الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1983 / أكتوبر1983-حكاية التوأمان

أكتوبر1983-حكاية التوأمان

مجلة الإنسان والتطور

عدد أكتوبر 1983

حكاية التوأمان

محمود حنفى (1)

انك تطالعنى بعينين لا تخفين الحذر والريبة، لماذا أنا لا أنكر شيئا مما حدث.. فقط سوف أقاوم التهمة الموجهة حتى الموت. فلقد بحثت الأمر مرارا بينى وبين نفسى فلم أجد وجها للغرابة فى سلوكى، هه.. أتسمعنى؟؟ وعليك أنت أنت تقنعنى بالعكس أن كنت تملك القدرة على الاقناع.

كل ما حدث أننى طلبت منهم الا يقفوا فى طريقى، هكذا ببساطة وأنا بهذه المناسبة أطالبك بدورك أن تعمل على اجابة طلبى، بل أنى أحملك مسئولية كل ماسوف يقع من أخطار فيما لو استمر هذا الوضع على ما هو عليه.

غير أنك زميل فى المهنة، ولأن الزمالة توجب التعاون. فسوف أساعدك فى مهمتك.. ماأكثر ما أرهقتنى أنا أيضا تلك السهام الشاقة، يالها من مهنة كثيبة. أن رفضى لتهمتهم على أية حال لا يستتبع بالضرورة الامتناع عن الرد على أسئلتك..

الزمن الضائع:

لا أذكر خلاف أنى كنت طفلا مثل سائر الأطفال، ثم صبيا حزينا لفترة محددة. ودعت الحزن من زمن بعيد، ما جدوى الحزن؟؟ وكان أبى وأمى على خلاف دائم، كعادة كل الآباء والأمهات. نعم؟؟ لا .. أنت لم تعش  الحياة بما يكفى على ما يبدو، جميع الزواج فى العالم يتشاجرون ويتقابلون، تلك بديهية لا تستحق عناء المجادلة. ثم  اننى عندما كبرت خضت تجربة مع أنثى مخادعة، كلهن بالمناسبة مخادعات، وأعانتنى التجربة على تعميق رؤيتى، فانصرفت عن الجنس الآخر تماما، بل وانصرفت عن مجرد التفكير فيه بصورة قاطعة. لا، صدقنى، ليس للمرأة عندى تلك الأهمية التى يخلعها عليها الآخرون، لماذا؟؟ هه.. لا تستحق، حقيقة لا تستحق، شكرا، لست مجهدا، أشكرك..

ولا أذكر خلاف ذلك الا أنى كنت أقرأ كثيرا فى أول شبابى، وأقرض الشعر، واحلم أن يجاور اسمى يوما أسماء فرويد ولامبروزو ويونج. غير أنى تعثرت فى الدراسة، وتخرجت بشق الأنفس، لأعمل فى تلك المهنة الكئيبة. أنى أمقتها، هل تحبها أنت؟؟ حقيقة هل تحبها أنت؟؟ لقد خدعنا بلا شك.

آه، الأصدقاء..؟، ليس لى، ولم يكن. أنهم- كما تعرف – منافقون نفعيون.

المرأة:

عندما دخلت حجرة الكشف كانت تجلس الى جوار زوجها فى صمت يدفع الى التوتر والخوف. هيأتها كانت منفرة تثير الانزعاج.. مشعثة الشعر، ترتدى ملبسها فى اهمال، ووجهها مكفهر تشوبه زرقة. الغريب أننى خلال حديثى معها – ورغم نبرتها المقتضبة الجافة – لمحت فيها مسحة من الجمال كادت أن تصعقنى. وعندما همس الممرض فى أذنى قائلا أن الرجل هو موضوع الحالة وليست هى. دهشت كثيرا وارتفعت حدة توترى وانزعاجى.

كانت هى التى تكلمت فى البداية..

– ما الحكاية..؟

– غاب نحو شهر عن البيت، وحينما عاد راح يثرثر بأحاديث أقنعتنى أنه فقد عقله.

– هل تذكرين شيئا من تلك الأحاديث..؟ مثال واحد على الأقل..

– أشياء خرافية لا تعقل. كان يتكلم عن غابة، ورحلة قام بها، ودليل محتال، ومؤن وذخيرة.. أشياء غير معقولة..

– وهل عرفت المكان الذى كان مختفيا فيه طيلة تلك الفترة..؟

– لم أترك بابا الا وطرقته.. بلا جدوى..

– وأقاربه..؟

– بحثوا معى فترة قصيرة، وبلا حماس..

– وأصدقاؤه..؟

– عبروا لى عن تعاطفهم معى..

– أين ذهب اذن طوال الشهر؟؟

– اسأله..

– هل يمكن أن تذكرى لى شيئا عن حالته بعد رجوعه..؟

– كان ممزق الثياب، متسخا وجائعا..

– اقصد بعد ذلك..

– لاشئ أكثر مما ذكرته لك سلفا، ثم الاخلاد الى الصمت لفترات طويلة.. واليوم صباحا لمحته يحزم متاعه وسمعته يصرخ باعتزامه الرحيل..

– الى أين..؟

– الى الغابة..

أحسست بها تدفعنى دفعا الى متاهة قاتلة. أخذت حذرى منها. ثمة مؤامرة تحاك ضدى بلا شك، هذا احتمال وارد الآن بقوة والحاح. ومع ذلك لم أنجح فى تجنب شراستها وكرهها لى. عندما سألتها أن كانت لديهما متاعب فى البيت كشرت عن أنيابها وأجابتنى فى بغضاء:

– هل نحن فى محكمة يا دكتور؟؟ أنا أيضا لى متاعبى التى تنهد تحت وطأتها الجبال. أيمكنك أنت أن تدرك مدى شقاء الآخرين؟؟.

الرجل:

ظل مطرقا معظم الوقت، حتى فى اللحظات التى تبادل معى فيها الحديث، وعلى صفحة وجهه سطع حزن سماوى. الا أنه سدد الى نظراته فى مرارة، فتواصلنا بجنون وتهتكت بيننا اسرار رهيبة. ولكن لا تظن أننى وثقت به.. لقد كنت حذرا طوال الوقت ومنتبها بكليتى. اكرر لك أن ثمة احتمالا  فى  وجود مؤامرة منذ البداية وحتى النهاية..

– أخطأت اذ أودعت الذخيرة والمؤن فى حوزة الدليل.. كان محتالا لئيما، ولقد تعمد أن يضللنى حتى لا أصل أبدا، أو على الاقل لكى أصل متأخرا بعد فوات الأوان.. كان قد وضع حساباته بدقة: فى الغابة، لا سيادة الا له..

– ولماذا.. الغابة؟؟

سألته متهدجا..

– وهل هناك مكان آخر؟؟

ازدردت لعابى وعدت أسأله:

– وهل .. وصلت الى هدفك؟؟

– نجحت فى الوصول وحدى. ولكن الوحوش كانت أسبق منى..

– الوحوش؟؟

– افترسته تماما. لم أر منه غير جثة شوهاء..

– من؟؟

– أنت تعرفه.. طالما بحثت عنه، طالما أرقت وشقيت بسببه..

– بل لا أفهم من كلامك أى شئ. قل لى .. من؟؟.

لحظتها انتفضت بعنف، أمسكته من كتفيه ورحت أهزه بشدة. ولاحظت أن الممرض ينظر الى مشدوها فى حين وخزتنى المرأة بنظرة هازئة. ولم أكن أتوقع أن يصدق الرجل الى هذا الحد.. كم كان صادقا، وهادئا وهو يقول:

– أهكذا تنسى توأمك الذى كثيرا ما حلمت بالعثور عليه؟؟

وسريعا سريعا أحكمت إغلاق صدرى واطبقت فى، وانصرفت من حجرة الكشف. كانت مطارق عنيفة تهوى فوق رأسى بينما صدرى يحترق، وكان لابد من استنباط حل للمعضلة: اذ كيف انكشف السر للرجل على هذا الوجه، وبمثل تلك السهولة؟؟

الم أقل لك أنها كانت مؤامرة؟؟

الواقعة:

فى طريقى بعد أن غادرت حجرة الكشف قابلنى. قال بعد أن حياتى أنها مناسبة يدعونى فيها الى حفل زواجه. هنأته فقال متندرا:

– لعل هذا المكان هو انسب الأماكن لتقديم التهنئة بالزواج..

استخدمت أقصى ما فى الطاقة لكى أضغط على نفسى وأقول:

– لا تكن متشائما الى هذا الحد..

فقهقه ضاحكا وسألنى:

– لم لم تتزوج اذن حتى الأن..؟

ولم أجد ما اجيبه به كنت عاجزا تماما، تماما. تلعثمت. أسرع هو ينوب عنى فى الرد:

– لعلك لم تعثر على توأمك بعد..

ماذا أنتظر بعد كل ذلك الاستقزاز، هه؟؟ هكذا، وفى ثوان، أصبح سرى مباحا ومضغة فى الافواه. وعلاوة على ذلك كان توأمى قد سقط صريعا وسط الأحراش. كل ما فعلته بعد ذلك كان منطقيا تماما: هجمت عليه، أطبقت على عنقه بكلتا يدى، انتشر الهرج فى المستشفى، تدافعوا نحوى كالسيل، قاومتهم بسواعد من الصلب.

ولا أحد حاول أن يسألنى، انى أعرفهم: حراس السجن وربانية الجحيم. كانت شلالات من الدماء الحارة تتدفق داخل رأسى ولا أحد حاول أن يسألنى، أن يحنو على. لا أحد. فقط، رمونى بتلك التهمة الباطلة.

وتصورت أنت مدى تشابك موقفى وتعقده: كان السر قد ذاع وانتشر، فى حين أنى لم أكن قد واريت بعد جثة توأمى التراب. وكان الوقت لا يسعفنى وهم يحيطون بى. أخذ يجرى فى جنون، فى جنون، فى جنون، والجدران تنقض على، تندفع نحوى، تظل تضيق على، تضيق على.

عندئذ صرخت: لا يقف أحد فى طريقى وإلا هلك، أن جثة توأمى هناك، فى الغابة هناك، شوهاء تأتى على ما تبقى منها الذئاب والضباع. اخبرنى إذن: ما وجه الغرابة فى هذا السلوك؟؟ هه؟؟ ما وجه الغرابة فى هذا السلوك؟؟

تحذير:

أرجو أن تعمل على اطلاق سراحى فورا وبلا تأخير، انى أحملك مسئولية ما سوف يقع من أخطار، وسوف أقاوم تهمتكم حتى الموت، حتى الموت.

[1] – حصل محمود حنفى على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عن روايته “حقيبة خاوية” 1982 وقد سبق أن قدمت دراسة عن هذه الرواية بمجلة الإنسان والتطور عدد يناير 1981، ولمحود حنفى أعمال مطبوعة هى: المهاجر 1976 – حقيبة خاوية. 1980 – حكايتان من زمن القهر 1980 – يوم تستشرى الأساطير 1982.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *