الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1983 / ابريل1983-تهافت الفيزيـاء

ابريل1983-تهافت الفيزيـاء

تهافت الفيزيـاء

د. محمد السماحى

يدعو كاتب هذا المقال – كالعادة – إلى وقفة نقدية أمام كيان علمى شاع  أنه نموذج لغيره فى الصلابة والاضطراد والعيانية وهو علم الفيزياء، وبعد نقد التصورات الافتراضية، والاستعمالات التجاوزية لبعض القيم الرياضية ثم القصور المنطقى للفيزياء يتركنا الكاتب كالعادة – فى وضع محير خلاق بالضرورة، وان كان المغامر المواكب لابد أن يلمح حلول الكاتب الساكنة وهو يعاود التأكيد على أهمية “التجربة الحسية” وكذلك وهو لايستطيع – بالقدر الظاهر فى نقده – ان يتحمل التناقض الحتمى فى التعبير اللفظى ناهيك عن الوجود الفعلى – وللقارئ أن يرتاح معه فى محطة النقد الساكن الرشيق أو أن يزلزل مهاربه (مهارب الكاتب) لنواجه معا مخاطر انعدام الوزن مع حتم التماسك فى آن.

تـقـديـم:

ليس المقصود بهذا المقال انكار قيمة علم الفيزياء ولا محاولة مساواته بالميتافيزيقا بل المقصود هو التنبيه على ضرورة مراجعته مراجعة جادة لاصلاح عيوبه النظرية وهو أمر ممكن . ان الفيزياء هى العلم الأساسى فى تكوين فكرتنا عن الكون ولذا فهى أكثر العلوم تأثيرا على الفلسفة خاصة وان بينهما فكرة مركزية مشتركة هى فكرة المادة . وبالنظر إلى هذه المكانة الخاصة للفيزياء كانت قضايا هذا العلم هى الشغل الشاغل للفلسفة منذ عهد طويل . ونظرا للطبيعة المعرفية والعمومية لبعض قضايا الفيزياء فانها تهم كل المشتغلين بالعلوم التى تدرس المادة والمهتمين بالتفكير النظرى، ولذلك فلن تكون الفيزياء علما كهنوتيا قاصرا على المختصين.

قد يقال أن التشكيك فى العلم يشبه السفسطة ولا يفيد ولكن حاجة العلم إلى الآراء المحافظة أقل كثيرا من حاجته إلى النقد والمراجعة وتصحيح المفاهيم.

الحالة المثالية لعلم الفيزياء:

الوضع الأمثل لهذا العلم هو أن يكون علما واقعيا أى يكتشف العالم لا أن يتأمل الأفكار التى تصنع لتفسير العالم وهذا هو الفارق بين الكوزمولوجيا والفيزياء، وأن هذا يقتضى أن يكون منهجه تجريبيا صرفا وأساسه المنطقى النظرى سليما.

تكون الفيزياء علما واقعيا عندما تخلو من تصورات لاتؤيدها التجربة الحسية وهى نافذة البشر على الواقع فبالتعريف الواقع هو  العالم الخارجى أى الخارج عن الحواس، والذهن قد يساهم فى معرفة وادراك العالم الخارجى لكن بشكل لاحق على الحواس ومكمل لها، وبالاضافة إلى ذلك فالذهن أكبر قدرة على الكذب من الحواس لأنه يمتلك قدرات التخيل ولهذا السبب فما يضعه الذهن من أفكار عن العالم غير مبنية على معطيات الحواس قد لايكون واقعيا.

ولتحقيق الواقعية لابد أن يلتزم العلم بتصفية الأفكار الافتراضية التى لا يمكن اختبار مطابقتها للتجربة وبعدم استعمال ما يستحيل التحقق التجريبى منه فى بناء العلم مهما بدا نافعا ومهما ضعفت الآراء المضادة له حيث يجب أن تبقى الأفكار غير الممكنة التحقق كاحتمال غير مؤكد أو كاقتراح نظرى والتمييز بين ما هو “اقتراح جيد” وما هو “فرض ثبتت صحته تجريبيا ولم يمكن اثبات عكسه” هو شرط لابد من توفره للعلم الواقعى فمن الممكن تحت ضغط الحاجة أن يلجأ العالم إلى اقتراح جيد ويسبغ عليه صفه الرأى المحقق فيرتكب خطأ منهجيا.

وتكون الفيزياء علما تجريبيا صرفا عندما لا تتناقض الأفكار النظرية التى لا يخلو منها علم تجريبى مهما تعمق فى التجريبية – مع الوقائع التجريبية ولا تحل محلها ، وهذه الأفكار النظرية قد تكون رياضية أو تأملية أو استنباطية، ولكمال المنهج التجريبى لابد ألا يعوض العلم عن وقائع ناقصة الرصد والفهم بأفكار رياضية أو نماذج تصورية نظرية مهما بدا ذلك مفيدا .

ويكون الأساس المنطقى للفيزياء سليما عندما يخلو من التناقض وهذا هو  الشرط  الذى التزم به العلم منذ عصر الفلسفة اليونانية، ولكى يكون هناك أساس منطقى صحيح يجب التأكد من وضوح التعريفات الأساسية والمبادئ الأولية للعلم .

ولما كانت الفيزياء هى محصلة عمل العلماء العاملين بها فان نجاحها فى تحقيق الواقعية والتجريبية والأساس المنطقى السليم (من أجل أن تكتشف العالم لا أن تخترع عالما بحانبه) يتوقف على مدى دراية هؤلاء العاملين بها بالشروط الأساسية لنجاح العلم وعلى مدى قدرتهم النقدية التى تتحسن شبهة الخطأ قبل أن تقع فيه.

الوضع الراهن للفيزياء:

لم تنجح الفيزياء فى تحقيق الشروط الأساسية التى تضمن لها الاستمرار كعلم واقعى تجريبى مضبوط منطقيا رغم ايهامها بالنجاح اللامحدود فى كشف أسرار الكون رغم نجاحها المحدود فى دراسة بعض الظواهر، ولذلك فالفيزياء تحتاج إلى اعادة بناء لأن اخطاؤها لابد ستنتقل إلى كل العلوم القائمة على دراسة المادة .

والأمثلة على تهافت الفيزياء كثيرة ولكنى سأركز على ضعف الأساس المنطقى لأن ذلك أمر حيوى وحساس بالنسبة لأى علم ولأنه لا يحتاج الى متخصص فى الفيزياء لنقده وتوضيحه، ولكن من الأمثلة الكبيرة على تهافت الفيزياء التى تجدر الاشارة السريعة اليها أيضا الابقاء على تصورات افتراضية غير مختبرة واستعمال منهج رياضى غير مناسب للتعبير عن قضايا واقعية.

الفيزياء والتصورات الافتراضية:

الفكرة الافتراضية هى فكرة لاتؤيدها المشاهدات التجريبية بشكل متكرر . والمعروف أن معظم الأفكار العملية تبدأ كأفكار افتراضية ثم تتعرض للاختبار التجريبى لتصفية مالا يتفق منها مع المشاهدات التجريبية . ولكن الفيزياء وقعت كثيرا فى خطأ استبقاء أفكار افتراضية غير مؤكدة اعتمادا على أن المستقبل القريب سيأتى بالدليل على صحتها. وهذا نوع من الرهان ضار بالعلم . ان الوضع المؤسف هو أن الفيزياء أصبحت تتشكل من فروض معظمها لم يثبت صحته التجريبية ولكنى سأشير إلى مثالين اثنين من بين مئات ان لم يكن آلاف التصورات الافتراضية غير المختبرة لأن أحدا لايمكنه أن يعترض على أنهما كانا من صنع الخيال.

المثال الأول هو فكرة الأثير الشهيرة التى عاشت طويلا دون أى دليل، ثم تم التخلص منها عند مطلع هذا القرن . لقد افترض وجود الأثير لحل مشكلات نظرية فى الفيزياء ومنح صفة الوسط الناقل للتأثيرات دون أن يتدخل ايجابيا فيها ثم ثبت ضعف هذا الفرض.

والمثال الثانى هو مثال الكواركات وهى جسيمات أولية افتراضية، اقترح وجودها لحل بعض المشكلات الرياضية الفيزيائية ثم حسبت خواصها كاملة وكذلك تأثيراتها على الجسيمات المعروفة وعدلت الفيزياء التحت ذرية لتلائمها ثم عجزت كل التجارب عن العثور عليها فى الطبيعة.

لقد شبه أحد الفيزيائيين عملية اكتشاف جسم أولى بمحاولة استنتاج شكل حيوان منقرض لم يكتشف منه سوى عظمة الفك وهذا المثال يوضح مقدار الخيال المستخدم فى كل من العمليتين ولكن فى مثال الكواركات بالذات لم تكن هناك حتى عظمة الفك هذه .

تهاون الفيزياء فى اختبار الرياضة المناسبة للتعبير عن ظواهرها:

معظم المفاهيم الفيزيائية ذات طبيعة مزدوجة: رياضية تجريبية حيث تأخذ أفكار مثل السرعة والكتلة والوزن والمسار معنى نصف رياضى لا يوجد فى أفكار الحس السليم اليومية. ولكن هذا التأليف ليس مأمونا تماما لأن تصورات الرياضة أكثر حرية من تصورات الواقع. والعالم التجريبى لابد أن يقيدنا برياضة معينة نتعامل بها معه حيث لا تكون أفكار مثل ¾ ذرة أو 1/5 الكترون مقبولة تجريبيا (أو فى العالم الواقعى) بينما لاتجد الرياضة أى حرج فى استعمال الكسور مثل الأعداد الصحيحة كرموز كمية.

والوضع الحرج للفيزياء الرياضية يتمثل بوضوح فى تناقض الفروض والتعريفات الأولية التجريبية مع فروض وتعريفات الرياضيات البحته.

فبينما تنكر تعريفات الفيزياء وجود الصفر (الانعدام) واللانهائى فان الرياضة تعترف بهما ككميات كما تعترف بالأعداد التخيلية والكميات العبثية الاخرى (من أعداد سالبة وجذور تخيلية . . . الخ ) رغم استحالة تطبيق هذه المفاهيم على الموجودات الواقعية.

كذلك تقبل الرياضة فكرة الكم غير المحدد والكم التقريبى وهذه مفاهيم مرفوضه لدى التجريبيين لأن منهجهم يشترط الدقة الكاملة فى التحديد الكمى .

ان هذه التناقضات لا تعنى استحالة الاستعانة بالرياضة فى الفيزياء بل تعنى ضرورة انتقاء الرياضة المناسبة فالرياضة ليست هدفا فى حد ذاتها ولكن أسلوبها الاستنتاجى الرشيق بسلاحه الرمزى الذى يبسط الفكر هو وحده المطلوب منها للفيزياء.

ومن اخطاء الفيزياء الرياضية أيضا استعمال الثوابت العددية للتعبير عن ظواهر الطبيعة حيث يتم ادخال كسر عددى معين معروف مقدما كطرف فىحسابات تتعلق بظاهرة جنبا الى جنب المشاهدات التجريبية الاخرى الداخلة فىالحساب وبذلك تعطى قيمة فيزيائية لمقدار رياضى يأخذ أهمية لاتقل عن أهمية معطيات التجربة.

وهذا العمل يمثل اضافة فكرة سبقية ذهنية الى مشاهدات التجربة وهو عمل غير مشروع. ففى فيزياء الكم يحدث كثيرا ادخال العنصر المحسوب مقدما (ثابت بلانك) فى حساب عمليات طبيعية (مع العلم بأن الضرورة التى تحتم استعماله هى ضرورة حسابية لا تجريبية) كما يحدث فى معادلة اينشتين التى تستعمل مربع سرعة الضوء كثابت عددى يدخل فى حساب عمليات فيزيائية لاعلاقة لها من قريب ولا من بعيد بالضوء وسرعته .

هكذا يقع بلانك واينشتاين – ومن يجرونه معهم – فى خطأ محاولة اخضاع الطبيعة لفكرة رياضية أى خطأ يترتب عليه أن يتبع العالم الذهن بدلا من أن يتابع الذهن العالم وهو ما يناقض تماما المنهج التجريبى وكل اهدافا للفيزياء

بعض مظاهر القصور المنطقى للفيزياء:

لكل علم أساس منطقى نظرى يحتوى على تعريفات واضحة للمفاهيم الأولية تكون ملزمة للباحثين فى هذا العلم عند صياغة افكارهم ولا يجوز فى أى علم الجمع بين افكار متناقضة وفى الفيزياء يوجد قصور كبير فى المفاهيم الأولية التى ظلت غامضة لضعف محاولات تعريفها ، مثل مفهوم المادة والعالم  والطاقة والجسيم والموجه والمجال والفراغ وهى كلها افكار اساسية وأولية فى الفيزياء

كما قبلت الفيزياء أفكارا متناقضة فرغم أنه لايجوز القول عن كائن فى البيولوجيا انه حيوانى نباتى أو عن مركب فى الكيمياء انه حمض قلوى فاننا نقابل فى الفيزياء مفاهيم الموجه جسيم و الزمان مكان أو البعد الرابع الزمانى للمكان كما نقابل التقاء الفراغ مع المادة فى داخل الذرة التى حورت كموجود مركب من عنصرين: مجموعة الجسيمات (النواة والالكترون) والفراغ الذى يفصل بينهما وهنا يأخذ الفراغ صفة العنصر الداخل فى تكوين الأشياء بعد أن اعتاد العلم استعماله كمفهوم مناقض للمادة .

وفى الماضى كانت المادة بالتعريف هى ما له كتلة واتفق على ان المادى ذو كتلة والكتلة تميز المادى ولكن الفيزيائيين قبلوا تجريد اثنين بالذات من الجسيمات من حق الاحتفاظ بالكتلة فقالوا ان الفوتون والنيوترينو هما جسيمات بلا كتلة ليضعونا امام صعوبة منطقية .

وفكرة العالم أيضا ينقصها الوضوح مثل فكرة المادة خاصة وان التباين الشديد الذى بين المجرات والسدم والنجوم بل وداخل المجرة الواحدة قد أصبح واضحا وضوحا كبيرا بحيث يصعب تعريف كل هذه الموجودات على انها شئ واحد طالما أن وهم التشابه بينهما قد تبدد .

أما ثنائية الموجه والجسيم فهى واحدة من أكبر الالغاز المنطقية فى تاريخ العلم فلقد قام بناء الفيزياء على أساس المادة تتركب من وحدات صغيرة هى أما أن تكون جسيمات أو موجات وبالتالى فما يكون جسيما لايكون موجه وبالعكس ولا تتركب الجسيمات من موجات كما لا تتركب الموجات من جسيمات بل ان كلا منهما موجود أولى.

ورغم ذلك قامت نظريات عن طبيعة مزدوجة للضوء ووضعت خصائص موجية للألكترون ووصفت موجة الجسيم كما افترض ان الجسيمات تنحل الى موجات اى انها تنحل إلى أشياء لا تتركب منها وهذا مستحيل منطقيا لأنه يشبه القول بأن قطع الثلج تنحل إلى حبات من الرمل بل أن تصور الموجه فى حد ذاته متناقض لأن الموجه بالتعريف هى حركة اهتزازية لوسط ناقل ولكن الفيزياء ألغت الوسط الناقل دون ان تلغى الموجه وهى احدى لوازمه.

فكأن الموجات هى حركات اهتزازية بدون أشياؤه تهتز أو تتحرك فاذا كانت موجة الصوت هى اهتزاز للهواء فماذا يهتز ليصنع موجة الضوء؟

ومما تسبب فى اهتزاز البناء المنطقى للفيزياء تداخل العصور الأربعة لهذا العلم وكان الواجب ان يحل النظام الجيد محل القديم الذى ثبت فشله لا أن يحتفظ ببعضه ويتخلص من بعضه الآخر لأن فساد جزء من نظام متماسك منطقيا يعنى فساد كل النظام ما دامت افكاره تبنى بعضها على البعض .

لقد رفضت الفيزياء النسبية مفاهيم الكلاسيكية لكنها قامت على اكتافها واستعملت العديد من مفاهيمها وكأنها تقول له أنكر صحتك لكنى استرشد بك ورفضك فيزياء الكم افكار الاثنين معا ثم اقتبست الكثير من مبادئهما وها هى فيزياء ما دون الذرة العصر الرابع فى الفيزياء ترفض معظم اسس فيزياء الكم وما قبلها مثل قوانين الحفظ conservation laws وهى من أهم أعمدة الفيزياء القديمة على الاطلاق ثم تأخذ الكثير من أفكارها.

ان ذلك يعنى ببساطة عدم وعى الفيزيائيين بأن تهافت جزء اساسى من منطق نظام ما يعنى انهيار النظام كله لان كل نظام نظرى منطقى يقوم على الاستنباط من مقدمات قليلة وبالتالى فسقوط احد هذه المقدمات يبطل كل الخطوات اللاحقة عليها .

لقد ساهم هذا التداخل بين التصورات المتناقضة فى تكوين عدم تجانس وتنافر عميق فى الفيزياء النظرية مما أدى الى تصورات غير واقعية مثل غرابة الأجسام strangeness   وقانون حفظ الغرابة الذى ورطهم فى اختراع الكواركات .

ان الخطوة المطلوبة من أجل اصلاح البناء المنطقى للفيزياء هى خطوة تبسيط لبعض المفاهيم بتصفية تناقضاتها وهى أقل صعوبة من الجهود التى تبذل داخل المفاعلات من أجل مطاردة حزمة بروتونات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *