الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1982 / يوليو1982-الاتجاه الوجودى فى الطب النفسى

يوليو1982-الاتجاه الوجودى فى الطب النفسى

الاتجاه الوجودى فى الطب النفسى

د. مجدى عرفة

الموجز:

يقدم هذا المقال عرضا للاتجاه الوجودى فى الطب النفسى والذى يمثل أحد التيارات الحديثة التى تسهم فى اثراء هذا المجال بمفاهيم وممارسات تخرج به من الحدود الضيقة للاتجاهات التقليدية التى سادته لفترة طويلة

والمقال يبدا باستعراض لأهم المبادئ الفلسفية لهذا الاتجاه ثم ينتقل إلى مناقشة لبعض ملامح النموذج الوجودى فى العلاج النفسى.

هذه محاولة لالقاء بعض الضوء على تيار حديث يأخذ الأن مكانا واضحا ومؤثرا فى علم النفس والطب النفسى، وهو أحد التيارات التى تحاول أن تخرج بهذا المجال من الاطارات الضيقة والتقليدية التى تمثلها اتجاهات مثل التحليل النفسى والاتجاه السلوكى والنموذج الطبى المحدود، وتنطلق به الى أفاق أرحب تتناسب مع الأبعاد الحقيقية للنفس الانسانية.

هذه التيارات تجمعها عدة خصائص مشتركة فى اتجاه موحد شامل يعبر عنه عادة ” بعلم النفس الانسانى” أو “الاتجاه الانسانى فى علم النفس”(1)ولعل الأهمية الخاصة للاتجاه الوجودى بين هذه التيارات الحديثة تكمن فى أنه – بأساسه الفلسفى  يعتبر مصدرا أو منبعا رئيسيا لمعظم هذه التيارات ان لم يكن كلها.

….. وهذا المقال لا يبغى ولا يستطيع أن يقدم عرضا شاملا لهذا الاتجاه، وانما هو محاولة لاستكشاف بعض ملامحه الاساسية ثم مناقشة بعض الجوانب المتعلقة بتطبيقاته فى العلاج النفسى بشكل خاص من هنا فأن المقال يبدا بعرض للمبادئ الفلسفية للاتجاه الوجودى ومنها ينتقل إلى مناقشة النموذج الوجودى فى العلاج النفسى.

المبادئ الفلسفية:

لعل أنسب السبل لاستعراض الفلسفة الوجودية بما يتفق مع السياق الحالى هو أن نتعرض لبعض مفاهيمها الأساسية والتى يمكن اعتبارها مفاتيح الرؤية التى تقدمها عن حقيقة النفس الانسانية.

1– الوجودية فى مقابل الماهيوية:

تذهب الماهيوية (essentialism) وهى النظرية المناقضة الموجودية الى أن الماهية (الصفات الجوهرية أو التركيب الجوهرى للموجودات) تسبق الوجود وبنوع من التبسيط فأن شأن الموجودات وفقا لهذا التصورهو شأن الآلات التى يسبق تصميمها صنعها ووجودها هذا الاتجاه الماهيوى هو جزء أساسى من النموذج العلمى السائد فى رؤية العالم وفقا لهذا النموذج فأن ماهية الانسان أو طبيعته هى شئ تحدده عوامل بيولوحية، واجتماعية وتاريخية الخ، تسبق وجوده وتعمل على صياغته بشكل حتمى.

فى المقابل فأن الوجودية(existentialism)  ترى أن مثل هذه القاعدة الماهيوية قد تصدق بالنسبة “للأشياء”  أو فى لغة الاشياء ولكنها لا تصدق بالنسبة للانسان بالنسبة للانسان  الكائن المتميز بالوعى والارادة فأن الوجود يسبق الماهية أو تكون ماهية الانسان هى وجوده فالانسان لديه القدرة على التحول(transformation)  أو تغيير نفسه بصورة لا نهائية، ووجود الانسان أو ما هو عليه الانسان هو نتيجة لاختياراته وأفعاله، ليس هناك ما يحدد الشخص بصورة حتمية وانما تتشكل فردية الانسان وماهيته باختياره الحر أن الانسان مسئول عن عملية مستمرة من تحديد وتعريف النفس وهذه العملية تشكل واقعه وحقيقته.

من هنا فأن الاتجاه الوجودى يعارض الأسس أو المبادئ الماهيوية السائدة فى مجال الطب النفسى وينكر وجود طبيعة انسانية ثابتة سابقة التحديد سواء على أساس من الحتمية البيولوجية (الوراثة والتخلق المتعاقب) أو التحديد التاريخى بشخصية الانسان.

ويلخص سارتر هذا الموقف الوجودى حين يقول: “الانسان ليس سوى ما يصنع من نفسه، هذا هو المبدأ الأول للوجودية”(2)

2– الوعى … والقصدية:

تستند الوجودية بشكل أساسى على المبادئ الفنومنولوجية المتعلقة بالوعى والقصدية، فالواقع من وجهة النظر الوجودية مكون من قسمين:

1- الوجود فى ذاته (Being-in-itself)،  ويتضمن صور الواقع غير الواعى بالاضافة الى الحيوانات غير الناطقة الأدنى من الانسان.

2- الوجود لذاته (Being-for-itself) وهو الوجود الانسانى الواعى، حيث يتميز الانسان بالوعى وبالقدرة على الوعى بالنفس (conscious self-awareness)

من أهم خصائص هذا الوعى الانسانى أنه قصدى (intentional)  فهو دائما وعى بموضوع، وهذا الوعى (أو الخبرة) بالموضوع (شئ أو شخص أو حدث) لا يمثل مجرد علاقة اضافة تضاف فيها موضوعات مستقلة إلى وعى منفصل عنها يستقبلها سلبيا من خلال أعضاء الحس، وأنما هى علاقة عضوية لا يكون للوعى فيها وجود دون موضوعه، ولا يكون للموضوع فيها وجود دون الوعى الذى يعطيه معناه، هى أقرب إلى النسيج الذى لا يمكن الفصل فيه بين الذات الواهية أو العارفة والموضوع المعروف.

من هنا فأن مفهوم القصدية يصل بنا إلى نتيجة هامة حيث يحقق توحيدا بين ما هو “ذاتى” وما هو “موضوعى”، فليس هناك فصل فى أفعال الوعى بين الشخص والموضوع وهذا يأتى بنا إلى نقطة جوهرية فى الفكر الوجودى حيث يرى الانسان بوصفه متصلا بالعالم فى نسيج عضوى لا يقبل الفصل أو التجزئ، انه ليس مجرد وجود وانما هو بالضرورة وجود فى العالم  (Being-in-the world). 

والاتجاه الوجودى يضفى طابعا حرا اراديا على القصدية، فالقصدية هى دائما نابعة من موقف، وهى مرتبطة بالضرورة بالمبدأ المنظم لحياة الشخص أو ما يمكن أن يسمى بايديولوجيته أو خرافته الشخصية his personal myth   وهو شئ يختاره الشخص بحرية ويلتزم به ويلون رؤيته ومواقفه.

هذا التصور لعلاقة الانسان بالعالم كما تصوره العلاقة القصدية لم يعد مجرد حصيلة تأملات وانما هو كما يؤكد الوجوديون المحدثون حقيقة يثبتها تطور العلم الحديث وبالتحديد فى مجال الطبيعة الحديثة، فمبدأ الكمquantum principle  يخبرنا بأن تعاملنا مع الكون يقوم على أساس من المشاركة التى لا يمكن الفصل فيها بين أحداثه فلا يمكن أن يكون هناك ملاحظ (بكسر الحاء) وملاحظ (بفتحها) منفصل عنه، ولكن هناك دائما مشارك فى الحدث، ليس هناك فصل بين ذات وموضوع وانما هناك عملية مشتركة متبادلة التأثير والتأثر.

3– الحرية والمسئولية:

يمكننا أن نتحدث عن الوجودية بوصفها سيكولوجية الحرية فى مقابل نقيضها وهو “خداع النفس” خداع أن الانسان مسير بحتمية وضحية لا حول لها لقوى الطبيعة الانسانية (التكوين البيولوجى أو الغرائز أو التاريخ الخ) أن الاتجاه الوجودى يرفض كل التصورات الحتمية deterministic  للانسان، فحياة الانسان فى نظرة ليست حتمية بيولوجية ولا تخضع كما ترى النظرة البيولوجية الضيقة لنموذج عمية التخلق المتعاقبة  epigenetic process (3)] المحددة سلفا كما أن الانسان ليس مجرد كيان راد للفعل سلوكه عبارة عن عمليات حتمية من الاستجابات المحكومة بالمؤثرات (الاتجاه السلوكى) ويمتد الرفض الوجودى أيضا إلى الاتجاه الفرويدى الذى يصور الانسان فى حالة وعى جزئى مدفوعا ومحكوما بدوافع وغرائز ليبيدية ترقد فى أعماق اللاشعور وتصوغ سلوكه بنوع من الحتمية.

أن قصدية الوعى الانسانى من وجهة النظر الوجودية تعنى أن لكل فعل أنسانى غاية (قصدا) وسببا، ولكن هذا السبب ليس شيئا خارج الشخص كما يذهب الحتميون، وانما لكل فعل أسبابه ودوافعه النابعة من الشخص نفسه فى ضوء اختياراته الحرة للقيم التى يتبعها، ولأن الوعى بالنفس هو جزء من الوعى الانسانى فهناك أو يمكن أن يكون هناك وعى بالأسباب التى تؤدى إلى الفعل، ورؤية الدافع من خلال الوعى المتأمل تجعل الشخص فى موقف حرية يمكنه أن يختار فيه بين أن يتبع الدافع أو لا يتبعه.

مثل هذه الحرية كما تراها الوجودية ترتبط بتوأم لا ينفصل عنها باى حال من الأحوال وهو المسئولية، فالقول بأن الانسان حر الاختيار لا تحده أى حتميات مسبقة بيولوجية كانت أو اجتماعية أو تاريخية يعنى انه ليس هناك ما يشكل حياة الانسان أو وجوده سوى اختياراته وأفعاله التى لا يمكنه أن يلقى تبعتها على أى قوى أخرى سوى نفسه، أنه مسئول مسئولية كاملة عن وجوده وعن كل اختيار أو فعل ينبع من هذا الوجود ليس لدى الانسان بديل عن الاختيار والفعل وأن يكون مسئولا عن كل فعل مسئولية كاملة انه وضع انسانى صعب ليس فيه مكان لمبررات أو آمال زائفة لا شئ يبرر أو يعين سوى الاختيار الحر المسئول.

التحفظ الوحيد والمنظقى الذى تضعه الوجودية على مدى الحرية الانسانية يكمن فى أن هذه الحرية هى حرية فى الاختيار ومثل هذه الحرية تعنى ضمنيا أن عدد البدائل المتاحة محدود ونهائى، فكل اختيار يحد من غيره من الاختيارات، كما أن الشخص محدد بامكانيات جسده والاشياء من حوله الا أن كل هذا من وجهة النظر الوجودية لا يجب أن يحد من مسئولية الانسان عن وجوده وعن أفعاله، انه يزيد من صعوبتها ولكنه لا ينفيها أو يقلل منها.

4– اللاشعور فى مقابل خداع النفس:

يرفض الوجوديون مفهوم اللاشعور أو اللاوعى unconscious فبقدر ما أن الوعى قصدى أى وعى مرتبط بموضوع (بالنفس أو بآخرين أو بالأحداث) فأن ما يتبدى للوعى لابد وأن يدخل فى نطاق هذا الوعى ويصبح جزءا منه، بذلك فليس هناك احتمال لوجود أى فعل أو أى قصد فى منطقة تسمى باللاوعى أو تحت الوعى.

أن التصور السائد لفكرة اللاشعور (الفرويدى أساسا) يعنى أن هناك رقابة  censorship  تكبت الخبرات فى لاشعور غير معروف وغير قابل للمعرفة فى معظم الأحوال مثل هذا التصور يتعارض من وجهة النظر الوجودية مع الحقائق السليمة للأمور:

1- فمثل هذا الرقيب (الذى هو جانب أو جزء لا يتجزأ من الشخص) لابد أن يكون واعيا بشكل ما بما يجب كبته ثم يقوم بهذه المهمة وهذه عملية واعية وفى نطاق الوعى.

2- أما اذا افترضنا أن هذه العملية تتم بواسطة قوى خارجة عن نطاق الوعى الانسانى ومستقلة عن اختياره الحر فان هذا يصبح تصورا ميكانيكيا يحول الانسان الى نوع غريب من الآلات أو الروبوت مثل هذا الانسان الآلى ليس له اختيار فى أن يصبح مريضا بقدر ما هو غير واع بالقوى التى تحركه وتدفع سلوكه، وهو بالتالى خالى المسئولية وغير قادر على أن يختار غير ما هو عليه مثل هذا التصور يختزل الوجود الانسانى الى مستوى أدنى بكثير من حقيقته وهو ما ترفضه الوجودية.

والبديل الذى يقدمه الاتجاه الوجودى لمفهوم اللاشعور هو مفهوم خداع النفسى self-deception ، فالقضية ليست أن الانسان “لا يعرف” (أى لا يعرف دواقع اختياراته وأفعاله المدفونة فى اللاشعور) وانما هو ” لايريد أن ينظر ويرى”.

وعلى عكس مفهوم اللاشعور فأن مفهوم خداع النفس أو اخفاء الحقيقة عن النفس مبنى على مبدأ وحدة وشفافية الوعى، فليس هناك صندوق أسود من اللاشعور له حياة خاصة به ومنفصلة عن الشخصية الواعية من ناحية أخرى فأن خداع النفس هذا ليس حالة … وانما هو اختيار أو التزام بنمط من الوجود ينكر ما يعرفه ويراه الشخص، فالانسان ينكر بأن يختار الا ينظر، وبدلا من أن ينظر ويرى فأنه يختار أن يؤمن بأنه غير حر، بأنه وجود فى نفسه مسير بحتميات خارجة عن ارادته.

والاتجاه الوجودى يرى أن هناك اشياء متعلقة بالشخص “يبدو” أنه غير واع بها، الا أن تفسير ذلك لا يكمن فى فكرة اللاشعور وأنما هو متعلق بالنوعيات أو “الانماط المختلفة للوعى”، وهم فى هذا المقام يفرقون بين نمطين من الوعى نمط تأملى ونمط قبل تأملى:

1- فى النمط التأملى  reflective mode ، وهو نمط ايجابى، يختار الشخص أو يقصد أن ينتبه بعناية وعن قرب لاستجاباته وللموقف الذى يجد نفسه فيه، فهو يلاحظ نفسه وينتبه لعملياته الداخلية ويعرف ما الذى يجرى.

2- فى النمط القبل تأملى perfective mode  ، وهو نمط سلبى، لا يمارس الشخص هذا الوعى القريب أو الانتباه الدقيق ولكنه يستطيع ذلك إذا اختار، فهو يكون واعيا بالآخرين وبنفسه وبالأحداث ولكن اختياره هو الا ينتبه عن قرب وبعناية لهذا الوعى وهكذا فأن الشخص باختياره للنمط الذى يعيش به حياته يقرر ما هى الاشياء التى سيسمح لنفسه بأن يعيها وأى الاشياء سيختار أن يتجاهلها، ومن خلال عدم الانتباه عن قرب لها يصر على أنها خارج نطاق وعيه وبالتالى فهى ظواهر لا يمكن أن يكون مسئولا عنها.

بهذا فإن خداع النفس هو نوع من تنظيم الواقع من أجان تجنب المسئولية، أنه محاولة الشخص أن يتجنب الألم عندما يواجه بحريته ومسئوليته، أنها رفض الانتباه بوضوح للأحداث والاستجابات والاعتقاد بدلا من ذلك بأنه مسير بصورة حتمية.

5– انتهاك الفردية والحرية كأساس للمرض النفسى:

ما يسمى بالانتهاك  violation  أو الابطال invalidation  والمقصود به انتهاك الفردية أو حرية الخبرة الخاصة والوجود الخاص للفرد يعتبر حجر أساس فى رؤية الاتجاه الوجودى لكيفية نشأة السيكوباثولوجى أو العوامل التى ينبع منها المرض النفسى بصفة عامة.

أن الموقف الانتهاكى هو أى موقف يتم فيه التشكيك فى رؤية الشخص أو خبرته الصادقة ورفض نوع الاكتمال الذى يمثله، هو عملية تمزيق لداخله وانتهاك لذاتيته وفرديته بحيث يجبر على الخضوع إلى رؤية آخر أو آخرين والانتهاك بهذه الصورة هو عملية تجرى بلا انقطاع وبدرجات متفاوتة فى الحياة اليومية للانسان، وهى تتم بصورة أقرب إلى ما يسمى “بغسيل المخ”  حيث تشمل علاقة قوة أو تأثير يتم استغلالها فى التشكيك فى خبرة الشخص بضغوط من الاكراه أو الانكار أو حتى مجرد الصمت.

بتكرار هذه الانتهاكات يبدأ الشخص فى التشكيك فى رؤيته فى صدق خبرته، وينمو لديه شعور متزايد بالاغتراب عن نفسه، ثم تكون الخطوة التالية أن ينسحب ويكون لنفسه واقعا داخليا خاصا ومتحوصلا نوعا من الوجود الوحيد يختار فيه الشخص أن لا يفصح عن نفسه كما هو والنتيجة النهائية هى أن ينسى الشخص – بالتدريج – نفسه ويتناقص وعيه .. ويصبح فى وحدته نهبا للقلق واختلاط الأمور .

مثل هذا التصور لنشأة السيكوباثولوجى يسرى من وجهة النظر الوجودية كأساس أو منبت لكافة أشكال المرض النفسى على اختلاف مسمياتها من عصاب وذهان واضطراب الشخصية …. الخ فالذهان على سبيل المثال يمثل اختيار الشخص من خلال تعاقب طويل من الاختيارات الناشئة عن الانتهاكات المستمرة لوجوده أن ينسحب من عالم الواقع ذلك العالم المؤلم .. غير الواضح .. المحير .. ومثير الجنون لينشئ بدلا منه عالماً خاصاً به. الاختيار به هو أن يعيش حياته وفقا لنسق خرافى من صنعه .. بناء وحيد ليس فيه وجود للعالم الخارجى فى مثل هذا العالم يكون كل شئ فى متناول تحكمه ولا يخرج عن يده.

ومن وجهة النظر الوجودية فأن عملية الانتهاك هذه هى فى حقيقتها نوع من الامتداد لخداع النفس ففى انكار وجود مستقل للآخرين .. ومحاربة مثل هذا الوجود فأن الشخص يعفى نفسه من الانتباه إلى حريته وذاتيته ومسئوليته.

6– الاصالة أو الصدق .. والوعى الصريح:

الأصالة أو الصدق  authenticity  هى القيمة الوجودية العليا والشاملة وهى تمثل موقفا عميقا يقوم على الاعتقاد بأن الطريق الوحيد لأن يفى الانسان بانسانيته هة أن يدرك أن وجوده هو حريته الفردية المرتبطة بتوأمها الذى لا ينفصل عنها وهو المسئولية. أن الانسان مسئول مسئولية كاملة عن اختياراته وأفعاله وليست هناك أى حتميات تسيره رغما عنه.

والصدق بهذا المفهوم لا تمثله مجرد الصراحة، فالصراحة قد تكون نوعا من التعالى الأخلاقى دون أن يترتب عليها أى شئ ايجابى كما أن هذا الصدق لا يعنى مجرد التعبير المخلص عن النفس، فهذا شئ يمكن أن يقوم به الشخص ثم سرعان ما ينساه وينكر أنه قد بدر منه أصلا.

أن الصدق المقصود هنا ليس مجرد سمة للشخصية وإنما هو موقف عميق من الحرية والمسئولية والحرص على الوعى الصريح، أنه موقف يعيشه الانسان فى خبرة حية ويتمثلة فى سلوكه بشكل مثابر ومستمر. هذا الموقف لابد أن يتضمن الادراك الكامل والاعتراف بحرية الآخرين ومسئوليتهم، كما أن الاحتفاظ به يحتم التعامل مع الانتهاكات الصادرة منهم ومن الالم المحيط بالانتباه لها والوعى اليقظ بها.

باختيار موقف الصدق هذا فإن الشخص يحتاج لشجاعة أن يحدد ما يريده أو “من هو” بشكل صريح بين ومنطوق بوضوح، يحتاج لوعى صريح explicit awareness  ومنطوق بما يريده سواء بشكل عام فى الحياة أو فى أى موقف بعينه.

أن عملية الوعى الصريح هذه هى التى تقيم الصلة الحاسمة بين رغبات الإنسان وأفعاله ثم نتائج هذه الأفعال .. إنها مرآة التزامه بحريته ومسئوليته.

نموذج العلاج النفسى الوجودى:

لعل أهم ما يميز دور الاتجاه الوجودى فى مجال الطب النفسى هو أنه لم يقتصر على تقديم نسق جديد من المفاهيم المتعلقة بالنفس البشرية، وإنما تعدى هذا الدور النظرى إلى ممارسة عملية وفعالة لهذه المفاهيم من خلال العلاج النفسى وقد شهد الربع قرن الأخير بزوغ ونمو العديد من مدارس واتجاهات العلاج النفسى التى تستند فى أسسها على المبادئ الوجودية(4)

والحقيقة الهامة التى يؤكدها المعالجون الوجوديون هى أن العلاج الوجودى لا يتمثل فى طريقة فنية technique  أو قالب محدد من الاجراءات، فالعلاج النفسى – من وجهة النظر الوجودية – ليس علما أو طريقة فنية بقدر ما هو “نمط أو طريقة وجود شخص ما مع آخر”(5)من هنا فأن أهم ما يقدمه الاتجاه الوجودى للعلاج النفسى هو مجموعة من المبادئ المتعلقة بطبيعة المهمة العلاجية والعلاقة العلاجية هذه المبادئ ليست سوى نوع من الترجمة للمفاهيم الوجودية فى صورة خطوط وأسس تطبيقية عريضة.

العلاقة العلاجية:

(أ) أول وأهم ملامح هذه العلاقة هو أن العلاج فيها يتم بين أشخاص بمعنى أن المعالج فيها مشارك ومنغمس كشخص .. وليس مجرد ملاحظ أو موجه محايد.

(ب) والهدف الرئيسى من هذه العلاقة هو مساعدة الشخص على الوصول إلى الصدق والوضوح الصريح إلى علاقة حقيقية أكثر مع نفسه ومع الآخرين والعالم من حوله .. مع مفهومه عن نفسه كشخص ومعنى أن يكون شخصاً حرا ومسئولا من هنا فأن الصدق (بالمعنى الوجودى) هو المحور الرئيسى لهذه العلاقة العلاجية.

وهذا الوضع يضفى مسئولية أساسية وخطيرة على عاتق المعالج، فالصدق المطلوب لا يمكن أن يتحقق الا إذا  قدم المعالج نموذجا له من نفسه ومن وجوده كشخص، وما هو أقل من ذلك يمكن أن يحول العملية العلاجية إلى نوع من النصح والارشاد أو التشدق بالفاظ وشعارات مفرغة المعنى لا يقابلها واقع حى فى وجود المعالج وكل هذا كفيل بأن يدفع المريض إلى مزيد من الاغتراب والانسحاب وتقلص الوعى ..

بتعبير آخر فأن عمل المعالج مع نفسه من أجل الوصول إلى الوضوح والوعى والصدق هو عماد رأسماله العلاج هو المعالج بقدر ما يمثل الوضوح الصريح والوعى والصدق فى علاقته كشخص مع المرض.

(جـ) ومن أهم الأمور التى يركز عليها الاتجاه الوجودى فى العلاقة العلاجية هو الانتباه الشديد لعملية “الانتهاك” وهى العملية التى تعتبر المنبت الرئيسى للتحول المرضى.

أن معظم ما يسمى بالعلاج النفسى هو من وجهة النظر الوجودية عبارة عن محاولات لحمل الشخص على التخلى عن ذاتيته عن خبرته الخاصة واستبدالها برؤية المعالج لموقف الشخص .. أو وجهة نظر المجتمع .. أو ما يسمى بالواقع الموضوعى والعلاقة العلاجية بطبيعتها تحمل خطر مثل هذا الانتهاك متمثلا فى سلطة المعالج أو وضعه الفوقى، وهذه حقيقة يعترف بها معظم المعالجين ويعتبرها البعض واقعا لا مفر منه ولا سبيل واضح لتغييره الا أن الاتجاه الوجودى يؤكد على ضرورة الانتباه الشديد لمثل هذا الوضع ويعتبر أن أى مناورة من جانب المعالج تشير ضمنا إلى وضع غير متساو ليست سوى انتهاك له تأثيره السلبى على العلاقة العلاجية.

المهمة العلاجية:

تتركز المهمة العلاجية فى العلاج النفسى الوجودى فى تنمية الوعى الصريح أو الرؤية الكلية  whole sight  للمريض فالشخص مطالب فى هذا العلاج بأن يستكشف نفسه بعمق وبجهد واعى يحاول فيه أن ينطق صراحة وبوضوح بكل ما كان يتجاهله أو ينكره من نفسه، عليه أن ينظر فى مواجهه صادقة إلى كل جوانب نفسه السلبية منها أو الإيجابية.. إلى دوافعه .. واختياراته .. ومشروعاته .. إلى أيديولوجيته أو المبدأ الرئيسى لحياته.

والهدف من كل هذا أن يتوقف خداع النفس وأن يستكمل المريض وعيه الصريح بجوانب نفسه التى سبق أن فصلها واستبعدها أو تجاهلها وانكرها أن يراها ويعيها ويعلن مسئوليته عنها لتعود إلى تكاملها مع الكل.

أن خوف الشخص من أن يكون صادقا ينشأ عن المواقف الانتهاكية وينتج عنه أساليب وأنماط من الكذب وخداع النفس فى التعامل، وفى النهاية يصل الشخص إلى تقلص فى الوعى بالنفس إلى حد أدنى.

أن العلاقة العلاجية الصادقة والتى يجب أن تخلو من الانتهاكات تهدف إلى استعادة هذا الوعى وتعزيزه.

أن ما يجب أن يحاوله المعالج هو تأكيد حقيقة الشخص كما هو ومساعدته فى أن يؤكد صدق موقفه كما يراه وكما يخبره الآن وكما تخبره به مشاعره، من هنا فأن المهمة العلاجية يجب أن تضع فى الاعتبار شيئين أساسيين:

(1) الأهمية الخاصة لاستكشاف المشاعر والأحاسيس، فالاحاسيس أو المشاعر من وجهة النظر الوجودية هى طريقة يفهم أو يستوعب بها الانسان العالم.. ومن خلال قصديتها فأنها تضئ حقيقة الموقف. بتعبير آخر فأن العواطف والاحاسيس وما يصاحبها من تغيرات جسمية وتغيرات فى الادراك هى عناصر الاعتقاد الحقيقى للشخص ومؤشر هام على جدية وصدق خبرته فالإنسان قد يكذب بسهولة فيما ينطق به ولكن مشاعره غير المنطوقة والتى تتبدى فى تعبيرات جسده يمكن أن تفضح مثل هذا الكذب وتهديه إلى حقيقه ما يبطن أو ما يستبعد من نفسه.

أن السبيل إلى الوعى والتقاط حقائق النفس يعتمد بشكل أساسى على الخبرة المعاشة وليس مجرد التفكير والتأملات والاستنتاجات التى قد تكون مفرغة من المعنى ومن شحنة المشاعر الحية من هنا فأن كل أنماط العلاج الوجودى تؤكد على أهمية التفاعل فى الـ”هنا” و “الآن” فى اللحظة الحالية حيث يمكن أن يعيش الشخص خبراته واختياراته ويراها كما هى.

أن مهمة المعالج الوجودى هى البحث المشترك عن حقيقة وصحة رؤية الشخص وما فيها من خداع للنفس .. أن يساعده فى أن يصبح واعيا ومنتبها للموقف الذى يعيشه إلى حياته كما شكلها.

أن التغيير الذى ينشده المعالج الوجودى هو الوصول بالشخص إلى موقف الصدق والوعى الصريح والمعلن باختياراته وبمسئوليته الكاملة عنها.

المراجـع

Foy, J.L. (1974) The existential school. In Arieti, S. (Ed. – in – chief), American Handbook of Psychiatry. Now York: Basic Books.

Ghoz, E.H. (1979) Group Psychotherapy: A Dynamic Study of an Egyptian Approach. Cairo: Dar El-Ghad.

Kaam, A.V. (1976) Existential psychology. In Kraus, S. (Ed.) Encyclopedic Handbook of Medical Psychology London: Butterworth’s

Ofman, W.V. (1980) Existential psychotherapy In Kaplan, H.I., Freedman, A.M. and sadock, B.J. (Eds.) Comprehensive Textbook of Psychiatry. Third Edition Baltimore: Williams and Wilkins.

[1] – يمكن الرجوع فى هذا الشأن إلى دراسة سبق أن قدمتها فى العدد الأول من هذه المجلة (يناير 1980)

[2]- Ofman (1980)

[3] –  تطور فى صورة بسط لعملية منظمة متعاقبة الخطوات وحتمية، يتبدى نموذجها الأصلى فى التطور الجنينى منذ تلقيح البويضة حتى اكتمال النمو.

[4] –  على سبيل المثال هناك العلاج الجشتالتى (بيرلز)، وعلاج اللوجو (احياء المعنى) Logotherapy (فرانكل)، والعلاج المتمركز حول العميل Client-centered therapy وعلاجات اللقاء والمواجهة الجمعية Encounter .. الى غيرها من العلاجات التى تستند على المفاهيم والمبادئ الوجودية بشكل أو بأخر.

[5] – Ofman (1980)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *