الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1983 / ابريل1983-صخرة كيريلوف وانتحاره

ابريل1983-صخرة كيريلوف وانتحاره

صخرة كيريلوف وانتحاره

د. ابراهيم أبو عوف

“يا لعالم النفس اللعين!”

ديستويفسكى:

 على لسان ستافروجين فى رواية الشياطين.

من رسالة التقديم:

“. . . أرسل أول دراسة لى بعنوان (صخرة كيريلوف وانتحاره ) من سلسلة مقالات عن الشخصيات الرئيسية فى رواية “الشياطين” لديستويفسكى – وسوف أواليكم بها إن شاء الله . وكنت أود أن أرسل من قبل دراسة “ديستويفسكى بين المقدس والملعون” . . ، وهى مجموعة ملاحظات نقدية عن الشخصيات الصرعية فى الابداع الروائى عند ديستويفسكى. .”

الكاتب:

يقدم لنا الكاتب من منظار دراسته النقدية الاجتماعية عن ظاهرة الانتحار – من خلال المهندس كيريلوف – دعوة مفتوحة للنفاذ الى عالم ديستويفسكى الزاخر. والأمر يحتاج – دائما – إلى وقفة والى مراجعة . . و . . والى حوار. والمائدة تنتظر المدعوين من كل صوب.

المهندس المدنى الشاب “الكسى نيلتش كيريلوف” هو احدى الشخصيات العديدة الغريبة التى حفلت بها رواية (الشياطين) التى ألفها الكاتب الروائى الروسى ديستويفيسكى . وهى الرواية التى قال عنها “لينين”: انها مقززة . . لكنها عظيمة. وهى نفسها التى وصفها الناقد الكبير “أرفنج هاو” فى كتاب “الرواية والسياسة”: انها تعج بالتهريج الصاخب”، وهو يرى ان ذلك ربما كان السبب الذى يفسر جو النفور العجيب الذى يحيط بهذه الرواية.

فيلسوف . . التهمته أفكاره!:

كان اعتزام “كيريلوف” الانتحار قاطعا وأكيدا، وكان يفسره تفسيرا فلسفيا، ومع ذلك فقد بدا هذا التفسير لبعض الناس محض جنون، كما عزاه آخرون إلى محدودية آرائه وضيق أفق وتصوره للطبيعة وللمجتمع الإنسانى على غير ما خلقهما الله عليه، بل وعلى غير ما هما فى الواقع.

وزعم البعض أن “كيريلوف” بدلا من أن يلتهم أفكاره إذا بها هى تلتهمه هو! ومع ذلك فإن البعض كان يراه انسانا كبيرا لولا نزواته الرهيبة الحادة، بينما يبالغ آخرون فيرون فيه رجلا مثقفا، بل فيلسوفا كبيرا.

ولاشك أن كل هذه الآراء تجعل من شخصية “كيريلوف” وأفكاره وانتحاره مشكلة روائية ملفتة للنظر، فضلا عن كونها معضلة فكرية ونفسية مثيرة للخيال، حتى أن بعض النقاد رأى أن “ديستويفيسكى” نفسه – مثل كيريلوف – تتملك روحه حيرة متناقضة المضمون، ولا سبيل للمصالحة بين طرفيها: الله والإنسان.

نشأة كيريلوف:

لا نكاد نعرف شيئا عن منبت “كيريلوف” ونشأته وتطور شخصيته، وانما كل ما نعرفه هو أنه كان يوما ما عضوا فى جميعة سرية ذات اتجاه ثورى غامض، وانه سافر ذات مرة إلى أمريكا مع “شاتوف” ثم عاد إلى بلدة وقد اعتزم الانتحار، وأعلن ذلك لرفاقه، وبرره فلسفيا وشرحه لبعضهم ، ولم يقهمه أحد . أما “شاتوف” فقد ارتد تماما عن اتجاهات الجمعية السرية ثم انسلخ عنها، بل ربما فكر فى أن يدعو للأفكار التى تعارضها، فكان هذا سببا فى أن يقرر أعضاء الجمعية اغتياله، كما قرورا أيضا اسناد تهمة اغتياله الى “كيريلوف” بعد أن ينتحر ودون علمه الى حين أن يوقع على اعتراف بتلك الجريمة التى لم يرتكبها.

ديستويفيسكى . . يصور شخصية كيريلوف:

وكعادة “ديستويفيسكى” فى رسم شخصياته الروائية نجده يرسم “كيريلوف” من الخارج والداخل معا.

1- كيريلوف . . من الخارج:

 شاب فى نحو السابعة والعشرين . . حسن الهندام . . أسمر . . نحيل وممشوق .. وجهه شاحب وعيناه سوداوتان كابيتان لهما نظرة ثابتة . أما “كيريلوف” من الداخل، فهو حالم الهيئة ذاهل . . كثير النسيان . . كلامه موجز متقطع . . لا يلتزم قواعد النحو كثيرا ويبدل ترتيب الكلمات فى الجملة تبديلا عجيبا . وإذا حاول جملة طويلة ارتبك . . متجهم غالبا . . يصغى لمن يحدثه فى ضيق وتبرم كأنما هو غاضب أو حانق . وهو يحتقر الكلام ويكره المناقشات . . يستفزه استخدام الناس للعبارات الصخمة الموشاة بزخرف القول . أنه لا يجادل أبدا فى مسائل يعتبرها هو محلوله، ويعيش بعقيدة راسخة مقتضاها: “إذا اقتنع المرء بعدة أشياء فسوف يغدو الأمر واضحا” ورغم أنه لايؤمن بأية قيمة لأى شئ فى الوجود فانه يكره الدناءة البشرية ويمقت الأفكار الخسيسة ولا يطيق عذاب الضعفاء تحت سطوة الأقوياء.

وقد عاش “كيريلوف” وحيدا لا يقابل انسانا ولا يتكلم مع أحد.

يسهر الليل بطوله، ويظل يشرب الشاى ، ويكاد لا يأكل شيئا، وانما يذرع أرض حجرته جيئة وذهابا مستغرقا فى تأملات لا نهاية لها يكاد يغفل عن كل من حوله، وفى بعض الأحيان يبدو كأنه أسير فكرة جذابة فاتنة – تملك عليه كل حسه ووعيه – تدوم للحظات . وأحيانا أخرى ينفجر مطلقا ضحكة مرحة صريحة يتخذ وجهه عندها تعبيرا طفوليا مناسبا.

2- كيريلوف . . من الداخل:

ان كيريلوف رغم أنه شاب متجهم وحانق إلا أنه مهذب صريح مع نفسه ومع أفكاره ومع الناس. ليس أنانيا ولا شهوانيا، فما دام لديه اقتناع فلابد أن يتطابق سلوكه مع اقتناعه دون لف أو دوران. قراره المعلن عن “حتمية الانتحار” انما ينبثق من أعمق أعماق روحه ويتطابق مع مشكلته – كما يراها فى الوضع المأساوى للوجود الإنسانى نفسه. ان جاره الضابط السكير المرفوت من عمله يضرب أخته العرجاء البلهاء، فيتعرض له “كيريلوف” وينقذ المرأة من وحشيته، بل ويضربه.

وكيريلوف رغم حنقه وتجهمه يلاعب طفلة صغيرة على ذراع جدتها حتى لتضحك الطفلة وتسعد . وعندما يلجأ إليه شاتوف طالبا النجدة لزوجته التى فاجأها المخاض اذا به – اى كيريلوف – يسرع فيعطيه كل ما لديه دون تردد، رغم أنه لا يكمله بتاتا منذ عادا معا من أمريكا عودة البائس الضائع! بل ان كيريلوف لايستطيع الا ان يكرم فدكا فأويه ويطعمه مع أنه لص وقاتل مأجور. فكأن كيريلوف يحمل فى داخله تجاه البشر عاطفتين متكافئتين ومتضاربتين معا هما: الفهم مع التقزز والشفقة مع الازدراء. انه لا يعجب بذكاء البشر اذا ما أهدروه فى مجرد ملاعبة شيطان السخرية والمزاح مكتفين بذلك. ويرضيه ان يكون للبشر بعض الكبرياء والأنفة حتى يأخذوا وضعهم فى الوجود مأخذ الجدية والمعاناة الصادقة ولا يهمه بعد ذلك اذا ما اضطرته مأساته الى تحدى الألم والموت؛ فبالانتحار يعبر الى الألوهية !؟! ومن ثم فليس من الغريب ان يتحول هذا المهندس المدنى الى مهندس للمصير البشرى مهملا عمل المهندس الحقيقى فى البناء والتشييد ويتحول الى فيلسوف عدمى يبشر بفلسفة التدمير، ولا يجد فى الأقوال والكلمات أى غنى فيتجه الى الفعل مبتدئا بنفسه ومنذ هذه اللحظة – وبسبب أفكاره الغريبة التى جعلت اليأس مذهبا فلسفيا – رآه البعض مجنونا، واكتفوا بهذا التفسير السهل الذى ربما كان سطحيا وتافها وربما أيضا كان حقيقيا وجادا.

مشكلة: الخير والشر:

ولكن، كيف يمكن أن يكون مجنونا ذلك الانسان الذى ظل طول حياته يرغب الا يكون الخير والشر مجرد كلمات بل شيئا آخر حقيقيا أكثر من مجرد كلمات؟! أنه ما عاش الا من أجل هذا، ومازال – مجرد كلمات فحسب، ويدهشه أكثر ان يستمر الناس فى الحياة مع ذلك رغم اليأس من حقيقة الخير والشر.

مشكلة:الله … والانسان:

ومن مشكلة” الخير والشر” يعرج بنا الى مشكلة “الله والانسان” وتقوده هذه المشكلة الى قضية “الالحاد والايمان”. ولا يعنى هذا أن “كيريلوف” فيلسوف نسقى منطقى وانما هو شاب مجتهد تقوده مشاعره وعواطفه ومواقفه فى الحياة الى نثار غائم من الأفكار المتخبطة المضطربة التى هى نتاج أزمة روحية حادة لها جذورها الاجتماعية الضاربة الى الأعماق، وللأفكار نفسها مذاق فلسفى محسوس وأن افتقدت الى التماسك والبرهان. وهكذا انتهى “الالحاد” الى” الانتحار” دون أن يعنى ذلك أن الانتحار يأتى كنتيجة حتمية للالحاد. ولكن الحاد” كيريلوف” ليس من نوع الالحاد الذى لا يؤبه له، فهو لا يقف عند حد الاستهتار الشائع بكل شئ فى حياة المجتمع الانسان(مثلما نجد عند الفوضويين والعدميين الصغار الذين يكتفون بالترديد الببغائى – أمام كل شئ وكل قيمة –لعبارة:” أنها مجرد أوهام اجتماعية باطلة”. لا، ليس الحاد”كيريلوف” من هذا النوع من الالحاد المتصنع المتحذلق، ,انما هو الحاد”كثيف”و”خانق” .الحاد جاد… متجهم… حانق.

هل هى أكذوبة كبرى ؟!

(أسمع فكرة عظيمة. فى ذات يوم نصبت ثلاثة صلبان. كان أحد المصلوبين يبلغ من قوة الايمان أنه قال للذى كان الى يمينه:” فى هذا اليوم نفسه ستكون معى فى الجنة”. وانتهى اليوم ومات الاثنان ولم يجدا لا جنة ولا بعثا. لم يتحقق قول المصلوب. اسمع، أن ذلك الانسان كان أعظم انسان فى الأرض؛ بسببه أنما وجدت الأرض، فالأرض كلها وجميع ما عليها لا تكون بغيره الا جنونا. لم يوجد قبله ولن يوجد بعده انسانا يشبهه ولو تحققت معجزة. والمعجزة أنما هى أن هذا الانسان لم يوجد أحد مثله ولن يوجد أحد مثله فى يوم من الأيام. فاذا كان الأمر كذلك، واذا كانت لم تراع حتى معجزتها واضطرته أن يحيا وسط الكذب وأن يموت بسبب كذبه – بينما الأرض كلها ليست ألا أكذوبة ولا تقوم الا على الكذب والضلال – فان قوانين هذه الأرض نفسها ليست الا كذبا وليست الا مهزلة شيطانية، فعلام يحيا المرء؟ أجب اذا كنت رجلا!.

ـ ولكن ماذا اذا كنت الله؟ ماذا اذا انتهى الكذب! وادركت أن الكذب كان يصدر عن ذلك الاله “الاجتماعى” القديم؟ أن سلامة الجميع أنما تكون بالبرهنة على هذه الفكرة! ومن الذى سيبرهن عليها؟.. أنا. أنه أنا.” لئن يدرك المرء عدم وجود اله ثم لا يدرك فى الوقت نفسه أنه هو نفسه الاله، فتلك استحالة والاوجب على المرء أن ينتحر”.

ولكنك اذا كنت تشعر انك والاله وجود واحد، فأنت ملك، ولن تنتحر بل ستعيش فى المجد، ولكن من عساه يبدأ ويبرهن؟ انه انا الذى سأنتحر، لابدأ وأبرهن لست بعد لست بعد الها الا بالرغم منى، وأنا شقى، لأننى “مضطرا” أن أنادى بارادتى الخاصة جميع الناس اشقياء، لأنهم يخافون أن ينادوا بارادتهم كان الانسان دائما وحتى الآن فقيرا وشقيا؛ لأنه كان يخشى أن يحقق الصورة القصوى لارادته اننى بائس بؤسا رهيبا؛ لأننى خائف خوفا فظيعا الخوف لعنة الانسان..).

صخرة كيريلوف: العدمية الكئيبة!

ولكن مما يخاف الانسان؟ هنا نقترب من صخرة “كيريلوف”، وندرك عذابه وأمله وحتمية انتحاره؛ فبما أن: (أنا لا أريد أن أكون أنا) فمن المحتم اقتحام المجهول … علم الموت .. و .. والمستقبل (أنا مضطر أن أؤمن بأننى لا أؤمن) اذن، الانسان الفرد ليس خالدا .. انه ميت .. فبيدى لا بيد عمرو .. وعلى وعلى أعدائى انها اذن صخرة العدمية الكثيبة، وهى الفرضية المرعبة التى أراد بها “كيريلوف” أن يتغلب على فكرة الخوف من الألم؛  فعندما تسحق الصخرة الانسان فى ثوان …. هل يكون ثم الم؟

” تخيل صخرة هائلة .. فى حجم عمارة كبيرة. وتخيل أنها بارزة فوق الطريق وأنك تحتها… هل تحس بألم أذا هى سقطت على رأسك؟! طبعا، سوف تخاف، ولكننى لا أتكلم عن خوفك؛ أذ أننى أتساءل فقط: هل يمكن أن تشعر بألم اذا سقطت هذه الصخرة الضخمة كالجبل.. التى ربما كان وزنها يبلغ مليون طن، بالطبع سوف تحس بشئ، بل لن يكون هناك وقت لتحس بأى شئ. ومع ذلك فانك اذا وجدت فى هذا الموقف ستظل تخاف من أن يصيبك ألم ما بقيت واقفا تحت الصخرة. وحتى أكبر العلماء وأعظم عباقرة العلم سيخافون خوفا كبيرا من أن يتالموا. هم يعلمون أنهم لن يتألموا، لكنهم سيخشون من أن يتألموا”.

ألم أم … خوف ؟!

” ليس ثم ألم فى الصخرة، لكن الألم موجود فى الخوف من الصخرة” .. أنه خوف وهمى كاذب، ومع ذلك فهو يقهر الانسان ويشل ارادته ويمنعه من الانتحار وتحدى الموت.. يمنعه من تحقيق ارادته الخاصة ويحرمه متعة الشعور بأنه” اله” يمارس حريته المطلقة؛ اذ يفعل ما تمليه عليه ارادته الخاصة فى أقصى صورها تطرفا، ومن ثم يصعد التناقض الى أعلا ذراه فنجد أن الانتحار الذى هو اعدام الذات عمدا يصبح هو نفسه أبرز أشكال تأكيد الذات أفلاسا. أن ذلك يعيدنا بلا شك الى نفس النهاية المأساوية لقصة ذلك الانسان المصلوب، ولكن فى صورة” الاله المنتحر”.  نهاية واحدة وعبثية.. نهاية مفلسة، لكن” كيريلوف” لا يمكنه السباحة الى حد ادراك مثل هذه النهاية؛ فهو اذ يظن نفسه يهدم أسطورة نجده هو أيضا يبنى لنفسه أسطورة خاصة. لقد رأى أن يقنعنا بأن الخوف من الألم مجرد وهم، واراد أيضا اقناعنا بأن الأمل فى حياة أبدية سعيدة بعد الموت مجرد وهم. غير أنه هو نفسه كانت لديه أوهامه الخاصة:” أننى اذ أنتحر اصبح الها” !

الحاكم بأمر الله … أيضا !

هل ذلك الوهم الأسطورى يختلف فى أى شئ عن الوهم الوهم الأسطورى الآخر الذى صوره الشاعر الفرنسى” جيرار دى نرفال”* عندما حكى لنا عن قصة الخليفة الفاطمى” الحاكم بأمر الله” الذى استشعر هو أيضا قوى الألوهية تسرى فى وجوده(الفانى)؛ اذ يحكم باعدام بعض شعبه أو يعفو عنهم.. هذه السلطة المطلقة التى مارسها الحاكم خدعته.

وايضا فان الحرية الارادة المطلقة التى توهمها “كيريلوف” “صفة الألوهية”، والتى لم تجد شيئا يعبر عنها أعلى تعبير سوى الانتحار.. هذه الحرية المطلقة خدعت “كيريلوف” مهندس التدمير الشامل فباع انتحاره.. باع موته وهو على قيد الحياة لـ” بطرس ستينانوفتش” “الأنا- وغد” وتلك هى السخرية الكبرى التى سعى اليها ديستويفيسكى من كل العدميين ومن كل أفكارهم الطائشة. فاذا كان الانسان “غشاشا” أفلا يكون غشاشا أيضا من يقول لنا ذلك؟! أن هذا هو المنزلق الذى هوى اليه ديستويفيسكى نفسه فلم يعد يستطيع أن يميز بين الشفقة والمذلة . . بينما هو يهوى مثل عربة الــ “ترويكا” الروسية وهى تجرى على منحدر ثلجى رهيب دون أن تستطيع أن تتوقف؛ فقد فقدت السيطرة على نفسها تماما. أم ترى أن العدمية قد ظهرت هناك لأنهم قد صاروا “كلهم” عدميين. وقد أراد ديستويفيسكى أن يقول كل ما فى قلبه حتى لو كا يكتب ” للكلاب “؛ فلم يعد يهمه الجانب الفنى فى البناء أو السرد الروائيين. وحتى لو أخذت الرواية شكل “كراسة التعاليم ” فى رأى القراء والنقاد.. فما قيمة ذلك كله؟ أنها شحنة من السخرية المرة تندفع من قلب لا سيطرة عليه ومن روح مضطربة أشد ما يكون الاضطراب.

ملامح أخرى لشخصية كيريلوف:

ـ دفء أعماق الوجدان!

لكننا نعمى عن ادراك غرابة شخصية” كيريلوف” فيما لو نظرنا اليه فقط باعتباره بناء من الأفكار، دون أن نستشعر الدفء الغائر فى أعماقه، وهو دفئ غريب جسدته لمسات حية من ديستويفيسكى الفنان المصور لأعماق النفس البشرية. لقد استرعى انتباهه ما جاء على لسان”فرخو فينسكى” الأب عندما حكى له عن ابنه ” بطرس”( الأنا- وغد) وهو طفل صغير حين كان يرسم على نفسه الصليب قبل النوم خشية الموت. لقد دهش عابرة، لكنها لمحة مذهلة؛ لأن بطرس هذا- وكما يعرفه” كيريلوف”- قد أصبح شابا وغدا لا يعبأ بشئ ولا يؤمن بشئ؛ حتى القضية الكبرى التى كان يزعم أنه يعيش ليخدمها لم يكف أبدا عن أن يسخر منها ويتلاعب بمصير البشرية من أجلها. وهو ايضا”كيريلوف” الصائم عن الكلام الذى دعى الراوى الى حجرته وراح يتحدث معه عن قناعاته وفلسفته حول الانتحار والارادة والله، وكشف عن صيرورته؛ اذ يقول للرواى:” اشعر أننى لا أستطيع أن أكون كسائر الناس. جميع الناس يفكرون فى شئ ثم ينتقلون فورا الى التفكير فى شئ طوال حياتى. طوال حياتى عذبتنى فكرة الله”.

ـ أخوة الأكبر.. غادر الحياة!

وعندما يسأل الرواى: لماذا دعاه هو نفسه بالذات وأخذ يحدثه وهو العزوف عن الكلام والذى لا يحب أن يرى الناس – فاذا به يعترف اعترافا انسانيا عميق الدلالة؟ّ! ” أنك تشبه أخى كثيرا.. كثيرا جدا”. أن معنى هذا أن هناك اشياء تربط” كيريلوف” بالحياة، وربما هى نفسها التى تحثها على مغادرتها ولو بالانتحار. ويسأله الراوى: ” لابد أن لأخيك الأكبر الميت هذا تأثير كبير فى أفكارك”. فتكون اجابة”كيريلوف” بسيطة ومدهشة:” لا، كان يتكلم قليلا. كان لا يقول شيئا”.

ـ الأمل الكاذب!

كان “كيريلوف” يعتقد أنه بانتحاره أنما يمارس حريته القصوى، ويتحدى الخوف من الألم، ويتحدى “الأمل الكاذب” فى حياة أبدية وراء الموت. ويعلن نفسه..” الانسان الاله”. ولكن كل هذه الأفكار المثيرة تتبدد هباء عندما ندرك بعد توقيعه للاعتراف أنه أنما يموت من أجل أن يموه على السلطات فى اغتيال “شاتوف” وسلسلة الجرائم الأخرى. فأى موت رخيص هذا مهما أحاطه هو بجعجعة فلسفية شوهاء.. هى نفسها وانتحاره ربما كانا من شبهات افلاسه. ألا يذكرنا هذا كله بنيتشه قبل جنونه .

ـ لحظات انسجام كامل !

لكن ديستويفيسكى يستهويه أن يدور بنا فى داخل شخصياته وفى أعماقها الداخلية؛ حيث نجد مالا يخطر على بال. فذات مرة ثاب”كيريلوف” الى نفسه واخذ يتحدث الى “شاتوف” حديثا فيه يسر وسهولة وراحة ومنطق أكثر مما عهد فيه، وكأنما هو قد صاغ أفكاره لنفسه منذ مدة طويلة، أو لعله أيضا قد سخر منا على الورق.

سأل: هل اتفق له يا” شاتوف” فى  يوم من الأيام أن شعرت بلحظات انسجام كلى شامل؟ هناك لحظات تدوم خمس ثوان أو ستا تحس أثناءها فجأة بحضور الانسجام الأبدى، وبأنك بلغت هذا الانسجام الأبدى. ليس ذلك شيئا أرضيا. لا أقول أنه سماوى، لكننى أقول أن الانسان من جانبه الأرضى عاجز عن احتماله. فيجب أن يتغير الانسان أو يموت. أنه شعور واضح لا جدال فيه.. مطلق. تدرك الطبيعة كاملة على حين فجأة، وتقول لنفسك: نعم، هذاهو، هذا هو. حين خلق الله العالم كان يقول آخر كل يوم:” نعم، هذا خير، هذا عدل، هذا حق”. ليس ذلك نوعا من ترقق العاطفة والخيال. أنه شئ آخر. أنه فرح. وأنت عندئذ لا تغفر شيئا؛ اذ لا يبقى ثمة ما تغفره. وليس ذلك حتى حبا. آه.. أنه فوق الحب.الأمر الرهيب أنه واضح وضوحا مخيفا مروعا، غير أن فرحا واسعا يعم كل شئ! لو دام أكثر من خمس ثوان لما استطاعت النفس أن تتحمله، ولكان عليها أن تزول. فى هذه التوانى الخمس أحيانا حياة بكاملها، وأنى لمستعد فى سبيلها أن أهب حياتى كلها؛ لأن هذه الثوانى الخمس تساويها. الا أنه من أجل أن يستطيع المرء احتمال ذلك عشر ثوان يجب أن يتغير جسمه. وأظن أنه يجب على الانسان أن يكف عن التناسل. لماذا الأطفال؟ لماذا نمو الانسانية اذا كانت لغاية قد بلغت. لقد جاء فى الانجيل أن البشر لن يلدوا بعد البعث فى الحياة الأخيرة، وأنهم سيكونون جميعا كملائكة الله. هذه اشارة”. كان هذا يحدث لكيريلوف كل ثلاثة أيام.. كل أسبوع، فهل تراه مصابا بالصرع؟ أنه ينفى ذلك ولكن من أين له أن يدرى علته؟!

ـ سر اللحظات المشحونة:

أن هذه اللحظات القصيرة الخاطفة المشحونة وتدفق الشعور الطاغى قد تكون أمرا عاديا جدا عند بعض الناس العاديين، لكنها بالنسبة للمهندس”كيريلوف” تصبح لها دلالة خاصة وأهمية مميزة؛ ذلك أن لحظات الشعور بالانسجام الكلى الشامل القصيرة المتواترة الحدوث تمثل انقطاعا فى شريط التجهم والحنق والغضب المتصل الذى هو الحالة المعتادة للمهندس”كيريلوف” والانسان العادى ينتابه الفرح والانشراح ويدغدغه الطرب عندما تستجاب رغباته وتتحقق أحلامه، ولا شئ فى ذلك يتجاوز حدود الموقف الطبيعى. لكن هذه اللحظات لا تمثل فقط عند “كيريلوف” انقطاعا دوريا وحسب، ولكنها أيضا تعنى ارتخاء فى حالة التوتر المألوفة والمضطردة. أنها نقيض ما هو عليه أغلب الأحيان، وهى غير ما يصبح توقعه من ظروف حياته وواقع حاله. فهى أذن ظاهرة سوء أو علامة مرضية وليست ظاهرة صحية أو علامة سوية. ويحق لنا أن نقرن هذه الظاهرة بالظواهر الأخرى التى يشير اليها الموقف الفلسفى عند “كيريلوف” وما فيه من “هوس” أكيد لا يحتاج الى تجسيم..” أنا اله”، أو..” أنا أنتحر أذن أنا اله”،.. ” أنا لا أخاف الصخرة؛ لأنى أنا الذى يخلق الخوف من الصخرة”، أو.. ” أننى أنتحر وكذلك آخرون انتحروا أو سوف ينتحرون .. ولكن ليس لنفس الأسباب”.

ـ هل هى حالة هوس؟!

أنها حالة خاصة من حالات” الهوس”، وليست – بعكس ما يوحى اليه النص الطويل المقتطف سابقا – نشوة صوفية أو غيبوبة وجد أو انجذابا ورحيا، رغم ما طعم ديستويفيسكى به النص من اشارات موحية. أن التصميم الأكيد على الانتحار ثم التنفيذ الحاد المفاجئ هو من قبيل” الاندفاع الهوسى نحو القيام بفعل عنيف واجبارى مثل اطلاق الرصاص على النفس – فى الدفاع – كما فعل “كيريلوف”. ومع أن “المهووسين” نادرا ما يميلون الى الانتحار الا أن الموت يأتيهم – احيانا – بشكل حاد وخلال نوبة الهوس الحادة وما فيها من اندفاع أهوج وضعف فى التقدير وزهو أو تعال. أما لحظات الانسجام الكلى الشامل التى تتواتر على نفسية” كيريلوف” فقد تكون كل نصيبه من السعادة على الأرض، وما ذلك فهى لن تخفف من اندفاعه الهوسى نحو الانتحار، بل ربما عجلت به؛ فهى على جمالها وعظمتها قد تكون قناعا لملاك الموت الآتى بلا ريب.

ـ ” فلسفة الخلاص”: الوسواس المستمر!

وفكرة الله التى هى حقيقة دينية وصوفية وفكرة فلسفية فى الوقت نفسه، قد ارتبطت فى عقل المهندس “كيريلوف” بفكرة الموت ” انتحارا” من أجل أن يتحول جسد الانسان وروحه. وقد رأى فيها بعض الدارسين لأعمال ” ديستويفسكى” أحد معانى ” فلسفة الخلاص” بينما نفس الفكرة ونفس النظرية:” الله والموت انتحارا” لم تكن عند ” كيريلوف” مجرد فكرة عابرة أو عارضة وأنما هى فكرة ملحة مقيمة لا تكاد تتوقف أو تنقطع كأنها” الوسواس” المستمر، وقد أخذ “كيريلوف” يجترها كل يوم. أنها فكرة ذات دلالة مرضية، وهاهى تقع فعلا( فى الواقع الروائى وبشكل درامى ملئ بالهوس المفزع حتى لقد ألفت بالرعب فى قلب الوغد ” بطرس” الذى ولى هاربا ثم عاد ليتأكد بنفسه من سقوط الصخرة وانتحار كيريلوف).. فهل تحولت الفكرة المرضية الى فعل مجنون؟ أن هذا الفعل – فعل الانتحار – هجوم على الموت له تاريخ قديم مرتبط بتاريخ حضارات الانسان وتطور الثقافات والعقائد الدينية وطقوس الموت القديمة الغامضة وتغير التقاليد المرتبطة بتقديم الضحايا والقرابين البشرية. وفى الماضى كان الانتحار أكثر شيوعا، ولم يكن ينظر اليه نفس النظرة التى ننظر بها اليه الآن. ففى بعض الثقافات الوثنية القديمة عند اليونان والرومان وعند اليابانيين.. كانت ثمة طقوس انتحارية تمارس بشروط مقننة، ولم يكن انتحار الأبطال والأفذاذ أمرا مستهجيا بل سلوكا “مفهوما” وفق اطار العقائديات السائدة. وكان الانتحار يأخذ أشكالا منوعة وغريبة وغالبا ما كانت له دلالة عامة هى العودة الى الطبيعة والاتحاد بها.. أى بعد اقتحام الموت تكفيرا عن ذنب جسيم أو خطأ كبير. أما بعد الديانات السماوية والتطورات التى جرت فى المجتمعات الحديثة والمعاصرة فقد تغيرت النظرة بالكامل تجاه الانتحار، فلم يعد شائعا كما كان فى الماضى، بل واصبح أيضا فعلا مستهجنا ومنبوذا. أن السلوك الانتحارى قد استرعى انتباه الأطباء وعلماء النفس وعلماء المجتمع والكتاب الروائيين ورجال الدين.

ـ اضطراب الشخصية:

لكننا تجاه قضية انتحار المهندس كيريلوف نجد أنفسنا بالتحديد أما شخصية مضطربة تحيا فى مجتمع معقد وتعايش جماعة تعانى أوضاعا اجتماعية وسياسية وثقافية متضاربة فى مدينة راكدة ومختنقة وكلها ظروف تهيئ لأزمة روحية خطيرة. والعنوان الشامل لهذه الأزمة الروحية هو” العدمية”.. تلك العاصفة من ألأفكار والجرائم التى قصدت تدمير كل شئ.. المجتمع والفرد.. الدين والدولة والأسرة.. القانون والسلطات والأخلاق. هذه العدمية هى أشد فروع الفوضوية تطرفا واقصرها عمرا.

أن جوهر” الفوضوية” هو وضع “ألأنا” و” الذات المفردة” ضد كل شئ  فى المجتمع. أما العدمية فهى تضع” الأنا” ضد نفسه، وهى حالة المهندس”كيريلوف” الذى لم يجد فعلا يشكل ممارسة حرية ارادته الخاصة فى أقصى مدى لها سوى فعل الانتحار. فهذا هو الرد الوحيد فى نظره على القهر بكل صوره السماوية والأرضية. وقد نجد لدى” أميل دور كاييم” –فى دراسته عن الانتحار – ما يفسر مزاعم “كيريلوف” بخصوص عقدته فى الارادة المطلقة عند الفرد وضرورة ممارستها فى الانتحار؛ كان هذا الانتحار اذ يطلق الارادة الكلية للفرد من العقال يقضى أيضا على القهر الاجتماعى المتسلط، خاصة لدى الجماعات التى ينخفض فيها تكامل قوى الروابط الاجتماعية بقدر كبير ملحوظ، وربما ظهر لنا” انتحار كيريلوف” على أنه من قبيل الانتحار الأنانىEgoistic، لكن انتحار”كيريلوف” يتقبل أيضا أن يكون من قبيل الانتحار اللامعيارى، وهو الانتحار الناشئ عن انهيار المعايير الاجتماعية وفقدان الخير والشر لمعانيهما الحقيقية وتحول الفضائل والرذائل الى مجرد كلمات أو اعتبارها أوهاما اجتماعية باطلة ولكن توقيع كيريلوف على ورقة اعتراف بجرائم لم يرتكبها حماية وخدمة للجماعة السرية التى كان  منضما لها يجعل من انتحاره انتحارا عنيديا أو ايثاريا ايضا.

ـ مخلوق .. روائى!

ربما كان السبب فى ذلك كله كون “كيريلوف” مخلوقا روائيا صنعه الفن، وليس ذا عينية واقعية. فهو نموذج للعدمى الروسى كما أرتاه “ديستويفيسكى” من خلال عدسة تهريجية كاريكاتيرية شديدة الصخب ومليئة بالعنف.. عدسة غريبة تقلب الصورة التى سبق وركبها “تورجينيف” تركيبا متماسكا ومتقنا ومعقولا الى حد كبير فى رواية “الآباء والأبناء” تلك الرواية التى كان بطلها “بيزاروف” نموذجا مأساويا رافضا لكل شئ وناقدا لكل شئ، وهو فى الوقت نفسه لا يصنع أى شئ ويظن ديستويفيسكى أن” كيريلوف” ربما كان أشد صدقا من أمثال “رودين” و” بيزاروف” على ألأقل لأنه يملك من الشجاعة أو الجنون ما يقتل به نفسه، وبذلك تصدق مقولة المؤلف: “لقد ظهرت العدمية فى روسيا، لأننا أصبحنا كلنا عدميين” !.

ـ وأخـــيرا ..!

لا نكون بذلك قد انهينا دراسة ماساة المهندس المدنى “كيريلوف” لو لم نحط علما أيضا وفيما بعد بـ” يأس شيجالوف” و” ردة شاتوف” و” سبات ستافروجين” وألاعيب ” بطرس فرخوفنسكى” أى ” الأنا – وغد” ؛ وذلك فى تحليل متكامل للشخصيات الرئيسية لرواية “الشياطين” … تلك الرواية التى هى فعلا – كما سبق أن ذكرنا على لسان لينين – رواية عظيمة .. ولكنها مقززة .

دكتور إبراهيم أبو عوف

المنيا فى: 3 / 2 / 1983

*  رحلة الى الشرق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *