الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1982 / اكتوبر1982- سقوط الوعد العظيم

اكتوبر1982- سقوط الوعد العظيم

سقوط الوعد العظيم

قراءة فى كتاب: أريك فروم

“أن تملك”… أم “أن تكون”

د. عاطف طنطاوى

ظل الوعد العظيم بالتقدم اللا محدود – الوعد بالسيطرة على الطبيعة، وبالرخاء المادى، وبالسعادة العظمى لغالبية البشر، وبالحرية الشخصية التى بلا عائق- على آمال الناس ومعتقدات مختلف الأجيال منذ بداية العصر الصناعى.

وعلى الرغم من الانجازات المادية والعقلية الهائلة التى أتى بها العصر الصناعى، الا أن أعدادا متزايدة من الناس قد بدأت تدرك أن:

1- الاشباع اللا محدود لكل الرغبات لا يؤدى الى الرضا الذاتى، ولا الى السعادة ولا حتى الى اللذة القصوى.

2- حلم السيادة الكاملة على حياتنا قد أخفق حينما بدأنا نتيقظ الى حقيقة أننا أصبحنا تروسا فى الآلة البيروقراطية، وأن أفكارنا، ومشاعرنا، وأذواقنا، أصبحت أداة طيعة فى يد الحكومة وفى يد المؤسسات الصناعية وأجهزة الاعلام التى تحت سيطرتها.

3- التقدم الاقتصادى ظل قاصرا على الأمم الغنية، بينما الهوة بين الدول الغنية والفقيرة فى اتساع مستمر.

4- التقدم التكنولوجى نفسه خلق أخطارا بيئية ودفع بنا الى خطر حرب نووية، واى منهما كفيل بأن يضع نهاية لحضارتنا بأسرها، بل ربما للحياة بأسرها.

لماذا أحفق ذلك الوعد العظيم؟

يجيب أريك فروم بأن السر فى ذلك هو أن النظام الصناعى،قد اشتمل- الى جانب المتناقضات الاقتصادية الكامنة فيه- على فكرتين أساسيتين:

1- أن هدف الحياة هو السعادة التى تتحقق من خلال اللذة الناتجة عن أشباع أية رغبة أو حاجة ذاتية يشعر بها الفرد.

2- أن التمركز حول الذات، والأنانية، والجشع –وهى المتطلبات اللازمة للنظام الصناعى كى يؤدى عمله – سوف تؤدى الى السلام والاخاء بين البشر.

وهاتان الفكرتان قد لقيا دورهما ذاك من خلال تأثير التركيب الاقتصادى – الاجتماعى الصناعى على الخلق الاجتماعى و على الدين الخاص لأفراد ذلك المجتمع.

وهو يعرف الخلق الاجتماعى بأنه محصلة التفاعل بين التكوين النفسى للأفراد وبين التركيب الاقتصادى – الاجتماعى.

 فالتركيب الاقتصادى – الاجتماعى لمجتمع ما يطوع الخلق الاجتماعى لأفراده بحيث يرغبون فى عمل ما يجب عليهم عمله.

والخلق الاجتماعى فى نفس الوقت يؤثر فى التركيب الاقتصادى – الاجتماعى للمجتمع، فقد يدعمه ويمحنه استقرارا ورسوخا، وقد يكون بمثابة الديناميت الذى يفجره من الداخل.

فالتغير فى أى منهما يعنى التغير فى كليهما.

أما‏ ‏الدين‏ ‏فاريك‏ ‏فروم‏ ‏يقدم‏ ‏لنا‏ ‏فهما‏ ‏خاصا‏ ‏لمعناه‏ ‏ولحاجة‏ ‏النوع‏ ‏الانسانى ‏اليه‏.‏

فالدين‏ ‏هو‏ ‏أية‏ ‏منظومة‏ ‏من‏ ‏الفكروالعمل‏ ‏تعتنقها‏ ‏جماعة‏ ‏ما‏، ‏بحيث‏ ‏تمنح‏ ‏أفرادها‏ ‏اطارا‏ ‏توجيهيا‏ ‏وغاية‏ ‏محورية‏ ‏لحياتهم‏.‏

وعلى ‏ذلك‏، ‏وبهذا‏ ‏المعنى ‏العريض‏ ‏للكلمة‏، ‏فليست‏ ‏هناك‏ ‏ثقافة‏ ‏فى ‏الماضى ‏أو‏ ‏الحاضر‏، ‏وأغلب‏ ‏الظن‏ ‏فى ‏المستقبل‏ ‏أيضا‏، ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تخلو‏ ‏من‏ ‏الطابع‏ ‏الدينى.‏

وجدير‏ ‏بالملاحظة‏، ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏للدين‏، ‏لا‏ ‏يمس‏ ‏مضمونه‏ ‏من‏ ‏قريب‏ ‏أو‏ ‏بعيد‏. ‏والمهم‏ ‏بالنسبة‏ ‏لهذا‏ ‏المضمون‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏اذا‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏شأنه‏ ‏أن‏ ‏يدفع‏ ‏التطور‏ ‏الانسانى ‏الى ‏الامام‏ ‏وأن‏ ‏تزدهر‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏قوى ‏الانسان‏ ‏الخاصة‏، ‏أم‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏شأنه‏ ‏أن‏ ‏يعوق‏ ‏النمو‏ ‏الانسانى ‏ويكيله‏.‏

والدين‏ ‏الخاص‏ -‏ـ‏ ‏شريطة‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏محركا‏ ‏للسلوك‏ ‏ـ‏ ‏ليس‏ ‏حاصل‏ ‏مجموع‏ ‏المذاهب‏ ‏والعقائد‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏ضارب‏ ‏بجذوره‏ ‏فى ‏التركيب‏ ‏الخلقى ‏الخاص‏ ‏للفرد‏,‏ثم‏ ‏هو‏ ‏ـ‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دين‏ ‏لجماعة‏ ‏ما‏ ‏ـ‏ ‏ضارب‏ ‏بجذوره‏ ‏أيضا‏ ‏فى ‏الخلق‏ ‏الاجتماعي‏. ‏وعلى ‏ذلك‏، ‏فمو‏قفنا‏ ‏الدينى ‏يمكن‏ ‏اعتباره‏ ‏أحد‏ ‏جوانب‏ ‏تركيبنا‏ ‏الخلقي‏، ‏لأننا‏ ‏لسنا‏ ‏سوى ‏ما‏ ‏كرسنا‏ ‏أنفسنا‏ ‏لأجله‏، ‏وماكرسنا‏ ‏أنفسنا‏ ‏لأجله‏ ‏هو‏ ‏الدافع‏ ‏الحقيقى ‏لسلوكنا‏. ‏وكثير‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏ليسوا‏ ‏متبصرين‏ ‏بدينهم‏ ‏الحقيقى ‏لأنهم‏ ‏ليسوا‏ ‏متبصرين‏ ‏بموضوع‏ ‏ولائهم‏ ‏أو‏ ‏بالغاية‏ ‏المحورية‏ ‏لحياتهم‏. ‏فهم‏ ‏قد‏ ‏يخلطون‏ ‏بين‏ ‏معتقداتهم‏ ‏الرسمية‏  ‏أو‏ ‏المعلنة‏ ‏وبين‏ ‏دينهم‏  ‏الحقيقي‏. ‏فالانسان‏ ‏الذى ‏يعبد‏ ‏القوة‏ ‏ثم‏ ‏بنتسب‏ ‏علنا‏ ‏لدين‏ ‏المحبة‏، ‏فان‏ ‏دين‏ ‏القوة‏ ‏هو‏ ‏دينه‏ ‏الحقيقي‏، ‏بينما‏ ‏دين‏ ‏الحب‏، ‏هو‏ ‏بالنسبة‏ ‏له‏ ‏مجرد‏ ‏آيديولوجية‏.‏

والحاجة‏ ‏التدينية‏ ‏ذات‏ ‏عنق‏ ‏بالغ‏ ‏فى ‏الطبيعية‏ ‏البشرية‏. ‏فعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏ثمة‏ ‏اتفاق‏ ‏على ‏تعريف‏ ‏الخصائص‏ ‏النفسية‏ ‏العامة‏ ‏للنوع‏ ‏الانساني‏، ‏الا‏ ‏أننا‏ ‏ـ‏ ‏حين‏ ‏ننعم‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏التطور‏ ‏البيولوجى ‏ـ‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نتلمس‏ ‏المعالم‏ ‏الأساسية‏ ‏لتلك‏ ‏الخصائص‏. ‏فالتطور‏ ‏البيولوجى ‏للمملكة‏ ‏الحيوانية‏ ‏يسير‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏يتميز‏ ‏بخاصتين‏. ‏الأولى ‏هى ‏التناقص‏ ‏المستمر‏ ‏فى ‏مدى ‏سيطرة‏ ‏الغرائز‏ ‏على ‏السلوك‏، ‏فكلما‏ ‏ارتقى ‏المستوى ‏التطورى ‏كلما‏ ‏قل‏ ‏تأثير‏ ‏الغرائز‏ ‏ـ‏ ‏أى ‏الدوافع‏ ‏العضوية‏ ‏ذات‏ ‏البرمجة‏ ‏الوراثية‏ ‏ـ‏ ‏فى ‏السلوك‏. ‏والثانية‏ ‏هى ‏التزايد‏ ‏المستمر‏ ‏فى ‏نمو‏ ‏المخ‏، ‏وبخاصة‏ ‏القشرة‏ ‏الدماغية‏ ‏العليا‏.‏

وعلى ‏ذلك‏، ‏فالنوع‏ ‏الانسانى ‏هو‏ ‏ذلك‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الكائنات‏ ‏الحية‏ ‏العليا‏، ‏الذى ‏نشأ‏ ‏عند‏ ‏تلك‏ ‏النقطة‏ ‏من‏  ‏مسار‏ ‏التطور‏ ‏حيث‏ ‏وصلت‏ ‏الحتمية‏ ‏الغريزية‏ ‏حدها‏ ‏الأدنى ‏ووصل‏ ‏النمو‏ ‏الدماغى ‏حده‏ ‏الأقصي‏. ‏فبينما‏ ‏قلت‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏السلوك‏ ‏الغريزى ‏البحت‏، ‏اكتسب‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏الوعى ‏بذاته‏، ‏والتفكير‏ ‏العقلاني‏، ‏والتخيل‏. ‏وأصبح‏ ‏بذلك‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏الى ‏اطار‏ ‏توجيهى ‏والى ‏موضوع‏ ‏للولاء‏ ‏أو‏ ‏غاية‏ ‏حياتية‏ ‏محورية‏.‏

والاطار‏ ‏التوجيهى ‏هو‏ ‏بمثابة‏ ‏خريطة‏ ‏لعالمنا‏ ‏الطبيعى ‏والاجتماعى ‏أى ‏صورة‏ ‏للعالم‏ ‏ولموقع‏ ‏الانسان‏ ‏فيه‏، ‏تتميز‏ ‏بآنها‏ ‏متسقة‏ ‏البنية‏ ‏وبأنها‏ ‏ذات‏ ‏منطق‏ ‏داخلى ‏متماسك‏. ‏ومثل‏ ‏تلك‏ ‏الخريطة‏ ‏لازمة‏ ‏للانسان‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يصاب‏ ‏بالخلط‏ ‏وبعدم‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏السلوك‏ ‏الهادف‏ ‏والمتسق‏، ‏اذ‏ ‏بدونها‏ ‏لن‏  ‏يكون‏ ‏ثمة‏ ‏طريق‏ ‏يوجه‏ ‏الانسان‏ ‏نفسه‏ ‏فيه‏، ‏ولن‏ ‏يكون‏ ‏ثمة‏ ‏مركز‏ ‏ثابت‏ ‏ينظم‏ ‏الانسان‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏سيل‏ ‏المؤثرات‏ ‏التى ‏تقع‏ ‏على ‏حواسه‏.‏

ولكن‏ ‏تلك‏ ‏الخريطة‏ ‏لن‏ ‏تكون‏ ‏كافية‏ ‏بذاتها‏ ‏لتوجيه‏ ‏أفعالنا‏، ‏اذ‏ ‏ما‏ ‏زلنا‏ ‏بحاجة‏ ‏الى ‏هدف‏ ‏يحدد‏ ‏لنا‏ ‏الى ‏أين‏ ‏نذهب‏. ‏فنحن‏ ‏بحاجة‏ ‏الى ‏موضوع‏ ‏للولاء‏ ‏أو‏ ‏غاية‏ ‏محورية‏ ‏تتكامل‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏طاقاتنا‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏واحد‏، ‏كى ‏نتمكن‏ ‏من‏ ‏تجاوز‏ ‏وجودنا‏ ‏المنعزل‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏يحتويه‏ ‏من‏ ‏شكوك‏ ‏وشعور‏ ‏بعدم‏ ‏الأمان‏، ‏وكى ‏نستجيب‏ ‏لاحتياجنا‏ ‏لمعنى ‏للحياة‏.‏

***

واطار‏ ‏التوجيه‏ ‏وموضوع‏ ‏الولاء‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتخذا‏ ‏أحد‏ ‏صيغتين‏ ‏أو‏ ‏نمطين‏ ‏يشكلان‏ ‏طريقين‏ ‏أو‏ ‏اتجاهين‏ ‏فى ‏الحياة‏. ‏أحدهما‏ ‏هو‏ ‏نمط‏ ‏التملك‏ ‏وثانيهما‏ ‏نمط‏ ‏التحقق‏ ‏الوجودى ‏أو‏ ‏الكينونة‏. ‏وكلا‏ ‏النمطين‏ قائم‏ ‏فى ‏طبيعة‏ ‏الكائنات‏ ‏البشرية‏. ‏فالأول‏، ‏نمط‏ ‏التملك‏ ‏أو‏ ‏الاقتناء‏ ‏يدين‏ ‏بقوته‏ ‏فى ‏التحليل‏ ‏الأخير‏ ‏للعامل‏ ‏البيولوجى ‏الذى ‏هو‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏البقاء‏، ‏والثاني‏، ‏نمط‏ ‏الوجود‏ ‏ـ‏ ‏المشاركة‏، ‏العطاء‏، ‏التضحية‏ ‏ـ‏ ‏يدين‏ ‏بقوته‏ ‏للسمات‏ ‏الخاصة‏ ‏للوجود‏ ‏الانسانى ‏وللحاجة‏ ‏الفطرية‏ ‏للتغلب‏ ‏على ‏الوحدة‏ ‏الفردية‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الاندماج‏ ‏مع‏ ‏الآخرين‏.‏

ويتضح‏ ‏من‏ ‏حقيقة‏ ‏أن‏ ‏هذين‏ ‏الاتجاهين‏ ‏المتضادين‏ ‏قائمان‏ ‏فى ‏طبيعة‏ ‏كل‏ ‏كائن‏ ‏بشري‏، ‏أن‏ ‏التركيب‏ ‏الاقتصادى ‏ـ‏ ‏الاجتماعى ‏بقيمه‏ ‏ومعاييره‏، ‏يحدد‏ ‏أيهما‏ ‏تكون‏ ‏له‏ ‏الغلبة‏.‏

***

حول‏ ‏نمط‏ ‏التملك‏:‏

هناك‏ ‏نوعان‏ ‏من‏ ‏التملك‏: ‏أولهما‏ ‏الميل‏ ‏الطبيعى ‏لامتلاك‏ ‏أشياء‏ ‏معينة‏ ‏نستعملها‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏استمرار‏ ‏الحياة‏، ‏وثانيهما‏ ‏ـ‏ ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏نعنيه‏ ‏حينما‏ ‏نتحدث‏ ‏عن‏ ‏نمط‏ ‏التملك‏ ‏ـ‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏الامتلاك‏ ‏والاقتناء‏ ‏وهى ‏رغبة‏ ‏مكتسبة‏ ‏بفعل‏ ‏ظروف‏ ‏اجتماعية‏ ‏معينة‏.‏

والواقع‏ ‏آن‏ ‏نظرتنا‏ ‏للملكية‏ ‏الخاصة‏ ‏منحازة‏ ‏للغاية‏ ‏لأننا‏ ‏نعيش‏ ‏فى ‏مجتمع‏ ‏آعمدته‏ ‏الملكية‏ ‏الخاصة‏، ‏والربح‏، ‏والقوة‏. ‏فالشائع‏ ‏أن‏ ‏الملكية‏ ‏الخاصة‏ ‏مقولة‏ ‏طبيعية‏ ‏وعالمية‏، ‏بينما‏ ‏الواقع‏ ‏أنها‏ ‏الاستثناء‏ ‏لا‏ ‏القاعدة‏. ‏اذ‏ ‏لو‏ ‏أخذنا‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏التاريخ‏ ‏الانسانى ‏بأسره‏( ‏بما‏ ‏فيه‏ ‏فترة‏ ‏ما‏ ‏قبل‏ ‏التاريخ‏) ‏وبوجه‏ ‏خاص‏ ‏الثقافات‏ ‏غير‏ ‏الأوربية‏ ‏حيث‏ ‏الاقتصاد‏ ‏لا‏ ‏يشكل‏ ‏محور‏ ‏الحياة‏ ‏الرئيسي‏، ‏فسنجد‏ ‏أن‏ ‏تاريخ‏ ‏الملكية‏ ‏الخاصة‏ ‏قصير‏ ‏بالنسبة‏ ‏لأنواع‏ ‏الملكية‏ ‏الأخرى ‏العديدة‏.‏

لكن‏ ‏مجتمعنا‏ ‏الصناعى ‏تسوده‏ ‏معايير‏ ‏تدور‏ ‏حول‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏حيازة‏ ‏الآشياء‏، ‏والاحتفاظ‏ ‏بها‏ ‏واستثمارها‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏الربح‏، ‏ويصبح‏ ‏من‏ ‏يمتلك‏ ‏أكثر‏ ‏موضع‏ ‏الاعجاب‏ ‏ويحتل‏ ‏صدارة‏ ‏المجتمع‏.‏

ولا‏ ‏تقتصر‏ ‏خاصة‏ ‏الملكية‏ ‏على ‏ملكية‏ ‏الأشياء‏ ‏بل‏ ‏تتعداها‏ ‏الى ‏ملكية‏ ‏الأشخاص‏ ‏أى ‏السطوة‏ ‏على ‏الآخرين‏، ‏والى ‏ملكية‏ ‏الأشياء‏ ‏المعنوية‏: ‏كالصحة‏ ‏والحب‏ ‏والمتعة‏ ‏مثلا‏. ‏بل‏ ‏أن‏ ‏الأشخاص‏ ‏أنفسهم‏ ‏يتحولون‏ ‏الى ‏أشياء‏، ‏فهم‏ ‏ينظرون‏ ‏الى ‏أنفسهم‏ ‏والى ‏غيرهم‏ ‏على ‏اعتبار‏ ‏أنهم‏ ‏أشياء‏.‏

بل‏ ‏وتتشكل‏ ‏الأنا‏ ‏لديهم‏ ‏على ‏اعتبار‏ ‏أنها‏ ‏شئ‏ ‏يمتلك‏، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏الشئ‏ ‏هو‏ ‏مصدر‏ ‏احساسهم‏ ‏بالهوية‏

على ‏أن‏ ‏العلاقة‏ ‏بالأشياء‏ ‏المملوكة‏ ‏هى ‏دائما‏ ‏علاقة‏ ‏خارجية‏، ‏سطحية‏ ‏وعابرة‏. ‏فهى ‏علاقة‏ ‏تعانى ‏من‏ ‏اختلال‏ ‏الانية‏ ‏أو‏ ‏تغير‏ ‏الذات‏، ‏أى ‏أن‏ ‏المالك‏ ‏لشئ‏ ‏لا‏ ‏يحبه‏ ‏لذاته‏ ‏بل‏ ‏لما‏ ‏يمثل‏ ‏من‏ ‏قيم‏ ‏خارجية‏. ‏وهى ‏حالة‏ ‏وقتية‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏تزول‏. ‏وزوالها‏ ‏يدفع‏ ‏للبحث‏ ‏عن‏ ‏أثارة‏ ‏جديدة‏: ‏بعقد‏ ‏حقيقة‏ ‏جديدة‏، ‏أو‏ ‏حيازة‏ ‏شئ‏ ‏جديد‏ ‏أو‏ ‏موديل‏ ‏جديد‏، ‏وهكذا‏.‏

والممتلكات‏ ‏هى ‏مثيرات‏ ‏مثبطة‏  ‏وليست‏  ‏منشطة‏. ‏فهى ‏تدعو‏ ‏لتبلد‏ ‏الحواس‏ ‏والقوى ‏الانسانية‏ ‏ولا‏ ‏تعمل‏ ‏على ‏تنميتها‏ ‏وتعميقها‏. ‏وكلما‏ ‏كان‏ ‏المثير‏ ‏مثبطا‏  ‏كلما‏ ‏زادات‏ ‏الحاجة‏ ‏الى ‏احداث‏ ‏تغير‏ ‏فى ‏نوعه‏ ‏أو‏ ‏فى ‏شدته‏، ‏للاحتفاظ‏ ‏بدرجة‏ ‏الاستجابة‏ ‏الانفعالية‏ ‏بقوتها‏ ‏الأولي‏، ‏وعلى ‏العكس‏، ‏فكلما‏ ‏كان‏ ‏المثير‏  ‏منشطا‏ ‏كلما‏ ‏آصبحت‏ ‏الاستجابة‏ ‏له‏ ‏طويلة‏ ‏المدى ‏عميقة‏ ‏الاثر‏ ، ‏وكلما‏ ‏قلت‏ ‏الحاجة‏ ‏الى ‏احداث‏ ‏تغيير‏ ‏فى ‏نوعه‏ ‏أو‏ ‏كمه‏.‏

ونمط‏ ‏التملك‏ ‏قد‏ ‏يطبع‏ ‏بطابعه‏ ‏كافة‏ ‏أنواع‏ ‏النشاط‏ ‏الانساني‏: ‏المشاعر‏ ‏والانفعالات‏ ‏والمواقف‏ ‏والتفكير‏ ‏والسلوك‏ ‏والعادات‏ ‏والمعتقدات‏.‏

فالتعلم‏ ‏مثلا‏، ‏ستهدف‏ ‏ـ‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏ـ‏ ‏استيعاب‏ ‏المادة‏ ‏فى‏ ‏الذهن‏ ‏والاحتفاظ‏ ‏بها‏ ‏فى ‏الذاكرة‏ ‏لاخراجها‏ ‏عند‏ ‏اللزوم‏( ‏الامتحان‏ ‏مثلا‏ ) ‏دون‏ ‏أن‏ ‏تصبح‏ ‏مضامينها‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏مكونات‏ ‏تفكير‏ ‏الطالب‏ ‏حيث‏ ‏تنمو‏ ‏به‏  ‏وتتسع‏ ‏مداركه

والقراءة ايضا، تتحدد مادتها بمتطلبات النجاح وكيفيتها أيضا تتحدد وفقا لذلك دون أن تتفاعل مع أبعد من السطح الخارجى لجهاز الادراك، وذلك بدلا من أن تتحدد بالتساؤلات الداخلية وتستهدف فهم الوجود الانسانى واغناء المشاعر والحواس وشحذ القوى الانسانية.

وحتى المعتقدات، تصبح مجرد أمتلاك اجابات لا برهان عليها، يتم التسليم بها كنوع من التوافق أو الخضوع لما هو سائد، وتظل مجرد مظهر خارجى بمنأى عن أن تتحول الى نظام توجيهى داخلى يشكل قوام المشاعر والمواقف والسلوك.

وممارسة السطلة كذلك تتخذ طابع ممارسة القوة اللاعقلانية التى تستهدف استغلال الأشخاص الخاضعين لها، بدلا من أن تكون قائمة على الكفاءة ومستهدفة تعليم وافادة من هم خاضعون لها.

وعلاقة الحب أيضا تتخذ طابع امتلاك للطرف الآخر والسيطرة عليه، أو تصبح نوعا من الاعتمادية المتبادلة، بدلا من أن تكون علاقة تكامل بين شخصين ناجحين مستقلين تنمى وتثرى امكانات كل منهما.

وجدير بالملاحظة، أن التابو الجنسى( التعامل مع الجنس على أنه شئ محرم) هو من خصائص المجتمعات القائمة على نمط التملك. وهو الذى يؤدى الى الجشع الجنسى والى المقايضة الجنسية.

ويصاحب التملك دائما شعور بعدم الأمان وبالتوجس، فلأننى من الممكن أن أفقد ما أملك، فأننى بالضرورة دائم التوجس أن أفقد ما أملك. لذلك فأننى أتخذ موقف الدفاع، واصبح جاف الطبع، مرتابا، وحيدا، مدفوعا بالحاجة الى اقتناء المزيد فى سبيل تأمين وضعى.

والعناصر بالحاجة الى اقتناء المزيد فى سبيل تأمين وضعى.

والعناصر الأساسية التى تشكل جوهر العلاقة بين الأفراد الذين يحيون فى ظل هذا النمط هى: التنافس والخوف.

فاذا كانت الملكية هى أساس احساسى بأنيتى لأننى” ما أمتلك” ، فان الرغبة فى الامتلاك تقود بالضرورة الى السعى لامتلاك المزيد ثم المزيد.

وذلك هو الطريق الممهد الى الجشع. والانسان الجشع لايصل الى حد الاكتفاء أبدا. فليست لديه نقطة تشبع لأن ما يستهلكه لا يملأ فراغه الداخلى، ولا يخلصه من سأمه ولا وحدته ولا اكتئابه. وبما أن مجمل الانتاج لا يستطيع تلبية الاحتياجات التى بلا حدود للأفراد من هذا النوع، فالنتجية المنطقية لذلك هى التنافس والصراع بين الأفراد فى سعيهم للحصول على المزيد.

والصراع بين الطبقات – وبالذات بين المستغلين –كان وسيظل سمة أساسية من سمات المجتمع القائم على الملكية. فستظل هناك على الدوام طبقات متصارعة فى أى مجتمع يقوم على نمط الملكية، أيا كان مستوى الثراء الذى عليه ذلك المجتمع.

نمط الملكية فى المجتمع المعاصر:

يشهد المجتمع المعاصر تحولا من القيم الاقتنائية البحتة الى القيم السلعية التسوقية، ويصاحب هذا التحول تحول مماثل فى الخلق الاجتماعى.فالخلق التسلطى – الوسواسى – الاقتنائى الذى بدا فى القرن السادس عشر فى  أوربا والذى ظلت له السيادة – على الأقل بين الطبقات الوسطى حتى نهاية القرن السادس عشر، بدأ يمتزج به أو يحل محله ما يمكن تسميته بالخلق التسويقى أو السلعى. ذلك أن الانسان الواقع تحت تأثيره أنما يحس بنفسه كسلعة فى السوق، حيث تصبح قيمة الانسان فيه هى” القيمة التبادلية” له لا ” القيمة الاستعمالية”. فالكائن البشرى هنا يتحول الى سلعة فى ” سوق الشخصيات”. فهناك دائما مواصفات شخصية معينة لكل مجال من مجالات العمل، وكل فرد يحاول من ناحيته أن يرتدى قناع الشخصية الملائم لطموحه وللمجال الذى يعرض نفسه فيه. فالذى يشكل موقف الانسان تجاه نفسه هى حقيقة أن المهارة، والكفاءة المتعلقة بعمل معين ليست كافية وحدها للحصول عليه، اذ عليه أن يفوز فى سباق يجرى بينه وبين آخرين عديدين، كى يحصل على النجاح. اذ لو كان بمقدور الانسان فى مثل تلك الظروف أن يعيش بالاعتماد على ما يعرف وعلى ما يستطيع عمله، لكان تقديرة لنفسه متناسبا مع قدراته أى مع قيمته الاستعمالية. لكن النجاح فى مثل هذا المجتمع يقوم الى حد كبير على كيف يبيع الانسان شخصيته، وبالتالى فعلى الانسان أن يتعامل مع نفسه باعتباره سلعة فى السوق، أو بتعبير أدق، باعتبار أنه البائع وأنه الشئ المباع فى نفس الوقت. فالشاغل الأساسى لمثل هذا الانسان ليس حياته الداخلية أو سعادته، بل هو بالتحديد كيف يصبح سلعة رائجة.

لذلك فهدف الشخصية ذات الطابع السلعى هوالتكيف، بحيث تصبح بضاعة مضمونة الرواج تحت كافة الظروف التى تطرأ على حركة سوق الشخصية، ومثل تلك الشخصية تكاد تخلو من أمتلاكها لـ” أنا” (كنا كان الحال لدى أناس القرن التاسع عشر) ترتبط به، وتحس بانتمائه لها، وبنبات معالمه، فمثل تلك الشخصية عليها أن تغير” أناها” على الدوام، وفقا لمتطلبات السوق.

ومثل تلك الشخصيات لا تحب ولا تكره، لأن ذلك يعوق الهدف الرئيسى للخلق السلعى. اذ هى بلا ارتباط عميق لا بنفسها ولا بالآخرين، فهم أشخاص غير مبالين – بكل أبعاد الكلمة – ليس بدافع أنانيتهم، ،انما لأن علاقتهم بأنفسهم وبالآخرين ضامرة  للغاية.

ولعل” أزمة اليهود” فى المجتمع المعاصر هى فى حقيقتها الأزمة الناشئة عن أن أفراد ذلك المجتمع هم أدوات بلا نفس، فهم يستمدون هويتهم من كون أنهم جزء من دولاب عمل أو جهاز بيوقراطى صخم. وحيث لا توجد نفس أصيلة، لا توجد هوية.

وتعبير الخلق السلعى أو الخاصة السلعية للشخصية ليس هو التعبير الوحيد الذى يصف هذا النوع من الشخصيات. فهناك أيضا التعبير الماركسى الذى يصفها بأنها الخاصة المغتربة للشخصية أو الخلق المغترب، فالأشخاص من هذا النوع مغتربون عن علمهم، عن أنفسهم، عن الآخرين، وعن الطبيعة ذاتها. فالقوى الانسانية لديهم بكل غناها وخصوبتها تختزل وتغترب فى حس الملكية. يقول ماركس: الملكية الخاصة قد جعلتنا أغبياء وجزئيين فى نظرتنا الى درجة أننا لا نعتبر شيئا ما يخصنا ما لم نمتلكه،مالم نحصل عليه بوصفة راسمال، ما لم نأكله أو نشربه أو نلبسه أو نسكن فيه… الخ، باختصار، ما لم نستعمله بطريقة أو أخرى. وهكذا فكل حواسنا العضوية والعقلية قد حل محلها ذلك الاغتراب البسيط لكل الحواس، ألا وهو حس الملكية. فالكائن البشرى كان عليه أن يختزل نفسه الى تلك الدرجة من الفقر المطلق، كى يصبح قادرا على منح الحياة لكل ثروته الداخلية.

***

حول نمط الوجود: أو نمط تحقيق الذات:

يحدد اريك فروم خصائص هذا النمط الحياتى بأن الانسان الذى يمارس وجوده من خلاله يكون دائما فى حالة نشطة، ليس بمعنى النشاط الخارجى، أى دوام الانشغال بعمل ما، بل النشاط الداخلى اساسا دون اعتبار لتحققاته الخارجية فى حد ذاتها، فأن يكون الانسان نشيطا يعنى أن يمارس التعبير الحى عن قواه، ومواهبه، وعن ثراء المعطيات الانسانية، التى يتمتع بها كل أفراد النوع الانسانى بدرجات متفاوتة.

فممارسة نمط الوجود تعنى أن يجدد الانسان نفسه على الدوام أن ينمو، أن يزدهر أن يحب، أن يتجاوز النطاق المحدود لانيته المنعزلة،أن يهتم أن يعطى، هذه الخبرات جميعا يصعب وصفها بدقة من خلال التعبير اللغوى، وأنما تجد تعبيرها الواضح فى مشاركة الخبرة الحية التى هى دليل النشاط الحى.

على أن النشاط هو – الى حد كبير-  سلوك اجتماعى هادف يؤدى الى تغيرات اجتماعية مفيدة. والشرط الأساسى الذى يجعل النشاط الانسانى حيا ومثمرا هو الا يكون نشاطا مغتربا.

والنشاط المغترب هو ذلك النوع من النشاط الذى لا أخبر فيه نفسى بوصفى الذات الفاعلة له، بل أخبر فيه حاصل نشاطى، الذى يصبح شيئا قائما أمامى، منفصلا عنى، متعاليا على وضدى. ففى النشاط المغترب، لا أقوم فى الواقع بالفعل، بل يقع الفعل على بتأثير قوى خارجية وداخلية، اذا أصبح منفصلا عن ناتج عملى.

ولعل من الأمثلة الواضحة للنشاط المغترب فى مجال السكوباثولوجى السلوك الوسواسى القهرى. حيث يجد الشخص نفسه مجبرا بفعل باعث داخلى قوى أن يفعل شيئا ضد ارادته الذاتية الواعية. ونفس الشئ نجده فى السلوك ما بعد النوامى، فالأشخاص الذين يتلقون ايحاءات بأن يفعلوا كذا وكذا عقب افاقتهم من الغفوة النوامية، يقومون بفعل تلك الأشياء دون أى أدراك منهم بأنهم لا يفعلون ما يريدون حقيقة بل هم يتبعون التعليمات التى تلقوها أثناء التنويم.

أما فى النشاط غير المغترب، فأننى أخبر نفسى بوصفى ذاتا فاعلة لنشاطى، وأظل على ارتباط بناتج فعلى، بحيث يصبح فعلى تحققا لقواى الذاتية، وأصبح أنا وفعلى شيئا واحدا. وهذا النوع من النشاط يتسم دائما بأنه مثمر، وحتى ولو لم يكن له ناتج متجسد فى الخارج، ذلك أن خاصة كونه مثمرا تتعلق بالثراء الداخلى الناتج عن الفعل أكثر مما تتعلق بتحققه الخارجى.

وقد يتضح معنى النمط الوجودى أو نمط التحقق الذاتى أكثر اذا قورن لا بنمط التملك بل بالسلوك الظاهرى. فالتظاهر فى السلوك يعنى أن السلوك متناقض كلية مع حقيقة الدوافع المؤدية اليه. فيصبح سلوكى مختلفا عن طبيعتى الخلفية. وطبيعتى الخلفية هنا، بمعنى المحرك الحقيقى لسلوكى، هى التى تشكل وجودى الحقيقى. وبذلك فان نمط الوجود يعنى تطابق سلوكى مع الدوافع الحقيقية المؤدية إليه.

على أن دوافعنا السلوكية كما تبدو لنا، قد تختلف كثيرا عن دوافعنا السلوكية الحقيقية. فدوافعنا وأفكارنا ومعتقداتنا الواقعة فى مجال وعينا هى خليط من المعلومات الزائفة، والتحيزات، والانفعالات الاعقلانية والتبريرات، تتخللها جزئيات متناثرة من الحقيقية تعطى انطباعا زائفا بأن الخليط فى مجمله واقعى وحقيقى. ثم تقوم عملية التفكير لمحاولة تنظيم تلك المكونات الوهمية وفقا لقوانين المنطق والقبول الظاهرى. وهذا المستوى من الوعى هو الذى يفترض فيه أن يمثل الحقيقة، فهو بمثابة الخريطة التى نستخدمها فى تنظيم حياتنا. هذه الخريطة الوهمية لا تجرى عليها عملية الكبت. لكن ما يكبت أنما هو معرفة الواقع، معرفة ما هو حقيقى، وهذه المعارف هى التى تشكل الجزء الأكبر من اللاشعور.

والمسئول الأول عن تكوين اللاشعور هو المجتمع. فالمجتمع بما ينتج من انفعالات لا عقلانية وبما يمد به أفراده من مختلف أنواع الوهم، أنما يدفع الحقيقة الى ان تتوارى خلف العقلانية المزعومة، فالواقع أن قدرا كبيرا من طاقاتنا أنما يوجه الى أخفاء ما نعرف عن أنفسنا.

فالطريق، أذن الى تحقيق نمط الوجود انما يكمن بالتحديد فى نفاذنا عبر السطح الخارجى وامساكنا بالحقيقة.

غير أن ثمة شروطا لابد من توافرها حتى يصبح تحقق ذلك النمط ممكنا. تلك هى: الاستقلالية، والحرية، والعقل النقدى.

والحرية هنا، تعنى ما هو أعمق كثيرا مما هو شائع عنها، فهى تعنى التحرر الانسانى الحقيقى نم كافة ما يعوق ازدهار وتفتح قواه الخاصة، ذلك الازدهار الذى يمارس تلقائيا كهدف فى ذاته وليس مجرد وسيلة لغاية أبعد منه.

ولعل هذا المعنى للحرية يتضح أكثر حينما نقرأ ماركس حين يقول:

نطاق الحرية لا يبدأ الا بعد تجاوز النقطة التى يخضع فيها العمل لقهر الضرورة ولمتطلبات الاستعمال الخارجية. فمن طبيعة الأشياء ذاتها، أن الحرية تقع خارج دائرة الانتاج المادى بالمعنى الدقيق للكلمة.فكما أن الانسان البدائى كان عليه أن يصارع الطبيعة كى يلبى احتياجاته، وكى تستمر حياته ويحافظ على بقائه، كذلك فان على الانسان المتحضر أن يفعل الشئ نفسه، وعليه أن يفعله تحت كافة الأشكال الاجتماعية، وتحت كافة أنماط الانتاج الممكنة. ومع تطور الانسان يتسع نطاق الضرورة الطبيعية لأن احتياجاته تتزايد؛ لكن قوى الانتاج التى تلبى عن طريقها تلك الاحتياجات تتزايد بدورها.

والحرية فى حدود هذا المجال لا يمكن أن تعنى سوى أن الانسان الاجتماعى، أن المنتجين المتفانين معا، بمقدورهم أن ينظموا علاقتهم المتبادلة مع الطبيعة بأسلوب عقلانى، وأن يخضعوا الطبيعة لسيطرتهم الجماعية، بدلا من أن يدعوها تتحكم فيهم كما لو كانت قوة عمياء؛ وأن ينجزوا مهمتهم تلك بأقل قدر من الطاقة وفى ظل شروط لائقة بطيبعتهم الانسانية وجديرة بها الى اقصى حد. لكن يظل هناك على الدوام نطاق من الضرورة. وخارج هذا النطاق، يبدأ النطاق الحقيقى للحرية، لنمو القوى الانسانية باعتباره غاية فى ذاته، تلك الحرية التى، على أية حال، لايمكن لها أن تزدهر الا فوق نطاق الضرورة بوصفه قاعدة لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *