى يقول شيئا إلا أن عجوة لكزه فى غيظ “دمك طلع خفيف يا مضروب”. فى حقيقة الأمر لم يتحرك لسان عجوة. صاحت عيناه. لا لم تكن العينان. الجسد كله انتفض فى شراسة لص مخدوع “البطيخة طلعت قرعاء يا ابن الكلاب” ..

كانت الوسيلة الوحيدة، لكن من أين له بالعملة السائلة جواز المرور الخاص بمصاص الدماء، حتى لو كان قد أدرك ضرورتها. دراكولا وحده ليس شريكا فى السجن وبالتالى لابد أن يقبض مقدما…

* * *

ماء الجسد العارى أمامه بشدة ودخل التومارجى المشهد. الفخذان عاريان والتومارجى عار هو الآخر، كما ولدته أمه…

تذكر أنه يريد ملحا من المعلم-  زميله فى الزنزانة – فقام وأخذه . عاد ليتحسس اللفة المربوطة فى جانبه. مازالت دافئة دفء جسدها لحظات الرغبة. بقى فى المخبز حتى اللحظات الأخيرة. وضع قطعة العجين التى أعارها اياه درويش – زميله فى مخبز السجن – على نصيبه من العجين وسوى رغيفا كبيرا. سحب اللفة على فخذيه وفتحها ثم قلب الرغيف بين يديه فى ارتياح. ضخما مستديرا مثل قمر وردى اللون يطل فى ليلة حالكة الظلمة. وضع الملح فى اللفة وأغلقها. نعم سيأكلان معا “عيش وملح” من جديد .

من الفجر سيلبد فى شباك الزنزانة. سيرتفع صوت الراديو من بهو العنبر “قولوا لعين الشمس ما تحماشى”. سيراها حين تهل وهى تخطر على الطريق، فى ذيلها يتدحرج شوقى، وفى يده آمال. لن يبدأ منادى الزيارة فى قراءة الأسماء حتى يكون واقفا على باب العنبر. ستمر دقائق طقوس الزيارة بطيئة مرهقة. قراءة الأسماء، وإعادة القراءة، ثم أسماء الزيارة الخاصة. تسجيل الأسماء كلها على الباب. توقيع شاويش الزيارة باستلامها. خطواته الثقيلة اللامبالية بعد ذلك حتى مكان الزيارة.

* * *

انتفضت رعبا حين حدست ما وراء كلماته المرتبكة الكلمات التى هذى بها دون أن يفهم معناها أو يعيها هو نفسه: “ياعيبتى يا أبو شوقى”. جحظت عيناها بذعر انسانة تكتشف وهى نصف غائبة، وجسدها يلتصق بجسد رجلها.. سكينا حادا يتحرك صوب قلبها “أنا فلاحة يا أبو شوقى.. أنا فلاحة ولست بندرية.. الواحدة منا عايشة على أخلاصها.. لقد أكلنا معا عيش وملح.. عيش وملح يا أبو شوقى”.

“العيش والملح” قارب النجاة. المجأ الأخير. نعم فليس كل عيش وملح سواء. بالقطع يوجد ملح غير معطر بالاثم، وعيش يخاصم سم المفعول البطئ، بخلاف اللذين أكلهما مع المعلم…

نحى اللفة فى ركن واستدار على جانبه الآخر: لماذا لا يستطيع كبح عينيه؟ تلفان فى الزنزانة وتدوران، لتعودا وتتمهلا بالقرب من المعلم، تشمشمان حول الدبلة الذهبية التى تضوى، تحت أشعة القمر فى بنصره..

هذه المرة سيأكلان معا ومن جديد “عيش وملح”. سيتناول يدها بعد ذلك ويلف شريط الخيط على بنصر يسراها، ثم يمد لها يده. سيضمها الى صدره. بل سيأخذها، أمام الناس جميعا، فهى له. جزء منه. أنفاسها جنته، صهد جسدها دفؤه. تأوهاتها أكثر الحانه خصوصية. لحنه هو بالذات. هو وحده. ليس هناك قوة تستطيع أن تبعدها عنه. سيأخذها جلس الضابط أم مضى. وحدهما كانا أم وسط الآلاف….

هذه العلاقة وحدها بين كل العلاقات التى خذلته، كانت علاقة حقيقية. كانت وستبقى أبد الآبدين..

* * *

وهو يستدير ليهرب من رائحة الدخان الذى يلوث الزنزانة ويكتم أنفاسه أوقفه صوت المعلم: “لا داعى أن يعرفوا فى التفتيش أن الدجاج لى. سأفرغه وأعطيه لك لتوزيعه عليهم”.

انتصبت فى المشهد صورة المعلم القديم، الذى كان سببا فى دخوله السجن “خدمة توصل هذه الشنطة الى الاسكندرية” لم يكن يدرى ما فيها إلا أن الجزاء لما عاد كان مثيرا للشك. لكن اى شك والمعلم حاج لا يفته فرض، فوق أن احدا لم يسلم من خيره. أى شك وسط المولد الذى نصب فى البيت، ليدخله ما لا يدخل حتى فى الأعياد زفر. فاكهة…

“الشنطة بدلا من ارسالها مع غريب.. حتى فى الدين: الأقربون أولى بالمعروف”. الشك وبصورة ضبابية يتحول إلى فهم تقريبى. على الأقل فالحقيقة لاتحوى ماهو عادى. وحين تبدا النفس المراجعة يرتفع صخب الغواية مبتلعا همس التمنع. تتوالى الكلمات التى لا ترمى أرضا بقدر ما تفقد التوازن والتقدير. “ماالذى يغريك بالفقر وأبواب الجنة أمامك. توصيله تعود منها بلقمة حلوة وتعميرة حلال، تشحبها حتى صياح الديكة، وتملأ عينها، تماما، فلا تزوغ يمينا أو يسارا. أتراك تغوى الفقر وأكل الداتوراة. من  صدق أنك فلاح صحيح”. وقبل وبعد كل شئ زوجته التى لم يحسها أسعد ولا أكثر حيوية منها فى تلك الأيام….

كانت تأكل بشراهة، وهو أيضا.. الفراخ والكباب والفاكهة. ثم يتمطى الجسد رافعا الحوض طالبا دون مواربة. والتعميرة تشحنه بطاقة ألف ثور…

هكذا ولا يتحول الفهم التقريبى إلى يقين إلا أنت فى منتصف الطريق.. وراءك غابة تغص بوحوش بشرية تتربص بك. تقف ورءاك بخطوة دائما. لا. لاتقف.. تتحرك دافعة أياك على الدوام. ورغم جهنم المفتوحة أمامك عن حالق لا ترحمك أطراف السناكى المغروزة فى ظهرك: خف ولا تنظر خلفك. لا تراجع فأنت تعرف سرنا، وسرنا يجب أن يظل سرا. أما أن تكون معنا فى أول مكان مرشح للغوص عند غرق سفينتنا، أن انكشف السر، والا.. ذلك لأن سرنا لابد وأن يظل سرا…

* * *

“ماعليك الا تكرار ما أقول وأنا أعرف كيف أخرجك من القضية بعد ذلك.الأول ضرورى أبعاد المعلم عنها لأنه سوابق ووجوده سيعقد القضية. سيطربقها على رأسكما معا” .

ولا يتورع المحامى المأجور عن شئ فى سبيل تنفيذ مؤامرته ” بعد خروج المعلم تتحول القضية إلى لعبة. كل واحد وله دية. يتصرف المعلم فى قرشين والموضوع يتصفى “.

“طبعا حتى رجوعك الجماعة فى عيوننا”.

***

المشهد أمامه يتسع وعلى أرض الزنزانة الفخذان يبتعدان أكثر، الوسط يتمطى ليرفع الحوض أعلى، يصرخ الجسد رغبة. الممرض والمعلم والمحامى عراة…..

يحاول الافلات من المشهد ورائحة الدخان الملوث بالغيبوبة تخنقه.

كلمات المعلم لثالث الزنزانة تعود إليه أسياخا ذهبية محماة تنغز عيونة وقلبه وكيانه. ” الورد لا يعد رائحته حتى فى السجن. الرجل يظل رجلا رغم التأبيدة. أما أنت أقطع ذراعى أن لم تكن دائرة على حل شعرها،فوق بهدلة المحاكم”.

هل يطمئن لمجرد كون زوجته فلاحة بنت فلاحة. هو الآخر لم يكن بندريا لكنه طاوعهم وأصبح.. لا لم يطاو… وهل كان بمقدوره حتى لو طاوعهم؟ لقد ظل فلاحا ابن فلاح ورغم ذلك طب.  أيكون لذلك وبالذات قد طب؟ هل اختلف الأمر لو كان بندريا؟ أكان يصدق ساعتها المحامى المأجور ويكرر ما لقنه اياه؟.

* * *

خرج المعلم فى البداية ولبس هو القضية. والحديث عن الصاقها بالبوليس كأن لم يكن. والكلام عن الجماعة فص ملح وذاب. والمعلم رفيق الزنزانة فارس آخر يتقدم كما المنقذ.. “لوكانت الظروف مستريحة حبتين بشرفى كان وهى فى بيتها أميرة 24قيراط. أنما أنت عارف البئر وغطاه”.

نعم. نعم يعرف البئر الغميق كاليم وغطاءه الواهى كالشرك، الذى يناديه ليطب فيه كالدبة. دائما هذه الانما. نعم يعرف ولم يعد الساذج الذى كان. يعرف أن المعلم معلم حتى لو أخذ تأبيدة.

“تعرف أن جماعتى لا يستطيعون زيارتى أكثر من مرة كل شهر. لو أردت يمكنها أن تحضر لى طعاما من بيتنا، كلما استحقت لك الزيارة. والأفضل زيتنا فى دقيقنا، هى أولى من غيرها. بدلا من تأخير زيارة من أقرباء سجين آخر. فرصة تطمئن أنت عليها… وما يتطلبه الستر مقدور عليه. أيحتاج ابن آدم لأكثر من لقمة عيش وحتة هدمة”.

 ومع الزمن فاحت رائحة الفارق بين الأكل الذى تحضره زوجته للمعلم وبين ما تحضره زوجة المعلم ذاته فى زياراتها. يشهد على ذلك هواء الزنزانة الملوث بالغيبوبة. وقطعا زوجته  “قطة عمياء” لا تفهم شيئا.

 لو يستطيع أن يخبرها أن تمتنع عن الاشتراك فى هذه اللعبة، وألا تحضر شيئا، أو حتى ألا تحضر وأبدا: لكن تماما ومثلما حدث معه. أخذت على غرة وقضى الأمر. ضاعت اللحظة الحاسمة، حين كان بالوسع الامتناع. ابن آدم بكامل رغبته يمد ساقه ليضعوا قدمه فى الخية ويحكموا الوثاق، وعن طيب خاطر منه.. عن رضا.. أيمكن أن يكون عن رضا حقا ما يجرى دون علم أبن آدم وهو يخطو بلا خوانة؟ أيمكن أن يعيش الانسان وهو ينتظر خوانة فى كل خطوة ومن كل اتجاه؟.

آه لو كان كان ابن آدم يرى ويعى كل شئ منذ اللحظة الأولى التى أمتد فيها الأيدى تجاهه بالشرك. بالخية المموهة. بقطعة اللحم المسمومة.لو. ربما استطاع أن يقول. بالتأكيد لقال “لا” وبأعلى ما يستطيع. أما وقد أخذ على غرة وسلبت بكارته، بعد أن سرى الخدر فى جسده أما والخية محكمة حول قدمه، أيا كان طول الحبل المربوط فيها. أما وهو فى منتصف الطريق يعرف السر الذى يجب أن يظل سرا. أما والأحلام الصغيرة: الكباب والتعميرة، لزوم ملاحقة وتغطية فضيحة الفخذين المفتوحين.. فعليه أن يغمض عينيه عما امامه، وألا يتلفت الى الخلف أبدا…

* * *

نعم لن يتركها لتفاجئ بنفسها وسط الغابة ينهشها الجميع. بأقصى ما يستطيع سيضمها. سيضمها ليذوبا معا وينقذها. سيدفس راسه فى صدرها ويتنسم سخونة ويبكى.. نعم سيبكى.

قطع المعلم صمت الزنزانة مرة أخرى “لا تنسى يجب ألا يفهموا أن لى شيئا،للأسف لم يوافقوا أن تلقاها فى حجرة الضابط”.

* * *

كيف خال له، حتى للحظة، أنه يعرف البئر وغطاءه. المجرد كونه طب فى تأبيدة يكون قد عرف؟ كم كان ساذجا حين خال له ذلك. كيف يعرف هو الفلاح ابن الفلاح هذه الحيل السحرية التى تتجدد وتتبدل كل دقيقة؟ هل اختلف الأمر حقيقة لو كان بندريا؟ قرويا أو بندريا لا يعنى الأمر شيئا المهم أنه كان وما زال ذلك الغر الذى لا يفهم. مازال وسيظل سيعيش ويموت.فأى حيلة تساعده أمام هذه العصابة الأخطبوطية المتحكمة، التى لا تعدم مندوبا حتى فى السجن، يرمى له الطعم ليبتلعه..

حين فاحت رائحة ما تقوم به زوجته أغواه المعلم “بوساطة” عند الضابط، حتى يلتقى بها وجها لوجه، كما يفعل أصحاب الزيارات الخاصة. “سيخرج الضابط بعد لحظات ويترككما على انفراد لتفعلا ما تريدانه”.

رشوة صغيرة ألجمت انفعالته، وخالت اللعبة عليه، وشلت “لا” على لسانه. والآن! عليه أن يصمت فقد فات أوانها. نعم يصمت ويرضخ أو حتى يموت فزوجته آتية لو تواصل نباحه إلى الصباح، بأن ما تحمله ليس له…

أى ساذج كان طوال هذا الشهر. الفلاح ابن الفلاح الذى يطاوع خياله ويتصور كلا من آمال وشوقى فى “حجرة” يهدهدهما ويقبلهما. يضحك ويحاول أن يضمهما فيجاهدان للابتعاد. لكنه رغم ذلك يقربهما ويضمهما ويقهقه ليخربشاه فى وجهه….

فى احيان كثيرة فكر فى أن يستذكى. يتقبل الرشوة ليسحب القدم الجديدة من الخية الملفوفة حولها. يسحبها بهدوء وحتى لا تجد نفسها “متشنكلة” وسط قصابين شمر كل منهم عن نابه المسنون.

هل يمكن أن يكون قد فكر فى.. فى أن يكون ذلك وسيلة لضمان سر ما تحمله زوجته وهو يتناوله منها بعيدا عن التفتيش، هذه المرة والمرات القادمة، حتى يطول حبل الخية إلى ما لا نهاية، وكأنه لا خية بالمرة.. وحتى يدخل شوقى وآمال المدارس ويتعلما، ليبتعدا عن عالم الرشاوى الصغيرة المهلكة؟ هل صحيح يمكن أن يتم ذلك، لتصبح آمال طبيبة ويصبح شوقى محاميا أو ضابطا.. محاميا “بحق وحقيق” لا مثل المحامى الذى غافله واغلق الخية على قدمه بقفل دون احكامه كل الأقفال..

لا.. لا يمكن أن يكون قد فكر فى أن يترك زوجته تدور مثل الثور المغمى لا تفهم شيئا، حتى تجد نفسها وسط القصابين. حقا لم يفكر. لكن أيعقبه ذلك من أن يقول الآن نعم؟ نعم كبيرة هائلة، حروفها حادة مسنونة جارحة، على شكل طوق محيطه مرشوق بالسكاكين والنيران، يتعين عليها أن تمرق عبر حلقته لقاء ملاليم ” لقمة العيش وحتة الهدمة”..

“لا بأس من تحمل شهر آخر. ولن ننفض يدنا من المحاولة. نكررها بما ستأتى به فى الزيارة، وربنا يسهل، يهديه وتقابلها فى حجرته”.

“شهر آخر”. “تقابلها فى حجرته” وكيف اذن سيقابلها غدا؟.

فجأة داهمته “غاغة” الزيارة.. أى لوثة اصابته فجعل يفكر بأنه سيحتضنها، حتى يحس أنه جزء منها وأنها جزء منه.. بأنهما سيأكلان معا، مرة أخرى، “عيش وملح”. أو أنه سيؤمن ما أحضرته من متفجرات بعيدا عن التفتيش حتى لا تنسفها وتنسفه آمال وشوقى، أو أنه سيلف على بنصرها……

اخذ سور الزيارة يزداد ارتفاعا وعرضا وعمقا، وطفق يشف رويدا، كاشفا عن جسدها ممدا خلفه. سحلوها من الخية التى وضعت قدمها فيها بلا خوانة.. السور لا يكف عن الارتفاع ويتزايد سمكا وشفافية بلا انقطاع، والوحوش تدور حول الجسد فى سعار..

 الشاويش يمزق صدر الثوب ليكشف اتصال الثدى بالابط. يتقدم الضابط ويغرز راسه هناك. الحلمات تنزف بين أسنان التومارجى دماء قانية.. المعلم القديم.. المعلم الجديد. السجان. الحلاق. المحامى. الزوار. المزارون. كلهم عراة يتحلقون حول المشهد من بعيد… دائرة هائلة تصرخ وتهلل فى جنون، والجسد القروى عار وسطهم. بتألم يئن. يموء. تلهث أنفاسه وتضطرب. تتهدل جفونه وترتخى عضلاته. زوايا الساقين وألأنف والفم فيه لا تكف عن الارتعاش………….

القناطر الخيرية – أبريل 1967

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *