الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1982 / عدد أبريل 1982 أمـاديــوس (حب الله)

عدد أبريل 1982 أمـاديــوس (حب الله)

عدد أبريل 1982

أمـاديــوس

(حب الله)

د. محمد شعلان

الطرف لا تكسر جبن عيوننـا

وما نزال نقتل رسل الشمس ونقبل عطايا الوهم

نحضن أفراخ العجز ونتلمظ ببيض الجدارة

حتى ترتد الشمس فاشلة منهكة

وتريق ثمالتها الباقية فى الوحل

ويهبط الليل مكرها                

فنوصد الرتاج ونوثق المزلاج

وندعس أى استفهام يزحف من شقوق السقف(*)…..

* * *

” أماديوس” اسم يعنى” حب الله” وهو اسم الموسيقار الخالد ولفجانج اماديوس موتسارت. وهو أيضا اسم المسرحية التى ألفها بيتر شافر واخرجها بيتر هول وتعرض حاليا فى نيويورك. الا أن الشخصية الرئيسية فى المسرحية ليست هى شخصية موتسارت ولكن سالييرى الذى كان الموسيقار الرسمى للبلاط الامبراطورى آنذاك.

نشأ سالييرى فى أسرة متواضعة، وتميز بأنه كان شديد الطموح اذ توجه الى ربه داعيا أن يجعله الفنان المعبر عن نوره وصوته فى الدنيا. وكافح حتى وصل الى منصبه ذلك، وكان فى الحادى والثلاثين من عمره حينما حضر الموسيقار الطفل المعجزة موتسارت الى البلاط الملكى، وكان موتسارت قد بلغ السادسة والعشرين، فقد كان موتسارت فى طفولته موهوبا لدرجة الاعجاز يعزف ويؤلف منذ طفولته المبكرة، وكان أبوه يجول به فى البلاد ليرتزق من الانبهار العام بذلك الاعجاز. لم يكن سلييرى يأبه لذلك. اذ لعلها ظاهرة الطفل المعجحزة التى تختفى بنفس السرعة التى ظهرت بها. إلا أن الشك كان يساوره، إذ ربما يكون موتسارت هو الذى وقع عليه اختيار الله ليكون الأداة التى تترجم بها انغام السماء الى مسمع البشر.

وجاء موتسارت وقابل سالييرى وعزف له لحنا من الذاكرة كان قد بعث به سالييرى كاهداء له، ولكنه استمر فى العزف مضيفا تنويعاته التى كان يؤلفها أثناء العزف، فانتقل بلحن سالييرى الباهت الى لحن خلد وسط الألحان الأوبرالية على مدار التاريخ، واستمر انتاج موتسارت السلس الغزير يكتب الألحان وكأنه يراها مكتوبة جاهزة كاملة أمامه بينما هو لا يفعل الا أن ينقلها بقلمه. رأى سالييرى ذلك فى مخطوطات موتسارت التى كانت تكاد تخلو من الشطب ومع ذلك تخلو من الخطأ.

تأكد سالييرى أن موتسارت هو حب الله، هو أماديوس، ولكن الغيرة كانت لاتزال تأكل قلبه، وكان يتمنى لموتسارت ما تمناه أخوة يوسف لأخيهم. ولكنه كان يخفى غيرته ويكبحها ويعيد أحياء أمله بأن يكون هو حب الله.

كان يدبر لموتسارت المكيدة تلو الأخرى وكان البعض منها يتضح للتاريخ أنها معونة فى ثياب مكيدة، فقد كان يحثه على مخالفة القواعد بل والآداب العامة والتقاليد، فتتحول هذه المخالفات فى عين التاريخ الى أكتشافات وفتوح جريئة فى عالم الموسيقى بل فى عالم القيم، فقد خرج موتسارت بألحانه عن القيود التى كانت تشل الخلق والابداع والتطور. وخرج باختياره لمواضيع أوبراته عن تلك المواضيع التى كانت تخفى الواقع بآلامه ومباهجه، وكانه يشير بموسيقاه الى ثورة اجتماعية تاريخية تنقل الانسان الى الأمام فى طريق التحرر.

ولكن الواقع، والذى كان سالييرى يعبر عنه،كان ايضا يخشى الثورة ويقاومها فى ذات الوقت الذى كان فى جموده يحتاجها، كان سالييرى ينقل الواقع من جموده المتحجر الى واقعه المتطور، أى من اليمين الى الوسط، ولكن الواقع، بالقدر الذى هو يتطور فيه، يحتاج الى من ينقله الى الأمام ويطوره، أى يحتاج الى من يجذبه من موقفه الوسط الى يساره. وكان هذا هو دور موتسارت.

كان سالييرى يعلم ذلك، بل كان من القلائل الذين يعلمون ذلك. كان يؤمن ولكن كان يقتل ايمانه من أجل الحفاظ على نجاحه الذى جعله يتربع على قمة الوسط، كان الوسط لايرى فى موتسارت إلا طفلا معجزة

فاذا ما أصر على الاجهار بالحق من خلال ألحانه قتله الوسط ولا مانع بعد ذلك أن يجعل منه شهيدا. كان أداة القتل الخفية هو سالييرى. فسالييرى هو فنان الوسط وهو الذى يفوض بسلطة الحكم على من من الفنانين الناشئين سوف يدعم ومن سوف يقتل جوعا. وهو الذى يغدق عليه بالمال الذى يوفر له الراحة والطعام (فقد كان سالييرى نهما يعشق الأطعمة الحلوة) وهو الذى سوف تفرش له أبسطة النجاح والشهرة ةتسخر له أدوات الاعلام. وهو الذى سوف يوعد بالمجد.

ولكن سالييرى كان يعلم أن هذا الأخير، المجد، خارج سطلة الحكم، وأنه من حق التاريخ، وأن الله اختار موتسارت وليس هو لكى يكون له المجد.

وقبل سالييرى دور الجلاد الذى سوف يقتل موتسارت جوعا.

اخذ النجاح والمال والشهرة ولم يترك لموتسارت الا الفتات. ولكن موتسارت كان يعلم أن الألحان السماوية لابد من ان تنقل من خلاله. وعمل وثابر وسط الصعاب ورغم الجوع ورغم تخلى آخر أصدقاءه عنه وهم الجماعة الماسونية التى كانت تدعمه. وحدث ذلك بعد أن تعرض لطقوسهم ولو بطريقة خفية فى أوبرا” الناى السحرى”. كافح موتسارت ليخرج آخر ألحانه العظيمة، الكورال الغنائى الدينى” ريكويم” ومات قبل أن ينتهى منه تماما، ولكنه عزف مع ذلك وبقيادة سالييرى وباسم مستعار للمؤلف.

ومات موتسارت وترك أسرته بلا مال يكفى دفنه فتبرع أحدهم بما يكفى لدفنه فى مقابر المجهولين أى يقذف جثته فى جحر مع غيرها من جثث اللصوص والمجرمين والصعاليك. وعاش سالييرى حتى الكبر ليكتشف أن العقاب الذى نزل عليه لم يكن الا ذلك النجاح الباهر الذى تحقق له على مدى السنين والذى لم يكن يستند الى شئ الا بلاهة الوسط. كان عليه أن يتحمل عذاب الوعى بزيفه وصدق موتسارت مع الاستمرار فى دور ارضاء الوسط رغم علمه ان لحن الحق هو الذى كان يعزفه موتسارت. كان عليه أن يتحمل ألم الوعى بأن المقابل لنجاحه هو أن يستمر فى دور البلاهة. أذ رغم دعوته لله أن يكون هو المعبر عن لحنه كلن يعلم فى داخله أن الأمر ليس كذلك، وان شهادة البهاء ليست الا شهادة بلهاء. وكان هذا الوعى المتبقى لدى سالييرى، كان هذا الضمير الذى كان يشهد لموتسارت، هو العظمة الحقيقية لسالييرى: ان راى الحق رغم عجزه عن البوح به.

وشاخ سالييرى وهو يعلم ويطلب الغفران من موتسارت. وشاخ عقله وأخذ يهذى بأنه هو الذى قتل موتسارت بسمه بالزرنيخ.

المسرحية والجمهور:

حينما يشاهد عالم النفس الاجتماعى ظاهرة فنية فهو لا يتوقف فى تحليله على محتواها من حيث المادة الفنية أو الأداء أو الموضوع. ولكنه يراها من حيث الشكل تعبيرا من قبل منتجى الثقافة يتلقاه الجمهور.

وجمهور المسرح غير جمهور السينما، وبالتأكيد غير جمهور التليفزيون.

فالمسرح أكثرهم تكلفة للمتفرج والمؤدى على السواء واقلهم كسبا. ولذلك فالمسرح غالبا يعبر عن تلك الصفوة الثقافية التى تؤدى دور الضمير الاجتماعى الذى يشير الى مواطن الداء فى المجتمع وطرق الدواء.

وهنا نسأل: ماالذى تعبر عنه هذه المسرحية من حيث الشكل عما يدور فى الضمير الأمريكى بالتحديد والغربى عامة ؟.

لعله يعبر عن كون المجتمع بوسطه الضخم هو سالييرى، يعرف أين تقال كلمة الحق ولكنه يدأب على قتلها أولا حفاظا على تماسكه ونجاحه. ويعلم أنها كلمة الحق ويحترمها ولذلك يخشى قتلها تماما. المجتمع يعطى النجاح لأقل الصور الفنية استحقاقا له، بينما يترك الفتات للعباقرة.

فالأغانى الخليعة والرخيصة والرديئة تروج أكثر من الأغانى الجادة.

وكذلك القصص والمسرحيات والأفلام. والتليفزيون أكثر ربحا من السينما وهذا أكثر من المسرح، وهكذا.

المجتمع تحكمه القيمة السائدة فى عصره. والقيمة هى ما يتكالب عليها الناس. هى تارة المال ثم السلطة ثم المجد( كما فى المجتمعات الرأسمالية) وتارة السلطة ثم المال ثم المجد(كما فى المجتمعات الاشتراكية) وتارة المجد ثم السلطة ثم المال(كما فى المجتمعات الثورية). ويبدو أن القيمة السائدة فى عصرنا اليوم، ولاذى يتربع على قيادته عملاقين، هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، هى قيمة المال أولا. اذ أن قيمة السلطة والتى يعبر عنها الاتحاد السوفيتى يتضح أنها تتراجع أمام المال أو على الأقل تسخر له. أما المجد فقد دفن مع لينين وورثه ماو حتى دفن معه أيضا وداعب الخمينى ولكن دفن حيا. فالاتحاد السوفيتى فى مواجهة احتمال الحاجة الى الموراد وخاصة موارد الطاقة يكشر عن أنيابه ويبرز سلطانه ولو بالقوة العسكرية الى التبعية من خلال الاشتراكية.

وهذا بينما الولايات المتحدة فى تكالبها على المال صارت تقترب من المجتمعات الارستقراطية التى طال استقرار الرفاهية فيها بما يجعلها تتجه نحو الانحلال والتدهور.

والمسرحية وجمهورها كلاهما يعبر عن صحوة الضمير فى مواجهة الانحلال والتدهور. المجتمع الأمريكى – سالييرى – يقتل المواهب ويخرس كلمة الحق او على الأقل يتغاضى عن الاستماع اليها. ولكنه مثل سالييرى أيضا، هو الوحيد من بلهاء المجتمع العالمى الذى يملك الحس الذى يجعله يكتشف موقع تلك الكلمة. انه يستمر فى النجاح ودفع ثمن النجاح وقبض ثماره. ولكنه يعيش عذاب الوعى بأن هذا النجاح زائل وأن الحق هناك يصدر من فم جائع.

لقد أغدق على اثرياء ايران وعضدهم بأدوات القمع كما سبق أن فعل مع اثرياء فيتنام. واستمر حتى اكتشف أن الكلمة الحق صدرت من افواه الجياع، وهو الآن يغدق على أثرياء العالم الثالث، وبالذات العالم العربى بما فى ذلك الدول الفقيرة منه، مثل أثرياء مصر واسرائيل وفلسطين. ويعلم ويزيد علمه يقينا درس ايران ومن قبله فيتنام، أن كلمة الحق فى أفواه الجياع. لقد عبر عن ذلك أمريكى صاحى الضمير حينما أعرب عن اشفاقه نحو السوفييت الذين أخلصوا فى تقديم ما هو جاد لنا ولفظناهم بينما نفرح بالأمريكان اذا ما قدموا لنا اللبان والمياه الغازية. واذا كان للشعب الأمريكى ميزة فهى تلك القدرة على النقد الذاتى والاعتراف بالخطأ واحياء الضمير. والتحدى الذى يواجهه المجتمع الأمريكى هو فى قدرته على أن يتنازل عن قدر من النجاح، عن المال والسلطة، بما يجعل للضمير تعبيرا بينما الجسم قوى، دون أن ينتظر قمة الاضمحلال ليهذى ويطلب الغفران من الشعوب الفقيرة لما وضعه لها من زرنيخ فى طعامها، أو مياه غازية وتبغ ولبان للمضغ فى مصانعها. الولايات المتحدة مثل سالييرى تعلم أن ما تقدمه لنا من قيم وسلع ليس هو الأفضل وليس هو مانحتاجه، ولكنها تقدمه مع ذلك لأننا نطلبه ونتلهف عليه. وكما قال شكسبير على لسان كاسيوس عن يوليوس قيصر:

” لولا أننا صرنا خرافا لما صار قيصر ذئبا “.

* التحرير ( ع. م. ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *