الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (12) مقتطفات من نقد كتاب: “قراءات فى نجيب محفوظ” (6) طبيعة الوجود واهتزاز الرمز ووعى الحلم

جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (12) مقتطفات من نقد كتاب: “قراءات فى نجيب محفوظ” (6) طبيعة الوجود واهتزاز الرمز ووعى الحلم

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 26-6-2017

السنة العاشرة

العدد:  3586    17-6-2017

جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (12)

مقتطفات من نقد كتاب:

“قراءات فى نجيب محفوظ” (6)

 

طبيعة الوجود واهتزاز الرمز ووعى الحلم

مقدمة

علاقتى بالرموز والترميز علاقة سيئة أنا مسئول عن جانب كبير منها، وقد بدأت الحذر من التركيز على الكلام كأنه اللغة حاملة المعنى وشفرة الوعى، وذلك حين وصلتنى المبالغة فى الانغلاق داخل سجن الألفاظ، ثم انتقل الحذر إلى لغة المعاجم التى أصبحت وصية على تفرع المعانى وإيماءات الرمز، ثم تمادى الحذر حين حلّ التشخيص محل المريض، وحلّ التصنيف محل النفسمراضية والغائية فى ممارستى لمهنتى.

ثم إنى تأكدت من تطورى هذا حين رحت أبحث فى ملف الأحلام وأبعادها ومستوياتها فإذا بى أضع كل تشكيلات وتفسيرات الأحلام بين قوسين، وقد وضعت فروضى التى عرضت أغلبها فى نشرات ملفات الحلم من (نشرة 23-12-2012) إلى (نشرة 23-9-2015).

أما فى مجال النقد الأدبى فقد بدأت حوارى ومعارضاتى بأطروحتى عن “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (1) وهى التى تناولت فيها مقارنات تفصيلة بين مستويات الشعر ومستويات الحلم ومستويات النقد (وبعض مستويات الجنون).

أكرر أننى وأنا اراجع هذا العمل الحالى للطبع الورقى انتبهت كيف تسحَّبتْ إلى منظومات معرفتى تلك الفروض المتصاعدة عن اللغة، والوعى، والحلم، من نقدى حتى لمحفوظ فقد وجدت وأنا أتحفظ – بتردد شديد – على بعض مبالغاته فى اللجوء إلى الرمز، مع أن وعيه الإبداعى التقط هذه المبالغات فى كثير من الأحيان وكان ذلك سببا فى عدم التمادى،

 أرجو أن يجد قارئ نشرة اليوم بعض أو أغلب معالم ذلك:

قبل المقتطف الخاص عن ‏دور‏ ‏الرمز‏ ‏ومحدوديته

اقتحم‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى ‏الأخرى ‏حتى ‏تبينت‏ ‏له‏ ‏معالمها “‏كما‏ ‏هى‏” ‏لا‏ ‏كما‏ ‏تشير‏ ‏إليه‏ ‏أوتدل‏ ‏عليه‏ ‏فقط، ‏ولكن‏ ‏القارئ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏بسهولة‏ ‏أن‏ ‏يخلص‏ ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏التقاط‏ ‏الإشارات‏ ‏الدالة‏ ‏على ‏رموز‏ ‏شائعة‏ ‏فى ‏كتابات‏ ‏محفوظ‏ ‏السابقة‏ ‏بصفة‏ ‏عامة، ‏وتلاحقنا‏ ‏هذه‏ ‏الدلالات‏ ‏سواء‏ ‏قصد‏ ‏إليها‏ ‏محفوظ‏ ‏واعيا، ‏أو فرضت‏ ‏نفسها‏ ‏عليه‏ ‏فى ‏أثناء‏ ‏إبداعه‏ ‏وهو‏ ‏يكشف‏ ‏الغطاء‏ ‏عن‏ ‏طبقات‏ ‏الوعى ‏الأخرى، ‏وقد‏ ‏ترجع‏ ‏بعضها‏ ‏أو‏ ‏جميعها‏ ‏الى ‏إسقاطات‏ ‏القارئ ‏نفسه‏ ‏ناقدا‏ ‏كان‏ ‏أو‏ ‏متلقيا‏ ‏عاديا‏.‏

المقتطف: (بحروفه)

  من القراءة النقدية (مع تعقيب موجز جدا)

……………………….

نبدأ‏ ‏بالقصة‏ ‏الأولى “أهل الهوى” ‏كمثال‏ ‏وتحدٍّ‏ ‏معا‏:‏

…فالمغزى ‏المباشر‏ ‏يقول‏ ‏إن‏ ‏القبو‏ ‏هو‏ ‏الرحم، ‏وأن‏ ‏السائر‏ ‏على ‏أربع‏ ‏هو‏ ‏الطفل، ‏وأن‏ ‏المسيرة‏ ‏كلها‏ ‏هى ‏الحياة‏ ‏الفردية‏ ‏المحدودة، ‏وأن‏ ‏النهاية‏ ‏هى ‏كفـَنٌ‏ ‏أسود “‏متلفعا‏ ‏فى ‏عباءته‏ ‏السوداء” (‏ص‏45) ‏وقد‏ ‏أوتى ‏الكتاب‏ ‏بشماله “‏حاملا‏ ‏بيسراه‏ ‏حقيبة‏ ‏متوسطة‏ ‏الحجم” (‏ص‏45)، ‏وبالتالى ‏تكون‏ ‏نعمة‏ ‏الله‏ ‏الفنجرى ‏هى ‏الدنيا‏  (2)، ‏وتكون‏ ‏علاقة‏ ‏عبدالله‏ ‏بنعمة‏ ‏الله‏ ‏هى ‏علاقة‏ ‏الامتحان‏ ‏الذى ‏ابتلى ‏به‏ ‏ابن‏ ‏آدم‏ (‏ابن‏ ‏ناس‏) ‏وهو‏ ‏يغترف‏ ‏من‏ ‏إغراءات‏ ‏الحياة‏ ‏الدنيا، ‏ويفشل‏ ‏عبد‏ ‏الله‏ ‏نتيجة‏ ‏انسياقه‏ ‏إلى ‏التمادى ‏فى ‏الطبقة‏ ‏السطحية‏ ‏من‏ ‏اللذة‏ ‏الواعدة‏ ‏بالخلود‏ ‏الزائف، ‏وكذلك‏ ‏نتيجة‏ ‏لتاريخ‏ ‏قاهر‏ ‏غاب‏ ‏عنه‏ ‏مع‏ ‏ما‏ ‏غاب‏ ‏من‏ ‏ذاكرته‏.

‏ولكن‏:‏

ما‏ ‏علاقة “‏الدنيا‏ ‏اللذة‏” ‏بذئاب‏ ‏القبو؟‏ ‏وما‏ ‏علاقتها‏ ‏بالعفاريت؟‏ ‏وما‏ ‏علاقتها‏ ‏بمستويات‏ ‏الغرائز؟‏ ‏

إن‏ ‏الإجابة‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏تمنعنا‏ ‏من‏ ‏القفز‏ ‏إلى ‏اختزال‏ ‏رمزى ‏مسطح‏.‏

ومع‏ ‏ذلك، ‏فالدنيا‏ (‏نعمة‏ ‏الله‏ ‏الفنجرى) ‏تستعمل‏ ‏عذوبة‏ ‏الفطرة‏ ‏وقوتها‏ ‏للأغراض‏ ‏الأدنى ‏دون‏ ‏فرص‏ ‏النمو‏ ‏الأعقد، ‏وتستعمل‏ ‏الدين‏ ‏للتخفيف‏ ‏والتطويع “‏الفتى ‏يساق‏ ‏كل‏ ‏عصر‏ ‏لتلقى ‏دروس‏ ‏الدين” (‏ص‏14)، “المهم‏ ‏أن‏ ‏تـــعلمه‏ ‏كيف‏ ‏يخاف” (‏ص‏14)، ‏وبذا‏ ‏يناسب‏ ‏مقاس‏ ‏الدنيا‏ ‏لا‏ ‏أطول‏ ‏ولا‏ ‏أقصر‏، ‏والدنيا‏ ‏تستعمل‏ ‏الغريزة‏ ‏فى ‏عملية‏ ‏ترويض‏ ‏وسلب‏ ‏نكوصى، ‏ولا‏ ‏تطلقها‏ ‏فى ‏عمليات‏ ‏التطوير‏ ‏والتكامل‏، ‏وبذا‏ ‏تصبح‏ ‏الفطرة “‏براءة‏ ‏عمياء‏” ‏وتصبح‏ ‏الغريزة‏ ‏زوابع‏ ‏تنحنى ‏لها‏ ‏ثم‏ ‏تركبها، ‏ثم‏ ‏هى ‏تستعمل‏ ‏الذكاء‏ (‏السحر‏) ‏لتسيطر‏ ‏على ‏العدوان‏ ‏لصالح‏ ‏أغراضها‏.‏

فالعدوان‏ ‏فى ‏الظلام‏ ‏ذئب‏ ‏كاسر، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فهو‏ ‏تحت‏ ‏رحمتها، ‏على ‏أن‏ ‏ثمَّ‏ ‏عدوانا‏ ‏آخر‏ ‏تخاف‏ ‏منه، ‏وهو‏ ‏عدوان‏ ‏الفطرة‏ ‏الزوبعة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تخاف‏ ‏ولا‏ ‏تـُرَوَّض‏ ‏إلا‏ ‏بالقمع‏ ‏بدروس‏ ‏الدين‏ (‏وليس‏ ‏بالدين‏)، ‏وبالانهماك‏ ‏الجنسى ‏وليس‏ ‏الارتواء‏ ‏الجنسى، ‏ثم‏ ‏هى ‏فى ‏النهاية “‏تعشق‏ ‏حتى ‏الموت، ‏وعشقها‏ ‏لا دواء‏ ‏له” (‏ص‏19) ‏فهى ‏العشق‏ ‏الموت‏ ‏أى ‏هى ‏الموت‏ .‏

وبرغم‏ ‏كل‏ ‏ذلك، ‏فإنى ‏لست‏ ‏راضيا‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الاستعمال‏ ‏الرمزى، ‏أو‏ ‏هذا‏ ‏التفسير‏ ‏الرمزى، ‏وكلما‏ ‏وجدت‏ ‏حلقة‏ ‏مفقودة‏ ‏فى ‏التسلسل، ‏أو‏ ‏ثغرة‏ ‏ضعيفة‏ ‏فى ‏التفسير، ‏زاد‏ ‏أملى ‏فى ‏أن‏ ‏أكون‏ ‏مخطئا‏ ‏وأن‏ ‏تتخطانى ‏المسألة‏ ‏برمتها‏ ‏دون‏ ‏تفسير‏.‏

‏ ‏وقد‏ ‏يظهر‏ ‏الرمز‏ ‏جزئيا‏ ‏بشكل‏ ‏متواضع‏ ‏فى ‏لمحة‏ ‏عابرة‏ ‏مثل‏ ‏رؤية‏ ‏عبد‏ ‏الفتاح “صورته‏ ‏على ‏ضوء‏ ‏البطارية‏ ‏الخافت‏ ‏جسما‏ ‏بلا‏ ‏رأس” (‏ص‏65) ‏ثم‏ ‏بحثه‏ ‏عنه‏ ‏داخل‏ ‏الدولاب‏ ‏ورؤيته “‏بدله‏ ‏المعلقة‏ ‏مشتبكة‏ ‏فى ‏معركة‏ ‏بالأيدى ‏والأرجل” (‏ص‏66) ‏بما‏ ‏يكاد‏ ‏يشير‏ ‏مباشرة‏ ‏الى ‏ذهاب‏ ‏وحدة‏ ‏العقل‏ ‏بالتفكك‏ ‏إلى ‏وحداته‏ ‏الأولية‏ (‏ذواته‏) ‏المتصارعة‏ ‏المتشابكة‏ ‏بلا‏ ‏رئيس‏ ‏أو‏ ‏رأس‏ ‏منظم‏.‏

وكذلك‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏ ‏وأعلنه‏ ‏من‏ ‏ترادف‏ ‏بين “‏فقد‏ ‏البيت” ‏وفقد‏ ‏العقل “‏أفقدت‏ ‏بيتى ‏أم‏ ‏فقدت‏ ‏عقلى” (‏ص‏127) ‏مما‏ ‏يحمل‏ ‏جرعة‏ ‏زائدة‏ ‏من “‏المباشرة‏”.‏

لكن‏ ‏الإلحاح‏ ‏على ‏الرمز‏ ‏بقدر‏ ‏مفرط‏ ‏من‏ ‏المباشرة‏ ‏ ‏يصل‏ ‏الى ‏صورة‏ ‏مرفوضة‏(3) ‏مثلما‏ ‏أوضحتْ‏ ‏أضعف‏ ‏قصص‏ ‏المجموعة “‏قسمتى ‏و‏ ‏نصيبي‏”، ‏فشتان‏ ‏بين‏ ‏الصورة‏ ‏الرمزية‏ ‏لهذا‏ ‏الانقسام‏ ‏فى ‏الفكر‏ ‏و‏ ‏العقل‏ ‏دون‏ ‏بقية‏ ‏الجسد، ‏وبين‏ ‏التعدد‏ ‏الذى ‏ظهر‏ ‏فى “‏العين‏ ‏والساعة‏”، ‏وبدرجة‏ ‏أقل‏ ‏فى “‏الليلة‏ ‏المباركة‏” ‏أو “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏”، ‏لكن‏ ‏الجدير ‏بنا هو ‏أن‏ ‏نحترم‏ ‏قدرة‏ ‏محفوظ‏ ‏على ‏تنبيهنا‏- ‏ولو‏ ‏برمز‏ ‏مباشر‏- ‏إلى ‏طبيعة‏ ‏جديدة‏ ‏لانقسام‏ ‏الكيان‏ ‏البشرى، ‏لا بَيْن‏ ‏عقل‏ ‏وعاطفة‏، ‏أو‏ ‏بين‏ ‏شر‏ ‏وخير، ‏أو‏ ‏بين‏ ‏ضمير ومذنب، ‏وإنما‏ ‏جعلها‏ ‏بين‏ ‏طبع‏ ‏عملى ‏انبساطى، “‏يفضل‏ ‏اللعب‏ ‏فوق‏ ‏السطح‏ ‏ومعاكسة‏ ‏السابلة‏ ‏والجيران‏” (‏ص‏92) ‏وطبع‏ ‏انطوائى ‏مفكر‏ ‏يحب‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏”‏مزيدا‏ ‏من‏ ‏القراءة‏ ‏والاطلاع‏”، ‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏تأثر‏ ‏محفوظ‏ ‏بيونج  (4) ‏فى ‏هذه‏ ‏القصة‏ ‏كان‏ ‏له‏ ‏وضع‏ ‏خاص، ‏فقد‏ ‏رفض‏ ‏التوحد‏ ‏بالذوبان “‏ذوبان‏ ‏أحدكما‏ ‏فى ‏الآخر‏ ‏مرفوض” (‏ص‏94) ‏واجتهد‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏إلي‏”‏الوفاق‏” ‏بالحب‏ ‏بين‏ ‏النصفين‏ ‏وكأنه‏ ‏يعنى ‏تسوية‏ً ‏ما‏ ‏ولكنه‏ ‏لم‏ ‏يُـشِر‏ ‏إلى ‏الأمل‏ ‏الأبعد‏ ‏فى ‏تكامل‏ ‏وُلاَفِى ‏بالتفرد‏ (5) Individuation ‏وجعل‏ ‏القصة‏ ‏تستمر‏ ‏على ‏أنهما “‏نصفان‏” ‏وليسا‏ ‏وجهين‏ ‏أو‏ ‏تنظيمين‏ ‏أو‏ ‏بنيتين “‏فعاش‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ ‏نصف‏ ‏حياة‏، ‏وتعلق‏ ‏بنصف‏ ‏أمل‏” (‏ص‏103).‏

‏ ‏وهذا‏ ‏أيضا‏ ‏من‏ ‏أثار‏ ‏تجزئ ‏الذات‏ ‏الى ‏أبعاضها‏ ‏دون‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏عمقها‏ ‏التركيبى ‏فى ‏شكل‏ ‏ذوات‏ (‏وليست‏ ‏أجزاء‏ ‏أو‏ ‏أنصاف‏) ‏متكاثفة‏ ‏متداخلة، ‏وبتقدم‏ ‏التباعد‏ ‏بين‏ ‏النصفيين‏ ‏يتحدد‏ ‏التنافر‏ ‏ويتعمق‏ ‏الشـــق‏ ‏النصفى ‏حتى ‏ينتهى ‏إلى ‏استقطاب‏ ‏مضيع “‏نحن‏ ‏مختلفان‏ ‏تماما” ‏فإنك‏ ‏ان‏ ‏اخترت‏ ‏الحكومة‏ ‏اخترت‏ ‏من‏ ‏فورى ‏المعارضة‏ ‏“والعكس‏ ‏بالعكس” (‏ص‏102).‏

وتمضى ‏القصة‏ ‏لتعلن‏ ‏أن‏ ‏القضاء‏ ‏على ‏أحدهما‏ ‏بالإلغاء “الموت‏ ‏فالتحنيط” ‏هو‏ ‏الكبت‏ ‏الغائر‏”‏موطن‏ ‏الحقيقة‏ ‏الباكية‏”(‏ص‏103)، ‏فهو‏ ‏سيعيق‏ ‏النصف‏ ‏الحى ‏الباقى ‏ويهدده‏ ‏فيعيش “‏تحت‏ ‏سماء‏ ‏ماجت‏ ‏بالغبار‏ ‏فلا‏ ‏زرقة‏ ‏ولا‏ ‏سحب‏ ‏ولا‏ ‏نجوم“(‏ص‏104)، ‏لا‏ ‏يفعل‏ ‏شيئا‏-‏مهما‏ ‏فعل‏- ‏إلا‏ ‏ان‏ ‏ينتظر‏ ‏الموت‏.‏

الرمزية‏ ‏هنا‏ ‏صارخة، ‏ولم‏ ‏يخفف‏ ‏منها‏ ‏محاولات‏ ‏التجديد‏ ‏فى ‏أبعاد‏ ‏الاستقطاب، ‏والمباشرة‏ ‏مزعجة، ‏ويبدو‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏الوصاية‏ ‏المعرفية‏ ‏قد‏ ‏ثقلت‏ ‏بوزنها‏ ‏على ‏الحدس‏ ‏الفنى.‏

‏ ‏ولعل‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏- ‏مع‏ ‏ذلك‏-‏ فى ‏حفاظه‏ ‏على ‏واحدية‏ ‏النصف‏ ‏الأسفل‏ ‏بما‏ ‏يحمل‏ ‏من‏ ‏جنس‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏تجاوز‏ ‏”فرويد”، ‏مثلما‏ ‏تجاوزه‏ ‏يونج، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏الأمر‏ ‏قد‏ ‏أضعفَ‏- ‏بشكل‏ ‏ما‏-‏ ‏ ‏إرادته‏ ‏الرمزية‏ ‏القـحَّة‏ ‏من‏ ‏القصة، ‏لأن‏ ‏النشاط‏ ‏الجنسى فى تلاحمه مع الوعى الأشمل هو ‏مرتبط‏ ‏نوعا‏ ‏وكما‏ ‏باختلاف‏ ‏البنية‏ ‏المقابلة‏ ‏للتعدد‏ ‏داخل‏ ‏الكيان‏ ‏البشرى، ‏فالجنس‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏آلة‏ ‏منفـذة‏ ‏تخدم‏ ‏الفكر‏ ‏السائد، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏جزء‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏من‏ ‏البنية “‏الفكرية‏ ‏الدوافعية‏ ‏الجنسية‏ ‏فى ‏آن

نقلة إلى تعدد الذوات بعيداً عن الرمز

على أن تعدد الذوات ‏يتضح‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المجموعة‏، بشكل مباشر ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏غائبا‏ ‏عن‏ ‏محفوظ‏ ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏ثانوى، ‏ففى ‏العين‏ ‏والساعة‏ ‏ظهر‏ ‏جليا‏ ‏وقد‏ ‏أشرنا‏ ‏الى ‏ذلك‏ ‏قبلا، ‏وفى “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏” ‏يظهر‏ ‏فى ‏حلم‏ (6) ‏مباشرة‏: “‏ودق‏ ‏الباب‏ ‏دقا‏ ‏متتابعا، ‏ففتحته‏، “‏فخيل‏ ‏الى ‏أنى ‏أنظر‏ ‏فى ‏مرآة” (‏ص‏151)، ‏وفى ‏حلم‏ (12) ‏نرى ‏التعدد‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏أرقى ‏حيث‏ ‏كان‏ ‏من “‏جنس‏ ‏آخر” “‏صرخة‏ ‏أنثى ‏فيما‏ ‏بدا‏ ‏لى” (‏ص‏164)، ‏أى ‏أن‏ ‏الكيان‏ ‏الأنثوى ‏فى ‏الذكر‏ ‏استقل‏ ‏ثم‏ ‏واكب‏ ‏بعضهما‏ ‏البعض، ‏فبعد‏ ‏حوار‏ ‏شديد‏ ‏القصر‏ ‏يشتركان‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏التهمة‏ ‏ويمضيان‏ ‏معا “‏كشهابين‏ ‏فى ‏ظلمة‏ ‏الليل‏”.‏

التعقيب (2017)

وأنا أقرأ هذا الجزء وغيره فرحت أن حبى لنجيب محفوظ،  وتَلْمَذَتِى على إبداعه، واستلهامى من نبض وعيه لم يحل أىٌّ منذ ذلك  بينى وبين أن أعلن موقفى بهذه الصراحة كما ورد فى المقتطف، وقد كان ذلك منذ أكثر من ثلث قرن بل إننى حين عرفته شخصيا لاحقا، وتطرق الحوار بيننا بالصدفة إلى بعض هذه الملاحظات رحب برؤيتى، ولا أعنى بذلك أنه وافق عليها، وإنما شعرت أنه فرح بها.

أكرر من جديد:

إن نشاطى فى النقد هدانى فى مهنتى أن اقرأ النص البشرى ناقدا لا راصدا ولا مصنِّفا

كما أن نشاطى فى مهنتى سمح لى أن أغوص إلى ما وراء الشكل وأن أتعامل مع طبقات وعى المبدع، والنصّ: بما يمكن للنقد أن يضيفه: ” يخطئ ويصيب”

 ولكنه النقد.

 [1] –  يحيى الرخاوى “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول – المجلد الخامس- العدد الثانى-1985

[2] – يذهب‏ ‏أحد‏ ‏علماء‏ ‏النفس‏ (‏فرج‏ ‏أحمد‏ ‏فرج‏) ‏الى ‏أن‏ ‏القبو‏ ‏هو‏ ‏الرحم‏ ‏وأن‏ ‏البداية‏ ‏هى ‏الطفولة، ‏ولكنه‏ ‏يذهب ‏- ‏فى ‏إصرار‏- ‏إلى ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏كلها‏ ‏هى ‏حكاية‏ ‏علاقة‏ ‏الرجل‏ ‏بالمرأة،  ‏فنعمة‏ ‏الله‏ ‏الفنجرى ‏هى ‏المرأة‏ ‏الأم‏ ‏المقابلة‏ ‏لتخييل‏ ‏الأم‏ Phantasmere (‏جابرييل‏ ‏ريبان‏)، ‏وأننا‏ ‏لسنا‏ ‏إلا‏ ‏أمام‏ ‘‏قصة‏ ‏حب‏’ ‏بالمعنى ‏الشامل‏. (‏المرجع‏ ‏السابق‏ ‏ص‏ 103)0‏

[3] – شعرت‏ ‏بنفس‏ ‏درجة‏ ‏الرفض‏ ‏إزاء‏ ‏الرمز‏ ‏المباشر‏ ‏كما‏ ‏ورد‏ ‏فى ‏آخر‏ ‏قصة‏ ‏قصيرة‏ ‏نشرها‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏فى ‏إبداع‏ (‏مايو ‏1983 ‏العدد‏ ‏الخامس- ‏السنة‏ ‏الأولي‏4-6) ‏تحت‏ ‏عنوان‏ “‏الفأر‏ ‏النرويجى”.

[4] – كارل‏ ‏جوستاف‏ ‏يونج‏ مدرسة علم النفس التحليلى  وهو رائد مدرسة التحليل النفسى Analytical psychology وهى غير مدرسة التحليل النفسى  الفرويدى Psychoanalysis

[5] – التفرد Individuation هو مصطلح يستعمله كارل جوستاف يونج ويعنى به  عملية النمو لاحتواء التعدد وتوليف الجدل من الأقطاب المتنافرة مرحليا

النشرة التالية 1

النشرة السابقة 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *