يوليو1982-دمعة ماكرة

دمعة ماكرة

وفاء خليل

للسكة فى البحر” الغويط” وللألوان الزاهية،للظلام والصمت وللسردايب القديمة،للأزل يسمع الماضى بأذن الدهر، للكل ناصعا فى عيون بحاره المرافئ .

ترقرق المجهول وانسدل يحتضن اللانهائى وخيم السكون والصمت على الأكوان التى لفتها ظلمة لا ترحم. تلفتت فى وجل وسعدت بالبحر وهو يحتضن وقواقعه بصدفاتها الحنون. غار الريح من الظلمة ترقد فى قاع البحر فاشتاق فسرت الأنفاس بصدرها بطيئة واهنة فأعمق فأعمق. تحملت المشتاقة اليتيمة الشبقة المجهول واللانهائى والسكون والصمت والظلمة ورقصت فى الظلام البارد من شدة الألم وفرط الرعب وعوت منادية “الدفء… الدفء” ولا شمس ولادفء.

اشتد الظلام البارد فاندفعت فى كل درب… فمن يدرى.. تبكى سماؤها عليها وهى مندفعة.. ينشج بحرها نشيجا مكتوما عليها وهى مندفعة. ولا فلتة واحدة. التوقف الموت. وأنياب الوحشة الموحشة حادة لا ترحم. والعدم المتربض صبور وبارد. أخرجت أحشاءها باظافرها فتفجر الدم حارا شهوانيا. همست..”مع السلامة”. المجهول المترقرق أبدا مازال يبتسم.

اختلط كل شئ بكل شئ فأصبح كل شئ كل شئ. تصاعد الصراخ الى أعلى عليين ملتاعا وفغرت القبور أفواهها وتنمرت الطرق والدروب والسنين وما أن تعانق الأزرق الصامت بالرمادى الكئيب حتى أصبحت السحب حبلى يحنو عليها النسيم البارد ويحملها برقة للامكان.

الأولاد يعيشون ويموتون. يعودون ويرحلون. تتداخل أحلامهم. تدفئهم كغجرية عازفة. يعتصرونها للمزيد تورق أشجار الهلع الخام.

يتلفتون خلسة ثم يرنو الواحد منهم الى نفسه هامسا”لو لم أعلم لكان حزنى أقل”..

أقول لكم يا أحبائى للصمت صوت. لم لا تصدقوننى. يقول الليل الأزرق الأسود الصامت كيلا تعشوا.. لتناموا.. الغجرية.. القرآن..” نسأله المزيد فيسألنا الأدب.

جمعهما البحر وصوت الصمت.كانا يسمعانه ويغوصان فيه يلتقطان منه الدر والألوان النور.

بين الصحو والنوم. بين أنياب الزمن يفترس الحاضر افتراسا. بين شوق الأشياء لتعانق أسماءها ووسط الوشائج تربط الأشياء بالمكان بروابط الظل والصدى والحزن. أنهى الليل رسالته وجحظت عيونها وهى ترى الوادى الفسيح قد أصبح غرقتها بسقفها وحوائطها ولاعنزة ولاراعى ولا ماء ولاعرق مالح. حتى الرقص صمت صمتا نهائيا.اشتد الجحوظ وبدأت العيون التلفت والذعر.أين الجنى؟الألم الخفيف يقتلعه الألم المقتحم الأكبر.ايه يا ربى على شعره المنسدل على كتفيه. شعر حواجبه الكثيفة وشعر صدره الخشن وشعر بطنه..آه ياربى على شعر ساقيه الدافئتين الخشنتين.. أوه يا ربى من الشعر الملهب. خذ رأسى فى كتفك. أنى أبتل كالأرض الخصبة.

سم الشجن يسرى مع الدم محيطا القلب بخدر النهايات وبؤسها الملتاع.يموت القلب ولا يزال يدفع الدم وسم الشجن الى أن يموت القلب فتحل النهايات.

انزلقت من سريرها جسد قط يمشى على أربع وقلب يخشى الموت والحياة وعذابات الضمير والأشواق المترعة بالأسى واللهيب. تنتهب المسافات وتتداخل الحدود. ينحل الزمان.الأسى أسى وشمس يوليو لاتعرف الرحمة. والمجنونة تطلق تعاويذ النشوة من قعر قاعها ومن باطنها ومن صدرها.

دلفت داخل الكازينو شعثاء الشعر زائغة العينين واجفة القلب بلا وسامة ولاأمل.

ليس للضد مفر من ضده. والصوت واضح النيرات والقسمات يسمعه ببطنه الخاوية ويميزه عن باقى الأصوات فى المكان. رائحتها تختلف. لكن الشكل هو المشكلة. تحت أبطها تحت القميص الصبيانى ود أن يزيح العصفور المستدفئ ليندس هو فى دفء منبت الزغب. الدفء الماكر المتماكر أغرى عيونه بفتحة القميص تحتضن العصفورين المقرورين. صرخ” الدفء .. الدفء”. انفلتت العاصفة. هجير يقتحم ندى فجر مكلوم فيتفجر الشبق الدموى.

القتل والضراعة، الضراعة التعسة المهزومة المسلمة المستكشفة المشتاقة.

الضراعة التى ترهف آذانها للصمت. فخذ الطفلة يتأود ويتماكر على فعل الزمن الذى يملؤه فى بطء ويكسوه بالسر فى سر وهدوء. يشتاق الفخذ وتتكور الفتحات العطشى المزغردة انتظار والفاغرة حتى النهاية تأهبا للمقتحم القاتل تريد وتريد، وجهنم تبتسم للشرارة المبكرة وتخلع رداء الجلد وتفتح مسامه لينكشف المغطى.. وليعلو الصمت ويختلط بذاك الصمت الآخر الذى يتلمس طريقه باهتا وسط صراخ الأجساد.

عوى…” ياسمكة” الصمت يقتله الأصوات. والعواصف المزمجرة المقرقعة تخرج من القلب لتطعن القلب والصمت. والهلع العاصف يلتهم سكون البحر.فلا قاع ولا سطح.. فلا أسمع.. لا أسمع.. لا… أسمع.. لا.. أسمع ..اسمع صوت قطيع الأبقار ينخر بمنخاريه. وعيونه الواسعة المطئمنة للحياة والموت. ثم أسمع صوت القطيع يحدق به الخطر فينعر وينخر وتخرج منه الأصوات تعجز عنها الكلمات يزداد الهلع وأحن لصوتك الطفلى الأجش المشروخ المشبوح وأحن لاحتضانه لأسقيه من يدى قرفة ساخنة بالحليب يلفنا دخان منزلنا السعيد،

صمتت.. وارهقت آذانها.

عوى… خذينى منى معك للمدن البكر.

صمتت… وحام الدم الأحمر الشهوانى.

عوى.. أن تعوى ليسمعها.

صمتت… وتساءلت هل يبغى أن يسمع حقا؟

بردان أمام الحديث والصمت يفترسه الهلع العاصف تائه شاك فى السطح والقاع.

صمتت. عله يسمع مواءها.

اعتصر صمتها فلم يسمعه.

تكلم وتكلمت وقالت له وقال لها. استسلمت الحديث الذى غطى على صوته صوت العشب والماء.

اشتد تلاحم الكلام والصمت.

اعتصر حديثها فلم يستدفئ بما يسمعه ولا بما يسمعه.

تكلم فلم تسمعه. برق بذهنها للحظة أن تأخذ فمه بيديها الحانيتين ليضع له الأكل الذى يشتهيه. جحظت عيونها فقد هيئ لها لأول مرة أن شاربه يتحرك.

صمت. فسمعته.

صمتت أكثر لتغرسه فى الأصوات أكثر فلم يسمعها.

القتل والضراعة.

تكلم فلم تسمعه.

القتل والضراعة.

ماءت لنفسها.. أسمع لك.. فلم تعد تسمع معى فوداعا.

وستظل تتعبد فى المعابد المعبدة وأهديك المدن البكر وتمزق أذنى الأصوات.

كم بعدنا فابتعدنا.

اشتد واشتد تلاحم الكلام والصمت.

صمتت. وصمت. الى أين تواجه صمتهما صارخين.

 القتل والضراعة والمكر.

الصمت يحتضن الأزرق فينتشر الأزرق الصامت يرقد فى قاعه فى مكر السؤال والدرس. ينحل الصمت. ويبهت الأزرق ويبهت الدرس.

تفترق الدورب وتتقاطع وتتضاد. وفى المفترقات فى بدايات الدروب الجديدة يحوم السؤال والدرس فى وجل. وتدمع عين الماكرة دمعة ماكرة.

والمبتسم المجهول المترقرق.. أجل.. أجل ما زال أجل ما زال فى مكر… يبتسم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *