الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1982 / يوليو1982-رسائل الحزن والفكر الرومانسى وإمانويل كانت

يوليو1982-رسائل الحزن والفكر الرومانسى وإمانويل كانت

رسائل

الحزن والفكر الرومانسى وإمانويل كانت

د. عادل مصطفى

أخى (س):

أقعد إليك . .  مرتديا ابتسامتى على عجل . . مكفنا بها زهوا زاهقا وبهجة مودعة ابتسامة غليظة موحشة متعثرة مغتربة كطفلة بلا نسب وخيمة بلا طنب ابتسامة ناشزة ضئيلة قاصرة قصيرة أن سترت من الوجع صدره كشفت سوأته!

ورب ابتسام أدل من الدموع على مكامن الألم

وقناع أنم من السفور على فداحة الحزن

ورب حزن كالبحر لا تعرف له غورا تسبره ولا ذراعا تتناوله ولا كبدا تصميه حزن من الصنف العميق الغامض، لا الصنف السطحى العائم الذى يفضح منشأة ويعض منبته ويسب سببه، ويمكن للرشد أن يهدهده ويطببه .

أرأيت إلى الفرق بين أحزان اليوم العصية المكينة ذات الجذور الضاربة، وأحزان الأمس الدانية المسلية ذات الرءوس المكشوفة التى يتغذى عليها العزم وتتقوت بها الارادة؟

أخى (س)

قدرنا أن نطعم هذا الحزن ويطعمنا . . ويبقى أن نحمله ببسالة ونبالة، وأن نبقيه فى حوزة الحياة وذمة الشعور. وألا ندع الموت يطأه فيحبل بالبلادة ثم يضعها على شواطئ الانسحاب والغربة وتحت ظلال الفشل والخيبة ويسميها ورعا وصلاحا ويعقد لها سبوعا ويدق هونا!!

أخى (س)

أكتب  إليك والأيام ساكنة واهنة . .  فلعله سكون التشكل ووهن الحبل أتقهقر فيها وأنكمش وأبلع طولى فى عرضى . . فلعله تقهقر الانطلاق وانكماش القفز أسير بآمال ثقال ينوء بالكاهل حملها ويلذ لليأس تصدها فلعل أذرع النور تحمل عنى بعضها ولعل باع العمر يتسع لرحيب موكبها .

زارنى خطابك الأخيرة وأنسب بعطفه وتعاطفه غير أنى اختلفت معه اذ جعل فى غمرة حماسه وأريحيته يحتج بما لاقيناه من شدة وجهد على قرب الفرج ووشوك المخرج . جاعلا من غبن الماضى وبلائه المعنت دليلا على رغد المستقبل وهنائه “المبيت”!! وهى مغالطة منطقية سبق أن حذرنا منها “راسل” وضرب لنا مثلا مائة وعشرين بيضه اشتريناها فاذا بالاثنتى عشرة بيضة الأولى فاسدة ـ فلن نستنتج من ذلك أن سائر البيض يجب أن يكون بالغ الجودة !! “ولكن هذا هو نوع الاستدلال الذى يشجعه “القلب” كعزاء على معاناتنا فى العالم الدنيوى”

لا يا أخى . .  كان تفكيرك قلبيا انطوائيا هذه المرة . . رومانسيا على طريقة روسو a la Rousseau الذى انتصر للقلب على حساب العقل، ونحى الفكر لصالح الشعور، وطالب الحقيقة أن تتلطف قبل أن تتكشف!!! وناشد الوجدان وحده، ومناشدة الوجدان دليل على اليأس من العقل كما أن الشحاذة دليل على الافلاس لو كان لقضية ما رصيد فى بنك العقل لما أراقت ماء وجهها على أعتاب الوجدان وستبقى فلسفة العقل أنبل عندى وأطهر من فلسفة القلب؛ ففكرة العقل تكشف صدرها فى جسارة وشرف وتقول هل من منازل ؟ أما فكرة القلب فتغلق عليها قفصها وتعلن لنفسها انتصارها !!!

لا يا أخى كان تفكيرك رومانسيا هذه المرة . . يجعل من الانفعال أداة معرفية !! وينتقل من مقدمات وجدانية إلى نتائج من صنف أخر !

ويود أن ينفخ من روحه فى سديم الأمانى فإذا بها حقائق صلبة تفرض نفسها على الادراك وتكتحل بها الحواس الخمس !!!

لا يا أخى . . كنت رومانسيا هذه المرة . . على طريقة كانط الذى يقفز إلى بالى بلا استئذان كلما أعدت قراءة خطابك القلب الحبيب، ويغرينى أن أتحدث إليك بعض الوقت فى هذا الجو التعاطفى البليل عن ذلك الفيلسوف الرومانسى النبيل .

لقد قوض بعرامة قوائم المعرفة الميتافيزيقية المشوشة، المعتمدة على افرازات العقل المخض الذى بلغ به الغرور مبلغ ظن معه أن بمقدره أن يخلق العالم على هواه، وأن يرغم أشياء الوجود على الانصياع لتصوراته والانطباق على فروضه، وأن يفك عقال كائناته الحبيسة فى قفص الدماغ ليجود بها على الوجود القابع خارج القفص وكأنى بالوجود يرد له عطاياه مذيلا:

“خلها لك . . فإن لدى من الكائنات ما أوجع حشاى المثقل. . مع حبى”

وقد أكد كانط فى هذه المرحلة الهدمية الفتية من فلسفته أن المعرفة  التى لا تدخل إلى قفص الدماغ من بوابة الحواس هى معرفة غير مشروعة، ترخى على أفق العقل سمادير مظلمة يختلط الحابل بالنابل فى جوها المتلبد، عقيرتيهما… كل تدعى antinomies بحيث ترفع الفكرة ونقيضها مشروعيتها فأنت عرضه فى هذا العماء لأن تتعثر بمثل هذين الادعاءين، متزامنين تزامن عينين متبجحتين بلا جفون:

“العالم محدود . . .  وود . . . وود . . . .”

“العالم لانهائى . . . ئى . . . ئى . . .”

كان كانط جريئا فتيا فى هذه المرحلة من مذهب، فهل ظل وفيا لها متشبثا مبعوله إلى النهاية.

ليته لم تخنه أنفاسه أذن لأرانا من عرائس الفكر ما لا عين رأت!!

لكنه مالبث أن حطم نفس المعول الذى به أهرام الميتافيزيقا القديمة . . ليعود إلى بناء نفس الأهرام على قاعدة جديدة  . . قاعدة أخلاقية . .  قاعدة تفوق أسلافها نبلا لارسوخا! فلا هو تخير لهرمه أرضا ثابتة ولا هو أحكم وضع الحجر الأول . فالأخلاق عنده مصادرة هشة، سلم بها تسليما فوصل منها إلى نتائج ميتافيزيقية لا تلزم عنها بالضرورة سلم كانط بأن فى الوجود ارادة انسانية تنزع إلى عمل الخير رضوخا لمبدأ الواجب النابع من داخلها، غير فاركة كفيها تلمس ثمن، ولا بالعة قذالها توجس صفعة، تلك هى الارادة الخيرة التى لا تخدم غير سيد واحد هو “الواجب” غير أنها لا تضمن لصاحبها السعادة فى هذه الدنيا، بل كثيرا ما تغرى به الشقاء.

هذه هى المصادرة . . . رصيدها كبير فى بنك النبل لا فى بنك الحق !!

فماذا حمل كانط ظهر مصادرته الضامر ؟؟ الوجود كله !! الفضيلة لا تضمن لصاحبها السعادة فى هذه الدنيا . نقول : نعم وايم الحق الحق اذن ماذا؟ يقول : اذن هناك الآخرة – الخلود، هناك الحساب – المحاسب، هناك  الله – اللاهوت .

لقد كانط نبيلا مغرقا بحيث ثقل عليه نبله فأغراه بالصاق الضرورة حيث لا ضرورة، وغلبته رومانسيته فإغرته باخراج الوجود من قفص الذات وهو ما سبق أن أدانه فكون الفضيلة لا تضمن لصاحبها السعادة قضية لا تؤدى بنا الى نتائج بعيدة عنها كل البعد، وغريبة على نسيجها كل الغرابة، كأن تكون دليلا على الحساب والخلود، بله المحاسب وماهيته الجاهزة، واللاهوت وحاشيته الأكوله.

هكذا كانت الخيانة . . هكذا فتحت البوابة الخلفية على مصراعيها ليتدافع المحجوز ويدخل الممنوع. ومما يورث الحسرة وخيبة الأمل قلب كل عاشق للفلسفة أن يخرج مثل هذا التسيب المنطقى الفادح من أردان مثل هذا المارد الفكرى الصارم، فيكون أول متنكر لنفسه، وناقض لشروطه، ومترد فى نفس العماء الذى حذرنا منه . . . عماء العقل الخالص .

ولا يبقى الا أن أستدرك معتذرا لك ولكانط!! اذ اضطرنى ضيق المقام ان يأتى حديثى عنه وقح الاختصار صفيق التبسيط!! جنت وجازته على صوابه . . وأكل قصره من دقته مؤكدا أن للتبسيط دائما أنيابا تنهش فلذة الانصاف .. وشفاها تتلمظ بدم الحقيقة .

أخى (س)

هذا ما أسرت به رسالتك وأسررت .

رسالتك . . . آه الرقيقة الصديقة . . الطيبة المطيبة . ما كان أسعدنى لحظة نقرت زجاج نافذتى ثم دلفت فمسحت عنى عنائى . . وأدلفت بصدرى اضمامه زهر، وبجيبى قبضة نجوم، وبسقفى سرب وعود . . ولم تزل تختلف الى راحتى والى صدور كتبى . . ولم يزل نفرها فى شغاف الزجاج ولم يزل رفيفها فى زوايا الخاطر . . ولم تزل تنتزع الملك كل ليل . وتلهج بعطر الأمس فيثور على الكل . . حتى غدى يقتحم على مخدعى ويطالبنى بك فاخف إليك فى جوف الليل أخف لتقاسمنى دمى وتشاركنى أيامى أيها المسافر فى الأرض كلما طال فيها غيابك زاد فى القلب حضورك أيها المسافر فى العروق أخف إليك أعرفك على الفور أيها الماثل فى كل طيوف الأيام أعرفك على الفور أيها القابع فى كل خدور الذكريات أعرفك فبرحى أخبر بحنانك وحنينى أدرى بصدرك إليك إليك تبددنى المسافات وتهدرنى السبل.

 فلا أستشرفك وأتداعى على أسواراك الا شعاعا موجوعا .. أو طائرا مقرورا لم تبق منه سوى أحداق تسح مطرا ودمعا وبوحا لا يعيه غيرك . .  يقول طوبانا فمثلنا لا يدركه الفراق ولا يعرفه النوى فقلوبنا تتلاقى خارج الزمان . . وأرواحنا تتعانق وراء المكان . . وحبنا هيأه الأزل . . واختاره الأبد وكلامنا يفوت محطات البريد ويسبق موكب الورق . . وهمساتنا إلى ذيول النجوم . . تستند.

وفى ذوب الشفق

تتحد .

أبدا توأمك : عادل مصطفى

التوفيقية فى 16 مارس 1980

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *