أكتوبر1983-المثلث

مجلة الإنسان والتطور

عدد أكتوبر 1983

المثلث

عصمت داوستاشى

تمكنت بسهولة من أن أحدد معالم منطقة “نصف الوعى” التى يعيش داخلها أمثالى معظم وقتهم.. انه مجرد مثلث.. نعم مثلث أعيش داخله حياتى تلك التى يجب أن أرضى عنها كل الرضى مهما كان حجم اعتراضى عليها.

وحالة “نصف الوعى” التى هى حالتى تقع فى منتصف مثلثى.. وقد اكتشفت موقعى هذا بسهولة أيضا.. أما كيف حدث هذا.. فلأننى فى لحظات الوعى النادرة أجد نفسى مندفعا الى أعلا فى نشوة بالغة أنسى فيها أن رأسى قد انحشر فى زاوية ضيقة طيلة لحظات ذلك الوعى الذى لا يستمر طويلا.. انها اذن زاوية مثلثى، احدى الزوايا الثلاث.

أعود مصدعا الى منطقة الطفو الوسطى.. منطقة عمرى الدائمة التى أجد فيها راحتى، وقد أطلقت عليها ما يتناسب مع وصف حالتى “نصف الوعى”.

والذى أكد لى تماما أنه مثلث.. أننى فى لحظات الغيبوبة والثقل والتوهان – وهذه أشياء تنتابنى من حين لآخر – شأنى شأن بقية الناس على ما أعتقد.. أجد نفسى وقد سقطت من حالة الطفو هذه الى احدى قواعد المثلث لأظل به فترة من الوقت غالبا ما تطول فى الزمن الحاضر الذى نحيا فيه الأن.. ذلك عكس فترات الوعى القليلة.. القصيرة.. التى العنها دائما، لأنها لو طالت لغيرت من مجرى حياتى الى الأسوا دون شك.

أبقى مطروحا بقاعدة المثلث ساكنا هادئا غبيا وسلبيا تجاه كل شئ، وحدث فى اللحظات القليلة التى كان يمكننى فيها الزحف هنا وهناك أن اكتشفت زاويتى المثلث الأخرتين المكملتين له.. لقد سرنى هذا حين تمكنت من أن أسند ظهرى بشكل موجع بعض الشئ على أحد أضلاع المثلث.. لقد أكد لى هذا الوضع أن مثلثى متساوى الأضلاع دون شك.. والا كانت احدى زواياه قائمة أو منفرجة، ولكانت فى هذه الحالة أكثر إزاحة لظهرى الموجوع.

فى بداية الأمر لم يشغلنى كثيرا أين أنا.. لم يشغلنى اذا كان مثلثى حاد الزوايا متساوى الاضلاع أو غير هذا.. ما أهمية انشغالى بمكانى أو زمانى فى حين أنى معظم الوقت أكون طافيا فى منطقتى المحبوبة “نصف الوعى” أو ساقطا مسلوب الانسانية فى اللاوعى.. حتى اللحظات القليلة التى اندفع فيها الى أعلا لتنحشر رأسى فى زاوية الوعى وأكون فرحا بحالتى حيث يمكننى أن أنتشى بعض الوقت بالأحلام والآمال والطموحات التى أنشدها.. حتى هذه الحالة التى يمكننى فيها أن أنتهز أية فرصة لأفكر أين أنا ومن أنا.. لا تطول

فكما زاد فكرى وانشغالى وتوسعت أحلامى، زاد انحشار رأسى فى زاوية المثلث.

حينئذ تتضافر آلام الصداع فى نفس اللحظة بحيث أصبح غير قادر نهائيا على تحمل آلام رأسى التى تكاد تتهشم.. وعندما أخلص نفسى بسرعة لاعود طافيا مرة أخرى راضيا كل الرضى بمنطقتى “نصف الوعى” التى اكتشفت أنه لا خيار لى فيها وأنها أفضل من أى شئ آخر على الاطلاق.

اذن فقد اكتشفت مثلثى بسهولة.. ففى يوم ما استيقظت، وقلت لنفسى أنا داخل مثلث.. هذا كل ما حدث بتلك السهولة التى يحسدنى عليها الجميع.. ووجدت نفسى طافيا.. قلت هذه الحالة اسميها “نصف الوعى”.. وحين انحشرت رأسى فى نهاية مكانى وانتابتنى حالة النشوة والصحيان.. قلت اسمى هذه الحالة “الوعى”.

وحين أسقط فوق أرضية المكان الكسولة الثقيلة والتى أكون فيها شبه مريض زاحفا هنا وهناك لأسند ظهرى العليل على جدار أجده دائما مائلا للداخل، أسمى هذه المنطقة بمنطقة “اللاوعى”.

نعم.. لقد تمت هذه التسميات مع الاكتشافات فى لحظة الهام ودون ارتكان الى اى علم مسبق أو أى خبرة ما، ودون أن تعنى هذه الأشياء كلها أى شئ أخر خلاف ما هو فى ذاتى ولذاتى.. اذ كيف الحال غير هذا وأنا الوحيد فقط داخل هذا المثلث الذى ألفته والفنى.. ورضى بى ورضيت به.

المضحك فى هذا كله هو ما يحدث للآخرين غيرى ساكنى المثلثات التى لا تكف عن ازعاجى بطوافها حولى.. أو قد يكون طوافى أنا حولها هو ما يزعجنى.. لا أدرى فعلا.. انه شئ أشبه بشارع من شوارعنا المزدحم بالسيارات المجنونة.

لقد انحشر فى كل مثلث من هذه المثلثات انسان ما فى وضع يثير الاضحاك بالنسبة لى، بل والرثاء أيضا.. وعلى كل فحالتى أحسن من حالتهم.. هكذا أهمس لنفسى طوال الوقت.

فأصحاب الوعى والذكاء والطموحات تجدهم وقد انحشرت رؤوسهم فى الزوايا الحادة من مثلثاتهم.. انهم طوال الوقت يرقصون بأرجلهم ويلوحون بأيديهم وكأنهم يقودون فرقة موسيقية غير موجودة.. عيونهم جاحظة.. وأفواههم فاغرة يسيل منها لعاب لزج مقزز.. انهم العباقرة وقد انحشرت رؤوسهم يصرخون ويهللون طوال الوقت.

يا لك من غبى .. هكذا أود أن أقول كلما مر بى أحدهم .. وأكاد أصرخ فيه ناصحا اياه بأن يدفع بيديه نفسه ليخلص رأسه من انحشارها المؤلم هذا فى زاوية مثلثه، لينعم مثلى بمنطقة “نصف الوعى” .. ولكنى لا أجدهم فى نفسى لا الرغبة ولا القدرة لأن أفعل هذا .. ثم ما أدرانى انهم سيسمعوننى .. وحتى لو سمعونى، من يدرينى أنهم سيعملون بنصيحتى . .؟

أكتفى فى الغالب مع ابتسامة منى أو ضحكة ساخرة بأن ألوح لهم بيدى معلنا يأسى من كل شئ .

أما أصحاب مثلثات اللاوعى .. فهم فى متعة ما بعدها متعة.

تجد أحدهم وقد اكرمه حظه بمثلث منفرج الزاوية وقد ارتكن بظهره على الضلع المنفرج باسترخاء وأخلد إلى ما هو فيه من راحة اللاوعى فى لذة أحسده عليها .

أما صاحب الزاوية القائمة فى مثلثه فتجد أن طبيعته فى الغالب طبيعة عسكرية .. أنه يبقى مستندا فوق زاويته القائمة .. ولكنه بعد فترة قد تطول يهب واقفا لأن ظهره قد ارهقه هذا الوضع .. وفى هبته هذه تنحشر رأسه فى زاوية الوعى بمثلثه .. ولأنه غير معتاد عليها اطلاقا، فانه يبعد نفسه عنها بسرعة فيسقط فوق قاعدته مهزوما حزينا فى الغالب .. ولكنه سرعان ما يعاود الزحف تجاه الزاوية القائمة ليسند فوقها ظهره المكسور .. لتتكرر هذه المسرحية الساخرة .

دائما ما ينتابنى الفتور من كل هذا .. فأعود إلى الاطمئنان الداخلى الذى اكتسبته من حالة الطفو المتحققة بمنطقتى المحبوبة “نصف الوعى”.

وأنسى أنى ساكن مثلث .. وأنسى أوصافه وزواياه وأنسى ناس المثلثات من حولى .. ولكن فجأة تنحشر رأسى فى زاوية الوعى .. وكأن رئيسا جديدا جاء يحكم ويغير العالم حولى .. ولكن سرعان ما أسقط فاقد الوعى فوق قاعدة مثلثى وكأن الرئيس الجديد قد صار قديما .. وكأنما لا فائدة من أى شئ .. ولا أمل فى المستقبل.

أعود إلى طوفان “نصف الوعى” بلا مبالاة لذيذة .. لم يعد يعنينى أن تمت ترقيتى أو لم تتم، فهذا شئ لا يهمنى فى تلك اللحظة طالما أن كل الرؤساء فى عملى – القدماء منهم والجدد – لم يلاحظونى ولم ينتبهوا الى مثلثى .. الى ما به من مميزات تختلف عن مثلثات غيرى .. كأنهم يا أخى بالهندسة جاهلون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *