الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1984 / عدد يوليو1984 التفكير وجود‏ ‏دينامى‏ ‏هادف‏ ‏خلاق

عدد يوليو1984 التفكير وجود‏ ‏دينامى‏ ‏هادف‏ ‏خلاق

 

عدد يوليو1984

التفكير وجود‏ ‏دينامى‏ ‏هادف‏ ‏خلاق

د. يسرية‏ ‏أمين

ما‏ ‏هو‏ ‏التفكير؟

لقد‏ ‏حير‏ ‏ذلك‏ ‏السؤال‏ ‏العديد‏ ‏من‏ ‏العلماء‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏شتى‏, ‏وعلى ‏الأخص‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏الفلسفة‏ ‏وعلم‏ ‏النفس‏، ‏ويبقى ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏حتى ‏الآن‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏الحصول‏ ‏على ‏اجابة‏ ‏واضحة‏ ‏فمازال‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏معروف‏ ‏بالنسبة‏ ‏لجوهر‏ ‏التفكير‏ ‏قليل‏ ‏بالنسبة‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏غير‏ ‏معروف‏ ‏ولما‏ ‏كانت‏ ‏ظاهرة‏ ‏التفكير‏ ‏مازال‏ ‏يحيط‏ ‏بها‏ ‏الغموض‏ ‏فآن‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏تحاول‏ ‏آن‏ ‏تلقى ‏بعض‏ ‏الضوء‏ ‏على ‏بعض‏ ‏آوجهها‏ ‏الهامة‏ ‏فهى ‏محاولة‏ ‏لتعريف‏ ‏التفكير‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏تكامله‏ ‏فى ‏وجود‏ ‏الانسان‏ ‏التميز‏ ‏عن‏ ‏الكائنات‏ ‏الحية‏ ‏الأخري‏.‏

منذ‏ ‏قديم‏ ‏الزمان‏ ‏وصف‏ ‏هويز‏ ‏التفكير‏ – ‏كما‏ ‏أورد‏ ‏مولر‏ Muller  1887 – ‏فى ‏صورة‏ ‏مبسطة‏ ‏على ‏أنه‏ ‏عبارة‏ ‏عن‏ ‏عملية‏ ‏جمع‏ ‏وطرح‏، ‏وبتتبع‏ ‏هو‏ ‏ديوى (Dewey 1920) ‏ يشير‏ ‏الى ‏آن‏ ‏التفكير‏ ‏فى ‏شيء‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏الا‏ ‏الوعى ‏به‏ ‏بطريقة‏ ‏معينة‏، ‏فنحن‏ ‏نفكر‏ ‏فى ‏شيء‏ ‏بحيث‏ ‏لا‏ ‏نراه‏ ‏ولا‏ ‏نحسه‏ ‏بطريقة‏ ‏مباشرة‏، ‏هكذا‏ ‏فهو‏ ‏يؤكد‏ ‏على ‏أن‏ ‏مجال‏ ‏التفكير‏ ‏هو‏ ‏مجال‏ ‏مختلف‏ ‏عن‏ ‏الموجودات‏ ‏التى ‏تثير‏ ‏الحواس‏ ‏آما‏ ‏جانيه‏ (Janet 1926) ‏فيستطرد‏ ‏فى ‏ذات‏ ‏المعنى ‏فيؤكد‏ ‏على ‏أنه‏ ‏سلوك‏ ‏داخلى ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يتولد‏ ‏فقط‏ ‏من‏ ‏المثيرات‏ ‏الخارجية‏، ‏وأنه‏ ‏لا‏ ‏يؤدى ‏الى ‏حركة‏ ‏مرئية‏، ‏فهو‏ ‏يحدث‏ ‏فى ‏داخل‏ ‏الفرد‏ ‏بصورة‏ ‏خفية‏ ‏ومازال‏ ‏هذا‏ ‏الجانب‏ ‏بارزا‏ ‏فى ‏كتابات‏ ‏بعض‏ ‏الكتاب‏ ‏المعاصرين‏ ‏من‏ ‏أمثال‏ ‏أوبنهيمر‏ (Oppenheimer 1971) ‏حيث‏ ‏يؤكد‏ ‏على ‏أن‏ ‘‏التفكير‏ ‏السوى ‏لا‏ ‏يسمع‏ ‏ولا‏ ‏يرى”.‏

ولكن‏ ‏على ‏النقيض‏ ‏من‏ ‏ديوى ‏وجانيه‏ ‏وأوبنهيمر‏ ‏الذين‏ ‏يبرزون‏ ‏فى ‏ظاهرة‏ ‏التفكير‏ ‏كونه‏ ‏نشاطا‏ ‏داخليا‏، ‏فهناك‏ ‏جمع‏ ‏من‏ ‏الكتاب‏ ‏يعرفون‏ ‏التفكير‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏نتائجه‏ ‏الظاهرية‏ ‏فى ‏السلوك‏، ‏تلك‏ ‏التى ‏تؤدى ‏الى ‏حل‏ ‏المشكلات‏ ‏والاستنتاج‏ ‏أو‏ ‏تكوين‏ ‏المفهوم‏ ‏أو‏ ‏الخلق‏، ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏من‏ ‏معنى ‏ظاهرى – ‏الا‏ ‏أننا‏ ‏اذا‏ ‏دققنا‏ ‏فى ‏تفاصيله‏ ‏نجد‏ ‏أنه‏ ‏يتضمن‏ ‏بالقدر‏ ‏الأكبر‏ ‏نشاطا‏ ‏عقليا‏ ‏داخليا‏ ‏مثله‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏مثل‏ ‏التعريفات‏ ‏السابقة‏.‏

وهناك‏ ‏محاولات‏ ‏لتقديم‏ ‏التفكير‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تصنيفه‏ ‏الى ‏أنواع‏ ‏مختلفة‏ ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏ديوى (Dewey 1925) ‏يستقطب‏ ‏بين‏ ‏تسلسلل‏ ‏الأفكار‏ ‏غير‏ ‏المقيد‏ ‏فى ‏رؤوسنا‏، ‏وبين‏ ‏التفكير‏ ‏التأملى ‏الذى ‏يتحسس‏ ‏طريقة‏ ‏دائما‏ ‏بالاتجاه‏ ‏نحو‏ ‏هدف‏ ‏معين‏، ‏فان‏ ‏كلا‏ ‏منهما‏ ‏يقع‏ ‏على ‏أحد‏ ‏طرفى ‏سلسلة‏ ‏متصلة‏ ‏من‏ ‏أنواع‏ ‏التفكير‏ ‏تختلف‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏درجة‏ ‏التوجيه‏ ‏اللذان‏ ‏يؤديهما‏ ‏العقل‏ ‏على ‏قطار‏ ‏الأفكار‏. ‏هذا‏ ‏بالاضافة‏ ‏الى ‏أنه‏ ‏من‏ ‏ذات‏ ‏المنطلق‏ ‏يورد‏ ‏هاملتون‏ (Hamilton 1978) ‏ثلاثة‏ ‏أنواع‏ ‏للتفكير‏ ‏هى 1- ‏الخيال‏ ‏غير‏ ‏المقيد‏، 2- ‏التفكير‏ ‏التصورى ‏أو‏ ‏الخيالى‏، 3- ‏التفكير‏ ‏العقلى ‏المنوال‏، ‏فيقسم‏ ‏التفكير‏ ‏الى ‏نوعين‏: ‏التفكير‏ ‏الموجه‏ ‏والتفكير‏ ‏غير‏ ‏الموجه‏، ‏فأما‏ ‏النوع‏ ‏الأول‏ ‏فيحتوى ‏علي‏: 1- ‏التداعيات‏ ‏الحرة‏، 2- ‏التداعيات‏  ‏المقيدة‏، 3- ‏أحلام‏ ‏اليقظة‏، 4- ‏الأحلام‏ ‏العادية‏، 5- ‏والتفكير‏ ‏الذاتوي‏. ‏أما‏ ‏النوع‏ ‏الثانى ‏فيتضمن‏: 1- ‏التفكير‏ ‏النقدى ‏و‏ 2- ‏التفكير‏ ‏الخلقى‏. ‏

ويبدو‏ ‏أن‏ ‏منظور‏ ‏تعريف‏ ‏التفكير‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تصنيفه‏ ‏قد‏ ‏يضفى ‏بعض‏ ‏التنظيم‏ ‏على ‏ظاهرة‏ ‏التفكير‏ ‏المعقدة‏ ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يضيف‏ ‏شيئا‏ ‏جوهريا‏ ‏بالنسبة‏ ‏لتفسير‏ ‏التفكير‏، ‏أن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يقتصر‏ ‏على ‏وصف‏ ‏الظاهرة‏ ‏وصفا‏ ‏شكليا‏.‏

ما‏ ‏هى ‏وظيفة‏ ‏التفكير؟

لما‏ ‏كانت‏ ‏دراسة‏ ‏التفكير‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الوظيفة‏ ‏التى ‏يؤديها‏ ‏فى ‏وجود‏ ‏الانسان‏ ‏تنقلنا‏ ‏الى ‏مجال‏ ‏ملموس فى حياتنا اليومية، كان لزاما أن نقف طويلا عند هذه النقطة من الدراسة لعلها تعوض لنا القصور فى تعريفات التفكير. ففى هذا المجال نجد أن العديد من الكتاب مثل همفرى (Humphrey 1952) وديوى (Dewey 1925) يطابقون بين التفكير وعملية حل المشكلات ويبدو أن قصر التفكير على هذا المفهوم قد يكون خطيرا: من حيث أنه يضيق من حدود ظاهرة التفكير – كنشاط معقد – بطريقة غير ملائمة ويبسطها بطريقة مفرطة مما قد يفقد هذه الظاهرة قيمتها الواسعة والممتدة فى وجود الانسان، ومن أجل توضيح أبعاد ظاهرة التفكير عند الانسان لابد أن نقف هنا ونتساءل: هل التفكير بين الكائنات الحية مقصور على الانسان؟ لقد وجد أن عملية استعمال الرمز فى التفكير لا يقتصر على الانسان، بل أن أشكالا أولية أو بدائية من النشاط الفكرى الرمزى يظهر عند بعض الحيوانات وتلك الظاهرة البدائية تبدأ على السلم التطورى مثلها فى ذلك مثل رد الفعل المنعكس الشرطى. فاذا كان التفكير يعنى التفاعل مع المشكلة فى صورة شرطية بحيث أن كل نوع من المشاكل يؤدى الى ظهور حل معين لها بصورة متكررة فان هذا النوع من التفكير عند الانسان لا يكون تفكيرا بالمعنى الحقيقى، وهذا النوع من التفكير يظهر عند بعض الانواع الأولية من الحيوانات كما أنه يحدث فى جهاز الكمبيوتر، ولكن ربما بصورة أكثر آلية عن ذلك الذى يحدث فى الحيوان، ولكن ما هو الفرق اذا؟

أن ما يبدو مميزا للنشاط العقلى عند الانسان كما يصفه مايرMeyer كما ورد عن سولفيانSullivan  1925 – هو أن الانسان” يعايش”(أو يختبر) التفكير، بشكل أو آخر، فى صورة نشاط واعى، كما يشير ماير فى ذات الدراسة الى الأثر الثورى الذى أحدثه ظهور الرمز على التطور الفيلوجينى للانسان فيكتب” أن هذا التطور البيولوجى( يعنى استعمال الرمز) يتضمن الظاهرة الفريدة التى منها نستخلص وجود الفرد الفاعل كذات… فيصبح هكذا أنا (بالنسبة لنفسه)… وبالنسبة للآخرين هو او هى أو أنت.. فهو بدلا من أن يعمل مثل المكنة بصورة آلية فى شكل ردود فعل عكسية، يصبح الفرد قادر على تحقيق نفسه كذات..) ويبدو أن الهيكل الوظيفى للتفكير هو الأساس الذى ينبع منه وعى الانسان بذاته ووعيه بالعالم وبالآخرين. وأنه ليبدو أن الانسان لكى يتحول مماهو مادى الى ما هو انسان مارا بالحيوان كان لابد من وجود هذا الوسط الذى يربط بين الاثنين أى بين المجال المادى والمجال المعنوى ولقد تطرق بعض الكتاب للنقطة الأولى فهذا هو أريتى (Ariei،(1974 يؤكد على ظاهرة تفرق بين الانسان والحيوان بالنسبة للنشاط الرمزى، وهو ما اسماه أريتى” بالحقيقة الداخلية” أو” الحقيقة النفسية” ويعبر فيرش(1965 Wyrsch) عن ذات الفكرة فيقول أن كل انسان له عالم خاص به وليس فقط العالم الذى يحيط بنا مثله فى ذلك مثل الحيوانات، ويضيف فيرش فى وصفه لهذا العالم قائلا: ان ذلك العالم ليس صورة موضوعية للعالم الخارجى كما هو الحال بالنسبة للعلم الموضوعى وأنما هو رسم تخطيطى غير مطابق تماما للعالم الخارجى، وبوجود هذا العالم صار لزاما على الانسان أن يعايش هذا العالم الداخلى بالاضافة بالطبع للعالم الخارجى، وهكذا أصبح الانسان يتفاعل مع هذه الثنائية، فكان الاحساس بأنه وحيد وغير وحيد، وانه منفصل وغير منفصل، كما صار تكامل الانسان يدعو ويؤكد على ضرورة وجود محاولة للتقريب والتوفيق بين هذين العالمين. ويشير اريتى(1974 Arieti)  ” أن التجربة (بمعنى معايشة) هذا العالم الداخلى تصبح الوسيلة لادراك العالم الخارجى” ويصف كيوبى(1953 Kubie) ذات الفكرة بطريقة مشابهة لأريتى فيقول” العملية الرمزية.. هى فى حد ذاتها بمثابة القنطرة التى تربط بين العالم الداخلى والعالم الخارجى”. وهكذا يبدو أن العملية الرمزية قد مكنت الانسان من بناء عالم داخلى وأن ذلك العالم هو حجر زاوية فى تعامل الفن كذات مع العالم الخارجى، أو الواقع، وبالطبع يصبح متوقعا ومحتملا بل وقائما الا يتفاعل الانسان مع الواقع بصورة آلية وأنما هو ذات حرة تحقق ذاتها من خلال هذا العالم الداخلى، فتتفاعل(بمعنى الاضطراب) فتختار فتخطط و تفعل وتغير وتخلق، وهنا لا يمكن أن يكون التفكير مقصورا على حل المشكلات فى صورة مبسطة، وأنما يكون التفكير” معايشة” بما يحمل هذا المعنى من حركة واضطراب وفعل.

واستكمالا لأثر ظهور النشاط الرمزى على التطور الأنتوجينى(الفردى) للانسان: فأننا نجد أن كيوبى يشير الى أن العملية الرمزية هى بمثابة القنطرة بين ما هو” أنا” وماهو” ليس أنا” وأن هذه الاشارة تؤكد أهمية النشاط الرمزى كوسيلة لاستقطاب ما هو ذاتى self وماهو غير ذاتىnon-self  ويوضح فيجوتسكى(1943Vigotsky) أهمية ظهور التفكير المفاهيمىconceptual thinking  فى فترة المراهقة، وأنه يؤدى الى تحديد البناء الدينامى للشخصية، م حيث تحديد نوعية الوعى بالذات …. وبالعالم المحيط بالفرد – ولكن: مم يتكون هذا البناء الداخلى؟

لقد تناول الكثير من الكتاب هذا البناء الوظيفى على أنه يتكون من بناءات اختلفوا فى تسميتها: بين رموز، ومفاهيم، وأفكار، ولكنهم اجمعوا على أنها بعيدة عن أن تكون استاتيكية، فهى فى حركة دائمة، اذ هى – كما وصفها سبيرمان ( spearman1923) تتحول من رموز ذات مستوى تجريدى أدنى: الى رموز ذات مستوى تجريدى أعلى، وهكذا كان لزاما وجود نوعين من البناءات فى كل مجموعة من الرموز السابق ذكرهما، وهى البناءات المكونة للذاكرة الثابتة نسبيا  mnesic series وتلك التى تمثل مراحل انتقالية، وهكذا، فأن التفكير لا يصبح قاصرا علىاكتساب وبناء مفاهيم أو رموز جديدة انما يتضمن تربية وتطوير ما نملك من ذخيرة المفاهيم وهكذا نعود فنؤكد على أن التفكير يعنى وجود حركة، دائمة، خلاقة وقد تناول الكثير من الكتاب مراحل تكوين هذا البناء ، أو بلغة أخرى مراحل تطور ونمو التفكير، وهنا يصح أن نسأل أنفسنا ما علاقة هذا الموضوع بتوضيح فكرة أن التفكير هو نوع من ايجاد علاقة متوازية ومتقابلة بين العالم الداخلى والعالم الخارجى؟ ونجيب فنقول ان عملية تكوين الرموز والمفاهيم ابتداء من العالم الخارجى انما تشير الى ان العلاقة بين العالم الداخلى والعالم الخارجى فى التفكير لا تقتصر فقط على النشاط الوظيفى للتفكير وانما تبدو بصورة واضحة فى مراحل نمو التفكير، وسوف نكتفى هنا بعرض فكرة بياجيه لقدرتها على ابراز هذه الظاهرة فأن بياجيه (Piaget 1926، 1929، 1930، 1948، 1952، 1954)، يؤكد على أن عملية التمييز التدريجية للجهاز العقلى، والتى تأتى عن طريق تكون بناءات داخلية جديدة تتضمن احتكاكا فعليا مع الواقع، ينتج عنه نوع جديد من التمثل assimilation والتوفيق accommodation ولكن ماذا يعنى “بياجيه” بهذين المفهومين؟ أما بالنسبة لمفهوم “التمثل” فيشير بياجيه الى أن أن (صدام معرفى) مع موضوع أو حدث يقع فى محيط الفرد: لابد وأن يتضمن نوعاً من البناء المعرفى لهذا الموضوع أو هذا الحدث، وأن ذلك البناء الجديد يتناسب مع مرحلة التنظيم العقلى العامل فى ذلك الوقت من مراحل تطور تفكير الفرد، ولابد أن بياجيه حين يصف التقابل بين الذات والموضوع بأنه صدام معرفى انما يعنى نوعا ساخنا من التفاعل الذى يؤدى وظيفة بنائية بمعنى التغيير أو الاضافة اذ أن بياجيه يصرح بأن أى عمل للعقل مهما كان أوليا وبسيطا يستلزم تفسيرا له فى الواقع الخارجى أى أن أى نوع من التمثل يؤدى الى اضافة الى هيكل المعانى الموجود فى التنظيم المعرفى للفرد وفى نفس الوقت يواكب عملية التمثل عملية مع الشئ الذى يدرك وهكذا فأن عمليتى التمثل والتوفيق فى منظور بياجيه يبعدان كل البعد عن كونهما شكلين أو ظاهرتين ولكنهما لابد وأن يتضمنا العامل الأساسى لنمو التفكير: الا وهو التقابل بين الذات والموضوع، كما يشير بياجيه الى صفة جوهرية فى السلوك التكيفى، وهو أن هذا التقابل يؤدى الى تغير العلاقة بين الذات والموضوع، وكما هو الحال فيما يحدث على المستوى العضوى فى حالة الجسم من امتصاص أو تمثل لمواد الطعام، فأنه على المستوى النفسى كل تفاعل تكييفى بين الذات والموضوع فى عملية تطور للتفكير ينتج عنه تغيير فى الحالة الحاضرة فى ذلك  الوقت لفعل الفرد أو تنظيمه المعرفى وهكذا فأن بياجيه يشير الى أن نشاط التفكير هو الذى يكون الاساس فى الانتقال من مرحلة لاحقة الى مرحلة متقدمة أو من مستوى انتولوجى ادنى الى مستوى انتولوجى اعلى فى تطور الانسان النفسى وتصبح العلاقة بين عمليتى التمثل والتوفيق هى علاقة تفاعل دينامى متدرج وممتد الى ما لا نهاية فى حياة الانسان بحيث يؤدى الى نمو متزايد ومتصاعد فى الجهاز العقلى للانسان.

ونسال الآن: اذا كانت الأدوات التى يتحقق عن طريقها التفكير فى صورته المحدودة هى الرموز أو المفاهيم أو الأفكار كما أوضحنا فيما سبق، فما هى الوسائل التى يحقق بها الانسان التفكير فى صورته الواسعة وهو تقابل العالم الداخلى (الذاتى) والعالم الخارجى (الموضوعى)؟؟

وللاجابة على هذا السؤال لابد وأن نتعرض لبعض الأوجه المهمة للتفكير والتى قلما يتناولها الدارسون لظاهرة التفكير وهى دور كل من المعنى والهدف فى عمليات التفكير.

التفكير والمعنى؟

ما هو المعنى بالنسبة للتفكير؟ اذا كنا قد ذكرنا فيما سبق أن العملية الرمزية هى القنطرة بين العالم الخارجى والعالم الداخلى فأن المعنى يكون هو الوسط الذى ينتقل على هذه القنطرة ومن هذا المنطلق فأن المعنى فى التفكير هو حلقة الوصل بين المجالين، وهكذا فهو ربما يكون العامل الهام الذى يقلل من متاهة العزلة التى يعايشها الانسان والتى أشرنا اليها فيما سبق.

وهناك من الكتاب من اهتموا بهذا المفهوم للمعنى فى التفكير من حيث انه يحقق نوعا من الالتقاء بين النشاط العقلى فى العالم الداخلى وبين الظواهر فى العالم الموضوعى، فنجد – مثلا – أن ماير (Meyer 1922) كما ورد عن سوليفان(Sullivan 1925) يرى ان اداء أو سلوك الانسان الفرد الذى يخرج الى حيز العالم الخارجى يجد مصدره فى تكامل نشاط التفكير بواسطة المعنى الذى يصبح متضمنا فى أفعال بل وردود فعل الفرد كذلك نجد أن أى (ey 1954) يؤكد على نفس الراى، فيشير الى أن التفكير هو الوسط الذى يحدث فيه التقابل بين الافراد، فتتشكل فيه التفاعلات ويضيف الى انه من هذا المنطلق يمكن أن يماثل شبكة دقيقة من التقايضات بيننا وبين الآخرين، تلك التقايضات التى تأخذ صورة أفكار أو كلمات أو عواطف تخلق بيننا وبين الآخرين نوعا من التبادلية والاحساس بالوجود مع الآخرين واذا كان “اى” لم يشر بوضوح الى هذا المعنى المتضمن فى هذه المقايضات، الا أنه يمكن أن يستنتج بسهولة ان المعنى هو هيكل  أو جوهر هذه التقايضات ويحاول الرخاوى (1979) أن يلقى مزيدا من الضوء على مفهوم المعنى فى التفكير فيجتهد فى شرح طبيعة هذا التقابل بين داخل الانسان وخارجه فيعرف المعنى على أنه نوع من التجاوب أو التوافق أو الرنين المتبادل بين تجربتين معاشتين، وان هذا التجاوب او التوافق يحدث بين تجربتين حادثتين فى فردين من خلال توافق فعلهما من اجل هدف واحد، فيكون لذات الفعل نفس المعنى عند الفردين، ويضيف كذلك أن هذا التوافق يمكن أن يحدث بين فعل الفرد وقوله، أو بين وعى الفرد وفعله، واننا نجد أنه فى الحالة الأولى يستطيع الانسان من خلال التقابل مع آخر على نفس المعنى أن يصبح جزءا فى الكل الذى يتطلع ويسعى لتحقيق هدف موحد، أما فى الحالة الثانية فهو يسمح للانسان أن يوحد بين اجزائه طوليا فى الزمان (بين افعاله وأقواله المختلفة) وعرضيا فى المكان (بينه وبين الآخرين) ومما لا شك فيه أن التفكير من حيث تحقيقه للمعنى أنما يؤدى دورا فى تكامل وجود الانسان ككيان متفرد من ناحية وككيان متفاعل مع الآخرين ومع محيطه من ناحية أخرى وربما تكون الاشارة الى مفهوم التغذية المرتجعة كما أشار اليها كل من اريتى (arieti 1974 والرخاوى (1979) مكمل  لمنظور تكامل وجود الانسان النفسى والبيولوجى فى وظيفة التفكير.

فهذا أريتى يؤكد على دور التغذية المرتجعة فى تحقيق التكامل البنائى للهيكل النفسى، ففى غيابه يحدث التصدع والتفسخ فى الهيكل النفسى (كما يحدث فى حالات مرضى الفصام) ومن ناحية أخرى يؤكد الرخاوى على نفس المعنى الذى أوردناه عن أريتى ويوسع فى هذا المفهوم فيؤكد على أن التغذية المرتجعة تؤدى دورا فى التكامل الوظيفى حتى للخلية العصبية الواحدة، وكذا بالطبع فى العلاقات المتشابكة بينها وبين الخلايا الأخرى وتظهر العلاقة التبادلية بين التفكير والتركيب البيولوجى للانسان فى حالات العته وفى حالات الفصام حيث أن فقد أو نقص النشاط العقلى الطبيعى يجعل الانسان عرضة من الناحية الجسمانية الى الامراض العضوية (الاضمحلالية) المختلفة، كما يجعل العمر أقصر والموت أقرب.

وفى الشيخوخة يشير الكاتب الى أن أن نجاح المسن فى معايشة فترة الشيخوخة دون اضطرابات نفسية انما يرجع الى مدى القدرة على تعويض العجز الجسمى بتغير فى نوعية النشاط العقلى.

التفكير والهدف:

أجمع الكثير من الكتاب من أمثال الرخاوى (1979) بايون (Bion 1972)، لوزس (Luzes 1969) وديوى (Dewey 1925) على انه لايوجد تفكير بدون هدف.

ويوضح ديوى هذه الفكرة قائلا: ان عملية التفكير تبدو محكومة بنهايتها وأن الفكرة تملى بعض الأفعال التى تتناسب مع المفهوم الذى نضمره بالنسبة للأشياء المكونة للفكرة وهو يضيف انه اذا لم توجد مشكلة أو متاعب تتطلب الحل كهدف فأن عملية التفكير تذهب هباء، فهو حينما يصف المراحل التى يمر التفكير التأملى فيقول انه بالنسبة لأى موقف لا يثار التفكير الا اذا كان هذا الموقف عائقا فى طريق نشاط الفرد الهادف نحو غرض معين، وهكذا يصبح هذا الموقف مصدرا للضيق والقلق والانشغال بقدر قيمة الوصول للهدف بالنسبة للفرد، ومن ثم يدفعه الى السعى نحو اكمال مراحل التفكير من اجل الوصول الى الهدف الخارجى واذا كان ديوى قد وصف الهدف على انه قوة تقوم باستقطاب النشاط الفعلى وتوجهه نحو موضوع خارجى وبالطبع قد تدفعه الى الفعل فأن بلويلر (Bleuler قد تكلم عن الفكرة الهدف(1)على اساس انها قوة استقطابية داخلية للنشاط العقلى، وأن فقدها انما يكون بداية للتفكك والتفسخ فى الفصام.

وقبل أن نختم هذه الدراسة المقدمة يجدر بنا أن نقف لحظة لنوضح نقطتين: الأولى هى ضرورة وجود فكرة هدف توجه العمليات العقلية الداخلية، والنقطة الثانية هى ان الهدف الخارجى ينقل الفكرة من فرض الى فعل وهنا تبدو لنا النقلة من الفكرة الى الفعل وهنا نجد أننا نلامس نقطة هامة وجوهرية فى وجود الانسان وهى التحول من الفكر الى الفعل وهذا موضوع ممتد ومعقد يستحق منا الدراسة فى موضوع لاحق ..

ويمكن ان نخلص حاليا الى ضرورة النظر فى ما هو تفكير باعتباره العملية، والوحدات الاساسية، التى تحدد وجود الانسان وتنمية وتطوره فى فاعلية خلاقة أبدا.

References

– Arieti, S. (1974) Interpretation of schizophrenia. London: Grosby lockwood staples.

Bion, W.R. (1962) Learning from Experience. London: Heinmann.

– Bleuler, E. (1911) Dementia Praecox or the Group of schizophrenias New York: International Universities Press.

– Dewey, J. (1925) How do we think Paris Ernest Flammarion.

Translated from the English to the French by Dr, O. O. Decroly.

– Ey H, (1954) Etudes Psychiatriques. Tome I and III (2nd edition)

Paris: Desclee De Brouwerand Cie.

– Hamilton, M. (1978) Fish’s Outline of Psychiatry. (3nd edition) Bristol: John Wright and Sons LTO.

– Hilgard, E. R. (1962) Introduction to Psychology London Methuen.

Humphrey, G (1951) Thinking: An Introduction to its Experiemental Psychology London: Methuen.

– Janet P. (1926) L’a Pansee Interieure et, ses roubles: compte-rendu integral du cours professe par M. Pierer Janet. Paris Publicalions A chamine

– Kubie, L. (1953) The distortion of the symbolic process in neurosis and psychosis. American Journal of Psychoanalysis, 1: 59 – 86.

– Luzes, P. (1969) Les troubles de la pensee en clinique psychoanalytique. Revue Francaise de psychanalyse, Tome 33: 727 – 868.

– Muller, M.F. (1887) The Science of Thought. London: Longmans, Green and co.

– Oppenheimer, H. (1971) clinical psychiatry Issues and Challenges. New York: Harper and Rwo Publishers.

Piaget, J. 91926) The Language and Thought of the child. New York: Harcourt Brace.

– (1929) The child’s conception of the world new york: Harcourt Brace.

– (1930) the child’s conception of physical causality. New york: Haracount brace.

– (1948) the language and thought of the child London: routledge and kengan paul.

– (1952) The origins of intelligensce in children new york International universities press.

– (1954) Le Language et la pensee du point de vut genetique atra psychological, 10: 51 – 60

– Rakhawy Y. T. (1979) A shuty in psychopathology cairo dar el ghad (in Arabic).

Reed, J.L. (1970) schizophrenic thought disorder a review and hypothesis. comprehensive psychiatry, 11: 403 432.

– Schilder, P. (1920) Uber gedan kenetwicklung. Z. Ges Neurol. Psychiat, 50: 250 – 263 (Quoted by Reed 1970).

– Spearman, C. H. (1923) The Nature of Intelligence and The principles of cognition London: Mc Millan.

– Sullivan, H.S. (1925) Peculiarity of thought in schirzophrenia. American Journal of Psychiatr 81: 21 – 86.

– Vigotskly, L. 91934) Thoupht is Schizophrenia Archives of Neurology. and Psychiatry. 31: 1063 – 1077.

– Wyrsch, J. (1956) La Personne du schizoph’rene. Translated from german by Verdeaux, Jasklire, Paris. Presses Universitaise France.

[1]- وقد تناول كل من شيلدر schilder 1920، والرخاوى 1979 نفس الموضوع وهو وجود فكرة اساسية غائية توجه النشاطات العقلية، الا أن منظورهما يبدو أكثر شمولا  وتعقيدا، فكل فكرة غائية تدور فى مدارها أفكار تابعة ومضادة وكلها تتفاعل بطريقة دينامية، ويتحدد مدى النشاط الدينامى لفكرة ما بدرجة دفعها للهدف مما يستبعد الأفكار المضادة لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *