الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1982 / اكتوبر1982- فضيلة الشك وضرورة المنهج

اكتوبر1982- فضيلة الشك وضرورة المنهج

مع ديكارت فى رحلة الشك واليقين

فضيلة الشك وضرورة المنهج

                                                                           د. عادل مصطفى

ثغرة فى الحائط المرصوص

من ظهور الخراف

منها أطل السؤال

تنفس … انسرب

ينشر جناحين بحجم الكون

يخلع على العالم عباءة من الاختلاج

السديم والنجوم

الغمام والرخام

الجلى والخفى

الاشياء منتشية بميلادها الخاص

رافلة فى كسوتها الجديدة

الكل يتفرس ظهره

ويخصر خصره

ويصفف طرته

ناظرا نفسه لأول مرة

فى مرآة غريبة من وعى الانسان

 (أثينا …)

****

نعمة لا كالنعم .. أن يحظى كائن زاحف القى به فى عاصفة الوجود … بصدع ما فى جدار فينغمد فى سكينته ويتدرع بدفئه.

ونعمة لا كالنعم .. أن يحظى كائن مفكر تسكنه بذرة التحول والخلق.. بصدع ما فى حائط الجمود والقهر .. فينعم فى غفلة من الزبانية بحقبة اثينية تضج فيها بذرته وتفيض أغصانا وجنى.

لقد أسبغت المقادير على رينيه يواقيم ديكارت هذه النعمة فعاش سنوات متنفسة فى هولندا اثينا القرن السابع عشر.

كانت هولندا فى هذا القرن هى الخدر الوحيد الذى تأوى اليه عرائس الفكر؛ فيها درجت تأملات ديكارت .. واليها لجأ جون لوك خلال سنى الردة الانجليزية …. وبها تفكر سبينوزا فى هدوء ما كان يجدهما مثله فى أى بلد آخر[1]

المنهـج:

كان الشك فى السالف والراهن صبيان لا يعبأ به أحد، إلى أن بلغ أشده فى القرن السابع عشر واستد ساعده وبدأ يرمى فيصمى استهل بيكون الرمى فدفع بأورجانونه الجديد إلى الساحة مجدفا على اورجاون أرسطو المصون[2] ومنتصرا للاستقراء فى مقابل القياس الأرسطى الآلى، ومحذرا من “أوهام المسرح” idola theatri المتمثلة فيما تكتسبه المذاهب والنظريات القديمة من نفوذ بحكم قدمها لا بحكم صدقها، ومعتبرا هذا الوهم وغيره عيوبا فى تركيب العقل يجب أن نعالجه منها ليعود لوحا مصقولا تنطبع عليه اشياء الوجود كما هى فى الواقع ودون تدخل وتشويش من ذواتنا، ومغاليا فى تسفيه القديم إلى حد أن اعتبر القدم قرينة تنتقص من نصيب الفكرة من الحق بعكس ما يراه العقل الصنمى المريض بالاوهام الأربعة[3]

بدا بيكون الرمى وتلاه ديكارت فرمى الأقيسة الأرسطية بالعبث واللاجدوت؛ اذ هى اقيسة تنتقل من العام إلى الخاص، وتفترض ما نريد أن نبحث عنه ونثبته، فهى عقيمة عادة وقصاراها أن تحمل حملا كاذبا هو المصادرة على المطلوب .. اليست نتائجها مطمورة سلفا فى المقدمات؟! اليست بذلك تدس النتيجة مقدمة وتجعل المسألة حلا، فتعفينا من مئونة الفكر وتديره دورانا أوتوماتيكيا بليدا؟ّ! اليست تضحى بمضمون الفكر من اجل شكله وتهمل فحواه لحساب صورته؟!

رمى ديكارت الأقيسة القديمة والأفكار المشهورة التى تصفق لها الملايين وأنكر أن يكون عدد الأصوات معيارا للحق اذ أن “موافقة الكثرة ليست دليلا ذا شأن على الحقائق العسيرة الكشف وانه أقرب إلى الاحتمال أن يجدها رجل واحد من أن تجدها أمة بأسرها”. كما أنكر معيار السلطة  authoritarianism أيا كان نوعها، فلسفية أو اجتماعية .. سياسية أو لاهوتية لقد احرق جميع السفن الخربة وبقى وحده مع شعور غامر بحاجة إلى منهج جديد “خير للانسان أن يعدل عن التماس الحقيقة من أن يحاول ذلك من غير منهج” …. وحده الآن أمام وجود غامض وحقيقة مدلة .. أعزل الا من عقله الفردى المتواضع.

أخذ ديكارت يستعرض فى عقله علوم زمانه فوجد الرياضيات أكثرها دقة ويقينا وتعين عليه أن يفسر سر دقتها ويقينها عساه واجدا لديها خيطا يقوده إلى منهج يتسم بالدقة واليقين ان ما يميز الرياضيات عن غيرها من العلوم هو أن موضوعاتها بسيطة قبلية، تغض عن الخبرة بصرها وتعير التجربة اذنا صماء، وأنها تعتمد على البداهة التامة فى معاتيها وعلى الترتيب الذى تتسلسل به تلك المعانى، بحيث يكون كل معنى مسبوقا بجميع المعانى التى يستند اليها وسابقا لجميع المعانى التى تستند اليه غير أن الرياضيات هى ثمرة المنهج وليست هى المنهج نفسه، وبقى أن يحلل طرائقها ليستخلص خطواتها المنهجية فتكون هى خطوات المنهج المنشود الذى يبحث عنه ليعممه على جميع العلوم والمعارف.

تعتمد الرياضيات على وسيلتين منهجيتين هما الحدس .. والاستنباط

 الحدس  intuition  هو رؤية عقلية مباشرة يرى بها الذهن الخالص المنتبه فكرة كاملة فى زمان واحد .. فى لقطة عقلية واحدة .. فى نقطة زمنية لا فى امتداد زمنى فهو اشبه بلقطة فوتوغرافيه نرى بها أن الكل أكبر من الجزء، وأن المساويين لثالث متساويان وأن المثلث المحدود بثلاثة أضلاع يتضمن ثلاث زوايا، وأن كل شئ له امتداد له شكل، وأن كل شئ يتحول يستغرق زمنا، وبالحدس أيضا ندرك الطبائع البسيطة المجردة كالوجود والوحدة والامتداد والحركة والشكل والزمان والمكان.

والاستنباط  deduction  هو الوسيلة العقلية التى ننتقل بها من حقيقة إلى حقيقة أخرى تلزم عنها بالضرورة، ومن الثانية إلى الثالثة، وهكذا إلى أن نصل إلى أعقد الحقائق وأكثرها تركيبا فهو أشبه بالشريط السينمائى الذى يحتوى على سلسلة لقطات تتتابع فتستهلك امتدادا زمنيا وان كانت كل لقطة منها ثابتة لا تستغرق زمنا فالاستنباط ليس أكثر من سلسلة حدوس تتوالى على شريط الزمان فنستعين علىتواليها بالذاكرة وهى ملكة لا نأمن خيانتها وان أمنا لكل حدس على حدة الاستنباط اذن أقل وثوقا منالحدس وان يكن هو ذاته ضغث حدوس.

هكذا تبزغ قواعد المنهج:

1 – سأطلب البداهة التامة evidence  فلا ادخل فى أحكامى الا ما يتمثل لفكرى بوضوح وتميز يزول معهما كل شك بمعنى أن اتجنب الحكم المبتسر المتعجل  precipitating  الذى اطلقه قبل أن يصل الذهن الى بداهة تامة وأن أنفض عنى كل حكم مسبق علق باهداب ذهنى منذ الطفولة وراغ اضواء النقد ولم يستوف بعد ختم المشروعية المتمثل فى الوضوح والتميز .. أعنى وضوح الفكرة فى ذاتها وتميزها عن سواها.

2 – ولكى أصل إلى البداهة التامة سأستعين على المشكلات المعقدة بتحليلها  analysis إلى بسائط يمكننى ادراك كل بسيطة منها حدسيا أو استنباطيا بوضوح وتميز.

3 – ثم أعود فأركب  synthesis  هذه البسائط البديهية بترتيب دقيق كيما أصيب الحقائق المركبة الغامضة.

4 – سيكون بحثى فى النهاية سلسلة بدائه لا يأتيها الباطل الا من ثغرات الذاكرة ومن ثم سأستعين عليها بالاحصاء  enumeration  والمراجعات التى تجعلنى على ثقة من أنى لم أغفل شيئا يتصل بالمشكلة المعروضة للبحث.

ساستعين على الزمان بالذاكرة، وعلى الذاكرة بالاحصاء الذى به يلملم الفكر حدوسة ويسد ثغرات عجزه.

انصافا للقياس الأرسطى:

لا تكاد تخلو ثورة من اجحاف بالراهن، ولا يكاد يبرأ تجديد من ظلم للقديم فهذا بيكون يهاجم المنطق الصورى هجوما مرا فى غمرة حماسه للمنهج الاستقرائى الذى فهمه ضيقا ساذجا، ظنا منه أن ولاءه للاستقراء يحتم عداوته للاستنباط وقد خيب المنهج العلمى المعاصر ظن بيكون فزاوج بينهما زواجا سعيدا فى نسيج سداه الاستقراء ولحمته الاستنباط؛ ففى ضوء الملاحظة الحسية يبدأ العلم بفرض صورى يستنبط منه نتائج تلزم عنه ثم يمتحن هذه النتائج بالتجربة فأن أيدتها ثبتت صحة الفرض الصورى ليرتقى الى رتبة “قانون” يصاغ قدر المستطاع صياغة رياضية دقيقة.

وهذا ديكارت يرمى القياس الأرسطى بالعقم والافلاس والمصادرة على المطلوب ما دامت نتائجه متضمنة سلفا فى المقدمات ناسيا أن هذه المقدمات لا يرجو لها ارسطوه أن تكون أحكاما اعتباطية، وانما هى فى حقيقتها تعميمات يقوم بها الحدس  nous العقلى فى ضوء الاستقراءات التجريبية الدقيقة وما وكل أرسطو للقياس سوى مهمة ضبط الحركات العقلية وعصمتها من الخطأ فى تنقلاتها الاستدلالية من حكم الى حكم وبذلك تبدو انتقادات ديكارت للقياس انتقادات فى غير موضعها وتبدو الحملة على ارسطو الكبير اشبه “بمهاجمة رجل من القش”  [4]

سر اليقين الرياضى:

كما أن تحمس ديكارت للاستنباط الرياضى بحيث يريد له أن يهيمن على جميع العلوم يعد خلطا شنيعا بين العلم التجريبى والعلم الاستنباطى فاذا كان بيكون قد تطرف بالاستقراء تطرفا ساذجا فأن ديكارت قد تطرف بالاستنباط تطرفا ينم على سوء فهم لليقين الرياضى.

ان الرياضيات صادقة ولكن ليس لاغفالها التجربة واعتمادها على البداهة، لا ولا لمشيئة الهية وحظوة سماوية انها صادقة لأنها لا يمكن ان تكذب! وهى لايمكن أن تكذب لأنها لا تخبر خبرا فيحتمل الصدق والكذب.

تتصف قضايا الرياضيات البحتة بأنها تحليلية تستل المحمول من بطن الموضوع …. فهى لا تنفث جديدا، شأنها فى ذلك شأن القائل “ان الرجل الأبيض رجل”، “ان المثلث القائم الزاوية مثلث”.

الرياضيات البحتة صادقة .. والأصدق أن تقول انها صامتة! فكيف نعول على الصامت وحده فى علوم تريد أن “تقول” شيئا عن العالم.

الصامت لا يكذب أبدا، وقدر المتكلم أن يقع فى الاحتمال.. احتمال الصدق والكذب وهو قدر العلوم المتكلمة .. العلوم التجريبية الاستقرائية ومن ثم يبدو خطأ ديكارت جسيما حين جعل من الرياضيات مثالا يحتذى به فى جميع العلوم.

بزوغ الفردية:

مع التباشير الاولى للعصر الحديث بدأت الأرض تتشقق تحت أقدام الفكر القديم وسدنته، وبدأت هيبة النظريات الرسمية تهتز خاصة مع بزوغ العلم الجديد وتقدمه حثيثا مبددا أينما حل قطعا من ظلام الفكر طاردا ما يعيث فيها من أشباح وكهنة.

اهتزت الأفكار السائدة فوجد “الفرد” نفسه مضطرا الى الاستئذان فى خلوة فكرية يعتمد فيها على ذاته ولا يصحب معه أى فكرة مسبقة أو موروثة لذا سادت النزعة الفردية فى القرن السابع عشر والقرن الذى يليه مخلفة لنا فلسفات ذاتية كفلسفة ديكارت الذى شيد المعرفة على يقين الكوجيتو وجعل الوضوح والتميز وهما أمران ذاتيان معيارا للصدق وفلسفة ليبنتز الذى ركب العالم من ذرات روحية مغلقة بلا نوافذ وفلسفة بركلى الذى أوغل فى فجاج الذاتية ايغالا أودى به فى بئر الذات الوحيدة  solipsism  وفلسفة هيوم الذى سار بالتجريبية الى نهايتها المنطقية مترديا فى هوة من الشك يعز قبولها ويصعب تفاديها وفلسفتى كانط وفخته وكلاهما معرق فى الفردية مغرق فى الذاتية مزاجا ومذهبا.

الشك الديكارتى  Cartesian doubt

فى منتجع هادئ وفى غفوة من الانفعالات وغفلة من أنوف الآخرين شرع ديكارت فى بناء العلم على اسس وطيدة وأول ما يلزم لبناء العلم هو ان نظفر بمبدا يقينى نقيم عليه الصرح فأين لنا هذا المبدأ ورءوسنا مثقلة بارث فكرى مضطرب حقيق بالشك والحذر؟

لقد تلقينا منذ حداثة سننا طائفة من الآراء الباطلة وكنا نحسبها صحيحة، فما أجدرنا فى سن النضج والرشد أن نبدأ من جديد مطرحين كل ما دخل عقولنا الربيبة وداخلها، شأننا فى ذلك شأن من يهدم ليبنى أو من يفرغ لينتقى.

ولا يعوزنا لكى نشك فى آرائنا السابقة أن نبرهن على كذبها برهانا دامغا، بل يكفى لرفضها جميعا أن نجد فيها أى سبب للشك ولذا لن نكون بحاجة الى النظر فى كل واحد منها على حدة فأن هذا يكون عملا لا آخر له ولكن يكفى أن نستعرض المبادئ التى كانت تعتمد عليها آراؤنا القديمة كلها، فأن تقويض الاسس يجر معه بالضرورة بقية البناء.

سأشك فى الحواس لأنها سبق أن خدعتنى، ومن الحكمة الا نطمئن كل الاطمئنان الى من خدعونا ولو مرة واحدة سأشك حتى فى أنى جالس ها هنا قرب النار، لابس عباءة المنزل وهذه الورقة بيدى، اذ من الممكن أن أكون فى حلم، فكم من مرة وقع لى أن أرى فى المنام أنى فى هذا المكان وأنى لابس ثيابى وأنى قرب النار، مع أننى كنت حينذاك فى سريرى متجردا من ثيابى ومهما بدا لى أن حالى الآن أكثر وضوحا وجلاء من خيالات الحلم فأنى لا أجد أمارات يقينية للتمييز بين اليقظة والنوم ومن يدرينى بعد أن حياتى ليست حلما متصلا عديد الوان الوعى؟ فلعل اليقظة حلم منسق.

سـاشك ايضا فى أحكام عقلى لأن الناس كثيرا ما يخطئون فى استدلالاتهم، ومنهم من يخطئ فى أبسط موضوعات الهندسة، فلعلى اخطئ دائما فى الاستدلال  وقديما قال شيشرون انه لايوجد قول مخالف للعقل لم يقل به من قبل بعض الفلاسفة وقد علمتنى اسفارى أن الرجل نفسه، بنفس عقله، اذا نشأ منذ طفولته بين فرنسيين أو المانيين فأنه يصبح مختلفا عما كان يكون لو أنه عاش دائما بين صينيين أو كانيباليين كما علمتنى الاسفار أن هناك أمورا كثيرة تبدو لنا من الشطط والسخرية ومع ذلك فأن أمما عظيمة تجمع على قبولها والرضاء عنها وعلمتنى أن الذين لهم عواطف مخالفة لعواطفنا كل المخالفة ليسوا من أجل ذلك برابرة أو متوحشين، ولكن الكثيرين منهم يستخدمون العقل مثلنا أو أكثر منا، ويفيضون عطفا ورحمة ومن أثمارهم عرفتهم علمتنى أسفارى أن العادة والتقليد هما اللذان يؤثر أن فى تشكيل أفكارنا أكثر من أى علم يقينى وأن العادة والتقليد يخمدان فينا النور الفطرى ويشلان فينا العقل الصراح  Le bon sens  الذى هو أعدل الاشياء قسمة بين الناس.

نورا كثيفا غمرتنى اسفارى ما كان لعيونى أن تذوقة لم لو أفارق قط بلادى ولا كتبى.

سأشك اذن .. سأشك حتى فى الاحكام العقلية التى تبدو لى مطلقة اليقين تامة الوضوح والجلاء من قبيل 2 + 3 = 5، المربع له أربعة اضلاع اذ من يدرينى لعل الله الذى سمح أن اخطئ أحيانا دون أن يتعارض ذلك مع قدرته وجودته يسمح أن اخطئ دائما، فلعله قدر أن أغلط كلما جمعت 2 + 3 أو احصيت اضلاع المربع.

نعم أنا أعلم فى شكى هذا افراطا ومغالاة، وأننى فى قرارة نفسى اضمر ميلا – يغلبنى على شكى الى تصديق الكثير من آرائى السابقة أو على الاقل ترجيحها، ولكن دعنى افترض أن هناك من يزين لى هذا المرجحان وذلك التصديق رغم كذبه وبطلانه وان تكن فعلة كهذه لا تليق بالله لأنه سبحانه كريم رحيم وهو المصدر الاعلى للحقيقة فدعنى افترض روحا خبيثا  malicious genius  ذا مكر وبأس شديدين قد استعمل كل ما أوتى من مهارة لاضلالى فأخطئ فى كل شئ حتى فى أبسط الأمور واوضحها مثل أن اضلاع المربع أربعة وأن اثنين وثلاثة تساوى خمسة نعم لو كان هناك مثل هذا الشيطان فيمكن أن تكون جميع الاشياء التى اراها محض اوهام يستخدمها شراكا لسذاجتى.

ساشك اذن على الصعيد النظرى فى كل شئ على الاطلاق: فى وجود العالم الخارجى، وفى وجود السماء والهواء والارض والألوان والأشكال والأصوات وسائر الخارجية المحيطة بى، وفى وجود أمثالى من الناس.

ولما كنت أتوقع أن عملية بناء العلم على أساس راسخ تتطلب زمنا غير قصير فقد قررت خلال هذا الوقت أن انظم سلوكى وفقا للقواعد المقبولة عامة، حتى لا يتقيد ذهنى بالنتائج المحتملة لشكوكى من حيث صلتها بالحياة العملية أن أفعال الحياة غالبا ما لا تحتمل التأجيل، وانه لمن الغفلة أن نتردد فى العمل بينما يضطرنا العقل الى التردد فى الأحكام وكما أن من الحصافة أن نبقى على مسكن مختصر مؤقت نأوى اليه أثناء قيامنا بهدم مسكننا القديم، كذلك ينبغى على الصعيد العملى أن أبقى لنفسى على بعض قواعد للأخلاق مؤقتة فأطيع قوانين بلادى واحترم عاداتها وأثبت على ديانتها وأثابر فى حياتى العملية وأتجنب الشك والتردد العمليين حتى لا أكون كالذى ضل فى غابة فأخذ يتخبط هنا وهناك ولو أنه ثبت على وجهة أيا ما كانت لخرج منها عاجلا أو آجلا وأغالب رغبات نفسى وأطماعها وشهواتها أكثر مما أغالب الحظ وأقاوم القدر؛ ذلك لأن أفكارنا ملك لنا نستطيع أن نتحكم فيها ونأتيها أنى شئنا فلا نأسى على حرماننا من الاشياء التى لا نقدر على نوالها وبذلك نشترى أثمن سعادة بأزهد ثمن.

أنماط من الشك:

الشك نوع من الفكر النقدى كمقابل للفكر الدوجماطيقى الايقانى وما نشأ الفكر الحق لا ليدمغ الدوجماطيقية، وما الفلسفة الاصيلة الا تمرد على نزعة الموقنين الذين يبدأون تفكيرهم من نقطة معينة يسيرون بعدها سيرا حثيثا سلسا دون أن يقلق خاطرهم تحليل هذه النقطة أو نقدها هى تمرد على الدوجماطيقية الساذجة عند رجل الشارع المتعصب لآرائه تعصبا شديدا، الواثق فى ذكائه ثقة مفرطة وهى تمرد على الدوجماطيقية المادية عند الرجل العملى الشديد الارتباط بالعالم الواقعى الشديد الانكار لغيره وتمرد على الدوجماطيقية الدينية عند رجل الدين المتزمت وعند اشباه الفلاسفة pseudo-philosophers من المتكلمين الذين يتخذون نقطة بدئهم من تصور دينى معين يسلمون به تسليما ثم يقيمون عليه بناء استنباطيا شاهقا زاخرا بالتفسيرات الهينة والحلول السهلة لكل مشاكل الفلسفة التى تعترضهم.

والشك قديم قدم سقراط ومحاوراته التهكمية التشكيكية، وقدم الارتيابيين من فرون وانيزيديموس الى اجريبا وسكتس امبريكوس وغيرهما من الاكاديميين الجدد وقدم ارسطو الذى أكد التتابع الوثيق بين محطة الشك ومحطة المعرفة اليقينية وقدم الغزالى الذى راى الشك خير طريق لتثبيت الى حال من الاشراق الصوفى وشارون الذى راى الشك خير طريق لتثبيت قواعد المسيحية فى قلوب الملاحدة والخوارج وميشيل دى مونتينى الذى ذهب الى  أن الانسان لا يعرف شيئا عن نفسه ولا عن الطبيعة وان اكثر الناس علما هم الذين يعلمون أننا لا نعلم شيئا وديكارت صاحب الشك المنهجى الموسوم باسمه وهيوم وكانط وكلاهما أقام فلسفته على تحليل العقل البشرى ونقده وسبر اغواره ومعرفة حدوده ومداه وهوسرل الظاهراتى صاحب منهج الابوخية الذى يعلق الحكم على الوجود الزمانى المكانى للأشياء فلا يلغيه ولا يجعله يفرض نفسه على الذات ويكتفى بوضع  هذا الوجود بين قوسين وبرثراند راسل الذى يرى ضرورة اخضاع اعتقاداتنا الساذجة لغربلة نقدية شكية، فهى حين تخضع لذلك يتكشف أنها مجرد عادات عمياء أو مجرد طرق للسلوك أكثر منها اعتقادات عقليه ومن هناكان “من الضرورى أن نمارس الشك المنهجى كما فعل ديكارت لنتحرر من قبضة العادات الذهنية، ومن الضرورى أن ننمى الخيال المنطقى ليكون لدينا عدد من الفروض الجاهزة، ولا نكون عبيدا لفرض واحد، ذلك الذى يجعله الحس المشترك سهلا على التحليل أن هاتين العمليتين الشك فيما هو مألوف وتحليل ما هو غير مألوف عمليتان متلازمتان تشكلان الجزء الرئيسى من التدريب الذهنى الضرورى للفيلسوف[5]

شك الارتيابيين

الشك الديكارتى

شك للشك (هدام) شك لليقين (بناء)
حاسم ونهائى عابر مؤقت (ريثما يجد مبدأ وطيدا ينكسر الشك دونه)
غاية ومذهب وسيلة ومنهج
شك حقيقى اصيل صيغته: انى اشك شك صورى شرطى صيغته اذا شككت ….

أو هبنى شككت ….

 

اليقين الاول (يقين الكوجيتو):

قلت اننى شككت فى كل شئ على الاطلاق .. فى شهادة الحواس وأحكام العقل ووجود العالم غير انى سرعان ما لاحظت أنه بينما كنت أريد أن أعتقد أن كل شئ باطل، فقد كان حتما وبالضرورة أن أكون أنا صاحب هذا التفكير شيئا من الاشياء …. نعم أن شيئا واحدا يظل بمنجاة من الشك، وهو الفكر أنا واثق من أننى أفكر, وحتى لو شككت فى أننى أفكر فهذا الشك يقتضى أن أفكر أيضا، وأنا حين أشك، وحين أفكر، وحتى حين أخظئ فى تفكيرى لابد أن أكون موجودا.

أنا أفكر فأنا اذن موجود  cogito ergo sum

هأنذا قد أزحت التراب والحصى والانقاض، فخلصت إلى الصخرة الثابتة التى أقيم عليها صرح الفلسفة التى أتحراها أنا أفكر فأنا اذن موجود قضية صحيحة بالضرورة كلما نطقت بها وكلما تصورتها فى ذهنى وهى من الثبات والوثوق بحيث تعجز كل حجج الشكاك عن زعزعتها ولو استطاع الروح الخبيث أن يضلنى فى كل شئ فلن يستطيع أن يمنعنى من اليقين أن ذاتى موجودة حين أفكر.

ولكن ما هو هذا الوجود الذى ادركه؟ انه ليس وجود جسمى، بل هو وجود فكرى، فأنا مفكر بمعنى أنى موجود يتعقل ويشك وينفى ويثبت ويريد ولا يريد ويتخيل ويحس أيضا اننى “شئ مفكر” Res cogitans  وأنا أجهل حتى هذه اللحظة اذا كان هناك عالم خارج فكرى، وكل ما أعلم الآن يقينا هو اثبات الذات المفكرة.

وأول شئ استخلصه ديكارت من الكوجيتو هو فصل طبيعتى النفس والبدن فهو يستطيع أن يتصور أنه لا جسم له على الاطلاق وأنه ليس فى مكان ولا فى عالم، ولكنه ليس بمستطيع أن يتصور نفسه غير موجود ان النفس متميزة عن البدن تماما بل هى أيسر منه معرفة، ولو لم يكن الجسم موجودا على الاطلاق لكانت النفس موجودة بتمامها[6]

اعتراضات وشبهات:

يثير مبدأ الكوجيتو مسألة تاريخية حول مبلغ اصالة ديكارت فى ابتكار هذه الحجة فلقد سبق للقديس أوغسطين أن استخدم الشعور بالفكر لاثبات روحانية النفس ورفع الشك، ثم انتقل من الفكر الى وجود الله كما فعل ديكارت فوجود الفكر هو مبدأ كل من المذهبين كما يوجد شبه قوى بين الفاظ أوغسطين وألفاظ ديكارت فأوغسطين يقول افحاما للارتيابيين اذا اراد المرتاب أن يفكر فيلزم حتى لو أخطأ أن يكون موجودا, وأن يعرف أنه موجود: “اذا اخطأت فأنا موجود” ورغم أن أوغسطين شأنه شأن ديكارت قد أفلت بالكوجيتو من الشك الاكاديمى وبه اثبت روحية النفس وبه ارتقى الى الله، الا أن المشكلة عند الفيلسوفين ليست واحدة، لا قبل الكوجيتو ولا بعده؛ فأوغسطين لم يكن باحثا عن مبدأ أول يبنىعليه فلسفته، ولكنه يريد أن يثبت للشكاك أننا عارفون للحقيقة، والكوجيتو عنده مجرد واحد من جملة معارف يقينية تفلت كلها من الشك (ومنها المبادئ العقلية والحقائق الرياضية والقواعد الاخلاقية).

أما ديكارت فالكوجيتو عنده أجل من ذلك وأخطر، فهو أهم وأوثق الحقائق والمبادئ التى تعرض لمن يقود أفكاره بالترتيب، ومنه ينتقل إلى تحديد طبيعة النفس كجوهر مفكر متمايز، ثم الى وجود الله ثم الى معرفة العالم بضمان الهى[7] وبذلك يفتح علينا الكوجيتو الديكارتى فيضا من النتائج فى تسلسل هندسى اقليدى لا نجد له نظيرا لدى أوغسطين ولهذا ينبغى علينا أن نسلم بطرافه ديكارت رغم أنها تتمثل تمثلا أقل فى ابتكار الكوجيتو منها فى ادراك أهميته وهذا ما أقر به بسكال وان يكن كلامه مجحفا بكوجيتو أوغسطين ومكانه فى مذهبه يقول بسكال فى كتابه “الروح الهندسية”:

” … لأننى أعلم مبلغ الفرق بين أن نلقى كلمة عفوا ودون امعان نظر فيها وبين أن ندرك فى تلك الكلمة سلسلة بديعة من النتائج تثبت التمييز بين الطبيعتين المادية والروحية وتجعلها مبدأ راسخا ثابتا لفلسفة بأسرها، كما أراد ديكارت أن تكون”[8]

ورغم تسليمنا بطرافة ديكارت، فأن الفرق بين الكوجيتو الأوغسطينى والكوجيتو الديكارتى من وجهة نظر منطقية يبقى فرقا لصالح أوغسطين؛ لذ أنه لا يستهدف للدور المنطقى الذى وقع فيه ديكارت حين نظر إلى الفكر كأنه مجرد شعور، فلم يسترد اليقين بموضوعات الفكر الا بالالتجاء الى صدق الله وفكرة الله نفسها أحد هذه الموضوعات[9]

كما أثارت الصياغة اللفظية للكوجيتو الديكارتى مسألة منطقية عند  معاصريه فقد اعترض “جاسندى” بأن الكوجيتو ليس حدسا حقيقيا كما يزعم ديكارت، ولكنه قياس اضمارى  enthymeme  [10] فمقدمته الكبرى مستترة تقديرها “وكل ما يفكر موجود” ولكن هذه المقدمة الكبرى انما تقرر ما يطلب اثباته ففى القياس اذن مصادرة على المطلوب ما دمنا قد وضعنا كل الاحكام موضع الشك وبينها حتما هذا الحكم نفسه “وكل ما يفكر موجود”.

والحق أن صياغة ديكارت اللفظية لم تكن موفقة فى التعبير من الكوجيتو الذى هو حدس بالفعل وليس استدلالا فلفظ “اذن” القابع فى الصياغة هو الذى يوحى بذلك لمن تشرب بالاسكولاستيكية وأدمن الاقيسة الارسطية التى تستل الخاص من العام وطال بها عهده إلى حد البلادة الذهنية ولو أن ديكارت كان قد صاغ مبدأه “أنا أفكر .. أنا موجود” واستأصل لوزة “اذن” من الكوجيتو لاراح واستراح ذلك لأن الحدس يكشف لنا بما لا يدع مجالا للشك تلك الرابطة الوثيقة بين الفكر والوجود وعلى ذلك فقضية “أنا أفكر فأنا اذن موجود” هى قضية واحدة رغم صورتها التى توحى بالاستدلال وهى تعبير عن واقعة فريدة حادثة فى نقطة زمنية واحدة وليست ربطا بين واقعتين انكشفتا للوجدان الواحدة تلو الاخرى فى نقطتين زمنيتين مختلفتين.

أما الاعتراض الذى أصاب الكوجيتو فى مقتل فقد جاء به التحليل المنطقى المعاصر فمن وجهة نظر منطقية يعد الانتقال الذى قام به ديكارت فى الاستدلاله من الشك الى اليقين اشبه شئ بخفة اليد sleight of hand فهو ينتقل من الشك الى النظر الى الشك على أنه فعل يقوم به الأنا، وبذلك يعتقد أنه قد اهتدى الى حقيقة لا يتطرق اليها الشك غير أن كلمة “أنا” هنا غير مشروعة فكان ينبغى لديكارت أن يسوق مقدمته النهائية فى صورة “هناك تفكير” فالكلمة “أنا” مريحة لغويا غير أنها لا تصف واقعة معطاة  Given, Donnee, Datum  يمكن ملاحظتها فكل ما يعيه ديكارت هو أن هناك تفكيرا، أما أن يقول “أنا” أفكر فمجاوزة منه لحدود ادراكه المباشر، لأنه لم يدرك “أنا” بل أدرك حالة راهنة من حالات التفكير[11] ولا يفوتنا فى هذا المقام أن ننوه إلى أن ديفيد هيوم كان قد أرهص بذلك من قبل اذ أنكر دوهرية الذهن واختزله الى كومة من التجارب أو حزمة من الادراكات تربطها معا قوانين معينة للتداعى.

وجود الله والخروج من الكوجيتو:

غير أن الكوجيتو الذى يعطينى وجودى بأوثق الحدوس يجعلنى من جهة أخرى فى عزلة تامة هى عزلة فكرى الخاص، فلا أتبين سبيلا للخروج منها ولا أبلغ أى وجود من الموجودات خارج نفسى. لذا سأبذل جهدى للافلات من عزلة لو طالت لجعلت المعرفة البشرية كلها وهما وحلما سألتمس للفكر سندا فى الوجود الواقع سأثبت وجود الله بالفكر ذاته ليكون ضامنا لمعرفتى الواضحة المتميزة عن العالم الخارجى.

وأول أدلتى على وجود الله هو أننى اذا رجعت الى نفسى تبدى لى نقصى لأننى أعرف أنى أشك والشك نقص اذ هو قصور عن بلوغ الحق، وما كنت لأعرف أنى كائن ناقص متناه لو لم تكن لدى فكرة الكائن الكامل أو “اللامتناهى” فمن أين جاءتنى هذه الفكرة؟ من البديهى أننى لست مصدرها لأننى موجود ناقص متناه والأكثر لا يأتى من الأقل فيبقى أنها فكرة لا يستطيع أن يضعها فى نفسى الا الموجود اللامتناهى أى “الله”.

ودليلى الثانى لا يعدو أن يكون تنويعا على نفس اللحن فأنا الآن عارف أنى موجود ناقص وفى ذهنى فكرة الكامل فما علة وجودى؟ من المحال أن أكون أنا خالق نفسى والا لكنت منحتها ما ينقصها من كمالات لأن الكمال صفة تضاف إلى الوجود، فالذى يستطيع أن يهب الوجود يستطيع أن يهب الكمال، ولنفس السبب سأستبعد كل العلل الأخرى التى هى أقل كمالا من الله والا لكانت منحت نفسها جميع الكمالات التى تنقصها وأيضا استبعد والدى لأنهما علة بدنى فقط فلم يبق الا أن يكون خالقى هو الكائن الكامل وهو “الله”.

وأقل ما يقال فى مثل هذه الحجج الديكارتية أنها الا عيب لاهوتية وغثاء سكولاستيكى، كثير أن يصدر عن رياضى ممتاز مثل ديكارت وان بقى بصددها سؤال فهو: كيف أمكن أن تعالج مشكلة منطقية هى امكان الوصول الى اليقين عن طريق مجموعة معقدة من الحجج قوامها بعض الخدع والتفكير اللاهوتى، وهى حجج لا يمكن أن يأخذها أى قارئ ذى عقلية علمية فى عصرنا هذا مأخذ الجد؟![12]

ولديكارت دليل مشهور على وجود الله سبقه اليه القديس “انسلم” فى العصر الوسيط، أطلق عليه فيما بعد اسم “الدليل الوجودى” Ontological proof غير انه يأخذ فى سياق الميتافيزيقا الديكارتية مكانا أكثر ثباتا وصلابة فقد أثبت ديكارت أولا أصالة فكرة الكائن الكامل وفطريتها وبساطتها، ثم شرع يثبت وجود الله مرة ثانية بالتحليل من نفس تعريفه وماهيته.

فالله (أو الكائن الكامل) هو الذى يملك جميع الكمالات (تعريف) والوجود احد الكمالات:

اذن الله موجود

يريد ديكارت أن يقول أننا بفحص فكرة الله ذاتها تلك الفكرة الأصيلة البسيطة المفطورة فى كل النفوس نجدها تتضمن الوجود حتما وضرورة فالله هو الكائن الوحيد الذى تتضمن ماهيته وجوده وافتراض عدمه مستحيل.

ويكفى لاثبات تهافت هذا الدليل أن نقول مع كائط ان الوجود ليس أحد الكمالات، ولكنه نفس وضع الشئ واثباته خارج الذهن “فالواقعى” ليس “أكمل” من “الممكن” المحض “ومائة من التاليرات الواقعية لا تحوى أكثر مما تحويه مائة من التاليرات الممكنة” (كائط: نقد العقل الخالص).

كما يكفى لاثبات تهافته أن نقول بلغة منطقية معاصرة ان مقدمة الدليل تحليلية لأن كل تعريف تحليلى، وبما أن النتيجة “الله موجود” قضية تركيبية فأن الاستدلال اغلوطة منطقية لأنه يستخلص نتيجة تركيبية  synthetic  من مقدمة تحليلية analytic

اليقين الثالث: وجود العالم:

ها هو الله يبرز ليضمن لى العالم وبوجوده استطيع الآن أن أعبر الهوة التى حفرها الشك بين فكرى وبين الاشياء، وأستطيع أن اطمئن الى وجود العالم الخارجى[13]

غير أن الله لا يضمن لى الا الافكار الواضحة المتميزة، وأنا حين امعن النظر فى الموضوعات الخارجية لا أجد فى تصورى لها الا فكرة واحدة متميزة دائمة باقية مهما تتغير عليها الصفات الحسية، تلك هى فكرة “الامتداد”

ولنأخذ مثلا قطعة من شمع العسل ان طعمه عسل، ورائحته زهور، وله لون معين محسوس، وحجم وشكل، وهو صلب وبارد، واذا ضرب أصدر صوتا، ولكن ضعه قرب النار تتغير تلك الكيفيات ورغم ذلك يبقى الشمع ومن ثم فأن ما ظهر للحواس ليس هو الشمع ذاته فالشمع ذاته يتكون من الامتداد وأعنى به الامتداد “الذهنى” المجرد من الألوان والاصوات والملامس فالامتداد اذن هو “الصفة الأولية” وهو جوهر الجسم المستقل عن جوهر النفس أما الألوان والأصوات والروائح والطعوم فكلها صفات ثانوية وليس لها وجود فى ذاتها وأنما وجودها فى أذهاننا.

هكذا يتبين أن معرفتنا بالعالم الخارجى لا تعدو أن تكون صورا ذهنية وأفكارا فى عقولنا، أما أن هذه الصور والأفكار مطابقة لموجودات حقيقية لا وهمية، فهذا ما لا نعلمه الا “بالواسطة”، أى بفضل “الصدق الالهى” لأن من غير الممكن أن تخدعنا الأفكار التى أودعها الله فينا مع “ميل قوى” الى الاعتقاد بأنها صحيحة[14]

وفى الميكانيكا يتقبل ديكارت أول قانون للحركة، وبمقتضاه اذا ترك جسم وشأنه فهو يتحرك بسرعة مطردة فى خط مستقيم وأنكر أن يكون هناك فعل على مسافة كما سوف يثبت نيوتن وأنكر أن يكون ثمة خلاء  vide ، فالعالم كله ملاء plein  والفضاء نفسه ملاء لأنه امتداد وكل امتداد مادة كما أن كل مادة امتداد.

ويذهب ديكارت أيضا إلى أن كل شئ فى العالم المادى يتم “آليا” أى يخضع لقوانين الميكانيكا فقط ودون أى تدخل من أية علة خارجية حتى الاجسام العضوية آلات ميكانيكية غير أنها أكثر تعقيدا من باقى الجمادات وليست الفسيولوجيا الا فيزياء أكثر تعقدا والجسم الانسانى نفسه انما يسير وفقا لقوانين هذه الآلية الشاملة universal mechanism  

والحيوانات عند ديكارت هى آلات ذاتية  automata  تحكمها تماما قوانين الفيزياء، فهى خالية من الشعور أو الوعى ذلك لأن فى العالم عنصرين اثنين لا وسط بينهما: النفس المفكرة (فى الانسان فقط)، والمادة الممتدة.

الثنائية السيكوفيزيقية أو “خرافة ديكارتDescartes ayth

الآن وقد استرد ديكارت يقينه بوجود الأجسام بعد يقينه بوجود النفس، بقى أن يفتينا فى الانسان ذلك الكائن المؤلف من نفس وجسم، أى من عنصرين متمايزين متضادين فالنفس جوهر بسيط مفكر، والجسم امتداد قابل للقسمة غير أن النفس رغم اختلافها الجوهرى عن الجسم فهى ليست حالة فيه حلول النوتى فى السفينة ولكنها متحدة به اتحادا جوهريا على حد تعبير أرسطو اذ يصحح فكرة افلاطون عن النفس بحيث لو جرح جسمى فلست اقتصر على ادراك الجرح بالعقل، ولكن انبه اليه بالألم فالألم والجوع والعطش وسائر الانفعالات لا تنال النفس بما هى كذلك، وانما هى ناشئة من اتحاد النفس والجسم واختلاطهما ويقال مثل هذا عن المعرفة الحسية والحركات المنعكسة والأحلام والتخيل والتذكر (راجع ديكارت: انفعالات النفس).

والحق أن التمايز الجوهرى بين النفس والجسم من ناحية واتحادهما التام من ناحية أخرى بقى مأزقا صعبا واجه ديكارت وأزمة فكرية مستعصية على الحل فمرة يلجأ ديكارت الى الله لجوء التراجيديين اليونان الى الألهة فى المواقف الحرجة، مدعيا أنه هكذا نظم الامور لخير الانسان وحفظ كيانه! ومرة يعترف أنها مسألة لا تحتمل حلا عقليا ويبقى أن الثنائية الاصيلة تلزم عن مذهبه الثنائى العتيد فهو يتحدث عن النفس والجسم فى مواضع عديدة مستريحة من كتبه كان النفس حالة فى الجسم مجرد حلول، وقد اختار لها الغدة الصنوبرية مقاما تتصل فيه بما اسماه “الأرواح الحيوانية”  vital spirits  التى توصل الرسائل من العالم الى النفس وتوصل ارادة النفس إلى اجزاء الجسم وعبر هذا الاتصال يحدث التأثير المتبادل  interaction  بين النفس والجسم فالغدة الصنوبرية هى نقطة الالتقاء أو البوابة التى تتحول بها الأفكار غير الممتدة وغير الجسمية الى تنبيه يحرك الجسم المادى الممتد وعلى العكس من ذلك فأن هذه الغدة الصنوبرية هى الوسيلة التى يتحول بها حادث جسمى (كوخزة الابرة) إلى احساس او الى “فكرة[15]

وهنا يواجه ديكارت صعوبة بالغة بصدد حرية الارادة فالارادة حقيقة ظاهراتية لا مهرب وبقى أن نجد لها تفسيرا مقبولا داخل هذا البناء المذهبى الشاهق فحسب الآلية الشاملة التى سلم بها ديكارت يكون كل فعل فسيولوجى فعلا ميكانيكيا صرفا لا مكان فيه لتأثير الذهن ولكن كيف أفسر أن ذراعى تتحرك حين أريد لها ذلك فارادة التحريك ظاهرة عقلية، وحركة الذراع ظاهرة بدنية ميكانيكية فكيف أمكن للنفس والجسم وهما جوهران متمايزان أن يتفاعلا بحيث يسلك جسمى كما لو كان ذهنى يتحكم فيه؟ كيف يحدث ذلك خاصة أن كمية الحركة فى العالم ثابتة فى أى اتجاه معطى بحيث لا تستطيع النفس أن تؤثر فيها؟ على هذا السؤال يجيب ديكارت اجابة عاجزة مغالطة فيقول أن النفس لا تستطيع تغيير كمية حركة الأرواح الحيوانية ولكنها قادره علىتغيير اتجاه حركة هذه الأرواح، وهىتقوم بذلك من غرفة القيادة أى “الغدة الصنوبرية”، وبالتالى يمكنها تغيير حركة أجزاء الجسم الأخرى وفقا لارادتها.

هكذا يضيف ديكارت غلطة ميكانيكية الى رصيده من الأغلاط فتغيير الاتجاه يقتضى حركة تخلق من عدم فيخالف بذلك مبدأ القصور الذاتى الذى يحول دون تصور الحركة تفنى أو تخلق أضف الى ذلك أن هذه القدرة للنفس هى خاصية مادية لا تتفق وجوهرها الروحى وما دام العالم المادى آليا خالصا وأجسام الحيوانات آلات ذاتية، فلم لا نقول نفس الشئ عن الانسان ونبسط المذهب الديكارتى بأن نجعله مادية متسقة؟ (وقد أتخذت هذه الخطوة بالفعل فى القرن الثامن عشر)[16]

وقد حاول جيولنكس (وليبنتز من بعده) تصفية مشاكل الثنائية الديكارتية فابتكر ما نسميه الآن بنظرية التوازى السيكوفيزيقى Parallelism وهى نظرية تفسير “مظهر” التأثير المتبادل بين النفس والجسم بينما تنكر “واقعيته” وحسب هذه النظرية فأن الذهن والجسم يمثلان سلسلتين من الحوادث منفصلتين ومستقلتين، ولا توجد بينهما رابطة سببية، بل توجدان جنبا الى جنب فى “تواز” كامل ويعترف أنصار هذا الرأى بأن لكل تغير ذهنى تغيرا جسميا مناظرا له، وأن هذين التغيرين يصاحب كل منهما الآخر دائما وبالضرورة فى ارتباط وثيق غير أنهم ينكرون أية علاقة سببية بين الاثنين فمهما يكن من حتمية الارتباط بينهما فأنه ليس ارتباط تأثير فالذهن والجسم دائرتان مقفلتان لا تؤثر احداهما فى الأخرى فهما اشبه بشريكين فى رقصة اشباح دائمة لا تنتهى بعناق ابدا[17].  وتعرف هذه النظرية ايضا بنظرية “الساعتين” فقد ضرب لنا جيولنكس مثلا ساعتين تحفظان الوقت بدقة فحين تشير احداهما الى الساعة تدق الأخرى بحيث انك لو رأيت احداهما وسمعت الأخرى لظننت أن احداهما تسببت فى كون الثانية تدق كذلك الشأن بين الذهن والبدن، فكل منهما ملأه (الله) ليحفظ الوقت مع الآخر فى هارمونية مبيتة (أوانسجام مقدر Pre-establisheed harmony  كما سيسميه ليبنتز فيما بعد) بحيث أنه يتصادف مع ارادتى أن تتسبب قوانين فيزيائية خالصة فى تحريك ذراعى، رغم أن ارادتى لم تؤثر فى الواقع فى بدنى.

ولا يخفى تهافت هذه النظرية وعبثيتها فهى لا تعدو أن تكون “ترشيحا” لثنائية ديكارت يحتجز المصاعب المنطقية ويبقى السخف القابلية للاثبات فى نوع من الحتمية السيكولوجية مترجمة عن الحتمية الفيزيقية الميكانيكية للمادة المخية ما دام التوازى قائما ابدا والترجمة ممكنة ابدا وهى حتمية لا ترضى الديكارتيين كما يصعب على اللاهوتيين التوفيق بينها وبين الاخلاق الدينية وعقاب الاثم [18].

الخروج من خرافة ديكارت:

هكذا أقامت ثنائية ديكارت صدعا هائلا بين العقل (العنصر المفكر) والمادة (العنصر الممتد) وهى وان تكن قديمة قدم افلاطون الا أنها تاكدت عند ديكارت بشكل كلى شامل، فكانت فجوة مودية شقت تحت اقدام العالم الحديث، وكارثة فكرية وضعت المتاعب فى طريق الفلسفة على مدى قرنين من الزمان وقد حاولت الفلسفة الحديثة رأب هذا الصدع وسد تلك الفجوة فتخلف عن عملية الترميم أما مثالية مطلقة تهمل المادة لحساب العقل، او مادية خالصة تجر العقل تحت غطاء المادة وبدا هذان كأنهما الاحتمالان الوحيدان الى أن جاءت الواحدية المحايدة  neutral monism  لتقدم احتمالا ثالثا كمحاولة معاصرة متطورة  للتخلص من الثنائية السيكوفيزيقية ومد جسر بين العقل والمادة دون الوقوع فى المثالية أو المادية فاذا كان الماديون يرون أن المادة هى الأصل والحقيقة وأن العقل وهم وظل أو هالة تتراقص فوق تفاعلات المادة والمثاليون يهدرون بشقشقات مقابلة فأن الواحديين المحايدين (أمثال: ماخ، ووليم جيمس، وبرتراندرسل) يذهبون الى أن العقل والمادة يتركبان من نفس “النسيج المحايد”neutral stuff  وكل ما بينهما من اختلاف انما هو اختلاف “سياق” أو اختلاف علاقات وتنظيم فهذا النسيج قد ينظم بطريقة فيشكل قطعة المادة، وقد ينظم بطريقة أخرى فيشكل العقل ويبقى هذا النسيج أو المادة الخام محايدا لا هو عقلى ولا هو مادى وأن تمثل فى تنظيم عقلى تارة، واندمج فى سياق مادى تارة أخرى.

الدرس:

هكذا كانت تأملات ديكارت سلسلة بديعة من الأغلاط:

فهو يبدأ باخراج “الأنا أفكر” من صلب الشك وهى لا تمثل واقعة معطاة

ثم بلعبة حواة يخرج الله من “تعريف”!! اخراج بيضة من أنف متفرج غفلان.

يخرجه لكى يضمن له أفكارا هو[19] احداها.

ثم لا يرجع قبل أن يسوخ فى مشكلة الذهن والجسم فلا يخلص منها الا بمغالطة ميكانيكية لا تليق بعمالقة الفيزياء والرياضة.

ويبقى هناك أكثر من درس يستفاد من زلات هذا العقل الكبير:

أولها: أن وضع غاية مسبقة من البحث الفلسفى, تدفع اليها بواعث خارجة عن مجال المنطق، هو نوع من الغش والعبودية وسوء النية لا يفلت من غضبة المنطق وانتقام الحقيقة.

ثانيها: أن مقولات العقل المحض ومعادلات الرياضة الخالصة وقوالب المنطق الصورى هى “فوارغ” تمتلئ بأى شئ و “لدائن” تنطبق على كل عالم ممكن ويبقى أن نحدق من ثقوب الأعين ونطل من كوى الحواس لــ “نعرف” scimus  أى العوالم يكتنفنا وأى النظم يستضيفنا.

ثالثها: أن طلب اليقين حيث لا يقين هو نوع من التثبيت الطفولى يجدر تجاوزه الى طقس النسبية ومناخ الاحتمال.

انما يبقى لنا من ديكارت المنهج المذهب.

ونعنى بالمنهج هنا منهج الشك الديكارتى بعد تصفيته من شوائب الشطط والافراط، وتخليص بعض مصادر المعرفة من براثنه (كمعطيات الحس المباشرة ومبادئ الاستدلال الصورى).

ان الشك اذا توقف عند بعض منافذ العرفان وأبقى على بعض مسارب النور فلن يكف عن أن يكون الهاما للعالم والمفكر وأذانا للكشف وبشيرا بالحقيقة

وانه ليعجزنا أن نحزر كيف كان يمكن أن يكون حال عالمنا لو لم يداخل الشك بعض العقول الباسلة والبصائر النبيلة فيسول لها أن تركل كهفها الدافئ وتذبح أمانها السمين، كيما تستنطق الحق وتستجوب الطبيعة وكيف كان يمكن أن يكون حاله لو أن كل رهط من البشر ظلوا قابعين فى حظيرتهم، متحككين كالخراف غير منبتين عن جهالة الآباء أو متجاوزين “لطفولة” الأجداد!

من هذه الوجهة يمكننا أن نعتبر ديكارت نبيا وأن نعد كل نبى ديكارتيا.

مزمور:

الشك

ينبوع النور

قدس الاقداس

عتبة الحقيقة

* * *

الشك

طهارة وغسل

من حدث العادة

من كلس الارث

* * *

آه الشك

مفرق وعلامة

نتواعد عنده

نحن وكل المعتقلين

المحتجزين

فى ابهاء المذاهب

وسر اديب الطوائف

نحن واخوتنا الذين لا نعرفهم

احباؤنا الذين اخذتهم من احضاننا عشوائية النشأة

واعتباطية الزيجة

فنتعانق تحت طل دافئ من العفو

وبريق كثيف من دموع السماح

يا للشك ان حبهم ادفأ من مقتهم

وشفاههم الذ من دمهم

يا للشك ان الخير فىالوجود جزيل

والجمال شكول

نتواعد عندك يا ملتقى الغرباء

وغبطة النبلاء

وعلامة الدرب

لنتقاسم رحابة الأفق

ونذوب معا فى ملكوت الحقيقة

ونفرح بالعقل

نفرح بالعقل

(ع. م)

المراجع

1-  ديكارت: مقال فى المنهج ترجمة الاستاذ محمود الخضيرى – دار الكاتب العربى للطباعة والنشر 1968

2- ديكارت: التأملات فى الفلسفة الاولى ترجمة د. عثمان أمين – مكتبة الانجلو المصرية 1974

3- د. عثمان أمين: ديكارت – مكتبة الانجلو المصرية الطبعة السابعة 1976

4-  يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة – دار المعارف الطبعة الخامسة 1969

5-  برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغريبة الكتاب الثالث الفلسفة الحديثة ترجمة د. محمد فتحى الشنيطى – الهيئة المصرية العامه للكتاب 1977

6- برتراند رسل: الفلسفة بنظره علمية تلخيص وتقديم د. زكى نجيب محمود – مكتبة الانجلو المصرية 1960

7- زكى نجيب محمود: نحو فلسفة علمية – مكتبة الانجلو المصرية الطبعة الثانية 1980

8- هنتر ميد: الفلسفة …. أنواعها ومشكلاتها ترجمة د. فؤاد زكريا – دار نهضة مصر للطبع والنشر 1975

9- هانز ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية ترجمة: د. فؤاد زكريا – المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثانية 1979

10- جان فال: الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر ترجمة: فؤاد كامل مراجعة د. فؤاد زكريا – دار الكاتب العربى للطباعة والنشر بالقاهرة 1968

11- د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل – دار المعارف – بمصر 1976

[1]  – “وقد مرت ثمانى سنوات كاملة منذ أن حملتنى تلك الرغبة على أن أبتعد عن كل الأماكن التى أجد فيها بعض من أعرفهم، وأن أنعزل هنا فى بلد وطد فيها طول استمرار الحرب نظما (جيدة)، حتى أن الجيوش التى يحتفظ بها فى ذلك البلد تبدو كأنها لا تستخدم الا فى أن ينعم الناس بثمرات السلام فى كثير من الطمأنينة، وحيث استطعت فى غمرة شعب كبير جم النشاط، يعنى بأعماله أكثر من تطلعه إلى أعمال الآخرين، بدون أن أحرم أى رخاء مما يوجد فى المدن الغاصة بالنازلين أن أعيش منفردا ومنعزلا كما لو كنت فى أقصى الصحارى”.

ديكارت (مقال فى المنهج).

[2]  – “أورجانون” هو الاسم الذى يطلق على كتب أرسطو المنطقية، ويعنى “الآلة” أى ألة الفكر و “الأورجانون الجديد” Novum organum  عنوان كتاب فرنسيس بيكون نشره عام 1620 وموضوعه المنهج الاستقرائى.

[3]  – “ان الرأى الذى يرفع به الناس من قيمة القديم هو راى باطل تماما، ولا ينطبق على لفظ “القديم” على الاطلاق ذلك لأن شيخوخة العالم وتزايد عمره هو الذى يعد فى الواقع “قديما” وهذه هى الصفة المميزة لزمننا هذا، لا للعمر المبكر للعالم فى أيام القدماء، اذ أن هؤلاء الأخيرين هم بالنسبة الينا قدماء سابقون، ولكنهم بالنسبة الى العالم صغار محدثون ولما كنا نتوقع من الشخص المتقدم فى العمر معرفة أوسع بأمور البشر وحكما انضج من حكم الشباب ومعرفته .. فأن لنا الحق فى أن ننتظر من عصرنا أمورا أعظم مما ننتظره من العصور القديمة، مادام العالم قد ازداد اليوم قدما، وتضاعفت ذخيرته وتراكمت بفضل عدد لا نهاية له من التجارب والملاحظات”.

(فرنسيس بيكون: الاورجانون الجديد القسم 84)

[4]  – “مهاجمة رجل من القش”: هى نوع من المغالطة المنطقية تتمثل فى انتقاد نظرية أخرى غير حصينة  vulnerable  بدلا من نظرية الخصم الحقيقية وذلك تحت تعمية  camouflage  من تشابه التسميات أو عن طريق افقار دم النظرية وتغيير خصائصها ببترها عن سياقها الحقيقى أو بازاحتها الى ركن قصى متطرف.

ويشبه هذا الجهد العقلى العقيم سواء حسنت النية أو ساءت أن يكون رميا لخصم من القش غير الخصم الحقيقى، أو قصفا لكتيبة “هيكلية” بدلا من قصف الكتيبة الحقيقية!! =

= ومن أمثلة ذلك فى الحقل النظرى أخذ الوضعية المنطقية بجريرة وضعية كونت الساذجة، واسقاط المادية الحديثة بتقويض المادية الكلاسيكية.

ومن أمثلته فى الحقل الاجتماعى والسياسى ازاحة الأفكار التحررية الى اطراف الفوضى والاباحة وتأليب الرأى العام بالتعبير الخاطئ عن مواقف الخصوم السياسيين أو زعماء الأحزاب الأخرى.

[5]  – د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل دار المعارف، الطبعة الأولى سنة 1976

[6]  –  راجع ديكارت: “مقال فى المنهج” ترجمة المرحوم الاستاذ محمود محمد الخضيرى القسم الرابع دار الكتاب العربى للطباعة والنشر.

[7]  – د. عثمان أمين: “ديكارت” مكتبة الانجلو المصرية الطبعة السابعة 1976 ص 158

[8]  – رغم أننا لا نوافق بسكال على تهوينه من شأن الكوجيتو الاوغسطينى، الا أن عبارته الرائعة تصلح درسا لبعض مفكرينا المحليين من محترفى التوفيق التلفيقى بين العلم والفكر المعاصرين وبين تراث الغابرين فكم يلذ لأولئك المفكرين أن ينخسوا الوهم والتخييل ليفصلا شقشقات القدامى على مقاس البدائع المعاصرة المدعمة بالاستقراء الأمين والمنطق القويم، والنظريات الحديثة التى تولد يصحبها الاعجاب ويباركها التطبيق العملى الملموس ولو صحت أوهام أولئك التلفيقيين وتخييلاتهم لكان تسنى للقدماء اعتصار سلاسل النتائج من الفكرة البكر أن كانت فلسفة وهو أيسر من ابتكارها عند من يدرك خطرها وخصوبتها أو لكان تسنى لها أن تدمغ العصر بطابعها وأن تتجسد فى تطبيقات تكنولوجية أن كانت علما وباعتساف اقل وانعم من اعتسافاتهم يمكنك ان تخرج ارنبا من قبعة فارغة أو تخرج نطرية اينشتين من كراسة انشاء تلميذ فى الثالثة الابتدائية أو تخرج الجيوجندة من بقعة رورشاخية.

[9]  – يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، الطبعة الخامسة ص 70

[10]  – يقول ابن سينا فى كتابه “النجاة”: القياس الاضمارى هو قياس طويت مقدمته الكبرى، أما لوضوحها وبداهتها بحيث لا تستحق الذكر (مثل أن أقول ان الخط أ ب والخط أ جـ خرجا من مركز الدائرة الى محيطها فهما اذن يتساويات، ولا داعى لمقدمة كبرى تقول: وكل ما خرج من المركز الى المحيط يتساوى) واما لاخفاء كذب الكبرى على سبيل المغالطة الخطابية (كأن أقول: هذا الانسان يخاطب العدو فهو اذن خائن مسلم للثغر ولو أننى صرحت بالمقدمة الكبرى “وكل مخاطب للعدو فهو خائن” لانكشفت المغالطة على الفور

[11]  – أحيل القارئ هنا خشية الاطالة الى كتاب برتراندرسل  an outline of philosophy  وكتاب ريشنباخ “نحو فلسفة علمية” بترجمة د. فؤاد زكريا وللكتاب الأول تلخيص متقن قام به د. زكى نجيب محمود، وأسماه “الفلسفة بنظرة علمية” الانجلو 1960.

[12]  – هانز ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية ترجمة د. فؤاد  زكريا. المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثانية 1979 ص 43 .

[13] – الدور الديكارتى: Vicious Circle الآن يمكننا أن نرى رؤية أكثر وضوحا واكتمالا ذلك الخطأ الكبير الذى وقع فيه دريكارت: فهو لم يخرج من شكه إلا بدور منطقى ظاهر؛ فمن جهة يجب للبرهنة على وجود الله الاعماد على العقل والأفكار الواضحة كوسائل لا تخدع، ومن جهة أخرى لأجل التحقق من أن العقل والأفكار الواضحة لاتخدع يجب العلم أولا بوجود الله وصدقه !! (راجع: يوسف كرم . . تاريخ الفلسفة الحديثة ص 70 دار المعارف . الطبعة الخامسة).

[14] – د. عثمان امين: ديكارت . ص 203 .

[15] – هنترميد: الفلسفة . . أنواعها ومشكلاتها، ترجمة د. فؤاد زكريا.

[16] – براتراند رسل تاريخ الفلسفة الغربية.

[17] – هنترميد: الفلسفة.

[18] – راجع برتراندرسل: تاريخ الفلسفة الغربية (الكتاب الثالث).

[19] –  أى الله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *