الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1982 / اكتوبر1982- قصة قصيرة الوجه والحائط

اكتوبر1982- قصة قصيرة الوجه والحائط

قصة قصيرة       

الوجه والحائط

فؤاد قنديل

لم يكن يفصلنى عنه غير متر واحد. تطلعت اليه. حدقت فى الندوب التى نخرت المستطيل الحجرى المواجه لى مباشرة. واجهنى الحائط. دنا منى، ثم دنا منى دنا، لمس أنفى ضغط عليه. سواه بخدى. تبطط أنفى. لمس الحائط خدى. عفرهما بالتراب. ضغط. التقى بعظمتين. ضغط. فى مهل تراجع الى أن بلغ موضعه الأول .

زعق الضابط. انغرس فينا صراخه العالى. عدت أبحلق فى الجدار. تهزه القطارات التى تجرى فوقه. ترتطم العجلات الحديدية بالقضبان، وتدق القضبان رأسى. تدك أكتافى. زعق الضابط مرة أخرى. تدفق صوته الهادر من نافورة أقدامه، مر خلال جسده المشدود. أنكب على رؤوسنا.زلزلها. بعدئذ تساقط فى سراديب الكيان المهتز. جرى مسرعا كالهارب داخل أجسادنا ورقد.

الكل ثابت. ارفع رأسك. الذقن فى مستوى الكتف. العيون الى أقصى اتساعها مفتوحة. هذه هى المرة المليون التى نسمع فيها هذه العبارات. كف الضابط عن الطرق… جذب الحائط نحوه نظراتى المرتجفة… لم أستطيع طويلا تجاهل أسنان الألم التى تنهش الاصبع الأصغر فى قدمى… الحذاء ضيق وثقيل .

صرخ الحائط فى. انتبه الى. بحلق فى دقق النظر. تأملنى مليا.. متين أنا وقوى ثابت فى مكانى كالطود. هأنذا أقف أمامك رغم القطارات… لست مثلك متهاوى الأركان .

دق القطار المتجه الى المرج رأسى… تأملت الحجر المواجه لعينى.. خلف ظهرى تسرع السيارات المجنونة، تتواصل بلا توقف … لا تبقى للشارع المصلوب على ألأرض لحظة يفيق من أغماءة السحق المتوالى … تطحنه السيارات وتطحننى .

لحظة هدوء واحدة لا تتركها لى كى أفكر فى أى شئ، أو أتذكر أى شئ …. الأبواق تتعالى وتتجمع كالدخان فى سحابة ثم تسقط مرة أخرى… كتلة صوتية ثقلية كألواح من الصفيح .

الأتربة تقذفها العجلات عن الأرض، وكلما حاولت أن تعود. قذفتها العجلات، فتحملها الرياح… تحلق فوق رأسى، وتنهال على قفاى، تتجه داخل أذنى، تلتف حول الرقبة وداخل الحلة، وتمضى الريح، لكن الأتربة تتسرب الى ما تحت الجلد .

الأرض تهتز تحت قدمى كأنى أقف على مطاط، أوبساط فوق بركة من الوحل… بطرف عينى تجسست على الشرطى الذى يبعد عنى الى اليمين مسافة مترين… مشدودا وجدته. محدقا فى الحائط، فى السور العالى الممتد الى ما لانهاية. بدأ مهتما بالوقوف، مهتما بالحائط… أقول له. أقول له أى شئ … ماذا أقول له ؟.

سألته ونحن مكومون فى اللورى عن أمه المريضة، التى رفض الضابط التصريح له بالذهاب اليها. لم يعد هناك ما يستوجب السؤال.

مللت.مللت وقفنى من ساعة الضحى، خمس ساعات، وجهى فى الحائط، أدور فى داخلى أجوس خلالى….. لا اهتدى، تضل خطواتى بحثا عنى.. أطفو مشتاقا للحياة أود أن أسمع، أسمع ولو بضع كلمات…. أتعطش لكلمة .

مرت بى سيدة ريفية ترتدى ثوبا اسود، تطلعت الى وخلفتنى، مشت الى زميلى، الذى يبتعد عنى مترين، سمعتها تسأله:

ـ أنتم يا بنى مصلوبين كده ليـه؟ .

لم يرد عليها..مضت وقد حملت سؤالها سؤالين. حدثت نفسى.. لو كانت قد سألتنى أنا، بماذا كنت أجيبها؟ … تسليت فى البحث عن أجابة الى أن مللت، وعاد الألم يتفجر من تحتى. من أصبعى الصغير. وعاد هدير الضابط المتلاطم الكلمات يصفع أذنى، ويدقنى فى مكانى .

السيارات المسرعة كأنها تحاول النجاة من خطر، تلصقنى بالجدار، تضعنا جميعا أمامه وهو يتفرج علينا، فرحا بصحبتنا، فكل الناس أمامه يمرون لا يأبهون، ونحن آلاف الجنود نقف امامه بثبات .. ندرس كل ذرة فيه ونحفظه من طول التحديق… من يناولنى الآن سيجارة

بطرف عينى احتوت نظرتى زميلى الشرطى الذى يبعد عن شمالى مسافة مترين .. مسعد الذى لا يكف دوما عن السخرية والضحك.. كائن عجيب.. كانت آخر حكاياته عن زوجته التى تورم جسدها فجأة .

قال مسعد: ولم أجد مفرا من حملها الى الطبيب الذى قال لى فى أذنى.. زوجتك تعانى من الاكتئاب .. ولم أتمالك نفسى من الضحك الى آخر العمر.. ومرت أيام لاحظن خلالها أن جسد زوجتى فعلا يتحول الى بالونة كبيرة بينما وجهها يضمر وينكمش.. ولكنى للأسف كلما رأيتها ضحكت فيزداد جسدها تورما.

من بين قهقهته تبلغنا كلماته:

زوجتى صريحة واضحة، أعلنت عن نفسها بالورم، والغريب أنها برغم الاكتئاب والورم ما زالت تعيش، فى حين أننى لو اكتأبت لمت فورا، بل اننى لأموت قبل أن أكتئب.. لا أتخيل حالة الاكتئاب هذه، فأما أن تعيش فى رأيى أو تموت، وما بينهما عذاب.. الآن فهمت السر فى أن أغلب الناس متورمون.

مسعد كائن عجيب حقا، لا ينطق أحدنا بكلمة الا وعلق عليها بما يضحكنا وكم أفسد الطوابير وأزعج الضباط فيصرخون فيه، ويخرجونه من الطابور ليلقى جزاءه، فيقول ما يضحكهم، ويضظرون لاعادته.

 أما الآن فالمسكين يقف مكتوف الأنفاس، ويوشك أن يموت من الغيظ، لا يجد من يكلمه، ولايجد من يسخر منه. الحائط الذى يسد عليه طريق البسمة والضابط الذى يمر علينا” بوشه الكشر” .

لمحنى مسعد. أحس بنظراتى. أشار بابهامه جهة الخلف، أيقنت أنه يعنى زملاءنا الذين يقفون على الجانب الآخر من شارع رمسيس، يطلون على المقاهى ومحلات العصير والأثاث والملابس. يتسلون بالنظر الى المارة .

أما نحن فحظنا فى كل مرة هذا الجدار،ننتظر مسمرين ست أو سبع ساعات الى أن يمر الضيف الكبير فى طريقه الى القاعة الكبرى، فيلقى خطابه ويعود من نفس الطريق. طريق يمتد ثلاثة كيلومترات أو يزيد نفرشه نحن الآلاف على ثلاثة صفوف .

صف أنا فيه، وجهته هذا السور وفوقه السكك الحديدية، وصف وجهه الى المحلات التجارية، وثالث فى الوسط بين الرائح والغادى، تتبادل فيه الوجوه،شرطى وجهته الينا وشرطى وجهته هناك وهكذا .

كا أبى حين أخطا وأنا صغير يشفق على من الضرب بالعصا أو بالحزام، فيأمرنى بالوقوف ووجهى للحائط.. أقف ساكنا لا أهتز.. لا أدفع عنى الذباب الذى وكأنه يعرف حالتى، ينكب على عينى وأنفى يقلب فيها .

كنت أحملق فى البياض المتهرئ، اتخليه أشكالا.. أدفن نفسى فى الأشكال الناقصة. تتبخر من  ذهنى الدنيا، تبتعد وتتلاشى، الى أن يصفعنى صوت أبى فيلقينى فى الأرض بعيدا عن خيالاتى .

_ قف معتدلا و الا ……….

تعودت من سنين أن أرنو للجدران. أن التصق بها. أفصل حبة الرمل عن حبة الرمل.. تعلمت كيف أبحث فيها عن الأشكال، وأتتبع قوافل النمل المسافرة، هذه النملة تمشى كما تشاء. وهذه تحمل ما تشاء  وهذه تدع ما تشاء… تعلمت كيف أحدث الجدران أحكى لها عنى.. لكن ذلك كله لم يكن يحول بينى وبين الدمع يتواثب فى عينى حتى وأنا كبير، وفى هذه السن ومعى الزوجة والأولاد .

كنت أقف ساعة واحدة على الأكثر، بعدها يشفق أبى على، فيأمرنى بالاختفاء من أمامه، ولما كبرت أصبحت أقف نحو ست ساعات دون ذنب، أو ربما هناك ذنب، الله أعلم.. وجهى للحائط، على أن أطيع ولا أفتح فمى بكلمة غير.. تمام يا فندم .

_ بس.. بس

بطرف عين نظرت الى مسعد، اشرت اليه بيدى أشارة تساله :

_ ماذا تريد ؟ .

ووجهه للحائط أجاب: حظى التعس يضعنى كل مرة بين حمارين، لا ينطق الواحد منكما حرفا… مجرد حرف يغيث الملهوف …. لست أدرى من أين جاءوا بكم ؟

_ هس هس والا …….

_ ألا تحمل معك ما يفيدنا فى هذا الموقف العظيم .

_ أنت تعرفنى .

_ خيبة .

حين ادخل دارى أجر أقدامى تقابلنى ابنتى :

_ ماذا أحضرت لى يا أبى؟

أمر من امامها دون أجابة وأرتمى على السرير… تدخل زوجتى

_ لم ترد على ابنتك !

_ بماذا أرد عليها؟ … هل ترين أن لى رأس يمكن أن يتذكر شيئا؟

اذهبى فهات الماء ….

تمضى فتحضر الطست. تخلع حذائى اللعين. تغمس قدمى فى الماء … أسمع ابنتى وهى تجرجر فى الشارع فردة حذائى الكبيرة وتقول:شى…. شى يا حمار .

تقدم منى الحائط. بحلق فى. أحمرت عيناه. ظهرت أنيابه. مد فى وجهى أظافره المدببة تراجعت. تقدم منى. تراجعت السيارات تندفع خلفى. وقبل أن تدهمنى وتسحقنى استردنى الحائط اليه. جذبنى من خصرى بعنف, عانقنى. بصق فى وجهى. أغمضت عينى. فقدت وعيى لحظة, كدت أتهاوى.. زعق الضابط: ثابت ياعسكرى هناك .

حدق مسعد فى الحائط. تململ. عهدناه لا يتحمل الوقوف طويلا يحب الحركة. القفز والدوران للأمام والخلف. اذا تحدث يتمدد وينحنى، يطول ويقصر، يلف ويرفع رجله اليمنى، يصفق بأصابعه يهرش” يشن” بأنفه .

هو الآن متجمد. متحجر تماما كالحائط الذى يواجهه .

فجأة صرخ مسعد: أمش يا كلب .

وفى لحظة قفز وتعلق بأعلى الجدار. أستند بقدمه على موضع حجر متهدم… استأنف: الحق يا حضرة الضابط… رجل يحمل تحت معطفه رشاشا.. لقد رأيته .

صعد الى السكك الحديدية. تقافز فوق القضبان. تحولت أنادى الضابط. لم ألمحه قريبا.

سررت لأن مسعد رغم تركيزه ولهفته الدائمة على الثرثرة والتسلية، قد تنبه للرجل حامل الرشاش ولولم يره لحدث ما لا تحمد عقباه… حادث كهذا ربما يأخذ فى طريقه دولا بكاملها، وبالتحديد شعوبا بكاملها، ولاشعوب فى رأى مسعد:

_ “يعنى ناس مثلنا غلابة” .

اضطربت للحظات.. ماذا على أن أفعل؟ الضابط اختفى الآن وكان دائما وراءنا.. لابد أن أنطلق فى أثر مسعد، غير معقول أن أتركه وحده فى مواجهة رجل مسلح.. صرخ أصبعى من نار الألم.. الحذاء الثقيل يغرسنى فى الأرض. فطرتنى الحيرة هل أذهب أم أنتظر الضابط …. أذهب …. لا أذهب. أذهب. لا أذهب .

قررت أخيرا أن أذهب لأساند مسعد، مسعد أهم من  الأوامر، أهم من غضب الضابط. قفزت الى أعلى السور، لم أحس بالحذاء… عدوت خلف مسعد … لحقته .

_ ماذا هنالك يا مسعد ؟ .

لم يجبنى .

دنا منا قطار يستعد لرحلته الى السويس، تتزايد سرعته لحظة بعد أخرى، قال مسعد فجأة مشيرا الى القطار: أهه .

قفز الى القطار.قفزت. استنفرت قوتى. أشرعت سلاحى, وفتحت الى أقصاهما عينى نسيت كل شئ عدا هذا المسلح… أعددت نفسى لملاقاة الخطر. فليكن ما يكون .

فتشت عيماى عن مسعد.. ألفيته يجلس أمامى مباشرة على أول كرسى حلقت فيه… بنظرة سألته عن المسلح… بأصبعه على فمه رأسيا قال: هس

همست أن أفتح فمى معترضا ومتساءلا، جذبنى من صدرى بعنف، فألقانى على المقعد. أسرع القطار ونحن فيه، فرحت لأنى أركب القطار… الهواء البارد يداعبنا بحنان ولهفة يجفف العرق. المناظر الخلابة تتبدى لنا من منافذ القطار… تعرض نفسها علينا وتغيب بسرعة .

تنفثت بملء رئتى لم أسال مسعد عن الرجل المسلح… وفى وقت واحد ضحكنا فجأة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *