الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1984 / ابريل1984-مسرحية الذباب ووجودية سارتر

ابريل1984-مسرحية الذباب ووجودية سارتر

مسرحية الذباب ووجودية سارتر

إبراهيم عادل       

مقدمة:

كتب سارتر مسرحية الذباب حول موضوع الأسطورة اليونانية المعروفة، وهو وأن التزم فى معظم الأحيان بأشخاص الأسطورة وأحداثها الأصلية، إلا أن التزامه وولاءه الفعلى إنما هو لفلسفته الوجودية، والتى قصد أن يجعلها تحيا فى أشخاص المسرحية وأحداثها، وأن تكون المسرحية مختبراً تتفاعل فيه الأشخاص من خلال الأحداث مع فلسفة سارتر ومبادئه، ويبدو كما لو أن سارتر فى كتاباته الأدبية، جعل أدبه أداة لخدمة فلسفته وشرحها وتعميقها وخلع الحياة عليها، وكأنما يريد سارتر من خلال ذلك أن يبين أن فلسفته ليست محض افتراضات وتجريدات، ولكنها وقبل كل شىء مذهب إنسانى قابل للحياة، وأن هذه هى قيمتها العظمى.

…عن أحداث وأشخاص المسرحية(1):

تسبق أحداث المسرحية خيانة الملكة، (كليتمنسترا) لزوجها الملك (أجاممنون) ملك (أرجوس) أثناء قيادته لأسطوله فى غزوة خارجية وذلك مع عشيقها (ايجست). وعندما يصل أجاممنون منتصراً يتآمر ايجست مع كليتمنسترا اجاممنون ويستولى ايجست على العرش ويتزوج كليتمنسترا، كما يأمر بقتل (أورست) الصغير ابن أجاممنون وكليتمنسترا، ولكن المكلفين بقتل أورست تأخذهم الشفقة به فيتركونه حيا فى الغابة، وينجو أورست ويشب فى أثينا فى منزل أحد الأغنياء الذى يكلف (المربى) بتعليمه وملازمته.

وتبدأ أحداث المسرحية بعودة أورست ومعه المربى إلى أرجوس ليجد أهل المدينة وقد تكاثر عليهم الذباب وكبر حجمه واستولى عليهم الندم واستغرق حياتهم، لجريمة قتل أجاممنون، تلك الجريمة التى يحتلفون بذكراها يوما كل عام (هو يوم عيد الموتى) وهو اليوم الذى يبعثون فيه ندمهم على الجريمة وعلى حياتهمم ذاتها، وفى هذا اليوم يقابل أورست جوبيتر كبير الآلهة الذى يعلم حقيقة أورست ويحذره من التدخل فى الأحداث، كما يقابل أخته (الكترا) التى تحيا على الحقد على ايجست وعلى أمها كليتمنسترا كما تحيا على الأمل فى أن يكون أخوها أورست حيا فيعود لينتقم منهما. كما يقابل أمه كلتيمنسترا التى تحيا على الندم.

وتبدأ طقوس عيد الموتى، فيتسابق الناس فى إبداء الندم والشعور بالذنب ولا سيما تجاه الموتى، ويظهر الملك ايجست ليغذى فى الناس هذا الشعور بينما هو نفسه (القاتل) لا يشاركهم الندم، وتثور الكترا على طقوس عيد الموتى وتحرض الناس على الثورة عليها وتكاد تنجح فى ذلك إلا أن جوبيتر يخذلها ويهزمها بأحد معجزاته ليظل الناس مكبلين بالذنب والندم.

يعرف أورست الكترا بنفسه، ويصمم على الانتماء للمدينة ولأهلها وأن يتحمل مسئولياته فى الانتقام وقتل المجرمين وتحقيق العدل وهزيمة الندم، يقتل أورست الملك ايجست والملكة كلتيمنسترا أمه، ويلجأ مع أخته إلى معبد (أبولون)، حيث تهاجمهما آلهة الندم بشراسة، وتضعف الكترا وتنهزم وتستسلم للندم، أما أورست فيؤكد تحمله لمسئوليته وحريته كانسان من خلال حوار مع جوبيتر الإله، وفى مشهد ختمامى يخاطب أورست أهل أرجوس ليتخلصوا من الندم والذباب وليجتذب هو الذباب وراءه وهو خارج من المدينة.

الملامح الرئيسية لوجودية سارتر(2):

حتى أتمكن من مناقشة كيف ظهرت فلسفة سارتر فى مسرحية الذباب، سوف أقدم لها فى عبارة قصيرة بأنها وجودية: إنسانية، ملحدة، ملتزمة.

إنسانية: إذ أنها تؤمن بالإنسان، كما أنها تتناول مشاكله، وتتخذه موضوعاً أساسيا لها.

ملحدة: إذ أن سارتر يتخد الإلحاد – أو عدم وجود الله – نقطة بداية لمسئولية الإنسان وحريته اللامتناهيتين.

ملتزمة: إذ أنها تؤمن بالحياة، وبالتزام الإنسان بأداء دوره فيها، انطلاقا من حريته ومسئوليته.

والآن سوف أقدم موجزا للملامح الرئيسية لهذه الوجودية:

وجود الإنسان سابق على ماهيته:

إذا حاولنا أى شىء (مصنوع) لوجدنا أن صانعه قد أتم عمله طبقا لفكرة مسبقة لديه عن هذا الشىء، فهو يعلم فيم سيستخدم، ولذا فمجموع صفاته، أو “ماهيته” (شكله – تركيبه – المواد الداخلة فى صناعته معلومة مسبقا) فالأشياء تصنع طبقاً لفكرة معينة مسبقة عنها، أى أن ماهيتها سابقة على وجودها، فالقلم مثلا يصنع طبقا لفكرة مسبقة معلومة عن فائدته – وبالتالى مجموع صفاته وتركيبه – أو ماهيته، هذه الماهية التى تترسب فى أذهاننا وتوجد قبل وجود القلم ذاته. والفكرة الشائعة عن الإنسان أيضا هى مماثلة لذلك فقد خلق الله الكون – بما فيه الإنسان – طبقا لفكرة معينة كاملة ومسبقة عنه – وتنص الأديان والفلسفات المتدينة – على علم الله المسبق والكامل بالإنسان مثله مثل باقى الأشياء ماهيته سابقة على وجوده، ولما بدأت النظريات الملحدة فى الظهور، أنكرت وجود الله ولكنها لم تقض على فكرة سبق الماهية على الوجود، فالإنسان له طبيعة بشرية عامة، هى ما يتسم به ويشترك فيه كل إنسان، وبذلك تكون الإنسانية كلها مصنوعة طبقا لفكرة عامة أو نموذج عام، وهى “ما يجب” أن يكون عليه البشر، ثم تأتى بعد ذلك “الفروق الفردية”، والآحاد المتميزون من البشر، المهم أننا طبقا لهذه الفكرة العامة، ونظرا لمعرفتنا ودراستنا “للطبيعة البشرية العامة”، يمكن لنا أن نتوقع سلوك الإنسان، وحتى حركة التاريخ ذاتها يمكن لنا تنظيرها، واستنتاج سير الأحداث فيها، أى أن الماهية تسبق على الوجود مرة أخرى.

أما فى وجودية سارتر، فأنها تعلن: أنه إذا لم يكن الله موجوداً، فأنه يوجد على الأقل مخلوق واحد قد تواجد قبل أن تتحد معالمه، وهذا المخلوق هو الإنسان بمعنى أن الوجود سابق على الماهية: يوجد الإنسان أولاً، ثم يتعرف على نفسه، ثم يبدأ فى الاتصال بالمعالم الخارجى ومن ثم تكون له صفاته، حيث يختار من خلال هذا الاتصال ما يشاء من الصفات التى تحدده، فالإنسان فى بدء حياته ليس له صفات محددة، وهو يبدأ من الصفر، وهو لن يكون شيئا إلا بعد ذلك، وعندئذ سوف يكون ما أراده لنفسه. وبذلك لا يوجد للإنسان ما يسمى بالطبيعة البشرية، ذلك النموذج الذى يخلق الناس على نمطه ولا يتحركون إلا فى حدوده، إذ لا يوجد ذلك الإله الذى علم مسبقا بهذه الطبيعة وتمثلها وصنع الناس على مثالها طبقا لفكرته عنها. وموجز الفكرة أن: “الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون، فيكون ما يريد أن يكونه”.

ذاتية الإنسان:

الإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه، فالإنسان مشروع يمتد بذاته نحو المستقبل، مشروع يمتلك حياة ذاتية، وهو يختلف عن المخلوقات الأخرى فى أنه يمتلك هذه الذاتية التى تجعله مسئولا مسئوليا كاملة عما سوف يكون عليه فى المستقبل.

ولا تعنى هذه الذاتية أن الإنسان مسئول عن شخصه فقط، ولكنه مسئول فى نفس الوقت عن كل الناس، فالذاتية تعنى الحرية والاختيار، والاختيار فعل خلاق، فالإنسان حين يختار لا يختار لنفسه فقط، ولكنه يختار لكل الناس، وهو يساهم فى خلق صورة الإنسان كما يتصوره ويريده، وكما يظن أنه يجب أن يكون. فاختيار الإنسان لنمط معين إنما هو تأكيد لقيمة هذا النمط وإعلاء لشأنه، وكأنما هو دعوة لكل الناس لاختياره، والإنسان الذى يختار مبادئ معينة ويلتزم بها كأنما يقول للناس فى نفس الوقت أن هذه المبادئ هى أفضل المبادئ، وهو يدعو بذلك الآخرين إلى اختيارها أيضا ويلزمهم بها، فاختيار الإنسان هو إبداع للصورة التى يجب أن يكون عليها الإنسان، والإنسان بذلك الاختيار إنما يشكل الواقع، ليس واقعه الخاص فقط، ولكن واقع كل الناس المحيطين به، وواقع العصر الذى يوجد فيه، ويخلق عالما ملتزما بمبادئه.

القلق:

إن الإنسان عندما يلزم نفسه باختيار معين، ويدرك أنه لا يختار لنفسه وحدها، بل يختار للإنسانية كلها فى نفس الوقت، لا يمكنه – لحظة إدراكه لذلك – إلا أن يحس بالمسئولية الكاملة والقلق، فهو لا يمكنه الهرب من اليقين بأن اختياره هو إلزام للآخرين، كما لا يمكنه الهرب من القلق على صحة هذا الاختيار، على أن القلق الذى يعنيه سارتر ليس ذلك القلق الذى يعجز الإنسان عن الفعل ويؤدى إلى السلبية، ولكنه القلق الذى يعرفه كل من مارس القيادة وتحمل المسئولية فى يوم ما، وهو يتضح خلال ممارسة المسئولية، وهو جزء من الفعل وشرط لقيامه.

السقوط:

لما كان المجتمع قد قام وعاش بخشية الله وعقابه، فإن إلغاء فكرة الله تقوض استقرار المجتمع القائم على الأخلاق الدينية، وقد تحاشى بعض الفلاسفة الملحدين ذلك بالغائهم لفكرة الله، ولكن بتمسكهم فى نفس الوقت بالأخلاق الدينية، إذ أعلوا من قدر قوانين الأمانة والتقدم والإنسانية، وكانت حجتهم فى ذلك هى: أولاً: وجود قيم قبلية أى سابقة على أى إيمان أو خوف من عقاب، (كأن يكون الإنسان أمين بطبعة مثلا أو أنه يميل إلى التقدم بطبعة). ثانيا: أن القيم أشياء نفعية ولابد منها لاستقامة أمور المجتمع.

أما وجودية سارتر فتقول: أن عدم الله معناه عدم وجود القيم المعقولة كلك، وعدم وجود الخير بصورة مسبقة قبلية، إذ أن عدم وجود الله يعنى عدم وجود ذلك الوجدان الكامل اللامتناهى الذى يعقل ذلك الخير، وهكذا يصبح القول بوجود الخير أو بوجوب الصدق والأمانة قولا لا معنى له، إذ أننا حيال وجود إنسانى بحت لا دخل فيه لوجود الله أو لقيم مصدرها الله، أى أن وجودية سارتر تبدأ من قول دوستويفسكى: “أن الله إذا لم يكن موجوداً فكل شىء مباح” ووجودية سارتر ترى أن كل شىء مباح، بالمعنى الآتى: أن الإنسان كنتيجة لإنكاره لوجود الله – يصبح وحيدا مهجورا لا يجد داخل ذاته أو خارجها أى إمكانية يتشبث بها، ومن ثم فإنه يكتشف إنه لا عذر له بإحالة سلوكه وتفسير أسباب تصرفاته إلى وجود طبيعة إنسانية مسبقة محددة الصفات. وهو ما يمكن التعبير عنه بأن الإنسان محكوم عليه بالحرية: محكوم عليه لأنه لم يخلق ذاته، أما الحرية فهى قدره لأنه صار مسئولا عن كل ما يفعل بمجرد تواجده فى هذا العالم، وهو محكوم عليه دون أى مساعدة تلقى إليه، بأن يبدع الإنسان الذى هو نفسه، والذى هو مستقبل الإنسان(3) من هنا يتضح أن قول سارتر أن “كل شىء مباح” لا يحتوى على سلبية أو انسياق وراء الرغبات بل يحتوى على صرامة تفوق صرامة الأخلاق الدينية، وهنا يمكن حجر الزاوية فى الحاد سارتر، فإن الإنسان إذا آمن أن المستقبل مكتوب على الإنسان، وأن الله وحده هو الذى يعرفه ويحدده، أو أن الإنسان مصنوع على مثال نموذج معين هو الطبيعة الإنسانية، يصبح القول بأن “الانسان هو مستقبل الإنسان” قولا فاسدا، ولا يعود المستقبل مستقبلا، أما إذا آمن أن المستقبل هو شىء لم يصنع ولم يقرر بعد، وأنه هو صانعه ومبدعه يصبح قول يونج قولا سديدا، وفى هذه الحالة يعانى الإنسان من “سقوطه”.

ملحوظة: نلاحظ مهنا أن وجودية سارتر الملحدة لم تستهلك نفسها فى استعراض أو إثبات عدم وجود الله بل هى تعلن: أنه حتى لو كان الله موجوداً، فالنتيجة بالنسبة لنا سواء، وليس المهم ألا نؤمن بوجود الله ولكن المشكلة الحقيقية هى أن الإنسان محتاج لأن يجد نفسه باستمرار، وأن يخلق نفسه باستمرار، ولا يمكن أن ينقذه شىء من ذلك حتى لو برهن على وجود الله.

اليأس:

اليأس عند سارتر هو أن نقصر امكانياتنا على تلك الامكانيات التى فى نطاق إراداتنا وفى نطاق الاحتمالات التى تجعل عملنا ممكنا، وليس خارج هذا النطاق. فأنا لا أستطيع أن أعتمد على أن مجموعة من زملائى سوف تتخذ نفس الخط الذى بدأته وتعتنق ما أعتنقته من مبادئ أو تكمل ما بدأته من أفعال، فما دام الإنسان حرا، فإن أيا منهم يستطيع أن يغير مساره فى أى وقت، واعتمادى على ما هو خارج حدود إرادتى إنما هو تعلق بالوهم، وعلينا أن نطرح هذا الوهم ونبدأ فى العمل ما استطعنا انطلاقا من هذا اليأس.

الإنسان ليس إلا مجموع أفعاله:

كنتيجة حتمية لليأس، يصبح الإنسان ليس إلا مشروع الوجود الذى يتصوره، ووجوده هو مجموع ما حققه، وهو نفسه ليس إلا مجموع أفعاله، ومجموع أفعاله هى حياته، فالإنسان هو مجموع أفعاله وهو حياته، والإنسان لا يستطيع إرجاع أعماله إلى أسباب وراثية أو عضوية أو نفسية، فالجبان قد جعل نفسه جبانا بما يأتى من أفعال، والبطل لم يكن بطلا عند مولده بل هو خلق من نفسه بطلا بأفعاله.

مسرحية الذباب:

أن مسرحية الذباب لسارتر هى نموذج لتوظيف الأدب لخدمة الفكر والفلسفة، فسارتر فيلسوف ومفكر بالدرجة الأولى، وهو لم يستطع – أو لم يرد – أن يتخلص من تغلب الطابع الفكرى الفلسفى أو السياسى على كتاباته الأدبية، وكان رأيه فى هذا الصدد: “أن الأدب الملتزم فقط هو الذى يستحق الكتابة وهو الذى يمكن قراءته”، ولا ينقص ذلك من المستوى الفنى للمسرحية، سواء من حيث البناء أو من حيث الغنى بالأساليب الفنية، لذلك ستكون خطتى فى استعراض المسرحية هى: كيف عرض سارتر أفكاره من خلال المسرحية؟:

الإنسان والحرية:

تصور المسرحية الإنسان الذى يسبق وجوده ماهيته، كما تصوره فى أزمة السقوط وهو يصنع قيمه وأخلاقه بنفسه ويمارس حريته التى هى جوهر وجوده.

– والإنسان هو أورست، وتبدأ المسرحية به وهو لم يتشكل نبعد بأى شكل، وكأنما هو يولد عند دخوله أرجوس، ذلك لأنه لم يلتزم بعد بأى اختيار، ولم ينتم بعد لأى شىء فهو موجود ولكن ماهيته لم تتحدد بعد، وهو لأنه إنسان فهو حر ولكن بما أنه لم ينتم ولم يلتزم ولم تتحدد بعد ماهيته فحريته من نوع خاص، فهى الحرية الأولى وهى حرية بريئة، وهى حرية الاختيار، ويتضح شكل هذه الحرية فى حوار أورست مع المربى (ص 20، 21) فيقول المربى: “ها أنت ذا الآن شاب غنى وجميل، حكيم كالشيوخ، متحرر من جميع ألوان العبودية والمعتقدات، بلا أسرة ولا دين ولا مهنة، حر أمام جميع الالتزامات، ومدرك أنه ينبغى ألا تلتزم أبدا”. وهذا النوع من الحرية وأن كان الحرية المثلى فى نظر المربى أو الحرية الوحيدة، إلا أن أورست يعبر عن وعيه بأن قدره كإنسان هو فى الاختيار والالتزام، فهو يصف هذه الحرية: “..لا أستطيع أن أشكو، لقد تركت لى حرية هذه الخيوط التى تنتزعها الريح من نسيج العنكبوت، والتى تتطاير على ارتفاع عشرات الأقدام من الأرض..” قد يظن الخيط الذى يتطاير مرتفعا فى الهواء أنه حر، ولكن أورست لأنه إنسان فهو يعى أن الحرية الحقيقية مقترنة بالالتزام والاختيار، وهو وأن لم يجرب هذا الالتزام والاختيار بعد ألا أنه يدركه ويحسه بل ويتهيأ له فهو يحسد الآخرين المنتمين على إنتمائهم ويرثى لنفسه لأن الأشياء لا تخصه ولا تنتمى إليه: “هناك أشخاص يولدون ملتزمين، ليس لهم الخيار، فقد القوا فى درب، وفى آخر الدرب عمل ينتظرهم هو “عملهم” وبعد ذلك يقول: “لقد كنت بدأت أدرك، وأنا فى السابعة، أنى كنت منفيا، أن الروائح والأصوات، ونقر المطر على السقوف، وارتعاشات النور .. كنت أترك ذلك كله ينزلق على جسمى ويسقط حولى”. “أن الذكريات أغذية دسمة لمن يمتلك البيوت والحقول والماشية والخدم، أما أنا .. فأنى حر، والحمد لله” أن هذه الحرية، حرية ما قبل الاختيار هى حرية ناقصة، فما معنى الحرية إذا لم يوجد ما تمارس (فيه – ولأجله – وبالرغم منه)؟

– ثم يصف أورست حسرته على عدم الانتماء وعدم الاختيار وضياعه لعدم تحقق ماهيته حتى يصف نفسه بأنه أكثر شبحية من الأشباح ذاتها (ص 63) فيقول مخاطبا الكترا: “… من اكون؟ وماذا عندى لأعطيه؟ أننى أكاد لا أوجد، فليس بين الأشباح الذين يملأون المدينة اليوم، من هو أكثر شبحية منى”، اسمعى: فإن العبد حين يمر، متعبا مقطنا، حاملا عبئا ثقيلا، جارا ساقيه، وناظرا إلى قدميه، إلى قدميه وحدهما، ليتفادى من السقوط، فأنه فى مدينته، كورقة على غصن وكشجرة فى الغابة، أن أرجوس حوله، وإزنة وحارة كل الحرارة، ممتلئة بنفسها، أننى أريد أن أكون هذا العبد، يا الكترا”. أن ما يدفع أورست إلى اتخاذ قرار البقاء فى أرجوس إنما هو الحاجة للانتماء، تلك الحاجة الملحة التى يعبر عنها: “أريد أن أشد المدينة حولى  وأتسربل  بها كالغطاء أننى لن أذهب ..”.

– يصف أورست الحرية والاختيار (ص 91) وصفا يبين أن الحرية هى قدر الإنسان ويكاد يكرر قول سارتر “أن الإنسان محكوم عليه بالحرية” إذ يقول أورست: “أننى حر يا الكترا، لقد انقضت على الحرية كالصاعقة” ثم يصف التزامه وانتماءه وكيف “أن الإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه” بطريقة تكاد تكون مباشرة تماما.

فيقول أورست مخاطبا الكترا: “لقد قمت بعملى يا الكترا، وكان هذا طيبا، وسوف أحمله على كتفى كما يحمل عابر الماء المسافرين وسوف أنقله إلى الشاطئ الآخر وأقدم عنه حسابا، وسأزداد بهجة ما ازداد هذا الحمل ثقلا على، لأن حريتى هى إياه” وتلاحظ هنا تعبير “سأزداد بهجة ما ازداد هذا الحمل ثقلا”، فعبء المسئولية ليس فقط هو الذى يجعل للحياة معنى ولكنه يجعلها مبهجة أيضا. ويحتاج الأمر إلى مزيد من العمق كى نتمكن من التوافق مع وصف أورست لتمزقه بعد أن قتل أمه وسمع أناتها وهى تحتضر مخاطبا الكترا (ص 101): “أتظنين أن أذنى ستكفان يوما عن سماع أنات أمى؟ وعيناها الهائلتان الهائجتان، فى وجهها الجيرى، أتظنين أن عينى ستكفان يوما عن رؤيتهما؟ وهذا التمزق الذى يأكلك: أتعتقدين أنه سوف يكف يوما عن تمزيقى؟ ولكن ما الذى يهمنى، أننى حر .. نعم أننى رغم هذا التمزق وهذه الذكريات حر ومنسجم مع نفسى” ، كيف يتفق التمزق والانسجام مع النفس؟!..

– أن أورست يمضى فى أعلاه شأن هذه الحرية الملتزمة رغم كل ما يصاحبها من آلام، وتمزق، فهى جوهر الإنسان وقدره، ولن يستطيع الإنسان الفكاك منها، يقول جوبيتر لأورست (ص 104): “انظر إلى نفسك أيها المخلوق الوقح البليد أن لك فى الحقيقة هيئة متعالية، ملتوية بين سيقان إله منقذ، مع هذه الكلبات الجائعة اللواتى يحاصرنك، إذا جرؤت على الزعم بأنك حر، فلابد إذن من الإشادة بحرية الأسير المثقل بأغلاله، فى جوف زنزانة، وحرية العبد المصلوب”، هنا يرد أورست: “ولم لا؟” أن سارتر يعلن أن شيئا لن ينتقص من حرية الإنسان أو يزيحها من على كاهله، ولن يستطيع الإنسان أن يعتذر لظروف خارجية أنقصت من حريته، وحتى العبد المكبل بالقيود أو الأسير المثقل بالأغلال. فهو حر أيضا، إذ الحرية جوهرة بما هو إنسان.

فكرة الله وإلحاد سارتر:

لقد أعلن سارتر بصراحة ومباشرة تامتين أن فلسفته هى فلسفة ملحدة وأن حجر الزواية فيها هو إنكار وجود الله، انطلاقا إلى تقرير حرية الإنسان ومسئوليته الكاملتين إزاء اختياره ومستقبله، وبالرغم من ذلك فإن فكر سارتر يحتوى على معالم ميتافيزيقية لا يمكن تجاهلها، إن فكرة الله تمت مناقشتها (كما يراها سارتر) فى مسرحية الذباب من خلال جوبيتر كبير آلهة اليونان وعلاقاته بأشخاص المسرحية، (ص 25) تخاطب الكترا جوبيتر مظهرة احتقارها واشمئزازها من ذلك الإله الفارغ الذى يعيش على آلام الناس: “قذارة! أنك تستطيع أن تنظر إلى، هيا، بعينيك الملطختين بعصير الفريز، فأنت لا تخيفنى، قل لى، لقد جاءت هذا الصباح النساء القديسات، العجائز اللابسات السواد، ولقد صفقن فعالهن الضخمة حولك، وقد كنت مسرورا، أيها الفزاعة(4) فأنت تحبهن، هاتيك العجائز، أن حبك لهن يزداد، ما ازددن شبها بالأموات” .. “أننى لست قوية جداً، ولا أستطيع أن اسقطك إلى الأرض، ولكنى أستطيع أن أبصق عليك، هذا كل ما أستطيعه”… “سيأتى ذلك الذى انتظره… ثم يستل حسامه ليشقك به من أعلى إلى أسفل، هكذا، وعندئذ سيتدحرج نصفا جوبيتر، النصف الأول إلى اليسار، والنصف الثانى إلى اليمين، وسيرى الجميع أنه من الخشب الأبيض، أما الاشمئزاز، والدم الذى على الوجه، والخضرة المعتمة فى العينين فليس ذلك كله إلا طلاء.. أنت تعلم أنك فى الداخل أبيض كل البياض، أبيض كجسم طفل رضيع.. أنت تعلم أن ضربة سيف ستشقك شقا، ولن تستطيع حتى أن تنزف، خشب أبيض، خشب أبيض جيد، يحترق جيدا”.

– أننا لا نملك إلا أن نشعر أن سارتر هو الذى يتكلم وليست الكترا وأنه يخاطب إله شارل شفايتزر (الآب) وكان الكترا هنا تتقمص سارتر الصبى، فهو يعبر عما أصابه من يأس وخيبة أمل إزاء عجز ذلك الإله وفراغه، بل أننا نشعر أنه يسببه ويصفه بالقذارة من فرط حاجته إليه.

– هذا هو الإله إذن إله فارغ تماما، (أبيض من الداخل) عاجزا تماما، زائف تماما، يستمد هيئته الظاهرية من الطلاء الخارجى ويستمد سيطرته على الناس من بؤسهم.

– إن هذا الإله لا يخجل من أن يقوم بعمل بعض المعجزات ليبهر بها الناس فيسيطر عليهم، تللك المعجزات التى يظرها سارتر فى المسرحية كأنها بعض ألاعيب الحواه. مثل إظهار النور حول الصخرة المقدسة.

– إن أهم ما يهم هذا الإله هو أن يشغل الناس عن ذواتهم وعن معرفة أنهم أحرار، فهو يخشى الناس الأحرار ويعلم أن الحرية قضية إنسانية، وأن البشر إذا علموما أنهم أحرار فسوف يخرجون عن سيطرة الآلهة.

يظهر ذلك جليا فى حوار جوبيتر مع ايجست (ص 83) جوبيتر: “.. أننى منذ مائة ألف سنة أرقص أمام البشر. رقصة بطيئة مظلمة. ويجب أن ينظروا إلى، فما دامت عيونهم محدقة بى، ينسون أن ينظروا فى ذواتهم، وإذا نسيت نفسى لحظة، وإذا تركت أنظارهم تلتفت قليلا..”

– أما فكرة أن الحرية هى قضية الإنسان وليست مشكلة الآلهة فإن سارتر يعبر عنها بطريقة مباشرة تماما على لسان جوبيتر(ص 85): “حين تنفجر الحرية يوما فى قلب إنسان، فإن الآلهة لا يملكون إلا العجز تجاه هذا الإنسان، ذلك أنها قضية بشر، ويجب على البشر الآخرين.

– عليهم وحدهم أن يتركوه يجرى أو أن يخنقوه”. إذن فحتى الآلهة تعجز تجاه الإنسان الذى يعلم أنه حر.

– كذلك العدالة قضية بشرية أيضا وهى مشكلة الإنسان الذى يختار، هكذا يخاطب أورست أيجست عندما يقتله (ص 86): “أن العدالة هى قضية بشرية ولست بحاجة إلى إله ليعلمنى إياها..”

– ما الذى يبقى إذن للآلهة؟ إن جوبيتر يريد أن يسيطر على البشر بأن يشعرهم بالندم فهو سلاحه الأكبر الذى يكبل به الناس إلا من أحس منهم بأنه حر، وهو يساوم الناس بالندم والغفران ويكاد يتسول هذا الندم أحياناً بل ويستخدم كافة الأساليب الملتوية لإغراق الناس بالذنب وقد نجح فى ذلك مع الكترا وأن لم ينجح مع أورست.

– تتضح مواصفات ذلك الإله الذى ألحد به سارتر، أكثر ما تتضح فى الحوار بين أورست وجوربيتر (108 إلى 112) ففى هذا الحوار لا يسخر سارتر من قدرات الإله المتواضعة. ولكنه يجعل جوبيتر يستخدم أقصى قدراته فيقول لأورست: “لقد خلقتك وخلقت كل شىء. انظر إلى هذه الكواكب التى تدور فى نظام، دون أن تتصادم أبدا، أنا الذى نظمت مجراها.. باسمى تخلد الأنواع والأجناس، وقد أمرت أن يولد دائما إنسان من إنسان، وأن يكون ابن الكلب كلبا”. أن جوبيتر يبين لأورست أن الإله هو خالق الطبيعة وخالق النظام وخالق الإنسان، ثم يقول: ” .. أن الخير قائم فى كل مكان، أنه .. نداوة الينبوع، وحبة الصوان، وثقل الحجارة، وأنك واجده حتى فى طبيعة النار والنور، بل أن جسمك نفسه يكشف عنه، لأنه ينسجم مع أوامرى. أن “الخير” فى نفسك وخارج نفسك، وهو يخترقك كمنجل ويسحقك كجبل، ويحملك ويدفعك كبحر، وهو الذى أتاح نجاح مشروعك السيئ، لأنه كان ضوء الشموع وصلابة سيفك، وقوة ذراعك، وهذا الشر الذى تفاخر بهن، والذى تسمى نفسك فاعله، ما هو؟ أن لم يكن انعكاس الوجود. أن لم يكن حجة ومهربا، وأن لم يكن صورة خادعة، وجودها نفسه مدعم “بالخير” .. عد فادخل فى الطبيعة أيها الابن المشوه .. اعرف خطأك وانتزعه من نفسك كسن مسوسة نتنة”. هنا يعلن جوبيتر أن إرادة الآلهة لا مفر منها، وهى الخير الذى يسربل هذا العالم وحتى جريمة أورست والتى يظن أنها شر، وضد إرادة الآلهة، يجد لها جوبيتر مكانا فى عالمه المنظم الخير فما الشر إلا انعكاس الوجود وما هو إلا صورة خادعة مدعمة “بالخير” والخطأ الوحيد الذى يمكن أن يحدث من وجهة نظر جوبيتر هو خروج الإنسان على هذا الانسجام قد تزلزل الكون جميعه، وهى الوحيدة التى تهدد “الخير” الإلهى بالانهيار: “.. أخشى أن ينحسر البحر أمامك وأن تنضب الينابيع على دربك، وأن تتدحرج الحجارة والصخور خارج طريقك، وأن تتفتت الأرض تحت قدميك” ولكن أورست يتحدى الآلهة ولا يبالى: “.. أن عالمك هذا كله لا يكفى لتخطئتى .. أنت ملك الآلهة يا جوبيتر ملك الصخور والنجوم، ملك أمواج البحر، ولكنك لست ملك البشر” أن رفض أورست أن يكون جوبيتر إلها للإنسان، هو الحاد سارتر وهو إنما رفض لأى شىء يحد من حرية الإنسان ومسئوليته، وحتى خلق الآلهة للإنسان ليس سببا كافيا أن تكون آلهته، فأورست يقول لجوبيتر أنه ما كان ينبغى له أن يخلقه حرا، إذا كان يريده أن يظل خاضعا له .. “أننى حريتى فما كدت تخلقنى حتى كففت أن أخصك”.

أن أورست فى هذا الحوار يصف الألم والوحدة المضنية التى تصيب الإنسان (الحر المسئول) وهو يخلع عليه أيضا صفات لا تقل عن صفات الآلهة .. “فجأة، انقضت على الحرية، فأرعدت فرائصى، وقفزت الطبيعة إلى خلف، فلم يكن لى بعد من عمر، وأحسستنى وحيدا كل الوحدة وسط عالمى الصغير التافه، كمن فقد ظله، ولم يكن شىء بعد فى السماء، ولا “خير” ولا “شر” ولا أحد ليصدر إلى أوامر” .. “.. لن أعود تحت شريعتك، فأنا محكوم على بألا تكون لى شريعة أخرى غير شريعتى .. أننى لن أعود إلى طبيعتك. أن هناك ألف درب مرسومة فيها تؤدى إليك، ولكنى لا أستطيع أن أتبع إلا دربى.. ذلك أنى إنسان، يا جوبيتر، وعلى كل إنسان أن يخترع دربه”.

– بل أن أورست يعلن بصراحة تامة أن الإنسان الحر ليس فقط غير خاضع للآلهة أو داخل فى نظامها وقوانينها الطبيعية، ولكنه أيضا يشابه الآلهة فى بعض الأشياء أو “يوازيها” فيقول مخاطبا جوبيتر: “.. ما شأنى بك؟ أننا ننساب أحدنا بموازة الآخر كسفينتين، أنك رب، وأنا حر، فنحن متشابهان فى الوحدة، وضيقنا متشابه”.

الندم:

فى مسرحية الذباب يحلل سارتر فكرة الذنب والندم والاعتراف وهى بعض ملامح الدين المسيحى أساسا.

– صورة سارتر الندم بالذباب، ذلك الذباب الذى كبر وتضخم وزاد عددا بعد جريمة قتل أجاممنون، وهو الذى يتغذى على ندم أهل المدينة على هذه الجريمة. بل هو يتغذى على لحومهم ذاتها (حيث أنهم هم ندمهم).

– جوبيتر (ص 10): “أنه ذباب سمين بعض الشىء، أنه يقتات اللحم .. وقد اجتذبته إلى المدينة منذ خمسة عشر عاما رائحة جيفة قوية، ومنذ ذلك الحين وهو يزداد سمنة، وبعد خمسة عشر عاما أخرى سيبلغ حجم الضفادع”.

– تكشف الكترا لعبة الندم والاعتراف (ص 35): “.. الملكة تتسلى بلعبتنا الوطنية، لعبة الاعترافات العلنية.. أن كل فرد هنا يصرخ بآثامه فى وجه الجميع .. أن كل فرد يحفظ عن ظهر قلب جرائم الآخرين، وجرائم الملكة بصورة خاصة لا تسلى أحد بعد، أنها جرائم رسمية، جرائم تأسيسية”. أن سارتر هنا يكشف ويعرى ذلك القدر من التلويث الكامن وراء سلسلة: الذنب – الندم – الاعتراف – الخلاص – الذنب مرة أخرى.

– تقول كليتمنسترا (ص 36) لالكترا: “.. سوف تجرين خلفك يوما جريما لا سبيل إلى العفو عنها. ستحسين لدى كل خطوة أنك تبتعدين عنها، ومع ذلك، فستظل دائما ثقيلة على الاحتمال، وستلتفتين وسترينها خلفك، لا تدرك، مظلمة ونقية، كبلورة سوداء بل أنك لن تفهميها بعد. وستقولين: “لم أكن أنا التى ارتكتبها، لم أكن أنا، ومع ذلك فستكون هنا، مذكورة مائة مرة، دائما هنا تجرك إلى خلف، وستعرفين.. أنه لم يبق لك ما تفعلينه إلا أن تجرى جريمتك حتى موتك، ذلك هو قانون الندم العادل والظالم”.

ونلاحظ هنا: أن الجريمة التى لا عفو عنها لم يرتكبها من يندم بالضروة، وأن كان يجرها خلفه باستمرار، كما نلاحظ ذلك القدر من الارتباط الوثيق مع هذه الجريمة بالرغم من عدم ارتكابها، كذلك صيغة الإعزاز التى تتحدث بها الملكة عن تلك الجريمة “بلورة نقية سوداء”.

– يشرح جوبيتر ذنب أهل أرجوس ويحلل علاقتهم بهذا الذنب (ص 12): “… كانوا يعانون السأم، وكان يريدون أن يشاهدوا ميتة عنيفة .. لم يقولوا شيئا حينما رأوا ملكهم يظهر على أبواب المدينة، وحينما رأوا كليتمنسترا تمد له ذراعيها الجميلتين المعطرتين، لم يقولوا شيئا، وكانت تكفى كلمة واحدة فى تلك اللحظة، كلمة واحدة ولكنهم صمتوا، وكانت فى رأس كل منهم صورة جثة كبيرة ذات وجه محطم .. أنهم حين سمعوا ملكهم فى اليوم التالى يئن ألما فى القصر، ظلوا على صمتهم، واطبقوا جفونهم على عيونهم المهتاجة من الشهوة، وكانت المدينة بأسرها أشبه بامرأة فى حالة الشبق …!” أن سارتر يغوص هنا بعمق فى نفس أهل أرجوس ليكشف علاقات دفينة بين سكوتهم على الجريمة وذلك القدر من الاعتداء المختفى فى الصمت عنها، حتى أنه جعل الأصغاء لأناث الملك فى القصر وهو يحتضر يحمل شهوة جنسية وهياجا.

– ويظهر فى نفس المعنى الجنسى للذنب مرة أخرى (ص 43) عندما تصف امرأة صبية لقاءها المرتقب بزوجها الميت الذى سيصعد إلى الأرض فى عيد الأموات والذى هو ذنبها وجريمتها فى نفس الوقت … “عما قليل سيكون لصيقى، وسيقترن جسمه الدخانى بجسمى اقترانا شديدا لم يبلغه قبل ذلك حى . آه أننى سأحمله إلى بيتى ملتفا حول عنقى، كأنه فرو. لقد أعددت له طعاما شهيا وحلوى لذيذة، ووجبة خفيفة كالتى كان يحبها. ولكن شيئا لن يخفف ضغينته، وهذه الليلة .. هذه الليلة سيكون فى سريرى”.

– يستعرض جوبيتر لأورست ندم أهل المدينة وتفاخرهم بهذا الندم وتربيتهم لأطفالهم عليه فتقول امرأة عجوز من أهل المدينة: “ليتك تعرف كم أنا نادمة، وابنتى أيضا نادمة، وصهرى يضحى كل عام ببقرة، وحفيدى الذى يناهز السابعة من عمره، لقد ربيناه فى الندم .. أنه عاقل كالصورة، شديد الشقرة، وهو ممتلئ بشعور خطيئته الأصلية”. أن سارتر هنا لا يهاجم ندم أهل أرجوس بقدر ما يهاجم طقوس الدين المسيحى الذى تربى عليه فى صباه.

– أما اعتزاز الآلهة بندم أهل أرجوس فيظهر جليا فى نفس الموقع من كلام جوبيتر: “لقد اغتيل أجاممنون منذ خمسة عشر عاماً تماماً، وكم تغير منذ ذلك الحين شعب أرجوس الخفيف، وما أقربه الآن من قبلى .. أن ضميرهم يبكتهم وهم خائفون، وللخوف وتبكيت الضمير، رائحة لذيذة لأنوف الآلهة”.

– فى عيد الموتى نكتشف علاقة أهل أرجوس الحميمة بذنبهم وندمهم من خلال تبادلهم الاعتراف ونحس أن سارتر يرسم صورة كاريكاتيرية ساخرة ومرة لطقوس الاعتراف المسيحية (ص 45).

رجل: (يركع ويصرخ) أننى نتن .. أننى نتن .. أنا جيفة قذرة .. انظروا إلى هذا الذباب وقد تكاثر على كأنه الغربان .. أيها الذباب المنتقم، انقر واحفر وعث فى لحمى حتى قلبى القذر، لقد أثمت مائة مرة، وأنا بالوعة ..”.

– من خلال طقوس عيد الموتى نكتشف أن الذنب الأكبر هو ذنب الأحياء تجاه الأموات، وأن هذا الذنب هو الحياة ذاتها:

ايجست: “أنهم هنا “الأموات” .. أما أنتم أيها الأقارب الأرقاء فاخفضوا عيونكم قليلا، انظروا إلى أسفل نحو الأرض، أنهم هنا، الأطفال الميتون، وهم يمدون أيديهم الصغيرة، وأن جميع البهجات التى منعتموها عنهم، وجميع الآلام التى كبدتموهم إياها، تثقل كالرصاص على نفوسهم الصغيرة الحاقدة الحزينة .. “.

الرجال: (للأموات) “اغفروا لنا أننا أحياء بينما أنتم أموات”.

الأطفال: (للأموات) “الرحمة: أننا لم نقصد أن نولد، ويخجلنا كثيرا أن نكبر وننموا. فكيف يمكننا أن نذلكم؟ انظروا، أننا نكاد لا نعيش، فنحن هزيلون، قصار، مصفرون، أننا لا نحدث ضجة، ونحن ن ننساب حتى من غير أن نهز الهواء الذى يحيط بنا، ونحن نخشاكم، أوه. بل نخافكم خوفا شديدا “.

ويمكن أن نخلص من هذا التجول السريع عبر المسرحية إلى النقاط الأساسية الجديرة بالنظر والتفصيل مستقبلا:

1- بالرغم من أن مسرحية الذباب هى عمل فكرى فلسفى لإعلاء قدر الحرية والإنسان الحر أكثر منها عمل أدبى فنى، إلا أن ذلك لا ينقص من قدرها كأدب وفن.

2- تكاد المسرحية أن تكون مسرحية دينية أساسا بالرغم من (وربما بسبب) الحاد سارتر، فأنت تحس طول الوقت أن مشكلة سارتر هى مشكلة دينية.

3- بالرغم من إلحاد سارتر فإن حاجته للإله تظهر بوضوح فى كل كلمة من تجديفه بهذا الإله.

4- أدان سارتر بقسوة أفكار الذنب والندم والاعتراف وهى بعض معالم الدين المسيحى وسخر منها واتخذها ذريعة للإلحاد.

5- يكشف سارتر فى المسرحية عن “نوعية” الإله الذى يلحد به ومواصفاته، فقد جرد سارتر هذا الإله من جميع الصفات التى تستحق التألية أو حتى الاحترام، وجعله جهازا لفرض النظام وإرهاب الناس بالذنب وتسول الندم وجعله عدو للإنسان الحر وعاجزا إزاءه.

6- لم يستطع سارتر أن يتخلص من فكرة الألوهية بعد ذلك فخلع معظم الصفات الجوهرية للألوهية على الإنسان الحر المسئول. ذلك الإنسان الأعلى ذو “الحرية والمسئولية اللانهائيتين” من عساه يكون سوى “الله داخل الإنسان؟”.

[1] –  ترددت كثيرا فى كتابة هذا الموجز لأنه لا يغنى عن قراءة المسرحية ذاتها

[2] –  المراجع لهذه الفقرة:

– الوجودية مذهب انسانى – محاضرة لجان بول سارتر

– المادية والثورة – محاضرة لجان بول سارتر

– سارتر – فيليب ثودى

[3] –  من قول يونج: أن الانسان هو مستقبل الانسان

[4] – الفزاعة: ما يعرف فى مصر بخيال المآتة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *