الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1983 / ابريل1983-أزمة الإنسان الحديث

ابريل1983-أزمة الإنسان الحديث

أزمة الإنسان الحديث(1)

د. عاطف طنطاوى

الموجز

فى هذه الدراسة يقرأ لنا الكاتب بحروف مطبوعة تحليلا ثقافيا للعصر، فيثير فينا موقفا نقديا لازما بالضرورة لأى خطوة جادة فى الاتجاه الصحيح، فبالمراجعة الفاحصة المتأنية للنظم شبه العلمية السائدة فى المجتمع، وفى نفس الوقت لافتقاد إنسان المجتمع الحديث للتحقق العيانى من إحداثيات وجوده متمثلة فى “المعنى” و “الحقيقة الاجتماعية” و”الحرية” نجد أنفسنا وحها لوجه أمام فرط التجريد باعتباره الوجه العصرى للاغتراب المنظم (بيروقراطيا وتكنوقراطيا)، ويمتد هذا التجريد (الاغترابى) ليؤثر فى جوهر الديمقراطية والوضع المعرفى على السواء، ثم ننتهى إلى دعوة ضمنية لإعلان حتم ما لاختيار ظاهر أو خفى: بين تسليم للتجريد ومن ثم الانسحاب والذاتية، أو ثورة نقيضية ربما تعيد التوازن على مستوى أعلى.

* * *

 (أ) مدخل نظرى:

1- الإنسان بين التمرد والتكيف:

عرف ماكس شيلر الإنسان بأنه الكائن الذى بمقدوره أن يقول: لا فعلى غير ما نجد لدى الحيوان الذى هو دائما أسير عالمه الفيزيائى؛ نجد الإنسان دائب التطلع إلى تجاوز حدود جسده، وعقله، ووسطه الفيزيائى، وتقاليده، بمعنى أنه يرفض قبولها كواقع كونى أو كحقائق بديهيية.

كذلك يؤكد البير كامى – فى سياق مغاير – على أن الإنسان هو الكائن الوحيد فى الطبيعة الذى يرفض ما هو عليه.

وفلاسفة الثورة، من ماركس إلى سارتر، لا حصر لهم.

فالثورة والتمرد إذن قد اعتبرتا من الخصائص الإنسانية الأصيلة، لدى عديد من المفكرين.

لكن صورة الإنسان بوصفه ثوريا أو متمردا تقف على الطرف النقيض من معظم الملاحظات السوسيولوجية حول الإنسان المعاصر: إذ هى تراه كائنا توافقيا يتشكل فى اتساع مع النظم الاجتماعية التى تحيط به، ويتبنى القواعد والمعايير التى تتضمنها تلك النظم، ويلعب بجدارة الأدوار المنوط به القيام بها.

على أن الباحث السوسيولوجى لو أمعن النظر فى حركات الاحتجاج الشبابية فى الستينيات، تلك الحركات التى اجتاحت العالم الصناعى الرأسمالى الحديث، لأصبح عليه أن يعيد التفكير فى النظريات الاجتماعية الحديثة التى تتحدث عن الطبيعة التوافقية والتكيفية للإنسان؛ فتلك الأحداث تشير – على أقل تقدير – إلى أن الإنسان ليس طيعا حتى النهاية، وأنه قد يصل إلى نقطة ما فى مساره الاجتماعى فيقرر أن يقول لا.

2- علم الاجتماع بين الوصف والتفسير:

على أن مناهج البحث السوسيولوجى التجريبى قد تقف عائقا أمام الباحثين الرسميين؛ فمالم تطوع الظاهرة الاجتماعية نفسها لقوالب البحث التجريبى الإحصائى، فتتحول إلى جزئية قابلة للقياس أو للتكرار التجريبى أو المقارنة الإحصائية على عينة ضابطة، فسيدير البحث السوسيولوجى وجهه عنها؛ إذ تصبح حينئذ خارج نطاق المعرفة العلمية المضبوطة، وتتعداها إلى مجال التفسير الفلسفى. وهو أمر لا يطمئن إليه وجدان الباحث السوسيولوجى؛ فهو لكى يكون علميا منضبطا عليه أن يظل ملتصقا بالوقائع الجزئية مهما كان الأمر، وهو بالتالى يضع التفسيرات الفسلفية بين قوسين.

لكن الظواهر الاجتماعية لا يمكن معالجتها على أنه موضوعات للبحث المتجرد عن الإنسان؛ فهى مكونات أصيلة فى عمق وجودنا، نحن نصنفها وهى تصنفنا. من هنا فالسؤال وارد لا جدال: هل نحن نصنع المجتمع وهل يصنعنا المجتمع بطريقة إنسانية؟ وعالم الاجتماع إذن، لكى يجيب على هذا السؤال، عليه أن يتجاوز المواصفات التجريبية الجزئية لمناهج البحث الاجتماعى، وينتقل من الإطار المرجعى التحليلى إلى الإطار المرجعى التفسيرى، من نطاق الموضوعية الخالية من أحكام القيمة، إلى مناخ عقلى أحكام القيمة فيه لا مناص منها.

فالسيوسيولوجيا كعلم تجريبى – على حد قول جورج سيميل – تجد نفسها محاصرة بالفلسفة من جانبين. فطرقها فى البحث تستند إلى نظرية المعرفة وإلى المنطق؛ إذ هى تتبنى مفاهيم وافتراضات نظرية مسبقة ذات أساس فلسفى ومنطقى، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فنتائجها تشكل مادة الفلسفة الاجتماعية التى تحاول أن تضع العناصر السوسيولوجية فى إطار عام وكلى من أجل الوصول إلى فهم لطبيعة الإنسان وطبيعة المجتمع.

وعلى ذلك، فالانتقال من التحليلى إلى المعيارى يجب أن يكون مسموحا به طالما أن الخطوات الانتقالية تتم بوعى وتجرى على أرضية منطقية. بل يبدو أن تلك الخطوة – منهجيا – لابد منها، لأنها السبيل الوحيد لفهم الإنسان والمجتمع.

3- إحداثيات الوضع البشرى:

تتعدد احتياجات الإنسان على مختلف المستويات، لكن توازن الإنسان الداخلى (النفسى) والخارجى (الاجتماعى) لا يتحقق إلا منه خلال الإحداثيات التى تحدد ماهيته، ووصفه، ووجهته فى العالم الذى يعيش فيه.

وإحداثيات الوضع البشرى ثلاثة : المعنى، والحقيقة، والحرية. وهى أيضا بمثابة الأضلاع الثلاثة لمثلث الهوية فى مجتمعنا الحديث.

ففيما يتعلق بالمجتمع، فالفرد به حاجة أصيلة لأن يحس بأن ما يجرى حوله ذو معنى، وأنه حقيقى. وأن لديه كفرد إرادة فاعلة على المستوى الذاتى وعلى المستوى الاجتماعى، أى أن لديه فاعلة على المستوى الذاتى وعلى المستوى الاجتماعى، أى أن لديه إحساسا بالحرية.

والمفاهيم الثلاثة فى حاجة إلى شىء من التفصيل.

التشكيل ذو المعنى:

كانت إحدى التبصرات الأساسية التى أمدتنا بها الأنثربولوجيا الفلسفية هى حقيقة أن الإنسان طوال تاريخه كان دائما يضفى معنى على الوسط الذى يعيش فيه.

والمقصود بالمعنى هنا، ذلك الجانب من الأفعال الاجتماعية الذى يميزها عن العمليات السببية البحتة كالعمليات الفيزيائية أو الكيميائية مثلاً.

وتوضيحا لذلك نأخذ مثالا من الحياة اليومية هو: لعبة كرة القدم. فمبارة كرة القدم هى كل معقد من الأفعال وردود الأفعال تحركها مقاصد ذاتية. والمبارة ككل هى تشكيل ينطوى على معنى عام متضمن فى القواعد المنظمة ومفهوم لكل المشاركين فيها. وعلى ذلك، فالمعنى العام للمبارة لا يتمثل فى القواعد والتنظيمات فحسب بل أيضا فى الهدف الذى يضعه اللاعبون لأنفسهم عندما يلعبون المبارة، ومقاصدهم الخاصة تطوع أفعالهم فى سلوكيات عقلانية متجهة لتحقيق ذلك الهدف.

فإذا اتفقنا على أن المجتمع – من زاوية ما – هو تجمعات منتظمة من تلك التشكيلات ذات المعنى، فإن مفهوم المعنى الذاتى لا يمكن أن يختلط بالحقيقة السيكلوجية وحدية الجانب. فالمعنى الذاتى هنا، يعنى القصد من الأفعال، المتجهة إلى الهدف، والمكونة لتشكيل ذى معنى، والمشروطة به فى نفس الوقت.

فالمعنى هو تلك الخاصية للسلوك الاجتماعى التى تجعله مفهوما وقابلا للرصد والتنبؤ. وهو ذاتى إذا نظرنا إليه من زاوية إن كل فرد يسلك وفقا لمقاصد وأهداف معينة. وهو موضوعى إذا نظرنا إليه من زاوية أنه يتجاوز السلوك الفردى، حين يصبح عليه أن يكون مقبولا من الآخرين على أنه ذو معنى داخل التشكيل الذى يتضمنه.

والمجتمع يواجه أزمة, حين يصبح أفراده – لسبب أو لآخر – غير قادرين على ممارسة معان ذاتية متبادلة داخل تشكيل مفهوم الغرض

مفهوم الحقيقة الاجتماعية:

ومفهوم الحقيقة الاجتماعية هنا، يعنى السلوك المنتظم للناس داخل بنية تشكيل ذى معنى، هو المجتمع.

فالحقيقة هنا، هى واقع أن الناس تسلك سلوكا ذا معنى، وأن سلوكهم مفهوم على المستوى الذاتى والموضوعى.

وهذا يعنى أن الفرد الذى يلعب دورا اجتماعيا معينا، يفقد حس الحقيقة إذا لم يعد قادرا على فهم أو التنبؤ بسلوك الآخرين، وإذا لم يعد بمقدوره أن يسلك هو نفسه وفقا لتوقعات الآخرين لسلوكه باعتباره لاعبا لدور محدد.

فالحقيقة الاجتماعية تتكون من مواقف يتفاعل فيها الناس ويتبادلون الأفعال فى إطار تشكيل ذى معنى. فطالما أن تلك المواقف تمارس فى الواقع على أنها ذات معنى وتعطى الناس حس الحقيقة، فهى ذات معنى وحقيقية فيما يترتب عليها أيضا.

مفهوم الحرية:

من المستحيل التحدث عن الحرية بلغة العلم المضبوط أى اللغة السببية الخالية من أحكام القيمة، لأن الحرية تنتمى إلى إطار مرجعى مغاير منطقيا.

وبإيجاز شديد، فالحرية تعنى هنا، ذاتيا: قدرة الإنسان على تحقيق حياته (قواه الحيوية الإنسانية) ومنحها معنى. واجتماعيا: هى من حيث الأساس القدرة على المشاركة فى بناء الحقيقة الاجتماعية ذات المعنى.

4- التواصل الإنسانى:

إذا كنا قد حددنا إحداثيات الوضع البشرى بأنها المعنى والحقيقة والحرية، فإن العملية المحورية التى تدور من حولها باقى العمليات الاجتماعية هو التواصل الإنسانى. يمكن النظر إلى المجتمع – من زاوية ما – على أنه نسق من الاتصالات التى تنطوى على عمليات تبادل لأشياء مادية ومعنوية. وتبادل المعنويات هنا يعنى تبادل القيم والمعايير والمعارف والدعايات والأساطير والحكايات، والتعبيرات الحركية، وأيضا تبادل الخبرات الانفعالية.

والسمة العامة للتواصل الاجتماعى هى الاعتماد المتبادل؛ فالإنسان يستدخل إلى نفسه عملية التواصل عبر الحوار مع الآخرين، مما يمكنه من المشاركة فى العمليات المماثلة فى المستقبل.

والنقطة الهامة هنا هى أنه بسبب عملية الاستدخال تلك، فإن مشاركة الإنسان فى التواصل تستقبل بدورها تغذية راجعة، من شأنها أن تنشط وتوجه سلوكه التواصلى المستقبلى. والتغذية الراجعة هنا تعنى أن الرسائل بين الداخل والخارج تجد صدى ذا معنى فتتدعم وتتحور إلى الأكفأ مما يجعل الحوار الإنسانى يجرى على أرضية لغة مشتركة ذات وضوح وذات معنى.

وبذا نصبح قادرين على تحريك أفعالنا بطريقة ذات معنى؛ لأننا نستدخل تعبيرات وافعال الآخرين ونعود فنغذى بها اتصالاتنا التالية – كما فى الحركة اللولبية.

والمشاركة هى إحدى دوال عملية الاستدخال تلك. فإذا فقد شخص ما القدرة على إجراء عملية الاستدخال، فلن يكون قادرا لا على اختزان جزئيات متناثرة من المعلومات التى بلا دلالة – صور تجريدية وحركات تكرارية جوفاء تنعكس فى سلوكه الاتصالى دون أن تستشير سلوكا تواصليا أبعد. وبالإضافة إلى ذلك تؤدى مثل تلك الحالة إلى الفقدان التدريجى للقدرة على تقييم أو نقد المعلومات المستقبلية، حتى تصل به الأمور إلى أن يصبح أداة طيعة تشكلها قوى التأثير الاجتماعى كما نشاء.

* * *

(ب) المجتمع المجرد والوضع الإنسانى:

يتيمز المجتمع الصناعى الرأسمالى الحديث بأن الطابع العام لبنيته ككل ولقوى التحكم فيه يتسم بالتجريد، وطابعه التجريدى جعله يفقد بصورة متزايدة، القدرة على أن يمنح أفراده رؤية واضحة لهويتهم، أو  إحساسا عيانيا بالمعنى، وبالحقيقة، والحرية.

معنى التجريد:

المقصود بالسمة التجريدية هنا، أن المجتمع الحديث هو، فى خبرة ووعى الأفراد، شديد العيانية فيما يتعلق بتأثير قوى القمع التحكمية على حياة الأفراد، لكن تلك العيانية تتلاشى متحولة إلى إحساس بفقدان المعنى والحقيقة حينما يحاول الإنسان الحديث أن يبقى قوى التحكم تلك تحت سيطرته أو عندما يحاول – رؤيتها بشكل ملموس.

عوامل التجريد:

إن الإحساس المتعاظم بتجرد القوى الاجتماعية التحكمية، من حيث طبيعتها، يتزايد أولا بتزايد تعقيد التركيب الاجتماعى خاصة حينما تتسم نظمه الاجتماعية الداخلية بالتناقضات وبالتعدد الفوضوى وباللاعقلانية فى بنية المعنى لتشكيلها ككل. ويتزايد ثانيا باتساع المسافة بين تلك القوى وبين أفراد المجتمع؛ حيث تتزايد درجة الانقطاع فى التواصل ذى المعنى بين الطرفين. ثم هو يكتسب طابع الغوض واللاحقيقية بفعل الأقنعة التى يجيد صناعتها محترفو صناعة الصور، والتى تتوارى خلفها الصفوة ممن يحتلون مواقع اتخاذ القرار الفعلى والحقيقى والمؤثر؛ تلك الصفوة التى يقف أفرادها على قمة الهرم الاجتماعى – السياسى والاقتصادى – والذين هم فى خبرة ووعى باقى الأفراد ليسوا سوى حاملين لصورة مجردة.

ولعل النظر إلى طبيعة الحياة فى جماعة محدودة يلقى الضوء على معنى التجريد فى المجتمع الحديث.

فالحياة داخل جماعة ريفية محدودة مثلا، تتميز بأن أفرادها يحسون بمجتمعهم كحقيقة عيانية. فالتحكم الاجتماعى- فى مثل ذلك المجتمع – أيا كانت قوته غلا أنه يظل ملموسا من حيث طبيعته، ويظل مدركا باعتباره ضروريا، وباعتباره ذا معنى؛ إذ هو يشكل أساس عالمهم الذى يقبلون قبولنا للبديهيات، ولأن كل فرد فيه يعرف موضعه فى متدرج المكافأة الاجتماعية، والقوة، والنفوذ؛ لذلك تنشأ لدى كل منهم خبرة واضحة وفهم وضاح للهوية. وداخل بناء عيانى محدود وذى معنى، تصبح الحرية الوجودية، والأصالة الفردية، مسائل غير مطروحة للتفكير؛ لأن التشكيل الاجتماعى ذا المعنى يكتسب قوة الحقائق البديهية.

كذلك فبالمقارنة بالمجتمعات القبلية وما تستظل به من نظم القرابة، أو بمجتمعات العصر الوسيط وما تتسم به من تجانس – ذى محتوى دينى – فى بنية المعنى .. نجد أن المجتمع الحديث: فوضوى التعدد، لا عقلانى فى بنية المعانى، لذلك فقد المجتمع الحديث عيانيته الوجودية.

تعقد التركيب الاجتماعى:

يمكن اعتبار المجتمع الحديث بمثابة كون ممتد الأبعاد يتشكل من كم بشرى مقسم إلى أجزاء عديدة، تحكمه الصناعة والتكنولوجيا والعلم، وتوجهه قوى الصفوة المتوارية خلف عديد من الاقنعة، وتنظيم عمله الآلة البيروقراطية الضخمة ذات التنظيم الداخلى العقلانى، المحدود بحدود دورها المرسوم.

وداخل القطاعات الاجتماعية المستقلة نسبيا (العائلة – الكنيسة – التعليم – الصناعة – الحكومة – المؤسسة العسكرية – أجهزة الإعلام ..الخ) تنشأ مؤسسات اجتماعية جديدة باستمرار؛ للوفاء بالحاجات المتزايدة لذلك الكون الممتد.

وإذ ذاك يصبح المزيد من تقسيم العمل كما يصبح التجزؤ المستمر فى التخصصات مطلبا لا مناص منه، مما يضيف تعقيدا جديدا إلى التعقيدات القائمة أصلا فى بنية المؤسسات الاجتماعية. فينفسم القطاع الاجتماعى الواحد إلى عدة قطاعات تحتية، والوظيفة الاجتماعية الواحدة إلى عدة وظائف تحتية، والوصفية الاجتماعية الواحدة إلى عدة وصفيات تحتية والفرد مطالب بأن يحيا حياة متسقة ذات معنى داخل المتاهة.

دور البيروقراطية:

إن ذلك المجتمع التعددى بما يحتوى عليه من كم فوضوى من التخصصات، ومن قطاعات المؤسسات المنعزلة نسبيا، المتضاربة غالبا والمتناقضة وكثير من الوجوه؛ فى حاجة ماسة إلى مبدأ موحد.

وقد ساد الاعتقاد بأن البيروقراطية قادرة على أن تلعب ذلك الدور، فهى باعتبارها شكلا تنظيميا يقوم على العقلانية الإدارية التى تطورت إلى درجة عالية من الشكلية، تستطيع بشيوعها فى كل القطاعات، وبخضوع الأفراد لنظمها المستقلة عن إرادتهم، أن تمنح المجتمع طابعا موحدا. وبمعنى من المعانى، فقد احتلت البيروقراطية المكان الذى كان يحتله الدين فى العصر الوسيط حينما كان يلعب دور المبدأ الموحد والضام للمجتمع، لكنها بطبيعة الحال لم تستطع أن تلبى حاجة الإنسان إلى المعنى، تلك الحاجة التى أمكن للدين أن يلبيها فى العصر الوسيط.

دور التمويه الطبقى:

وقد صاحبت عملية  التمايز الاجتماعى المعقد، علمية أخرى ذات أثر على غيرا الطابع الملوس لقوى التحكم الاجتماعى، تلك هى : عملية تقريب معدلات الفوارق فى المستوى بين الشرائح الطبقية دون العليا فى المجتمع. وهى إحدى العمليات الوقائية التى تقوم بها قوى التحكم للإيهام بأن الطابع الأساسى للنظام الرأسمالى، وهو  انقسامه إلى طبقات اجتماعية لا سبيل إلى التنقاضات بينها؛ لم يعد قائما. فهى تؤدى إلى أن يبدو المجتمع أقرب إلى التجانس، كما تؤدى إلى شيوع نمط الحياة الأكثر تواؤما مع جوهر العملية الرأسمالية،وهو النمط الاستهلاكى.

أجهزة البث الأيديولوجى:

تلعب وسائل الإعلام فى المجتمع الحديث دورا لم يسبق له مثيل على مدى التاريخ. فهى تداوم البث الأيديولوجى ليل نهار، وتستخدم أرقى ما وصلت إليه التكنولوجيا وما وصلت إليه وسائل التأثير، لكى تخلق مناخا أيديولوجيا عاما ذا طابع موحد جعل الأفراد عجينة لينة تتشكل حسب المطلوب.

إن المجتمع الحديث يتعامل مع الأفراد باعتبارهم هم كتلا بشرية يتم تشكيل ايديولوجيتها من خلال وسائل الإعلام التى عليهم ان يستقبلوا ما تبثه أياهم دون نقد أو اعتراض؛ فهو حوار من طرف واحد تتحكم فيه قوى تستطيع أن تملى ما تريد، وما تريده مبنى على حسابات عقلانية تستهدف تحويل الفرد إلى مستهلك جيد وناخب جيد ومنتج جيد لما يطلب منه، وراض وسعيد بكل هذا. وبعد ذلك فدرجات السلم الاجتماعى متاح له تسلقها دون عوائق ظاهرة، شريطة أن يعرف طريقه جيدا إلى ذلك السلم الذى تمت صناعته وتحددت مواصفاته سلفا، والذى لا يقبل صانعوه أن يجرى سواهم عليه أى تغيير.

أزمة الهوية:

وهكذا يجد الإنسان – فى المجتمع الحديث – نفسه فى مواجهة عديد من التحديات التى تقف فى سبيل اكتسابه لهوية محددة.

فبينما كان إنسان المجتمع قبل الصناعى تتحدد هويته مباشرة عقب ميلاده، نجد إنسان العصر الحديث محاصرا بعديد من الانتماءات الجزئية المتداخلة والمتنوعة، تجعله يواجه اختيارات مبتورة لا حصر لها فى محاولته اكتساب هوية موحدة. فهو محاصر بقطاعات متنوعة من المؤسسات الاجتماعية، وكل منها تتطلب منه نمطا من السلوك يتواءم مع قيمها ومعاييرها المستقلة، وفى هذه الحالة لا يجد الإنسان مناصا من تبنى هوية متعددة الأنواع. وهو أمر يضع على كاهله عبئا ثقيلا؛ إذ يصبح عليه حين ينتقل من قطاع من المؤسسات الاجتماعية إلى قطاع آخر، أن يغير دوره مثلما يغير رداءه. وإذ ذاك، تتسع الهوة بينه وبين أدواره حتى يفقد الإحساس بالمعنى والإحساس بالحقيقة، ويصبح مغتربا أو مسلوب الجوهر.

عوامل الاغتراب:

أن حالة الاغتراب التى يعيشها إنسان المجتمع الحديث، يسهم فى تأصيلها عامل أساسى آخر هو تجرد البناءات والقوى الاجتماعية من الطابع الإنسانى. فما هو نتاج للمارسة البشرية يعود فيبدو وكأنه مستقل وقائم بذاته ومهيمن على حياة البشر الذين صنعوه.

وفى مثل هذا المجتمع، تتعاظم الادوار الاجتماعية بصورة متزايدة ومستقلة بذاتها، كما تنمو البناءات الاجتماعية فى اتجاه مضاد لارادة الإنسان، وتغدو قوالب مجردة تشكل داخلها أفعال الإنسان وافكاره ومشاعره وفقا لأنماط موحدة ومفروضة على المجتمع ككل.

ولقد كان ماركس من أوائل من أدركوا حالة الاغتراب أو الانسلاب التى تحدث حينما تسيطر على الإنسان قوى مجردة؛ فالوعى الزائف، الذى يختزل الإنسان إلى شىء، وإلى سلعة، والذى يسلب بالتالى حريته الإنسانية؛ إنما هو نمط الوجود يقع بالكامل داخل نطاق عالم مجرد، بعيد غاية  البعد المعنى، وعن الحقيقة التى تتجسد فى الحياة الإنسانية الواقعية.

على أن التجريد يصبح غير محتمل كما يصبح اجتماعيا بلا وظيفة، حينما لا تكون ثمة عودة من  عالم التجريد إلى عالم الحياة الفعلية. أى حينما تصبح  الحياة اليومية نفسها مجردة وغريبة، حينما تحل الأسطاير والخرافات محل الواقع الحقيقى والخبرة الحقيقة؛ ففى مثل هذا الوضع، يصبح الإنسان فى موقف لا يواجه فيه التجريد بل يمارسه فى أدق مكونات وجودة.

الديمقراطية فى المجتمع المجرد:

ومما يجعل المجتمع يبدو فى وعى الأفراد مجردا غامضا بلا تحدد أو هوية، ذلك الفصام العميق بين الأيديولوجيا السائدة وبين الواقع الفعلى. وأحد وجوه ذلك الفصام المزمن هو ما قد رسخ فى وعى أفراد ذلك المجتمع من أن ا لسمة الأساسية والفارقة بين مجتمعهم وبين مجتمعات الضفة الأخرى هى أن مجتمعهم ديمقراطى حر، فى نفس الوقت الذى تصل فيه قوى الهيمنة إلى أدق تفاصيل حياتهم اليومية.

ذلك أنه إذا كانت قدرة الأفراد على المشاركة فى صناعة القرارات ذات التأثير، هى جوهر الديمقراطية، فإن مسألة الديمقراطية فى مثل ذلك المجتمع تصبح مسألة إشكالية بدرجات مطردة النمو والتعقيد.

فهناك أولا: تمركز متزايد لقوى صناعة القرار. إذ لا يسمح للهواة بممارسة تلك اللعبة الخطرة، وإنما تظل دائما مقصورة على المحترفين من صفوة المجتمع: قلة من المهيمنين على الصناعات الضخمة، ومن السياسيين، ومن العسكريين، تحتل قمة المجتمع غير المرئية، وتصور منها القرارات التى تتحكم فى حياة سائر الأفراد.

وهناك ثانيا: التناثر والتزمت لافراد المجتمع: هؤلاء الافراد الذين يتم توزيعهم بصورة مطردة على لوحة التركيبات الاجتماعية المتعددة الطابع والمتنوعة الأجواء؛ فهذا هو المناخ النموذجى الذى يفقد الإنسان الإحساس بالحقيقة والذى يلقى به فى شراك الحركات التكرارية الجوفاء ويحوله إلى مستهلك للخبرات التى بليت من كثرة الاستعمال. فتلك هى الوجبات الغذائية التى توفرها له وسائل الإعلام بلا توان والمحصلة الطبيعية لذلك هى فقدان الاستقلال النقدى والرضوخ الفعلى لمتطلبات القوى المحركة للعمليات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

(ج) المجتمع المجرد والوضع المعرفى:

المعرفة العلمية:

يتميز الطابع العقلى للمجتمع الصناعى الحديث بالتحول من الفلسفات ذات الطابع الكلى إلى المفاهيم الشديدة التجزؤ والفردية؛ فبعد النظام النظرى الهيلجى الذى احتوى داخل أطاره تصورات لكل الحقائق التاريخية والطبيعية؛ وبعد النظرية الماركسية التى أعطت تفسيرا للواقع وللتاريخ الإنسانى من خلال رؤية منهجية كلية؛ نجد أن السمة البارزة للمعرفة الحديثة هى التخصص المتمايز للعلوم. فبينما تحاول النظرة ا لعقلية الكلية استشفافا الطابع الكلى للواقع المتجزئ، يجد التخصص فيه حتى تصل إلى تفتيت المعرفة نفسها. وبمعنى آخر، فقد استجاب العقل الحديث لتجزؤ الواقع الاجتماعى بأن قام بتقطيع الحقيقة إلى جزئيات دقيقة، كل جزئية منها أصبحت – وهى بمعزل عن باقى الجسد المعرفى – تشكل نطاقا غير قابل للتجاوز لعمل مجموعة محدودة من الباحثين. وتقتصر دائرة الحوار المتعلق بذلك النطاق على أفراد كل مجموعة على حدة؛ حيث يتخاطبون مع بعضهم البعض بما يشبه “اللغة السرية” التى لا يفهمها سواهم. وكثير من تلك التخصصات قد وصلت من التجريد والغموض إلى درجة اصبح معها الحوار صعبا حتى بين الباحثين المنتمين إلى نفس العلم بل وإلى نفس الفرع من العلم.

وجدير بالذكر أن ذلك التجزأ المعرفى لم يعد قاصرا على المعرفة العلمية بل أن عملية مماثلة قد جرت على مستوى المعارف اليومية، ووضعت كثيرا من العوائق أمام الاتصال اللغوى اليومى العادى.

ويترتب على تجزئ المعرفة العلمية عدد من النتائج منها :

أولا : فقدان الباحث العلمى الاحساس بمعنى الحقيقة :

يستنفذ النطاق المتناهى الصغر للمبحث العلمى موضوعاته عاجلا أم آجلا وحينئذ لن يجد الباحث أمامه سبيلا سوى اعادة صقل نماذجه النظرية وطرق بحثه، أو مواصلة البحث من أجل البحث ذاته دونما أضافة حقيقية لكم المعارف المتحقق فى نطاق تخصصه.

ومن يساوره الشك فى ذلك عليه أن يلقى نظرة على رسائل دكتوراه الفلسفة فى مختلف التخصصات العلمية خلال الفترة الاخيرة، وسيلمس إلى أى مدى طغت الشكلية المجردة على المحتوى المعرفى وهى عملية تتواءم إلى حد كبير مع السمات العامة للمجتمع المجرد.

ثانيا : القصور والتباين فى فهم الحقيقة :

أن كل مجموعة صغيرة من الباحثين تميل إلى اعتبار ان نظرياتهم وطرق بحثهم الخاصة التى يحتويها مجال تخصصهم هى الحقيقة النهائية أو أنها تمثل الحقيقة الكلية.

ولأن الحوار مفتقد بين ذوى التخصصات المختلفة، تصبح الرؤية المتعددة الجوانب والمستويات والمتسقة الافق امنية بعيدة المنال.

ثالثا : أن اقتصار النشاط المعرفى لدى الباحثين المتخصصين على دوائر تخصصهم المغلقة، يجعلهم، خارج محيط تلك الدوائر، فريسة سهلة لكل أنواع الأيديولوجيات.

الوعى الحديث :

هناك خاصتان نموذجيتان متناقضتان يتميز بهما الوعى الحديث :

العقلنة من ناحية، واللاعقلانية من ناحية أخرى.

والعقلنة هنا تعنى طريقة التفكير والكلام بلغة النماذج العالية التجريد والمقولات الصورية، والميل الى التجريب والى حساب الآثار المترتبة عليه.

واللاعقلانية تعنى تبنى المفاهيم والتصورات والقيم والسلوكيات : المستمدة من مزيج غير متجانس يتشكل من الدوافع الذاتية والنفعية العملية والأفكار الساذجة والبدائية والخرافات والميل الى الاثارة والخيال؛ فهى بايجاز حالة من الوعى البدائى

وحالة الانقاسم القائم فى وعى الأفراد، ليست مبتورة الصلة بالتناقض القائم فى قلب المجتمع نفسه؛ حيث العقلانية الادارية فى عمل الجهاز البيروقراطى، والعقلانية التجريبية الجزئية التى تسود التخصصات المعرفية المختلفة، والتعود على التعامل مع الاجهزة التكنولوجية المتطورة؛ كل ذلك يعمل داخل بناءات اجتماعية تفتقد العقلانية فى دورها الاجتماعى وفى ترابطاتها البنيوية والوطيفية مما يجعلها غير قادرة على أن تمنح المجتمع تشكيلا كليا ذا معنى.

***

(د) روح الاحتجاج والرفض :

شهدت ستينات هذا القرن عديدا من حركات الاحتجاج فى المجتمعات الأوربية والأمريكية، واذا كانت تلك الحركات لم يقدر – كما هو المتوقع – أن تحدث تغييرا ذا وزن، أو أن يكون لها استمرار ما، فإن دلالتها مع ذلك لا يمكن تجاهلها.

ويمكن تحديد ثلاثة انماط من حركات الاحتجاج تلك، تمثلها : الجماعات ذات النزعة الصوفية، والجماعات ذات النزعة الفوضوية، والجماعات ذات النزعة الراديكالية.

وأنماط الاحتجاج الثلاثة بصفة عامة وهى تعبيرات متنوعة الايقاع عن شئ اساسى وعميق هو نفاد الصبر تجاه الديمقراطية الوهمية وتجاه الطابع اللانسانى الذى يكسو وجه المجتمع الحديث.

انهم يشتركون جميعا فى موقف واحد : هو الرفض الرومانسى للنظم  السائدة فى مجتمعهم.

– فالراديكاليون يرفضون اية مهادنة مع النظم القائمة، وينشدون نظاما اجتماعيا جديدا كلية تتحقق فيه الديمقراطية المطلقة

– والفوضويون يحلمون بالحرية المطلقة فى عالم خيالى يتحرر فيه الانسان من كافة قيود الثقافة التقليدية.

– والصوفيون ينسحبون من مسرح المجتمع الى عالمهم الذاتى الداخلى حيث الحقيقة المطلقة والمعنى النهائى.

والذى لا شك فيه، هو أن نقد المجتمع المجرد الذى رفعت رايته حركات الرفض، يتضمن كثيرا من المفاهيم الصائبة والعميقة المغزى.

فالانسان لديه حاجة اصيلة لأن يحيا فى توازن بين قطبين : قطب العالم الفردى بخصائصه الفيزيائية ووعيه الشخصى المتفرد من ناحية، وقطب الوسط الثقافى الاجتماعى ببناءاته المنظمة وبوعيه الجمعى من ناحية اخرى.

فاذا كف الانسان عن ايجاد التوازن بين هذين القطبين، واختزل وجوده الى مجرد اداة تتشكل وفقا لمتطلبات المجتمع المجرد وقواه التحكمية المغتربة عن الانسان، أو الى وجود فردى بحت مضاد للمجتمع وواقع تحت أسر الرومانسية المطلقة فأن الوضع البشرى يصبح أسير متاهة بلا مخرج.

وكلا الأمرين قائم فعلا فى مجتمعنا المعاصر.

فالجديد فى قوى التحكم الاجتماعى المعاصرة يتحدد فى أن الفرد يقع تحت سيطرة عديد من انماط المؤسسات الاجتماعية المستقلة ذاتيا، حتى يكاد يستعصى عليه – وجوديا وفكريا – أن يرى بوضوح طبيعة تلك القوى التى تتحكم فيه، لذلك لم يعد المجتمع المجرد يحمل تجاه الفرد أى نسق من المعانى المترابطة، ولم تعد قوى التحكم تبدو للفرد الا على أنها قوى مغتربة عن الانسان وسالبه لجوهره الانسانى.

وهكذا لا يعود الفرد قادرا على الانتماء الى الوسط الاجتماعى بشخصيته ككل، فانتماءاته الجزئية لمختلف المجموعات والمؤسسات ادت الى اتساع الهوه بينهما، فهى بوصفها بناءات موضوعية تتجه اكثر فأكثر نحو التجرد حتى لتفقد ما تتضمنه من معنى وكرد فعل طبيعى لذلك، ينسحب الفرد اكثر فأكثر الى عالمه الذاتى الفردى.

[1] – قراءة فى كتاب زيدرفيلد ” المجتمع المجرد: تحليل ثقافى للعصر “

Anton C, Zijderveld (1974) “The Abstract Society a cultural analysis of our time” Pelican Books.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *