ابريل1983-بيت‏ العنكبوت

بيت‏ العنكبوت

محمد‏ ‏محمود‏ ‏عثمان

عبر‏ ‏الممر‏ ‏الطويل‏. ‏جاءت‏ ‏خطواته‏ ‏البطيئة‏. ‏كانت‏ ‏الساعة‏ ‏تشير‏ ‏الى ‏موعده‏ ‏اليومي‏. ‏حيث‏ ‏يسود‏ ‏الصمت‏. ‏وتنتظم‏ ‏الطرقات‏ ‏فوق‏ ‏البلاط‏.‏

أيام‏ ‏ثلاثة‏.. ‏قضيتها‏.. ‏ثقيلة‏.. ‏خانقة‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المكان‏. ‏لم‏ ‏أميز‏ ‏خلالها‏ ‏تماما‏ ‏الا‏ ‏خبط‏ ‏أقدامه‏ ‏آتية‏ ‏ذاهبة‏. ‏وغير‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏شئ‏.‏

ضغط‏ ‏الجرس‏. ‏رشفت‏ ‏ما‏ ‏تبقى ‏من‏ ‏الشاي‏. ‏من‏ ‏الباب‏ ‏الجانبى ‏دلفت‏ ‏الى ‏حجرته‏ ‏وتحت‏ ‏أبطي‏. ‏تقبع‏ ‏آوراقي‏. ‏تطلعت‏ ‏الى ‏وجهه‏ ‏السمين‏.‏

كان‏ ‏شاخصاً‏ ‏ببصره‏ ‏الى ‏اللوحة‏ ‏المثبتة‏ ‏داخل‏ ‏الاطار‏ ‏المزركش‏. ‏حين‏ ‏لمحنى ‏أخفى ‏ضحكته‏ ‏المبهمة‏. ‏القيت‏ ‏بتحية‏ ‏الصباح‏. ‏كالمعتاد‏ ‏لم‏ ‏يرد‏. ‏ابتلعت‏ ‏خجلي‏. ‏بسطت‏ ‏الأوراق‏ ‏أمامه‏. ‏جرى ‏بقلمه‏ ‏فوقها‏. ‏ولما‏ ‏فرغ‏ ‏لملمتها‏ ‏وخرجت‏ ‏أعدو‏. ‏تهاويت‏ ‏فوق‏ ‏الكرسى . ‏بعيون‏ ‏زائغة‏ ‏فحصت‏ ‏محتويات‏ ‏الملف‏ ‏الأنيق‏.‏

وجدت‏ ‏أحدى ‏الأوراق‏ ‏تنقصها‏ ‏تآشيرته‏. ‏اندفعت‏ ‏الى ‏مكتبه‏. ‏خلف‏ ‏النافذة‏ ‏الزجاجية‏ ‏وجدته‏ ‏واقفا‏ ‏مستغرقا‏ ‏فى ‏الضحك‏. ‏التمع‏ ‏الضوء‏ ‏المنعكس‏ ‏على ‏زجاج‏ ‏نظارته‏ ‏السوداء‏. ‏اخترق‏ ‏عيني‏. ‏اهتزت‏ ‏رموشي‏. ‏اقتربت‏ ‏منه‏ ‏مددت‏ ‏يدى ‏بالورقة‏ ‏همست‏ ‏اجتماع‏ ‏مجلس‏ ‏الادارة‏ ‏اليوم‏ ‏يافندم‏.‏

فى ‏تكلف‏ ‏وتعال‏ ‏قال‏ ‏انتظر‏.‏

فى ‏عجالة‏ ‏خلع‏ ‏نظارته‏. ‏وضعها‏ ‏فوق‏ ‏المكتب‏ ‏الفخم‏. ‏صنع‏ ‏من‏ ‏كفه‏ ‏حاجزا‏ ‏للضوء‏ ‏أعلى ‏عينيه‏ ‏توراى ‏داخل‏ ‏دورة‏ ‏المياه‏ ‏الملحقة‏ ‏بمكتبه‏. ‏فى ‏تلصص‏ ‏جلت‏ ‏ببصري‏. ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏أصبح‏ ‏وحيدا‏ ‏فى ‏حجرته‏. ‏تفرست‏ ‏بدقة‏ ‏أجهزة‏ ‏التكيبف‏ ‏التى ‏تئن‏.. ‏الستائر‏ ‏الفاخرة‏ .. ‏الاطار‏ ‏الذى ‏يحوى ‏لفظ‏ (‏الديمومة‏). ‏فوق‏ ‏المكتب‏ ‏كانت‏ ‏ترقد‏ ‏نظارته‏. ‏زجاجها‏ ‏السميك‏ ‏وشكلها‏ ‏غير‏ ‏المألوف‏ ‏أثار‏ ‏فضولي‏. ‏اقتربت‏ ‏منها‏ ‏وضعتها‏ ‏فوق‏ ‏عيني‏. ‏نزعتها‏ ‏بشدة‏. ‏بين‏ ‏الشك‏ ‏والدهشة‏ ‏ارتديتها‏ ‏مرة‏ ‏أخري‏. ‏مذهل‏ ‏ما‏ ‏يحدث‏ ‏مذهل‏.. ‏الأشياء‏ ‏تصاغرت‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏عدساتها‏ ‏الى ‏حد‏ ‏مخيف‏ . ‏أجهزة‏ ‏التكييف‏..

‏الاطار‏.. ‏اتجهت‏ ‏الى ‏النافذة‏. ‏من‏ ‏هول‏ ‏المفاجأة‏ ‏تراجعت‏ ‏الى ‏الوراء‏ ‏خلعتها‏ ‏ـ‏ ‏مسحت‏ ‏عيناى ‏جيدا‏. ‏أعدتها‏ ‏الى ‏وجهى ‏غير‏ ‏مصدق‏ .‏البيوت‏ . ‏الأشجار‏ ‏بدت‏ ‏صغيرة‏. ‏العربات‏ ‏دقيقة‏ ‏والناس‏.. ‏متناهين‏ ‏فى ‏الصغر‏. ‏كدمي‏. ‏قصيرة‏ ‏الخطو‏ ‏بلا‏ ‏ملامح‏. ‏لقد‏ ‏كان‏ ‏يضحك‏ ‏وهو‏ ‏يقف‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المكان‏. ‏تللك‏ ‏اللعينة‏. ‏ر‏ ‏أيته‏ ‏مندفعا‏ ‏الى ‏المكتب‏ ‏بينما‏ ‏آبعدها‏ ‏عن‏ ‏عينى ‏كانت‏ ‏يده‏ ‏مازالت‏ ‏فوق‏ ‏حاجبيه‏. ‏مد‏ ‏الأخرى ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏النظارة‏. ‏قلب‏ ‏الأوراق‏. ‏بعثرها‏. ‏فتح‏ ‏الأدواج‏. ‏بحذر‏ ‏حاولت‏ ‏تلمس‏ ‏الطريق‏ ‏الى ‏الباب‏, ‏فى ‏حركته‏ ‏الدائبة‏ ‏اصطدم‏ ‏بي‏. ‏رفع‏ ‏وجهه‏. ‏تراجع‏ ‏للوراء‏. ‏بتفحص‏ ‏وفزع‏ ‏شديد‏ ‏قال‏.. ‏من‏ ‏أنت‏ ‏مد‏ ‏يده‏ ‏يحاول‏ ‏انتزاع‏ ‏النظارة‏. ‏عدوت‏. ‏جرى ‏خلفي‏. ‏أمسك‏ ‏بى .. ‏القيتها‏ ‏الى ‏الأرض‏. ‏أحدث‏ ‏سقوطها‏ ‏دويا‏ ‏غير‏ ‏مألوف‏. ‏دهستها‏ ‏بقدمي‏. ‏ابتعلت‏ ‏النظارة‏ ‏ضرباتى ‏المتلاحقة‏. ‏صرخ‏ ‏الرجل‏ ‏السمين‏ ‏فى ‏وجهي‏. ‏تجمع‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏بالمبني‏. ‏تلفت‏ ‏ناحيتهم‏. ‏علت‏ ‏دهشته‏. ‏ارتعش‏. ‏صاح‏ . ‏من‏ ‏أنتم‏ .. ‏ماذا‏ ‏تريدون‏ .. ‏أخرجوا‏.‏

مرقت‏ ‏من‏ ‏الجمع‏. ‏لهثت‏ ‏حتى ‏بلغت‏ ‏مكتبي‏. ‏أحسست‏ ‏باختناق‏ ‏شديد‏. ‏اتجهت‏ ‏الى ‏الستائر‏. ‏أزحتها‏. ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أمد‏ ‏يدى ‏لأفتح‏ ‏النافذة‏ ‏بهت‏. ‏ضغطت‏  ‏رأسى ‏بكفي‏. ‏كانت‏ ‏الدمى ‏تتحرك‏ ‏ببطء‏ ‏فى ‏الخارج‏. ‏حطمت‏ ‏الزجاج‏. ‏عاد‏ ‏مسرعا‏ ‏الى ‏المكتب‏ ‏المجاورة‏. ‏من‏ ‏خلف‏ ‏الألواح‏ ‏الشفافة‏ ‏رأيتها‏ ‏بحركتها‏ ‏المقيدة‏. ‏رفعت‏ ‏يدي‏. ‏هشمت‏ ‏الزجاج‏. ‏أصبح‏ ‏كل‏ ‏شئ‏ ‏أمام‏ ‏عينى ‏بحجمه‏ ‏الطبيعي‏. ‏تدفقت‏ ‏فرحتى ‏بغزارة‏ . ‏غمرت‏ ‏مواضع‏ ‏انبثاق‏ ‏الدم‏ ‏والأيدى ‏التى ‏تنهشنى ‏بكل‏ ‏قواها‏.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *